فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ فَنَكْفِيكَهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ: قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلًا فَانْصَرَفُوا عَنْهُ.
وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا
هُوَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ دِينَ الله ويدعو إليه، ثم شرى (1) الأمر بينهم وبينه حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ وَتَضَاغَنُوا.
وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينها فتذامروا فِيهِ وحضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى.
فَقَالُوا [له] : يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا وَإِنَّا قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهُ عَنَّا، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا حَتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الفريقين - أو كما قالوا [له]- ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خِذْلَانِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي إن قومك قد جاءوني، فقالوا كذا وكذا الذي قَالُوا لَهُ، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تحمِّلني مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ، قَالَ: فَظَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قد بدا لعمه فيه بدو (2) وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَمِّ وَاللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ " قَالَ: ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَى ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا ولى ناداه أبو طالب.
فقال: أقبل يابن أَخِي، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمتك لشئ أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِ مَشَوْا إِلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالُوا لَهُ - فِيمَا بَلَغَنِي -: يَا أَبَا طَالِبٍ، هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ فَلَكَ عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ، وَاتَّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَكَ؟ وَأَسْلِمْ إِلَيْنَا ابْنَ أَخِيكَ هَذَا الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ جماعة قومك، وسفه أحلامنا فَنَقْتُلَهُ فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ! قَالَ: وَاللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي؟ أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وأعطيكم ابني فتقتلونه! هَذَا وَاللَّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا.
قَالَ: فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ: وَاللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ وَجَهَدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا
تَكْرَهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ القوم عليّ فاصنع ما بدالك - أو كما قال - فحقب (3) الأمر، وحميت
__________
(1) من السيرة، وفي الاصول سرى، وشرى الامر: كثر واشتد.
(2) في السيرة: بداء، والبداء الاسم من بدا والمراد: ظهر له رأي.
(3) حقب الامر: زاد واشتد، وهو من قولك.
حقب البعير: إذا راغ عنه الحقب من شدة الجهد والنصب وإذا عسر عليه البول أيضا لشدة الحقب على ذلك الموضع.
(*)(3/63)
الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضها.
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ يعرِّض بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَيَعُمُّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ: أَلَا قُلْ لعمروٍ والوليدِ ومطعمٍ * أَلَا لَيْتَ حظِّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بكرُ مِنَ الخورِ حبحابٌ كثيرٌ رُغَاؤُهُ * يُرَشُّ عَلَى السَّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قطر (1) تخلَّف خلْفَ الوردِ ليس بلاحقٍ * إذ مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ (2) أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمِّنَا * إِذَا سُئلا قَالَا إلى غيرنا الامر بل لهما أمرٌ ولكنْ تحرجما * كما حرجمت مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقٍ الصَّخْرُ (3) أَخُصُّ خُصُوصًا عبدَ شمسٍ ونَوْفلاً * هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا نُبِذَ الْجَمْرُ هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا * فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ أَكُفُّهُمَا صُفْرُ (4) هُمَا أَشْرَكَا في المجد من لا أباله * مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَنْ يرسَّ لَهُ ذِكر وتيمٍ ومخزومٍ وزهرةٍ مِنْهُمُ * وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إِذَا بُغِيَ النَّصْرُ فَوَاللَّهِ لَا تَنْفِكُّ مِنَّا عداوةٌ * وَلَا مِنْكُمُ مَا دَامَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ (5) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا.
فَصْلٌ فِي مُبَالَغَتِهِمْ فِي الْأَذِيَّةِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ.
وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ، حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ، فِي بَنِي هَاشِمٍ وبني عبد الْمُطَّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَامِ دُونَهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ من أبي لهب عدو الله
__________
(1) الخور: الضعاف.
والحجاب: القصير، ويروى خبخاب هو الضعيف.
(2) وبر: دويبة على شكل الهرة، ويحتمل أن يكون أراد أنه يصفر في العين لعلو المكان أو بعده.
(3) تجرجما، وجرجمت في السيرة.
ذو علق: جبل في ديار بني أسد.
(4) أغمزا: أغمز فلان في فلان، أو من فلان: إذا صغر شأنه وعابه واستضعفه.
(5) في السيرة: ولا منهم ما كان من نسلنا شفر.
وشفر: أي أحد.
(*)(3/64)
الملعون] .
فَقَالَ (1) فِي ذَلِكَ يَمْدَحُهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى مَا وافقوه عليه من الحدب والنصرة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قريشٌ لمفخرٍ * فعبدُ منافٍ سرُّها وصميمُها وَإِنْ حُصِّلَتْ أشرافُ عبدِ منافِها * فَفِي هَاشِمٍ أشرافُها وقديمُها وَإِنْ فخرتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا * هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ سرِّها وَكَرِيمُهَا تَدَاعَتْ قريشٌ غُّثها وَسَمِينُهَا * عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا (2) وكنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً * إِذْ ما ثنوا صُعر الرِّقَابِ نُقيمُها (3) وَنَحْمِي حِمَاهَا كلَّ يَوْمِ كريهةٍ * ونضربُ عَنْ أحجارِها مَنْ يَرُومُهَا (4)
بِنَا انتعشَ العودُ الذواء وإنما * بأكنافنا تندَى وتنمى أرومها (5)
فَصْلٌ فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا تَعَنَّتُوا له فِي أَسْئِلَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْآيَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ، لَا عَلَى وَجْهِ طَلَبِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ فَلِهَذَا لَمْ يُجَابُوا إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا طَلَبُوا وَلَا مَا إِلَيْهِ رَغِبُوا، لِعِلْمِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَايَنُوا وَشَاهَدُوا مَا أَرَادُوا لَاسْتَمَرُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَلَظَلُّوا في غيهم وضلالهم يتردون.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عليهم كل شئ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يجهلون) [الانعام: 109 - 111] وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)
__________
(1) فقال: أي أبو طالب.
(2) الغث: هنا من ليس له نسب، والغث في الاصل: اللحم الضعيف.
(3) في ابن هشام: الخدود بدل الرقاب.
(4) في ابن هشام: اجحارها، والاجحار جمع جحر يريد بيوتها ومساكنها.
والاحجار: المراد بها الحصون والمعاقل.
(5) في نسخ البداية المطبوعة: " الزواء " وهو تحريف.
والذواء: الذي جفت رطوبته.
والاروم: الاصول جمع أرومة.
(*)(3/65)
[يُونُسَ: 96 - 97] .
وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59] .
وَقَالَ تَعَالَى:
(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رسولا) [الْإِسْرَاءِ: 90 - 93] وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا يُشَابِهُهَا فِي أَمَاكِنِهَا فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ وَزِيَادٌ (1) عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ - وَهُوَ شَيْخٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ محمَّد بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: اجْتَمَعَ عِلْيَةٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ - وَعَدَّدَ أَسْمَاءَهُمْ (2) - بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ، وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذِرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ: إِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ ليكلموك، [فأتهم] فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُمْ في أمره بدء (3) ، وكان [عليهم] حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ.
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعْذِرَ فِيكَ (4) ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ.
لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ قَبِيحٍ إِلَّا وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ.
فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ الشَّرَفَ فِينَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنَّ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكان يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ الرَّئِيَّ - فَرُبَّمَا كَانَ ذلك، بذلنا [لك] أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ أو نعذر فيك؟ فَقَالَ [لَهُمْ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أكون لكم بشيرا ونذيرا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ فَقَدْ عَلِمْتَ أنه ليس أحد من النَّاس أضيق
__________
(1) يونس بن بكير وزياد البكائي وهما راويا السيرة عن ابن إسحاق.
(2) ذكر اسماءهم ابن إسحاق في السيرة: وهم: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ.
1 / 315.
(3) في السيرة: بداء.
(4) في السيرة: لنكلمك.
(*)(3/66)
بلاداً، ولا أقل ماء (1) ، وَلَا أَشَدَّ عَيْشًا مِنَّا.
فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَلَيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيُجْرِ فِيهَا أَنْهَارًا كَأَنْهَارِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، وليكن فيما يُبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ قُصَّيُّ بْنُ كِلَابٍ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا صَدُوقًا فَنَسْأَلَهُمْ عَمَّا تَقُولُ: أَحَقٌّ هو أو بَاطِلٌ؟ فَإِنْ فَعَلْتَ مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ صَدَّقْنَاكَ وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا كَمَا تَقُولُ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بِهَذَا بُعِثْتُ [إليكم] إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، فَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وإن تردوا عليَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " قَالُوا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَا هَذَا فَخُذْ لِنَفْسِكَ، فَسَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ لَنَا مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ، وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وَتَسْأَلُهُ فَيَجْعَلُ لَنَا جِنَانًا وَكُنُوزًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَيُغْنِيكَ عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي فَإِنَّكَ تَقُومُ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسُ الْمَعَايِشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ، حَتَّى نَعْرِفَ فَضْلَ مَنْزِلَتِكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ، فَقَالَ لَهُمْ: " مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ".
قَالُوا فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ فَقَالَ: " ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنَّ شَاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذَلِكَ " فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ
مَعَكَ وَنَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيَتَقَدَّمُ إِلَيْكَ وَيُعْلِمُكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرُكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتَنَا بِهِ؟ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ الرَّحْمَنُ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بِنَا حَتَّى نُهْلِكَكَ أَوْ تُهْلِكَنَا.
وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا.
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ - وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ عَاتِكَةَ بِنْتِ عبد المطلب - فقال [له] : يَا مُحَمَّدُ، عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا فلم تقبله.
ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ من الله [ويصدقوك ويتبعوك] فلم تفعل، [ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك مِنَ اللَّهِ، فَلَمْ تَفْعَلْ] ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ.
فَوَاللَّهِ لا أو من لَكَ أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا ثم ترقى منه وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا وَتَأْتِيَ مَعَكَ بِنُسْخَةٍ ومنشورة وَمَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُكَ (2) .
ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أهله حزيناً أسفاً لما فاته بما طَمِعَ فِيهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ، وَلِمَا رأى من مباعدتهم إياه (3) .
وهذا
__________
(1) في الاصل " مالا " وهو تحريف، وأثبتناه من السيرة.
(2) في السيرة: " أني أصدقك "، وقد أسلم أبو أمية هذا قبل فتح مكة.
(3) الخبر في سيرة ابن هشام ج 1 / 315 وما بعدها.
وما بين معقوفتين في الخبر زيادة استدركت من السيرة.
(*)(3/67)
الْمَجْلِسُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مَجْلِسُ ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ وَعِنَادٍ، وَلِهَذَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، والرحمة الربانية، ألا يجابوا إلى مَا سَأَلُوا لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ * كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدَّثنا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالُ فَيَزْدَرِعُوا، فَقِيلَ لَهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أن
تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الأمم.
قَالَ: " لَا بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) [الإسراء: 59] الْآيَةَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ النسائي من حديث جرير (1) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحمن، حدَّثنا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عمران بن حكيم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ، قَالَ وتفعلوا؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَدَعَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلام وَيَقُولُ لَكَ إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا لَهُمْ ذَهَبًا، فَمَنْ كفر منهم بعد ذلك أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ، قَالَ: " بَلِ التَّوْبَةُ وَالرَّحْمَةُ ".
وَهَذَانَ إِسْنَادَانِ جَيِّدَانِ، وَقَدْ جَاءَ مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ (2) أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عرض عليَّ ربي عزوجل أَنْ يَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ لَا يَا رَبُّ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا - أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ - فَإِذَا جُعْتُ تضرَّعت إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ " لَفْظُ أَحْمَدَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ (3) - قَدِمَ عَلَيْنَا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً - عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمَا: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ.
فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَالَا إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا.
قَالَ فَقَالَتْ له أَحْبَارُ يَهُودَ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لم يفعل فهو رجل مُتَقَوِّلٌ، فَرَوا فِيهِ رَأْيَكُمْ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهر الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث
__________
(1) أخرجه النسائي في التَّفسير، في السنن الكبرى تحفة الاشراف 4 / 402.
(2) في الاصل ابن أبي أمامة وهو تحريف، والصواب ما أثبتناه وهو القاسم بن عبد الرحمن لم يروَ إلا عن أبي أمامة من الصحابة.
(3) في السيرة: حدثني بعض أهل العلم.
وفي دلائل البيهقي: حدثني رجل من أهل مكة (*)(3/68)
عَجِيبٌ (1) ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طوَّاف طَافَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ [نَبَؤُهُ] (2) ، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هِيَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ.
فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ فَأَخْبَرَاهُمْ بها، فجاؤا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا.
فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ " وَلَمْ يَسْتَثْنِ.
فَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً (3) لَا يحدث له فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَرْجَفَ (4) أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً قَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا لا يخبرنا بشئ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ الْوَحْيِ عَنْهُ وشقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ اللَّهِ عزوجل بِسُورَةِ [أَصْحَابِ] (5) الْكَهْفِ فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ [وَخَبَرُ] (5) مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أمر الفتية والرجل الطواف، وقال اللَّهِ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85] .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ مُطَوَّلًا فَمَنْ أَرَادَهُ فَعَلَيْهِ بِكَشْفِهِ مِنْ هُنَاكَ.
وَنَزَلَ قَوْلُهُ: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عجباً) ثُمَّ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ أَمْرِهِمْ وَاعْتَرَضَ فِي الْوَسَطِ بِتَعْلِيمِهِ الِاسْتِثْنَاءَ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا فِي قوله: (وَلَا تقولن لشئ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر، ثم ذي القرنين ثمَّ قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) ثمَّ شَرَحَ أَمْرَهُ وَحَكَى خَبَرَهُ.
وَقَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ ربي) أَيْ خَلْقٌ عَجِيبٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ.
وَلَيْسَ
لَكُمُ الاطلاع على كل ما خلقه، وتصوير حقيقته فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَصْعُبُ عَلَيْكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (6) أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَتَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ - فَإِمَّا أنها نزلت مرة ثانية أو
__________
(1) في السيرة: عجب.
(2) سقطت من الاصل واستدركت من السيرة والدلائل.
(3) قال السهيلي عن موسى بن عقبة إن الوحي إنما أبطأ عنه ثلاثة أيَّام ثمَّ جاءه جبريل بسورة الكهف.
(4) أرجف أهل مكة: خاضوا في الاخبار السيئة التي من شأنها إيقاع الناس في البلبلة والاضطراب لابعادهم عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(5) مَا بين معكوفتين سقط من الاصل واستدركت من السيرة ودلائل البيهقي.
(6) أخرجه البخاري في 96 كتاب الاعتصام بالسنة (3) باب ح 7297.
ومسلم في صحيحه في 50 كتاب صفات المنافقين 4 باب ح 32 ص 2152 عن ابن مسعود قال البيهقيّ: وحديث ابن مسعود، يدل على أن سؤال اليهود عن الروح، ونزول الآية فيه كان بالمدينة.
(*)(3/69)
ذَكَرَهَا جَوَابًا - وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا مُتَقَدِّمًا وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَاسْتَثْنَاهَا مِنْ سُورَةِ سُبْحَانَ فَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا خَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دهم (1) الْعَرَبِ أَنْ يَرْكَبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ، قَالَ قَصِيدَتَهُ التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه مِنْهَا، وَتَوَدَّدَ فِيهَا أَشْرَافَ قَوْمِهِ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي شِعْرِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مسلم لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَارِكُهِ لشئ أَبَدًا حَتَّى يَهْلِكَ دُونَهُ.
فَقَالَ: وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدَّ فِيهِمُ * وَقَدْ قَطَّعُوا كلَّ العُرى وَالْوَسَائِلِ وَقَدْ صارَحُونا بالعداوةِ وَالْأَذَى * وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ العدوِّ الْمُزَايِلِ وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنَّةً * يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالْأَنَامِلِ صَبَرْتُ لهم نفسي بسمراء سمحةٍ * وأبيضٍ غضبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ (2)
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي * وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ * لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كلَّ نَافِلِ (3) وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ * بِمُفْضَى السُّيُولِ مِنْ إسافٍ وَنَائِلِ مُوَسَّمَةَ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصَرَاتِهَا * مخيَّسة بَيْنَ السَّدِيسِ وَبَازِلِ (4) تَرَى الودْعَ فِيهَا والرخامَ وَزِينَةً * بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالْعَثَاكِلِ (5) أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طاعنٍ * عَلَيْنَا بسوءٍ أَوْ ملحٍ بِبَاطِلِ وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بمعيبةٍ * وَمِنْ ملحقٍ فِي الدِّين مَا لَمْ نُحَاوِلِ وثورٍ ومَن أرْسَى ثَبِيرًا مَكانه * وراقٍ لِيَرْقَى فِي حِراءَ وَنَازِلِ وَبِالْبَيْتِ حَقِّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مكةٍ * وَبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إِذْ يَمْسَحُونَهُ * إِذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ * عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ وَأَشْوَاطٍ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إِلَى الصَّفَا * وَمَا فِيهِمَا مِنْ صورةٍ وَتَمَاثِلِ (6) وَمَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مِنْ كُلِّ رَاكِبٍ * وَمِنْ كُلِّ ذِي نذرٍ وَمِنْ كُلِّ رَاجِلِ
__________
(1) في ابن هشام: دهماء.
(2) عضب: قاطع.
المقاول: الملوك.
يحتمل أن يكون هذا السيف من هبات أو هدايا الملوك لابيه عبد المطلب (3) النافل: المتبرئ.
(4) موسمة: معلمة، والقصرات جمع قصرة: وهي أصل العنق.
والمخيسة: المذللة.
والسديس من الابل: الذي دخل في السنة الثامنة.
والبازل: الذي خرج نابه وذلك في السَّنة التاسعة.
(5) العثاكل: جمع عثكول وأصلها عثاكيل حذفت الياء للضرورة: وهي الاغصان التي ينبت عليها الثمر.
(6) تماثل: أصلها تماثيل حذفت الياء للضرورة، وهي الصور.
(*)(3/70)
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له * الإل إِلَى مُفْضَى الشِّرَاجِ الْقَوَابِلِ (1)
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيَّةً * يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ الرَّوَاحِلِ وَلَيْلَةِ جمعٍ وَالْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى * وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حرمةٍ وَمَنَازِلِ وجمعٍ إِذَا مَا الْمُقْرِبَاتُ أَجَزْنَهُ * سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إِذَا صَمَدُوا لَهَا * يَؤُمُّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالْجَنَادِلِ وكندةَ إِذْ هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيَّةً * تُجِيزُ بِهِمْ حجَّاجُ بكرِ بْنِ وَائِلِ حليفانِ شدَّا عَقْدَ مَا احْتَلَفَا لَهُ * وردَّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الْوَسَائِلِ وحطمهمُ سُمرَ الرماحِ وَسَرْحَهُ * وَشِبْرِقَهُ وخدُ النعامِ الْجَوَافِلِ (2) فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ معاذٍ لِعَائِذٍ * وَهَلْ مِنْ معيذٍ يتقي الله عادل يطاع بنا أمر العدا ودّ أننا * يسد بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ (3) كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَتْرُكَ مَكَّةً * وَنَظْعَنُ إِلَّا أَمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ كذبتم وبيت الله نبذي مُحَمَّدًا * وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ (4) وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نصرَّع حَوْلَهُ * وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ وَيَنْهَضَ قومٌ بِالْحَدِيدِ إِلَيْكُمُ * نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلَاصِلِ (5) وَحَتَّى نَرَى ذَا الضِّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ * مِنَ الطَّعْنِ فِعْلَ الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ (6) وَإِنَّا لَعَمْرُ اللَّهِ إِنْ جدَّ مَا أَرَى * لَتَلْتَبِسَنْ أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ بِكَفَّيْ فَتًى مِثْلِ الشِّهَابِ سميْدعٍ * أَخِي ثقةً حامي الحقيقة باسل (7)
__________
(1) المشعر الاقصى: عرفة.
إلال: جبل عرفة قال النابغة: يزرن إلالا سيرهن التدافع وسمي كذلك لان الحجيج إذا رأوه الوا في السير واجتهدوا فيه ليدركوا الموقف.
والشراج: جمع شرج: وهو سيل الماء.
(2) السمر: شجر الطلع.
والصفاح: وهو عرض الجبل.
والسرح: شجر عظام.
والشبرق: نبات يقال ليابسه الحلى، ولرطبه الشبرق.
الوخد: السير السريع.
والجوافل: المسرعة.
(3) في السيرة والاكتفاء: يطاع بنا العدى وودوا لو أننا.
وترك وكابل: جبلان.
(4) في سيرة ابن هشام: نبزى بدل نبذي.
نبزى: نغلب عليه، والمراد هنا: لا نبزى محمدا فحذف لا من جواب القسم.
(5) الروايا: الابل التي تحمل الماء واحدتها رواية.
والصلاصل: المزادات لها صلصلة بالماء.
(6) يركب ردعه: أي يخر صريعا لوجهه.
(7) السميدع: السيد.
(*)(3/71)
شهوراً وأياماً وحولاً محرماً * عَلَيْنَا وَتَأْتِي حُجَّةٌ بَعْدَ قَابِلِ (1) وَمَا تركُ قَوْمٍ - لَا أبالكَ - سَيداً * يَحُوطُ الذِّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُواكِلِ (2) وأبيضُ يُسْتَسْقى الْغَمَامُ بوجهه * نمال (تمالِ) الْيَتَامَى عصمةٍ لِلْأَرَامِلِ يلوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هاشمٍ * فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رحمةٍ وَفَوَاضِلِ لعمري لقد أجرى أسيد وتكره * إِلَى بُغْضِنَا وَجَزَّآنَا لِآكِلِ (3) وعثمانُ لَمْ يربَع علينا وقنقذ * وَلَكِنْ أَطَاعَا أمرَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ (4) أَطَاعَا أُبَيًّا وَابْنَ عبدِ يغوثِهم * وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مقالةَ قائل (5) كما قد لقينا من سبينع ونوفلٍ * وَكُلٌّ تَوَلَّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلِ (6) فَإِنْ يُلْفَيَا أَوْ يمكِن اللَّهُ مِنْهُمَا * نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ الْمُكَايِلِ وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أَبَى غَيْرَ بُغْضِنَا * لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شاءٍ وَجَامِلِ يناحي بِنَا فِي كُلِّ مُمْسًى ومصبحٍ * فناجِ أَبَا عمرٍو بِنَا ثُمَّ خَاتَلِ وَيُؤْلِي لَنَا بِاللَّهِ ما أن يغشنا * بلى قد تراه جهرةً غير خائل (7) أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلَّ تلعةٍ * مِنَ الْأَرْضِ بَيْنَ أخشبٍ فَمُجَادِلِ
وَسَائِلْ، أَبَا الْوَلِيدِ مَاذَا حبوتنا * بسعيك فينا معرضاً كالمخاتل وكنت امرءاً مِمَّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ * وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْتَ بِجَاهِلِ فَعُتْبَةُ لَا تَسْمَعْ بِنَا قولَ كاشحٍ * حسودٍ كذوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ (8) ومرَّ أَبُو سُفْيَانَ عَنِّي مُعْرِضًا * كَمَا مرَّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ الْمَقَاوِلِ يفرُّ إِلَى نجدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ * وَيَزْعُمُ أَنِّي لَسْتُ عَنْكُمْ بِغَافِلِ وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ الْمُنَاصِحِ أَنَّهُ * شفيقٌ وَيُخْفِي عارماتِ الدَّوَاخِلِ أمطعمُ لَمْ أخذ لك فِي يَوْمِ نجدةٍ * وَلَا معظمٍ عِنْدَ الْأُمُورِ الجلائل
__________
(1) في السيرة: مجرما بدل محرما، والحول المجرم: الكامل يقال: تجرم العام والشتاء، وتصرم الصيف.
(2) الذرب: الفاحش النطق.
والمواكل: العاجز الذي يكل أموره كلها إلى غيره.
(3) أسيد وبكره: وهو عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مناف.
(4) عثمان هو بن عبيد الله أخو طلحة.
وقنفذ: بن عمير جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مرة.
(5) أبي: الاخنس بن شريف حليف بني زهرة بن كلاب وسمي الاخنس - وهو علاج - لانه خنس بالقوم يوم بدر (سيرة ابن هشام) .
(6) سبيع ابن خالد، أخو بلحرث بن فهر، ونوفل: بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصي، وهو ابن العدوية.
وكان من شياطين قريش وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة بن عبيد الله في حبل حين أسلما.
(7) في ابن هشام: غير حائل.
(8) الدغاول: الغوائل، وقيل: الامور الفاسدة.
(*)(3/72)
وَلَا يومَ خصمٍ إِذْ أَتَوْكَ أَلِدَّةً * أُولِي جدلٍ مِنَ الخصومِ الْمُسَاجِلِ (1) أَمُطْعِمُ إنَّ الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً * وَإِنِّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْتُ بِوَائِلِ جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا * عُقُوبَةَ شرٍ عاجلاً غير آجل يميران قسطٍ لا يخيس شَعِيرَةً * لَهُ شاهدَ مِنْ نفسهِ غيرُ عَائِلِ (2)
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا * بَنِي خلفٍ قَيْضَا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ (3) وَنَحْنُ الصميمُ مِنْ ذؤابةِ هَاشِمٍ * وَآلِ قُصَيٍّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ وسهمٍ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وألَّبوا * عَلَيْنَا العِدى مِنْ كُلِّ طملٍ وَخَامِلِ (4) فعبدُ منافٍ أَنْتُمْ خيرُ قَوْمِكُمْ * فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كَلَّ وَاغِلِ لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمُ وَعَجَزْتُمُ * وَجِئْتُمْ بأمرٍ مخطئٍ لِلْمَفَاصِلِ وكنتم حديثاً حَطبَ قدْرٍ وأنتم * الآن أحطابُ أقدرٍ وَمَرَاجِلِ (5) لِيَهْنِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا * وَخِذْلَانُنَا وَتَرْكُنَا فِي الْمَعَاقِلِ فَإِنْ نَكُ قَوْمًا نتَّئر مَا صَنَعْتُمُ * وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ (6) فَأَبْلِغْ قُصَيًّا أَنْ سينشرَ أمرُنا * وبشِّر قُصِيًّا بَعْدَنَا بِالتَّخَاذُلِ (7) وَلَوْ طرقتُ لَيْلًا قُصَيًّا عظيمةٌ * إِذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي الْمَدَاخِلِ وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْبًا خِلَالَ بُيُوتِهِمْ * لكنَّا أُسًى عِنْدَ النِّسَاءِ الْمَطَافِلِ فَكُلُّ صديقٍ وَابْنُ أختٍ نعدَّه * لَعَمْرِي وَجَدْنَا غُبَّةً غَيْرَ طَائِلِ سِوَى أَنَّ رَهْطًا مِنْ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ * بَرَاءٌ إِلَيْنَا من معقَّةِ خاذل وَنِعْمَ ابْنُ أختِ الْقَوْمِ غَيْرَ مُكَذَّبٍ * زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مَنْ حَمَائِلِ (8) أشمَّ مِنَ الشمِّ البهاليلِ يَنْتَمِي * إِلَى حسبٍ فِي حومةِ الْمَجْدِ فاضل
__________
(1) المساجل: أصله من المساجلة، وجمعه مسجل بكسر الميم وهو الخصم المدافع وتروى المساحل بالحاء المهملة البلغاء والخطباء.
(2) في ابن هشام: لا يخس: لا ينقص.
ويخيس: من قولهم خاس بالعهد: نقضه.
(3) الغياطل: بنو سهم.
(4) الطمل: الرجل الفاحش، وقيل: اللص.
(5) في السيرة: حطاب بدل أحطاب.
وحطاب جمع حاطب والمراد: كنتم متفقين لا تحطبون إلا لقدور واحدة، فأنتم الآن بخلاف ذلك
(6) لقحة: الناقة ذات اللبن.
والباهل: الناقة التي لا صرار لها على أخلافها فهي مباحة الحلب.
(7) قبله بيتان سقطا من الاصل، وهما في سيرة ابن هشام: وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ * نَفَاهُمْ إِلَيْنَا كُلَّ صَقْرٍ حُلَاحِلِ وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرُّ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى * وَأَلْأَمُ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وناعل (8) قبله أبيات وردت في ابن هشام ج 1 / 298.
(*)(3/73)
لَعَمْرِي لَقَدْ كلفِّتُ وَجْدًا بِأَحْمَدٍ * وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ المحبِّ الْمُوَاصِلِ فَمَنْ مثلُه فِي النَّاسِ أَيُّ مؤمَّل * إِذَا قَاسَهُ الحكَّام عِنْدَ التَّفَاضُلِ حليمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ * يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ كريمُ الْمَسَاعِي ماجدٌ وَابْنُ مَاجِدٍ * لَهُ إرثُ مجدٍ ثابتٍ غَيْرِ نَاصِلِ وأيَّده ربُّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ * وَأَظْهَرَ دِينًا حَقُّهُ غَيْرُ زائل (1) فوالله لولا أن أجئ بسُبَّةٍ * تجرُّ عَلَى أشياخِنا فِي الْمَحَافِلِ لَكُنَّا تبعناه عَلَى كُلِّ حالةٍ * مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مكذبٌ * لدينا ولا يعنى بقولِ الا باطل فأصبح فينا أحمدٌ في أرومةٍ * يقصر عَنْهَا سورةُ الْمُتَطَاوِلِ (2) حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْتُهُ * ودافعت عنه بالذَّرى وَالْكَلَاكِلِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لِي مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ أَكْثَرَهَا.
قُلْتُ: هَذِهِ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ بليغة جداً لا يستطيع يَقُولَهَا إِلَّا مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَهِيَ أَفْحَلُ مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، وَأَبْلَغُ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى فيها جَمِيعًا، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ مُطَوَّلَةً بزيادات أخر والله أعلم.
فصل
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَثَبَتْ
كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَبِرَمْضَاءِ مَكَّةَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، مَنِ اسْتَضْعَفُوهُ مِنْهُمْ يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ (3) وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُبُ لَهُمْ وَيَعْصِمُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَكَانَ بِلَالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ لِبَعْضِ بَنِي جُمَحَ، مُوَلَّدًا مِنْ مُوَلَّدِيهِمْ، وَهُوَ بلال بن رباح، واسم أُمِّهِ حَمَامَةَ، وَكَانَ صَادِقَ الْإِسْلَامِ طَاهِرَ الْقَلْبِ، وَكَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ يُخْرِجُهُ إِذَا حَمِيَتِ الظهيرة، [فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة] (4) ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: لَا وَاللَّهِ لَا تَزَالُ هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلم، تعبد اللَّاتَ وَالْعُزَّى فَيَقُولُ: - وَهُوَ فِي ذَلِكَ - أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نوفل يمر به وهو يعذب لذلك، وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ، فَيَقُولُ أحدٌ أَحَدٌ وَاللَّهِ يَا بِلَالُ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بني
__________
(1) هذا البيت والذي قبله سقطا من السيرة.
(2) السورة: بفتح السين: الشدة والبطش، وبضمها: المنزلة.
(3) في ابن هشام: يصيبه.
(4) ما بين معقوفتين سقط من الاصل واستدركت من ابن هشام.
ج 1 / 339.
(*)(3/74)
جُمَحَ فَيَقُولُ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا (1) .
قُلْتُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ وَرَقَةَ تُوُفِّيَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ فِي فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ (يَا أيُّها المدَّثر) فكيف يمر ورقة ببلال، هو يُعَذَّبُ وَفِيهِ نَظَرٌ (2) .
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مُرُورَ أَبِي بَكْرٍ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ، فَاشْتَرَاهُ مِنْ أُمَيَّةَ بِعَبْدٍ لَهُ أَسْوَدَ فَأَعْتَقَهُ وَأَرَاحَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَذَكَرَ مُشْتَرَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، مِنْهُمْ بِلَالٌ، وَعَامِرُ بْنُ فهيرة، وأم عميس (3) الَّتِي أُصِيبَ بَصَرُهَا ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لها، والنهدية وابنتها اشتراها مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بَعَثَتْهُمَا سَيِّدَتُهُمَا تَطْحَنَانِ لَهَا فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ لَهُمَا: وَاللَّهِ لَا أعتقكما أبداً فقال أبو بكر: حل يا أم فلان، فقالت حل أَنْتَ أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا، قَالَ فَبِكَمْ هُمَا؟ قَالَتْ بِكَذَا وَكَذَا.
قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُمَا
وَهُمَا حُرَّتَانِ، أَرْجِعَا إِلَيْهَا طَحِينَهَا.
قَالَتَا: أَوْ نَفْرَغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ نَرُدُّهُ إِلَيْهَا؟ قَالَ: [أو] ذَلِكَ إِنْ شِئْتُمَا.
وَاشْتَرَى جَارِيَةً بَنِي مُؤَمَّلٍ - حَيٌّ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ - كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ بعض أهله.
قال قال أبو قحافة لابنه أبي بَكْرٍ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَاكَ تَعْتِقُ ضِعَافًا، فَلَوْ أَنَّكَ إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ رجالاً جلداء يمنعنونك (يَمْنَعُونَكَ) وَيَقُومُونَ دُونَكَ؟ قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يا أبة إني إنما أريد ما أريد.
قال: فتحدث أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إِلَّا فِيهِ وَفِيمَا قَالَ أَبُوهُ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (4) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ الله بعمه [أبي طالب] ، وَأَبُو بَكْرٍ مَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أحدٌ أَحَدٌ.
وَرَوَاهُ الثَّوريّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مرسلاً (5) .
__________
(1) أي لاجعلن قبره موضع حنان فاتمسح به متبركا.
(2) وقد تقدم التعليق حول وفاة ورقة بعد فترة الوحي، كما جاء في البخاري، وأن ورقة لم يبق إلى إسلام بلال.
فليراجع في مكانه من هذا الجزء.
(3) كذا في الأصول: وفي ابن هشام: أم عبيس، وان التي أصيب بصرها حين أعتقها أبو بكر هي زنيرة - كما عند ابن هشام - فقالت قريش عند ذلك: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى.
فقالت: كذبوا وبيت الله، فرد الله بصرها.
(راجع ترجمتها في الاستيعاب لابن عبد البر على هامش الاصابة 4: 322 والاصابة ج 4 / 311) .
(4) الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 339 - 340 - 341.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 284 وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
وأخرجه أبو نعيم في حلية الاولياء 1 / 149 وابن عبد البر في الاستيعاب.
(*)(3/75)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَأُمِّهِ - وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إِسْلَامٍ - إِذَا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ يُعَذِّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكَّةَ.
فَيَمُرُّ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ - فِيمَا بَلَغَنِي -: " صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ " (1) وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عِصْمَةَ الْعَدْلِ، حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَمَّارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فَقَالَ: " أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ وَآلَ ياسر فإن موعدكم الجنة " (2) فأما أمه فيقتلوها فتأبى إِلَّا الْإِسْلَامَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَالَ: أول شهيد كان في أول الْإِسْلَامِ اسْتُشْهِدَ أُمُّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ طَعَنَهَا أَبُو جهل بحربة في قلبها (3) .
وَهَذَا مُرْسَلٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ الَّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رجال من قريش، إن سمع برجل قَدْ أَسْلَمَ لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ أَنَّبَهُ وخزَّاه وَقَالَ: تَرَكْتَ دِينَ أَبِيكَ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، لَنُسَفِّهَنَّ حِلْمَكَ، وَلَنُفَيِّلَنَّ (4) رَأْيَكَ، وَلَنَضَعَنَّ شَرَفَكَ.
وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا قَالَ: وَاللَّهِ لَنُكْسِدَنَّ تِجَارَتَكَ، وَلَنُهْلِكَنَّ مَالَكَ.
وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ضَرَبَهُ وَأَغْرَى بِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنَ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ؟ قَالَ نَعَمْ وَاللَّهِ! إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونِ أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ حَتَّى مَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضر الذي [نزل] بِهِ، حَتَّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ، حتى يقولوا له، اللات والعزى إلهآن مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ نَعَمْ! افْتِدَاءً مِنْهُمْ بما يَبْلُغُونَ مِنْ جُهْدِهِمْ.
قُلْتُ: وَفِي مِثْلِ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكفر صدره فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أليم) [النحل: 106] الآية فَهَؤُلَاءِ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْعَذَابِ الْبَلِيغِ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ،
عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خبَّاب بْنِ الْأَرَتِّ.
قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ.
فَقُلْتُ لَا وَاللَّهِ لاأكفر بمحمد حتى تموت
__________
(1) سيرة ابن هشام: 1 / 342.
(2) الخبر في دلائل البيهقي 2 / 282 وفيه: أو آل ياسر.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 388 وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
ووافقه الذهبي.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 293 عن عثمان وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(3) قال البيهقي في الدلائل عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوَّلُ شَهِيدٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ اسْتُشْهِدَ أُمُّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ طَعَنَهَا أَبُو جهل بحربة في قبلها (ج 2 / 282 - راجع الاستيعاب 4 / 330 على هامش الاصابة، والاصابة 4 / 335) .
(4) في نسخة البداية المطبوعة: ولنفلين رأيك، وهو تحريف.
ونفيلن رأيك: أي نقبحنه ونخطئنه (*) .(3/76)
ثُمَّ تُبْعَثَ.
قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مُتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جِئْتَنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً) إلى قوله: (ويأتينا فردا) [مَرْيَمَ: 77 - 80] أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ عن الأعمش به (1) .
وفي لفظ البخاري كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، فَعَمِلْتُ لِلْعاصِ بْنِ وَائِلٍ سَيْفًا فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا بَيَانٌ وَإِسْمَاعِيلُ (2) .
قَالَا: سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بِبُرْدَةٍ وَهُوَ فِي ظلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لقينا من المشركين شدة، فقلت [يا رسول الله] ألا تدعو الله [لنا] ؟ فقعد وهو محمر وجهه.
فَقَالَ: " قَدْ كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مِفْرَقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وليتمنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عزوجل " زَادَ بَيَانٌ " والذِّئب عَلَى غَنَمِهِ " وَفِي رِوَايَةٍ " وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ (3) .
وَقَدْ رَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ خَبَّابٍ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ وَابْنُ
جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ خبَّاب.
قَالَ شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ الرَّمْضَاءِ فَمَا أَشْكَانَا - يَعْنِي فِي الصَّلاة - وَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: فَلَمْ يُشْكِنَا.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ وَهْبٍ يقول: سمعت خباباً يقول: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا، قَالَ شُعْبَةُ يَعْنِي فِي الظهيرة.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ خبَّاب.
قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ - زَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي وُجُوهِنَا وَأَكُفِّنَا - فَلَمْ يُشْكِنَا.
وَفِي رِوَايَةٍ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا.
وروا ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيِّ عَنْ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ خبَّاب.
قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا.
وَالَّذِي يقع لي - والله أعلم - أن هذا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5 / 110 - 111.
وأخرجه الترمذي في التفسير - تفسير سورة مريم.
وأخرجه مسلم في (50) كتاب المنافقين ح (36) .
والبخاري في 34 كتاب البيوع 29 باب ح 2091 وفي 15 كتاب الاجارة (15) باب ح 2275 وفي 44 كتاب الخصومات (10) باب ح 2425.
وفي كتاب التفسير - تفسير سورة مريم 3 باب ح 4732 (فتح الباري) .
(2) من البخاري والبيهقي.
وفي نسخ البداية المطبوعة: بنان وهو تحريف، وبيان بن بشر وإسماعيل بن أبي خالد.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 29 باب ح 3852 عن الحميدي.
وقال البيهقي: وأخرجاه من أوجه أخر عن إسماعيل، والخبر ليس في مسلم إنما خرجه البخاري أيضاً في الاكراه عن مسدد فتح الباري 12 / 315 وفي علامات النبوة في الاسلام عن إسماعيل فتح الباري 6 / 619.
وأخرجه أبو داود: في الجهاد عن اسماعيل.
وأحمد في مسنده 5 / 109.
(*)(3/77)
الْحَدِيثَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِحَرِّ الرَّمْضَاءِ، وَأَنَّهُمْ يَسْحَبُونَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَيَتَّقُونَ بِأَكُفِّهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ كَمَا تَقَدَّمَ
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ يَسْتَنْصِرَ عَلَيْهِمْ فَوَعَدَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْجِزْهُ لَهُمْ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ وَأَخْبَرَهُمْ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ مَا هُوَ أَشَدُّ ممَّا أَصَابَهُمْ وَلَا يَصْرِفُهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيُبَشِّرُهُمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُتِمُّ هَذَا الأمر ويظهره ويعلنه وَيَنْشُرُهُ وَيَنْصُرُهُ فِي الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكب مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ والذِّئب عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ.
وَلِهَذَا قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي وُجُوهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا، أَيْ لَمْ يَدْعُ لَنَا فِي السَّاعة الرَّاهنة، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْإِبْرَادِ أَوْ عَلَى وُجُوبِ مُبَاشَرَةِ الْمُصَلِّي بِالْكَفِّ كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فَفِيهِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وإقامة الحجة الدامغة عليهم وَاعْتِرَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالْحَقِّ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْمُخَالِفَةَ عِنَادًا وَحَسَدًا وَبَغْيًا وَجُحُودًا
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا عَمِّ إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا، قَالَ لمَ؟ قال ليعطوكه فإنك أتيت محمداً لتعرض ما قبله، قال قد علمت قريش أني من أَكْثَرُهَا مَالًا، قَالَ فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قومك أنك منكر له [أو أنك كاره له] .
قال وماذا أقول؟ فوالله مامنكم رجل أعرف بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ، وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُوَ وَلَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ.
قَالَ لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قال قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكر.
قال: إِنْ هَذَا إِلَّا سحر يؤثر بأثره عَنْ غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُودًا) [المدثر: 11 - 13] الآيات هكذا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مُحَمَّدِ [بْنِ عَلِيٍّ] الصَّنْعَانِيِّ بِمَكَّةَ عَنْ إِسْحَاقَ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ مرسلاً (1) .
فيه أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 198، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 / 506 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه.
(*)(3/78)
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90] وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، [قال] : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ (1) فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدُّ قَوْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا.
فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ، وَأَقِمْ لَنَا رَأَيَا نَقُومُ بِهِ (2) ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا وَأَنَا أَسْمَعُ.
فَقَالُوا نَقُولُ كَاهِنٌ؟ فَقَالَ مَا هُوَ بكاهن رَأَيْتُ الْكُهَّانَ.
فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ.
فَقَالُوا نَقُولُ مَجْنُونٌ؟ فَقَالَ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فقالوا (3) نَقُولُ شَاعِرٌ؟ فَقَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ: بِرَجَزِهِ وَهَزَجِهِ، وَقَرِيضِهِ وَمَقْبُوضِهِ، وَمَبْسُوطِهِ فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ.
قَالُوا فَنَقُولُ هُوَ سَاحِرٌ؟ قَالَ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا بِعَقْدِهِ.
قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنًى فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أقرب القول لأن تقولوا هذا سَاحِرٌ، فَتَقُولُوا هُوَ سَاحِرٌ يفرِّق بَيْنَ الْمَرْءِ ودينه، وبين الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ حَتَّى قَدِمُوا الْمَوْسِمَ لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا حَذَّرُوهُ إِيَّاهُ، وَذَكَرُوا لهم أمره وأنزل الله في الوليد: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُودًا) [المدثر: 11 - 13] الْآيَاتِ وَفِي أُولَئِكَ النفر (الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن عضين، فو ربك لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (4) [الْحِجْرِ: 91 - 93] .
قُلْتُ: وَفِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فليئتنا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء: 5] فَحَارُوا مَاذَا يقولون فيه فكل شئ يَقُولُونَهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ مَهْمَا قَالَهُ أَخْطَأَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الاسراء: 48] .
وَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عن الأجلح - وهو ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ - عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
قال: اجتمع قريش يوماً فقالوا أنظروا
__________
= وقال البيهقي: وكذلك رواه معمر عن عباد بن منصور عن عكرمة مرسلاً، ورواه أيضا معتمر بن سليمان عن أبيه فذكره أتم من ذلك مرسلا.
(1) من البيهقي، وفي نسخة البداية المطبوعة: المواسم وهو تحريف.
(2) في ابن هشام: نقول به بدل نقوم به.
(3) من البيهقي، وفي نسخ البداية المطبوعة: فقال وهو تحريف.
(4) عضين: أي أصنافا.
والخبر رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 198 وما بعدها (*) .(3/79)
أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَ أَمْرَنَا وَعَابَ دِينَنَا فَلْيُكَلِّمْهُ وَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ؟ فَقَالُوا مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ فإن كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً (1) قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْكَ فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا.
وَاللَّهِ مَا نَنْتَظِرُ إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ حَتَّى نَتَفَانَى: أيُّها الرَّجل إِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْحَاجَةُ جَمَعْنَا لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَغْنَى قُرَيْشٍ رَجُلًا، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا بك الباه فَاخْتَرْ أَيَّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ شِئْتَ فَلْنُزَوِّجْكَ عَشْرًا.
فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَرَغْتَ؟ " قَالَ نَعَمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آياته قرآنا عربيا لقوم يَعْلَمُونَ) إِلَى أَنْ بَلَغَ: " فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت: 2 - 3] .
فَقَالَ عتبة: حَسْبُكَ مَا عِنْدَكَ غَيْرَ هَذَا؟ قَالَ لَا، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ إِلَّا كَلَّمْتُهُ.
قَالُوا: فَهَلْ أَجَابَكَ؟ فَقَالَ نَعَمْ! ثُمَّ قَالَ لَا وَالَّذِي نَصَبَهَا بَنِيَّةً مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ.
قَالُوا: وَيْلَكَ يُكَلِّمُكَ الرَّجُلُ بِالْعَرَبِيَّةِ لَا تَدْرِي مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ عبَّاس الدُّورِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَجْلَحِ بِهِ.
وَفِيهِ كَلَامٌ، وَزَادَ: وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا بِكَ الرِّيَاسَةُ عَقَدْنَا أَلْوِيَتَنَا لك فكنت رأساً ما بقيت وعنده أنه لما قال: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عاد وثمود) أَمْسَكَ عُتْبَةُ (2) عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا صَبَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَهُ طَعَامُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ، انْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ فَأَتَوْهُ.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ مَا جِئْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ كَانَ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ.
فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا.
وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، وَلَكِنِّي أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشئ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسِحْرٍ وَلَا بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ، قَرَأَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تنزيل من الرحمن الرحيم) حَتَّى بَلَغَ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مثل صاعقة عاد وثمود) فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يكذب، فخفت أن
__________
(1) السخلة: تطلق على الذكر والانثى من أولاد الضأن.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: عقبة وهو تحريف.
(*)(3/80)
يَنْزِلَ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ (1) .
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ
يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ [قال:] حدثني يزيد بن زِيَادٍ (2) مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ (3) ، وَكَانَ سَيِّدًا حَلِيمًا.
قَالَ - ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ -: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلَى هَذَا فَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا وَيَكُفُّ عَنَّا.
قَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ! فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِيمَا قَالَ لَهُ عُتْبَةُ وَفِيمَا عَرَضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ وغير ذلك.
وقال ابْنِ إِسْحَاقَ (4) فَقَالَ عُتْبَةُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمُهُ وَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها وَيَكُفُّ عَنَّا وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَرَأَوْا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ.
فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ! فقم إليه وكلمه.
فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السِّطة (5) فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فَرَّقْتَ [بِهِ] جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وكفَّرت بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ.
فَاسْمَعْ مِنِّي حَتَّى أَعْرِضَ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا.
قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعُ ".
قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كنت نريد بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتُ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرجل حتى يتداوى مِنْهُ - أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ - حتَّى إِذَا فرغ عتبة.
قَالَ لَهُ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ " قَالَ نَعَمْ! قَالَ اسمع مِنِّي، قَالَ أَفْعَلُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حم تنزل مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عربيا لقوم يعلمون) فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأها فَلَمَّا سَمِعَ بِهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا وَأَلْقَى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمداً عليها لِيَسْمَعَ مِنْهُ حَتَّى انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَهَا ثُمَّ قَالَ: " سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ سَمِعْتُ.
قَالَ: " فَأَنْتَ وَذَاكَ " ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ إِلَى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله
__________
(1) دلائل البيهقي 2 / 203.
(2) من السيرة ودلائل البيهقي، وفي نسخ البداية المطبوعة: بن أبي زياد وهو تحريف.
(3) عتبة بن ربيعة (2000 هـ = 624000 م) بن عبد شمس، أبو الوليد: كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهلية.
كان موصوفا بالرأى والحلم والفضل، نافذ القول.
نشأ يتيماً في حجر حرب ابن أمية، أول ما عرف منه توسطه للصلح في حرب الفجار.
أدرك الاسلام وطغى فشهد بدراً مع المشركين.
أحاط به علي وحمزة وعبيدة بن الحارث فقتلوه.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: زياد بن إسحاق وهو تصحيف.
(5) في نسخ البداية المطبوعة: الشطر وهو تحريف، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام والسطة: الشرف.
(*)(3/81)
لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ.
فَلَمَّا جَلَسُوا إِلَيْهِ قَالُوا مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ وَرَائِي أَنِّي وَاللَّهِ قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا الْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي.
خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأً [عظيم] ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ.
قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ.
قَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ (1) .
ثُمَّ ذَكَرَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ شِعْرًا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ يَمْدَحُ فِيهِ عُتْبَةَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ (2) : أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ الْآدَمِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ زُرْعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَالَ: لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرحمن الرحيم) أَتَى أَصْحَابَهُ فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ أَطِيعُونِي فِي هَذَا الْأَمْرِ الْيَوْمَ، وَاعْصُونِي فِيمَا بَعْدَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَلَامًا مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ كَلَامًا مِثْلَهُ، وَمَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ.
قَالَ:
حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَبَا سُفْيَانَ وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ، وكلٍ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا.
ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا فجمعهم الطريق، قال بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالُوا لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ أَنْ لَا نَعُودَ.
فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَفَرَّقُوا، فَلَمَّا أصبح الأخنس بن شريق أخذه عَصَاهُ ثُمَّ خَرَجَ حتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أعرفها وأعرف ما يراد بها [وأشياء لا أعرفها ولا أعرف مَا يُرَادُ بِهَا] (3) فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ.
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ من محمد؟ فقال ماذا سمعت، تنازعنا
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 1 / 314 ودلائل البيهقي 2 / 204 - 205 وما بين معقوفتين في الحديث من السيرة والدلائل.
(2) دلائل البيهقي 2 / 206.
(3) ما بين معقوفتين سقط من الاصل والدلائل واستدرك لمقتضى السياق من الاكتفاء للكلاعي.
(*)(3/82)
نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللَّهِ لَا نَسْمَعُ (1) بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ.
فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَمْشِي أَنَا وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي
بَعْضِ أَزِقَّةِ مَكَّةَ، إِذْ لَقِيَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْلٍ: " يَا أَبَا الْحَكَمِ، هلمَّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ ".
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا؟ هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ؟ فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ قَدْ بَلَّغْتَ؟ فَوَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ لَاتَّبَعْتُكَ (2) .
فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَقْبَلَ عَلِيٌّ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أن ما يقول حق، ولكن [يمنعني] شئ.
إِنَّ بَنِي قُصَيٍّ قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ.
فَقُلْنَا نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا فِينَا السِّقَايَةُ، فَقُلْنَا نَعَمْ.
ثُمَّ قَالُوا فِينَا النَّدْوَةُ، فَقُلْنَا نَعَمْ.
ثُمَّ قَالُوا فِينَا اللِّوَاءُ، فَقُلْنَا نَعَمْ.
ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا.
حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قَالُوا مِنَّا نَبِيٌّ، وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ (3) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قال: أخبرنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا محمد بن خالد، حدثنا أحمد بن خلف، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَالَ: مرَّ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، وَهُمَا جَالِسَانِ.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا نَبِيُّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَتَعْجَبُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا نَبِيٌّ؟ فَالنَّبِيُّ يَكُونُ فِيمَنْ أَقَلُّ مِنَّا وَأَذَلُّ.
فقال أبو جهل: أعجب أَنْ يَخْرُجَ غُلَامٌ مِنْ بَيْنِ شُيُوخٍ نَبِيًّا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ.
فَأَتَاهُمَا فَقَالَ: " أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، فَمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ غَضِبْتَ وَلَكِنَّكَ حَمِيتَ لِلْأَصْلِ.
وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا الْحَكَمِ، فَوَاللَّهِ لَتَضْحَكَنَّ قَلِيلًا وَلَتَبْكِيَنَّ كَثِيرًا " فَقَالَ: بِئْسَمَا تَعِدُنِي يَا ابْنَ أَخِي مِنْ نُبُوَّتِكَ.
هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ غَرَابَةٌ.
وَقَوْلُ أَبِي جَهْلٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ وَعَنْ أَضِرَابِهِ: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً؟ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا.
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سبيلا) [الْفَرْقَانِ: 41 - 42] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوارٍ بِمَكَّةَ (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110] قَالَ: كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا
__________
(1) في الدلائل: لا نؤمن به.
(2) في الدلائل: ما اتبعتك، وهو مناسب أكثر.
(3) دلائل النبوة 2 / 207.
(*)(3/83)
الْقُرْآنَ وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، قَالَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم: (ولا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ (وَلَا تخافت بها) عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلَا تُسْمِعُهُمُ الْقُرْآنَ حَتَّى يَأْخُذُوهُ عنك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) وَهَكَذَا رَوَاهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بشر جعفر بن أبي حية بِهِ (1) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (2) : حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَهَرَ بِالْقُرْآنِ - وَهُوَ يُصَلِّي - تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَأَبَوْا أَنْ يَسْتَمِعُوا مِنْهُ، وَكَانَ الرَّجل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بَعْضَ مَا يَتْلُو، وَهُوَ يُصَلِّي، اسْتَرَقَ السَّمْعَ، دُونَهُمْ فَرَقاَ مِنْهُمْ، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ فَلَمْ يَسْتَمِعْ، فَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْمَعِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) فيتفرقوا عنك (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) فَلَا يَسْمَعُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهَا مِمَّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ، لَعَلَّهُ يَرْعَوِي إِلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) .
باب هجرة أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الحبشة
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَذِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ بِهِ مِنَ الضَّرْبِ الشديد.
والإهانة البالغة.
وكان الله عزوجل قد حجرهم عَنْ رَسُولِهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَعَهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ خُرُوجَهُمْ إِلَيْهَا فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْبِعْثَةِ (3) ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَأَنَّهُمُ انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ مَا بَيْنَ مَاشٍ وَرَاكِبٍ فَاسْتَأْجَرُوا سَفِينَةً بِنِصْفِ دِينَارٍ إِلَى الْحَبَشَةِ.
وَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَامْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَامْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ،
وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيُّ، وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بْنُ عَمْرٍو (4) ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن مسعود، رضي الله عنهم
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 23، 215.
(2) سيرة ابن هشام ج 1 / 335.
(3) نقل البيهقي في الدلائل قال: وأما الهجرة الثانية وهي فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث النبي 2 / 297.
ووافق الطبري الواقدي في أن مخرجهم في الهجرة الاولى كان في رجب في السنة الخامسة من حين نُبِّئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، 2 / 221 دار القاموس الحديث.
ويرى البيهقي أن الهجرة الأولى اقتصرت على عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَامْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجع الدلائل ج 2 / 297.
(4) كذا في الطبري، وفي ابن هشام: يقال: أبو حاطب بن عمرو.
(*)(3/84)
أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانُوا اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، سِوَى نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وعمار بن ياسر، نشكُّ.
فإن كان فيهم فقد كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فلمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ، بِمَكَانِهِ مِنَ الله عزوجل، وَمِنْ عمِّه أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ.
قَالَ لَهُمْ: " لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ؟ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ - حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجَا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ " فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَفِرَارًا إِلَى اللَّهِ بِدِينِهِمْ.
فَكَانَتْ أَوَّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَزَوْجَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَكَذَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوبَ بن سفيان عن عباس العنبري عن بشر بْنِ مُوسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ الْبُرْجُمِيِّ، حدثنا قتادة.
قال: أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَهْلِهِ عثمان بن عفان رضي الله عنه وسمعت النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ - يَعْنِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - يَقُولُ: خَرَجَ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَأَبْطَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمَا فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ مَنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا محمَّد قَدْ رَأَيْتُ خَتْنَكَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ.
قَالَ: " عَلَى أَيِّ حَالٍ رَأَيْتِهِمَا؟ " قَالَتْ رَأَيْتُهُ قَدْ حَمَلَ امْرَأَتَهُ عَلَى حِمَارٍ مِنْ هذه الدِّبَابَةِ (2) ، وَهُوَ يَسُوقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ " (3) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَزَوْجَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو - وَوَلَدَتْ لَهُ بِالْحَبَشَةِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ - وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ - وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا زَيْنَبَ - وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ - حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ الْعَامِرِيُّ، وَامْرَأَتُهُ أُمُّ كُلْثُومِ بنت سهيل بن عمرو - ويقال أبو حَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَهَا فِيمَا قِيلَ - وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ - فَهَؤُلَاءِ الْعَشَرَةُ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِيمَا بَلَغَنِي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
وَكَانَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ.
وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى اجْتَمَعُوا بِأَرْضِ الحبشة.
__________
(1) سيرة ابن هشام 1 / 344.
(2) في البيهقي: الدبانة.
(3) دلائل البيهقي 2 / 297 وذكر الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 80 - 81 وقال: رواه الطبراني وفيه عثمان ابن خالد العثماني وهو متروك.
(*)(3/85)
وَقَدْ زَعَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ الْهِجْرَةَ الْأُولَى إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ كَانَتْ حِينَ دَخَلَ أَبُو طَالِبٍ وَمَنْ حَالَفَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشِّعْبِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَزَعَمَ أَنَّ خُرُوجَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِنَّمَا كَانَ فِي الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ إِلَيْهَا.
وَذَلِكَ بَعْدَ عَوْدِ بَعْضِ مَنْ كَانَ خَرَجَ أَوَّلًا، حِينَ بَلَغَهُمْ أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ أَسْلَمُوا وَصَلُّوا، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ - وَكَانَ فِيمَنْ قَدِمَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ - فَلَمْ يَجِدُوا مَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ صَحِيحًا، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ وَمَكَثَ آخَرُونَ بِمَكَّةَ.
وَخَرَجَ آخَرُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِيمَنْ خَرَجَ ثَانِيًا.
وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ خُرُوجِهِ فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ أَظْهَرُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
لَكِنَّهُ كَانَ فِي زُمْرَةٍ ثَانِيَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلًا، وَهُوَ المقدم عليهم والمترجم عنهما عِنْدَ النَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِ، كَمَا سَنُورِدُهُ مَبْسُوطًا.
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ سَرَدَ الْخَارِجِينَ صُحْبَةَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَهُمْ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ أميَّة بن محرث [بن حمل] بْنِ شِقٍّ الْكِنَانِيُّ.
وَأَخُوهُ خَالِدٌ، وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ الْخُزَاعِيِّ.
وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا سَعِيدًا، وَأَمَةَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الزُّبَيْرُ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرًا وَخَالِدًا.
قَالَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَامْرَأَتُهُ بَرَكَةُ بِنْتُ يَسَارٍ مَوْلَاةُ أَبِي سُفْيَانَ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، وهو من موالي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ مِنْ دَوْسٍ.
قَالَ وَأَبُو مُوسَى [الْأَشْعَرِيُّ] (1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ حَلِيفُ آلِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
وَسَنَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي هَذَا.
وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَيَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي كَثِيرِ (2) بن عبد [بن قصي] (3) ، وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ (4) ، وَجَهْمُ بْنُ قيس العبدوي (5) ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَرْمَلَةَ بِنْتُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ بن جذيمة (6) ، وَوَلَدَاهُ عَمْرُو بْنُ جَهْمٍ وَخُزَيْمَةُ بْنُ جَهْمٍ، وَأَبُو الرُّومِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَفِرَاسُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَعَامِرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أبي عوف بن ضبيرة.
وولدت بِهَا عَبْدَ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَخُوهُ عُتْبَةُ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ صَخْرٍ التَّيْمِيُّ، وَامْرَأَتُهُ رَيْطَةُ بِنْتُ الحارث بن جبلة (7) ، وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا مُوسَى وَعَائِشَةَ وَزَيْنَبَ وَفَاطِمَةَ، وعمرو بن عثمان بن
__________
(1) من سيرة ابن هشام.
(2) من سيرة ابن هشام، وفي نسخ البداية المطبوعة والاستيعاب: كثير.
(3) زيادة من شرح السيرة لابي ذر.
(4) من السيرة وفي نسخ البداية المطبوعة حريملة وهو تحريف.
(5) العبدوي نسبة إلى عبد الدار، وهو بْنَ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدار.
(6) من السيرة وفي نسخ البداية المطبوعة: خزيمة.
(7) في السيرة: جبلة.
(*)(3/86)
عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، وَشَمَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ الْمَخْزُومِيُّ - قَالَ (1) وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَمَّاسًا لِحُسْنِهِ وَأَصْلُ اسْمِهِ عُثْمَانُ بْنُ عُثْمَانَ - وَهُبَّارُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُشَامُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو (2) بْنِ مَخْزُومٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَمُعَتِّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرٍ - وَيُقَالُ لَهُ عَيْهَامَةُ - وَهُوَ مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي مَخْزُومٍ.
قَالَ: وَقُدَامَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ أَخَوَا عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَالسَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلِّلِ، وَابْنَاهُ مِنْهَا محمد والحارث، وأخوه خطاب، وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَسَنَةُ، وَابْنَاهُ مِنْهَا جَابِرٌ وَجُنَادَةُ، وَابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - أَحَدُ الْغَوْثِ بْنُ مُزَاحِمِ بْنِ تَمِيمٍ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ (3) ، وَعُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سعيد (4) بْنِ سَهْمٍ، وَهُشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ سَعِيدٍ (4) ، وَقَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، وَإِخْوَتُهُ الْحَارِثُ وَمَعْمَرٌ وَالسَّائِبُ وَبِشْرٌ وَسَعِيدٌ أَبْنَاءُ الْحَارِثِ، وسعيد بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ لِأُمِّهِ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ رِئَابِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ مُهَشَّمِ بْنِ سَعِيدِ (4) بْنِ سَهْمٍ، وَحَلِيفٌ لِبَنِي سَهْمٍ: وَهُوَ مَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ، وَمَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى،
وَعَدِيُّ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَابْنُهُ النُّعْمَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ الْعَامِرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَخُوهُ السَّكْرَانُ، وَمَعَهُ زوجته سؤدة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة، وامرأته عمرة بنت السعدى، وأبو حاطب بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ، وَحَلِيفُهُمْ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ - وَهُوَ مِنَ الْيَمَنِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيُّ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ - وَهِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُهَا دَعْدُ بِنْتُ جَحْدَمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بن هلال بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعِيَاضُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبَّةَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ، وعثمان بن عبد غنم بن زهير أخوات، وسعيد (5) بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطٍ، وَأَخُوهُ الْحَارِثُ الْفِهْرِيُّونَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَهَاجَرَ إِلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سوى أبنائهم
__________
(1) القائل: ابن هشام.
كما في السيرة.
(2) في السيرة: عمر.
(3) قاله ابن هشام.
(4) " سعد " في السيرة وقد تقدم التعليق حوله فليراجع.
(5) في السيرة: سعد.
(*)(3/87)
الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ صِغَارًا وَوُلِدُوا بِهَا - ثَلَاثَةً وثمانون رَجُلًا إِنْ كَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فِيهِمْ، وَهُوَ يشكُّ فِيهِ.
قُلْتُ: وَذِكْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فِيمَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى سَمِعْتُ خديجاً أَخَا زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النجاشي، ونحن نحواً مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْفُطَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ، وَأَبُو مُوسَى (1) فَأَتَوُا النَّجَاشِيَّ.
وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ (2) بِهَدِيَّةٍ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَجَدَا لَهُ ثُمَّ ابْتَدَرَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَا لَهُ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عَمِّنَا نَزَلُوا أَرْضَكَ وَرَغِبُوا عَنَّا وَعَنْ مِلَّتِنَا.
قَالَ فَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَا: فِي أَرْضِكَ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ فاتبعوه، فسلَّم ولم يسجد، فقالوا له: مالك لَا تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ؟ قَالَ إِنَّا لَا نَسْجُدُ إلا لله عزوجل قَالَ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا ثُمَّ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْجُدَ لأحد إلا لله عزوجل، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
قَالَ عَمْرٌو: فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ في عيسى بن مريم، قال فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟ قال نقول كما قال الله: هو كلمته وَرُوحُهُ أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ.
قَالَ فَرَفَعَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، وَاللَّهِ مَا يَزِيدُونَ عَلَى الذي نقول فيه ما سوى هَذَا، مَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، أَشْهَدُ أنَّه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَنَّهُ الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ.
وَأَنَّهُ الرَّسُولُ الذي بشَّر به عيسى بن مَرْيَمَ، انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أنا الذي أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ.
وَأَمَرَ بِهَدِيَّةِ الْآخَرَيْنِ فَرُدَّتْ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ تعجَّل عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَدْرَكَ بَدْرًا.
وَزَعَمَ أَنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لَهُ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ وَسِيَاقٌ حَسَنٌ.
وَفِيهِ مَا يَقْتَضِي أنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ مِمَّنْ هاجر من مكة إلى أرض الحبشة،
__________
(1) سقط اسم أبي موسى من روايتي البيهقي وعيون الاثر.
وسقط اسم عبد الله بن عرفطة من رواية البيهقي.
(راجع عيون الاثر 1 / 118 دلائل البيهقي 2 / 298) .
(2) في رواية ابن إسحاق: لم يذكر مع عمرو إلا عبد الله بن أبي ربيعة في رواية زياد، وفي رواية ابن بكير لعمارة بن الوليد ذكر.
وقيل عمرو بن العاص ذهب إلى الحبشة مرتين مرة قبل بدر مع عمارة ومرة بعد بدر ومعه عبد الله بن أبي ربيعة.
ولعمرو وعمارة خلال وجودهما في الحبشة قصة طويلة رواها كثيرون منهم أبو الفرج الاصفهاني في كتاب الاغاني.
وعبد الله بن أبي ربيعة كان اسمه بحيرى فسماه رسول الله حين أسلم عبد الله وهو والد عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
رَبِيعَةَ الشاعر مات في خلافة عثمان.(3/88)
إِنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ مُدْرَجًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلائل حدَّثنا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ.
وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، حدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلَّوَيْهِ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى الْخُتَّلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جعفر، حدثنا إسرائيل.
وَحَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ - حدَّثنا عُبَيْدُ اللَّهِ (1) بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى.
قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نَنْطَلِقَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ (2) ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَجَمَعُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدِيَّةً وَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ فَأَتَيَاهُ بِالْهَدِيَّةِ، فَقَبِلَهَا وَسَجَدَا لَهُ ثُمَّ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَرْضِنَا رَغِبُوا عَنْ دِينِنَا وَهُمْ فِي أَرْضِكَ.
قَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ فِي أَرْضِي؟ قَالَا نَعَمْ! فَبَعَثَ إِلَيْنَا، فَقَالَ لَنَا جَعْفَرٌ: لَا يَتَكَلَّمُ مِنْكُمْ أَحَدٌ.
أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِهِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَنْ يَمِينِهِ، وَعُمَارَةُ عَنْ يَسَارِهِ.
وَالْقِسِّيسُونَ جُلُوسٌ سِمَاطَيْنِ.
وَقَدْ قَالَ له عَمْرٌو وَعُمَارَةُ: إِنَّهُمْ لَا يَسْجُدُونَ لَكَ.
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا بَدَرَنَا (3) مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ: اسْجُدُوا لِلْمَلِكِ.
فَقَالَ جَعْفَرٌ: لَا نَسْجُدُ إِلَّا لله عزوجل.
فلما انتهينا إلى النجاشي قَالَ مَا مَنَعَكَ أن تسجد؟ قال لا نسجد إلا لله.
فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا - وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي بشَّر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده اسمه أحمد، فَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَنُقِيمَ الصَّلَاةَ وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرَنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ.
فَأَعْجَبَ النَّجَاشِيَّ قَوْلُهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، قَالَ: أَصْلَحَ الله الملك إنهم يخالفونك في عيسى بن مَرْيَمَ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِجَعْفَرٍ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكُمْ فِي ابْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَ يَقُولُ فِيهِ قَوْلَ اللَّهِ: هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَخْرَجَهُ مِنَ العذراء البتول التي لم يقر بها بَشَرٌ وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ: فَتَنَاوَلَ النَّجَاشِيُّ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقِسِّيسِينَ والرهبان ما يزيدون هؤلاء عَلَى مَا نَقُولُ فِي ابْنِ مَرْيَمَ وَلَا وَزْنَ هَذِهِ.
مَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَنَا أَشْهَدُ أنَّه رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ الَّذِي بشَّر بِهِ عِيسَى.
وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أُقَبِّلَ نَعْلَيْهِ، امْكُثُوا فِي أَرْضِي مَا شِئْتُمْ، وَأَمَرَ لَنَا بِطَعَامٍ وَكُسْوَةٍ.
وَقَالَ رَدُّوا عَلَى هَذَيْنَ هَدِيَّتَهُمَا، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَجُلًا قَصِيرًا، وَكَانَ عُمَارَةُ رَجُلًا جَمِيلًا، وَكَانَا أَقْبَلَا فِي الْبَحْرِ، فَشَرِبَا وَمَعَ عَمْرٍو امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا شَرِبَا قَالَ عُمَارَةُ لِعَمْرٍو مُرِ امْرَأَتَكَ فَلْتُقَبِّلْنِي.
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَلَا تَسْتَحِي؟ فَأَخَذَ عُمَارَةُ عُمَرًا فَرَمَى بِهِ فِي الْبَحْرِ، فجعل عمرو: يناشد عمارة
__________
(1) في دلائل النبوة لابي نعيم ص 205: عبد الله.
(2) في دلائل أبي نعيم ودلائل البيهقي أرض الحبشة.
(3) في دلائل البيهقي: فزبرنا.
(*)(3/89)
حَتَّى أَدْخَلَهُ السَّفِينَةَ، فَحَقَدَ عَلَيْهِ عَمْرٌو فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ عَمْرٌو لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ خَلَفَكَ عُمَارَةُ فِي أَهْلِكَ، فَدَعَا النَّجَاشِيُّ بِعُمَارَةَ فَنَفَخَ فِي إِحْلِيلِهِ فَطَارَ مَعَ الْوَحْشِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلائل مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ سَلَّامٍ السَّوَّاقِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَمَرَ لَنَا بِطَعَامٍ وَكُسْوَةٍ قَالَ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، والصحيح عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جدِّه أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ باليمن فخرجوا مهاجرين في بعض وَخَمْسِينَ رَجُلًا فِي سَفِينَةٍ، فَأَلْقَتْهُمْ سَفِينَتُهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَوَافَقُوا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طالب وأصحابه عندهم، فأمره جَعْفَرٌ بِالْإِقَامَةِ، فَأَقَامُوا عِنْدَهُ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ خيبر.
قال وأبو مُوسَى شَهِدَ مَا جَرَى بَيْنَ جَعْفَرٍ وَبَيْنَ النَّجَاشِيِّ، فَأَخْبَرَ عَنْهُ.
قَالَ وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ وَهِمَ فِي قَوْلِهِ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْطَلِقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا
بُرَيْدُ (2) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى.
قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فأقمنا معه حتى قدمنا فوافينا (3) النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ " وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَأَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَرَّادِ [بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى] كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي أسامة به، وروياه فِي مَوَاضِعَ أُخر مُطَوَّلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قِصَّةُ جَعْفَرٍ مَعَ النَّجَاشِيِّ فإنَّ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ رَوَاهَا فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ تَارِيخِهِ مِنْ رِوَايَةِ نَفْسِهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَعَلَى يَدَيْهِمَا جَرَى الْحَدِيثُ، وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأُمِّ سَلَمَةَ كَمَا سَيَأْتِي.
فَأَمَّا رِوَايَةُ جَعْفَرٍ فَإِنَّهَا عَزِيزَةٌ جِدًّا.
رَوَاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيِّ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ النَّقُورِ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الْمُخْلِّصِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ.
قَالَ حدَّثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجعفي عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بِهَدِيَّةٍ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى النَّجَاشِيِّ.
فَقَالُوا لَهُ - وَنَحْنُ عِنْدَهُ -: قَدْ صَارَ إِلَيْكَ نَاسٌ مِنْ سَفَلَتِنَا (4) وَسُفَهَائِنَا، فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: لَا حَتَّى أَسْمَعَ كلامهم.
قال فبعث إلينا
__________
(1) دلائل النبوة ج 1 / 299 - 300.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: يزيد وهو تحريف، وما أثبتناه من البخاري.
(3) في البخاري: فوافقنا.
(4) قال الاستاذ حسن في تاريخ الاسلام السياسي 1 / 87: " لم يفكر الرسول في هجرة المسلمين إلى إحدى القبائل العربية، لانها كانت ترفض دعوته في مواسم الحج مجاملة لقريش أو تمسكا بدينها الوثني، وكذلك لم يفكر في = (*)(3/90)
فقال: ما يقول هؤلاء؟ قال قلنا هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَآمَنَّا بِهِ وَصَدَّقْنَاهُ.
فَقَالَ لَهُمُ النجاشي أعبيد هم لكم؟ قالوا: لا.
فقال: فَلَكُمْ عَلَيْهِمْ دَيْنٌ؟ قَالُوا لَا.
قَالَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.
قَالَ فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي عِيسَى غَيْرَ
مَا تَقُولُ، قَالَ إِنْ لَمْ يَقُولُوا فِي عِيسَى مِثْلَ قَوْلِي لَمْ أَدَعْهُمْ فِي أَرْضِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا فَكَانَتِ الدَّعْوَةُ الثَّانِيَةُ أَشَدَّ عَلَيْنَا مِنَ الْأُولَى، قَالَ ما يقول صاحبكم في عيسى بن مَرْيَمَ؟ قُلْنَا يَقُولُ: هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى عَذْرَاءَ بَتُولٍ، قَالَ فَأَرْسَلَ فَقَالَ ادعوا لي فلان القس، وفلان الرَّاهِبَ.
فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ في عيسى بن مَرْيَمَ؟ فَقَالُوا أَنْتَ أَعْلَمُنَا، فَمَا تَقُولُ؟ قَالَ النَّجَاشِيُّ - وَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ - قَالَ مَا عَدَا عِيسَى مَا قَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ هَذَا، ثم قال أيؤذيكم أحداً؟ قَالُوا: نَعَمْ! فَنَادَى مُنَادٍ مَنْ آذَى أَحَدًا مِنْهُمْ فَأَغْرِمُوهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَالَ أَيَكْفِيكُمْ؟ قُلْنَا لَا، فَأَضْعَفَهَا.
قَالَ فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَظَهَرَ بِهَا قُلْنَا لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظَهَرَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَتَلَ الَّذِينَ كُنَّا حَدَّثْنَاكَ عَنْهُمْ، وقد أردنا الرحيل إليه، فردنا.
قَالَ نَعَمْ! فَحَمَلَنَا وَزَوَّدَنَا.
ثُمَّ قَالَ أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُمْ، وَهَذَا صَاحِبِي مَعَكُمْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.
وَقُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي.
قَالَ جَعْفَرٌ: فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ فَتَلَقَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَنَقَنِي، ثُمَّ قَالَ: " مَا أَدْرِي أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَفْرَحُ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ؟ " وَوَافَقَ ذَلِكَ فَتْحُ خَيْبَرَ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ رَسُولُ النَّجَاشِيِّ: هَذَا جَعْفَرٌ فَسَلْهُ مَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُنَا؟ فَقَالَ نَعَمْ فَعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا وَحَمَلَنَا وَزَوَّدَنَا، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَالَ لِي قُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَعَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلنَّجَاشِيِّ " فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ أَمِينٍ.
ثمَّ قَالَ جَعْفَرٌ فَقَلْتُ لِلرَّسُولِ انْطَلِقْ فَأَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا رَأَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَدْ قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ الله عنها.
أنها قالت: لما ضاقت مكة [علينا] وَأُوذِيَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُتِنُوا وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ والفتنة في دينهم،
__________
= الهجرة إلى مواطن أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ اليهود والمسيحيين، لان كلا من الجاليتين اليهودية والمسيحية كانت تنازع الاخرى وتنافسها في النفوذ الادبي ببلاد العرب، فهما والحالة هذه لا تقبلان منافسا ثالثا خصوصا إذا كان من العرب الذين كانوا يحتقرونهم، أما اليمن وكانت مستعمرة للفرس ولم يدينوا بدين سماوي فلم يطمئن الرسول
إلى الالتجاء إليها، وكذلك كان شأن الحيرة التي كانت - في ذلك الوقت - بعيدة عن مكة أما الشام فهي بعيدة كذلك.
فضلا عما كان يسودهما - الشام والحيرة - من الاضطراب، إلى جانب أن لقريش صلات وثيقة ومصالح متبادلة وزيارات متبادلة.
لذلك اتجه الرسول إلى بلاد الحبشة لما كان يعرف في ملكها من العدل والتسامح وقال بروكلمان ص 40: إن النبي كان لا يعتبر أن دينه - في ذلك الوقت - يختلف اختلافا كبيرا عن النصرانية فالنجاشي أقرب ممثل سياسي للنصرانية يمكن أن يحتمي به.
(*)(3/91)
وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ عَمِّهِ لا يصل إليه شئ مِمَّا يَكْرَهُ وَمِمَّا يَنَالُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ " فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا حَتَّى اجْتَمَعْنَا بِهَا، فَنَزَلْنَا بِخَيْرِ دَارٍ إِلَى خَيْرِ جَارٍ آمِنِينَ عَلَى دِينِنَا، وَلَمْ نَخْشَ فِيهَا ظُلْمًا.
فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّا قَدْ أصبنا داراً وأمناً، غاروا منا، فاجتمعوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا لِيُخْرِجُونَا مِنْ بِلَادِهِ، وَلِيَرُدَّنَا عَلَيْهِمْ، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، فَجَمَعُوا لَهُ هَدَايَا وَلِبَطَارِقَتِهِ، فَلَمْ يَدَعُوا مِنْهُمْ رَجُلًا إلا هيئوا لَهُ هَدِيَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَقَالُوا لَهُمَا ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا فِيهِمْ، ثُمَّ ادْفَعُوا إِلَيْهِ هَدَايَاهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَافْعَلُوا.
فَقَدِمَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَتِهِ إلا قدموا إليه هديته، فكلموه فقالوا لَهُ: إِنَّمَا قَدِمَنَا عَلَى هَذَا الْمَلِكِ فِي سُفَهَائِنَا (1) ، فَارَقُوا أَقْوَامَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ.
فَبَعَثَنَا قَوْمُهُمْ لِيَرُدَّهُمُ الْمَلِكُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا نَحْنُ كَلَّمْنَاهُ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْعَلَ فَقَالُوا نَفْعَلُ.
ثُمَّ قدَّموا إِلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ مَا يُهْدُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ الْأُدُمُ - وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُمْ أَهْدَوْا إِلَيْهِ فَرَسًا وَجُبَّةَ دِيبَاجٍ - فَلَمَّا أَدْخَلُوا عَلَيْهِ هَدَايَاهُ.
قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: إِنَّ فِتْيَةً مِنَّا سُفَهَاءَ (2) فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يدخلوا في دينك وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إِلَى بِلَادِكَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ عَشَائِرُهُمْ، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلا بِهِمْ عَيْنًا (3) ، فَإِنَّهُمْ لَنْ
يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ فَتَمْنَعَهُمْ لِذَلِكَ.
فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: لَا لَعَمْرُ اللَّهِ! لَا أَرُدُّهُمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ، فَأُكَلِّمَهُمْ وأنظر ما أمرهم، قوم لجأوا إِلَى بِلَادِي وَاخْتَارُوا جِوَارِي عَلَى جِوَارِ غَيْرِي فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ رَدَدْتُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ وَلَمْ أَدْخُلْ (4) بينهم وبينهم، ولم أنعم عَيْنًا -[وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ أُمَرَاءَهُ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ.
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ! حَتَّى أَسْمَعَ كَلَامَهُمْ وَأَعْلَمَ عَلَى أَيِّ شئ هُمْ عَلَيْهِ؟ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَلَّمُوا وَلَمْ يَسْجُدُوا لَهُ.
فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّهْطُ أَلَا تُحَدِّثُونِي مالكم لَا تُحَيُّونِي كَمَا يُحَيِّينِي مَنْ أَتَانَا مِنْ قومكم؟ فأخبروني مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى وَمَا دِينُكُمْ؟ أَنَصَارَى أَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ أَفَيَهُودٌ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ: فَعَلَى دِينِ قَوْمِكُمْ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ فَمَا دِينُكُمْ؟ قَالُوا: الْإِسْلَامُ.
قَالَ وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالُوا نَعْبُدُ اللَّهَ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
قَالَ: مَنْ جَاءَكُمْ بِهَذَا؟ قَالُوا جَاءَنَا بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِنَا، قَدْ عَرَفْنَا وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا كَمَا بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى مَنْ قَبْلَنَا، فَأَمَرَنَا بِالْبَرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَفَاءِ وأداء الأمانة، ونهانا أن نعبد
__________
(1) في الدلائل للبيهقي: في سفهاء من سفهائنا.
(2) في نسخة من الدلائل: من سفهائنا.
(3) في الدلائل: فهم أعلاهم عينا.
أي أبصر بهم.
أي عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم.
(4) في الدلائل: ولم أخل.
والعبارة في ابن هشام: وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
(*)(3/92)
الْأَوْثَانَ وَأَمَرَنَا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَصَدَّقْنَاهُ وَعَرَفْنَا كَلَامَ اللَّهِ وَعَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ عَادَانَا قَوْمُنَا وَعَادَوُا النَّبِيَّ الصَّادِقَ وَكَذَّبُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، وَأَرَادُونَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَفَرَرْنَا إِلَيْكَ بِدِينِنَا وَدِمَائِنَا مِنْ قَوْمِنَا.
قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمِنَ الْمِشْكَاةِ (1) الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْرُ مُوسَى.
قَالَ جَعْفَرٌ: وَأَمَّا التَّحِيَّةُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ السَّلَامُ، وَأَمَرَنَا بِذَلِكَ فَحَيَّيْنَاكَ بِالَّذِي يُحَيِّي بَعْضُنَا بَعْضًا.
وَأَمَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَعَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَابْنُ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
فَأَخَذَ عُودًا وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى هَذَا
وَزْنَ هَذَا الْعُودِ.
فَقَالَ عُظَمَاءُ الْحَبَشَةِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَمِعَتِ الْحَبَشَةُ لَتَخْلَعَنَّكَ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقُولُ فِي عِيسَى غَيْرَ هَذَا أَبَدًا، وَمَا أَطَاعَ اللَّهُ النَّاسَ في حين رد علي ملكي فأطع النَّاس فِي دِينِ اللَّهِ.
مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ] (2) فَأَرْسَلَ إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شئ أَبْغَضَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ.
فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ النَّجَاشِيِّ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالُوا مَاذَا تَقُولُونَ؟ فَقَالُوا وَمَاذَا نَقُولُ، نَقُولُ وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ.
وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كائن من ذَلِكَ مَا كَانَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ كَانَ الذي يكلمه منه جعفر بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟ فَارَقْتُمْ دِينَ قَوْمِكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا في يهودية، ولا نصرانية.
فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا على الشرك نعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار، يستحل الْمَحَارِمَ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا، لَا نُحِلُّ شَيْئًا وَلَا نُحَرِّمُهُ.
فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ وَفَاءَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ فَدَعَانَا إِلَى أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَصِلَ الْأَرْحَامَ وَنَحْمِيَ الجوار ونصلي لله عزوجل، وَنَصُومَ لَهُ، وَلَا نَعْبُدَ غَيْرَهُ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ.
قال (3) - فعدد عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ - فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فعذبونا ليفتنونا عن ديننا ويردونا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا
__________
(1) المشكاة: قال صاحب لسان العرب: " وفي حديث النجاشي: إنما يخرج من مشكاة واحدة.
المشكاة: الكوة غير النافذة، وقيل هي الحديدة التي يعلق عليها القنديل " أراد أن القرآن والانجيل كلام الله تعالى، وأنهما من شئ واحد.
(2) ما بين معقوفتين لم يرد في ابن هشام ولا في الدلائل.
(3) في ابن هشام: قالت، أي أم سلمة، عدوا: في الاصل وأثبتنا ما في ابن هشام.
(*)(3/93)
قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال [له] النجاشي: هل معك شئ مما جاء به [عن الله] ؟ [وَقَدْ دَعَا أَسَاقِفَتَهُ فَأَمَرَهُمْ فَنَشَرُوا الْمَصَاحِفَ حَوْلَهُ] (1) .
فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ! نَعَمْ: قَالَ هَلُمَّ فَاتْلُ عَلَيَّ مِمَّا جَاءَ بِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا من كهيعص فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم [حين سمعوا ما تلا عليهم] .
ثم قال [لهم] : إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، انْطَلِقُوا رَاشِدِينَ لَا وَاللَّهِ لَا أَرُدُّهُمْ عَلَيْكُمْ وَلَا أُنْعِمُكُمْ عَيْنًا (2) .
فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ وَكَانَ أَتْقَى (3) الرَّجُلَيْنِ فِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ [أَبِي] رَبِيعَةَ.
فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خضراءهم (4) ، ولاخبرته أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدٌ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا خالفونا فإن لهم رَحِمًا وَلَهُمْ حَقًّا.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ! فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَنْهُ.
فَبَعَثَ وَاللَّهِ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ مَاذَا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم (5) عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ فِيهِ، وَالَّذِي أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نَقُولَهُ فِيهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ فَقَالَ مَا تَقُولُونَ في عيسى بن مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
فَدَلَّى النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ عُودًا (6) بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ فَقَالَ: مَا عَدَا عيسى بن مَرْيَمَ مِمَّا قُلْتَ هَذَا الْعُوَيْدَ.
فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ.
فَقَالَ: وَإِنْ تَنَاخَرْتُمْ وَاللَّهِ! اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ في الأرض - السيوم الآمنون في الأرض، ومن سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثَلَاثًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ - وَالدَّبْرُ بِلِسَانِهِمُ الذَّهَبُ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا مِنْ ذَهَبٍ.
قَالَ ابْنُ هشام: ويقال زبراً (7) وَهُوَ الْجَبَلُ بِلُغَتِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ:
فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، وَلَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ الناس فيه.
ردُّوا عليهما هداياهم فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا.
وَاخْرُجَا مِنْ بِلَادِي فَخَرَجَا مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ.
قَالَتْ: فَأَقَمْنَا مَعَ خَيْرِ جَارٍ فِي خَيْرِ دار، فلم نشب أَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ في
__________
(1) سقطت من ابن هشام واستدركت من دلائل النبوة للبيهقي.
(2) العبارة في ابن هشام: أن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
(3) من ابن هشام، وفي الاصول ونسخ البداية المطبوعة: أبقى وهو تحريف.
وفي الدلائل: أبقى.
(4) خضراءهم: شجرتهم التي منها تفرعوا.
(5) في السيرة والدلائل: سألكم.
(6) في الدلائل: عويدا.
(7) في السيرة: ويقال: دبراً من ذهب، والدبر: الجبل.
(*)(3/94)
مِلْكِهِ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا حَزِنَّا قَطُّ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الْمَلِكُ عَلَيْهِ فَيَأْتِي مَلِكٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعوا اللَّهَ وَنَسْتَنْصِرُهُ لِلنَّجَاشِيِّ فَخَرَجَ إِلَيْهِ سَائِرًا فَقَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم لبعض: من يَخْرُجُ فَيَحْضُرُ الْوَقْعَةَ حَتَّى يَنْظُرَ عَلَى مَنْ تكون؟ وقال الزُّبَيْرُ - وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا - أَنَا، فَنَفَخُوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يَسْبَحُ عَلَيْهَا فِي النِّيلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ إِلَى حَيْثُ الْتَقَى النَّاسُ، فَحَضَرَ الْوَقْعَةَ فَهَزَمَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ وَقَتَلَهُ، وَظَهَرَ النجاشي عليه.
فجائا الزبير فجعل يليح (1) لَنَا بِرِدَائِهِ وَيَقُولُ أَلَا فَأَبْشِرُوا، فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ النَّجَاشِيَّ.
قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا [أَنَّنَا] فرحنا بشئ قَطُّ فَرَحَنَا بِظُهُورِ النَّجَاشِيِّ (2) ثُمَّ أَقَمْنَا عِنْدَهُ حتى خرج من خرج منا إِلَى مَكَّةَ، وَأَقَامَ مَنْ أَقَامَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
فَقَالَ عُرْوَةُ: أَتُدْرِي مَا قَوْلُهُ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَلَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ النَّاسَ
فِيهِ؟ فَقُلْتُ لَا! مَا حَدَّثَنِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
فَقَالَ عُرْوَةُ: فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ لَهُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَلَمْ يكن لأب النَّجَاشِيِّ وَلَدٌ غَيْرُ النَّجَاشِيِّ فَأَدَارَتِ الْحَبَشَةُ رَأْيَهَا بَيْنَهَا فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ فَإِنَّ لَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ صُلْبِهِ فَتَوَارَثُوا الْمُلْكَ، لَبَقِيَتِ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمْ دَهْرًا طَوِيلًا لَا يَكُونُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ، فَعَدَوْا عليه فقتلوه وملَّكوا أخاه.
فدخل النجاشي بعمه حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ فَلَا يُدَبِّرُ أَمْرَهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ لَبِيبًا حَازِمًا مِنَ الرِّجَالِ، فَلَمَّا رَأَتِ الحبشة مكانه من عمه قالوا قد غَلَبَ هَذَا الْغُلَامُ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ فَمَا نَأْمَنُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا وَقَدْ عَرَفَ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَاهُ، فَلَئِنْ فَعَلَ لَمْ يَدَعْ مِنَّا شَرِيفًا إِلَّا قَتَلَهُ، فَكَلِّمُوهُ فِيهِ فَلْيَقْتُلْهُ أَوْ لَيُخْرِجَنَّهُ مِنْ بِلَادِنَا، فَمَشَوْا إِلَى عَمِّهِ فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا مَكَانَ هَذَا الْفَتَى مِنْكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَاهُ وَجَعَلْنَاكَ مَكَانَهُ وَإِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْنَا فَيَقْتُلَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَهُ وَإِمَّا أَنَّ تُخْرِجَهُ مِنْ بِلَادِنَا.
قَالَ: وَيْحَكُمْ قَتَلْتُمْ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ وَأَقْتُلُهُ الْيَوْمَ.
بَلْ أُخْرِجُهُ مِنْ بِلَادِكُمْ.
فَخَرَجُوا بِهِ فَوَقَفُوهُ فِي السُّوقِ وَبَاعُوهُ مِنْ تَاجِرٍ مِنَ التُّجَّارِ قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فَانْطَلَقَ بِهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ هَاجَتْ سَحَابَةٌ مِنْ سَحَائِبِ الْخَرِيفِ فَخَرَجَ عَمُّهُ يَتَمَطَّرُ تَحْتَهَا فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ فَفَزِعُوا إِلَى وَلَدِهِ فَإِذَا هُمْ مُحْمِقُونَ (3) لَيْسَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ خَيْرٌ فمرج (4) على الحبشة
__________
(1) في ابن هشام: يلمع.
(2) العبارة في ابن هشام: ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بمكة.
والخبر بطوله في السيرة ج 1 / 357 - 361 بتغيير طفيف في الالفاظ، وفي دلائل النبُّوة للبيهقي ج 2 / 303 - 304.
(3) محمقون: المحمق الذي يلد الحمقى.
(4) مرج: قلق واضطراب أمرهم.
وفي هذا دليل على طول المدة في مغيب النشاجي عنهم، راجع الروض الآنف.
(*)(3/95)
أَمْرُهُمْ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لَا يُصْلِحُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ لَلَّذِي بِعْتُمُ الْغَدَاةَ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ بِأَمْرِ الْحَبَشَةِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوهُ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَدْرَكُوهُ فَرَدُّوهُ فَعَقَدُوا عَلَيْهِ تَاجَهُ وَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَمَلَّكُوهُ، فَقَالَ التَّاجِرُ: رُدُّوا عَلَيَّ مَالِي كَمَا أَخَذْتُمْ مِنِّي غُلَامِي، فَقَالُوا: لَا نعطيك.
فقال: إذاً والله لأكلمنه، فَمَشَى إِلَيْهِ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي ابتعت غلاماً فقبض مني الذي بَاعُوهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ عَدَوْا عَلَى غُلَامِي فَنَزَعُوهُ مِنْ يَدِي وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيَّ مَالِي، فَكَانَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ بِهِ مِنْ صَلَابَةِ حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ أَنْ قَالَ: لَتَرُدُّنَّ عَلَيْهِ مَالَهُ، أَوْ لَتَجْعَلُنَّ يَدَ غُلَامِهِ فِي يَدِهِ فَلْيَذْهَبَنَّ بِهِ حَيْثُ شَاءَ.
فَقَالُوا: بَلْ نُعْطِيهِ مَالَهُ فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ يَقُولُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ فَآخُذَ الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ النَّاسَ فِيهِ (1) .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: كَانَ أَبُو النَّجَاشِيِّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ، فَمَاتَ وَالنَّجَاشِيُّ غُلَامٌ صَغِيرٌ فَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ إِنَّ إِلَيْكَ مُلْكَ قَوْمِكَ حَتَّى يَبْلُغَ ابْنِي، فَإِذَا بَلَغَ فَلَهُ الْمُلْكُ، فَرَغِبَ أَخُوهُ فِي الْمُلْكِ فَبَاعَ النَّجَاشِيَّ مِنْ بَعْضِ التُّجَّارِ (2) ، فَمَاتَ عَمُّهُ مِنْ لَيْلَتِهِ وَقَضَى، فَرَدَّتِ الْحَبَشَةُ النَّجَاشِيَّ حَتَّى وَضَعُوا التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ هكذا ذكره مختصراً، وسياق ابن إسحق أَحْسَنُ وَأَبْسَطُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالَّذِي وَقَعَ فِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ عَمْرِو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وَالَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْأُمَوِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ أَحَدُ السَّبْعَةِ الَّذِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تضاحكوا يوم وضع سلا الْجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ.
وَهَكَذَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمَا حِينَ خَرَجَا مِنْ مَكَّةَ كَانَتْ زَوْجَةُ عمر ومعه وَعُمَارَةُ كَانَ شَابًّا حَسَنًا فَاصْطَحَبَا فِي السَّفِينَةِ وَكَانَ عُمَارَةُ طَمِعَ فِي امْرَأَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَلْقَى عَمْرًا فِي الْبَحْرِ لِيُهْلِكَهُ فَسَبَحَ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهَا.
فَقَالَ لَهُ عُمَارَةُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تُحْسِنُ السِّبَاحَةَ لَمَا أَلْقَيْتُكَ، فَحَقَدَ عَمْرٌو عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يُقْضَ لَهُمَا حَاجَةٌ فِي الْمُهَاجِرِينَ مِنَ النَّجَاشِيِّ، وَكَانَ عُمَارَةُ قَدْ تَوَصَّلَ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ النَّجَاشِيِّ فَوَشَى بِهِ عَمْرٌو فَأَمَرَ بِهِ النَّجَاشِيُّ فَسُحِرَ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ وَسَاحَ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْوُحُوشِ.
- وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ - قِصَّةً مُطَوَّلَةً جِدًّا وَأَنَّهُ عَاشَ إِلَى زَمَنِ إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَنَّهُ تَقَصَّدَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَمَسَكَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ أَرْسِلْنِي أَرْسِلْنِي وَإِلَّا
مِتُّ فَلَمَّا لَمْ يُرْسِلْهُ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي أَمْرِ الْمُهَاجِرِينَ مرتين الأول مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ وَالثَّانِيَةُ مَعَ عَمْرٍو، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبِعْثَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ بَعْدَ وقعة بدر قاله
__________
(1) سيرة ابن هشام 1 / 364 ودلائل البيهقي 1 / 301.
(2) الخبر في دلائل البيهقي من طريق إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَمِّهِ موسى بن عقبة 2 / 295 وفيه: فقال التاجر: دعه حتى إذا أردت الخروج فآذني فأدفعه إليك فآذنه التاجر بخروجه فأرسل بالنجاشي حتى أوقفه عند السفينة ولا يدري النجاشي ما يراد به، فأخذ الله عزوجل عمه الذي باعه صعقا فمات.
(*)(3/96)
الزُّهْرِيُّ، لِيَنَالُوا مِمَّنْ هُنَاكَ ثَأْرًا فَلَمْ يُجِبْهُمُ النجاشي رضي الله عنه وأرضاه إلى شئ مِمَّا سَأَلُوا فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ زِيَادٌ (1) عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ قُرَيْشٍ كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ أَبْيَاتًا يَحُضُّهُ فِيهَا عَلَى الْعَدْلِ وَعَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ نَزَلَ عِنْدَهُ مَنْ قَوْمِهِ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النَّأْيِ جَعْفَرٌ * وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ الْعَدُوِّ الْأَقَارِبُ وَمَا نَالَتْ أَفْعَالُ النَّجَاشِيِّ جَعْفَرًا * وَأَصْحَابَهُ أَوْ عَاقَ ذَلِكَ شَاغِبُ (2) ونعلم، أَبَيْتَ اللَّعْنَ، أَنَّكَ مَاجِدٌ * كَرِيمٌ فَلَا يَشْقَى إليك المجانب (3) ونعلم بِأَنَّ اللَّهَ زَادَكَ بَسْطَةً * وَأَسْبَابَ خَيْرٍ كُلُّهَا بِكَ لَازِبُ (4) وَقَالَ يُونُسُ (5) عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يُكَلِّمُ النَّجَاشِيَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ جَعْفَرًا هُوَ الْمُتَرْجِمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كَانَ يَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الرَّازِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ اجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ فَقَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّكَ فَارَقْتَ دِينَنَا، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ فَهَيَّأَ لَهُمْ سُفُنًا.
وَقَالَ: ارْكَبُوا فِيهَا وَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ، فَإِنْ هُزِمْتُ فَامْضُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِحَيْثُ شِئْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا.
ثُمَّ عَمَدَ إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبَ فِيهِ: هُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قَبَائِهِ عِنْدَ الْمَنْكِبِ الْأَيْمَنِ، وَخَرَجَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَصَفُّوا لَهُ.
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ؟ قَالُوا: بلى! قال: فكيف أنتم بسيرتي فيكم؟ قالوا خير سيرة.
قال: فما بكم؟ قالوا فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبده ورسوله.
قَالَ؟ فَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِي عِيسَى؟ قَالُوا:
__________
(1) هو زياد البكائي راوي السيرة عن ابن هشام.
(2) في ابن هشام: وهل نالت، بدل وما نالت، وفي نسخة لابن هشام: فهل نال أفعال.
(3) في ابن هشام: لديك بدلا من إليك.
أبيت اللعن: تحية كانوا يحيون بها الملوك في الجاهلية.
(4) بعده في ابن هشام: وأنك فيض ذو سجال غزيرة * ينال الاعادي نفعها والاقارب (5) يونس: هو يونس بن بكير راوي السيرة عن ابن هشام.
(*)(3/97)
يقول هُوَ ابْنُ اللَّهِ.
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ - وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ عَلَى قَبَائِهِ -: وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ عيسى بن مَرْيَمَ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، وَإِنَّمَا يَعْنِي عَلَى مَا كَتَبَ، فَرَضُوا وَانْصَرَفُوا.
فَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ (1) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مَوْتُ النَّجَاشِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ - مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ.
(2) .
وَرُوِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ
وَفِي بَعْضِ الرِّوايات تَسْمِيَتُهُ أَصْحَمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ مَصْحَمَةُ وَهُوَ أَصْحَمَةُ بْنُ بحر (3) وكان عبداً صالحاً لبيباً زكياً وكان عَادِلًا عَالِمًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ اسْمُ النَّجَاشِيِّ مَصْحَمَةُ وَفِي نُسْخَةٍ صَحَّحَهَا الْبَيْهَقِيُّ أَصْحَمُ وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةُ قَالَ وَإِنَّمَا النَّجَاشِيُّ اسْمُ الْمَلِكِ: كَقَوْلِكَ كسرى، هرقل.
قُلْتُ: كَذَا وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ قَيْصَرَ فَإِنَّهُ عَلَمٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَكِسْرَى عَلَمٌ عَلَى مَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَفِرْعَوْنُ عَلَمٌ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافَّةً، وَالْمُقَوْقِسُ لِمَنْ مَلَكَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَتُبَّعٌ لِمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ وَالشَّحْرُ، وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ وَبَطْلَيْمُوسُ لِمَنْ مَلَكَ الْيُونَانَ وَقِيلَ الْهِنْدَ وَخَاقَانُ لِمَنْ مَلَكَ التُّرْكَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّمَا صَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ يَوْمَ مَاتَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَلِهَذَا صَلَّى عَلَيْهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم.
قالوا: فالغايب أن كان قد صلي عليه ببلده لاتشرع الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِبَلَدٍ أُخْرَى؟ وَلِهَذَا لَمْ يُصَلَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ، لَا أَهْلُ مَكَّةَ وَلَا غَيْرُهُمْ وَهَكَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صُلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي صُلِّيَ عَلَيْهِ فِيهَا فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَشُهُودُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، دَلِيلٌ عَلَى أنه إنما مات بعد فتح خيبر الَّتِي قَدِمَ بَقِيَّةُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَعَ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَاللَّهِ مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ " وَقَدِمُوا مَعَهُمْ بِهَدَايَا وَتُحَفٍ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتُهُمْ أَهْلُ السَّفِينَةِ الْيَمَنِيَّةِ أَصْحَابُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَوْمُهُ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ومع جعفر
__________
(1) أخرجه البخاري في 23 كتاب الجنائز (4) باب ومسلم في 11 كتاب الجنائز 22 باب ح 62 ومالك في الموطأ في كتاب الجنائز.
(2) المصدر السابق: وكان موت النجاشي في رجب من سنة تسع ونعاه رسول الله، وصلى عليه بالبقيع.
(3) في الاصل أصحمة بن أبجر، وأثبتنا ما في القاموس.
(*)(3/98)
وهدايا النجاشي ابن أخي النجاشي ذونخترا أو ذو مخمرا أَرْسَلَهُ لِيَخْدِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِوَضًا عَنْ عَمِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: تُوُفِّيَ النَّجَاشِيُّ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا الْفَقِيهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الطُّوسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو العبَّاس مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حدَّثنا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ حَدَّثَنَا أَبِي، الْعَلَاءُ بْنُ مدرك، حدثنا أبو هِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أمامة.
قَالَ قَدِمَ وَفْدُ النَّجَاشِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَخْدِمُهُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ نَكْفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: " إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِي مُكْرِمِينَ وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أكافيهم ".
ثُمَّ قَالَ وَأَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ حدَّثنا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يحي بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ.
قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ النَّجَاشِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْدِمُهُمْ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ نَكْفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: " إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِنَا مُكْرِمِينَ وَإِنِّي أحب أن أكافيهم ".
تَفَرَّدَ بِهِ طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ حدَّثنا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو.
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ يخرج إليهم، فقالوا: ما شأنه ماله لَا يَخْرُجُ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ أَصْحَمَةَ يَزْعُمُ أن صاحبكم نبي.
قال ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى قُرَيْشٍ وَلَمْ يُدْرِكُوا مَا طَلَبُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وردَّهم النَّجَاشِيُّ بِمَا يَكْرَهُونَ، وَأَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ رَجُلًا ذَا شَكِيمَةٍ لَا يُرَامُ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ امْتَنَعَ بِهِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبحمزة حتى غاظوا (1) قُرَيْشًا فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُصَلِّيَ عِنْدَ الكعبة حتى أسلم عمر [بن الخطاب] فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ (2) .
قُلْتُ: وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (3) .
وَقَالَ زِيَادٌ
الْبَكَّائِيُّ: حَدَّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.
قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنَّ إِمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً، وَلَقَدْ كُنَّا وَمَا نُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى
__________
(1) في السيرة: عازوا: أي غلبوا قريشا.
(2) سيرة ابن هشام: 1 / 366.
(3) في 62 كتاب فضائل الصحابة (6) باب وفي 63 كتاب مناقب الانصار 35 باب والبيهقي في الدلائل عنه ج 2 / 215 (*)(3/99)
الحبشة.
[قال ابن إسحاق] حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ (1) بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَرَحَّلُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وقد ذهب عمر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر فوقف علي وهو على شركه، فقالت: وكنا نلقى منه أَذًى لَنَا وَشِدَّةً عَلَيْنَا، قَالَتْ: فَقَالَ إِنَّهُ الانطلاق يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ، قُلْتُ نَعَمْ! وَاللَّهِ لنخرجن في أرض من أرض الله إذا آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا؟ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَنَا مَخْرَجًا (2) .
قَالَتْ فَقَالَ صَحِبَكُمُ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ - فيما أرى - خروجنا.
قالت فجاء عامر بحاجتنا تِلْكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا وَرِقَّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا.
قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إِسْلَامِهِ قَالَتْ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ لَا يُسْلِمُ الَّذِي رَأَيْتِ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ، قَالَتْ: يَأْسًا مِنْهُ لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ (3) .
قُلْتُ: هَذَا يردُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانُوا فَوْقَ الثَّمَانِينَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمُهَاجِرِينَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ههنا فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عُمَرَ وَحْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسِيَاقُهَا فَإِنَّهُ قَالَ: وَكَانَ إِسْلَامُ
عُمَرَ فِيمَا بَلَغَنِي أَنَّ أُخْتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطَّابِ وَكَانَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ زَوْجُهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُمْ مُسْتَخْفُونَ بِإِسْلَامِهِمْ مِنْ عُمَرَ، وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قَدْ أَسْلَمَ أَيْضًا مُسْتَخْفِيًا بِإِسْلَامِهِ [فَرَقًا] مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ خبَّاب بْنُ الْأَرَتِّ يَخْتَلِفُ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطَّابِ يُقْرِئُهَا الْقُرْآنَ فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورهطاً من أصحابه قد ذكروا (4) لَهُ أَنَّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ بَيْنِ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمُّهُ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ أَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَخْرُجْ فِيمَنْ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ.
فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا عُمَرُ؟ قال أريد محمداً هذا الصابي الَّذِي فَرَّقَ أَمْرَ قُرَيْشٍ، وسفَّه أَحْلَامَهَا، وَعَابَ دِينَهَا، وسبَّ آلِهَتَهَا فَأَقْتُلُهُ.
فَقَالَ لَهُ نُعَيْمٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَرَّتْكَ نَفْسُكَ يَا عُمَرُ، أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيكَ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا؟ أَفَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِكَ فَتُقِيمَ أَمْرَهُمْ قَالَ: وَأَيُّ أَهْلِ بَيْتِي، قَالَ خَتْنُكَ وَابْنُ عَمِّكَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأُخْتُكَ فَاطِمَةُ فَقَدْ وَاللَّهِ أَسْلَمَا وَتَابَعَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم على دينه، فعليك بهما فرجع عمر
__________
(1) واسمها: ليلى بنت أبي حثمة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب وكانت من المهاجرين الاوائل إلى الحبشة.
(2) وفي نسخة من السيرة: فرجا.
(3) الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 367 ودلائل البيهقي 4 / 221.
(4) من ابن هشام وفي الاصل فذكروا.
(*)(3/100)
عائداً إلى أخته فاطمة، وعندها خبَّاب بْنُ الْأَرَتِّ مَعَهُ صَحِيفَةٌ فِيهَا طَهَ يقريها إِيَّاهَا فَلَمَّا سَمِعُوا حِسَّ عُمَرَ تَغَيَّبَ خَبَّابٌ فِي مَخْدَعٍ (1) لَهُمْ - أَوْ فِي بَعْضِ الْبَيْتِ - وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ الصَّحِيفَةَ فَجَعَلَتْهَا تَحْتَ فَخِذِهَا، وَقَدْ سَمِعَ عُمَرُ حِينَ دَنَا إِلَى الباب قراءة خباب عليها: فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الَّتِي سَمِعْتُ؟ قَالَا (2) لَهُ مَا سَمِعْتَ شَيْئًا.
قَالَ بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمَّدًا
عَلَى دِينِهِ وَبَطَشَ بِخَتْنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.
فَقَامَتْ إِلَيْهِ أُخْتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ لِتَكُفَّهُ عَنْ زَوْجِهَا فَضَرَبَهَا فَشَجَّهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ وَخَتْنُهُ: نَعَمْ قَدْ أَسْلَمْنَا وَآمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنَ الدَّمِ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ وَارْعَوَى، وَقَالَ لِأُخْتِهِ أعطيني هذه الصحيفة التي كنتم تقرؤن آنِفًا أَنْظُرُ مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ محمداً؟ وَكَانَ عُمَرُ كَاتِبًا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ إِنَّا نَخْشَاكَ عَلَيْهَا، قَالَ لَا تَخَافِي، وَحَلَفَ لَهَا بِآلِهَتِهِ لَيَرُدَّنَّهَا إِذَا قَرَأَهَا إِلَيْهَا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ طَمِعَتْ فِي إِسْلَامِهِ فقالت يَا أَخِي إِنَّكَ نجْس، عَلَى شِرْكِكَ، وَإِنَّهُ لا يمسَّه إلا المطهرون فَقَامَ عُمَرُ فَاغْتَسَلَ فَأَعْطَتْهُ الصَّحِيفَةَ وَفِيهَا طَهَ فَقَرَأَهَا فَلَمَّا قَرَأَ مِنْهَا صَدْرًا.
قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَكْرَمَهُ.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ خبَّاب بْنُ الْأَرَتِّ خَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا عُمَرُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَصَّكَ بِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ أَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ - أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - فَاللَّهَ اللَّهَ يَا عمر.
فقال [له] عِنْدَ ذَلِكَ: فَدُلَّنِي يَا خَبَّابُ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى آتِيَهُ فَأُسْلِمَ.
فَقَالَ لَهُ خَبَّابٌ: هُوَ فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ فَتَوَشَّحَهُ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ فإذا هو بعمر متوشح بالسيف فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فَزِعٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هذا عمر بن الخطاب متوشحاً بالسيف، فَقَالَ حَمْزَةُ، فَأْذَنْ لَهُ فَإِنْ كَانَ جَاءَ يريد خيراً بذلناه وإن كان يُرِيدُ شَرًّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ايذن لَهُ " فَأَذِنَ لَهُ الرَّجُلُ وَنَهَضَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَقِيَهُ فِي الْحُجْرَةِ فَأَخَذَ بِحُجْزَتِهِ أَوْ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ ثم جذبه جذبة شديدة فقال ما جاء بِكَ يا ابن الْخَطَّابِ؟ فَوَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ بِكَ قَارِعَةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُكَ لَأُومِنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكبيرة فعرف أَهْلُ الْبَيْتِ أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَتَفَرَّقَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَانِهِمْ وَقَدْ عَزُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ أسلم عمر مع إسلام حمزة وعلموا أَنَّهُمَا سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْتَصِفُونَ بِهِمَا مِنْ عَدُوِّهِمْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَهَذَا حَدِيثُ الرُّوَاةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ إِسْلَامِ عُمَرَ حِينَ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَطَاءٍ ومجاهد وعمن
__________
(1) مخدع: بضم الميم وفتحها، البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير (النهاية لابن الأثير) .
(2) قالا له: أي فاطمة أخته وزوجها سعيد بن زيد.
(*)(3/101)
رَوَى ذَلِكَ: أَنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ فِيمَا تَحَدَّثُوا بِهِ عَنْهُ أنَّه كَانَ يَقُولُ: كُنْتُ لِلْإِسْلَامِ مُبَاعِدًا وَكُنْتُ صَاحِبَ خَمْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أُحِبُّهَا وَأَشْرَبُهَا، وَكَانَ لَنَا مَجْلِسٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِالْحَزْوَرَةِ (1) فَخَرَجْتُ لَيْلَةً أُرِيدُ جُلَسَائِي أُولَئِكَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مِنْهُمْ أَحَدًا فَقُلْتُ لَوْ أَنِّي جِئْتُ فُلَانًا الْخَمَّارَ لَعَلِّي أَجِدُ عِنْدَهُ خَمْرًا فَأَشْرَبَ مِنْهَا، فَخَرَجْتُ فَجِئْتُهُ فَلَمْ أَجِدْهُ قَالَ: فَقُلْتُ لَوْ أَنِّي جِئْتُ الْكَعْبَةَ فَطُفْتُ سَبْعًا أَوْ سَبْعَيْنِ، قَالَ فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، وَكَانَ إِذَا صلَّى اسْتَقْبَلَ الشَّامَ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، وَكَانَ مُصَلَّاهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِيِّ، قَالَ فَقُلْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي اسْتَمَعْتُ لِمُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَسْمَعَ مَا يَقُولُ فَقُلْتُ: لَئِنْ دَنَوْتُ منه لأستمع مِنْهُ لَأُرَوِّعَنَّهُ.
فَجِئْتُ مِنْ قِبَلِ الْحِجْرِ، فَدَخَلْتُ تَحْتَ ثِيَابِهَا، فَجَعَلْتُ أَمْشِي رُوَيْدًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، حَتَّى قُمْتُ فِي قِبْلَتِهِ مُسْتَقْبِلَهُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا ثِيَابُ الْكَعْبَةِ.
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ الْقُرْآنَ رَقَّ لَهُ قَلْبِي، وَبَكَيْتُ وَدَخَلَنِي الْإِسْلَامُ، فَلَمْ أَزَلْ فِي مَكَانِي قَائِمًا حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ خَرَجَ عَلَى دَارِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ - وَكَانَ مَسْكَنُهُ فِي الدَّارِ الرَّقْطَاءِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ -.
قَالَ عُمَرُ: فَتَبِعْتُهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْنَ دَارِ عَبَّاسٍ وَدَارِ ابْنِ أَزْهَرَ أَدْرَكْتُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ حِسِّي عَرَفَنِي فَظَنَّ أَنِّي إِنَّمَا اتَّبَعْتُهُ لأوذيه، فَنَهَمَنِي (2) ثُمَّ قَالَ مَا جَاءَ بِكَ يَا ابن الْخَطَّابِ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ قُلْتُ جِئْتُ لَأُومِنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: " قَدْ هَدَاكَ اللَّهُ يَا عُمَرُ " ثُمَّ مَسَحَ صَدْرِي وَدَعَا لِي بِالثَّبَاتِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مُطَوَّلًا فِي أَوَّلِ سِيرَتِهِ الَّتِي أَفْرَدْتُهَا عَلَى حِدَةٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَالَ: لمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ فَغَدَا عَلَيْهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ [بن عمر] وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ - وَأَنَا غلام أعقل كما رَأَيْتُ - حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَدَخَلْتُ فِي دِينِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلم؟ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رداءه واتبعه عمر، واتبعته أنا حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلا صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ - أَلَا إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ.
قَالَ يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ كَذَبَ وَلَكِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وَثَارُوا إِلَيْهِ فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤوسِهِمْ.
قَالَ وَطَلَحَ (3) فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنْ لَوْ قَدْ
__________
(1) الحزورة: بفتح الحاء وسكون الزاي وفتح الواو: سوق مكة وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه.
(2) نهمني، من النهم: الزجر.
(3) طلح: أعيا.
(*)(3/102)
كُنَّا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا.
قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حِبَرَةٌ وَقَمِيصٌ مُوَشَّى حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا صَبَأَ عُمَرُ، قَالَ فَمَهْ؟ رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيٍّ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا؟ خَلُّوا عَنِ الرَّجُلِ.
قَالَ فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ.
قَالَ فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هاجر إلى المدينة: يا أبة مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟ قَالَ: ذَاكَ أَيْ بُنَّيَّ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ (1) ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ إِسْلَامِ عُمَرَ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ عَرَضَ يَوْمَ أُحد وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَتْ أُحُدٌ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقَدْ كَانَ مُمَيِّزًا يَوْمَ أَسْلَمَ أَبُوهُ، فَيَكُونُ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَذَلِكَ بَعْدَ البعثة بنحو تِسْعِ سِنِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (2) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَاكِمُ أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الجبَّار حدَّثنا يُونُسُ عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ.
قَالَ ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّةَ - أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ - مِنَ النَّصَارَى حِينَ ظَهَرَ خَبَرُهُ مَنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَوَجَدُوهُ فِي الْمَجْلِسِ، فكلموه وسألوه وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مُسَاءَلَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اللَّهِ عزوجل وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ ثُمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قريش فقال: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ، مَا نَعْلَمُ ركباً أحمق منكم - أو كما قال - قالوا لهم: لا نجاهلكم سلام عليكم لنا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا نألون أَنْفُسَنَا خَيْرًا.
فَيُقَالُ إِنَّ النَّفَرَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَيُقَالُ والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الْآيَاتُ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بما صبروا ويدرؤن بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 373 - 374.
(2) في اسلام عمر تعددت الروايات والاحاديث فعن أسلم قال: أسلم في ذي الحجة السنة السادسة من النبوة وعن ابن المسيّب قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة وقال البيهقي عن ابن اسحق: قال أسلم والمسلمون يومئذ بضع وأربعون رجلاً وإحدى عشرة امرأة.
وقال ابن الأثير في الكامل: أسلم بعد تسعة وثلاثين رجلا وثلاث وعشرين امرأة، وكان إسلامه بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة.
وقيل في إسلامه غير هذا.
قال بروكلمان: وكان من آثار ذلك أن قرر المكيون التعويض عن هذه الخسارة - إسلام عمر - اللجوء إلى تدابير جديدة اقسى، فقاطعوا محمدا وجميع أتباعه وحاصروهم في الحي الذي يسكنونه في شعب أبي طالب.
(أنظر ابن الاثير الكامل - بروكلمان تاريخ الشعوب الاسلامية) .
(*)(3/103)
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سلام عليكم لانبتغي الجاهلين) .
فَصْلٌ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: بَابُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، ثُمَّ رَوَى عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ (1) الْأَصْحَمِ عَظِيمِ الْحَبَشَةِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدَعَايَةِ اللَّهِ فإني أنا رسوله فأسلم تسلم (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيننا وبينكم.
أن لا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فَإِنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ النَّصَارَى مِنْ قَوْمِكَ.
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ قِصَّةِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ وفي ذكره ههنا نظر، فإن الظاهر أن هذه الْكِتَابَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى النَّجَاشِيِّ الَّذِي كَانَ بَعْدَ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ حِينَ كَتَبَ إِلَى مُلُوكِ الْأَرْضِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزوجل قُبَيْلَ الْفَتْحِ كَمَا كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ قَيْصَرِ الشَّامِ، وَإِلَى كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، وَإِلَى صَاحِبِ مِصْرَ، وَإِلَى النَّجَاشِيِّ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَتْ كُتُبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ وَاحِدَةً، يَعْنِي نُسْخَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّهَا فِيهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ فَإِنَّهُ مِنْ صَدْرِ السُّورَةِ، وَقَدْ نَزَلَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا فِي وَفْدِ نَجْرَانَ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَهَذَا الْكِتَابُ إِلَى الثَّانِي لَا إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ لَعَلَّ الْأَصْحَمَ مُقْحَمٌ مِنَ الرَّاوِي بِحَسَبِ مَا فَهِمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَنْسَبُ من هذا ههنا مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيهِ - بِمُرْوَ - حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ الْمُؤْمِنَ المهيمن، وأشهد إن عيسى [بن مريم] رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطاهرة الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ، فَحَمَلَتْ
بِعِيسَى فَخَلَقَهُ مِنْ رُوحِهِ ونفخته كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَهُ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ تَتَّبِعَنِي فَتُؤْمِنَ بِي وَبِالَّذِي جاءني، فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابْنَ عَمِّي جَعْفَرًا وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا جَاؤُوكَ فَاقْرِهِمْ وَدَعِ التَّجَبُّرَ فَإِنِّي أَدْعُوكَ وجنودك إلى الله
__________
(1) في دلائل البيهقي ج 2 / 308 وفي الحاكم 2 / 623: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الاصحم..وفي الحاكم: النجاشي الأصحم عظيم الجيش.
(*)(3/104)
عزوجل، وَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبع الْهُدَى.
فَكَتَبَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى محمَّد رَسُولِ اللَّهِ مِنَ النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ بْنِ أَبْجَرَ سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي هَدَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ عِيسَى مَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، وَقَدْ عَرَفْنَا مَا بَعَثْتَ بِهِ إِلَيْنَا وقرينا ابْنَ عَمِّكَ وَأَصْحَابَهُ فَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صادقاً ومصدقاً وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَرِيحَا بْنِ الْأَصْحَمِ بْنِ أَبْجَرَ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَإِنْ شِئْتَ أَنْ آتِيَكَ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ (1) .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مُخَالَفَةِ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي نَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحَالُفِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ حَتَّى يسلِّموا إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَصْرِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي شَعْبِ أَبِي طَالِبٍ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكِتَابَتِهِمْ بِذَلِكَ صَحِيفَةً ظَالِمَةً فَاجِرَةً، وَمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الصِّدْقِ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهري: ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ اشْتَدُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَأَشَدِّ مَا كَانُوا حَتَّى بَلَغَ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قُرَيْشٌ فِي مَكْرِهَا أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَةً.
فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ عَمَلَ الْقَوْمِ جَمَعَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شِعْبَهُمْ، وَأَمَرَهَمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ ممن أرادوا قتله.
فاجتمع عَلَى ذَلِكَ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ حَمِيَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ إِيمَانًا وَيَقِينًا.
فَلَمَّا عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ مَنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجْمَعُوا (2) عَلَى ذَلِكَ، اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَنْ لَا يُجَالِسُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يَدْخُلُوا بُيُوتَهُمْ حَتَّى يسلَّموا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقَتْلِ، وَكَتَبُوا (3) فِي مَكْرِهِمْ صَحِيفَةً وَعُهُودًا وَمَوَاثِيقَ لَا يَقْبَلُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ صلحاً أبداً ولا يأخذهم بِهِمْ رَأْفَةٌ حَتَّى يُسْلِمُوهُ لِلْقَتْلِ.
فَلَبِثَ بَنُو هَاشِمٍ فِي شِعْبِهِمْ ثَلَاثَ سِنِينَ (4) ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ وَالْجَهْدُ وَقَطَعُوا عَنْهُمُ الْأَسْوَاقَ فَلَا يَتْرُكُوا لهم طعاما
__________
(1) دلائل البيهقي ج 2 / 309 - 310.
(2) في دلائل البيهقي: واجتمعوا، وما أثبتناه مناسب أكثر.
(3) كتبها: منصور بن عكرمة العبدري كما في طبقات ابن سعد.
راجع في تَعَاقُدِ قُرَيْشٍ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وكتابتهم صحيفة هذا العقد: ابن هشام 1 / 371 ابن سعد 1 / 139 الطبري 2 / 325 النويري 16 / 258 السيرة الحلبية 1 / 449 الدرر في اختصار المغازي والسير، وسبل الهدى والرشاد.
(4) كان هذا العقد والحصار لبني هاشم وبني عبد المطلب في ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة وظلوا محاصرين إلى السنة العاشرة، وقيل بل إلى السنة التاسعة.
(*)(3/105)
يَقَدَمُ مَكَّةَ وَلَا بَيْعًا إِلَّا بَادَرُوهُمْ إِلَيْهِ فَاشْتَرَوْهُ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكُوا سَفْكَ دَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ إِذَا أَخَذَ النَّاسُ مَضَاجِعَهُمْ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَرَى ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ به مكراً واغتيالاً له، فإذا نام النَّاسُ أَمَرَ أَحَدَ بَنِيهِ أَوْ إِخْوَتِهِ أَوْ بني عمه فاضطجعوا عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ فُرُشِهِمْ فَيَنَامَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ ثَلَاثِ سِنِينَ تَلَاوَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَمِنْ قُصَيٍّ وَرِجَالٌ مِنْ سِوَاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ وَلَدَتْهُمْ نِسَاءٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا الرَّحِمَ وَاسْتَخَفُّوا بِالْحَقِّ، وَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ مِنْ لَيْلَتِهِمْ عَلَى نَقْضِ مَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدْرِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى صَحِيفَتِهِمُ الْأَرَضَةَ فلحست كلما كَانَ فِيهَا
مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ.
وَيُقَالُ كَانَتْ مُعَلَّقَةً فِي سَقْفِ الْبَيْتِ فَلَمْ تَتْرُكِ اسْمًا لله فيه إِلَّا لَحَسَتْهُ، وَبَقِيَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ شرك وظلم وقطيعة رحم، وأطلع الله عزوجل رَسُولَهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ بِصَحِيفَتِهِمْ فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ.
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: لَا وَالثَّوَاقِبِ (1) مَا كَذَبَنِي فَانْطَلَقَ يَمْشِي بِعِصَابَتِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، وَهُوَ حَافِلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ عَامِدِينَ لِجَمَاعَتِهِمْ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ فَأَتَوْهُمْ لِيُعْطُوهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَتَكَلَّمَ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَتْ أُمُورٌ بَيْنَكُمْ لَمْ نَذْكُرْهَا لَكُمْ، فَأْتُوا بِصَحِيفَتِكُمُ الَّتِي تعاهدتم عليها فعلَّه (2) أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ صُلْحٌ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الصَّحِيفَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِهَا.
فَأَتَوْا بِصَحِيفَتِهِمْ مُعْجَبِينَ بِهَا لَا يَشُكُّونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدفوعاً إِلَيْهِمْ فَوَضَعُوهَا بَيْنَهُمْ.
وَقَالُوا: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا وَتَرْجِعُوا إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ قَوْمَكُمْ فَإِنَّمَا قَطَعَ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ جَعَلْتُمُوهُ خطراً لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم.
فقالوا أَبُو طَالِبٍ: إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ لِأُعْطِيَكُمْ أَمْرًا لَكُمْ فيه نَصَفٌ (3) ، إنَّ ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - إن الله برئ مِنْ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَحَا كل اسم هوله فِيهَا، وَتَرَكَ فِيهَا غَدْرَكُمْ وَقَطِيعَتَكُمْ إِيَّانَا وَتَظَاهُرَكُمْ عَلَيْنَا بِالظُّلْمِ.
فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ ابْنُ أَخِي كَمَا قَالَ فَأَفِيقُوا فَوَاللَّهِ لَا نسلمه أبداً حتى يموت من عندنا آخِرِنَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ بَاطِلًا دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ فَقَتَلْتُمُوهُ أَوِ اسْتَحْيَيْتُمْ.
قَالُوا: قَدْ رَضِينَا بِالَّذِي تَقُولُ فَفَتَحُوا الصَّحِيفَةَ فَوَجَدُوا الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ خَبَرَهَا، فَلَمَّا رَأَتْهَا قُرَيْشٌ كَالَّذِي قَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا وَاللَّهِ إِنْ كَانَ هَذَا قَطُّ إِلَّا سِحْرٌ مِنْ صَاحَبِكُمْ، فَارْتَكَسُوا وَعَادُوا بشرِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَالشِّدَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وعلى المسلمين] (4) والقيام على رهطه بِمَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ.
فَقَالَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ أَوْلَى بِالْكَذِبِ وَالسِّحْرِ غيرنا فكيف ترون فإنا
__________
(1) الثواقب: النجوم جمع ثاقب وهو النجم المضئ.
(2) في ابن سعد: فلعله.
(3) نصف: النصف هي المرأة بين الحدثة والمسنة، والمراد هنا: الامر الوسط بيننا وبينكم لا حيف فيه علينا، ولا عليكم.
(4) من دلائل البيهقي.
(*)(3/106)
نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي اجْتَمَعْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَطِيعَتِنَا أَقْرَبُ إِلَى الْجِبْتِ وَالسِّحْرِ مِنْ أَمْرِنَا، وَلَوْلَا أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى السِّحْرِ لَمْ تَفْسَدْ صَحِيفَتُكُمْ وَهِيَ فِي أَيْدِيكُمْ طَمَسَ [اللهِ] مَا كانَ فِيهَا مِنَ اسْمِهِ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ بَغْيٍ تَرَكَهُ أَفَنَحْنُ السَّحَرَةُ أَمْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ النَّفَرُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي قُصَيٍّ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَلَدَتْهُمْ نِسَاءٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمْ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَهُشَامُ بْنُ عَمْرٍو (1) ، وَكَانَتِ الصَّحِيفَةُ عِنْدَهُ (2) وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ: نحن برءاء مِمَّا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ وَأَنْشَأَ أَبُو طَالِبٍ يَقُولُ الشِّعْرَ فِي شَأْنِ صَحِيفَتِهِمْ ويمدح النفر الذين تبرؤا مِنْهَا وَنَقَضُوا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَهْدٍ وَيَمْتَدِحُ النَّجَاشِيَّ (3) .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَكَذَا رَوَى شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ - يَعْنِي مِنْ طَرِيقٍ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - يَعْنِي كَسِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ هِجْرَةُ الْحَبَشَةِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ إِلَى الشِّعْبِ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ إِنَّمَا قَالَ قَصِيدَتَهُ اللَّامِيَّةَ الَّتِي قَدَّمْنَا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضاً فذكرها ههنا أَنْسَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ: لما مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِي بُعِثَ بِهِ وَقَامَتْ بَنُو هَاشِمٍ وبنو الْمُطَّلِبِ دُونَهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوهُ وَهُمْ مِنْ خِلَافِهِ عَلَى مِثْلِ مَا قَوْمُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا أنهم اتقوا أَنْ يَسْتَذِلُّوا وَيُسْلِمُوا أَخَاهُمْ لِمَا قَارَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ.
فَلَمَّا فَعَلَتْ ذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى مُحَمَّدٍ، اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي (4) عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ وَكَتَبُوا صَحِيفَةً فِي ذَلِكَ وَعَلَّقُوهَا بِالْكَعْبَةِ، ثُمَّ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فأوثقوهم وآذوهم واشتد عليهم البلاء وَعَظُمَتِ الْفِتْنَةُ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا
فِي دُخُولِهِمْ شِعْبَ أَبِي طَالِبٍ وَمَا بَلَغُوا فِيهِ مِنْ فِتْنَةِ الْجَهْدِ الشَّدِيدِ حَتَّى كَانَ يُسْمَعُ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ مِنَ الْجُوعِ حَتَّى كَرِهَ عَامَّةُ قُرَيْشٍ مَا أَصَابَهُمْ وَأَظْهَرُوا كَرَاهِيَتَهُمْ لِصَحِيفَتِهِمُ الظَّالِمَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ الْأَرَضَةَ فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ لِلَّهِ إِلَّا أَكَلَتْهُ وَبَقِيَ فِيهَا الظُّلْمُ وَالْقَطِيعَةُ وَالْبُهْتَانُ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبر بذلك
__________
(1) زاد ابن سعد: عدي بن قيس، ولم يأت على ذكر هشام بن عمرو.
(2) قال ابن سعد في الطبقات: علقوا الصحيفة في جوف الكعبة وفي رواية أخرى: كانت عند أم الجلاس بنت مخربة الحنظلية خالة أبي جهل.
(3) الابيات في سيرة ابن هشام 1 / 373 من قصيدة مطلعها: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجَدْنَا مُحَمَّدًا * نَبِيًّا كَمُوسَى خطَّ في أول الكتب (4) في الدلائل وسيرة ابن هشام: بني المطلب وهو الصواب.
(*)(3/107)
عمه أبو طَالِبٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ كَرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَأَتَمَّ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا مِنْهُ أَمْنًا وَقَرَارًا.
وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ يَفْشُو في القبائل فاجتمعوا وائتمروا على أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هاشم وبني الْمُطَّلِبِ عَلَى أَنْ لَا يَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ وَلَا يُنْكِحُوهُمْ وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوا فِي صَحِيفَةٍ ثُمَّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُلَّ بَعْضُ أَصَابِعِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الَّذِي كَتَبَ الصَّحِيفَةَ طَلْحَةُ بن أبي طلحة العبدوي.
قُلْتُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الَّذِي
شُلَّتْ يَدُهُ فَمَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ بَيْنَهَا: انْظُرُوا إِلَى مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَتِ الصَّحِيفَةُ مُعَلَّقَةً فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ فَظَاهَرَهُمْ.
وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَقِيَ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ، وَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا.
فَقَالَ: يَا ابْنَةَ عُتْبَةَ هَلْ نَصَرْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَفَارَقْتُ مَنْ فَارَقَهَا وَظَاهَرَ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ! فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ - يَعِدُنِي مُحَمَّدٌ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا، يَزْعُمُ أَنَّهَا كَائِنَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَمَاذَا وَضَعَ فِي يَدِي بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَنْفُخُ في يده فَيَقُولُ تَبًّا لَكُمَا لَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ وَصَنَعُوا فِيهِ الَّذِي صَنَعُوا قَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي عَلَى ذاتِ بَيْنِنَا * لُؤَيًّا وخُصَّا مِنْ لُؤَيٍّ بَنِي كَعْبِ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجَدْنَا مُحَمَّدًا * نَبِيًّا كَمُوسَى خطَّ فِي أَوَّلِ الْكُتْبِ وَأَنَّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبَّةً * وَلَا خَيْرَ مِمَّنْ خصَّه اللَّهُ بِالْحُبِّ (1)
__________
(1) علق السهيلي على عجز هذا البيت قال: " وهو مشكل جداً لان لا في باب التبرئة لا تنصب مثل هذا إلا منونا، تقول: لا خيرا من زيد في الدار، وإنما تنصب بغير تنوين إذا كان الاسم غير موصول بما بعده.
وأشبه ما يقال في بيت أبي طالب أن خيرا مخفف من خير (كهين وميت) وقوله ممن من متعلقة بمحذوف، كأنه قال: لا خير أخير ممن خصَّه الله.
وخير وأخير: لفظان من جنس واحد.
فحسن الحذف استثقالا لتكرار اللفظ.(3/108)
وأن الذي الصقتموا مِنْ كِتَابِكُمْ * لَكُمْ كائنٌ نَحْسًا كراغيةِ السَّقْبِ (1) أَفِيقُوا أَفِيقُوا قَبْلَ أَنْ يحُفر الثَّرَى * وَيُصْبِحَ مَنْ لَمْ يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذَّنْبِ وَلَا تَتْبَعُوا أمرَ الْوُشَاةِ وَتَقْطَعُوا * أَوَاصِرَنَا بَعْدَ الْمَوَدَّةِ وَالْقُرْبِ
وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا وَرُبَّمَا * أمرَّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ حَلَبُ الْحَرْبِ فَلَسْنَا وَرَبِّ الْبَيْتِ نُسْلِمُ أَحَمَدًا * لعزَّاء مِنْ عَضِّ الزَّمَانِ وَلَا كَرْبِ وَلَمَّا تَبِن مِنَّا وَمِنْكُمْ سوالفٌ * وأيدٍ أترَّتْ بِالْقُسَاسِيَّةِ الشُّهْبِ (2) بمعتركِ ضيقٍ تَرَى كِسَرَ الْقَنَا * بِهِ وَالنُّسُورَ الطُّخْمَ يَعْكُفْنَ كَالشَّرْبِ (3) كَأَنَّ مُجَالَ (4) الْخَيْلِ فِي حَجَرَاتِهِ * وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ مَعْرَكَةُ الْحَرْبِ أَلَيْسَ أَبُونَا هاشمٌ شدَّ أَزْرَهُ * وَأَوْصَى بَنِيهِ بالطِّعان وَبِالضَّرْبِ وَلَسْنَا نملُّ الْحَرْبَ حَتَّى تَمَلَّنَا * وَلَا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ مِنَ النَّكْبِ وَلَكِنَّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنُّهَى * إِذَا طَارَ أرواح الكماة عن الرُّعْبِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى جَهِدُوا وَلَمْ يَصِلْ إليهم شئ إِلَّا سِرًّا مُسْتَخْفِيًا بِهِ مَنْ أَرَادَ صِلَتَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ فَتَعَلَّقَ بِهِ وَقَالَ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ؟ وَاللَّهِ لَا تَذْهَبُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أَفْضَحَكَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بن هاشم (5) بن الحارث بن أسد.
فقال: مالك وَلَهُ.
فَقَالَ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عنده بعثت به إِلَيْهِ أَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا؟ خلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ، قَالَ: فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه فَشَجَّهُ وَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فيشمتون بِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرًّا وَجِهَارًا مُنَادِيًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَّقِي فيه أحداً من النَّاس.
__________
(1) راغية السقب: من هو الرغاء، وهو أصوات الابل.
والسقب: ولد الناقة، وأراد به هنا ولده ناقة صالح عليه السَّلام.
(2) أترت: قطعت.
القساسية سيوف تنسب إلى قساس وهو جبل لبني أسد فيه معدن الحديد.
(3) النسور الطخم: ذات الرؤوس السود.
(4) من ابن هشام، وفي الاصل ونسخ البداية المطبوعة وبعض نسخ ابن هشام: ضحال ولا معنى لها.
(5) من ابن هشام وابن سعد، وفي الاصل: هشام وهو تحريف.
(*)(3/109)
[المستهزئون بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وما ظهر فيهم] (1) فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهَا وَقَامَ عَمُّهُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ المطَّلب دُونَهُ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَرَادُوا من البطش به، يهمزونه ويستهزؤن بِهِ وَيُخَاصِمُونَهُ، وَجَعَلَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ فِي قُرَيْشٍ بِأَحْدَاثِهِمْ، وَفِيمَنْ نَصَبَ لِعَدَاوَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ سَمَّى لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ [فِيهِ] الْقُرْآنُ فِي عَامَّةٍ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ.
فَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَبَا لَهَبٍ وَنُزُولَ السُّورَةِ فِيهِ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) السُّورَةِ بِكَمَالِهَا فِيهِ.
وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَنُزُولَ قَوْلِهِ: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً) [مريم: 77] فيه.
وقد تقدم شئ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَقَوْلَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَتْرُكَنَّ سَبَّ آلهتنا أو لنسبن إلهك (2) [الذي تعبد] (3) وَنُزُولَ قَوْلِ اللَّهِ فِيهِ: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الانعام: 108] الآية.
وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ (4) - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَلْقَمَةُ بْنُ كَلَدَةَ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ - وَجُلُوسَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجَالِسِهِ حَيْثُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ، فَيَتْلُو عَلَيْهِمُ النَّضْرُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ رُسْتُمَ وَأَسْفَنْدِيَارَ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ الْحُرُوبِ فِي زَمَنِ الْفُرْسِ، ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ بِأَحْسَنَ حَدِيثًا مِنِّي، وَمَا حَدِيثُهُ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكتتبها كما اكتتبها، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان: 5] وَقَوْلَهُ: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الجاثية: 7] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَلَسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا - يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حتى جلس معهم [في المجلس] ، وَفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ، فَكَلَّمَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يسمعون) [الْأَنْبِيَاءِ: 98 - 100] .
ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ حَتَّى جَلَسَ.
فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ له: والله ما قام والله ما مقام النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آنِفًا وَمَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (5) .
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وجدته لخصمته، فسلوا
__________
(1) سقطت من الاصول: واستدرك لزيادة الايضاح.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل آلهتك وهو تحريف.
(3) ما بين معقوفتين استدركت من ابن هشام.
(4) قال الخشني: والصواب علقمة بن كلدة.
(5) حصب جهنم: كل ما أوقدت به.
قال أبو ذؤيب الهذلي: فأطفئ ولا توقد ولا تك محصبا * لنار العداة أن تطير شكاتها (*)(3/110)
محمدا: أكل من نَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى.
فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدِ احْتَجَّ وَخَاصَمَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: " كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دون الله فهو مع من عبده في النار، إِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ، وَمَنْ أَمَرَتْهُمْ بِعِبَادَتِهِ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) [الأنبياء: 101 - 102] أَيْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَمَنْ عُبِدَ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَأَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء: 26 - 29] وَالْآيَاتُ بَعْدَهَا.
وَنَزَلَ فِي إِعْجَابِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وقالوا آلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف: 57 - 58] وهذا الجدل الذي
سلكوه باطل.
وهم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن ما لما لا يعقل، فقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جهنم أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) إِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَحْجَارِ الَّتِي كَانَتْ صُوَرَ أَصْنَامٍ، وَلَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَا الْمَسِيحَ، وَلَا عُزَيْرًا، وَلَا أَحَدًا مِنَ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى.
فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا ضَرَبُوهُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنَ الْمَثَلِ جَدَلٌ بَاطِلٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ثُمَّ قَالَ: (إِنْ هُوَ) أَيْ عِيسَى (إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) أي بنبوتنا (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ دَلِيلًا عَلَى تَمَامِ قُدْرَتِنَا عَلَى مَا نَشَاءُ حَيْثُ خَلَقْنَاهُ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَقَدْ خَلَقْنَا حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقْنَا آدَمَ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَخَلَقْنَا سَائِرَ بَنِي آدَمَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أَيْ أَمَارَةً وَدَلِيلًا عَلَى قُدْرَتِنَا الْبَاهِرَةِ (وَرَحْمَةً مِنَّا) نَرْحَمُ بِهَا مَنْ نَشَاءُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مهين) [نون: 10] الْآيَاتِ، وَذَكَرَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ حَيْثُ.
قَالَ: أَيَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأُتْرَكُ وَأَنَا كَبِيرُ قُرَيْشٍ وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو (1) الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين.
ونزل قوله فيه: (وقال لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31] وَالَّتِي بَعْدَهَا، وَذَكَرَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ حِينَ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكَ جَالَسْتَ مُحَمَّدًا؟ وَسَمِعْتَ منه وجهي من وجهك حرام [أن أكلمك - وأستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه] (2) إِلَّا أَنْ تَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ عدو الله عقبة - لعنه الله -،
__________
(1) في ابن هشام: عمرو بن عمير.
(2) ما بين معكوفتين من سيرة ابن هشام.
(*)(3/111)
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا ويلتنا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فلانا خليلا) [الْفَرْقَانِ: 27 - 28] وَالَّتِي بَعْدَهَا.
قَالَ وَمَشَى أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ بِعَظْمٍ بَالٍ قَدْ
أَرَمَّ (1) .
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ، ثُمَّ فَتَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ نَفَخَهُ فِي الرِّيحِ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: نَعَمْ! أَنَا أَقُولُ ذلك، يبعثه الله وإياك بعدما تَكُونَانِ هَكَذَا ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس: 78 - 79] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
قَالَ وَاعْتَرَضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي وَهُوَ يَطُوفُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ - الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، والعاص بن وائل [وكانوا ذوي أسنان في قومهم] (2) .
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) إِلَى آخِرِهَا.
وَلَمَّا سَمِعَ أَبُو جَهْلٍ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ.
قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الزَّقُّومُ؟ هُوَ تَمُرُّ يُضْرَبُ بِالزُّبْدِ ثمَّ قَالَ هَلُمُّوا فَلْنَتَزَقَّمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ) [الدُّخَانِ: 43 - 44] قَالَ: وَوَقَفَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فكلَّم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِ فَمَرَّ بِهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ (3) - عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَنْكَثَةَ - الْأَعْمَى فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ يَسْتَقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى أَضْجَرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَغَلَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ، وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِنْ إِسْلَامِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ انْصَرَفَ عَنْهُ عَابِسًا، وَتَرَكَهُ (4) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أن جاءه الأعمى) إلى قوله: (مرفوعة مطهرة) وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ فَاللَّهُ أعلم (5) .
__________
(1) أرم: بلى.
(2) ما بين معقوفتين من ابن هشام.
(3) وكان اسمه عبد الله وقيل عمرو.
(4) الخبر في سيرة ابن هشام ج 1 / 389 وما بعدها.
(5) ذكر البيهقي مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُسْتَهْزِئُونَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ والحارث بن عنطلة السهمي والعاص بن وائل.
- فالاسود بن عبد يغوث بن وهب بن زهرة، ابن خَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ البلاذري عنه: " كان إذا رأى المسلمين قال لاصحابه: قد جاءكم ملوك الارض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلَّم: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد.
- أما الْأَسْوَدِ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى فكان هو وأصحابه يتغامزون بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام شق عليه فدعا عليه أن يعمي الله بصره ويثكله ولده.
- الحارث بن قيس السهمي ابن العنطلة: نسب إلى أمه، نزل فيه في قول: " أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الهه هواه " لانه كان يعبد حجرا فإذا رأى حجرا أحسن منه تركه وأخذ الاحسن.
(*)(3/112)
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ عَادَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُمْ إِسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَ النَّقْلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ يَوْمًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ) يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى خَتَمَهَا وَسَجَدَ.
فَسَجَدَ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَكَانَ لِذَلِكَ سَبَبٌ ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَ قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحج: 52] وَذَكَرُوا قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ وَقَدْ أَحْبَبْنَا الْإِضْرَابَ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا لِئَلَّا يسمعها من لا يضعها على مواضيعها، إِلَّا أَنَّ أَصْلَ الْقِصَّةِ فِي الصَّحِيحِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم والنجم بِمَكَّةَ، فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شيخ أخذ كفاً من حصا - أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، فَرَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا رَبَاحٌ عَنْ معمر عن ابن
طاووس عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ سُورَةَ النَّجْمِ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَنْ عِنْدَهُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَأَبَيْتُ أَنْ أَسْجُدَ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ الْمُطَّلِبُ.
فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يسمع أحداً يقرأها إِلَّا سَجَدَ مَعَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِهِ.
وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ هَذَا سَجَدَ وَلَكِنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتِكْبَارًا، وَذَلِكَ الشَّيْخُ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَسْجُدْ بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاقِلَ لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكِينَ قَدْ سَجَدُوا مُتَابَعَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَقَدَ أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا وَاصْطَلَحُوا مَعَهُ وَلَمْ يَبْقَ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ، فَطَارَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ وَانْتَشَرَ حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها،
__________
= كان يقول: لقد عز محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلا الدهر والاحداث ومرور الايام.
- العاص بن وائل السهمي.
قال الجمهور ومنهم ابن عباس في أكثر الروايات عنه: المستهزئون كانوا خمسة وقال في رواية كانوا ثمانية: وقد عدهم البيهقي كما ذكرنا خمسة أما الثلاثة فهم: مالك بن الطلاطلة بن عمرو بن غبشاف ذكره ابن الكلبي والبلاذري وكان سفيها فدعا عليه رسول الله واستعاذ بالله من شره.
وذكر البلاذري ممن كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو الاصداء، وكان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعلمك أهل الكتاب أساطيرهم ويقول للناس هو معلم مجنون فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لعلى جبل إذا اجتمعت عليه الاروى فنطحته حتى قتلته.
(*)(3/113)
فَظَنُّوا صِحَّةَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ طَامِعِينَ بِذَلِكَ، وَثَبَتَتْ جَمَاعَةٌ وَكِلَاهُمَا مُحْسِنٌ مُصِيبٌ فِيمَا فَعَلَ فَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَسْمَاءَ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَامْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَامْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بنت سهيل [بن عمرو] ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عمير، وسويبط بن سعد [بن حرملة] ، وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ،
وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَشَمَّاسُ (1) بْنُ عُثْمَانَ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ - وَقَدْ حُبِسَا (2) بِمَكَّةَ حَتَّى مَضَتْ بدرا وأحدا وَالْخَنْدَقُ - وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - وَهُوَ مِمَّنْ شُكَّ فِيهِ أَخَرَجَ إِلَى الْحَبَشَةِ أَمْ لَا.
وَمُعَتِّبُ بْنُ عَوْفٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَابْنُهُ السَّائِبُ، وَأَخَوَاهُ قُدَامَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا مَظْعُونٍ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ - وَقَدْ حُبِسَ بِمَكَّةَ إِلَى بَعْدِ الْخَنْدَقِ - وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو - وَقَدْ حُبِسَ (3) حتَّى كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَانْحَازَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَشَهِدَ مَعَهُمْ بَدْرًا - وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ، وَامْرَأَتُهُ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَالسَّكْرَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَامْرَأَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ - وَقَدْ مَاتَ بِمَكَّةَ (4) قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَخَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَمْرُو (5) بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرٍ وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ (6) ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أريت دار هجرتكم [أريت سبخة] (7) ذات
__________
(1) اسم شماس: عامر، وشماس لقب غلب عليه.
أمه صفية بنت ربيعة بن عبد شمس شهد بدراً وقتل يوم أُحد وهو ابن أربع وثلاثين سنة.
أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يدفن في أحد كما هو في ثيابه التي مات فيها بعد أن مكث يوما وليلة.
قال حسان بن ثابت يرثيه: اقنى حباءك فِي سِتْرٍ وَفِي كَرَمٍ * فَإِنَّمَا كَانَ شَمَّاسٌ من الناس قد ذاق حمزة سيف الله فاصطبري * كأسا رواء ككأس المرء شماس (2) وحبسهما أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وهما عما سلمة وأخوا عياش لامه، قيل قد احتالا على عياش أن أمه حلفت ألا يدخل رأسها وهي ولا تغتسل حتى تراه.
فرجع معهما فأوثقاه.
(3) يكنى عبد الله: أبا سهيل وكان الذي حبسه أبوه وأوثقه في مكة وفتنه في دينه، كان أحد الشهود في صلح الحديبية استشهد يوم اليمامة وهو ابن ثمان وثلاثين سنة.
(4) هذا قول ابن إسحاق ووافقه عليه الواقدي، أما موسى بن عقبة وأبو معشر فيقولان أن السكران مات بالحبشة (أنظر الطبقات لابن سعد ج 4 / 204) .
(5) يقال فيه: عامر بن الحارث، ولم يذكره ابن عقبة ولا أبو معشر فيمن هاجر إلى أرض وذكره ابن عقبة في البدريين.
(الطبقات ج 4 / 213) .
(6) سهيل بن بيضاء: بيضاء هي أمه واسمها دعد بنت جحدم بن عمرو بن عائش بن ظرب بن الحارث بن فهر وأبوه وهب بن ربيعة.
أسلم وشهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ومات في المدينة سنة تسع من الهجرة.
(7) من البخاري.
السبخة: الارض تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت شيئا.
(*)(3/114)
نخل بين لابتين " فهاجر من هاجر قبل الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى الحبشة إلى المدينة.
وفيه عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تقدَّم حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ حِينَ قَدِمَ مَنْ كَانَ تَأَخَّرَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ: كنَّا نسلِّم عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فلمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فترد علينا، فلمَّا رجعنا من عند النجاشي لم ترد عَلَيْنَا؟ " قَالَ إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغُلًا " وَقَدْ روى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وَهُوَ يُقَوِّي تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ.
عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ زَيْدًا أَنْصَارِيٌّ مَدَنِيٌّ، وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ بِمَكَّةَ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا ذِكْرُهُ الْآيَةَ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فَمُشْكِلٌ وَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهَا الْمُحَرِّمَةُ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ الْمُحَرِّمُ لَهُ غَيْرَهَا مَعَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابن إسحاق: وكان ممن دخل منهم بجوار (1) ، [فيمن سمي لنا] (2) عُثْمَانَ بْنُ مَظْعُونٍ فِي جِوَارِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ فِي جِوَارِ خَالِهِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّ أُمَّهُ (3) بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
فَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَإِنَّ صَالِحَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي عمَّن
حدَّثه عَنْ عُثْمَانَ.
قَالَ: لَمَّا رَأَى عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مَا فِيهِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ يَرُوحُ وَيَغْدُو فِي أَمَانٍ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ وَاللَّهِ إن غدوي ورواحي فِي جِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَأَصْحَابِي وَأَهْلُ دِينِي يَلْقَوْنَ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْأَذَى فِي اللَّهِ مَا لَا يُصِيبُنِي لَنَقْصٌ كَثِيرٌ (4) فِي نَفْسِي، فَمَشَى إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ وَفَتْ ذِمَّتُكَ، وقد رددت إليك جوارك.
قال [له] لِمَ يا ابن أَخِي؟ لَعَلَّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: لا، ولكني أرضى بجوار الله عزوجل، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ.
قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَارْدُدْ عَلَيَّ جِوَارِي عَلَانِيَةً كَمَا جرتك عَلَانِيَةً.
قَالَ: فَانْطَلَقَا فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: هَذَا عُثْمَانُ قَدْ
__________
= لابتان: أي الحرتان، وهي الارض فيها حجارة سود كأنها احترقت بالنار.
والحديث أخرجه البخاري من حديث عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ في 39 كتاب الكفالة (4) باب فتح الباري 4 / 475 - 476.
(1) في الاصل: وكان ممن دخل معهم بجوار، وهو تحريف.
وأثبتنا ما في سيرة ابن هشام.
(2) ما بين معكوفتين سقط من الاصل واستدرك من ابن هشام.
(3) في ابن هشام: وأم أبي سلمة برة بنت عبد المطلب.
(4) في سيرة ابن هشام: كبير بدل كثير.
(*)(3/115)
جَاءَ يَرُدُّ عَلَيَّ جِوَارِي.
قَالَ: صَدَقَ، قَدْ وَجَدْتُهُ وفيَّاً كَرِيمَ الْجِوَارِ، وَلَكِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ جِوَارَهُ.
ثُمَّ انْصَرَفَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جعفر فِي مَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَنْشُدُهُمْ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ عثمان، فقال لبيد: ألا كل شئ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ.
فَقَالَ لَبِيدٌ: وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَذَبْتَ، نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ.
فَقَالَ لَبِيدٌ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا كَانَ
يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ، فَمَتَى حَدَثَ هَذَا فِيكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ هَذَا سَفِيهٌ فِي سُفَهَاءَ مَعَهُ، قَدْ فَارَقُوا دِينَنَا فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ مِنْ قَوْلِهِ، فردَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حَتَّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا، فَقَامَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَضَّرَهَا وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قريب يرى ما بلغ [من] عثمان.
فقال: والله يا ابن أَخِي إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ عَمَّا أَصَابَهَا لَغَنِيَّةً، وَلَقَدْ كُنْتَ فِي ذِمَّةٍ مَنِيعَةٍ.
قَالَ يَقُولُ عُثْمَانُ: بَلْ وَاللَّهِ إِنَّ عَيْنِيَ الصَّحِيحَةَ لَفَقِيرَةٌ إِلَى مِثْلُ مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللَّهِ، وَإِنِّي لَفِي جِوَارِ مَنْ هُوَ أعزُّ مِنْكَ وَأَقْدَرُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ.
فَقَالَ لَهُ الوليد: هلم يا ابن أخي إِلَى جِوَارِكَ فَعُدْ.
قَالَ: لَا!.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، فَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ عُمَرَ] أَبِي سَلَمَةَ أنَّه حدَّثه: أنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمَّا اسْتَجَارَ بِأَبِي طَالِبٍ، مَشَى إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا طالب لقد (1) مَنَعْتَ مِنَّا ابْنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا، فَمَا لَكَ وَلِصَاحِبِنَا تَمْنَعُهُ مِنَّا؟ قَالَ إِنَّهُ اسْتَجَارَ بِي، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِي وَإِنْ أَنَا لَمْ أَمْنَعِ ابْنَ أُخْتِي لَمْ أَمْنَعِ ابْنَ أَخِي.
فَقَامَ أَبُو لَهَبٍ.
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ لَقَدْ أَكْثَرْتُمْ عَلَى هَذَا الشَّيْخِ، مَا تَزَالُونَ تَتَوَاثَبُونَ عَلَيْهِ فِي جِوَارِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ، وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَنَقُومَنَّ مَعَهُ فِي كُلِّ مَا قَامَ فِيهِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَا أَرَادَ.
قالوا بَلْ نَنْصَرِفُ عَمَّا تَكْرَهُ يَا أَبَا عُتْبَةَ.
وَكَانَ لَهُمْ وَلِيًّا وَنَاصِرًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبْقَوْا عَلَى ذَلِكَ فَطَمِعَ فِيهِ أَبُو طَالِبٍ حِينَ سَمِعَهُ يَقُولُ مَا يَقُولُ، وَرَجَا أَنْ يَقُومَ مَعَهُ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ يُحَرِّضُ أَبَا لَهَبٍ عَلَى نُصْرَتِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ امرءاً أَبُو (2) عُتَيْبَةَ عَمُّهُ * لَفِي رَوْضَةٍ مَا أَنْ يُسامُ الْمَظَالِمَا أَقُولُ لَهُ، وَأَيْنَ مِنْهُ نَصِيحَتِي * أبا معتبِ ثبت سوادك قائما (3)
__________
(1) في الاصل، وفي بعض نسخ ابن هشام: هذا منعت.
(2) كذا في الاصل وابن هشام: أبا معتب، وكنيته: أبو عتبة.
والسواد: هنا: الشخص.
(3) كذا بالاصل: " أبا معتب ".
(*)(3/116)
وَلَا تقبلنَّ الدَّهْرَ مَا عشتَ خُطَّةً * تُسَبُّ بِهَا إمَّا هَبَطْتَ الْمُوَاسِمَا وولِّ سَبِيلَ العجزِ غَيْرَكَ مِنْهُمُ * فَإِنَّكَ لَمْ تُخْلَقْ عَلَى الْعَجْزِ لَازِمَا وَحَارِبْ فَإِنَّ الْحَرْبَ نِصْفٌ وَلَنْ تَرَى * أَخَا الْحَرْبِ يُعْطِي الْخَسْفَ حَتَّى يُسَالَمَا وَكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْكَ عَظِيمَةً * وَلَمْ يَخْذُلُوكَ غَانِمًا أَوْ مُغَارِمَا جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شمسٍ وَنَوْفَلًا * وَتَيْمًا وَمَخْزُومًا عُقُوقًا وَمَأْثَمَا بِتَفْرِيقِهِمْ مِنْ بعدِ ودٍّ وألفةٍ * جَمَاعَتَنَا كَيْمَا يَنَالُوا الْمَحَارِمَا كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نبزِي محمَّداً * وَلَمَّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى الشِّعْبِ قَائِمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وبقي منها بيت تركناه.
عزم الصديق على الهجرة إلى الحبشة قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن مسلم [ابن شهاب] الزُّهري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ وَأَصَابَهُ فِيهَا الْأَذَى، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ فأذنَّ لَهُ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُهَاجِرًا، حَتَّى إِذَا سَارَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمًا - أَوْ يَوْمَيْنِ - لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ (1) أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ (2) .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ أَحَدُ بَنِي بَكْرٍ مِنْ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: اسْمُهُ مَالِكٌ.
فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ أَخْرَجَنِي قَوْمِي وَآذَوْنِي وَضَيَّقُوا عَلَيَّ.
قَالَ وَلِمَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَزِينُ الْعَشِيرَةَ، وَتُعِينُ عَلَى النَّوَائِبِ، وَتَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ.
ارْجِعْ فَإِنَّكَ فِي جِوَارِي.
فَرَجَعَ مَعَهُ حتَّى إذا دخل مكة قام معه ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَا يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِخَيْرٍ.
قَالَتْ (3) : فَكَفُّوا عَنْهُ.
قَالَتْ: وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحَ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَى قَالَتْ: فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ هَيْئَتِهِ، قَالَتْ: فَمَشَى رِجَالٌ من قريش إلى ابن الدغنة.
فقالوا
__________
(1) ابن الدغنة ويقال ابن الدغينية ضبطه القسطلاني والزرقاني.
بفتح الدال وكسر الغين وفتح النون المخففة وأهل
اللغة: بضم الدال والغين وفتح النون المشددة.
وهو ربيعة بن رفيع أهبان بن ثعلبة السلمي، والدغنة: أمه غلبت على اسمه شهد حنينا ثم قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بني تميم.
(2) الاحابيش: قال ابن إسحاق: الاحابيش بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق، وقيل سموا بالاحابيش لانهم تحالفوا جميعا بواد يقال له الاحبش بأسفل مكة، ويقال تحالفوا عند جبيل يقال له: حبشي، فسموا بذلك.
(3) من ابن هشام: وفي الاصل: قال، فراوية الخبر: عائشة.
(*)(3/117)
[له] : يا ابن الدَّغِنَةِ إِنَّكَ لَمْ تُجِرْ هَذَا الرَّجُلَ لِيُؤْذِيَنَا، إِنَّهُ رَجُلٌ إِذَا صَلَّى وَقَرَأَ مَا جَاءَ به محمد يرق [ويبكي] وكانت له هيئة، ونحن نَتَخَوَّفُ.
عَلَى صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضُعَفَائِنَا أَنْ يَفْتِنَهُمْ، فَأْتِهِ فَمُرْهُ بِأَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ.
قَالَتْ: فَمَشَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَيْهِ فقال [له] : يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي لَمْ أُجِرْكَ لِتُؤْذِيَ قَوْمَكَ.
وَقَدْ كَرِهُوا مَكَانَكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ، وَتَأَذَّوْا بِذَلِكَ مِنْكَ، فَادْخُلْ بَيْتَكَ فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْتَ.
قَالَ: أَوْ أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ.
قَالَ فَارْدُدْ عَلَيَّ جِوَارِي.
قَالَ: قَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْكَ.
قَالَتْ: فَقَامَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ رَدَّ عَلَيَّ جِوَارِي فَشَأْنُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ (1) هَذَا الْحَدِيثَ مُتَفَرِّدًا بِهِ وَفِيهِ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ.
فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (2) فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: لم أعقل أبواي قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ (3) ، لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّي.
فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ (4) ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ على نوائب الحق.
وأنا لك جار فارجع، فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ.
فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ (5) ، وَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ:
إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلَا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، ويعين على نوائب الحق؟ فلم يكذب قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ ويصلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نساءنا وأبناءنا.
فقال ابن الدغنة ذلك لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ، وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ.
ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره [وبرز] (6) وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، [فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ] (7) نساء المشركين وأبناؤهم
__________
(1) في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة فتح الباري 7 / 230 - 231، وأخرج جزءا من أول هذا الحديث في كتاب الصلاة، وفي كتاب الاجارة.
(2) من البخاري، وفي الاصل ابن هشام وهو تحريف.
(3) برك الغماد: موضع بناحية اليمن، مما يلي ساحل البحر، وقال ابن فارس: بضم الغين، وقيل برك الغماد: موضع في أقاصي هجر.
(4) تحمل الكل: هو ما يثقل حمله من القيام بالعيال ونحوه مما لا يقوم بأمر نفسه.
(5) في دلائل البيهقي: فارتحل ابن الدغنة مع أبي بكر رضي الله عنه.
(6) سقطت من الاصل وصحيح البخاري، واستدركت من دلائل البيهقي.
(7) من البخاري، وفي الاصل فكان نساء المشركين، يتقذف أي يتدافعون فيتساقطون، ورواية المواهب: " فيتقصف " أي يزدحم.
وما ورد في الحديث - بين معكوفين زيادة من البخاري ودلائل النبوة للبيهقي.
(*)(3/118)
يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ.
فَقَالُوا [له] : إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَأَعْلَنَ فِي الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فإنه فإن أحب على أن يقتصر أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يردَّ عليك ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا [أَنْ]
نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ علمت الذي قد عاقدت عليه قريش فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ له.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ وأرضى بجواز الله عزوجل.
ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي هِجْرَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: لَقِيَهُ - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ خَرَجَ مِنْ جِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ - سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، فمرَّ بِأَبِي بَكْرٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ - أَوِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ - فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ هَذَا السفيه؟ فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك.
[قال] (1) وَهُوَ يَقُولُ أَيْ رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ.
أَيْ رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ، أَيْ رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ.
فَصْلٌ
كُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ مُعْتَرِضًا بِهَا بَيْنَ تَعَاقُدِ قُرَيْشٍ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَكِتَابَتِهِمْ عَلَيْهِمُ الصَّحِيفَةَ الظَّالِمَةَ وَحَصْرِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي الشِّعْبِ، وَبَيْنَ نَقْضِ الصَّحِيفَةِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا وَهِيَ أُمُورٌ مُنَاسِبَةٌ لِهَذَا الْوَقْتِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِيَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى ابْنِ إسحاق.
نَقْضُ الصَّحِيفَةِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هَذَا وَبَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو المطَّلب فِي مَنْزِلِهِمُ الَّذِي تَعَاقَدَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ عَلَيْهِمْ فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبُوهَا، ثم أنه قام في نقض [تلك] الصَّحِيفَةِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَبْلُ فِيهَا أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْ بَلَاءِ هِشَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ [رَبِيعَةَ بْنِ] الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نصر [بن جذيمة] بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نَضْلَةَ بن هاشم (2) بن
__________
(1) من ابن هشام، والخبر في السيرة ج 2 / 13.
(2) من سيرة ابن هشام، وفي الاصل هشام وهو تحريف (*) .(3/119)
عَبْدِ مَنَافٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصِلًا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ، فَكَانَ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَأْتِي بِالْبَعِيرِ، وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المطَّلب فِي الشِّعْبِ لَيْلًا قَدْ أَوْقَرَهُ طَعَامًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِهِ فَمَ الشِّعْبِ خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبَيْهِ، فَدَخَلَ الشِّعْبَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ قَدْ أوقره بزاً (1) فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أنَّه مَشَى إِلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (2) بن مخزوم وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث عَلِمْتَ لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا يُنْكَحُ إِلَيْهِمْ؟ أَمَا إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ ثُمَّ دَعَوْتَهُ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، مَا أَجَابَكَ إِلَيْهِ أَبَدًا.
قَالَ: وَيْحَكَ يَا هِشَامُ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخر لقمت في نقضها [حتى أنقضها] .
قَالَ قَدْ وَجَدْتَ رَجُلًا، قَالَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: أَبْغِنَا ثَالِثًا، فَذَهَبَ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ لَهُ: يَا مُطْعِمُ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقُرَيْشٍ فِيهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُمْ إِلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا، قَالَ: وَيْحَكَ فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالَ قَدْ وَجَدْتَ لَكَ ثَانِيًا.
قَالَ مَنْ؟ قَالَ أَنَا، قَالَ أَبْغِنَا ثَالِثًا قَالَ قَدْ فَعَلْتُ.
قَالَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.
قَالَ أَبْغِنَا رَابِعًا، فَذَهَبَ إِلَى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَامٍ، فَقَالَ [لَهُ] نحو ما قَالَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ وَهَلْ تَجِدُ أَحَدًا يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ! قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَنَا مَعَكَ.
قَالَ أَبْغِنَا خَامِسًا.
فَذَهَبَ إِلَى زَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، فَكَلَّمَهُ، وَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقَّهُمْ، فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ ثُمَّ سَمَّى الْقَوْمَ.
فَاتَّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ (3) لَيْلًا بأعلا مَكَّةَ فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّحِيفَةِ حَتَّى يَنْقُضُوهَا.
وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَتَكَلَّمُ.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إِلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاس.
فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ
أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يَبْتَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ - وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ المسجد - وَاللَّهِ لَا تُشَقُّ.
قَالَ: زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كُتِبَتْ.
قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: صَدَقَ زَمْعَةُ لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نُقِرُّ بِهِ.
قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ: صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا.
قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أمر قد قضي بليلٍ، تشور فيه بغير هذا المكان، [قال] : وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَقَامَ
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل وبعض نسخ ابن هشام " برا " وقال السهيلي: بزا بالزاي.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل عمرو وهو تحريف.
(3) من ابن هشام وفي الاصل حطم، والحجون: موضع بأعلى مكة، وخطمه: مقدمه.
(*)(3/120)
الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ إِلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إِلَّا " بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ "، وَكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ (1) .
فُشَلَّتْ يَدُهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ لأُبي طَالِبٍ: " يَا عَمِّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ لِلَّهِ إِلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهَا الظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ ".
فَقَالَ أَرَبُّكَ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ " نَعَمْ "! قَالَ فَوَاللَّهِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّ ابن أخي قد أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا، فَهَلُمَّ صَحِيفَتَكُمْ، فَإِنْ كَانَتْ كَمَا قَالَ فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا وَانْزِلُوا عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي.
فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرًّا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرَّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا مُزِّقَتْ وَبَطَلَ مَا فِيهَا، قَالَ أَبُو طَالِبٍ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَامُوا فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ يَمْدَحُهُمْ: أَلَا هَلْ أَتَى بحريَّنا صُنْعُ رَبِّنَا * عَلَى نَأْيِهِمْ وَاللَّهُ بِالنَّاسِ أروَدُ (2)
فَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ الصَّحِيفَةَ مزِّقت * وَأَنَّ كَلَّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللَّهُ مُفْسَدُ تَرَاوَحَهَا إِفْكٌ وَسِحْرٌ مجمَّع * وَلَمْ يُلْفَ سحراً آخرَ الدَّهْرِ يَصْعَدُ تَدَاعَى لَهَا مَنْ لَيْسَ فيها بقرقر * فبطائرها فِي رَأْسِهَا يَتَرَدَّدُ (3) وَكَانَتْ كِفَاءً وَقْعَةٌ باثيمةٍ * لِيُقْطَعَ مِنْهَا ساعدٌ وَمُقَلَّدُ وَيَظْعَنَ أَهْلُ المكَّتين فَيَهْرُبُوا * فَرَائِصُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الشَّرِّ تُرعد وَيُتْرَكَ حراثٌ يُقَلِّبُ أَمْرَهُ * أَيُتْهِمُ فِيهَا عِنْدَ ذَاكَ وينجد (4) فَمَنْ يَنْشَ مِنْ حُضَّارِ مكةَ عِزُّهُ * فَعِزَّتُنَا فِي بَطْنِ مَكَّةَ أَتْلَدُ نَشَأْنَا بِهَا وَالنَّاسُ فيها قلائل * فلم ننفك نزدادُ خيراً ونحمد
__________
(1) قال السهيلي: وللنساب من قريش في كاتب الصحيفة قولان، أحدهما: أن كاتب الصحيفة هو بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد الدار، والقول الثاني: أنه منصور بن عبد شرحبيل بن هاشم من بني عبد الدار أيضا، وهو خلاف قول ابن إسحاق، ولم يذكر الزبير في كاتب الصحيفة غير هذين القولين، والزبيريون أعلم بأنساب قومهم.
(2) بحرينا: قال السهيلي: يعني الذين بأرض الحبشة، والذين هاجروا إليها من المسلمين في البحر، وأرود: أرفق.
(3) القرقر: اللين السهل، يتردد: المراد حظها من الشؤم والشر.
(4) أيتهم: أي يأتي تهامة، وينجد: أتى نجدا.
وبعده في السيرة: وَتَصْعَدُ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ كَتِيبَةٌ * لَهَا حُدُجٌ سَهْمٌ وقوس ومرهد (*)(3/121)
وَنُطْعِمُ حَتَّى يَتْرُكَ النَّاسُ فَضْلَهُمْ * إِذَا جَعَلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تُرْعَدُ (1) جَزَى اللَّهُ رَهْطًا بِالْحَجُونِ تجمعوا (2) * على ملأٍ يهدي لحزمٍ ويرشد قعوداً لذي حطم (3) الْحَجُونِ كَأَنَّهُمْ * مقاولةٌ بَلْ هُمْ أَعَزُّ وَأَمْجَدُ
أَعَانَ عَلَيْهَا كُلُّ صَقْرٍ كَأَنَّهُ * إِذَا مَا مشى في رفرف الدرع أحرد جرئ على جل (4) الْخُطُوبِ كَأَنَّهُ * شِهَابٌ بِكَفَّيْ قابسٍ يَتَوَقَّدُ مِنَ الْأَكْرَمِينَ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ * إِذَا سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ يَتَرَبَّدُ طويلُ النِّجَادِ خارجٌ نِصْفُ سَاقِهِ * عَلَى وَجْهِهِ يُسْقَى الْغَمَامُ وَيُسْعَدُ عَظِيمُ الرَّمَادِ سيدٌ وَابْنُ سَيِّدٍ * يحضُّ عَلَى مَقْرَى الضُّيُوفِ وَيَحْشُدُ وَيَبْنِي لأبناءِ الْعَشِيرَةِ صَالِحًا * إِذَا نَحْنُ طُفْنَا فِي الْبِلَادِ وَيَمْهَدُ ألظَّ بِهَذَا الصُّلْحِ كُلُّ مُبَرَّأٍ * عَظِيمِ اللِّوَاءِ أَمْرُهُ ثُمَّ يُحْمَدُ (5) قَضَوْا مَا قَضَوْا فِي لَيْلِهِمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا * عَلَى مهلٍ وَسَائِرُ النَّاسِ رُقَّدُ هُمُ رَجَعُوا سَهْلَ بْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا * وسُرَّ أَبُو بَكْرٍ بِهَا وَمُحَمَّدُ (6) مَتَى شُرِّكَ الْأَقْوَامُ فِي حل أَمْرِنَا * وَكُنَّا قَدِيمًا قَبْلَهَا نُتَوَدَّدُ وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً * وَنُدْرِكُ مَا شِئْنَا وَلَا نَتَشَدَّدُ فيالَ قُصَيٍّ هَلْ لَكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ * وهل لكم فيما يجئ بِهِ غَدُ فَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ قائلٌ * لَدَيْكَ الْبَيَانُ لَوْ تَكَلَّمْتَ أَسْوَدُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَسْوَدُ اسْمُ جَبَلٍ قُتِلَ بِهِ قَتِيلٌ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ فَقَالَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ لَدَيْكَ الْبَيَانُ لَوْ تَكَلَّمْتَ أَسْوَدُ، أَيْ يَا أَسْوَدُ لَوْ تَكَلَّمْتَ لَأَبَنْتَ لَنَا عَمَّنْ قَتَلَهُ (7) .
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ شِعْرَ حَسَّانَ يَمْدَحُ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَهُشَامَ بْنَ عَمْرٍو لِقِيَامِهِمَا فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ الظَّالِمَةِ الْفَاجِرَةِ الْغَاشِمَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ ههنا أَشْعَارًا كَثِيرَةً اكْتَفَيْنَا بِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ صَالِحٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَتَى خَرَجَ بَنُو هاشم
__________
(1) المفيضون: الضاربون بقداح الميسر.
(2) في ابن هشام: تبايعوا.
(3) في ابن هشام: خطم وهو الصواب، وخطم الشئ: مقدمه.
(قاموس) .
(4) في ابن هشام: جلى: الامر العظيم.
(5) ألظ: ألح في طلب الشئ.
(6) سهل بن بيضاء، أخو سهيل وبيضاء أمهما سميا باسمها وهي دعد بنت جحدم أسلم بمكة وكتم إسلامه شهد بدراً مع المشركين وأسر، فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة فخلي عنه.
(راجع طبقات ابن سعد ج 4 / 213) .
(7) زاد السهيلي: فقال أولياء المقتول هذه المقالة، فذهبت مثلا.
(*)(3/122)
من الشعب؟ قالا: في السنة العاشرة صلى الله عليه وسلَّم - يَعْنِي مِنَ الْبِعْثَةِ - قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ.
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شاء الله تعالى.
فصل
وَقَدْ ذَكَرَ محمَّد بْنُ إِسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ إِبْطَالِ الصَّحِيفَةِ قِصَصًا كَثِيرَةً تَتَضَمَّنُ نَصْبَ عَدَاوَةِ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْفِيرَ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْقَادِمِينَ إِلَى مَكَّةَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِظْهَارَ اللَّهِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ دِلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وتكذيبنا لَهُمْ فِيمَا يَرْمُونَهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَيَرْمُونَهُ مِنَ الْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالتَّقَوُّلِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.
فَذَكَرَ قِصَّةَ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ مُرْسَلَةً، وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا شَرِيفًا فِي دَوْسٍ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَكَّةَ فَاجْتَمَعَ بِهِ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ وَحَذَّرُوهُ مِنْ رَسُولِ الله وَنَهَوْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ أَوْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ، قَالَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا بِي حَتَّى أَجْمَعْتُ أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكمله، حَتَّى حَشَوْتُ أُذُنِيَّ حِينَ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ كرسفاً (1) فرقاً من أن يبلغني شئ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ.
قَالَ فَغَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، قَالَ فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي وَاثُكْلَ أُمِّي، وَاللَّهِ إِنِّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيَّ الْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنَّ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ! فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُهُ.
قَالَ: فَمَكَثْتُ
حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بيته [فَاتَّبَعْتُهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ] (2) دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ قَوْمَكَ قَالُوا لِي كذا وكذا - الذي قَالُوا - قَالَ فَوَاللَّهِ مَا بَرِحُوا بِي يُخَوِّفُونَنِي أَمْرَكَ حَتَّى سَدَدْتُ أُذُنَيَّ بِكُرْسُفٍ لِئَلَّا أَسْمَعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَكَ، فَسَمِعْتُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عليَّ أَمْرَكَ: قَالَ: فَعَرَضَ عليَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عليَّ الْقُرْآنَ، فَلَا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ.
قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، وَإِنِّي رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَدَاعِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فادعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
قَالَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً " قَالَ فَخَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي حَتَّى إِذَا كنت بثنية تطلعني على الحاضر (3) ، وقع بين عيني نور مِثْلُ الْمِصْبَاحِ.
قَالَ فَقُلْتُ: اللَّهم فِي غَيْرِ وَجْهِي، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَظُنُّوا بِهَا مُثْلَةً (4) وقعت في وجهي لفراقي
__________
(1) الكرسف: القطن.
(2) ما بين معكوفين من ابن هشام.
(3) الحاضر: الجماعة النازلون على الماء.
(4) المثلة: يريد العقوبة والتنكيل.
(*)(3/123)
دِينَهُمْ، قَالَ: فَتَحَوَّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي.
قال: فجعل الحاضرون يتراؤن ذَلِكَ النُّورَ فِي رَأْسِ سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ، وأنا أتهبط عَلَيْهِمْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، حَتَّى جِئْتُهُمْ فَأَصْبَحْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا نَزَلْتُ أَتَانِي أَبِي - وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا - فقلت: إليك عني - يا أبة فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، قَالَ وَلِمَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَسْلَمْتُ وَتَابَعْتُ دِينَ محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ فدينك ديني.
فَقُلْتُ: فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي حتى أعلمك ما علمت.
قال فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ.
قَالَ ثُمَّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي، فَقُلْتُ: إِلَيْكِ عَنِّي، فَلَسْتُ مِنْكِ وَلَسْتَ مِنِّي.
قَالَتْ: وَلِمَ؟ بِأَبِي أَنْتَ وأمي.
قال قلت [قد] فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ الْإِسْلَامُ، وَتَابَعْتُ دِينَ محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ فَدِينِي دِينُكَ.
قال: فقلت فاذهبي إلى حمى ذِي الشَّرَى فَتَطَهَّرِي مِنْهُ، وَكَانَ ذُو
الشَّرَى صنماً لدوس وكان الحمى حمى حموه حوله بِهِ وَشَلٌ مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ.
قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَتَخْشَى عَلَى الصَّبِيَّةِ من ذي الشرى شيئاً؟ قُلْتُ: لَا، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ.
قَالَ: فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ ثُمَّ جَاءَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ، ثم دعوت دوساً إلى الاسلام فأبطأوا عَلَيَّ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ.
فقلت [له] : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ (1) الزِّنَا فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: " اللَّهم اهْدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ ".
قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي من قومي وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ حَتَّى نَزَلْتُ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ - أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا - مِنْ دَوْسٍ فَلَحِقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ لَمْ أَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فتح الله عليه مكة.
فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْنِي إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ، صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ حَتَّى أَحْرِقَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ الطُّفَيْلُ وَهُوَ يُوقِدُ عَلَيْهِ النَّارَ يَقُولُ: يَا ذَا الْكَفَّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا * مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا إِنِّي حَشَوْتُ النَّارَ فِي فُؤَادِكَا (2) قَالَ ثُمَّ رَجَعَ [إِلَى] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان معه بالمدينة حتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ خَرَجَ الطُّفَيْلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَسَارَ مَعَهُمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْ طُلَيْحَةَ وَمِنْ أَرْضِ نَجْدٍ كُلِّهَا، ثُمَّ سَارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَمَامَةِ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ الطُّفَيْلِ، فَرَأَى رُؤْيَا وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْيَمَامَةِ فَقَالَ
__________
(1) دوس: بطن من شنوءة من الازد القحطانية وهم بنو دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن خالد بن نصر.
منهم أبو هريرة صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسمه عمير بن عامر.
(نهاية الارب للقلقشندي 235) .
(2) في مغازي الواقدي 2 / 870: أنا حششت النار في فؤادكا.
(*)(3/124)
لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا فَاعْبُرُوهَا لِي، رَأَيْتُ أَنَّ رَأْسِي حُلِقَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ،
وَأَنَّهُ لَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ فَأَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا وَأَرَى ابْنِي يَطْلُبُنِي طَلَبًا حَثِيثًا ثُمَّ رَأَيْتُهُ حُبِسَ عَنِّي؟ قَالُوا: خَيْرًا قَالَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَقَدْ أَوَّلْتُهَا، قَالُوا مَاذَا؟ قَالَ أَمَّا حَلْقُ رَأْسِي فَوَضْعُهُ، وَأَمَّا الطَّائِرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَرُوحِي، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي أَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا فَالْأَرْضُ تُحْفَرُ لِي فَأُغَيَّبُ فِيهَا.
وَأَمَّا طَلَبُ ابْنِي إِيَّايَ ثُمَّ حَبْسُهُ عَنِّي فإني أراه سيجتهد أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَنِي.
فَقُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ، وَجُرِحَ ابْنُهُ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ اسْتَبَلَّ مِنْهَا ثُمَّ قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ زَمَنَ عُمَرَ شَهِيدًا رَحِمَهُ اللَّهُ.
هَكَذَا ذَكَرَ محمَّد بْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو مُرْسَلَةً بِلَا إِسْنَادٍ (1) .
وَلِخَبَرِهِ شَاهِدٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الطُّفَيْلُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ دَوْسًا قَدِ اسْتَعْصَتْ قَالَ: " اللَّهم إهد دوساً وائت بِهِمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2) عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقُلْتُ هلكت دوس.
فقال: " اللَّهم اهد دوساً، وائت بِهِمْ " إِسْنَادٌ جَيِّدٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حدَّثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ؟ - قَالَ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ، فلمَّا هَاجَرَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوُا (3) الْمَدِينَةَ فَمَرِضِ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ (4) فَقَطَعَ بِهَا بِرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ.
فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ: ما صنع ربك بك فَقَالَ غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَمَا لِي أَرَاكَ
__________
(1) قال في الاصابة ج 2 / 225: ذكرها ابن إسحاق في سائر النسخ بلا إسناد، وروي في نسخة من المغازي من طريق صالح بن كيسان عن الطّفيل بن عمرو في قصة إسلامه.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات ج 4 / 237 مطولا من وجه آخر، وكذلك الاموي عن ابن الكلبي بإسناد آخر.
وقد ساق ابن عبد البر في الاستيعاب
ج 2 / 232 من طريق الاموي عن ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن الطّفيل بن عمرو فذكر قصة إسلامه.
(2) في: 80 كتاب الدعوات (59) باب الحديث 6397 فتح الباري 11 / 196 وأخرجه أيضاً في 64 كتاب المغازي (75) باب قصة دوس فتح الباري 8 / 101.
(3) اجتووا المدينة: معناه كرهوا المقام بها لضجر ونوع من سقم.
قال أبو عبيد والجوهري: اجتويت البلد إذا كرهت المقام به، وإن كنت في نعمة.
قال الخطابي: أصله من الجوى وهو داء يصيب الجوف.
(4) مشاقص: جمع مشقص وهو سهم فيه نصل عريض قاله ابن فارس والخليل، وقال غيرهما طويل وليس بالعريض، والاقرب أنه عريض لان قطع البراجم يحصل بالعريض وليس بالطويل.(3/125)
مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ قِيلَ لِي لَنْ يُصْلَحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ.
قَالَ فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ بِهِ (1) .
فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ الله عزوجل عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ".
فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَاكَ مُشْرِكًا وَهَذَا مُؤْمِنٌ، وَيَكُونُ قَدْ جُعِلَ هَذَا الصَّنِيعُ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا فِي دُخُولِهِ النَّارَ وَإِنْ كَانَ شِرْكُهُ مُسْتَقِلًّا إِلَّا أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى هَذَا لِتَعْتَبِرَ أُمَّتُهُ: الثَّانِي: قَدْ يَكُونُ هَذَاكَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ وَهَذَا غَيْرُ عَالِمٍ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ.
الثَّالِثُ: قَدْ يَكُونُ ذَاكَ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا بَلْ مُخْطِئًا.
الرَّابِعُ: قَدْ يَكُونُ أَرَادَ ذَاكَ بِصَنِيعِهِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ.
الْخَامِسُ: قَدْ يَكُونُ هَذَاكَ قَلِيلَ الْحَسَنَاتِ فَلَمْ تُقَاوِمْ كِبَرَ ذَنْبِهِ الْمَذْكُورِ فَدَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ كَثِيرَ الْحَسَنَاتِ فَقَاوَمَتِ الذَّنْبَ فَلَمْ يَلِجِ النَّارَ بَلْ غُفِرَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم.
وَلَكِنْ بَقِيَ الشَّيْنُ فِي يَدِهِ فَقَطْ وَحَسُنَتْ هَيْئَةُ سَائِرِهِ فَغَطَّى الشَّيْنَ مِنْهُ
فَلَمَّا رَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو مُغَطِّيًا يَدَيْهِ قَالَ لَهُ مالك؟ قَالَ: قِيلَ لِي لَنْ يُصْلَحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ فَلَمَّا قَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ " أَيْ فَأَصْلِحْ مِنْهَا مَا كَانَ فَاسِدًا.
وَالْمُحَقَّقُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو.
قِصَّةُ أَعْشَى بْنِ قَيْسِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِ بَكْرِ بن وائل من (2) أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَعْشَى بْنَ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةً أَرْمَدَا * وبتَّ كَمَا بَاتَ السَّلِيمُ مسهَّدا وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا * تَنَاسَيْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ خلَّة مهْددا (3) وَلَكِنْ أَرَى الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ خَائِنٌ * إِذَا أَصْلَحَتْ كفَّاي عَادَ فَأَفْسَدَا كُهُولًا وشبَّاناً فقدتُ وثروةً * فلله هذا الدهر كيف تَرَدَّدَا وَمَا زِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يافع * وليداً وكهلاً حين شبْتُ وأمردا
__________
(1) صحيح مسلم (1) كتاب الايمان (49) باب حديث 184.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل: عن.
(3) كذا في الاصل خلة وفي ابن هشام " صحبة " ومهدد: اسم امرأة.
(*)(3/126)
وَأَبْتَذِلُ الْعِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَعْتَلِي * مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النُّجَيْرِ فَصَرْخَدَا (1) أَلَا أيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ * فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا ربَّ سَائِلٍ * حَفِيٍّ عَنِ الأعشى به حيث أصعدا أجدتُ برجليها النجاد وراجعت * يداها خنافاً ليِّناً غَيْرَ أَحْرَدَا (2) وَفِيهَا إِذَا مَا هجَّرتْ عجرفيّةٌ * إِذَا خِلْتَ حِرْبَاءَ الظَّهِيرَةِ أَصَيْدَا (3) وَآلَيْتُ لَا آوِي لَهَا مِنْ كلالةٍ * وَلَا مِنْ حَفًى حَتَّى تُلَاقِي مُحَمَّدَا
مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ * تُرَاحِي وَتَلْقَى مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ * أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا (4) لَهُ صدقات ماتغب وَنَائِلٌ * فَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا أجدَّك لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ محمدٍ * نَبِيِّ الْإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى وَأَشْهَدَا إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى * وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ * فَتُرْصِدَ لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ أَرَصَدَا فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لا تقربنَّها * ولا تأخذن سهماً حديداً لتقصدا وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تنسكنَّه * وَلَا تَعْبُدِ الأوثان والله فاعبدا ولا تقربنَّ جارة كَانَ سِرُّهَا * عَلَيْكَ حَرَامًا فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا (5) وذا الرحم القربى بلا تقطعنَّه * لِعَاقِبَةٍ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا وسبِّح عَلَى حِينِ الْعَشِيَّةِ وَالضُّحَى * وَلَا تَحْمَدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاحْمَدَا (6) وَلَا تَسْخَرَنَّ مِنْ بائسٍ ذِي ضَرَارَةٍ * وَلَا تحسبنَّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدَا قَالَ ابْنُ هشام: فلما كان بمكة - أو قريب مِنْهَا - اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاءَ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُسْلِمَ.
فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِنَّهُ يُحَرِّمُ الزِّنَا.
فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر مالي فِيهِ مِنْ أَرَبٍ.
فَقَالَ: يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ.
فَقَالَ الْأَعْشَى: أَمَّا هَذِهِ فوالله إن في نفسي منها العلالات، وَلَكِنِّي مُنْصَرِفٌ فَأَتَرَوَّى مِنْهَا عَامِي هَذَا، ثُمَّ آته فَأُسْلِمُ فَانْصَرَفَ فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم.
هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ههنا وَهُوَ كَثِيرُ الْمُؤَاخَذَاتِ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ ابْنُ هِشَامٍ رحمه الله، فإن
__________
(1) النجير: موضع في حضرموت من اليمن، وصرخد: موضع بالجزيرة.
(2) في ابن هشام: النجاء بدل النجاد.
والنجاء: السرعة.
والخناف: التي تلوي في السير يديها من النشاط.
(3) أصيد: المائل العنق تكبرا أو من داء أصابه.
(4) أغار: قال ابن دريد في الاشتقاق: من روى: أغار لعمري، فقد لحن وأخطأ.
(5) في ابن هشام: حرة بدلا من جارة.
(6) في ابن هشام: العشيات بدلا من العشية.
(*)(3/127)
الْخَمْرَ إِنَّمَا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَنِي النَّضِيرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَزْمَ الْأَعْشَى عَلَى الْقُدُومِ لِلْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَفِي شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وهو قوله: ألا أيها ذا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ * فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا وَكَانَ الْأَنْسَبُ وَالْأَلْيَقُ بِابْنِ هِشَامٍ أَنَّ يُؤَخِّرَ ذِكْرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى مَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَا يُورِدَهَا هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنَ ابْنِ هِشَامٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الخمر لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بَعْدَ أُحُدٍ.
وَقَدْ قَالَ: وَقِيلَ إِنَّ الْقَائِلَ لِلْأَعْشَى هُوَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي دَارِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُ ذَلِكَ هُوَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فِي بِلَادِ قَيْسٍ وَهُوَ مُقْبِلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وقوله.
ثم آته فَأُسْلِمُ - لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كُفْرِهِ بِلَا خِلَافٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا قِصَّةَ الْإِرَاشِيِّ وَكَيْفَ اسْتَعْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِي جَهْلٍ فِي ثَمَنِ الْجَمَلِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْهُ، وَكَيْفَ أَذَلَّ اللَّهُ أَبَا جَهْلٍ وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ حَتَّى أَعْطَاهُ ثَمَنَهُ فِي السَّاعة الرَّاهنة وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ ذَلِكَ.
قِصَّةُ مُصَارَعَةِ رُكَانَةَ وَكَيْفَ أَرَاهُ الشَّجَرَةَ الَّتِي دَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: وَكَانَ رُكَانَةُ (1) بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ (2) بن عبد مناف أشد قريشاً، فخلا يوماً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: يَا رُكَانَةُ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَقُولُ حَقٌّ لَاتَّبَعْتُكَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفَرَأَيْتَ إِنْ صَرَعْتُكَ أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ؟ ".
قَالَ نَعَمْ! قَالَ: " فَقُمْ حَتَّى أُصَارِعَكَ ".
قَالَ فَقَامَ رُكَانَةُ إِلَيْهِ فَصَارَعَهُ فَلَمَّا بَطَشَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَضْجَعَهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ عُدْ يَا مُحَمَّدُ فَعَادَ فَصَرَعَهُ.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا للعجب، أتصرعني؟ قَالَ [رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] : " وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أُرِيكَهُ إِنِ اتَّقَيْتَ اللَّهَ وَاتَّبَعْتَ أَمْرِي "؟.
قَالَ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: " أَدْعُو لَكَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي تَرَى فتأتيني ".
قال:
__________
(1) هو رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بن عبد مناف المطلبي.
وقال البلاذري: لقي ركانة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض جبال مكة..فصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرعه وأسلم ركانة في الفتح وقيل اسلم عقب مصارعته.
قال الزبير: مات بالمدينة في خلافة معاوية وقال أبو نعيم مات في خلافة عثمان وقيل عاش إلى سنة إحدى وأربعين (راجع الاصابة 1 / 520) .
(2) في ابن هشام: بن عبد المطلب.
(*)(3/128)
فادعها، فَدَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَى مَكَانِكِ فَرَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، قَالَ: فَذَهَبَ رُكَانَةُ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ سَاحِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الْأَرْضِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسْحَرَ مِنْهُ قَطُّ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِالَّذِي رَأَى وَالَّذِي صَنَعَ.
هَكَذَا رَوَى ابْنُ إسحاق هذه القصة مرسلة بهذا البيان.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْحَسَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ (1) عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أَبِيهِ.
أَنَّ رُكَانَةَ صَارَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ وَلَا نَعْرِفُ أَبَا الْحَسَنِ وَلَا ابْنَ رُكَانَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ صَارَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ عَلَى مِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا وَضَعَ ظَهْرِي إِلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْكَ.
وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَامَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وردَّ عَلَيْهِ غَنَمَهُ.
وَأَمَّا قِصَّةُ دُعَائِهِ الشَّجَرَةَ فَأَقْبَلَتْ فَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ السِّيرَةِ مِنْ طُرُقٍ جَيِّدَةٍ صَحِيحَةٍ فِي مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الْأَشَدَّيْنِ أَنَّهُ صَارَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ قُدُومِ النَّصارى مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بَعْدَ قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ (2) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم إِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ (3) إِلَيْهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَبَّابٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو فُكَيْهَةَ، يَسَارٌ (4) ، مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أميَّة، وَصُهَيْبٌ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
هَزِئَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ كَمَا تَرَوْنَ، أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ، وَمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ به دوننا.
فأنزل الله عزوجل فِيهِمْ: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ ما حسابهم من شئ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عليهم من شئ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10 / 18) وقال وقد رواه أبو أويس المدنيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ ركانة.
وقال ابن حبان في إسناد خبره في المصارعة نظر وقال في تقريب التهذيب: أبو الحسن العسقلاني مجهول من السابعة.
ورواه الحاكم في المستدرك 3 / 452 ورواه أبو داود في المراسيل.
(2) سيرة ابن هشام ج 2 / 32.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل يجلس، وما أثبتناه مناسب أكثر.
(4) في الاصل: أبو فكيهة ويسار، وهو تحريف وأثبتنا ما في سيرة ابن هشام.
(*)(3/129)
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الْأَنْعَامِ: 52 - 54] .
قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى مَبِيعَةِ غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانُوا يَقُولُونَ وَاللَّهِ مَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مِمَّا يَأْتِي بِهِ إِلَّا جَبْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل: 103] .
ثُمَّ ذَكَرَ نُزُولَ سُورَةِ الْكَوْثَرِ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ حِينَ
قَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه أبتر أي لَا عَقِبَ لَهُ فَإِذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ.
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أَيِ الْمَقْطُوعُ الذِّكْرِ بَعْدَهُ، وَلَوْ خَلَفَ أُلُوفًا مِنَ النَّسْلِ وَالذُّرِّيَّةِ وَلَيْسَ الذِّكْرُ وَالصِّيتُ وَلِسَانُ الصِّدْقِ بِكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَنْسَالِ وَالْعَقِبِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ مات الْقَاسِمُ بْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ وَيَسِيرَ عَلَى النَّجِيبَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ نُزُولَ قَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ) وَذَلِكَ بِسَبَبِ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَزَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ: لَوْلَا أُنْزِلُ عَلَيْكَ مَلَكٌ يُكَلِّمُ النَّاسَ عَنْكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَبِي جَهْلِ بن هشام فهمزوه واستهزؤا بِهِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا به يستهزؤن) .
قلت: وقال الله تعالى: (ولقد استهزئ برسل مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ولقد جاءك من نبأ المرسلين) وقال تعالى: (إِنَّا كفيناك المستهزئين) .
قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: المستهزؤن الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ (1) ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ.
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأراه الوليد [أبا عمرو بن المغيرة] (2) فأشار جبريل إلى أنمله (3) وَقَالَ كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ فَأَوْمَأَ إِلَى عُنُقِهِ (4) وَقَالَ كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ وَقَالَ كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ بْنَ عَيْطَلٍ فَأَوْمَأَ إِلَى بَطْنِهِ وَقَالَ كُفِيتَهُ، وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِهِ وَقَالَ
__________
(1) في دلائل البيهقي: الحارث بن عنطلة السهمي، وهو الحارث بن قيس السهمي وهو ابن العنطلة ينسب إلى أمه وفي السهيلي: أنه ابن الطلاطلة وكان يأخذ حجرا يعبده فإذا رأى أحسن منه تركه وأخذ الاحسن.
وفيه نزلت: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هواه.
(2) من دلائل البيهقي.
(3) في دلائل البيهقي: أبجله.
(4) في دلائل البيهقي: عينه، وهو مناسب أكثر لما يقتضيه السياق بعد قليل.
(*)(3/130)
كُفِيتَهُ.
فَأَمَّا الْوَلِيدُ فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وهو يريش نبلاً له فأصاب أنمله فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ.
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَدْفَعُونَ عَنِّي قَدْ قُتِلْتُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ مَا نَرَى شَيْئًا.
وَجَعَلَ يَقُولُ يَا بَنِيَّ أَلَا تَمْنَعُونَ عَنِّي قَدْ هَلَكْتُ، هَا هُوَ ذَا الطَّعْنِ بِالشَّوْكِ فِي عَيْنِي.
فَجَعَلُوا يَقُولُونَ مَا نَرَى شَيْئًا.
فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى عَمِيَتْ عَيْنَاهُ.
وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خُرْؤُهُ مِنْ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهَا.
وَأَمَّا الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَوْمًا إِذْ دَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرِقَةٌ (1) حَتَّى امْتَلَأَتْ مِنْهَا فَمَاتَ مِنْهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ عَلَى حِمَارٍ فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شِبْرِقَةٍ - يَعْنِي شَوْكَةً - فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ (2) .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ خَمْسَةَ نَفَرٍ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ وَشَرَفٍ فِي قَوْمِهِمْ، الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ دَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ " (3) .
وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الطُّلَاطِلَةِ (4) .
وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيهِمْ: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين الذين يجعلون من اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فسوف يعلمون) [الْحِجْرِ: 94] .
وَذَكَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، فَقَامَ وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِهِ، فمرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَرَمَى فِي وَجْهِهِ بِوَرَقَةٍ خَضْرَاءَ فَعَمِيَ، ومرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَشَارَ إلى بطنه فاستسقى باطنه فَمَاتَ مِنْهُ حَبَنًا (5) ومرَّ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَشَارَ إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ بِأَسْفَلِ كَعْبِهِ (6) كَانَ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِسِنِينَ مِنْ مُرُورِهِ برجل يريش نبلاً له
من خراعة فَتَعَلَّقَ سَهْمٌ بِإِزَارِهِ فَخَدَشَهُ خَدْشًا يَسِيرًا، فَانْتَقَضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَاتَ.
ومرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَأَشَارَ إِلَى أَخْمَصِ رِجْلِهِ فَخَرَجَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُرِيدُ الطَّائِفَ فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شِبْرِقَةٍ فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ رِجْلِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ.
ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتخض (7) قيحا فقتله.
__________
(1) الشبرقة: رطب الضريع (2) دلائل النبوة ج 2 / 317 - 318.
(3) قال البلاذري: خرج يستقبل ابنه وقد قدم من الشام، فلما كان ببعض الطريق جعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورق شجرة جلس في ظلها، حتى عمي، ولما كان يوم بدر قتل ابنه زمعة بن الأسود، قتله أبو دجانة ويقال قتله ثابت بن الجذع.
(4) الطلاطلة، اسم امه وقال الكلبي هو الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، وفي السيرة الشامية: اسمه مالك، والطلاطلة أبوه.
(5) الحبن: انتفاخ البطن.
(6) في ابن هشام: كعب رجله.
(7) من ابن هشام، وفي الاصل فامتحض وهو تحريف، أي أن القيح تحرك في رأسه وانتشر.
(*)(3/131)
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ الثَّلَاثَةَ وَهُمْ خَالِدٌ وَهِشَامٌ وَالْوَلِيدُ.
فَقَالَ لَهُمْ: أَيْ بَنِيَّ، أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ، دَمِي فِي خُزَاعَةَ فَلَا تُطِلُّوهُ (1) ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُسَبُّوا بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ.
وَرِبَايَ فِي ثَقِيفٍ، فَلَا تَدَعُوهُ حَتَّى تَأْخُذُوهُ، وَعُقْرِي (2) عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدَّوْسِيِّ فَلَا يَفُوتَنَّكُمْ بِهِ.
وَكَانَ أَبُو أُزَيْهِرٍ قَدْ زَوَّجَ الْوَلِيدَ بِنْتًا لَهُ ثُمَّ أَمْسَكَهَا عَنْهُ فَلَمْ يُدْخِلْهَا عَلَيْهِ حتَّى مَاتَ، وَكَانَ قَدْ قَبَضَ عُقْرَهَا مِنْهُ - وَهُوَ صَدَاقُهَا - فَلَمَّا مَاتَ الْوَلِيدُ وَثَبَتْ بَنُو مَخْزُومٍ عَلَى خُزَاعَةَ يَلْتَمِسُونَ مِنْهُمْ عَقْلَ الْوَلِيدِ، وَقَالُوا إِنَّمَا قَتَلَهُ سَهْمُ صَاحِبِكُمْ، فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ ذَلِكَ حَتَّى تَقَاوَلُوا أَشْعَارًا وَغَلُظَ بَيْنَهُمُ الْأَمْرُ.
ثُمَّ أَعْطَتْهُمْ خُزَاعَةُ بَعْضَ الْعَقْلِ وَاصْطَلَحُوا وَتَحَاجَزُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَدَا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى أَبِي أُزَيْهِرٍ وَهُوَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ.
وَكَانَتِ ابْنَتُهُ (3) تَحْتَ أَبِي سُفْيَانَ - وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ - فَعَمَدَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبو غَائِبًا، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ غَاظَهُ مَا صَنَعَ ابْنُهُ يَزِيدُ فَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ وَضَرَبَهُ وَوَدَى أَبَا أُزَيْهِرٍ وَقَالَ لِابْنِهِ: أَعَمَدْتَ إِلَى أَنْ تَقْتُلَ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ؟ وَكَتَبَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ قَصِيدَةً (4) له يحض أَبَا سُفْيَانَ فِي دَمِ أَبِي أُزَيْهِرٍ، فَقَالَ بِئْسَ مَا ظَنَّ حَسَّانُ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا وَقَدْ ذَهَبَ أَشْرَافُنَا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَلَمَّا أَسْلَمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَشَهِدَ الطَّائِفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ فِي رِبَا أَبِيهِ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ؟.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلْنَ فِي ذَلِكَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 278] وَمَا بَعْدَهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي أُزَيْهِرٍ ثَأْرٌ نَعْلَمُهُ حَتَّى حَجَزَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ النَّاسِ، إِلَّا أَنَّ ضِرَارَ بْنَ الخطاب بن مرداس الأسلمي (5) خَرَجَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَرْضِ دَوْسٍ فَنَزَلُوا عَلَى امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ غَيْلَانَ مَوْلَاةٌ لِدَوْسٍ، وَكَانَتْ تَمْشُطُ النِّسَاءَ وَتُجَهِّزُ الْعَرَائِسَ، فَأَرَادَتْ دَوْسٌ قَتْلَهُمْ بِأَبِي أُزَيْهِرٍ فَقَامَتْ دُونَهُ أُمُّ غَيْلَانَ (6) وَنِسْوَةٌ كُنَّ مَعَهَا حَتَّى مَنَعَتْهُمْ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: يُقَالُ إِنَّهَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ درعها وبدنها.
__________
(1) في ابن هشام: فلا تطلنه، لا تطلوه: لا تهدروه، إذا لم يأخذ بالثأر فقد هدر الدم.
(2) العقر: بالضم، دية فرج المرأة المغصوب.
(3) واسمها: عاتكة.
(4) منها: كساك هشام بن الوليد ثيابه * فأبل وأخلف مثلها جددا بعد (5) في ابن هشام: الفهري.
(6) قال ابن هشام عن أبي عبيدة: أن التي قامت دونه أم جميل.
ويحتمل أن تكونا قامتا معا دونه.
وفي ذلك قال ضرار شعرا منه:
جزى الله عنا أم غيلان صالحا * ونسوتها إذ هن شعث عواطل (*)(3/132)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا كَانَتْ أَيَّامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَتَتْهُ أُمُّ غَيْلَانَ وَهِيَ تَرَى أَنَّ ضِرَارًا أَخُوهُ، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: لَسْتُ بِأَخِيهِ إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ عَرَفْتُ مِنَّتَكِ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا عَلَى أَنَّهَا بَنْتُ سَبِيلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ لَحِقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بعرض الرمح ويقول: انج يا ابن الْخَطَّابِ لَا أَقْتُلُكَ فَكَانَ عُمَرُ يَعْرِفُهَا لَهُ بعد الإسلام (1) رضي الله عنهما.
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا (2) دُعَاءَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَتْ عليه بسبع مثل سبع يُوسُفَ وَأَوْرَدَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: خَمْسٌ مَضَيْنَ، اللِّزَامُ (3) وَالرُّومُ، وَالدُّخَانُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا، لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبطئوا عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ: " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كسبع يوسف " قال فأصابتهم سنة حتى حصت (4) كل شئ، حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْمَيْتَةَ وَحَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّماء كَهَيْئَةِ الدُّخان مِنَ الْجُوعِ.
ثُمَّ دَعَا فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ: (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) [الدخان: 15] قَالَ فَعَادُوا فَكَفَرُوا فَأُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - أوقال فأخروا إلى يوم بدر - قال عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ لَا يُكْشَفُ عَنْهُمْ: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان: 16] قَالَ يَوْمُ بَدْرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (5) قَالَ: لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس إدباراً.
قال: " اللهم سبع كَسَبْعِ يُوسُفَ " فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْجُلُودَ وَالْعِظَامَ.
فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إنَّك تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُقُوا الْغَيْثَ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا فَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ.
فَقَالَ: " اللَّهم حوالينا ولا علينا " فانجذب (6) السحاب عن رأسه فسقى
__________
(1) في ابن هشام: بعد إسلامه، وهذا يؤكد أن ضرارا أدرك الاسلام وأسلم كما في الاشتقاق 1 / 103 شهد أحدا مع المشركين.
(2) أخرج البيهقي في الدلائل 2 / 326.
(3) أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة الدُّخان ح 4825 فتح الباري 8 / 574 والترمذي في كتاب التَّفسير 5 / 379 وأحمد في سنده 5 / 128.
اللزام قال في النهاية هو يوم بدر.
(4) من البخاري والبيهقي، والاصل: فحصت وهو تحريف.
والحديث في فتح الباري 8 / 573، وأخرجه البيهقي من طريق الأعمش عن مسلم عن مسروق عن ابن مسعود به.
(5) من طريق أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(6) في البيهقي: فانحدرت السحابة.
(*)(3/133)
النَّاس حَوْلَهُمْ، قَالَ لَقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ - وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ - وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (إِنَّا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) وَآيَةُ الرُّومِ (1) ، وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى.
وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى وَالدُّخَانَ وَآيَةَ اللِّزَامِ كُلُّهَا حَصَلَتْ بِبَدْرٍ.
قَالَ وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذِهِ الرِّواية.
ثمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ [السِّخْتِيَانِيِّ] عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغِيثُ مِنَ الْجُوعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شيئاً حتى أكلوا العهن (2) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون: 76] قَالَ فَدَعَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتَّى فرَّج اللَّهُ عَنْهُمْ.
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَا دلَّ عَلَى أنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ (3) ، وَلَعَلَّهُ كان مرتين والله أعلم.
فَصْلٌ ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ قِصَّةَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم: 1 - 6] .
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ (4) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لِأَبِي بَكْرٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال [له] : " أَمَا إِنَّهُمْ سَيَظْهَرُونَ " فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا إِنْ ظَهَرُوا كَانَ لَكَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " ألا جعلته أداة " (5) .
قال دون العشر فَظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّفْسِيرِ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُبَاحِثَ - أي المراهن - لأبي بكر أمية بن
__________
(1) في البيهقي: وآية الردم.
(2) في البيهقي: العلهز بالدم.
والعلهز هو الصوف والوبر كانوا يبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه.
(3) قال القرطبي في أحكام القرآن: وقال ابن عبَّاس: نزلت في قصة تمامة بن أثال لما أسرته السرية وأسلم، وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، حال بين مكة وبين الميرة، وقال: وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الله قريشا بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز.
12 / 143.
(4) من البيهقي، وفي الاصل عمرو.
(5) وقع خلل ونقص هنا في العبارة، وجاءت عند البيهقي 2 / 330 أكثر وضوحا قال: فجعل بينهم أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَا جعلته - أراه قال دون العشرة - قال: فظهرت الروم بعد ذلك.
(*)(3/134)
خلف وأن الرهن كان على خمس قلايص، وَأَنَّهُ كَانَ إِلَى مُدَّةٍ، فَزَادَ فِيهَا الصِّدِّيقُ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَفِي الرَّهْنِ.
وَأَنَّ غَلَبَةَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ - أَوْ كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ - فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أُسَيْدٌ الْكِلَابِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ الْعَلَاءَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْكِلَابِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسَ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ وَظُهُورَهُمْ عَلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
فَصْلٌ الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مَكَّةَ إلى بيت المقدس ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَحَادِيثَ الْإِسْرَاءِ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ، وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهري أَنَّهُ قَالَ: أُسَرِي (1) بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ.
ثُمَّ رَوَى الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ.
أَنَّهُ قَالَ: فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَمْسُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ أُسري بِهِ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا (2) ، فَعَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ يَكُونُ الْإِسْرَاءُ فِي شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَعَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ يَكُونُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَا: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَفِيهِ بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هَاجَرَ، وَفِيهِ مَاتَ.
فِيهِ انْقِطَاعٌ.
وَقَدِ اخْتَارَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي سِيرَتِهِ وَقَدْ أَوْرَدَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ ذَكَرْنَاهُ فِي فَضَائِلِ شَهْرِ رَجَبٍ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنَ النَّاس مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ وَهِيَ لَيْلَةُ الرَّغَائِبِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِيهَا الصَّلَاةُ الْمَشْهُورَةُ وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَنْشُدُ بعضهم في ذلك:
__________
(1) لم يختلف القراء في أسرى.
وقال أهل اللغة إن أسرى وسرى بمعنى واحد.
قال السهيلي: السري من سريت إذا سرت ليلا يعني فهو لازم والاسراء يتعدى في المعنى لكن حذف مفعوله حتى ظن من ظن أنهما بمعنى واحد، وإنما معنى أسري بعبده جعل البراق يسري به.
(2) اختلف العلماء في تحديد في أي زمان وقع الاسراء، واتفقوا على أن الإسراء كان بعد البعثة في مكة - وقبل
الهجرة - وجزم جمع بأنه كان قبل الهجرة بسنة، ورجح النووي أنه كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة.
(*)(3/135)
ليلةَ الجمعةِ عُرِّج بِالنَّبِيِّ * ليلةَ الجمعةِ أَوَّلَ رَجَبِ وَهَذَا الشِّعْرُ عَلَيْهِ رَكَاكَةٌ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِشْهَادًا لِمَنْ يَقُولُ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ مُسْتَقْصَاةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فَلْتُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسَانِيدِ وَالْعَزْوِ، وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا وَمَعَهَا فَفِيهَا مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلْنَذْكُرْ مُلَخَّصَ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْفُصُولِ: ثُمَّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى - وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ إِيلِيَاءَ - وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكَّةَ فِي قُرَيْشٍ وَفِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا.
قَالَ: وَكَانَ مِنَ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ مَسْرَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ [عَبْدِ اللَّهِ] بن مسعود وأبي سعيد [الخدري] وَعَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَأُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كُلٌّ يُحَدِّثُ عَنْهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ لِي مِنْ أَمْرِهِ.
وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذُكِرَ لِي مِنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ، وأمر من أمر الله وقدرته وَسُلْطَانِهِ، فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَلَى يَقِينٍ، فَأُسْرِيَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ، حَتَّى عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَقُدْرَتِهِ الَّتِي يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ.
وكان عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَقُولُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُرَاقِ - وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الأنبياء قبله، تضع حافرها في موضع مُنْتَهَى طَرْفِهَا - فحُمل عَلَيْهَا ثُمَّ خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ يَرَى الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حتَّى انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ ثُمَّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيَةٍ: مِنْ لَبَنٍ، وَخَمْرٍ، وَمَاءٍ.
فَذَكَرَ أَنَّهُ شَرِبَ إِنَاءَ اللَّبَنِ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيَاقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا أَنَّ
جِبْرِيلَ أَيْقَظَهُ ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَرْكَبَهُ الْبُرَاقَ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ، بَيْنَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَفِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِزُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ، يَضَعُ حَافِرَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مَعِي لَا يَفُوتُنِي وَلَا أَفُوتُهُ.
قُلْتُ: وَفِي الْحَدِيثِ وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ رُكُوبَ الْبُرَاقِ شَمَسَ (1) بِهِ فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ (2) ثُمَّ قَالَ أَلَا تَسْتَحِيَ يَا بُرَاقُ مما تصنع، فوالله ما ركبك عبد الله قَبِلَ مُحَمَّدٍ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ.
قَالَ فَاسْتَحَى حَتَّى ارْفَضَّ عَرَقًا ثُمَّ قرَّ حَتَّى رَكِبْتُهُ.
قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَضَى مَعَهُ جِبْرِيلُ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بهم، ثم ذكر
__________
(1) شمس به: يقال شمس الفرس: إذا لم يمكن أحداً من ظهره ولا من الاسراج والالجام ولا يكاد يستقر.
(2) المعرفة: اللحم الذي ينبت عليه شعر العرف.
(*)(3/136)
اخْتِيَارَهُ إِنَاءَ اللَّبَنِ عَلَى إِنَاءِ الْخَمْرِ وَقَوْلَ جِبْرِيلَ لَهُ هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْخَمْرُ.
قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَصْبَحَ يُخْبِرُ قُرَيْشًا بِذَلِكَ فَذَكَرَ أَنَّهُ كَذَّبَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَارْتَدَّتْ طَائِفَةٌ بَعْدَ إِسْلَامِهَا، وَبَادَرَ الصِّدِّيقُ إِلَى التَّصْدِيقِ وَقَالَ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً أَفَلَا أُصَدِّقُهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَكَرَ أَنَّ الصِّدِّيقَ سَأَلَهُ عَنْ صِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَذَكَرَهَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ.
قَالَ الْحَسَنُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً للناس) الْآيَةَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ.
أَنَّهَا قَالَتْ: مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ بيتي نام عندي تلك الليلة بعدما صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبَّنَا (1) فَلَمَّا صَلَّى (2) الصُّبْحَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ.
قَالَ: يا أم هاني، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي هَذَا الْوَادِي ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ ثُمَّ قَدْ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَكُمُ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ " ثمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ فَأَخَذْتُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَا تُحَدِّثْ بِهَذَا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك.
قَالَ: " وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّهُمُوهُ " فَأَخْبَرَهُمْ فَكَذَّبُوهُ.
فَقَالَ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنِّي مَرَرْتُ
بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا، فَأَنْفَرَهُمْ حِسُّ الدَّابَّةِ فَنَدَّ لَهُمْ بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِضَجْنَانَ (3) مَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ فَوَجَدْتُ الْقَوْمَ نِيَامًا وَلَهُمْ إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطُّوا عليه بشئ فَكَشَفْتُ غِطَاءَهُ وَشَرِبْتُ مَا فِيهِ، ثُمَّ غَطَّيْتُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ.
وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ عِيرَهُمْ تصوب الْآنَ مِنْ ثَنِيَّةِ التَّنْعِيمِ الْبَيْضَاءِ (4) يَقَدَمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ.
قال: فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ الثَّنِيَّةَ فَلَمْ يَلْقَهُمْ أَوَّلُ مِنَ الْجَمَلِ الَّذِي وَصَفَ لَهُمْ، وَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْإِنَاءِ وَعَنِ الْبَعِيرِ فَأَخْبَرُوهُمْ كَمَا ذَكَرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ أَسْبَاطٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ أَنَّ الشَّمْسَ كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ ذَلِكَ الْعِيرُ، فدعا الله عزوجل فَحَبَسَهَا حَتَّى قَدِمُوا كَمَا وَصَفَ لَهُمْ.
قَالَ فَلَمْ تَحْتَبِسِ الشَّمْسُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَعَلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لمَّا فَرَغْتُ ممَّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إِلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إِذَا حُضِرَ، فَأَصْعَدَنِي فِيهِ صَاحِبِي، حَتَّى انْتَهَى بِي إلى باب من أبواب السماء، يقال
__________
(1) أهبنا: أيقظنا.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل، كان الصبح.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل صحنان.
وضجنان بالتحريك: جبل بناحية تهامة قال الواقدي: بين ضجنان ومكة خمسة وعشرون ميلا.
(4) التنعيم موضع بمكة في الجبل، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة.
والبيضاء عقبة - فيه - قرب مكة، اسفل مكة من قبل ذي طوى وأنت مقبل إليها من المدينة.
(راجع معجم البلدان) .
(*)(3/137)
له: باب الحفظة عليه بريد (1) مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ، تَحْتَ يَدِهِ اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكَ، قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حدَّث بِهَذَا الْحَدِيثِ
(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) .
ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ وَهُوَ مُطَوَّلٌ جِدًّا وَقَدْ سُقْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ بِكَمَالِهِ فِي التَّفْسِيرِ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَحَادِيثِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَكَذَا فِي سِيَاقِ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ شريك بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْحِجْرِ وَفِي سِيَاقِهِ غَرَابَةٌ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا هُنَاكَ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مَجِيئَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ فَكَانَتْ تِلْكَ الليلة ولم يكن فيها شئ ثُمَّ جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ لَيْلَةً أُخْرَى وَلَمْ يَقُلْ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بَلْ جَاءَهُ بَعْدَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ فَكَانَ الْإِسْرَاءُ قَطْعًا بَعْدَ الْإِيحَاءِ إِمَّا بِقَلِيلٍ كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ، أَوْ بِكَثِيرٍ نَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ كَمَا زَعَمَهُ آخَرُونَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَغُسِلَ صَدْرُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ غَسْلًا ثَانِيًا - أو ثالثاً - على قول أنه مَطْلُوبٌ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَالْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ ثُمَّ رَكِبَ الْبُرَاقَ رِفْعَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا فَلَمَّا جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ رَبَطَهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.
وَأَنْكَرَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُخُولَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَبْطَهُ الدَّابَّةَ وَصَلَاتَهُ فِيهِ وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالنَّصُّ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اجْتِمَاعِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَصَلَاتِهِ بِهِمْ أَكَانَ قَبْلَ عُرُوجِهِ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ أَوْ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنْهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السِّيَاقَاتِ وَهُوَ أَنْسَبُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ إِنَّ صَلَاتَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ، وَهَكَذَا تَخَيُّرُهُ مِنَ الْآنِيَةِ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ هَلْ كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ فِي السَّمَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ نُصِبَ لَهُ الْمِعْرَاجُ وَهُوَ السُّلَّمُ فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ وَلَمْ يَكُنِ الصُّعُودُ عَلَى الْبُرَاقِ كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ بَلْ كَانَ الْبُرَاقُ مَرْبُوطًا عَلَى بَابِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ إِلَى مَكَّةَ.
فَصَعِدَ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ فِي الْمِعْرَاجِ حَتَّى جَاوَزَ السَّابِعَةَ وَكُلَّمَا جَاءَ سَمَاءً تَلَقَّتْهُ مِنْهَا مُقَرَّبُوهَا وَمَنْ فِيهَا مِنْ أَكَابِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَذَكَرَ أَعْيَانَ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ كَآدَمَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَحْيَى وَعِيسَى فِي الثَّانِيَةِ (2) وَإِدْرِيسَ فِي الرَّابِعَةِ، وَمُوسَى فِي السَّادِسَةِ - عَلَى الصَّحِيحِ - وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ صَلَاةً وَطَوَافًا ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ جَاوَزَ مَرَاتِبَهُمْ كُلَّهُمْ حَتَّى ظَهَرَ
لِمُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، وَرُفِعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَنَبْقُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَغَشِيَهَا عِنْدَ ذَلِكَ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ أَلْوَانٌ مُتَعَدِّدَةٌ بَاهِرَةٌ وَرَكِبَتْهَا الملائكة مثل الغربان على الشجرة كَثْرَةً وَفَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ وَغَشِيَهَا مِنْ نُورِ الرب جل جلاله ورأى هناك
__________
(1) في ابن هشام: ملك من الملائكة.
(2) في الاصول لم يذكر الثالثة ولا الخامسة.
وفي ابن هشام: رأى يوسف بن يعقوب صورته كصورة القمر ليلة البدر، وفي الخامسة رأى هارون بن عمران كهلا أبيض الرأس واللحية.
(*)(3/138)
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ مَا بَيْنَ كُلِّ جَنَاحَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وهو الذي يقول الله تعالى: (لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طغى) أَيْ مَا زَاغَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا ارْتَفَعَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي حدَّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ.
وَهَذَا هُوَ الثَّبَاتُ الْعَظِيمُ وَالْأَدَبُ الْكَرِيمُ وَهَذِهِ الرُّؤْيَا الثَّانِيَةُ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَالْأُولَى هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أوحى) وَكَانَ ذَلِكَ بِالْأَبْطَحِ، تَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَادًّا عِظمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفْسِيرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَأَمَّا قَوْلُ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَقَدْ يَكُونُ مِنْ فَهْمِ الرَّاوِي فَأَقْحَمَهُ فِي الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ للآية الكريمة بل هو شئ آخَرُ غَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أُمَّتِهِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَتَئِذٍ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَخْتَلِفُ بَيْنَ موسى وبين ربه عزوجل حَتَّى وَضَعَهَا الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ إِلَى خَمْسٍ.
وَقَالَ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَحَصَلَ لَهُ التَّكْلِيمُ من الرب عزوجل ليلتئذ، وأئمة السنة
كالمطبقين على هذا، واخلفوا فِي الرُّؤْيَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ عبَّاس وَطَائِفَةٌ، وَأَطْلَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ الرُّؤْيَةَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَمِمَّنْ أَطْلَقَ الرُّؤْيَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِالرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنَيْنِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَبَالَغَ فِيهِ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ عَنْهُ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: " نورٌ أنَّى أَرَاهُ " وَفِي رِوَايَةٍ " رَأَيْتُ نوراً ".
قالوا ولم يكن رُؤْيَةُ الْبَاقِي بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى فِيمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٍ إِلَّا تَدَهْدَهَ وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلف وَالْخَلَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: ثُمَّ هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ هَبَطُوا مَعَهُ تَكْرِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَظِيمَةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْوَافِدِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ بِأَحَدٍ قَبْلَ الَّذِي طُلِبُوا إِلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ كُلَّمَا مرَّ على واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدم ذَاكَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ - هَذَا فُلَانٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهِمْ قَبْلَ صُعُودِهِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَعَرُّفٍ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً.
وممَّا يدلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فَلَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ: أَمَمْتُهُمْ.
وَلَمْ يَحِنْ وَقْتٌ إِذْ ذَاكَ إِلَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَتَقَدَّمَهُمْ إِمَامًا بِهِمْ عَنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عزوجل، فَاسْتَفَادَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ حَيْثُ كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مَحَلَّتَهُمْ وَدَارَ إِقَامَتِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ فَأَصْبَحَ بِهَا وَهُوَ فِي غَايَةِ الثَّبَاتِ(3/139)
وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ.
وَقَدْ عَايَنَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأُمُورِ الَّتِي لَوْ رَآهَا - أَوْ بَعْضَهَا - غَيْرُهُ لَأَصْبَحَ مُنْدَهِشًا أَوْ طَائِشَ الْعَقْلِ، وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْبَحَ وَاجِمًا - أَيْ سَاكِنًا - يَخْشَى إِنْ بَدَأَ فَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِمَا رَأَى أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ، فَتَلْطَّفَ بِإِخْبَارِهِمْ أَوَّلًا بِأَنَّهُ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ جَالِسٌ وَاجِمٌ.
فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ خَبَرٍ؟ فَقَالَ نَعَمْ! فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ؟ قَالَ نَعَمْ! قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ لَكَ لِتُخْبِرَهُمْ أَتُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَرَادَ أَبُو جَهْلٍ جَمْعَ قُرَيْشٍ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمْعَهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ ذَلِكَ وَيُبَلِّغَهُمْ.
فقال أبو جهل: هيا معشر قريش وقد اجتمعوا مِنْ أَنْدِيَتِهِمْ فَقَالَ أَخْبِرْ قَوْمَكَ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى وَأَنَّهُ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَصَلَّى فِيهِ، فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَبَيْنَ مُصَفِّرٍ تَكْذِيبًا لَهُ وَاسْتِبْعَادًا لِخَبَرِهِ وَطَارَ الْخَبَرُ بِمَكَّةَ وَجَاءَ النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا.
فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ فَقَالُوا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَقُولُهُ.
فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَهُ فَلَقَدْ صَدَقَ.
ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحوله مشركي قُرَيْشٍ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ فَاسْتَعْلَمَهُ عَنْ صِفَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ وَيَعْلَمُوا صِدْقَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ: فَجَعَلْتُ أُخْبِرُهُمْ عن آياته فالتبس علي بعض الشئ، فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ حَتَّى جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ وَأَنْعَتُهُ لَهُمْ.
فقال: أَمَّا الصِّفَةُ فَقَدْ أَصَابَ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِخْبَارِهِ لَهُمْ بِمُرُورِهِ بِعِيرِهِمْ وما كان من شربه مائهم، فَأَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَاسْتَنَارَتْ لَهُمُ الْمَحَجَّةُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّهِ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء: 60] أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ وَامْتِحَانًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ من الْإِسْرَاءَ كَانَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ مِنْ رُكُوبِهِ وَصُعُودِهِ فِي الْمِعْرَاجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ولهذا قال فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ) [الإسراء: 1] وَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْخَارِقَةِ فدلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْهُمَا.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا بَادَرَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَالِاسْتِبْعَادِ له إذ ليس في ذلك
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 309 عن ابن عباس، وأبو نعيم وابن مردويه من طريق قابوس عن أبيه بسند صحيح.
ونقله البيهقي في دلائله ج 2 / 363.
وأخرج البيهقي الجزء الاخير من الحديث عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: لما كذبتني قريش قمت إلى الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه.
والحديث في صحيح البخاري 63 كتاب مناقب الانصار (41) باب حديث الإسراء الحديث 3886.
(*)(3/140)
كَبِيرُ أَمْرٍ، فدلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ: ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا فِي الْحِجْرِ مَعْدُودٌ فِي غَلَطَاتِ شَرِيكٍ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ يُسَمَّى يَقَظَةً كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفِ فَكَذَّبُوهُ، قَالَ فَرَجَعْتُ مَهْمُومًا فَلَمِ اسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ حِينَ جَاءَ بِابْنِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُحَنِّكَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَدِيثِ مَعَ النَّاسِ فَرَفَعَ أَبُو أُسَيْدٍ ابْنَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجِدِ الصَّبِيَّ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا رُفِعَ فَسَمَّاهُ الْمُنْذِرَ.
وَهَذَا الْحَمْلُ أَحْسَنُ مِنَ التَّغْلِيطِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: مَا فُقِدَ جَسَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا لِقَوْلِ الْحَسَنِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً للناس) وَكَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أذبحك) وفي الحديث: " تنام عيناي (1) وَقَلْبِي يَقْظَانُ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، قَدْ جَاءَهُ، وَعَايَنَ فِيهِ مَا عَايَنَ، مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى أي حالة كَانَ نَائِمًا أَوْ يَقْظَانَ (2) كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَوَقَّفَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذلك وجوَّز كلاً من الأمرين من حديث الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ وَلَا يُتَمَارَى أَنَّهُ كَانَ يَقْظَانَ لَا مَحَالَةَ لِمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ مُقْتَضَى كَلَامِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ جَسَدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فُقِدَ وَإِنَّمَا كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ أَنْ يكون مَنَامًا كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، بَلْ قَدْ
يَكُونُ وَقَعَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ يَقْظَانُ لَا نَائِمٌ وَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَجَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وصعد السموات وَعَايَنَ مَا عَايَنَ حَقِيقَةً وَيَقَظَةً لَا مَنَامًا.
لَعَلَّ هَذَا مُرَادُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَمُرَادُ مَنْ تَابَعَهَا عَلَى ذَلِكَ.
لَا مَا فَهِمَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْمَنَامَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ وُقُوعَ مَنَامٍ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ طِبْقَ مَا وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ، فإنَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان لا يرى
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل عيني وهو تحريف.
والحديث أخرجه البخاري في كتاب التهجد 16 باب والتراويح 1 باب وكتاب المناقب باب 24.
ومسلم في كتاب صلاة المسافرين 125، وأبو داود في كتاب الطهارة 79 والترمذي في كتاب المواقيت 208 وفي كتاب الفتن 63 والموطأ في صلاة الليل 9 وأحمد في مسنده 1 / 22، 278 و 2 / 251 و 5 / 40، 50 و 6 / 36، 73، 104.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل يقظانا وهو خطأ.
والخبر في السيرة ج 2 / 40 - 41.(3/141)
رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّهُ رَأَى مِثْلَ مَا وَقَعَ لَهُ يَقَظَةً مَنَامًا قَبْلَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ والتوطئة والتثبت وَالْإِينَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ هَلْ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ كُلٌّ فِي لَيْلَةٍ عَلَى حِدَةٍ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ فِي الْيَقَظَةِ، وَالْمِعْرَاجَ فِي الْمَنَامِ.
وَقَدْ حَكَى الْمُهَلَّبُ (1) بْنُ أَبِي صُفْرَةَ فِي شَرْحِهِ الْبُخَارِيَّ عَنْ طائفة أنهم ذهبوا إلى أن الإسراء مرتين، مَرَّةٌ بِرُوحِهِ مَنَامًا، وَمَرَّةٌ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً وَقَدْ حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الفقيه.
قال السهيلي: وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْأَحَادِيثَ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ وَذَلِكَ فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا فِي الْحِجْرِ وَهَذَا مَنَامٌ.
ودلَّ غَيْرُهُ عَلَى الْيَقَظَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي تَعَدُّدَ الْإِسْرَاءِ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا أَرْبَعُ إِسْرَاءَاتٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ بَعْضَهَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ حَاوَلَ الشَّيخ شِهَابُ الدِّين أَبُو شَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُوَفِّقَ
بَيْنَ اخْتِلَافِ مَا وَقَعَ فِي روايات حديث الإسراء بالجمع المتعدد فَجَعَلَ ثَلَاثَ إِسْرَاءَاتٍ، مَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى البيت الْمَقْدِسِ فَقَطْ عَلَى الْبُرَاقِ، وَمَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إلى السماء عَلَى الْبُرَاقِ أَيْضًا لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَمَرَّةً مِنْ مكة إلى بيت المقدس ثمَّ إلى السموات (2) .
فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ صِفَاتٍ وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ فلينظر فيما جمعناه مستقصياً فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بعبده ليلا) وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا حَمَلَهُ أَنَّ التَّقْسِيمَ انْحَصَرَ فِي ثَلَاثِ صِفَاتٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وإلى السموات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كَذَلِكَ فِي الْخَارِجِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الْإِسْرَاءَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَوْتَ أَبِي طَالِبٍ فَوَافَقَ ابْنَ إِسْحَاقَ فِي ذِكْرِهِ الْمِعْرَاجَ فِي أَوَاخِرِ الْأَمْرِ، وَخَالَفَهُ فِي ذِكْرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ أخَّر ذِكْرَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى الْإِسْرَاءِ، فَاللَّهُ علم أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فرَّق بين الإسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما
__________
(1) في السهيلي: " ورأيت المهلب في شرح البخاري "، وليس هو المهلب الازدي أمير خراسان.
(2) قال صاحب الظلال في تفسير سورة الاسراء " والراجح من مجموع الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك فراشه في بيت أم هانئ إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسرى به وعرج ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد.
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الوقعة المؤكدة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسافة بين الاسراء والمعراج بالروح أو بالجسم وبين أن تكون رؤيا في المنام أو رؤيا في اليقظة..المسافة بين هذه الحالات كلا ليست بعيدة، ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة..والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الالهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئا..".
(*)(3/142)
بَابًا عَلَى حِدَةٍ فَقَالَ: بَابُ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بعبده
ليلاً) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ كُنْتُ (1) فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ المقدس فطفقت أحدثهم (2) عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ " (3) .
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ بَابُ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ.
قَالَ: " بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ - وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ - مُضْطَجِعًا (4) إِذْ أتاني آت " فقال (5) وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ " فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي مَا يعني به.
قال: من نقرة (6) نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ.
" فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ البغل وفوق الحمار أبيض " فقال الْجَارُودُ: وَهُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ!: " يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ.
فحملت عليه، فانطلق بي جبرائيل حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هذا؟ قال جبرائيل قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.
قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فنعم المجئ جَاءَ، فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فسلِّم عَلَيْهِ فسلَّمت عَلَيْهِ فردَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جبرائيل، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ [قَالَ نَعَمْ!] (7) قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فنعم المجئ جَاءَ، فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ.
قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فسلِّم عليهما فسلمت عليهما فَرَدَّا ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فاستفتح جبرائيل قيل من هذا؟ قال جبرائيل قَالَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فنعم المجئ جَاءَ، فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فسلِّم عَلَيْهِ، فسلَّمت عَلَيْهِ فردَّ ثم قال:
__________
(1) في البخاري والبيهقي: قمت.
(2) في البخاري والبيهقي: أخبرهم.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 41 باب حديث الإسراء ح 3886 فتح الباري 7 / 196 ومسلم في (1) كتاب الايمان 75 باب حديث 276 وأخرجه الترمذي في تفسير سورة الاسراء وقال: حسن صحيح.
(4) من البخاري والبيهقي، وفي الاصل مضجعا.
(5) في البخاري والبيهقي: فقد، قال: وسمعته يقول.
(6) في البخاري: ثغرة نحره، والمعنى واحد.
(7) من البيهقي.
(*)(3/143)
مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: من هذا؟ قال: جبرائيل قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا إِدْرِيسُ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فسلِّم عَلَيْهِ فسلَّمت عَلَيْهِ فردَّ، ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جبرائيل، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ! قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا هَارُونُ قَالَ هَذَا هَارُونُ فسلِّم عَلَيْهِ فسلَّمت عَلَيْهِ فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ جبرائيل قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ! قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا مُوسَى قَالَ هَذَا مُوسَى فسلِّم عَلَيْهِ، فسلَّمت عَلَيْهِ فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجنَّة مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ من يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي.
ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ.
قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ! قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا إِبْرَاهِيمُ
قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ فسلِّم عَلَيْهِ، فسلَّمت عَلَيْهِ فردَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم رفعت إلى سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ، نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، ونهران باطنان.
فقلت: ما هذا يا جبرائيل؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن قال: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ.
ثُمَّ فرض عليَّ الصلوات خمسون صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فقال بما أُمِرْتَ؟ قَالَ أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ.
قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كل يوم، وإني والله جريت النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا.
فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا.
فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا.
فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ.
قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.
قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ.
قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَانِي مُنَادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وخفَّفت عَنْ عِبَادِي ".
هَكَذَا رَوَى البخاري هذا الحديث ههنا (1) .
وَقَدْ رَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ صَحِيحِهِ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ عن
__________
(1) البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 42 باب المعراج حديث 3887 فتح الباري 7 / 301 وفي 59 كتاب بدء = (*)(3/144)
أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
وَرُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
وَمِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم.
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذِكْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَحْذِفُ بَعْضَ الْخَبَرِ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَوْ يَنْسَاهُ أَوْ يَذْكُرُ مَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ، أَوْ يَبْسُطُ تَارَةً فَيَسُوقُهُ كُلَّهُ، وَتَارَةً يحذف عن
مخاطبه بما هو الأنفع عنده.
ومن جعل كل رواية إسراد عَلَى حِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ فَقَدْ أَبْعَدَ جِدًّا.
وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ السِّيَاقَاتِ فِيهَا السلام على الأنبياء، وفي كل منها يعرفه بِهِمْ، وَفِي كُلِّهَا يُفْرَضُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ.
فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى تَعَدُّدُ ذَلِكَ؟ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) .
قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القِران.
قَالَ: هي شجرة الزقوم (1) .
فَصْلٌ وَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ جَاءَهُ جبرائيل عِنْدَ الزَّوَالِ فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتَهَا، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه فاجتمعوا وصلى به جبرائيل فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الْغَدِ وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بالنَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْتَدِي بجبرائيل كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وجابر: " أمني جبرائيل عند البيت مرتين ".
فبين له الوقتين الأول والآخر، فهما وَمَا بَيْنَهُمَا الْوَقْتُ الْمُوَسَّعُ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَوْسِعَةً فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ.
وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَبُرَيْدَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَكُلُّهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
وَمَوْضِعُ بَسْطِ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْأَحْكَامِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَأَمَّا ما ثبت في صحيح البخاري عَنْ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ (2) .
وَكَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا وَهَذَا مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ أنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَكَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
__________
= الخلق 6 باب ومسلم في 1 كتاب الايمان 74 باب ح 264 والترمذي في أول تفسير سورة الاسراء والنسائي في قيام الليل وأحمد في مسنده 3 / 148 - 248.
(1) أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة الاسراء (9) باب ح 4716 فتح الباري 8 / 398.
الزقوم: وهي فعول من الزقم اللقم الشديد، والشراب المفرط، وشجرة الزقوم وصفها الله في كتابه العزيز
فقال: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشياطين) .
وقيل أكل الزبد والتمر بلغة أفريقيا: الزقوم.
(النهاية لابن الأثير) .
(2) أخرجه البخاري في أول كتاب الصلاة، وابن خزيمة 1 / 156 والبيهقي في السنن الكبرى 1 / 362 ومسلم في صلاة المسافرين الحديث 3 ص 478.
(*)(3/145)
جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء: 101] .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ (1) : وَقَدْ ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ أَرْبَعًا كَمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا مِنْ صِلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ.
وَالصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيهِمَا.
قُلْتُ: فَلَعَلَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ تَكُونُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ (2) ثُمَّ لَمَّا فُرِضَتِ الْخَمْسُ فُرِضَتْ حَضَرًا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَرُخِّصَ فِي السَّفَرِ أَنَّ يُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى إِشْكَالٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ [فِي] انْشِقَاقِ الْقَمَرِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وجعل الله له آية على صَدَقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ حَيْثُ كان ذلك وقت إِشَارَتِهِ الْكَرِيمَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا واتعبوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) [القمر: 1 - 3] وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ مَنْ أَحَاطَ بِهَا وَنَظَرَ فِيهَا.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَدْ تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ فَذَكَرْنَا الطُّرُقَ وَالْأَلْفَاظَ مُحَرَّرَةً، وَنَحْنُ نُشِيرُ ههنا إِلَى أَطْرَافٍ مِنْ طُرُقِهَا وَنَعْزُوهَا إِلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ.
وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا أَنَسٌ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم آيَةً، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ (3) .
فَقَالَ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعة وانشقَّ الْقَمَرُ) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَهَذَا مِنْ مُرْسَلَاتِ
__________
(1) دلائل النبوة ج 2 / 407.
(2) وقال البيهقي في السنن الكبرى 1 / 362: ففي هذا الحديث وما روي في معناه دليل على أنَّ ذلك كان بمكة بعد المعراج، وأن الصلوات الخمس فرضت حينئذ بأعدادهن، وقد ثبت ذلك عن عائشة - رضي الله عنها - خلاف ذلك.
(3) مسند أحمد ج 1 / 377، 413، 447 و 3 / 275 و 4 / 82.
ومسلم في صحيحه في 50 كتاب المنافقين (8) باب انشقاق القمر ج 4 / 2159.
(*)(3/146)
الصَّحَابَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ عَنِ الجمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَنِ الْجَمِيعِ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ.
زَادَ الْبُخَارِيُّ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَزَادَ مُسْلِمٌ وَشُعْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (1) .
وَأَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ [عَنْ أَبِيهِ] .
قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً عَلَى هَذَا الْجَبَلِ، وَفِرْقَةً عَلَى هَذَا الْجَبَلِ.
فَقَالُوا: سَحَرَنَا محمَّد، فَقَالُوا إِنْ كَانَ سَحَرَنَا فإنَّه لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاس كُلَّهُمْ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ وَغَيْرِهِ عَنْ حُصَيْنٍ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَهُشَيْمٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِهِ (2) ، فَزَادَ رَجُلًا فِي الْإِسْنَادِ.
وأما حذيفة بن اليمان: فروى أبو نعيم في الدَّلائل (3) من طريق عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائب، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ.
قَالَ: خَطَبَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بِالْمَدَائِنِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (اقتربت الساعة وانشق الْقَمَرُ) أَلَا وإنَّ السَّاعة قَدِ اقْتَرَبَتْ، أَلَا وإنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقٍ، أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارُ وَغَدًا السِّبَاقُ.
فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الْجُمُعَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ مِثْلَهُ وَزَادَ: أَلَا وَإِنَّ السَّابِقَ مَنْ سَبَقَ إليّ الجمعة.
فَلَمَّا كُنَّا فِي الطَّرِيقِ قُلْتُ لِأَبِي مَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ - غَدًا السِّبَاقُ.
قَالَ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ (4) حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنْ جعفر [بن ربيعة] ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: إِنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ فِي زَمَانِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بَكْرٍ - وَهُوَ ابْنُ مضر (5) - عن جعفر قَوْلُهُ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعة وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) .
__________
(1) أخرجه البخاري في 61 كتاب المناقب 27 باب حديث 3627 فتح الباري 6 / 631 وفي 63 كتاب المناقب 36 باب فتح الباري 7 / 183 وفتح الباري 8 / 617 ومسلم في 50 كتاب المنافقين 8 باب انشقاق القمر حديث (43 - 47 - 48) .
(2) دلائل النبوة ج 2 / 268.
(3) لم أجده في دلائل أبي نعيم المطبوع، وفيها روايات آخر عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس راجع الصفحات (233 - 236.
) (4) من البخاري فتح الباري 8 / 499 وفي الاصل كثير وهو تحريف.
(5) من البخاري: فتح الباري 8 / 499 وفي الاصل ونسخ البداية المطبوعة نصر وهو تحريف.
(*)(3/147)
قَالَ: قَدْ مَضَى ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ انشقَّ الْقَمَرُ حَتَّى رَأَوْا شِقَّيْهِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ مُرْسَلَاتِهِ (1) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سهيل حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بن عبد الرحمن عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعة وانشقَّ القمر) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ بن عبد يغوث، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ [بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى] ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُظَرَاؤُهُمْ [كثير] (2) .
فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ نِصْفًا عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنِصْفًا عَلَى قُعَيْقِعَانَ (3) .
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ فَعَلْتُ تُؤْمِنُوا؟ " قَالُوا نَعَمْ! وَكَانَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ - فسأل الله عزوجل أَنْ يُعْطِيَهُ مَا سَأَلُوا، فَأَمْسَى الْقَمَرُ قَدْ سلب (4) نِصْفًا عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنِصْفًا عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي يَا أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ وَالْأَرْقَمَ بن الْأَرْقَمِ اشْهَدُوا.
ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ.
وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ (5) ، حدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرازي، عن الهيثم بن العمان، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: انْتَهَى أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَلْ مِنْ آيَةٍ نَعْرِفُ بها أنك رسول الله؟ فهبط جبرائيل فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آيَةً إِنِ انْتَفَعُوا بِهَا.
فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمقالة جبرائيل فَخَرَجُوا لَيْلَةَ الشَّقِّ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ نِصْفَيْنِ نِصْفًا عَلَى الصَّفَا وَنِصْفًا عَلَى الْمَرْوَةِ فَنَظَرُوا، ثُمَّ قَالُوا بِأَبْصَارِهِمْ فَمَسَحُوهَا، ثُمَّ أَعَادُوا النَّظَرَ فَنَظَرُوا ثُمَّ مَسَحُوا أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ نَظَرُوا.
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا هَذَا إِلَّا سحر واهب فأنزل الله: (اقتربت الساعة وانشق القمر) .
ثم روى الضحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: جَاءَتْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَرِنَا آيَةً حَتَّى نُؤْمِنَ بِهَا، فسأل ربه فأراهم القمر قد انشقّ بجزئين، أَحَدُهُمَا عَلَى الصَّفَا وَالْآخَرُ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَدْرَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ثم غاب.
فقالوا: هذا سحر مفترى.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبرانيّ: حدَّثنا أَحْمَدُ بن عمرو الرزاز، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدَّثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: كُسف الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَقَالُوا سَحَرَ الْقَمَرَ فنزلت: (اقتربت
__________
(1) البخاري في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة القمر 1 باب ح 4866 فتح الباري 8 / 499 ومسلم في 50 كتاب
المنافقين 8 باب حديث 48.
(2) ما بين معكوفين من دلائل النبوة لابي نعيم ص 234.
(3) أبو قبيس وقعيقعان جبلا مكة.
(4) في دلائل أبي نعيم: قد مثل نصفا.
(5) لا أثر للحديث في دلائل أبي نعيم المطبوع.
(*)(3/148)
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مستمر) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ وَفِيهِ أَنَّهُ كَسَفَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَعَلَّهُ حَصَلَ لَهُ انْشِقَاقٌ فِي لَيْلَةِ كُسُوفِهِ وَلِهَذَا خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أهل الْأَرْضِ وَمَعَ هَذَا قَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُرِّخَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَبُنِيَ بِنَاءٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأُرِّخَ بِلَيْلَةِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو العبَّاس الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا العبَّاس بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ.
قَالَ مُسْلِمٌ كَرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (1) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم شِقَّتَيْنِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْهَدُوا.
وهكذا أخرجاه من حديث سفيان - وهو بن عُيَيْنَةَ - بِهِ.
وَمِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عن عبد الله بن سمرة عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشْهَدُوا " وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ.
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (2) .
ثم قال البخاري وقال أبو الضحاك عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - بِمَكَّةَ - وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) .
وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدِيثَ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ.
قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ.
فَقَالُوا: انْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السُّفار؟ فإنَّ محمَّداً لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاس كلَّهم.
قَالَ فَجَاءَ السُّفار فَقَالُوا ذَلِكَ (4) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ حَتَّى صَارَ فِرْقَتَيْنِ.
فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِأَهْلِ مَكَّةَ (5) : هَذَا سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، انْظُرُوا السُّفَّارَ فَإِنْ كَانُوا رَأَوْا مَا رَأَيْتُمْ فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْتُمْ فَهُوَ سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ.
قَالَ فسئل السُّفار، قال - وقدموا من
__________
(1) دلائل النبوة ج 2 / 267 ومسلم في (50) كتاب المنافقين عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شعبة عن الأعمش عن مجاهد عمر ابن عمر.
ومن طريق شعبة عن أبي معمر عن ابن مسعود ج 4 / 2159.
(2) هذا ليس بلفظ البخاري.
(3) البخاري في 65 كتاب التفسير (1) باب وانشق القمر فتح الباري 8 / 499 وفي 61 كتاب المناقب 27 باب وفي 63 كتاب مناقب الانصار 26 باب.
فتح الباري 7 / 182.
(4) أنظر الحاشية السابقة.
(5) في دلائل البيهقي ج 2 / 266: فقال كفار أهل مكة، ورواه أبو نعيم في دلائله ص 234.
(*)(3/149)
كل وجهة - فقالوا: رأينا.
وهكذا رواه أبو نعيم: من حديث جابر، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنِ مَسْعُودٍ -.
قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم حَتَّى رَأَيْتُ الْجَبَلَ بَيْنَ فُرْجَتَيِ الْقَمَرِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ عَنْ سِمَاكٍ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حدَّثنا أَبُو بَكْرٍ الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْوَادِعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين، فِرْقَةٌ خَلْفَ الْجَبَلِ.
فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشْهَدُوا، اشْهَدُوا " وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، ثَنَا اللَّيث بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: انشقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَ شِقَّيْهِ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي بِمِنًى وَنَحْنُ بِمَكَّةَ.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن إسحاق، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا محمد بن حاتم، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ فَرَأَيْتُهُ فِرْقَتَيْنِ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: رَأَيْتُ الْقَمَرَ وَاللَّهِ مُنْشَقًّا بِاثْنَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حِرَاءُ.
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس.
قَالَ: انشقَّ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ.
فِلْقَةٌ ذَهَبَتْ، وَفِلْقَةٌ بَقِيَتْ.
قَالَ ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء بين فلقتي القمر، فذهب فِلْقَةٌ.
فَتَعَجَّبَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا هَذَا سِحْرٌ مَصْنُوعٌ سَيَذْهَبُ.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لأبي بكر: " فاشهد يَا أَبَا بَكْرٍ " وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: سَحَرَ الْقَمَرَ حَتَّى انْشَقَّ.
فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَوِيَّةُ الْأَسَانِيدِ تُفِيدُ الْقَطْعَ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا وَعَرَفَ عَدَالَةَ رِجَالِهَا.
وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ القصَّاص مِنْ أنَّ الْقَمَرَ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ حتَّى دَخَلَ فِي كُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مِنَ الْكُمِّ الْآخَرِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَرًى لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَالْقَمَرُ حِينَ انْشَقَّ لَمْ يُزَايِلِ السَّماء غَيْرَ أَنَّهُ حِينَ أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْشَقَّ عَنْ إِشَارَتِهِ فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فَسَارَتْ وَاحِدَةٌ حَتَّى صَارَتْ مِنْ وَرَاءِ حِرَاءَ، وَنَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ.
وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ: فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ فِيهِ نَظَرٌ، والظَّاهر أنَّه أَرَادَ فِرْقَتَيْنِ (1) والله أعلم.
__________
(1) علق ابن حجر في فتح الباري على قول ابن كثير قال: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات، ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور ولفظه: فصار فرقتين: فرقة علت * وفرقة للطود منه نزلت وذاك مرتين بالاجماع * والنص والتواتر والسماع
فجمع بين قوله: فرقتين وبين قوله: مرتين، فيمكن أن يتعلق قوله بالاجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد أ.
هـ - فتح الباري 7 / 183.
(*)(3/150)
فَصْلٌ [فِي] وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمَّ مِنْ بَعْدِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقِيلَ بَلْ هِيَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَهُ والمشهور الأول.
وهذان المشفقان، هذا فِي الظَّاهِرِ وَهَذِهِ فِي الْبَاطِنِ، هَذَاكَ كَافِرٌ وَهَذِهِ مُؤْمِنَةٌ صِدِّيقَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ خَدِيجَةَ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَصَائِبُ بِهُلْكِ خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الابتلاء (1) يَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَبِهُلْكِ عمِّه أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي أَمْرِهِ، وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَى قَوْمِهِ.
وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا.
فَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ فَقَامَتْ إِلَيْهِ إحدى بناته تَغْسِلُهُ وَتَبْكِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ " وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ: " مَا نالت مني (2) قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ".
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَبْلَ ذَلِكَ: أَنَّ أَحَدَهُمْ ربما طرح الأذى في برمته إِذَا نُصِبَتْ لَهُ.
قَالَ فَكَانَ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عن عروة يخرج بذلك الشئ على العود فيقذفه على بابه ثم يقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطَّريق.
قال ابن إسحاق: ولما اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ وَبَلَغَ قُرَيْشًا ثِقَلُهُ قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: إِنَّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ وَلْيُعْطِهِ مِنَّا، فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا أَمْرَنَا (3) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ [بْنِ عبَّاس] عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَكَلَّمُوهُ - وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ..فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَادْعُهُ فَخُذْ لَنَا مِنْهُ، وَخُذْ لَهُ مِنَّا لِيَكُفَّ عَنَّا وَلِنَكُفَّ عَنْهُ، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه.
__________
(1) في ابن هشام: على الاسلام يشكو إليها.
(2) من ابن هشام 2 / 58: وفي الاصل: ما نالتني.
(3) أي يغلبونا عليه ويسلبونا إياه.
(*)(3/151)
فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا إليك لِيُعْطُوكَ وَلِيَأْخُذُوا مِنْكَ.
قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " نَعَمْ (1) كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تعطونها تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ ".
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ وَأَبِيكَ، وَعَشْرَ كَلَمَّاتٍ.
قَالَ: " تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دونه ".
فَصَفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ.
ثمَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً؟ ! إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
قَالَ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ يَا ابْنَ أَخِي، مَا رَأَيْتُكَ سَأَلْتَهُمْ شَطَطًا.
قَالَ: فَطَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَجَعَلَ يقول له: " أي عمْ، فأنت قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة " فَلَمَّا رَأَى حِرْصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ السُّبَّةِ عَلَيْكَ وَعَلَى بَنِي أَبِيكَ مِنْ بَعْدِي، وَأَنْ تَظُنَّ قُرَيْشٌ أَنِّي إِنَّمَا قُلْتُهَا جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ لَقُلْتُهَا، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لِأَسُرَّكَ بِهَا.
قَالَ: فَلَمَّا تَقَارَبَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْتُ نَظَرَ الْعَبَّاسُ إِلَيْهِ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ بِأُذُنِهِ، قَالَ فَقَالَ: يَا بان أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ التِي أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَهَا.
قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " لَمْ أَسْمَعْ " قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الرَّهْطِ: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشقاق) [ص: 1 - 2]
الْآيَاتِ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ إلى أن أبا طالب مات مسلما يقول الْعَبَّاسِ هَذَا الْحَدِيثَ، يَا ابْنَ أَخِي، لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ التِي أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَهَا - " يَعْنِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ فِي السَّنَدِ مبهماً لا يعرف حاله وهو قول عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ وَهَذَا إِبْهَامٌ فِي الِاسْمِ وَالْحَالِ، وَمِثْلُهُ يُتَوَقَّفُ فِيهِ لَوِ انْفَرَدَ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ حدَّثنا عَبَّادٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْعَبَّاسِ.
وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ الْكُوفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ بِغَيْرِ زِيَادَةِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا (3) .
وَلَفْظُ الْحَدِيثِ مِنْ سِيَاقِ الْبَيْهَقِيِّ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ وجاء النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم عند رأس أبي طالب، فجلس رَجُلٍ (4) فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ ذَاكَ.
وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ.
فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: " يَا عم إنما أريد
__________
(1) في الاصل وبعض نسخ ابن هشام: يا عم.
(2) الخبر في سيرة ابن هشام 2 / 59، والخبر نقله البيهقي عن ابن إسحاق في الدلائل ج 2 / 345، وانظر تفسير ابن كثير - تفسير سورة ص.
(3) أخرجه التِّرمذي في 48 كتاب التفسير 39 باب ومن سورة ص ح 3232.
(4) في دلائل البيهقي 2 / 345 وردت العبارة: وعند رأس أبي طالب مجلس رجل.
(*)(3/152)
مِنْهُمْ كَلِمَةً تَذِلُّ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْجِزْيَةَ الْعَجَمُ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ ".
قَالَ: ماهي؟ قَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " قَالَ فَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لشئ عُجَابٌ! قَالَ: وَنَزَلَ فِيهِمْ: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) الآيات إلى قوله: (إِلَّا اختلاق) [ص: 1 - 7] ثُمَّ قَدْ عَارَضَهُ - أَعْنِي سِيَاقَ ابْنِ إِسْحَاقَ - مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا رواه البخاري قائلاً: حدثنا
محمود [بن غيلان] حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ.
فَقَالَ: " أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ".
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: " لأستغفر لَكَ مَا لَمْ أُنهَ عَنْكَ " فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التَّوْبَةِ: 112] وَنَزَلَتْ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدٍ الله عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (2) .
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ بِنَحْوِهِ وَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ آخَرَ مَا قال: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " أَمَا لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنهَ عَنْكَ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ - يَعْنِي بَعْدَ ذَلِكَ -: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) وَنَزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وهكذا روى الإمام أحمد ومسلم والتِّرمذي والنسائي مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ: " يَا عَمَّاهُ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيَّرَنِي قُرَيْشٌ يقولون ما حمله عليه إلا فزع (3) الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، وَلَا أَقُولُهَا إِلَّا لأقر بها عينك.
فأنزل الله عزوجل: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56] وَهَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَبَى أَنْ يَقُولَهَا، وَقَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ الْأَشْيَاخِ وَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا كُلَّهُ مَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حدثنا يحيى [بن محمد بن يَحْيَى] ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عمير حدثني عبد الله بن الحارث [بن
__________
(1) وهو الْمُسَيِّبِ بْنُ حَزْنُ بْنُ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عائذ بن عمران بن مخزوم والد سعيد بن المسيب.
(2) أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير تفسير سورة التوبة 16 باب فتح الباري 8 / 341 وفي تفسير سورة القصص (1) باب فتح الباري 8 / 506 وفي 7 / 193 ومسلم في (1) كتاب الايمان (9) باب ح 40 صفحة 1 / 54.
(3) في مسلم: جزع بالجيم والزاي ومعناه الخوف وقال أبو عبيد: الخرع بالخاء والراء: يعني الضعف والخور.
(*)(3/153)
نوفل] قال: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: قَلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: " [هُوَ] فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ [مِنَ النَّارِ] " (1) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ عن عبد الملك بن عمير به [و] أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث حدَّثني [يزيد] ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ: " لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ " لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ " تَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ " وَرَوَى مُسْلِمٌ: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ " وَفِي مَغَازِي يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ " يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ حَتَّى يَسِيلَ عَلَى قَدَمَيْهِ " ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عمرو - هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ - حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قِيلَ لَهُ - هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ؟ قَالَ: " أَخْرَجْتُهُ مِنَ النَّارِ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا " تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ العباس أخيه أَنَّهُ قَالَ الْكَلِمَةَ وَقَالَ: " لَمْ أَسْمَعْ " لِأَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ إِذْ ذَاكَ كَافِرًا غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ الْخَبَرَ بِذَلِكَ مَا صَحَّ لِضَعْفِ سَنَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وممَّا يدلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فذكر له ما تقدم، وبتعليل صِحَّتِهِ لَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَلَكِ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبِي أَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَقُلْتُ إنَّ عَمَّكَ قَدْ تُوُفِّيَ.
فَقَالَ: " اذْهَبْ فَوَارِهِ " فَقُلْتُ إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا، فَقَالَ: " اذهب فواره ولا تحدثن شيئاً حتى تأتي " ففعلت فأتيته، فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شعبة.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ فَمَنْ يُوَارِيهِ؟ قَالَ: " اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ دَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لي بهن ما على الأرض من شئ (3) .
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، حدثنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده 1 / 206 و 3 / 9، 50، 55.
(2) وأخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان ح 360 ص 1 / 195.
(3) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، والامام أحمد في مسنده 1 / 97، 103، 130، 131 وابن خزيمة في صحيحه (*)(3/154)
مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاد (1) من جِنَازَةَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: " وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، وَجُزِيتَ خَيْرًا يَا عَمِّ ".
قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ الْهَوْزَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَزَادَ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ.
قَالَ: وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا هُوَ الْخُوَارِزْمِيُّ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
قُلْتُ: قَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ (2) وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبِيكَنْدِيُّ (3) ، وَمَعَ هَذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَأَحَادِيثُهُ عَنْ كُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ لَيْسَتْ بِمُسْتَقِيمَةٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ أَبُو طَالِبٍ مِنَ الْمُحَامَاةِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُمَانَعَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّفْعِ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَمَا قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنَ الْمَوَدَّةِ
وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ فِي أَشْعَارِهِ التِي أَسْلَفْنَاهَا وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعَيْبِ والتنقيص لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ الْهَاشِمِيَّةِ الْمُطَّلِبِيَّةِ التِي لَا تُدَانَى وَلَا تُسَامَى، وَلَا يُمْكِنُ عَرَبِيًّا مُقَارَبَتُهَا وَلَا مُعَارَضَتُهَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ قَلْبُهُ.
وَفَرْقٌ بَيْنَ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أنفسهم) .
وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) وَقَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهُمْ ينهون عنه وينأون عنه) إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ أَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْأَى هُوَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَعَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُمْ يَنْهَونَ النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ - وَتَوْجِيهُهُ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ سِيقَ لِتَمَامِ ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عن اتباعه وَلَا يَنْتَفِعُونَ هُمْ أَيْضًا بِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إذا جاؤك يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ
__________
(1) في دلائل البيهقي 2 / 349: عارض جنازة أبي طالب.
(2) السيناني: نسبة إلى سينان إحدى قرى مرو، كان من أقران ابن المبارك في السن والعلم ولد سنة 115 هـ ومات سنة 191.
(3) البيكندي: نسبة إلى بيكند بلدة بين بخارى وجيحون، مقبول من الحادية عشرة.
تقريب التهذيب 2 / 294 / 168.
(*)(3/155)
يهلكون إلا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ) وهذا اللفظ وهو قوله (وهم) يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام وقوله: (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الذَّمِّ.
وَأَبُو طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ بَلْ كَانَ يَصُدُّ النَّاسَ عَنْ أَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ فِعَالٍ وَمَقَالٍ، وَنَفْسٍ وَمَالٍ.
وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يقدِّر اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ الْبَالِغَةِ الدَّامِغَةِ التِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَالتَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَوْلَا مَا نَهَانَا اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ لَاسْتَغْفَرْنَا لِأَبِي طَالِبٍ وَتَرَحَّمْنَا عليه (1) .
فصل موت خديجة بنت خويلد وذكر شئ من فضائلها ومناقبها رضي الله عنه وَأَرْضَاهَا، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهَا وَمَثْوَاهَا.
وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ بِخَبَرِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ حَيْثُ بشَّرها بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حدَّثنا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَقَدْ كَانَتْ خَدِيجَةُ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَاتَتْ خَدِيجَةُ وَأَبُو طَالِبٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَوْتِ أبي طالب بثلاثة أيام.
ذكره عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ، وَشَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ خَدِيجَةَ وَأَبَا طَالِبٍ مَاتَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ عَامَ خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ، وَأَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَبِي طَالِبٍ بخمس وثلاثين ليلة (2) .
__________
(1) أنظر في موت أبي طالب: سيرة ابن هشام ج 1 / 26 - 27 ابن سعد 1 / 141 الروض الآنف 1 / 258 ونهاية الارب للنويري 16 / 277 السيرة الحلبية 1 / 466 والسيرة الشامية 2 / 563.
(2) في وفاة خديجة ذكر ابن سعد في الطبقات أكثر من رواية وبأسانيد مختلفة قال: عن محمد بن عمر عن عبد محمد بن صالح: توفيت خديجة لعشر خلون من شهر رمضان وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين وهي يومئذ بنت
خمس وستين سنة.
وعن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.
وعن حكيم بن حزام روى موسى بن عقبة قال قال أبو حبيبة مولى الزبير سمعت حكيم يقول: توفيت خديجة في شهر رمضان سنة عشر من النبوة وهي يومئذ بنت خمس وستين ودفناها بالحجون وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حفرتها وذلك قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها وبعد خروج بني هاشم من الشعب ولم تكن سنة الجنازة الصلاة عليها.
= (*)(3/156)
قُلْتُ: مُرَادُهُمْ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ بِنَا أَنْ نَذْكُرَ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ أَخَّرْنَا ذَلِكَ عَنِ الْإِسْرَاءِ لِمَقْصِدٍ سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فإن الكلام به ينتظم ويتسق الباب كَمَا تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزَوَانَ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ: أتى جبرائيل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ - أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ - فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِهِ (1) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حدَّثنا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ.
قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الله بن أبي أوفى: بشَّر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم خَدِيجَةَ؟ قَالَ نَعَمْ! بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا بشَّرها بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ - يَعْنِي قَصَبَ اللُّؤْلُؤِ - لِأَنَّهَا حَازَتْ قَصَبَ السَّبْقِ إِلَى الْإِيمَانِ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْفَعْ صَوْتَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تتبعه يَوْمًا مِنَ الدَّهر فَلَمْ تَصْخَبْ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَا آذَتْهُ أَبَدًا.
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ.
وَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي - لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ الله أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ
قَصَبٍ.
وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ.
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَفِي لَفْظٍ عَنْ عَائِشَةَ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ مِنْ كَثْرَةِ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياها.
وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه - أو جبرائيل - أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ (2) .
وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ - وَمَا رَأَيْتُهَا - وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ فيقطعها أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ.
فَرُبَّمَا قلت كأنَّه لم يكن في
__________
= وقال البلاذري في الانساب 1 / 186 عن عروة: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة وروى البيهقي عن الزهري: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَبْلَ أن تفرض الصلاة.
وقاله البخاري عن عروة.
وقال بعضهم: ماتت قبل الهجرة بخمس سنين، قال البلاذري: وهو غلط.
وكانت خديجة رضي الله عنها أَوَّلَ امْرَأَةٍ تزوَّجها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأولاده كلهم منها غير إبراهيم بن مارية، وكانت وزيرة صدق للنبي صلى الله عليه وسلَّم وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة وكانت تكنى أم هند بولدها من زوجها أبي هالة.
(1) البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 20 باب حديث 3820 فتح الباري 7 / 133 ومسلم في 44 كتاب فضائل الصحابة 12 باب ح 71 ص 1887.
(2) البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 20 باب ح 3817 فتح الباري 7 / 133 ومسلم في فضائل الصحابة (44) حديث 71 - 72 - 73.
والامام أحمد في مسنده 6 / 58، 202، 279.
(*)(3/157)
الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةَ فَيَقُولُ: " إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ " ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ فقال: " اللهم هالة ".
[قالت] فَغِرْتُ فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ [قَدْ] (1) أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا.
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهِ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ خَيْرٌ مِنْ خَدِيجَةَ إِمَّا فضلاً وإما عشرةً.
إذا
لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا وَلَا رَدَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ أَبُو عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ - هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ - عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَدِيجَةَ فَأَطْنَبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فَأَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ لَقَدْ أَعْقَبَكَ اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ.
قال فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تغيراً لم أره تغير عند شئ قَطُّ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ أَوْ عِنْدَ المخيلة حتى يعلم رحمةً أو عذاباً.
وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ وَعُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمٍ كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ.
وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ الأول.
قال: قال فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ تَمَعُّرًا مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ أَوْ عِنْدَ الْمَخِيلَةِ حَتَّى ينظر رحمة أَوْ عَذَابًا.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ جيد.
وقال الإمام أحمد أيضاً عن ابن إسحاق أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ.
قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ.
قَالَتْ فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ ما تذكرها حمراء الشدقين قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا.
قَالَ: " مَا أبدلني الله خيراً منها، وقد آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَقَتْنِي إذ كذبنني، وآستني بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.
وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَمُجَالِدٌ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مُتَابَعَةً وَفِيهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَعَلَّ هَذَا أَعْنِي قَوْلَهُ: وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ.
كَانَ قَبْلَ أن يولد إبراهيم بن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ مَارِيَةَ، وقبل مقدمها بالكلية وهذ معين.
فَإِنَّ جَمِيعَ أَوْلَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي مِنْ خَدِيجَةَ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَفْضِيلِ خَدِيجَةَ عَلَى عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وَتَكَلَّمَ آخَرُونَ فِي إِسْنَادِهِ وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ خَيْرًا عِشْرَةً وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَوْ ظاهر.
وسببه أن عائشة تمت بِشَبَابِهَا وَحُسْنِهَا وَجَمِيلِ عِشْرَتِهَا، وَلَيْسَ مُرَادُهَا بِقَوْلِهَا قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا أَنَّهَا تُزَكِّي نَفْسَهَا وَتُفَضِّلُهَا عَلَى خَدِيجَةَ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مرجعه إلى الله عزوجل كَمَا قَالَ (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32] وَقَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [النساء: 49] الْآيَةَ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَقَعَ النزاع فيها بين
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من الاصل، على عادة ابن كثير في نقله، واستدركت من البخاري.
(*)(3/158)
العلماء قديماً وحديثاً وبجانبها طرقاً يقتصر عليها أهل الشيع وَغَيْرُهُمْ لَا يَعْدِلُونَ بِخَدِيجَةَ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ لِسَلَامِ الرَّبِّ عَلَيْهَا، وَكَوْنِ وَلَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعِهِمْ - إِلَّا إِبْرَاهِيمَ مِنْهَا.
وَكَوْنِهِ لَمْ يتزوَّج عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ إِكْرَامًا لها، وتقدير إِسْلَامِهَا، وَكَوْنِهَا مِنَ الصدِّيقات وَلَهَا مَقَامُ صِدْقٍ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ.
وَبَذَلَتْ نَفْسَهَا وَمَالَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلُو أَيْضًا وَيُثْبِتُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ تَحْمِلُهُمْ قُوَّةُ التَّسَنُّنِ عَلَى تَفْضِيلِ عَائِشَةَ لِكَوْنِهَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلِكَوْنِهَا أَعْلَمَ مِنْ خَدِيجَةَ فإنَّه لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ مِثْلُ عَائِشَةَ فِي حِفْظِهَا وَعِلْمِهَا وَفَصَاحَتِهَا وَعَقْلِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الرسول يُحِبُّ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ كَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا وَنَزَلَتْ براءتها من فوق سبع سموات وَرَوَتْ بَعْدَهُ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمًا جَمًّا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ حَتَّى قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ " خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ " (1) (وَالْحُقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَوْ نَظَرَ النَّاظِرُ فِيهِ لَبَهَرَهُ وَحَيَّرَهُ، وَالْأَحْسَنُ التَّوَقُّفُ فِي ذَلِكَ إلى الله عزوجل.
وَمَنْ ظَهَرَ لَهُ دَلِيلٌ يَقْطَعُ بِهِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ فِي هَذَا الْبَابِ فَذَاكَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَمَنْ حَصَلَ لَهُ تَوَقُّفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا فَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ وَالْمَسْلَكُ الْأَسْلَمُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ " (2) أَيْ خَيْرُ زَمَانِهِمَا.
وَرَوَى شُعْبَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ، مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ.
وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " (3) رَوَاهُ ابْنُ مردويه في
__________
(1) قال القاري في الموضوعات الصغرى: لا يعرف له أصل.
قال ابن القيم الجوزية في المنار المنيف ص 60 وكل حديث فيه " يا حميراء " أو ذكر حميراء فهو كذب مختلق.
والحميراء تصغير حمراء بمعنى بيضاء اللون مشرب بياضها بحمرة، والعرب تسمي الرجل الابيض: أحمر والمرأة حمراء.
وقال القرطبي صاحب الفهم: والعرب تطلق على الابيض الاحمر: كراهة اسم البياض لكونه يشبه البرص.
قال المزي: كل حديث فيه يا حميراء فهو موضوع إلا حديثا عند النسائي، وقال ابن حجر نحوه في فتح الباري.
وهذا الحصر من هذين الحافظين غير سديد، فقد ورد ذكر الحميراء في حديثين آخرين.
روى الحاكم 3 / 119 في مستدركه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: انظري يا حميراء..قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب اللدنية 7 / 216 بعد ذكر حديث القسطلاني حديث أم سلمة هذا من رواية الحاكم والبيهقي.
حديث صحيح.. (2) تقدم تخريجه فليراجع.
(3) تقدم تخريجه فليراجع.(3/159)
تَفْسِيرِهِ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى شُعْبَةَ وَبَعْدَهُ.
قالوا والقدر المشترك بين الثَّلَاثِ نِسْوَةٍ، آسِيَةَ وَمَرْيَمَ وَخَدِيجَةَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ كَفَلَتْ نَبِيًّا مُرْسَلًا وَأَحْسَنَتِ الصُّحْبَةَ فِي كَفَالَتِهَا وَصَدَّقَتْهُ فَآسِيَةُ رَبَّتْ مُوسَى وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهِ وَصَدَّقَتْهُ حِينَ بُعِثَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا أَتَمَّ كَفَالَةٍ وَأَعْظَمَهَا وَصَدَّقَتْهُ حِينَ أُرْسِلَ.
وَخَدِيجَةُ رَغِبَتْ فِي تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَبَذَلَتْ فِي ذَلِكَ أَمْوَالَهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَصَدَّقَتْهُ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ الله عزوجل.
وَقَوْلُهُ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.
وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " وَالثَّرِيدُ هُوَ الْخَبْزُ وَاللَّحْمُ جَمِيعًا وَهُوَ أَفْخَرُ طَعَامِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعراء: إِذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ * فَذَاكَ، أَمَانَةَ اللَّهِ الثريد
ويحمل قَوْلُهُ " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ " أَنْ يَكُونَ محفوظاً فَيَعُمُّ النِّسَاءَ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرَهُنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيمَا عَدَاهُنَّ وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِيهَا وَفِيهِنَّ موقوف يحتمل التسوية بينهن فيحتاج من رجح وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهَا إِلَى دَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي تَزْوِيجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بَعْدَ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -[بِعَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (1) وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَائِشَةَ تَزَوَّجَهَا أولاً كما سَيَأْتِي.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ تَزْوِيجِ عَائِشَةَ * حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ.
فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ إِنْ كان هَذَا (2) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " قَالَ الْبُخَارِيُّ بَابُ نِكَاحِ الْأَبْكَارِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا غَيْرَكِ * حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرَةً لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا فِي أَيُّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بِعِيرَكَ؟ قَالَ: " فِي التِي (3) لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا " تَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يتزوج بكراً غيرها.
انفرد
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من الاصل، واستدركت من سيرة ابن كثير.
(2) في كتاب المناقب ج 4 / 252 (دار الفكر) .
وفيه: إن يك هذا، وقوله: ويقول: أي جبريل.
(3) في كتاب النكاح فتح الباري ج 9 / 98 وفيه: الذي بدل التي.
(*)(3/160)
بِهِ الْبُخَارِيُّ ثُمَّ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " أريتك في المنام فيجئ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَقَالَ لِي هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ فإذا أنت هي، فقلت إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " (1) وَفِي رِوَايَةٍ " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ " وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَهُ بِصُورَتِهَا فِي خِرْقَةٍ
مِنْ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَقَالَ هَذِهِ زَوْجَتُكَ في الدنيا والآخرة.
وقال البخاري [في بَابُ] تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيث عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ.
فَقَالَ: " أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ " (2) هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُ سِيَاقِهِ كَأَنَّهُ مُرْسَلٌ وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مُتَّصِلٌ لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: تزوَّج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم عائشة بعد خَدِيجَةَ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ.
وَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ ابنة ثمانية عَشْرَةَ سَنَةً.
وَهَذَا غَرِيبٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ (3) أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ - وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عُرْوَةُ مُرْسَلٌ فِي ظَاهِرِ السِّيَاقِ كَمَا قَدَّمْنَا وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَقَوْلُهُ تَزَوَّجَهَا وهي ابنت سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ - وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا - وَكَانَ بِنَاؤُهُ بِهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ تَزْوِيجِهَا كَانَ بَعْدَ موت خديجة بنحو من ثَلَاثِ سِنِينَ فَفِيهِ نَظَرٌ.
فَإِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ سُفْيَانَ الْحَافِظَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ قَبْلَ مُخْرَجِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعِ - أَوْ سِتِّ سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ جَاءَنِي نِسْوَةٌ وَأَنَا الْعَبُ فِي أُرْجُوحَةٍ وَأَنَا مُجَمَّمَةٌ (4) ، فَهَيَّأْنَنِي وَصَنَعْنَنِي ثُمَّ أَتَيْنَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فبنى بي] وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ.
فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ قَرِيبًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَقَطَ مِنَ النُّسْخَةِ بَعْدَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ فَلَا يَنْفِي مَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ.
قَالَتْ تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
فَوُعِكْتُ فَتَمَزَّقَ
__________
(1) رواية البخاري تخالف هذا النص راجع المصدر السابق ص 99.
(2) في كتاب النكاح فتح الباري ج 9 / 102.
(3) في كتاب المناقب - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلَّم عائشة ج 4 / 252 (دار الفكر) .
(4) مجممة: التي شعرها نازل إلى أذنيها، والخبر نقله البيهقي في الدلائل ج 2 / 409.
(*)(3/161)
شعري وقد وفت لِي جُمَيْمَةٌ فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي فَصَرَخَتْ بِي فأتيتها ما أدري ما تريد مني فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي ثُمَّ أخذت شيئاً من ماء فمست (1) به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار قال: فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى، فَأَسْلَمْنَنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يومئذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنين حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو [حَدَّثَنَا] أَبُو سلمة ويحيى.
قالا [قالت عائشة] (2) : لَمَّا هَلَكَتْ خَدِيجَةُ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تزوَّج؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا، قَالَ: فَمَنِ البكر؟ قالت أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ عَائِشَةُ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ وَمَنِ الثَّيِّبُ؟ قَالَتْ: سَوْدَةُ بِنْتُ زمعة.
قد آمنت بك واتبعتك.
قَالَ: فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ.
فَدَخَلَتْ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ رُومَانَ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخطب عليه عائشة، قالت: انظري أَبَا بَكْرٍ حَتَّى يَأْتِيَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فقلت: يَا أَبَا بَكْرٍ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، قَالَ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ قَالَ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ إِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ: " ارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ أَنَا أَخُوكَ وَأَنْتَ أَخِي فِي الْإِسْلَامِ، وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي " فَرَجَعَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ قَالَ: انْتَظِرِي، وَخَرَجَ.
قَالَتْ أُمُّ رُومَانَ إِنَّ مُطْعِمَ بْنَ عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعداً قط فأخلفه، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى
مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ وعنده امرأته أم الصبي.
فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصبي صاحبنا تدخله فِي دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ إِنْ تَزَوَّجَ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَقَوْلَ هَذِهِ تَقُولُ؟ [قَالَ] (3) إِنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ.
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ أَذْهَبَ اللهِ مَا كانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ عِدته التِي وَعَدَهُ.
فَرَجَعَ فَقَالَ لِخَوْلَةَ ادْعِي لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَتْهُ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ وَعَائِشَةُ يومئذٍ بَنَتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ خَرَجَتْ فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ قَالَتْ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُكِ إِلَيْهِ.
قَالَتْ وَدِدْتُ ادخلي إلى أبي - بكر - فَاذْكُرِي ذَلِكَ لَهُ - وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَدْرَكَهُ السِّنُّ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْحَجِّ - فَدَخَلَتْ عليه فحييته بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ.
قَالَ فَمَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْطُبُ عَلَيْهِ سَوْدَةَ.
فَقَالَ كُفُؤٌ كَرِيمٌ، مَاذَا تَقُولُ صَاحِبَتُكِ؟ قَالَتْ تحب ذلك.
قال ادعيها إلي فَدَعَتْهَا قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ إِنَّ هَذِهِ تَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المطَّلب قد أرسل يخطبك وهو كفؤ
__________
(1) في البخاري: فمسحت، في كتاب المناقب - باب فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعائشة - ج 2 / 251 - 252 دار الفكر.
(2) من دلائل البيهقي.
(3) من المسند ج 6 ص 211.
(*)(3/162)
كَرِيمٌ أَتُحِبِّينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ بِهِ؟ قَالَتْ نَعَمْ.
قَالَ ادْعِيهِ لِي فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ.
فَجَاءَ أَخُوهَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ مِنَ الْحَجِّ فَجَعَلَ (1) يَحْثِي على رَأْسِهِ التُّرَابَ.
فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: لَعَمْرُكَ إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثِي فِي رَأْسِي التُّرَابَ أَنْ تزوَّج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فِي السُّنْحِ.
قَالَتْ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَنَا وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بِي فَأَنْزَلَتْنِي مِنَ الْأُرْجُوحَةِ وَلِي جُمَيْمَةٌ فَفَرَقْتَهَا ومسحت وجهي بشئ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَقُودُنِي حَتَّى وَقَفَتْ بِي عِنْدَ الْبَابِ وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ مِنْ نَفَسِي، ثُمَّ دَخَلَتْ بِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتِنَا وَعِنْدَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَجْلَسَتْنِي فِي حُجْرَةٍ ثمَّ قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُكَ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ
فِيهِمْ، وَبَارَكَ لَهُمْ فِيكَ.
فَوَثَبَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَخَرَجُوا وَبَنَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بَيْتِنَا مَا نُحِرَتْ عَلَيَّ جَزُورٌ، وَلَا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ.
حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِجَفْنَةٍ كَانَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَارَ إِلَى نِسَائِهِ، وَأَنَا يومئذٍ ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ (2) .
وَهَذَا السِّيَاقُ كَأَنَّهُ مُرْسَلٌ وَهُوَ مُتَّصِلٌ لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الجبَّار، حدَّثنا عبد الله بن إدريس الأزدي (3) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ.
قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا مَاتَتْ خَدِيجَةُ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ [إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم] فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَزَوَّجُ؟ قَالَ: وَمَنْ؟ قَالَتْ إِنْ شِئْتَ بِكْرًا وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا.
قَالَ مَنِ الْبِكْرُ وَمَنِ الثَّيِّبُ؟ قَالَتْ أَمَّا الْبِكْرُ فَابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ [: عائشة] ، وأم الثَّيِّبُ فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ.
قَالَ: فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ (4) .
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَقْدَهُ عَلَى عَائِشَةَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى تَزْوِيجِهِ بِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، وَلَكِنَّ دُخُولَهُ عَلَى سَوْدَةَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَمَّا دُخُولُهُ عَلَى عَائِشَةَ فَتَأَخَّرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ حدَّثنا شَرِيكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِي بِيَوْمِهَا مَعَ نِسَائِهِ.
قَالَتْ وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ حَدَّثَنِي شَهْرٌ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهَا سَوْدَةُ وَكَانَتْ مصبية، كان لها خمس صبية - أو ست - من بعلها مَاتَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يَمْنَعُكِ مِنِّي؟ " قَالَتْ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ أَنْ لَا تكون أحب البرية إلي، ولكني
__________
(1) من المسند وفي الاصل فجاء.
(2) مسند أحمد ج 6 / 210 و 211.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد في حديث طويل 9 / 225 - 227 وقال: " في الصحيح طرف منه، وروى أحمد بعضه، صرح فيه بالاتصال عن عائشة وأكثره مرسل، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة: وثقه غير واحد، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
(3) في البيهقي: الاودي بدل الازدي.
(4) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي ج 2 / 411.
(*)(3/163)
أكرمك أن يمنعوا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةُ عِنْدَ رَأْسِكَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً.
قَالَ فَهَلْ مَنَعَكِ مِنِّي غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ لَا وَاللَّهِ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُكِ اللَّهُ إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلَ، صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدِهِ.
قُلْتُ وَكَانَ زَوْجَهَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّكْرَانُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ ممَّن أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بها قبل الهجرة رضي الله عنه.
هذه السِّيَاقَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى عَائِشَةَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَقْدِ بِسَوْدَةَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ.
وَرَوَاهُ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَاخْتَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى سَوْدَةَ قَبْلَ عَائِشَةَ (1) وحكاه عن قتادة وأبي عبيد.
قال ورواه عقيل عن الزُّهري.
فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَانَ نَاصِرًا لَهُ وَقَائِمًا فِي صَفِّهِ وَمُدَافِعًا عَنْهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نفس ومال ومقال وَفِعَالٍ، فَلَمَّا مَاتَ اجْتَرَأَ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَالُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَكُونُوا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ.
كَمَا قَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصنعاني (2) حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عمَّن حدَّثه عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ.
قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا، فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَأَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَتَبْكِي، فَجَعَلَ يَقُولُ: " أَيْ بُنَيَّةُ لَا تَبْكِينَ فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ " وَيَقُولُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ " مَا نَالَتْ قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طالب ثم شرعوا " (3) .
قد رَوَاهُ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا والله أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ (4) عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كاعين (5) حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ " ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْ يحيى بن معين، حدثنا عقبة
__________
(1) قال ابن سعد في الطبقات: إن سودة كانت أَوَّلَ امْرَأَةٍ تزوَّجها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ خديجة وعن محمد بن عبد الله بن سالم عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تزوَّج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم سودة في رمضان سنة عشر من النبوة بعد وفاة خديجة وقبل تزوج عائشة ودخل بها بمكة وهاجر بها إلى مكة.
(2) في البيهقي: الصغاني بدلا من الصنعاني.
(3) الخبر في دلائل البيهقي ج 2 / 350.
(4) في دلائل البيهقي ج 2 / 349: وأبو سعيد بن أبي عمرو بدلا من " وغيره ".
(5) في دلائل البيهقي: كاعين عني: أي جبنوا، والكاعة جمع كاع وهو الجبان، يقال: كع الرجل يكع كعا: جبن عنه (راجع النهاية لابن الأثير) .
(*)(3/164)
الْمُجَدَّرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعَّةً حَتَّى تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ " وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الفرج ابن الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ (1) وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طالب وخديجة - وكان بينهما خمسة أيام - اجتمع عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصيبتان ولزم بَيْتَهُ وَأَقَلَّ الْخُرُوجَ، وَنَالَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ وَلَا تَطْمَعُ فِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا لَهَبٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ امْضِ لِمَا أَرَدْتَ وَمَا كُنْتَ صَانِعًا إِذْ كان أبو طالب حيا في صنعه، لَا وَاللَّاتِ لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ حَتَّى أَمُوتَ.
وسبَّ ابْنُ الْغَيْطَلَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَبُو لَهَبٍ فَنَالَ مِنْهُ، فَوَلَّى يَصِيحُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ صَبَأَ أَبُو عُتْبَةَ.
فَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ: مَا فَارَقْتُ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَكِنِّي أَمْنَعُ ابْنَ أَخِي أَنْ يُضَامَ حتى يمضي لما يريد.
فقالوا لقد أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ وَوَصَلْتَ الرَّحِمَ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أَيَّامًا يَأْتِي وَيَذْهَبُ لَا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وهابوا أبا لهب إذ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبُو جَهْلٍ إِلَى أَبِي لَهَبٍ فَقَالَا لَهُ: أَخْبَرَكَ ابْنُ أَخِيكَ أَيْنَ مَدْخَلُ أَبِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ يَا مُحَمَّدُ أَيْنَ مَدْخَلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ مَعَ قَوْمِهِ.
فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ قَدْ سَأَلْتُهُ فَقَالَ مَعَ قَوْمِهِ.
فَقَالَا يَزْعُمُ أَنَّهُ فِي النَّارِ.
فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَيَدْخُلُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ النَّارَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَاتَ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ دَخَلَ النَّار.
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ
- لَعَنَهُ اللَّهُ - وَاللَّهِ لَا بَرِحْتُ لَكَ إِلَّا عَدُوًّا أَبَدًا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ فِي النَّارِ.
وَاشْتَدَّ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو لَهَبٍ وَسَائِرُ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ النَّفَرَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ: أَبُو لَهَبٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَدِيُّ بْنُ الْحَمْرَاءِ، وَابْنُ الْأَصْدَاءِ الْهُذَلِيُّ.
وَكَانُوا جِيرَانَهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ.
وَكَانَ أَحَدُهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - يَطْرَحُ عَلَيْهِ رَحِمَ الشَّاةِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُهَا فِي بُرْمَتِهِ إِذَا نُصِبَتْ لَهُ، حَتَّى اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجْرًا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْهُمْ إِذَا صَلَّى، فَكَانَ إِذَا طَرَحُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى عَوْدٍ ثُمَّ يَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يُلْقِيهِ فِي الطَّرِيقِ.
قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ غَالِبَ ما روي مما تقدم من طرحهم سلا الْجَزُورِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَفِيهِ أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ فَشَتَمَتْهُمْ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى سَبْعَةٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ خَنْقِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَنْقًا شَدِيدًا حَتَّى حَالَ دُونَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَائِلًا: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ عَزْمُ أَبِي جَهْلٍ - لَعْنَةُ اللَّهِ - عَلَى أَنْ يَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَحِيلَ بينه وبين ذلك، مما أَشْبَهَ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ والله أعلم.
فذكرها ههنا أنسب وأشبه.
__________
(1) في الوفاء لابن الجوزي 210 وفي سيرة ابن كثير صقير وهو تحريف وما أثبتناه الصواب: ثعلبة بن صُعَير أو ابن أبي صعير العذري ويقال ثعلبة بن عبد الله بن صعير ويقال عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير مختلف في صحبته (تقريب التهذيب 1 / 33 / 118) .
(*)(3/165)
فَصْلٌ فِي ذَهَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم إِلَى أَهْلِ الطَّائِفِ يدعوهم إلى دِينِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ نالته مِنْهُ فِي حَيَاةِ عمِّه أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ يَلْتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ النُّصْرَةَ
وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ من قومه، ورجا أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الله تعالى، فخرج إليهم وحده.
[قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ] فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ.
قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطائف وعمد إِلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ هُمْ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ، عَبْدُ يَالِيلَ، وَمَسْعُودٌ، وَحَبِيبٌ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ.
وَعِنْدَ أَحَدِهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وكلمهم لما جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ (1) ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ.
وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا أَرْسَلَهُ غَيْرَكَ؟ وَقَالَ الثَّالِثُ وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ (2) فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - إِنْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَلَيَّ وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ (3) ذَلِكَ عَلَيْهِ.
فَلَمْ يَفْعَلُوا وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجتمع عليه الناس وألجؤه إِلَى حَائِطٍ لِعَتَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ.
فَعَمَدَ إِلَى ظِلِّ حَبَلَةٍ (4) مِنْ عِنَبٍ فَجَلَسَ فِيهِ وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ، وَيَرَيَانِ مَا يَلْقَى مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَقَدْ لَقِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذُكِرَ لِي - الْمَرْأَةَ التِي مِنْ بَنِي جُمَحَ، فَقَالَ لَهَا مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِكِ.
فَلَمَّا اطْمَأَنَّ قَالَ - فِيمَا ذُكِرَ [لِي]- " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحمين، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إلى بعيد يتجمهني أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي.
إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ (5) ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ
__________
(1) يمرط ثياب الكعبة: أي ينزعه ويرمي به.
(2) في دلائل البيهقي من رواية موسى بن عقبة: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا أبدا والله لئن كنت رسول الله لانت أعظم شرفا وحقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب.
على الله لانت أشر من أن أكلمك.
(3) يذئرهم أي يثيرهم عليه ويجرئهم.
(4) حبلة: طاقات من قضبان العنب وزاد السهيلي: والكرمة.
وفي النهاية: الاصل أو القضيب من شجر الاعناب.
(5) ينقسم الوجه إلى موطنين إذا ذكر في الكتاب والسنة: ففي موطن تقرب واسترضاء بعمل كقوله تعالى: = (*)(3/166)
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى ترضى، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ".
قَالَ فِلْمًا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانياً يقال له عداس [وقالا لَهُ] (1) خُذْ قِطْفًا مِنْ هَذَا الْعِنَبِ فَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجل، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ.
فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثمَّ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْ، فَلَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَدَهُ فِيهِ قال: " بسم الله " ثم أكل، ثم نظر عَدَّاسٌ فِي وَجْهِهِ ثمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ بِلَادٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ وَمَا دِينُكَ؟ قَالَ نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ مَتَّى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ.
فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ (2) .
قَالَ يَقُولُ ابْنَاءُ رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ.
فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس! مالك تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ؟ قَالَ: يا سيدي، مَا فِي الْأَرْضِ شئ خَيْرٌ مِنْ هَذَا لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ.
قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الدُّعَاءَ وَزَادَ، وَقَعَدَ لَهُ أَهْلُ الطَّائِفِ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مرَّ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْهُ فَخَلَصَ مِنْهُمْ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدماء، فعمد إلى ظل نخلة وَهُوَ مَكْرُوبٌ وَفِي ذَلِكَ الْحَائِطِ عُتْبَةُ (3) وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، فَكَرِهَ مَكَانَهُمَا لِعَدَاوَتِهِمَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ عَدَّاسٍ النَّصْرَانِيِّ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حدَّثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَبِي جَبَلٍ الْعَدْوَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرِقِ ثَقِيفٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ - أَوْ عَصًى - حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِي عِنْدَهُمُ النَّصْرَ، فسمعته يقول: " والسماء والطارق " حَتَّى خَتَمَهَا.
قَالَ فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ قَالَ: فَدَعَتْنِي ثَقِيفٌ فَقَالُوا: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ؟ فقرأتها عليهم،
__________
= (يريدون وجهه) .
فالمطلوب هنا رضاه وقبوله للعمل.
والموطن الثاني من مواطن ذكر الوجه يراد به ما ظهر إلى القلوب والبصائر من أوصاف جلاله ومجده.
أما النور فعبارة عن الظهور وانكشاف الحقائق الالهية وبه أشرقت الظلمات أي أشرق محالها (أنظر الروض الآنف) .
(1) من سيرة ابن هشام.
(2) قال السهيلي: وزاد التيمي فيها: إن عداسا حين سمعه يذكر ابن متى، قال: والله لقد خرجت منها - نينوى - وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت أنت متى؟ وأنت أمي وفي أمة أُمَيَّةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو أخي.
(5) في دلائل البيهقي: عقبة، والصواب ما أثبتناه.
(*)(3/167)
فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا، لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ مَا يَقُولُ حَقًّا لَاتَّبَعْنَاهُ (1) .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ: " أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: " ما لقيت من قومك كان أشد منه يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ لَكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.
ثُمَّ نَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فسلَّم عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا محمَّد! قد بعثني الله إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ لتأمرني ما شئت أن
شئت تطبق عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يعبد الله لا يشرك به شيئاً " (2) .
فَصْلٌ وَقَدْ ذَكَرَ محمَّد بْنُ إِسْحَاقَ سَمَاعَ الْجِنِّ لِقِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ حِينَ بَاتَ بِنَخْلَةَ (3) وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الصُّبْحَ فَاسْتَمَعَ الْجِنُّ الَّذِينَ صُرِفُوا إِلَيْهِ قِرَاءَتَهُ هُنَالِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ [مِنَ جن أهل نصيبين] (4) ، وأنزل اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ قَوْلَهُ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ) .
قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي التفسير، وتقدم قطعة من ذلك والله أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَازْدَادَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ حَنَقًا وَغَيْظًا وَجُرْأَةً وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أريقط إلى الأخنس بن شريق، فطلب
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 335.
(2) أخرجه البخاري في 59 كتاب بدء الخلق 7 باب ح 3231 فتح الباري 6 / 312 - 313 ومسلم في 32 كتاب الجهاد 39 باب ح 111 ص 1420.
رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 417 وقال رواه البخاري في الصحيح عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.
- الاخشبان: هما جبلا مكة: أبو قبيس وقعيقعان.
- أصلابهم وفي رواية البيهقيّ أشرارهم وفي نسخة للدلائل: أسرارهم، وليست في البخاري ولا عند مسلم (3) نخلة: هما واديان على ليلة من مكة، يقال لاحدهما نخلة الشامية وللآخر نخلة اليمانية.
(4) زيادة من ابن هشام.
(*)(3/168)
مِنْهُ أَنْ يُجِيرَهُ بِمَكَّةَ.
فَقَالَ: إِنَّ حَلِيفَ قُرَيْشٍ لَا يُجِيرُ عَلَى صَمِيمِهَا.
ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو لِيُجِيرَهُ فَقَالَ: إِنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
فَبَعَثَهُ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ
لِيُجِيرَهُ فَقَالَ نَعَمْ! قُلْ لَهُ فَلْيَأْتِ.
فَذَهَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاتَ عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيلة، فلمَّا أَصْبَحَ خَرَجَ مَعَهُ هُوَ وَبَنُوهُ سِتَّةٌ - أَوْ سَبْعَةٌ - مُتَقَلِّدِي السُّيُوفَ جَمِيعًا فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طُفْ وَاحْتَبَوْا بِحَمَائِلِ سُيُوفِهِمْ فِي الْمَطَافِ، فَأَقْبَلَ أَبُو سفيان إلى مطعم.
فقال: أمجير أو تَابِعٌ؟ قَالَ لَا بَلْ مُجِيرٌ.
قَالَ إِذًا لَا تُخْفَرُ.
فَجَلَسَ مَعَهُ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ انْصَرَفُوا مَعَهُ.
وَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَجْلِسِهِ.
قَالَ فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المدينة توفي مطعم بْنُ عَدِيٍّ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَاللَّهِ لَأَرْثِيَنَّهُ فَقَالَ فِيمَا قَالَ: فَلَوْ كان مجد مخلد اليوم واحد * من النَّاس نحي مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا أَجَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا * عِبَادَكَ مَا لَبَّى مُحِلٌّ وَأَحْرَمَا فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدٌّ بِأَسْرِهَا * وَقَحْطَانُ أَوْ بَاقِي بَقِيَّةِ جُرْهُمَا لَقَالُوا هُوَ الْمُوفِي بِخُفْرَةِ جَارِهِ * وذمته يوماً إذا ما تجشما وَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ * عَلَى مِثْلِهِ فيهم أعز وأكرما إباءً إِذَا يَأْبَى وَأَلْيَنَ شِيمَةً * وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا قُلْتُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُسَارَى بَدْرٍ: " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ سألني في هؤلاء النقباء (1) لَوَهَبْتُهُمْ لَهُ ".
فَصْلٌ فِي عَرْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى أحياء العرب قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مَكَّةَ وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ إِلَّا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ - إِذَا كَانَتْ - عَلَى قَبَائِلِ العرب يدعوهم إلى الله عزوجل، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَهُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مِنْ أَصْحَابِنَا، مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عن ربيعة بن عباد
__________
(1) كذا في الاصل النقباء وهو تحريف، والارجح ما ذكره ابن الجوزي في الوفا: النتنى.
وفي المواهب: ثم كلمني في هؤلاء النتنى لاطلقتهم له.
وفي النهاية قال: سماهم نتنى لكفرهم.
(*)(3/169)
الدُّؤَلِيِّ - أَوْ (1) مَنْ حَدَّثَهُ أَبُو الزِّنَادِ عَنْهُ - وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عبَّاس قَالَ سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عِبَادٍ يُحَدِّثُهُ أَبِي.
قَالَ: إِنِّي لَغُلَامٌ شَابٌّ مَعَ أَبِي بِمِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ فَيَقُولُ: " يَا بَنِي فُلَانٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وأن تخعلوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْدَادِ، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وَتَمْنَعُونِي، حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي به ".
قال وخلفه رجل أحول وضئ لَهُ غَدِيرَتَانِ عَلَيْهِ حُلَّةٌ عَدَنِيَّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَوْلِهِ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ.
قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: يَا بَنِي فُلَانٍ إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَسْلُخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ.
قَالَ فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: هَذَا عمَّه عَبْدُ العزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَبُو لَهَبٍ (2) .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ: حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ.
عَنْ أَبِيهِ: أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد مِنْ بَنِي الدُّئِلِ - وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ - قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاس قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا " وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَوَرَاءَهُ رجل وضئ الْوَجْهِ أَحْوَلُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ - يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ - فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ محمد بن عمرو عن محمد بن المنكدر عن ربيعة الدئلي: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ تَقِدُ وَجْنَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ وَدِينِ آبَائِكُمْ.
قُلْتُ مَنْ هذا؟ قالوا هذا أَبُو لَهَبٍ.
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلائل مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَسَعِيدِ بن سلمة بن أبي الْحُسَامِ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِهِ نَحْوَهُ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ
رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ.
قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسوق ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاس قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا " وَإِذَا رَجُلٌ خَلْفَهُ يَسْفِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَإِذَا هُوَ أبو جهل وهو يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى.
كَذَا قَالَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَبُو جَهْلٍ.
وَقَدْ يَكُونُ وَهْمًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً يَكُونُ ذَا، وَتَارَةً يَكُونُ ذَا وأنهما كانا يتناوبان على إذائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهري: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عزوجل وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ: قَالَ ابْنُ
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل: ومن.
(2) الخبر في ابن هشام 2 / 64 - 65.
وفيه: - زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة، ويقال أبو عبد الله المدني، مولى عمر.
(تهذيب التهذيب) .
- الدؤلي: وفي رواية الديلي وفي الديلي والدؤلي أقوال.
(تراجم الرجال) .
(*)(3/170)
إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ [عَبْدِ اللَّهِ بْنِ] حُصَيْنٍ أَنَّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَبْدِ اللَّهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: " يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ " فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ.
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عليهم نفسه فلم يك أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا عَلَيْهِ مِنْهُمْ.
وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ (1) : وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ (2) عَلَى أَمْرِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: " الْأَمْرُ لِلَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ".
قَالَ فَقَالَ لَهُ أَفَنُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ.
فَأَبَوْا عَلَيْهِ.
فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إِلَى شَيْخٍ لَهُمْ، قَدْ كَانَ أَدْرَكَهُ
السِّنُّ حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمُ المواسم، فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ حَدَّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَامَ سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثمَّ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ، يَدْعُونَا إِلَى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلا بِلَادِنَا قَالَ: فَوَضَعَ الشَّيْخُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ؟ هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ (3) ؟ وَالَّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ مَا تقوَّلها إِسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ كَانَ عَنْكُمْ (4) ؟.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهري: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فِي تِلْكَ السِّنِينَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ لَا يسألهم مع ذلك ألا إن يؤوه وَيَمْنَعُوهُ وَيَقُولُ: " لَا أُكره أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شئ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِكَ، وَمَنْ كَرِهَ لَمْ أُكْرِهْهُ، إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تحرزوني فيما يراد لي مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَحَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ ".
فلم يقبله أحد منهم، وما يأت أحداً مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ إِلَّا قَالَ: قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ، أَتَرَوْنَ أَنَّ رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ وَلَفَظُوهُ؟ ! وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا ذَخَرَهُ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ (5) .
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَجْلَحِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ
__________
(1) بيحرة بن فراس: بن عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
قاله ابن هشام.
وفي الاصل بحيرة.
(2) في ابن هشام: بايعناك.
(3) مثل يضرب لما فات وأصله ذنابي الطير إذا أفلت من الحبالة فطلبت الاخذ به.
(4) الخبر في سيرة ابن هشام: ج 2 / 65 - 66.
(5) الخبر في دلائل البيهقي ج 2 / 414.
(*)(3/171)
مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْعَبَّاسِ.
قَالَ: قَالَ لِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَرَى لِي عِنْدَكَ وَلَا عِنْدَ أَخِيكَ مَنَعَةً فَهَلْ أَنْتَ مُخْرِجِي إِلَى السُّوقِ غداً حتى نقر في مَنَازِلَ قَبَائِلِ النَّاسِ " وَكَانَتْ مَجْمَعَ الْعَرَبِ.
قَالَ فَقُلْتُ هَذِهِ كِنْدَةُ وَلَفُّهَا وَهِيَ أَفْضَلُ مَنْ يَحُجُّ الْبَيْتَ مِنَ الْيَمَنِ وَهَذِهِ مَنَازِلُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَهَذِهِ مَنَازِلُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ؟ قَالَ فَبَدَأَ بِكِنْدَةَ فَأَتَاهُمْ فَقَالَ مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ.
قَالَ مِنْ أَيِّ الْيَمَنِ؟ قَالُوا مِنْ كِنْدَةَ.
قَالَ مِنْ أَيِّ كِنْدَةَ؟ قَالُوا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ فَهَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ؟ قَالُوا وَمَا هُوَ؟ قَالَ: " تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَتُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ".
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَشْيَاخِ قَوْمِهِ أَنَّ كِنْدَةَ قَالَتْ لَهُ: إِنْ ظَفِرْتَ تَجْعَلُ لَنَا الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ يَجْعَلُهُ حَيْثُ يَشَاءُ " فَقَالُوا لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ فَقَالُوا: أَجِئْتَنَا لِتَصُدَّنَا عَنْ آلِهَتِنَا وَنُنَابِذَ الْعَرَبَ، الْحَقْ بِقَوْمِكَ فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِكَ.
فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَأَتَى بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ فَقَالَ مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ.
فَقَالَ مِنْ أَيِّ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟ قَالُوا مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ كَيْفَ الْعَدَدُ؟ قَالُوا كَثِيرٌ مِثْلُ الثَّرَى.
قَالَ فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ؟ قَالُوا لَا مَنَعَةَ جَاوَرْنَا فَارِسَ فَنَحْنُ لَا نَمْتَنِعُ مِنْهُمْ وَلَا نُجِيرُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: " فَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ إِنْ هُوَ أَبْقَاكُمْ حَتَّى تَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ، وَتَسْتَنْكِحُوا نِسَاءَهُمْ، وَتَسْتَعْبِدُوا أَبْنَاءَهُمْ أَنْ تُسَبِّحُوا اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُوهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُوهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ " قَالُوا وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ.
ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَمَّا وَلَّى عَنْهُمْ قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ يَتْبَعُهُ فَيَقُولُ لِلنَّاسِ لَا تَقْبَلُوا قَوْلَهُ، ثُمَّ مَرَّ أَبُو لَهَبٍ فَقَالُوا هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ نَعَمْ هَذَا فِي الذُّرْوَةِ مِنَّا فَعَنْ أَيِّ شَأْنِهِ تَسْأَلُونَ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَقَالُوا زَعَمَ أنَّه رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَلَا لا ترفعوا برأسه قولاً فإنه مجنون يهذي من أُمُّ رَأْسِهِ.
قَالُوا قَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ حِينَ ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ فَارِسَ مَا ذَكَرَ.
قَالَ الكلبي: فأخبرني عبد الرحمن المعايري (1) عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِسُوقِ عُكَاظٍ، فَقَالَ مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قُلْنَا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
قَالَ مِنْ أَيِّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ؟ قَالُوا (2) : بَنُو كَعْبِ بْنِ ربيعة.
قال كيف المنعة [فيكم] ؟ قلنا لا يرام ما قبلنا، ولا يسطلى بِنَارِنَا.
قَالَ فَقَالَ لَهُمْ: " إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وآتيكم لِتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي
وَلَا أُكره أحداً منكم على شئ " قَالُوا وَمِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ؟ قَالَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالُوا فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ؟ قَالَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَذَّبَنِي وَطَرَدَنِي.
قَالُوا وَلَكِنَّا لَا نَطْرُدُكَ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ، وَسَنَمْنَعُكَ حَتَّى تُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّكَ قَالَ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ وَالْقَوْمُ يَتَسَوَّقُونَ، إِذْ أَتَاهُمْ بَيْحَرَةُ (3) بن فراس
__________
(1) في دلائل أبي نعيم.
العامري.
(2) في أبي نعيم: قلنا.
(3) في الطبري وابن هشام: بحيرة، وقد تقدم.
(*)(3/172)
الْقُشَيْرِيُّ فَقَالَ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ أَرَاهُ عِنْدَكُمْ أُنْكِرُهُ؟ قَالُوا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ قَالَ فَمَا لَكَمَ وَلَهُ؟ قَالُوا زَعَمَ لَنَا أنَّه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَبَ إِلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ ربه.
قال ماذا رددتم عليه؟ قالوا بالترحيب وَالسَّعَةِ، نُخْرِجُكَ إِلَى بِلَادِنَا وَنَمْنَعُكَ مَا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا.
قَالَ بَيْحَرَةُ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا من أهل هذه السوق يرجع بشئ أشد من شئ ترجعون به بدأتم (1) ثم لِتُنَابِذُوا النَّاسَ وَتَرْمِيَكُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، قَوْمُهُ أَعْلَمُ بِهِ لَوْ آنَسُوا مِنْهُ خَيْرًا لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قَدْ طَرَدَهُ قَوْمُهُ وَكَذَّبُوهُ فَتُؤْوُونَهُ وَتَنْصُرُونَهُ؟ فَبِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قُمْ فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ عِنْدَ قَوْمِي لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ.
قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَاقَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَغَمَزَ الْخَبِيثُ بَيْحَرَةُ شَاكِلَتَهَا فَقَمَصَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَتْهُ.
وَعِنْدَ بَنِي عَامِرٍ يومئذٍ ضُبَاعَةُ ابْنَةُ عَامِرِ بْنِ قُرْطٍ، كَانَتْ مِنَ النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بِمَكَّةَ جَاءَتْ زَائِرَةً إِلَى بَنِي عَمِّهَا، فَقَالَتْ يَا آلَ عَامِرٍ - وَلَا عَامِرَ لِي - أَيُصْنَعُ هَذَا بِرَسُولِ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَا يَمْنَعُهُ أحد منكم؟ فقام ثلاثة مِنْ بَنِي عَمِّهَا إِلَى بَيْحَرَةَ وَاثْنَيْنِ أَعَانَاهُ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلًا فَجَلَدَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ عَلَوْا وُجُوهَهُمْ لَطْمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَالْعَنْ هَؤُلَاءِ " قَالَ فَأَسْلَمَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ نَصَرُوهُ وَقُتِلُوا شُهَدَاءَ وَهُمْ: غُطَيْفٌ (2) وَغَطَفَانُ ابْنَا سَهْلٍ، وَعُرْوَةُ - أو عذرة - بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهم.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ الْحَافِظُ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي مغازيه عن أبيه به.
وهلك الآخرون
وَهُمْ: بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ، وَحَزْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عُبَادَةَ أَحَدُ بَنِي عَقِيلٍ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لَعْنًا كثيراً.
وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ كَتَبْنَاهُ لِغَرَابَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قصة عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَقَبِيحِ رَدِّهِمْ عَلَيْهِ.
وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ - وَالسِّيَاقُ لِأَبِي نُعَيْمٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ حَدِيثِ أَبَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ (3) ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ (4) ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عباس [قال] : حدَّثني عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا أمر الله رسوله [ص] أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ، وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى مِنًى حَتَّى دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ رَجُلًا نَسَّابَةً، فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا مِنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: وَأَيُّ رَبِيعَةَ أَنْتُمْ أَمِنْ هَامِهَا أم من لهازمها؟
__________
(1) من الدلائل، وفي الاصل بدءا ثم، وهو تحريف.
(2) في الدلائل غطريف.
(3) وهو أبان بن أبي حازم البجلي الكوفي، وثَّقه ابن معين والعجلي وابن نمير وقال الذهبي في الميزان 1 / 9 حسن الحديث، قال ابن عدي: هو عزيز الحديث سرده ابن حبان في المجروحين.
(4) في دلائل البيهقي: بن ثعلب.
(*)(3/173)
قالوا بل من هامها الْعُظْمَى.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ أَيِّ هَامَتِهَا العظمى [أنتم] فقالوا (1) ذُهْلٌ الْأَكْبَرُ، قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: مِنْكُمْ عوف الذي كان يقال [له] لَا حُرَّ بَوَادِي عَوْفٍ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ فمنكم بسطام بن قيس: أَبُو اللِّوَاءِ (2) وَمُنْتَهَى الْأَحْيَاءِ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ فَمِنْكُمْ الْحَوْفَزَانُ بْنُ شَرِيكٍ قَاتِلُ الْمُلُوكِ وَسَالِبُهَا أَنْفُسَهَا؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ فَمِنْكُمْ جَسَّاسُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلٍ حَامِي الذِّمَارِ وَمَانِعُ الْجَارِ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ فَمِنْكُمُ الْمُزْدَلِفُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الْفَرْدَةِ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ فَأَنْتُمْ أَخْوَالُ الْمُلُوكِ مِنْ كِنْدَةَ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ فَأَنْتُمْ أَصْهَارُ الْمُلُوكِ مِنْ لَخْمٍ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَسْتُمْ بِذُهْلٍ الأكبر، بل أنتم [من] ذُهْلٌ الْأَصْغَرُ.
قَالَ فَوَثَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ
غُلَامٌ يُدْعَى دَغْفَلَ بْنَ حَنْظَلَةَ الذُّهْلِيَّ - حِينَ بَقَلَ (3) وَجْهُهُ - فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ عَلَى سَائِلِنَا أَنْ نَسْأَلَهْ * وَالْعِبْءَ لا نعرفه أو نحمله (4) يَا هَذَا إِنَّكَ سَأَلْتَنَا فَأَخْبَرْنَاكَ، وَلَمْ نَكْتُمْكَ شيئاً، ونحن نريد أن نسأل فمن أَنْتَ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَقَالَ الْغُلَامُ: بخ بخ أهل السؤدد والرئاسة، قادمة العرب وهاديها (5) فمن أَنْتَ مِنْ قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ.
فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَمْكَنْتَ وَاللَّهِ الرَّامِيَ مِنْ سَوَاءِ الثُّغْرَةِ؟ أَفَمِنْكُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ الَّذِي قَتَلَ بِمَكَّةَ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَيْهَا وَأَجْلَى بَقِيَّتَهُمْ وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ حَتَّى أَوَطَنَهُمْ مَكَّةَ ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَى الدار وأنزل قُرَيْشًا مَنَازِلَهَا فَسَمَّتْهُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ مُجَمِّعًا، وَفِيهِ يقول الشاعر: أَلَيْسَ أَبُوكُمْ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا * بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا.
قَالَ فَمِنْكُمْ عَبْدُ مَنَافٍ الَّذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ الْوَصَايَا وَأَبُو الْغَطَارِيفِ السَّادَةِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا.
قَالَ فَمِنْكُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمٌ الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَلِأَهْلِ مَكَّةَ، فَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ: عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ * وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ سنُّوا إِلَيْهِ الرِّحْلَتَيْنِ كِلَيْهِمَا * عِنَدَ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةَ الْأَصْيَافِ كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخُّ خالصةٌ لعبد مناف الرايشين وليس يعرف رايشٌ * والقائلين هلمَّ للأضياف
__________
(1) من دلائل البيهقي، وفي الاصل فقال وهو تحريف.
(2) كذا في الاصل وفي البيهقي، وفي أبي نعيم: أبو الملوك.
(3) في البيهقي: تبين.
(4) في البيهقي: والعبو لا نعرفه أو نجهله.
(5) في دلائل أبي نعيم: أزمة العرب وهداتها.
(*)(3/174)
وَالضَّارِبِينَ الْكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُهُ * وَالْمَانِعِينَ الْبَيْضَ بِالْأَسْيَافِ لِلَّهِ دَرُّكَ لَوْ نَزَلْتَ بِدَارِهِمْ * مَنَعُوكَ مِنْ أَزْلٍ وَمِنْ إِقْرَافِ (1) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا.
قَالَ فَمِنْكُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ شَيْبَةُ الْحَمْدِ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، وَمُطْعِمُ طَيْرِ السَّمَاءِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ فِي الْفَلَا الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ قَمَرٌ يَتَلَأْلَأُ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.
؟ قَالَ: لَا.
قَالَ أَفَمِنْ أَهْلِ الْإِفَاضَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ أَفَمِنْ أَهْلِ الْحِجَابَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ أَفَمِنْ أَهْلِ النَّدْوَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ أَفَمِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ أَفَمِنْ أهل الرفادة أنت؟ قال: لا.
قال فمن المفيضين أَنْتَ؟ قَالَ: لَا ثُمَّ جَذَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زِمَامَ نَاقَتِهِ مِنْ يَدِهِ، فقال له الغلام: صادف درَّ السيلِ درٌّ يدفعه * يَهيضه حيناً وحيناً يرفعه (2) ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ لَوْ ثَبَتَّ لَخَبَّرْتُكَ أَنَّكَ مِنْ زَمَعَاتِ قُرَيْشٍ وَلَسْتَ مِنَ الذَّوَائِبِ.
قَالَ فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ قَالَ عليَّ: فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ وَقَعْتَ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى بَاقِعَةٍ.
فَقَالَ أَجَلْ يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَامَّةٍ إِلَّا وَفَوْقَهَا طَامَّةٌ، وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ.
قَالَ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى مَجْلِسٍ عَلَيْهِ (3) السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِذَا مَشَايِخُ لَهُمْ أَقْدَارٌ وَهَيْئَاتٌ، فَتُقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فسلَّم - قَالَ عَلِيٌّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ - فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بكر ممن القوم؟ قالوا من بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَيْسَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ عِزٍّ فِي قَوْمِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لَيْسَ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قَوْمِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ غُرَرُ النَّاسِ.
وَكَانَ فِي الْقَوْمِ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ.
وَكَانَ أَقْرَبَ القوم إلى أبي بكرمفروق بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَيَانًا وَلِسَانًا، وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ تَسْقُطَانِ عَلَى صَدْرِهِ (4) .
فَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ مَجْلِسًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ إِنَّا لَنَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ، وَلَنْ تُغْلَبَ أَلْفٌ مِنْ قِلَّةٍ.
فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ فِيكُمْ؟ فَقَالَ: عَلَيْنَا الْجَهْدُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ جِدٌّ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ إنا أشدُّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ، وَإِنَّا لَنُؤْثِرُ الْجِيَادَ عَلَى
الْأَوْلَادِ، وَالسِّلَاحَ عَلَى اللِّقَاحِ، وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
يُدِيلُنَا مَرَّةً وَيُدِيلُ علينا [أخرى] (5) .
لَعَلَّكَ أَخُو قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنْ كان بلغكم أنَّه رسول الله فَهَا هُوَ هَذَا فَقَالَ مَفْرُوقٌ قَدْ بَلَغَنَا
__________
(1) الازل: الضيق والشدة، والاقراف التهمة.
(2) في البيهقي: يصدعه بدل يرفعه.
(3) في البيهقي: عليهم.
(4) في البيهقي: تريبته.
(5) من دلائل البيهقي وعند أبي نعيم ويديل علينا مرة.
(*)(3/175)
أنه يذكر ذلك [فإلى ما تدعو يا أخا قريش] (1) ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وإن تؤووني وَتَنْصُرُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، والله هو الغني الحميد ".
قال له وإلى ما تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) إلى قوله: (ذلك وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 151] فَقَالَ لَهُ مفروق: وإلى ما تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَوَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَعَرَفْنَاهُ، فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90] فَقَالَ له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ أُفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ، وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ فَقَالَ: وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ دِينِنَا.
فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ وَصَدَّقْتُ قَوْلَكَ، وَإِنِّي أَرَى أَنَّ تَرْكَنَا دِينَنَا واتِّباعنا إِيَّاكَ عَلَى دِينِكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوَّلُ وَلَا آخِرٌ لَمْ نَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِكَ، وَنَنْظُرْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ زَلَّةٌ فِي الرَّأْيِ، وَطَيْشَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَقِلَّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الزَّلَّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ،
وَإِنَّ مِنْ وَرَائِنَا قَوْمًا نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا.
وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ، وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ: وَهَذَا الْمُثَنَّى شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا.
فَقَالَ الْمُثَنَّى: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَأَعْجَبَنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ.
وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ وَتَرْكُنَا دِينَنَا واتِّباعنا إِيَّاكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا وَإِنَّا إِنَّمَا نَزَلْنَا بين صريين (2) أحدهما اليمامة، والآخر السماوة (3) .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَمَا هذان الصريان؟ فَقَالَ لَهُ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَطُفُوفُ الْبَرِّ وَأَرْضُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَرْضُ فَارِسَ وَأَنْهَارُ كِسْرَى وَإِنَّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا، وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا.
وَلَعَلَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِمَّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْعَرَبِ فَذَنْبُ صَاحِبِهِ مَغْفُورٌ، وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَأَمَّا مَا كَانَ يَلِي بِلَادَ فَارِسَ فَذَنَبُ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَنْصُرَكَ وَنَمْنَعَكَ مِمَّا يَلِي الْعَرَبَ فَعَلْنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ
__________
(1) من البيهقي وأبي نعيم.
(2) الصريين، وقيل صيرين تثنية صير، والصرى للماء إذا طال مكثة وتغير، وفي النهاية، الصير، الماء الذي يحضره الناس.
(3) السماوة: وفي دلائل البيهقي: السمامة.
وسميت بالسماوة لانها أرض مستوية لا حجر فيها، وهي ماء بالبادية، وهي بين الكوفة والشام.
(معجم البلدان - معجم ما استعجم) .
(*)(3/176)
حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ ".
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللَّهُ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَيُفْرِشَكُمْ بَنَاتِهِمْ أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟ " فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللَّهُمَّ وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ! فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الْأَحْزَابِ: 45] ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابِضًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ عَلِيٌّ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ أَيَّةُ أَخْلَاقٍ لِلْعَرَبِ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - مَا
أشرفها - بها يتحاجزون فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " (1) .
قَالَ ثُمَّ دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَمَا نَهَضْنَا حَتَّى بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وكانوا صدقاء صبراء فسرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْسَابِهِمْ (2) .
قَالَ فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ إلى أصحابه فقال لهم: " احمدوا لله كَثِيرًا فَقَدْ ظَفِرَتِ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ رَبِيعَةَ بِأَهْلِ فَارِسَ، قَتَلُوا مُلُوكَهُمْ وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ وَبِي نُصِرُوا ".
قَالَ وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بِقُرَاقِرَ (3) إِلَى جَنْبِ ذِي قَارٍ وَفِيهَا يَقُولُ الْأَعْشَى: فِدًى لِبَنِي ذُهلِ بْنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي * وَرَاكِبُهَا عِنْدَ اللِّقَاءِ وقلَّت هموا ضَرَبُوا بِالْحِنْوِ حِنْوِ قُرَاقِرٍ * مُقَدِّمَةَ الْهَامَرْزِ حَتَّى تَوَلَّتِ (4) فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ فوارسٍ * كَذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ بِهَا حِينَ وَلَّتِ (5) فَثَارُوا وَثُرْنَا وَالْمَوَدَّةُ بَيْنَنَا * وَكَانَتْ عَلَيْنَا غَمْرَةٌ فَتَجَلَّتِ
__________
(1) العبارة في البيهقي: بها يدفع الله عزوجل بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم.
(2) رواه الحاكم وأبو نعيم في دلائل النبوة 1 / 237 - 241.
والبيهقي في الدلائل ج 2 / 422 - 427 وفيه: عن العماني وعن الغلابي عن البجلي فذكره بإسناده ومعناه وروي أيضا باسناد آخر مجهول عن أبان بن تغلب.
وقال القسطلاني في المواهب: أخرجه الحاكم والبيهقي وأبو نعيم بإسناد حسن.
وما بين معكوفتين زيادة اقتضاها السياق استدركت من دلائل البيهقي.
(3) وقعة ذي قار كانت - لبكر على العجم - وقد بعث النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وخبر أصحابه بها.
وذوقار ماء لبكر قريب من الكوفة وبعد هذا اليوم من مفاخر بكر.
أنظر في الوقعة (العقد الفريد - الطبري 2 / 148 - ابن الاثير 1 / 289 - الاغاني ج 2 / 97 خزانة الادب ج 1 / 343 النقائض 638 طبع أوروبا - معجم البلدان) .
(4) رواية البيت في أيام العرب: فصبحهم بالحنو حنو قراقر * وذي قارها منها الجنود فقلت ورواية اللسان: وهم ضَرَبُوا بِالْحِنْوِ حِنْوِ قُرَاقِرٍ * مُقَدِّمَةَ الْهَامَرْزِ حَتَّى تولت
قال: وصواب إنشاده: هم ضربوا، وهذه هي رواية الديوان ورواية النقائض أيضا.
بنو شيبان بطن في بكر بن وائل.
هامرز: كان على مسلحة كسرى بالسواد، وكان على ألف من الاساورة.
(5) هذا البيت والذي بعده لم نجدهما في ديوانه ولا في المراجع التي بين أيدينا.
(*)(3/177)
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا كَتَبْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَمَكَارِمِ الشِّيَمِ وَفَصَاحَةِ الْعَرَبِ وَقَدْ وَرَدَ هَذَا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَفِيهِ أَنَّهُمْ لَمَّا تَحَارَبُوا هُمْ وَفَارِسُ والتقوا معهم قراقر - مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْفُرَاتِ - جَعَلُوا شِعَارَهُمُ اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُصِرُوا عَلَى فَارِسَ بِذَلِكَ، وَقَدْ دَخَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَابِصَةَ الْعَبْسِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَازِلِنَا بِمِنًى وَنَحْنُ نَازِلُونَ بِإِزَاءِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى التِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا خَلْفَهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَدَعَانَا فَوَاللَّهِ مَا اسْتَجَبْنَا لَهُ وَلَا خِيرَ لَنَا، قَالَ وَقَدْ كُنَّا سَمِعْنَا بِهِ وَبِدُعَائِهِ فِي الْمَوَاسِمِ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا يَدْعُونَا فَلَمْ نَسْتَجِبْ لَهُ، وَكَانَ مَعَنَا مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ.
فَقَالَ لَنَا: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ قَدْ صَدَّقْنَا هَذَا الرَّجُلَ وَحَمَلْنَاهُ حَتَّى نَحُلَّ بِهِ وَسْطَ بِلَادِنَا لَكَانَ الرَّأْيَ.
فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْلُغَ كُلَّ مَبْلَغٍ.
فَقَالَ الْقَوْمُ دَعْنَا مِنْكَ لَا تُعَرِّضْنَا لِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ.
وَطَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَيْسَرَةَ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ مَيْسَرَةُ: مَا أَحْسَنَ كَلَامَكَ وَأَنْوَرَهُ، وَلَكِنَّ قَوْمِي يُخَالِفُونَنِي وَإِنَّمَا الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ فَإِذَا لَمْ يَعْضُدُوهُ فَالْعِدَى (1) أَبْعَدُ.
فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ الْقَوْمُ صَادِرِينَ إِلَى أَهْلِيهِمْ.
فَقَالَ لَهُمْ مَيْسَرَةُ: ميلوا نأتي فدك فإن بها يهوداً نُسَائِلُهُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ.
فَمَالُوا إِلَى يَهُودَ فَأَخْرَجُوا سِفراً لَهُمْ فَوَضَعُوهُ ثُمَّ دَرَسُوا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ الأمي العربي يركب الحمار ويجتزي بِالْكَسْرَةِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَا بِالْجَعْدِ ولا بالسبط، وفي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ مُشْرِقُ اللَّوْنِ.
فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ وَادْخُلُوا فِي دِينِهِ فَإِنًّا نحسده ولا نتبعه، وإنا [مِنْهُ] فِي مُوَاطِنَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا اتَّبَعَهُ وَإِلَّا قَاتَلَهُ فَكُونُوا مِمَّنْ يَتَّبِعُهُ.
فَقَالَ
مَيْسَرَةُ: يَا قَوْمِ أَلَا [إِنَّ] هَذَا الْأَمْرَ بيِّن، فَقَالَ الْقَوْمُ نرجع إلى الموسم ونلقاه فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رِجَالُهُمْ فَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا وحج حجة الوداع لقاه مَيْسَرَةُ فَعَرَفَهُ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ حَرِيصًا عَلَى اتِّبَاعِكَ مِنْ يَوْمِ أَنَخْتَ بِنَا حَتَّى كَانَ مَا كَانَ وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا تَرَى مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِي، وَقَدْ مَاتَ عَامَّةُ النَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعِي فَأَيْنَ مَدْخَلُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فِي النَّارِ " فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَنِي.
فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ لَهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مَكَانٌ.
وَقَدِ اسْتَقْصَى الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الواقدي فقص [خبر] الْقَبَائِلِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَذَكَرَ عَرْضَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ عَلَى بَنِي عَامِرٍ، وَغَسَّانَ، وَبَنِي فَزَارَةَ، وَبَنِي مُرَّةَ، وَبَنِي حَنِيفَةَ، وَبَنِي سُلَيْمٍ، وَبَنِي عَبْسٍ، وَبَنِي نَضْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ، وَكِنْدَةَ، وَكَلْبٍ، وَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم وَغَيْرِهِمْ.
وَسِيَاقَ أَخْبَارِهَا مُطَوَّلَةً وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذلك طرفاً صالحاً ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في النهاية: العدى بالكسر: الغرباء والاجانب والاعداء، وبالضم: الاعداء خاصة.
(*)(3/178)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أنا إسرائيل [بن يونس] عَنْ عُثْمَانَ - يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ - عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: " هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ؟ " (1) فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ الرَّجُلُ مِنْ هَمْدَانَ.
قَالَ فَهَلْ عِنْدَ قَوْمِكَ مِنْ مَنَعَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ! ثم إن الرجل خشي أن يخفره قَوْمُهُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ آتِيهِمْ فَأُخْبِرُهُمْ ثُمَّ آتِيكَ مِنْ عَامِ قَابِلٍ! قَالَ نَعَمْ! فَانْطَلَقَ وَجَاءَ وَفْدُ الْأَنْصَارِ فِي رَجَبٍ (2) .
وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فَصْلٌ [فِي] قُدُومِ وَفْدِ الْأَنْصَارِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ حَتَّى بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْعَةً بَعْدَ بَيْعَةٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المدينة حَدِيثُ سُوِيدِ بْنِ صَامِتٍ الْأَنْصَارِيُّ وَهُوَ سُوِيدُ بن الصامت (1) بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ عَمْرٍو النَّجَّارِيَّةُ أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عَمْرٍو أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ.
فَسُوَيْدٌ هَذَا ابْنُ خَالَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ كُلَّمَا اجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ وَيَعْرِضُ عليهم نفسه وما جاء به [من الله] مِنَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ وَلَا يَسْمَعُ بِقَادِمٍ يَقْدَمُ مَكَّةَ مِنَ الْعَرَبِ لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ، إِلَّا تَصَدَّى لَهُ وَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بن قتادة [الانصاري]
__________
(1) أخرجه التِّرمذي في 46 - كتاب فضائل القرآن ح 2925 وقال: هذا حديث غريب صحيح.
وأخرجه أبو داود في السنة - باب في القرآن ح 4734.
وأخرجه ابن ماجه في المقدمة 13 باب في الجهمية ح 201 وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 413.
وقال البيهقي هذه الزيادة من رواية مصعب بن المقدام.
(2) في السهيلي: هو سويد بن الصامت بن حوط..وبنت سويد هي أم عاتكة، أخت سعيد بن ريد امرأة عمر بن الخطاب فهو جدها لامها واسم أمها زينب.
(*)(3/179)
عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ.
قَالُوا: قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا - أَوْ مُعْتَمِرًا - وَكَانَ سُوَيْدٌ إِنَّمَا يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمُ الْكَامِلَ لِجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: أَلَا رُبَّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى * مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَكَ مَا يَفْرِي مَقَالَتُهُ كَالشَّهْدِ مَا كَانَ شَاهِدًا * وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النَّحْرِ (1) يَسُرُّكَ بَادِيهِ وتحت أديمه * تميمة غِشٍّ تَبْتَرِي عَقَبَ الظَّهْرِ تُبَيِّنُ لَكَ الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ * مِنَ الْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنَّظَرِ الشَّزر
فرشني بخير ظالما قَدْ بَرَيْتَنِي * وَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يريشُ وَلَا يَبْرِي (2) قَالَ فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قَالَ مَجَلَّةُ لُقْمَانَ يَعْنِي حِكْمَةَ لقمان - فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْرِضْهَا عَلَيَّ، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ، وَالَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ هُوَ هُدًى وَنُورٌ " فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ.
فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَسَنٌ.
ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قتله الْخَزْرَجُ (3) .
فَإِنْ كَانَ رِجَالٌ مِنَ قَوْمِهِ لَيَقُولُونَ إِنَّا لَنَرَاهُ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ.
وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ بُعَاثَ (4) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (5) عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِأَخْصَرَ مِنْ هَذَا.
إِسْلَامُ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ.
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أبوالحيسر، أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ، مَكَّةَ وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحَلِفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاهم فجلس إليهم، فقال [لهم] : " هَلْ لَكَمَ فِي خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟ قال: قالوا: وما ذاك؟
__________
(1) المأثور: السيف الموشى.
(2) في ابن هشام: فخير الموالي بدلا من وخير الموالي.
(3) قتل سويدا المجذر بن ذياد واسمه عبد الله، وكان قتله في الجاهلية فهيج قتله وقعة بعاث بين الاوس والخزرج ثم أسلم المجذر والحارث بن سويد بن الصامت، وكان الحارث يطلب غرة المجذر بن ذياد ليقتله بأبيه، ويوم أحد جاءه الحارث من خلفه فضرب عنقه وقتله غيله، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الحارث وضرب عنقه عويم بن ساعدة على باب مسجد قباء (طبقات ابن سعد) .
(4) بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.
(5) دلائل النبوة ج 2 / 419.
(*)(3/180)
قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأُنْزِلَ عليَّ الْكِتَابُ.
ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ قَالَ فَقَالَ: إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ - وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا - يَا قَوْمِ (1) هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ.
فَأَخَذَ ابوالحيسر أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنْ تُرَابِ الْبَطْحَاءِ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا.
قَالَ فَصَمَتَ إِيَاسٌ وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.
قَالَ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ.
قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَنِي مِنْ قَوُمِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيُحَمِّدُهُ وَيُسَبِّحُهُ حَتَّى مَاتَ فَمَا كَانُوا يَشُكُّونَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا، لَقَدْ كَانَ اسْتَشْعَرَ الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعَ (2) .
قُلْتُ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ - وَبُعَاثُ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ - كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَشْرَافِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَكُبَرَائِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ شُيُوخِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ (3) عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قدَّمه اللَّهُ لِرَسُولِهِ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المدينة وقد افترق ملاؤهم، وقتل سراتهم (4) .
بَابُ بَدْءِ إِسْلَامِ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ وَاعِزَازَ نَبِيِّهِ.
وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النَّفَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا.
فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: لَمَّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ " مَنْ أَنْتُمْ؟ " قَالُوا نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ.
قَالَ: " أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟ " قَالُوا نَعَمْ! قَالَ " أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى.
فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ.
قَالَ
وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ الله بهم في الإسلام إن يهود كان مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ.
وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُمْ أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شئ قالوا
__________
(1) في السيرة: أي قوم.
(2) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي وفيه: الحصين بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ.
(3) من البخاري وفي الاصل أبي أمامة وهو تحريف.
وأخرجه في 63 كتاب مناقب الانصار (1) باب مناقب الانصار ح 3777 فتح الباري 7 / 87.
(4) في البخاري: وقتلت سرواتهم وجرحوا فقدمه الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلم في دخولهم في الاسلام.
(*)(3/181)
[لَهُمْ] إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانَهُ نَتَّبِعُهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ.
فَلَمَّا كلَّم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمِ تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ النبي الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ صَدَّقُوهُ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَقَالُوا له: إنا د تَرَكْنَا قَوْمَنَا وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ، وَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ فَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ منك.
ثُمَّ انْصَرَفُوا [عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ لِي سِتَّةُ نَفَرٍ كُلُّهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ (1) بْنِ عُدَسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ أوَّل مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْخَزْرَجِ.
وَمِنَ الْأَوْسِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ.
وَقِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ رَافِعُ بْنُ مَالِكٍ ومعاذ بن عَفْرَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ - وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ - النَّجَّارِيَّانِ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عمرو [بن عامر] بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حديدة بن عمرو بن غنم بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ (2) بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ
السَّلَمِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي سَوَادٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حرام بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ السَّلَمِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ مِنْ بَنِي حَرَامٍ.
وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ السَّلَمِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا ليلتئذٍ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ في ما رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَوَّلَ اجْتِمَاعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِمْ كَانُوا ثَمَانِيَةً (3) وَهُمْ: مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَكْوَانُ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ قَيْسٍ - وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ.
فَأَسْلَمُوا وَوَاعَدُوهُ إِلَى قَابِلٍ.
فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الاسلام،
__________
(1) شهد العقبة الأولى والثانية وبايع فيهما، مات قبل بدر، كان نقيبا، أمه سعاد ويقال الفريعة بِنْتَ رَافِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الابجر.
لما أسلم عمل على تكسير أصنام بني مالك بن النجار.
أخذته الذبحة ولما توفي مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمام جنازته وهو أول من دفع بالبقيع.
(طبقات ابن سعد - الاستيعاب) (2) في الاصل: ساوة بن يزيد، وما أثبتناه من ابن هشام.
ولا يعرف في العرب تزيد إلا هذا، وتزيد بن الحاف بن قضاعة، وإليهم تنسب الثياب التزيدية.
(3) في ابن سعد: قال محمد بن عمر: وأمر الستة أثبت الأقاويل عندنا أنهم أول من لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الانصار فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا (*)(3/182)
وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن عَفْرَاءَ وَرَافِعَ بْنَ مَالِكٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا يُفَقِّهُنَا.
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ كَمَا سَيُورِدُهَا ابْنُ إِسْحَاقَ أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ إِلَى قَوْمِهِمْ ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ حتَّى فَشَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم، حتَّى إِذَا كَانَ
الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَخُوهُ مُعَاذٌ وَهْمَا ابْنَا عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا.
وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مُخَلَّدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ.
وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ (1) بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَحَلِيفُهُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ (2) بْنِ أَصْرَمَ الْبَلَوِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبادة بْنِ نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ الْعَجْلَانِيُّ، وَعُقْبَةُ بن عامر بن نابي المتقدم، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَمِنَ الْأَوْسِ اثْنَانِ وَهُمَا، عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ.
وَأَبُو الْهَيْثَمِ مَالِكُ بْنُ التَّيِّهَانِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ التَّيِّهَانُ يُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ كَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ: اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بن زعون (3) بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ (4) .
قَالَ وَقِيلَ إنه أراشي وقيل بلوي.
وهذا لَمْ يَنْسِبْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَا ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ: وَالْهَيْثَمُ فَرْخُ الْعُقَابِ، وَضَرْبٌ مِنَ النَّبَاتِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا شَهِدُوا الْمَوْسِمَ عامئذٍ، وَعَزَمُوا عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ فَبَايَعُوهُ عِنْدَهَا بَيْعَةَ النِّسَاءِ وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى.
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ فِي سورة إبراهيم: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رب
__________
(1) في نسخة لابن هشام: أحرم والصواب ما أثبتناه.
(2) قال ابن إسحاق وابن الكلبي خزمة بسكون الزاي، وقال الطبري خزمة بفتح الزاي.
قال في الاستيعاب: ليس في الانصار خزمة بالتحريك.
(3) في ابن سعد: زعوراء.
(4) قال ابن سعد: واسمه مالك بن بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة حليف لبني عبد الاشهل، أجمع على ذلك موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وأبو معشر ومحمد بن عمر.
شهد أبو الهيثم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خيبر خارصاً فخرص عليهم التمرة.
مات في خلافة عمر سنة عشرين
بالمدينة وقيل بقي إلى أيام علي وشهد معه صفين وقتل يومئذ.
قال الواقدي القول الاول اثبت عندنا (الاستيعاب - الطبقات الكبرى - الروض الآنف) (*) .(3/183)
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمنا) إِلَى آخِرِهَا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عن [أبي] (1) مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة - وهو ابن الصَّامِتِ - قَالَ: كُنْتُ مِمَّنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا.
فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وذلك قبل أن يفترض الحرب، على أن لانشرك بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ.
فَإِنْ وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنَّ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِهِ نَحْوَهُ (2) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهري عن عائذ اللَّهِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ حَدَّثَهُ.
قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأَوْلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سَتَرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنَّ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَوْلُهُ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ - يَعْنِي وفق على مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَيْعَةُ النِّسَاءِ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ الْحُدَيْبِيَةِ - وَكَانَ هَذَا مِمَّا نَزَلَ عَلَى وَفْقِ مَا بَايَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ.
وليس هذا عجيب فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِمُوَافَقَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي سِيرَتِهِ وَفِي التَّفْسِيرِ، وَإِنَّ كَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ وَقَعَتْ عَنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ فَهُوَ أَظْهَرُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُ الْقَوْمُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ (3) بْنَ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ.
وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَعَثَ مُصْعَبًا حِينَ كَتَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ هِيَ الْأُولَى.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَسِيَاقُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَتَمُّ.
وَقَالَ ابْنُ إسحاق: فكان عبد الله بن أبي بكر
__________
(1) سقطت من الاصل واستدركت من ابن هشام.
وفي دلائل البيهقي: عن أبي الخير وهو مرثد.
(2) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 43 باب فتح الباري 7 / 219 ومسلم في 29 كتاب الحدود 10 باب ح 44.
(3) يكنى: أبا عبد الله وفي ابن سعد: أبا محمد من أوائل المهاجرين إلى الحبشة، من فضلاء الصحابة شهد بدرا بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يفقههم في الدين ويقرأ عليهم القرآن حتى ظهر الاسلام وفشا في دور الأنصار، وهو أوَّل من جمع في الاسلام، قتل يوم أحد شهيدا قتله ابن قمئة وكانت رَايَةَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ يوم بدر وأُحد، على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة وهو ابن أربعين سنة أو يزيد (طبقات ابن سعد - الاستيعاب - الروض الآنف) .
(*)(3/184)
يَقُولُ: لَا أَدْرِي مَا الْعَقَبَةُ الْأُولَى.
ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَى لَعَمْرِي قَدْ كَانَتْ عَقَبَةٌ وَعَقَبَةٌ.
قَالُوا كُلُّهُمْ: فَنَزَلَ مُصْعَبٌ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَكَانَ يُسَمَّى بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَؤُمَّهُ بَعْضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
قَالَ: فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ لأذان الجمعة إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا بِي لَعَجْزٌ، ألا أسأله؟ فقلت يا أبت مالك إِذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلَّيْتَ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ؟ فَقَالَ أَيْ بُنَيَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمِ النَّبِيتِ (1) مِنْ حرة بني بياضة في بقيع يقال له بقيع الْخَضَمَاتِ قَالَ: قُلْتُ وَكَمْ أَنْتُمْ يومئذٍ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ (2) ، وَفِي إِسْنَادِهِ غَرَابَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ابْنَ خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ؟ فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهُ: بِئْرُ مَرَقٍ فَجَلَسَا فِي الْحَائِطِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَسَعْدُ بن معاذ وأسيد بن الحضير، يومئذٍ سَيِّدًا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا سَمِعَا به، قال سعد لأسيد: لا أبالك، انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وإنههما أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا فَإِنَّهُ لَوْلَا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنِّي حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، هُوَ ابْنُ خَالَتِي وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مُقَدَّمًا.
قَالَ: فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَالَ لِمُصْعَبٍ هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ وَقَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أكمله.
قَالَ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا فَقَالَ: مَا جَاءَ بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟
__________
(1) هزم النبيت: جبل على بريد من المدينة قاله السهيلي وأنكره ياقوت في معجمه ونفى أن يكون هزم النبيت جبلا لان هزم: المطمئن من الارض واستحسن قولا - قال: إن صح فهو المعول عليه - وهو: جمع بنا في هزم بني النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يقال له: نقيع الخضمات.
(2) قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: إنما كان مصعب بن عمير يصلي بهم ويجمع بهم الجمعات بِأَمْرِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليهاجر معه صلى بهم أسعد بن زرارة وقال البيهقي: يحتمل أن لا يخالف هذا قول ابن شهاب، وكان مصعب جمع بهم معونة أسعد بن زرارة فأضافه كعب إليه والله أعلم.
(أنظر الحاشية السابقة - وترجمة ابن زرارة وابن عمير في الطبقات ج 3) (*) .(3/185)
اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ.
وَقَالَ موسى بن عقبة: فقال (1) له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد.
الغريب الطريد ليتسفه ضُعَفَاءَنَا بِالْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ؟ قَالَ: أَنْصَفْتَ، قَالَ: ثُمَّ رَكَّزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا فَكَلَّمَهُ (2) مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَقَالَا - فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمَا - وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا لَهُ تَغْتَسِلُ فَتَطَّهَّرُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ ثمَّ تشهَّد شَهَادَةَ الْحَقِّ ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ وتشهَّد شَهَادَةَ الْحَقِّ ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الْآنَ، سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ.
ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ معاذ مقبلاً.
قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى النَّادِي قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا.
وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خَرَجُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ وَذَلِكَ أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك (3) ، قَالَ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُغْضَبًا مُبَادِرًا تَخَوُّفًا لِلَّذِي ذُكِرَ لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ فِي يَدِهِ ثمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا سعد فلما رآهما مطمئنين، عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف [عليهما] متشمتماً؟ ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يَا أَبَا أُمَامَةَ وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي، أتغشانا في دارنا بِمَا نَكْرَهُ؟ قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ لِمُصْعَبٍ: جاءك والله سيد من ورائه [من] قَوْمُهُ، إِنْ يَتَّبِعْكَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْكَ مِنْهُمُ اثْنَانِ.
قَالَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَقْعُدُ فتسمع فإن رضيت أمراً رغبت فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ؟ قَالَ سَعْدٌ: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَّزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الزُّخْرُفِ (4) .
قَالَ فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا تَغْتَسِلُ فتطهر
__________
(1) نقل البيهقي الخبر عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري، وجاءت العبارة فيه: فقال لابي أمامة: علام تأتينا فِي دُوْرِنَا بِهَذَا الْوَحِيدِ الْغَرِيبِ الطَّرِيدِ يُسَفِّهُ ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه، لا أراك بعدها تسئ من
جوارنا، فقاموا ورجعوا.
(2) في رواية موسى بن عقبة أن ذلك كان في مرة أخرى، حيث توعدهم وعيدا دون وعيده الاول، فلما رأى منه أسعد بن زرارة لينا قال له: يا ابن خالة استمع من قوله فإن سمعت منكرا فأردده بأهدى منه، وإن سمعته حقا فأجب إليه.
إنما نسب موسى هذا القول لسعد بن معاذ وقال: ويقول بعض الناس: بل أسيد بن حضير.
(3) في ابن هشام: ليخفروك، والاخفار: نقض العهد والغدر.
(4) في البيهقي من رواية موسى قرأ: حم والكتاب المبين إنا جعلناه قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تعقلون.
(*)(3/186)
وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ ثمَّ تشهَّد شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أخذ حربته فأقبل عائداً إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ (1) ، فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ مُقْبِلًا قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَيْفَ تَعْلَمُونَ أمري فيكم؟ قالوا سيدنا [وأوصلنا] وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً، قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عليَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مسلماً أو (2) مسلمة، ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عِنْدَهُ يَدْعُوَانِ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ حتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رجال ونساء مسلمون، إلا ماكان مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَخَطْمَةَ، وَوَائِلٍ، وَوَاقِفٍ، وَتِلْكَ أَوْسٌ وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ وَاسْمُهُ صَيْفِيٌّ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بن بكار: اسمه الحارث، وقيل عبيد اللَّهِ وَاسْمُ أَبِيهِ الْأَسْلَتِ عَامِرُ بْنُ جُشَمَ بْنِ وَائِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.
وكذا نسبه الْكَلْبِيِّ أَيْضًا.
وَكَانَ شَاعِرًا لَهُمْ قَائِدًا يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ، فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ.
قُلْتُ: وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ هَذَا ذَكَرَ لَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَشْعَارًا بائية حسنة تقرب من أشعار أمية بن [أبي] الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَلَمَّا انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرَبِ وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذُكِرَ، وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ هَذَا الحي من الأوس والخزرج، وذلك لما كان يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ.
فَلَمَّا وَقَعَ أَمْرُهُ بِالْمَدِينَةِ وَتَحَدَّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ - قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَاسْمُ أَبِي أَنَسٍ قَيْسُ بْنُ صِرْمَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو (3) بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجار، قَالَ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ وَفِي عُمَرَ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ (4) : وَكَانَ يُحِبُّ قُرَيْشًا، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا.
كَانَتْ تَحْتَهُ أَرْنَبُ بِنْتُ أسد بن عبد العزى بن قصى وكان يُقِيمُ عِنْدَهُمُ السِّنِينَ بِامْرَأَتِهِ.
قَالَ قَصِيدَةً يُعَظِّمُ فيها الحرمة وينهى قريشاً فيها عن الحروب وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ بَلَاءَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ ودفعه
__________
(1) في رواية ابن عقبة: فقال سعد بن معاذ: بعد قراءة مصعب عليه - ما أسمع إلا ما أعرف، فرجع سعد بن معاذ وقد هداه الله ولم يظهر لهما إسلامه حتى رجع إلى قومه.
(2) في ابن هشام: ومسلمة.
(3) في السيرة: عن ابن هشام: عامر.
(4) سيرة ابن هشام ج 1 / 302.
(*)(3/187)
عَنْهُمُ الْفِيلَ وَكَيْدَهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ * مُغَلْغَلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ غالب (1) رسولَ امرئٍ قد رَاعَهُ ذاتُ بَيْنِكُمْ * عَلَى النَّأْيِ مَحْزُونٍ بِذَلِكَ نَاصِبِ وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مُعَرَّسٌ * وَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي وَمَآرِبِي (2) نُبِيتُكم شَرْجَيْنِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ * لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبِ (3) أُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ صُنْعِكُمْ * وَشَرِّ تَبَاغِيكُمْ ودسِّ الْعَقَارِبِ وَإِظْهَارِ أخلاقٍ وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ * كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا حَقُّ صَائِبِ (4)
فَذَكِّرْهُمْ بِاللَّهِ أَوَّلَ وَهْلَةٍ * وَإِحْلَالِ إِحْرَامِ الظِّبِاءِ الشَّوَازِبِ (5) وَقُلْ لَهُمُ وَاللَّهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ * ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبْ عَنْكُمُ فِي المراحِب مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً * هِيَ الْغَوْلُ لِلْأَقْصَيْنَ أَوْ لِلْأَقَارِبِ تُقَطِّعُ أَرْحَامًا وَتُهْلِكُ أُمَّةً * وَتَبْرِي السَّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ وَغَارِبِ وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيَّةِ بَعْدَهَا * شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثيابَ الْمُحَارِبِ (6) وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبراً سَوَابِغًا * كَأَنَّ قَتِيرَيْهَا عيونُ الْجَنَادِبِ (7) فَإِيَّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنَّكُمْ * وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مرَّ الْمَشَارِبِ تَزَيَّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمَّ يَرَوْنَهَا * بعاقبةٍ إذ بيّتت أمُّ صَاحِبِ تُحَرِّقَ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا وَتَنْتَحِي * ذَوِي الْعِزِّ مِنْكُمْ بِالْحُتُوفِ الصَّوَائِبِ أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ * فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كان في حرب حاطب وكم ذا أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مُسَوَّدٍ * طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ غَيْرُ خَائِبِ عَظِيمِ رَمَادِ النَّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ * وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمِ الْمَضَارِبِ وَمَاءٍ هُريق فِي الضَّلَالِ كَأَنَّمَا * أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصَّبَا وَالْجَنَائِبِ يُخَبِّرُكُمْ عَنْهَا امْرِؤٌ حقَّ عالمٍ * بِأَيَّامِهَا والعلمُ علمُ التَّجَارُبِ فَبِيعُوا الْحِرَابَ ملمُحارب وَاذْكُرُوا * حِسَابَكُمُ وَاللَّهُ خَيْرُ مُحَاسِبِ وليُّ امْرِئٍ فَاخْتَارَ ديناً فلا يكن * عليكم رقيبا غير رب الثواقب
__________
(1) المغلغلة: الرسالة.
(2) المعرس: المكان الذي ينزل فيه المسافر آخر الليل، يقيم فيه للراحة ثم يرتحل.
(3) شرجين: نوعين مختلفين.
الازمل: الصوت المختلط.
المذكى: الموقد، والمذكي: الذي يوقد النار.
(4) الاشافى: جمع اشفى وهي المخرز.
(5) أحرام الظباء: التي يحرم صيدها في الحرم، والشوازب: الضامرة البطون.
(6) الاتحمية: ثياب رقاق تصنع باليمن.
(7) القتير: حلق الدرع.
(*)(3/188)
أقيموا لنا ديناً حنيفاً فأنتموا * لَنَا غَايَةٌ، قَدْ يُهْتَدَى بِالذَّوَائِبِ وَأَنْتُمْ لِهَذَا النَّاسِ نورٌ وَعِصْمَةٌ * تُؤَمُّونَ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ وَأَنْتُمْ إِذَا مَا حصَّل النَّاسُ جوهرٌ * لَكُمْ سرة البطحاء شمُّ الأرانب تصونون أنساباً كراماً عتيقةً * مهذبة الأنسابِ غير أشائب (1) يرى طالبُ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ * عصائبَ هَلْكَى تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنَّ سُراتكم * عَلَى كُلِّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ الْجَبَاجِبِ (2) وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا وَأَعْلَاهُ سُنةً * وأقولُه للحقِّ وَسْطَ الْمَوَاكِبِ فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا * بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ (3) فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بلاءٌ ومصدقٌ * غداةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ كَتِيبَتُهُ بِالسُّهْلِ تَمْشِي وَرَجْلُهُ * على القاذفات في رؤوس الْمَنَاقِبِ فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ * جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سافٍ وَحَاصِبِ فَوَلَّوْا سِرَاعًا هاربين ولم يؤب * إلى أهله مِلحُبشِ غيرُ عَصَائِبِ فَإِنْ تَهْلِكُوا نهلِكْ وتهلكْ مواسمٌ * يعاشُ بِهَا، قَوْلُ امرئٍ غيرِ كَاذِبٍ وَحَرْبُ دَاحِسٍ التي (4) ذَكَرَهَا أَبُو قَيْسٍ فِي شِعْرِهِ كَانَتْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَشْهُورَةً، وَكَانَ سَبَبَهَا فِيمَا ذَكَرَهُ أبو عبيد مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَغَيْرُهُ: أَنَّ فَرَسًا يُقَالُ له دَاحِسٌ كَانَتْ لِقَيْسِ (5) بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ الْغَطَفَانِيِّ.
أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بن بدر بن عمرو بن جؤبة الْغَطَفَانِيِّ أَيْضًا يُقَالُ لَهَا الْغَبْرَاءُ، فَجَاءَتْ دَاحِسُ سَابِقًا فَأَمَرَ حُذَيْفَةُ مَنْ ضَرَبَ وَجْهَهُ فَوَثَبَ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ فَلَطَمَ وَجْهَ الْغَبْرَاءِ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ فَلَطَمَ مَالِكًا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا جُنَيْدِبٍ الْعَبْسِيَّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مالكاً فقتله، فشبت الْحَرْبُ بَيْنَ بَنِي عَبْسٍ وَفَزَارَةَ فَقُتِلَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ وَجَمَاعَاتٌ آخَرُونَ، وَقَالُوا فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا كَثِيرَةً يَطُولُ بسطها وذكرها.
قال ابن هشام: وأرسل قيس داحساً وَالْغَبْرَاءَ وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطَّارَ وَالْحَنْفَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (6) قَالَ وَأَمَّا حَرْبُ حَاطِبٍ [فَيَعْنِي حَاطِبَ] بْنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بن
__________
(1) في ابن هشام: تصونون أجسادا بدل تصونون أنسابا.
(2) الجباجب: المنازل، واحدها، جبجبة، قال السهيلي هي منازل منى.
(3) الاخاشب: أراد الاخشبين، جبلا مكة.
(4) في الاصل: الذي، والصواب ما أثبتناه.
(5) قيس بن زهير سيد بني عبس وكان يلقب بقيس الرأي.
لجودة رأيه من أقواله: أربعة لا يطاقون: عبد ملك.
نذل شبع، وأمة ورثت، وقبيحة تزوجت.
(6) اختلفت الآراء حول ملكية داحس والغبراء، أنظر في ذلك: العقد الفريد ج 3 / 313 سيرة ابن هشام 1 / 303 = (*)(3/189)
أُمَيَّةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.
كَانَ قَتَلَ يَهُودِيًّا جَارًا لِلْخَزْرَجِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَزِيدُ (1) بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ فُسْحُمَ (2) فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَتَلُوهُ فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْخَزْرَجِ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ الْأَسْوَدُ (3) بْنُ الصَّامِتِ الْأَوْسِيُّ، قَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذَيَّادٍ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا أَيْضًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَبَا قَيْسِ بْنَ الْأَسْلَتِ مَعَ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ حِينَ قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَدِينَةَ وَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَلَمْ يَبْقَ دَارٌ - أَيْ مَحَلَّةٌ - من دور المدينة إلا وفيها مسلم وَمُسْلِمَاتٌ غَيْرَ دَارِ بَنِي وَاقِفٍ قَبِيلَةِ أَبِي قَيْسٍ ثَبَّطَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْقَائِلُ أَيْضًا: أربَّ الناسِ أشياءٌ ألمتْ * يُلَفُّ الصعبُ مِنْهَا بِالذَّلُولِ أَرَبَّ النَّاسِ أَمَّا إِنْ ضَلَلْنَا * فَيَسِّرْنَا لمعروفِ السَّبِيلِ فَلَوْلَا رَبُّنَا كُنَّا يَهُودًا * وَمَا دِينُ الْيَهُودِ بِذِي شُكُولِ (4)
وَلَوُلَا رَبُّنَا كُنَّا نَصَارَى * مَعَ الرُّهْبَانِ فِي جَبَلِ الْجَلِيلِ وَلَكِنَّا خُلقنا إِذْ خُلقنا * حَنِيفًا دينُنا عَنْ كُلِّ جِيلِ نَسُوقُ الهديَ ترسُفُ مذعناتٍ * مكشَّفة المناكبِ فِي الْجُلُولِ (5) وَحَاصِلُ مَا يَقُولُ أَنَّهُ حَائِرٌ فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ سَمِعَهُ مِنْ بِعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَقَّفَ الْوَاقِفِيُّ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.
وَكَانَ الَّذِي ثَبَّطَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا عبد الله بن أبي بن سَلُولَ بَعْدَمَا أَخْبَرَهُ أَبُو قَيْسٍ أَنَّهُ الَّذِي بُشر [بِهِ] يَهُودُ فَمَنَعَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يُسْلِمْ إِلَى يَوْمِ الْفَتْحِ هو وأخوه وخرج، وَأَنْكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنْ يَكُونَ أَبُو قَيْسٍ أَسْلَمَ.
وَكَذَا الْوَاقِدِيُّ.
قَالَ: كَانَ عَزَمَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَامَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَحَلَفَ لَا يُسْلِمُ إِلَى حَوْلٍ فَمَاتَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ (6) .
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ فيما حكاه ابن
__________
= الكامل لابن الاثير 1 / 343 الاغاني 8 / 240، 16 / 26 معجم البلدان (أصاد - هباءة) شرح ديوان الحماسة للتبريزي 1 / 397 مجمع الامثال للميداني 2 / 51.
(1) في الاصول زيد وهو تحريف، من ابن هشام وشرح القاموس مادة فسحم.
(2) في الاصول قسحم، وما أثبتناه من ابن هشام وشرح القاموس مادة فسحم.
(3) في ابن هشام: سويد، وقد تقدم التعليق على ذلك يوم بعاث.
(4) البيتان الاول والثاني ليسا في الطبقات.
ويبدأ الثالث والرابع: ولوشا بدل " ولولا ربنا ".
(5) في الطبقات شطره: تكشف عن مناكبها الجلول.
(6) في ابن سعد: ذي الحجة على رأس عشرة أشهر من الهجرة.
(*)(3/190)
لاثير فِي كِتَابِهِ [أُسد] الْغَابَةِ، أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام فسمع يقول: لا له إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ " يَا خَالِ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَقَالَ: أَخَالٌ أَمْ عَمٌّ؟ قَالَ بَلْ خَالٌ قَالَ: فَخَيْرٌ لِي أَنْ أَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَعَمْ! تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (1) رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَرَادَ ابْنَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كُبَيْشَةَ بِنْتَ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ، فَسَأَلَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النساء) [النِّسَاءِ: 22] الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: كَانَ أَبُو قَيْسٍ هَذَا قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَفَارَقَ الْأَوْثَانَ، وَاغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتَطَهَّرَ مِنَ الْحَائِضِ مِنَ النِّسَاءِ، وهمَّ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهَا وَدَخَلَ بَيْتًا لَهُ فَاتَّخَذَهُ مَسْجِدًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ وَقَالَ: أَعْبُدُ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ فَارَقَ الْأَوْثَانَ وَكَرِهَهَا، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم فحسن إسلامه (2) ، وكان شيخاً كبيراً وَكَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ مُعَظِّمًا لِلَّهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا حِسَانًا وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: يَقُولُ أَبُو قَيْسٍ وَأَصْبَحَ غَادِيًا * أَلَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وَصَاتِيَ فَافْعَلُوا فَأُوصِيكُمْ بِاللَّهِ وَالْبِرِّ وَالتُّقَى * وأعراضِكم والبرِّ بِاللَّهِ أَوَّلُ وَإِنْ قومُكم سَادُوا فَلَا تَحْسُدُنَّهُمْ * وَإِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ الرِّئَاسَةِ فَاعْدِلُوا وَإِنْ نَزَلَتْ إِحْدَى الدَّوَاهِي بِقَوْمِكُمْ * فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا وإن ناب.
غر فادحُ فَارْفُقُوهُمُ * وَمَا حمَّلوكم فِي الْمُلِمَّاتِ فَاحْمِلُوا وإن أنتم أمعزتم فَتَعَفَّفُوا * وَإِنْ كَانَ فَضْلُ الْخَيْرِ فِيكُمْ فَأَفْضِلُوا (3) وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ أَيْضًا: سَبِّحُوا اللَّهَ شرقَ كُلِّ صَبَاحٍ * طَلَعَتْ شمسُه وكلِّ هِلَالِ عَالِمَ السِّرِّ وَالْبَيَانِ جَمِيعًا * لَيْسَ مَا قَالَ رَبُّنَا بضلال (4) وله الطير تستزيد وتأوي * في وكور من آمنات الجبال
__________
(1) مسند أحمد ج: 3 / 152، 154، 268 حلبي.
(2) في ابن سعد: كاد أن يسلم، وبقي على دين إبراهيم وكان يقال له بيثرب الحنيف، ذكر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم في شعره وكان يقول: ليس على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل.
(أنظر الطبقات ج 4 / 383 وما بعدها) .
(3) أمعزتم: وتروى أمعرتم بالراء: أفتقرتم وأصابتكم شدة.
(4) في ابن هشام: لدينا مكان جميعا.
(*)(3/191)
وَلَهُ الوحشُ بالفلاةِ تَرَاهَا * فِي حقافٍ وَفِي ظِلَالِ الرِّمَالِ (1) وَلَهُ هَوَّدَتْ يهودُ وَدَانَتْ * كلَّ دينٍ مَخَافَةً مِنْ عُضال (2) وَلَهُ شَمَّسَ النَّصَارَى وَقَامُوا * كلَّ عيدٍ لِرَبِّهِمْ وَاحْتِفَالِ وَلَهُ الراهبُ الحبيسُ تراه * رهنَ بؤسٍ وكان أنعمَ بَالِ (3) يَا بَنِيَّ الْأَرْحَامَ لَا تَقْطَعُوهَا * وصِلُوها قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي ضِعَافِ الْيَتَامَى * وَبِمَا يُسْتَحَلُّ غَيْرُ الْحَلَالِ وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلْيَتِيمِ وَلِيًّا * عَالِمًا يَهْتَدِي بِغَيْرِ سُؤَالِ ثُمَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَا تَأْكُلُوهُ * إِنَّ مَالَ الْيَتِيمِ يرعاه والي يا بني التخوم لا تخزلوها * إِنَّ جَزْلَ التُّخُومِ ذُو عُقَّالِ (4) يَا بَنِيَّ الْأَيَّامَ لَا تَأْمَنُوهَا * وَاحْذَرُوا مَكْرَهَا ومرَّ اللَّيَالِي واعلموا أن مرها (5) لنفاد * الخلق مَا كَانَ مِنْ جديدٍ وَبَالِي وَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالْتَّقْ * وَى وتركِ الْخَنَا وأخذِ الْحَلَالِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ أَيْضًا يَذْكُرُ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ نُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ.
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً * يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُواتيا وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا بِتَمَامِهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
قِصَّةُ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ (6) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ المسلمين [إلى الموسم] مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ حَتَّى قدموا مكة، فواعدوا
__________
(1) الحقاف: جمع حقف، وهو الكدس المستدير من الرمل.
(2) في ابن هشام: كل دين دين إذا ذكرت عضال (3) في ابن هشام: وكان ناعم بال.
(4) في الاصل تجزلوها.
وهو تحريف.
وتخزلوها: تقطعوها.
(5) في الاصل أمرها.
(6) أنظر العقبة الثانية في: طبقات ابن سعد 1 / 221 تاريخ الطبري 2 / 361 وما بعدها سيرة ابن هشام 2 / 81 وما بعدها.
تاريخ الاسلام للذهبي 2 / 200 ابن سيد الناس 1 / 192، الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر (68) .
(*)(3/192)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوَاسِطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، حِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ وَالنَّصْرِ لِنَبِيِّهِ وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وأهله [وإذلال الشرك وَأَهْلِهِ] .
فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ - حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبًا حَدَّثَهُ - وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا -.
قَالَ: خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ (1) سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا، فَلَمَّا وَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ: يَا هَؤُلَاءِ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رأياً والله ما أدري أتوا فقونني عليه أم لا؟ قُلْنَا وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا.
قَالَ: فَقُلْنَا وَاللَّهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يُصَلِّي إِلَّا إِلَى الشَّامِ وَمَا نُرِيدُ أن خالفه.
فَقَالَ: إِنِّي لمصلٍّ إِلَيْهَا، قَالَ فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لَا نَفْعَلُ.
قَالَ: فَكُنَّا إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ وَصَلَّى هُوَ إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ.
[قَالَ: وَقَدْ كُنَّا قد عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ وَأَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ.
فلمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ] قَالَ لِي يَا ابْنَ أَخِي، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَإِنَّهُ قَدْ وقع في نفسي منه شئ.
لِمَا رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ.
قَالَ فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ وَلَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ - فَلَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ فَقُلْنَا لَا، فَقَالَ هَلْ تَعْرِفَانِ
الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ؟ قَالَ: قُلْنَا نَعَمْ! وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا، قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبَّاسِ، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ وَإِذَا الْعَبَّاسُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ مَعَهُ، فَسَلَّمْنَا ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم للعبَّاس: " هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّاعِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ! فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا قَدْ هَدَانِي اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ، فَرَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذلك شئ فماذا ترى؟ قَالَ: " قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا " قَالَ فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ، قَالَ وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جابر، سيد من سادتنا أَخَذْنَاهُ وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا من المشركين أمرنا،
__________
(1) البراء بن معرور: يكنى أبا بشر، وهو أحد النقباء الاثني عشر من الأنصار، وهو أوَّل من تكلم من النقباء ليلة العقبة حين لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السبعون.
أوصى بثلث ماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعه حيث شاء، مات وصلى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفر قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ، قال الواقدي: كان أول من مات من النقباء (الطبقات 3 / 618) .
(*)(3/193)
فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا جَابِرٍ إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمًّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّانَا الْعَقَبَةَ قَالَ فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ وَكَانَ نَقِيبًا (1) .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ
جَابِرٌ: أَنَا وَأَبِي وَخَالِي مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد قال ابن عيينة: أحدهم الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: شَهِدَ بِي خَالَايَ الْعَقَبَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، وفي المواسم يَقُولُ " مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رسالة ربي وله الجنة " فلا يجد أحداً يؤويه ولا بنصره، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ - كَذَا قَالَ فِيهِ - فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم [يدعوهم إلى الله عزوجل] (2) وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أهله فيسلمون بإسلامه، حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا فَقُلْنَا حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ ويطرد فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهَا مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا.
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ " تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تقولوا في الله لا تخافوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ " فَقُمْنَا إِلَيْهِ [نبايعه] (3) وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ - وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ - وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ - وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ - إِلَّا أَنَا، فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ: فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أنَّه رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ إِخْرَاجَهُ اليوم مناوأة للعرب كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، [وَأَنْ] تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ.
فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أنفسكم خيفة فذروه.
فَبَيِّنُوا ذَلِكَ فَهُوَ أَعْذُرُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
قالوا أبط (4) عَنَّا يَا أَسْعَدُ فَوَاللَّهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ البيعة ولا
__________
(1) ما بين معكوفتين في الخبر زيادة من ابن هشام.
(2) زيادة من البيهقي.
(3) من البيهقي.
(4) العبارة في البيهقي: فقلنا: أمط يدك يا أسعد بن زرارة فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقبلها فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا.. (*)(3/194)
نُسْلَبُهَا أَبَدًا.
قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ وَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ - زَادَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ - بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ (1) كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عن أبي إدريس بِهِ نَحْوَهُ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَلَى شَرْطِ مسلم ولم يخرجوه.
وقال البزار وروى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ وَلَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ موسى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ: كَانَ الْعَبَّاسُ آخِذًا بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ يُوَاثِقُنَا، فَلَمَّا فَرَغْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَخَذْتُ وَأَعْطَيْتُ " وَقَالَ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - هُوَ الثَّوْرِيُّ - عن جابر - يعني الجعفي - عن داود - وهو ابْنُ أَبِي هِنْدَ - عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنُّقَبَاءِ مِنَ الأنصار: " تؤووني وتمنعوني؟ " قالو: نَعَمْ قَالُوا: فَمَا لَنَا؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ " ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ جَابِرٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْبَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ: فَنِمْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلْثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ الْقَطَا مُسْتَخْفِينَ حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا: نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، أُمُّ عُمَارَةَ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ ابْنَةُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي إِحْدَى نِسَاءِ بَنِيَ سَلِمَةَ وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ.
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ - فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عنه - بسمائهم وأنسابهم وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا سبعين، والعرب كَثِيرًا مَا تَحْذِفُ الْكَسْرَ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ.
كَانُوا
سَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً (2) ، قَالَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ مِنْ ذَوِي أَسْنَانِهِمْ، وَثَلَاثُونَ مِنْ شَبَابِهِمْ قَالَ وَأَصْغَرُهُمْ أَبُو مسعود وجابر بن عبد الله.
قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا فِي الشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثَّقَ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ - قَالَ وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِنَّمَا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا - إن محمداً منا حيث قد عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأَيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزَّةٍ مَنْ قَوْمِهُ، وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْحِيَازَ إِلَيْكُمْ وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه
__________
= أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج 3 / 339 - 440 والبيهقي في الدلائل ج 2 / 442، 443.
(1) في البيهقي 2 / 443: يحيى بن سليمان عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابر، وزاد في وسطه: قال: فقال له عمه العباس: يا ابن أخي لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين فلما نظر العباس في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم هؤلاء أحداث.. (2) وفي رواية ابن بكير عن ابن إسحاق قال: كانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين من الخزرج والأوس.
وفي ابن سعد: أنهم كانوا سبعين يزيدون رجلاً أو رجلين.
(*)(3/195)
إِلَيْهِ وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ.
قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قَلَتَ: فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ وَرَغَّبَ فِي الإسلام.
قَالَ: " أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ " قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ معرور بيده [و] قال نعم! فوالذي بعثك بالحقّ [نبياً] لِنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا (1) فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ [وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ] (2) وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.
قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ، وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالًا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا - يَعْنِي الْيَهُودَ - فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ
أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فتبسَّم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: " بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، وَالْهَدْمُ الْهَدْمُ (3) .
أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ " قَالَ كَعْبٌ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْرِجُوا إليَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ " فَأَخْرَجُوا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةً مِنَ الْأَوْسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ الْمُتَقَدِّمُ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ [بْنِ ثَعْلَبَةَ] (4) بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ [بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْأَكْبَرِ] (4) بن مالك [الْأَغَرِّ] (5) بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ الْمُتَقَدِّمُ، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ الْمُتَقَدِّمُ، وَسَعْدُ بْنُ عُبادة بْنِ دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ (6) خُزَيْمَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ ساعدة بن
__________
(1) أزرنا: أي نساءنا، والمرأة قد يكنى عنها بالازار، وقد يكنى بالازار عن النفس أيضا.
(2) ما بين معكوفين من ابن هشام.
(3) كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك وهدمي هدمك أي ما هدمت من الدماء هدمته أنا.
ويروى أيضا: اللدم اللدم، والهدم الهدم.
وعن ابن هشام الهدم: يعني الحرمة: أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم.
وعلق السهيلي على قول ابن هشام قال: وإنما كنى ابن هشام على حرمة الرجل وأهله بالهدم " لانهم كانوا أهل نجعة وارتحال، ولهم بيوت يستخفونها يوم ظعنهم، فكلما ظعنوا هدموها.
(الخبر في ابن هشام 2 / 82 ونقله الطبري عنه 2 / 362) .
(4) من ابن هشام.
(5) من الاستيعاب.
(6) في الاصول والاستيعاب، بن خزيمة، وفي ابن هشام ابن أبي خزيمة، وفي شرح السيرة لابي ذر ابن أبي حزيمة،
وقال في الاستيعاب: ويقال فيه: ابن أبي حليمة.
(*)(3/196)
كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبدود بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَمِنَ الْأَوْسِ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ، أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ جُشَمَ [بْنِ الْحَارِثِ] (1) بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ النَّحَّاطِ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ السَّلْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عبد المنذر بن زنير (2) بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعُدُّونَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ بَدَلَ رِفَاعَةَ هَذَا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ (3) .
وَاخْتَارَهُ السُّهَيْلِيُّ وابن الأثير في [أسد] الْغَابَةِ.
ثُمَّ اسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي ذِكْرِ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ - لَيْلَةَ العقبة الثانية - حين قال: أبلغ أُبَيًّا أَنَّهُ فَالَ رَأْيُهُ * وَحَانَ غَدَاةَ الشِّعْبِ وَالْحَيْنُ وَاقِعُ (4) أَبَى اللَّهُ مَا مَنَّتْكَ نَفْسُكَ إِنَّهُ * بِمِرْصَادِ أَمْرِ النَّاسِ راءٍ وَسَامِعُ وَأَبْلِغْ أبا سفيان أن قد بدالنا * بِأَحْمَدَ نورٌ مَنْ هَدَى اللَّهُ سَاطِعُ فَلَا ترغبن فِي حَشْدِ أَمْرٍ تُرِيدُهُ * وألَّبْ وجمِّع كُلَّ مَا أَنْتَ جَامِعُ وَدُونَكَ فَاعْلَمْ أَنَّ نَقْضَ عهودنا * أباه عليك الرهطُ حين تبايعوا (5) أَبَاهُ البراءُ وابْنُ عَمْرٍو كِلَاهُمَا * وَأَسْعَدُ يَأْبَاهُ عَلَيْكَ وَرَافِعُ وَسَعْدٌ أَبَاهُ السَّاعِدِيُّ وَمُنْذِرٌ * لِأَنْفِكَ إِنْ حَاوَلْتَ ذَلِكَ جَادِعُ وَمَا ابْنُ رِبِيعٍ إِنْ تَنَاوَلْتَ عَهْدَهُ * بِمُسْلِمِهِ لَا يَطْمَعَنْ ثَمَّ طَامِعُ وَأَيْضًا فَلَا يُعْطِيكَهُ ابْنُ رَوَاحَةٍ * وإخفارُه مِنْ دُونِهِ السمُّ نَاقِعُ
وَفَاءً بِهِ، وَالْقَوْقَلِيُّ بْنُ صَامِتٍ * بِمَنْدُوحَةٍ عَمَّا تُحَاوِلُ يَافِعُ أَبُو هَيْثَمٍ أَيْضًا وفيٌّ بِمِثْلِهَا * وَفَاءً بِمَا أَعْطَى مِنَ الْعَهْدِ خَانِعُ وَمَا ابْنُ حُضَيْرٍ إِنْ أَرَدْتَ بمْطِمِعٍ * فَهَلْ أَنْتَ عَنْ أُحْمُوقَةِ الْغَيِّ نازع
__________
(1) من ابن هشام.
(2) في ابن هشام والاستيعاب: ابن زبير.
(3) واختاره ابن سعد في الطبقات قال: وهو أحد النقباء الاثني عشر من الأنصار وشهد العقبتين جميعا ووافقه البيهقي في الدلائل من رواية ابن بكير عن ابن سحاق ولم يذكره ابن عبد البر في الدرر في اختصار المغازي (ص 71) بل ذكر رفاعة.
(4) فال: بطل.
(5) قوله تبايعوا: ضبطها محقق سيرة ابن هشام: تتابعوا.
(*)(3/197)
وَسَعْدٌ أَخُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُ * ضَرُوحٌ لِمَا حَاوَلْتَ مِلْأَمْرِ مَانِعُ (1) أُولَاكَ نُجُومٌ لَا يغبَّك مِنْهُمُ * عَلَيْكَ بنحسٍ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَالِعُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ رِفَاعَةَ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَلَيْسَ مِنَ النُّقَبَاءِ بالكلية في هذه الليلة.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ.
قال: كان الأنصار ليلة العقبة سبعون رَجُلًا، وَكَانَ نُقَبَاؤُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ.
وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ من الأنصار إن جبرائيل كَانَ يُشِيرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم إِلَى مَنْ يَجْعَلُهُ نَقِيبًا لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَكَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَحَدَ النُّقَبَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (2) .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر [بن حزم] (3) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنُّقَبَاءِ: " أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي [يعني المسلمين] (4) " قَالُوا نَعَمْ! وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: إنَّ الْقَوْمَ لمَّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ العبَّاس بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ
الْأَنْصَارِيُّ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أَسْلَمْتُمُوهُ فَمِنَ الْآنَ فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وافون له لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ عَلَى نَهْكَةٍ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَيْنَا؟ قَالَ " الْجَنَّةُ " قَالُوا ابْسُطْ يَدَكَ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ.
قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: وَإِنَّمَا قَالَ العبَّاس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعنقاهم وَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أنَّه إنما قال ذلك ليؤخر [القوم] الْبَيْعَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَهَا عَبْدُ الله بن أبي بن سَلُولَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ لِيَكُونَ أَقْوَى لِأَمْرِ الْقَوْمِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَنُو النَّجَّارِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ، أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِهِ.
وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ: بَلْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَرَاءُ بْنُ معرور، ثم بايع [بعد] القوم (5) وقال *.
__________
* (1) ضروح: مانع ودافع عن نفسه.
(2) دلائل البيهقي ج 2 / 453.
(3) من دلائل البيهقي.
(4) من ابن هشام.
(5) سيرة ابن هشام: 2 / 89 وما بين معقوفتين من السيرة.
(*)(3/198)
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي [أُسْدِ] الْغَابَةِ: وَبَنُو سَلِمَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ لَيْلَتَئِذٍ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ.
قَالَ: وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كانت بدر أكثر (1) فِي
النَّاسِ مِنْهَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ أخبرنا [أَبُو] (2) عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إسحاق حدثنا أبو نعيم [الفضل بن دكين] حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْعَبَّاسِ عَمِّهِ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ: " لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلَا يُطِلِ الْخُطْبَةَ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْنًا، وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ " فَقَالَ قَائِلُهُمْ - وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ - سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شِئْتَ.
ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ.
قَالَ: " أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي وَأَصْحَابِي أَنْ تُؤْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ " قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: " لَكُمُ الْجَنَّةُ " قَالُوا فَلَكَ ذَلِكَ.
ثُمَّ رَوَاهُ حَنْبَلٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فَذَكَرُهُ قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ أَصْغَرَهُمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: فَمَا سَمِعَ الشِّيبُ وَالشُّبَّانُ خُطْبَةً مِثْلَهَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ (3) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ الْفَحَّامُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ (4) بْنِ رَفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قدَّمت رَوَايَا خَمْرٍ، فَأَتَاهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَخَرَقَهَا (5) وَقَالَ: إِنَّا بَايَعَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ.
فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التِي بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا إِسْنَادٌ جِيدٌ قَوِيٌّ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَدْ روى يونس عن ابن إسحاق [قال] حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْحَرْبِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا،
__________
(1) في البخاري " بدر أذكر " وفي نسخ البداية المطبوعة: " بدرا كثيرة " وهو تحريف.
(2) من دلائل البيهقي 2 / 451.
(3) في الدلائل: محمد بن محمد بن محمش الفقيه.
(4) في البيهقي عبيد.
(5) في البيهقي: فحرقها.
(*)(3/199)
وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا (1) ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أخيه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ: فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ؟ يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ - وَالْجُبَاجِبُ المنازل - هل لكم في مذمم والصباء مَعَهُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " هذا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ " (2) .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ ابْنُ أُزَيْبٍ.
" أَتَسْمَعُ أَيْ عدوَّ الله؟ أما والله لا تفرغن لَكَ (3) .
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَضُّوا إِلَى رِحَالِكُمْ " قَالَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبادة بْنِ نَضْلَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ ".
قَالَ فَرَجَعْنَا إِلَى مَضَاجِعِنَا فَنِمْنَا فِيهَا حَتَّى أَصْبَحْنَا (4) ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جِلَّةُ قُرَيْشٍ، حَتَّى جاؤنا فِي مَنَازِلِنَا فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا.
وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا، مِنْ أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ، قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ مَا كَانَ مِنْ هذا شئ وَمَا عَلِمْنَاهُ، قَالَ: وَصَدَقُوا لَمْ يَعْلَمُوا، قَالَ وبعضنا ينظر إلى بعض.
قال ثم قال الْقَوْمُ وَفِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ جَدِيدَانِ (5) ، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَةً - كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْرَكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا - يَا أَبَا جَابِرٍ أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا مِثْلَ نَعْلِي هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ؟ قَالَ: فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ رَمَى بِهِمَا إليَّ.
قَالَ: وَاللَّهِ لَتَنْتَعِلَنَّهُمَا، قَالَ: يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ: مَهْ، أَحْفَظْتَ وَاللَّهِ الْفَتَى فَارْدُدْ إِلَيْهِ نَعْلَيْهِ.
قَالَ: قُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَرُدُّهُمَا، فَأَلٌ وَاللَّهِ صَالِحٌ، لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لَأَسْلُبَنَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمْ أَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبي بن سَلُولَ فَقَالُوا مِثْلَ مَا ذَكَرَ كَعْبٌ مِنَ الْقَوْلِ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ جَسِيمٌ مَا كَانَ قَوْمِي لِيَتَفَرَّقُوا (6) عليَّ مِثْلِ هَذَا وَمَا عَلِمْتُهُ كَانَ.
قَالَ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ.
قَالَ وَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ مِنًى فَتَنَطَّسَ (7) الْقَوْمُ الْخَبَرَ فوجدوه قد كان،
__________
(1) نقل الخبر البيهقي في الدلائل 2 / 452 وزاد هنا فيه: يقول - أي النبي صلى الله عليه وسلم - وإن استوثر عليكم - تابع الوليد - وقومي يلومونني على هذا الحرف.
(2) في النهاية لابن الأثير: هو شيطان اسمه: أزب الكعبة، وقيل الازب: القصير الدميم.
(3) في ابن هشام: لافرعن لك.
(4) كذا في الاصل والسيرة، وفي رواية البيهقيّ: فرجعنا إلى رحالنا فاضطجعنا على فرشنا.
(5) قال السهيلي: والنعل مؤنثة، ولكن لا يقال: جديدة في الفصيح من الكلام، وإنما يقال: ملحفة جديدة.
قال سيبويه: قال جديدة، فإنما أراد معنى حديثة.
(6) في ابن هشام: ليتفوتوا علي بمثل هذا.
(7) التنطس: تدقيق النظر، وتنطس القوم الخبر: أكثروا البحث عنه.
(*)(3/200)
فَخَرَجُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِأَذَاخِرَ وَالْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا.
فَأَمَّا الْمُنْذِرُ فَأَعْجَزَ الْقَوْمَ، وَأَمَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَأَخَذُوهُ فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إِلَى؟ عُنُقِهِ بِنَسْعِ رَحْلِهِ ثُمَّ أَقْبَلُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَكَّةَ يَضْرِبُونَهُ وَيَجْذِبُونَهُ بِجُمَّتِهِ - وَكَانَ ذَا شِعْرٍ كَثِيرٍ -.
قَالَ سَعْدٌ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ إِذْ طَلَعَ عليَّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ رجل وضئ أَبْيَضُ، شَعْشَاعٌ، حُلْوٌ مِنَ الرِّجَالِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ هَذَا.
فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَفْعَ يَدِهِ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَا وَاللَّهِ مَا عِنْدَهُمْ بَعْدَ هَذَا مِنْ خير، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ يَسْحَبُونَنِي إِذْ أَوَى (1) لي رجل ممن معهم.
قال: وَيْحَكَ أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جَوَارٌ وَلَا عَهْدٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أُجِيرُ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ تُجَّارَهُ وَأَمْنَعُهُمْ مِمَّنْ أَرَادَ ظُلْمَهُمْ بِبِلَادِي.
وَلِلْحَارِثِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ: فَقَالَ: وَيْحَكَ فَاهْتِفْ بِاسْمِ
الرَّجُلَيْنِ، وَاذْكُرْ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمَا، قَالَ: فَفَعَلْتُ، وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَيْهِمَا فَوَجَدَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: أن رجلا من الخزرج الآن ليضرب بالأبطح ليهتف بكما [ويذكر أن بينه وبينكما جوار] ، قَالَا وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ.
قَالَا: صَدَقَ وَاللَّهِ، إِنْ كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده، قال: فجاءا فَخَلَّصَا سَعْدًا مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَانْطَلَقَ.
وَكَانَ الَّذِي لَكَمَ سَعْدًا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الَّذِي أَوَى لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بن هشام (2) .
وروى البيهقيّ بسنده عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير (3) قَالَ سَمِعَتْ قُرَيْشٌ قَائِلًا يَقُولُ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ: فَإِنْ يُسلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ محمدٌ * بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَنِ السَّعْدَانِ أَسْعَدُ بْنُ بَكْرٍ أَمْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ (4) ؟ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: أَيَا [يا] سَعْدُ سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا * وَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْخَزْرَجَيْنِ الْغَطَارِفِ أَجِيبَا إِلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنَّيَا * عَلَى اللَّهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ فَإِنَّ ثوابَ اللهِ للطالبِ الْهُدَى * جنانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ذاتُ رَفَارِفِ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ وَاللَّهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وسعد بن عبادة.
__________
(1) أوى لي: رحمني ورق لي.
(2) سيرة ابن هشام: ج 2 / 93.
(3) الخبر في دلائل البيهقي وفيه عن: عبد الحميد بن أبي عيسى بن خير - كذا قال الكلبي - وهو عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن خير.
والخبر أخرجه ابن أبي الدنيا، والخرائطي.
(4) قال السهيلي في الروض الآنف 1 / 272: فحسبوا أنه يريد بالسعدين القبيلتين: سعد هذيم من قضاعة، وسعد بن زيد بن تميم.(3/201)
فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِهَا.
وَفِي قَوْمِهِمْ بَقَايَا مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ مِنْهُمْ، عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ [وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا] ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَأَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ فِي دَارِهِ يُقَالُ لَهُ مَنَاةُ (1) كَمَا كانت الأشراف يصنعون، تتخذه إلهاً يعظمه ويظهره، فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ، ابْنُهُ مُعَاذٌ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَانُوا يُدْلِجُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو ذَلِكَ، فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حَفْرِ بَنِي سَلِمَةَ وَفِيهَا عِذَرُ النَّاسِ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو قَالَ: وَيْلَكُمُ مَنْ عَدَا عَلَى إِلَهِنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ ثُمَّ يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ فعل بك هذا لَأُخْزِيَنَّهُ.
فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، ففعلوا مثل ذلك، فيغدو فَيَجِدُهُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الأذى، فيغسله ويطيبه ويطهره، ثُمَّ يَعْدُونَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَى فَيَفْعَلُونَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فلمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ، اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ الْقَوْهُ يَوْمًا، فَغَسْلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ.
ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا أَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، هذا السَّيْفُ مَعَكَ.
فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ بِحَبْلٍ، ثُمَّ ألْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي سَلِمَةَ، فِيهَا عِذَرٌ مِنْ عِذَرِ النَّاسِ وَغَدَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ، فَخَرَجَ يَتَّبِعُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيِّتٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ وكلَّمه مَنْ أَسْلَمَ مِنْ [رجال] قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ، وَعَرَفَ مِنَ اللَّهِ مَا عَرَفَ، وَهُوَ يَذْكُرُ صَنَمَهُ ذَلِكَ وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَيَشْكُرُ اللَّهَ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فيه من العمى والضلالة ويقول: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ * أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ أُفٍّ لِمَلْقَاكَ إِلَهًا مستدِن * الْآنَ فتَّشناك عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ (2) الحمدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنْ * الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ ديَّان الدِّين (3)
هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أن * أكونَ في ظلمة قبر مرتهن
__________
(1) مناة: مأخوذ من قولك: منيت الدم وغيره، إذا صببته، لان الدماء كانت تمنى عنده تقربا إليه، ومنه سميت الاصنام الدمى.
(2) مستدن: مستدن، من السدانة، وهي خدمة البيت وتعظيمه، قاله السهيلي، وقال أبو ذر في شرح السيرة: المستدن: الذليل.
(3) قال السهيلي: الدين: في قوله ديان الدين: جمع دينة وهي العادة.
ويجوز أن يكون أراد: الاديان أي هو ديان أهل الاديان، وجمعها على الدين لانها ملل ونحل كما قالوا في جمع حرة: حرائر.
(*)(3/202)
فَصْلٌ يَتَضَمَّنُ أَسْمَاءَ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثانية ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ (1) فَمِنَ الْأَوْسِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ [لم يشهد بدراً] ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ بَدْرِيٌّ أَيْضًا (2) ، وَسَلَمَةُ بن سلامة بن وقش بدري، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن دينار (3) بَدْرِيٌّ، وَنُهَيْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ نَابِي بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ بَدْرِيٌّ وَقُتِلَ بِهَا شَهِيدًا، وَرِفَاعَةُ بْنُ عبد المنذر بن زنير (4) نَقِيبٌ بَدْرِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الْبُرَكِ بَدْرِيٌّ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا أَمِيرًا عَلَى الرُّمَاةِ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْجَدِّ بْنِ عَجْلَانَ بْنِ الْحَارِثِ (5) بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَلَوِيُّ حَلِيفٌ لِلْأَوْسِ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَقُتِلَ بِالْيَمَامَةِ شَهِيدًا، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
وَمِنَ الْخَزْرَجِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ رَجُلًا، أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَمَاتَ بِأَرْضِ الرُّومِ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ شَهِيدًا، وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخَوَاهُ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ وَهُمْ بَنُو عَفْرَاءَ بَدْرِيُّونَ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَقُتِلَ بِالْيَمَامَةِ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَبُو أُمَامَةَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ مَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَسَهْلُ بْنُ عَتِيكٍ بَدْرِيٌّ، وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بَدْرِيٌّ، وَأَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ بَدْرِيٌّ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ كَانَ أَمِيرًا عَلَى السَّاقَةِ يَوْمَ بَدْرٍ،
وَعَمْرُو بْنُ غَزِيَّةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ بَدْرًا وأُحداً وَالْخَنْدَقَ، وَقُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ أَمِيرًا، وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ بَدْرِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ (6) الذي أري النداء [للصلاة] وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَخَلَّادُ بْنُ سُوَيْدٍ بِدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ خندقي وقتل يوم بني قريظة شهيدا،
__________
(1) رتب ابن هشام في السيرة أسماءهم على حسب القبائل 2 / 97 - 99 ورتبهم الصالحي في السيرة الشامية أبجديا على الاحرف 3 / 293.
(2) يعني أن أسيد حضر بدرا، ولكن أسيد بن حضير لم يشهد بدراً وتخلف هو وغيره من أگابر أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النقباء وغيرهم عن بدر، وشهد أحد والخندق والمشاهد كلها.
(3) كذا في الاصل وفي نسخة لابن هشام وهو تحريف والصواب: أبو بردة بن نيار، واسمه هانئ بن نيار بن عمرو بن عبيد بن كلاب..بن الحاف بن قضاعة كما في سيرة ابن هشام والاستيعاب والقاموس مادة (نير) .
(4) في ابن هشام: زنبر، وفي الاستيعاب: زبير.
(5) في ابن هشام: حارثة.
(6) في ابن هشام والاستيعاب: بن عبد الله بن زيد مناة بن الحارث بن الخزرج.
(*)(3/203)
طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًى فَشَدَخَتْهُ فَيُقَالُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ وَأَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبَدْرِيٌّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ أَحْدَثُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ سِنًّا وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا (1) ، وَزِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ (2) بَدْرِيٌّ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بن وذفة (3) ، وَخَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ بَدْرِيٌّ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مُخَلَّدِ بْنِ عَامِرِ بن زريق، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ لِأَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا وَهُوَ بَدْرِيٌّ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبَّادُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عامر بن خالد (4) بن عامر بن زريق بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرٍ بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ وَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَ فِيمَا تَزْعُمُ بَنُو سَلِمَةَ وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ وَأَوْصَى لَهُ بِثُلْثِ مَالِهِ فردَّه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ
الْبَرَاءِ وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَمَاتَ بِخَيْبَرَ شَهِيدًا مِنْ أَكْلِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الشَّاة الْمَسْمُومَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسِنَانُ بْنُ صَيْفِيِّ بْنِ صَخْرٍ بَدْرِيٌّ (5) ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ بَدْرِيٌّ، قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمَعْقِلُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحٍ بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بَدْرِيٌّ، وَمَسْعُودُ بْنُ زَيْدِ (6) بْنِ سُبَيْعٍ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بَدْرِيٌّ، وَيَزِيدُ بْنُ خِذَامِ (7) بْنِ سُبَيْعٍ، وَجُبَارُ بْنُ صَخْرِ [بْنِ أُمَيَّةَ] بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانَ بْنِ عُبَيْدٍ بَدْرِيٌّ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ بدري، وكعب بن مالك (8) ، وسليم بن عامر (9) بْنِ حَدِيدَةَ بَدْرِيٌّ وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ أَبُو الْمُنْذِرِ يَزِيدُ بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَأَبُو الْيَسَرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو بَدْرِيٌّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ سَوَادِ بْنِ عَبَّادٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي (10) بَدْرِيٌّ وَاسْتُشْهِدَ بالخندق،
__________
(1) خرج في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب بفدك في صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطبقات: 2 / 126) .
(2) شهد زياد أحد والخندق والمشاهد كلها، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على حضرموت، ومات زياد في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
(3) قال ابن هشام ودفة كما في الاصل.
وفي سيرة ابن هشام وذفة، قال السهيلي: ودفة وهو الاصح..وعمرو بن ودفة هذا هو البياضي.
وذكره أبو ذر ودفة وكذلك ذكره صاحب العين بالدال المهملة، وفي الاشتقاق لابن دريد وذفة بالذال.
(4) في نسخة ابن هشام - محققة - خلدة.
وأشار محققه إلى أن الاصول: خالد.
وفي طبقات ابن سعد: خالد.
شهد عباد وأخوه الحارث بدرا وأحدا.
وشهد الحارث الخندق وشهد اليمامة وجرح ومات في خلافة عمر.
(5) قتل يوم الخندق شهيدا.
(6) في ابن هشام: يزيد.
(7) في ابن هشام والاستيعاب: حرام.
(8) شهد تبوك، ولم يشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها، بقي إلى زمن معاوية ومات سنة 50 هـ.
(9) في ابن هشام: عمرو في المكانين، ويقال عامر.
(10) في الاستيعاب: هانئ.
(*)(3/204)
وَأَخُوهُ عَمْرُو بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيٍّ، وَعَبْسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ بَدْرِيٌّ، وَخَالِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ بَدْرِيٌّ وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَابْنُهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بَدْرِيٌّ وَثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ بَدْرِيٌّ وَقُتِلَ شَهِيدًا بِالطَّائِفِ، وَعُمَيْرُ (1) بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بَدْرِيٌّ، وَخَدِيجُ بْنُ سَلَامَةَ (2) حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيٍّ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَمَاتَ بِطَاعُونِ عِمْوَاسَ (3) فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامت أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبادة بْنِ نَضْلَةَ وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ أَيْضًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ (4) بْنِ أَصْرَمَ حَلِيفٌ لهم [من بني غصينة] من بلى، وعمرو بن الحارث بن كندة (5) ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ بَدْرِيٌّ! وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلْدَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ (6) بَدْرِيٌّ وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا فَهُوَ مِمَّنْ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ أَيْضًا، وَسَعْدُ بْنُ عُبادة بْنِ دُلَيْمٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ (7) ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو نَقِيبٌ بَدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَمِيرًا وهو الذي يقال له أعتق لِيَمُوتَ، وَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ فَأُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ (8) بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ الْمَازِنِيَّةُ النَّجَّارِيَّةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتْ شَهِدَتِ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَتْ مَعَهَا أُخْتُهَا وَزَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنَاهَا حَبِيبٌ (9) وعبد الله، وابنها خبيب هَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ حِينَ جَعَلَ يَقُولُ لَهُ أَتَشْهَدُ أنَّ محمَّداً رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَقُولُ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ لَا أَسْمَعُ فَجَعَلَ يُقَطِّعُهُ عُضْوًا عَضْوًا حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَتْ أُمُّ عُمَارَةَ مِمَّنْ خَرَجَ إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة ورجعت وبها اثني عشر جرحاً من بين طعنة
__________
(1) قال ابن هشام: هو عُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ لِبْدَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ وهو كذلك في رواية موسى بن عقبة، أما في الطبقات
فكالاصل.
وشهد بدراً وأُحداً.
(2) قال الطبري شهد العقبة ولم يشهد بدرا وكان يكنى أبا رشيد.
(3) عمواس: بكسر أوله وسكون الثاني، أو بفتح ثانيه، قرية بفلسطين قرب بيت المقدس (معجم البلدان) .
(4) خزمة: بسكون الزاي عند ابن إسحاق وابن الكلبي، وبتحريكها عند الطبري.
(5) في ابن هشام: لبدة بن عمرو بن ثعلبة.
(6) أي لبني سالم بن غنم.
(7) استعد للخروج إلى بدر فنهش قبل أن يخرج فلم يشهد بدراً، وشهد أحداً والخندق والمشاهد كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج مهاجرا إلى الشَّام في أول خلافة عمر بن الخطاب ومات بحوران - لسنتين ونصف من خلافة عمر - سنة خمس عشرة، وقيل مات في خلافة أبي بكر سنة إحدى عشرة (طبقات ابن سعد 3 / 616) .
(8) أسلمت وحضرت ليلة العقبة وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت أحدا والحديبية وعمرة القضية وحنينا واليمامة وقطعت يدها وقد ضربها ابن قميئة على عاتقها.
(9) من ابن هشام وابن سعد، وفي الاصل خبيب وهو تحريف.
(*)(3/205)
وضربة رضي الله عنها، والأخرى أم منيع أسماء ابنه عمرو بن عدي [بن سنان] (1) بْنِ نَابِي بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها.
باب الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ الزُّهري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ - لِلْمُسْلِمِينَ: " قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أُرِيتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ " (2) فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ (3) مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهْلِي إِلَى أنَّها الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ " وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ
أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِطُولِهِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي كريب زاد مسلم وعبد الله بن مراد كلاهما عن أبي أُسَامَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جدِّه أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث بطوله.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَاسِمُ بْنُ الْقَاسِمِ السَّيَّارِيُّ بِمَرْوَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، حدَّثنا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَيَّ هَؤُلَاءِ الْبِلَادِ الثَّلَاثِ نَزَلْتَ فَهِيَ دَارُ هِجْرَتِكَ، الْمَدِينَةَ، أَوِ الْبَحْرَيْنِ، أَوْ قِنَّسْرِينَ " قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: ثُمَّ عَزَمَ لَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فأمر أصحابه بالهجرة إليها (4) .
__________
(1) من طبقات ابن سعد، وهي زوجة خديج بن سلامة شهدت معه العقبة فأسلمت وبايعت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَتْ خيبرا معه صلى الله عليه وسلم.
ويقال لها: أم شباث.
(2) تقدم تخريجه.
(3) في دلائل البيهقي: بعض من كان هاجر.
(4) دلائل النبوة ج 2 / 458، وأخرجه التِّرمذي في: 50 - كتاب المناقب (68) باب في فضل المدينة ح 3923 وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بن موسى.
وفي سند الحديث غيلان ذكره ابن حبان في الثقات 7 / 311 وقال: يروي عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ حديثا منكرا وروى عنه عيسى بن عبيد قال: إن الله أوحى إلي أن دار هجرتك بالمدينة اه.
والحديث رواه البخاري في التاريخ وابن حجر في التهذيب 8 / 254.
وقال: في ثبوته نظر لمخالفته ما في الصحيح وقال الزرقاني: صححه الحاكم وأقره الذهبي في تلخيصه، لكنه قال في الميزان: حديث منكر، ما أقدم الترمذي على تحسينه بل قال غريب.
(شرح المواهب 1 / 318) .
(*)(3/206)
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ جَامِعِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ أَبِي عَمَّارٍ
الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، عَنْ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَيَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ نَزَلْتَ فَهِيَ دَارُ هِجْرَتِكَ، الْمَدِينَةَ، أَوِ الْبَحْرَيْنِ، أَوْ قِنَّسْرِينَ " ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو عَمَّارٍ.
قُلْتُ: وَغَيْلَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ إلا أنه قال: روى عنه أَبِي زُرْعَةَ حَدِيثًا مُنْكَرًا فِي الْهِجْرَةِ وَاللَّهُ أعلم.
قال ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَرْبِ بِقَوْلِهِ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) [الْحَجِّ: 39 - 40] الْآيَةَ.
فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ فِي الْحَرْبِ وتابعه (1) هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ، وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ وَأَوَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بها " فخرجوا إليها أرسالاً وأقام رسول الله بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم من الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَيْهَا قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةٍ حِينَ آذَتْهُ قُرَيْشٌ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَبَشَةِ فَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهَا ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ بِالْمَدِينَةِ لَهُمْ إِخْوَانًا فَعَزَمَ إِلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جدته أُمَّ سَلَمَةَ [زَوْجَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم] قالت: لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَحَّلَ لِي بَعِيرَهُ ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ يَقُودُ بِي بِعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ قَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتَنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَنَا هَذِهِ؟ عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ؟ قَالَتْ فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ وَأَخَذُونِي مِنْهُ، قَالَتْ وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ
الْأَسَدِ، رهط أبي سلمة، وقالوا: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إِذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا، قَالَتْ فَتَجَاذَبُوا ابْنِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدُ الْأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ فَفُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي.
قَالَتْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ فِي الْأَبْطَحِ فَمَا أَزَالُ أَبْكِي حَتَّى أُمْسِيَ - سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا - حتى مرَّ بي رجل من بني
__________
(1) في ابن هشام: وبايعه (*) .(3/207)
عَمِّي أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي، فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ: أَلَا تُخْرِجُونَ (1) هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ؟ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا؟ قَالَتْ فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شِئْتِ.
قَالَتْ فردَّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إِلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي، قَالَتْ فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي، ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ، قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ.
حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ (2) لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: أَوْ مَا مَعَكِ أَحَدٌ؟ قُلْتُ: مَا معي أحد إلا الله وبني هذا، فقال: والله مالك مِنْ مَتْرَكٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي، فَوَاللَّهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ قَطُّ أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إِذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي حَتَّى إِذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي فحط عنه ثم قيده في الشجرة (3) ثم تنحى [عني] إِلَى شَجَرَةٍ فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا.
فَإِذَا دَنَا الرَّوَاحُ قَامَ إِلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ فَرَحَّلَهُ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، وَقَالَ: ارْكَبِي فَإِذَا رَكِبْتُ فَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، فَقَادَنِي حَتَّى يَنْزِلَ بِي، فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ - وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا - فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.
ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَتْ تَقُولُ: مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، أَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ هَذَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَاجَرَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعًا، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ أَبُوهُ وَإِخْوَتُهُ، الْحَارِثُ وَكِلَابٌ وَمُسَافِعٌ، وَعَمُّهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ.
وَدَفَعَ
إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَإِلَى ابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ وَالِدِ بَنِي شَيْبَةَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ أَقَرَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) الآية [النساء: 58] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عمار بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ الْعَدَوِيَّةُ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ صَبِرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَبِيرِ (4) بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، احْتَمَلَ بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ عَبْدٍ، أَبِي أَحْمَدَ، اسْمُهُ عَبْدٌ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقِيلَ ثُمَامَةُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ وَكَانَ يَطُوفُ مَكَّةَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا بِغَيْرِ قَائِدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ.
فَغُلِقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ هِجْرَةً، فمرَّ بِهَا عُتْبَةُ بن ربيعة والعباس بن
__________
(1) في الاصل: ألا تخرجون من هذه..الخ وما أثبتناه من ابن هشام.
(2) التنعيم: موضع بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل: الشجر.
(4) في ابن هشام والاستيعاب: كثير.
(*)(3/208)
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَهُمْ مُصْعِدُونَ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا عُتْبَةُ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا لَيْسَ بِهَا سَاكِنٌ، فَلَمَّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ وَقَالَ: وَكُلُّ دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهَا * يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا النَّكْبَاءُ وَالْحُوبُ (1) قال ابن هشام: وهذا البيت لابي دواد الْإِيَادِيِّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ أبي دواد حنظلة بن شرقي وقيل حارثة.
ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ: أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَمَا تبكي عليه من فل بن فل (2) ثُمَّ قَالَ - يَعْنِي لِلْعَبَّاسِ - هَذَا مِنْ عَمَلِ ابْنِ أَخِيكَ، هَذَا فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَقَطَّعَ بَيْنَنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ أَبُو سَلَمَةَ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَبَنُو جَحْشٍ بِقُبَاءَ عَلَى مُبَشِّرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ ثُمَّ قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ أَرْسَالًا، قَالَ: وَكَانَ بَنُو غَنْمِ بْنِ دُودَانَ أَهْلَ إِسْلَامٍ، قَدْ أَوْعَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ هجرة، رجالهم ونساؤهم وهم: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَأَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَشُجَاعٌ، وَعُقْبَةُ ابْنَا وَهْبٍ، وأربد بن جميرة (3) وَمُنْقِذُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَمُحْرِزُ بن نضلة، وزيد (4) بْنُ رُقَيْشٍ، وَقَيْسُ بْنُ جَابِرٍ، وَعَمْرُو بْنُ مِحْصَنٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، وَصَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ.
وَالزُّبَيْرُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَتَمَّامُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَسَخْبَرَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ.
وَمِنْ نِسَائِهِمْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجد امة بَنَتُ جَنْدَلٍ، وَأُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ، وَأُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ ثُمَامَةَ، وَآمِنَةُ بِنْتُ رُقَيْشٍ، وَسَخْبَرَةُ بِنْتُ تَمِيمٍ.
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ فِي هِجْرَتِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ: وَلَمَّا رَأَتْنِي أُمُّ أَحْمَدَ غَادِيًا * بِذِمَّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبٍ وَأَرْهَبُ تَقُولُ: فَإِمَّا كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا * فَيَمِّمْ بنا البلدان ولننأ يَثْرِبُ فَقُلْتُ لَهَا مَا يَثْرِبٌ بِمَظِنَّةٍ (5) * وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ إِلَى اللَّهِ وَجْهِي وَالرَّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ * إِلَى اللَّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيَّبُ فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ * وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعٍ وَتَنْدِبُ تَرَى أَنَّ وتراً نائياً عَنْ بِلَادِنَا * وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الرَّغَائِبَ نَطْلُبُ (6) دَعَوْتُ بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمُ * وَلِلْحَقِّ لَمَّا لاح للناس ملحب
__________
(1) الحوب: التوجع، وقيل: الحاجة وقيل: الحوب: الاثم.
(2) في ابن هشام: من قل بن قل، وقال: القل: الواحد.
(3) وقال ابن هشام: ويقال ابن حميرة، وفي الاستيعاب: ابن حمير.
(4) في ابن هشام: يزيد.
(5) في ابن هشام: فقلت لها: بل يثرب اليوم وجهنا.. (6) في ابن هشام: نأينا بدلا من نائيا (*) .(3/209)
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللَّهِ لَمَّا دَعَاهُمُ * إِلَى الْحَقِّ داع والنجاح فأوعبوا وكنا وأصحاباً لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى * أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسِّلَاحِ وَأَجْلَبُوا كَفَوْجَيْنِ أَمَّا مِنْهُمَا فَمُوَفَّقٌ * عَلَى الْحَقِّ مَهْدِيٌّ وَفَوْجٌ مُعَذَّبُ طَغَوْا وَتَمَنَّوْا كِذْبَةً وَأَزَلَّهُمْ * عَنِ الْحَقِّ إِبْلِيسٌ فَخَابُوا وَخَيَّبُوا وَرِعْنَا إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ * فَطَابَ وُلَاةُ الْحَقِّ مَنَّا وَطَيَّبُوا نمتُّ بِأَرْحَامٍ إِلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ * وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إِذْ لَا تُقَرَّبُ فَأَيُّ ابْنِ أُخْتٍ بَعْدَنَا يأمننكم * وأية صهر بعد صهري يرقب ستعلم يوماً أيَّنا إذ تزايلوا * وَزُيِّلَ أَمْرُ النَّاسِ لِلْحَقِّ أَصْوَبُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ.
فَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أبيه.
قال: اتعدنا لما أردت الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، التَّنَاضِبَ (1) مِنْ أَضَاةِ (2) بَنِي غِفَارٍ فَوْقَ سَرِفَ، وَقُلْنَا أَيُّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ، فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ، قَالَ: فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشٌ عِنْدَ التَّنَاضِبِ وَحُبِسَ هِشَامٌ وَفُتِنَ فَافْتَتَنَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إِلَى عَيَّاشٍ - وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا - حَتَّى قدما إلى الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَكَلَّمَاهُ وَقَالَا لَهُ: إِنَّ أُمَّكَ قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ مِنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ، فرقَّ لَهَا فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ إِنْ يُرِيدُكَ الْقَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمَّكَ الْقَمْلُ لَامْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حُرُّ مَكَّةَ لَاسْتَظَلَّتْ.
قَالَ: فَقَالَ: أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ إنَّك لَتَعْلَمُ أنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا.
قَالَ: فَأَبَى عَلَيَّ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا، فَلَمَّا أَبَى إِلَّا ذلك قلت: أما إذا فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ فَالْزَمْ ظَهْرَهَا، فَإِنْ رَابَكَ مِنْ أَمْرِ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا.
فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قال له
__________
(1) التناضب: قال أبو ذر: بضم الضاد، موضع ومن رواه بالكسر: فهو جمع تنضب: وهو شجر واحدته تنضبة، وقيده الوقشي بكسر الضاد.
وقال السهيلي: " بكسر الضاد كأنه جمع تنضبة، وهو ضرب من الشجر تألفه الحرباء.
وذكره أبو حنيفة في النبات.
وقال ياقوت: تنضب قرية من أعمال مكة بأعلى نخلة فيها عين جارية ".
(2) أضاة: هي الغدير يجمع من ماء المطر.
يمد ويقصر قاله أبو ذر.
وقال السهيلي: الاضاة: الغدير كأنه مقلوب من وضأة على وزن فعلة واشتقاقه من الوضاء وهي النظافة، وجمع الاضاءة إضاء.
وقال السهيلي: إضاة بني غفار، على عشرة أميال من مكة.
أما ياقوت فقال: موضع قريب من مكة فوق سرب قرب التناضب، له ذكر في حديث المغازي، وغفار: قبيلة من كنانة.
(*)(3/210)
أبو جهل: يا [بن] أَخِي وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا أَفَلَا تَعْقِبُنِي عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ؟ قَالَ: بَلَى.
فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوَّلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوَا عَلَيْهِ فَأَوْثَقَاهُ رِبَاطًا، ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ وَفَتَنَاهُ فَافْتَتَنَ.
قَالَ عُمَرُ: فَكُنَّا نَقُولُ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِمَّنِ افْتَتَنَ تَوْبَةً.
وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 53 - 55] قال عمر: وكتبتها وَبَعَثْتُ بِهَا إِلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ.
قَالَ هشام: فلما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى (1) أصعد بها وَأُصَوِّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا حَتَّى قُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِي أَنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا وَفِيمَا كُنَّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا، وَيُقَالُ فِينَا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى بَعِيرِي فَجَلَسْتُ عَلَيْهِ فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِهِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، الْوَلِيدُ [بْنُ الْوَلِيدِ] بْنِ الْمُغِيرَةِ سرقهما من مكة وقدم بها يَحْمِلُهُمَا عَلَى بَعِيرِهِ وَهُوَ مَاشٍ مَعَهُمَا، فَعَثَرَ
فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ فَقَالَ: هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ * وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ.
قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عَمَّارٌ وَبِلَالٌ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ.
قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفراً مِنْ أَصْحَابِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ثمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم.
فَمَا رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَعَلَ الْإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فِي سُورٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بِنَحْوِهِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ هَاجَرَ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ زَعَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ (2) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَدِينَةَ هُوَ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ من أهله وقومه وأخوه
__________
(1) ذو طوى: موضع بأسفل مكة.
(2) الحديث أخرجه البخاري في 63 كتاب المناقب (46) ح 3925.
وذكره المزي في تحفة الاشراف ولم يشر إلى أن مسلما أخرجه.
وأخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 463 وقال: اختلف في قدوم سعد، فقيل كذا - حسب رواية ابن عقبة - وابن أنه ممن قدم المدينة قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجع الدرر لابن عبد البر 77 - 79.
(*)(3/211)
زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَمْرٌو وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ زَوْجُ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ وَابْنُ عَمِّهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ حَلِيفٌ لَهُمْ وَخَوْلِيُّ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ، وَمَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ بَنِي عِجْلٍ وَبَنُو الْبُكَيْرِ إِيَاسٌ وَخَالِدٌ وَعَاقِلٌ وَعَامِرٌ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، فَنَزَلُوا عَلَى رَفَاعَةَ بْنِ عَبْدِ المنذر بن زنير (1) فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ
بِقُبَاءَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: فَنَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ (2) أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسَّنْحِ (3) .
وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ طَلْحَةُ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذُكِرَ لِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ صُهيباً حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا وَبَلَغْتَ الَّذِي بَلَغْتَ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِكِ وَنَفْسِكَ، وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي.
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ " (4) وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - إِمْلَاءً - أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مِيكَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ الأهوازي، حدثنا زيد بن الجريش، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهريّ، حدَّثنا حُصَيْنُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ صُهَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي وَعُمُومَتِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ صُهَيْبٍ.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ سَبْخَةً بَيْنَ ظَهَرَانِي حَرَّتَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَجَرَ أَوْ تَكُونُ يَثْرِبَ " قَالَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكُنْتُ قَدْ هَمَمْتُ مَعَهُ بِالْخُرُوجِ فَصَدَّنِي فِتْيَانٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَعَلْتُ لَيْلَتِي تِلْكَ أَقُومُ لَا أَقْعُدُ، فَقَالُوا: قَدْ شَغَلَهُ اللَّهُ عَنْكُمْ بِبَطْنِهِ - وَلَمْ أَكُنْ شَاكِيًا - فَنَامُوا.
فَخَرَجْتُ وَلَحِقَنِي مِنْهُمْ نَاسٌ بَعْدَمَا سِرْتُ بَرِيدًا (5) لِيَرُدُّونِي فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لِي فَفَعَلُوا فَتَبِعْتُهُمْ إِلَى مَكَّةَ فَقُلْتُ احْفُرُوا تحت أسكفة الباب فإن بها (6) أَوَاقِيَ، وَاذْهَبُوا إِلَى فُلَانَةَ فَخُذُوا الْحُلَّتَيْنِ.
وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقباء
__________
(1) في ابن هشام: زنبر.
(2) إساف: ويقال: يساف.
وهو ابن عتبة.
ولم يكن حين نزول المهاجرين عليه مسلما، بل أخر إسلامه حتى خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بدر (راجع الاستيعاب) .
(3) السنح: بعوالي المدينة، بينها وبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم ميل (معجم البلدان) .
(4) سيرة ابن هشام ج 2 / 120 - 121.
(5) من دلائل البيهقي، وفي الاصل: يريدوا ليردوني.
(6) في الدلائل: تحتها.
(*)(3/212)
قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: " يَا أَبَا يَحْيَى رَبِحَ الْبَيْعُ [ثَلَاثًا:] (1) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ، وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام (2) .
قال ابن إسحاق: ونزول حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو مَرْثَدٍ كَنَّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَابْنُهُ مَرْثَدٌ الْغَنَوِيَّانِ حَلِيفَا حَمْزَةَ، وَأَنَسَةُ (3) وَأَبُو كَبْشَةَ (4) مَوْلَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَقِيلَ: عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَقِيلَ بَلْ نَزَلَ حَمْزَةُ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ وَنَزَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخَوَاهُ الطُّفَيْلُ وَحُصَيْنٌ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَسُويْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حُرَيْمِلَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَخَبَّابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزَوَانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ أَخِي بَلْعَجْلَانَ بِقُبَاءَ وَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ (5) ، وَنَزَلَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ عَلَى مُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بِالْعُصْبَةِ، دَارِ بَنِي جَحْجَبَى، وَنَزَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَنَزَلَ أَبُو حُذَيْفَةَ بن عتبة وسالم مولاه على سلمة.
قال ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ أَخِي بَنِي حَارِثَةَ، وَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ عَلَى عَبَّادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِي دَارِ بَنِي النَّجَّارِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ الْعُزَّابُ (6) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حدَّثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (7) عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْنَا [مِنْ] مَكَّةَ فَنَزَلْنَا الْعُصْبَةَ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.
فَكَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حذيفة لانه كان أگثرهم قرآنا.
__________
(1) من الدلائل.
(2) أخرج الجزء الاول منه البخاري في 39 كتاب الكفالة.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 400 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) أنس: من مولدي السراة، يكنى أبا مسروح شهد بدرا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ومات في خلافة أبي بكر.
(4) أبو كبشة: واسمه سليم من فارس وقيل غير ذلك.
شهد بدرا والمشاهد كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومات في خلافة عمر، وهو غير أبي كبشة الذي كانت كفار قريش تذكره وتنسب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ.
(5) في ابن هشام زاد: أخي بلحارث بن الخزرج، في دار بلحارث بن الخزرج.
(6) في شرح السيرة لابي ذر: الاعزاب وهو أصح.
(7) الخبر في دلائل البيهقي 2 / 463 وفيه: عبد الله مكان عبيد الله.
والعصبة: موضع بقباء.
وما بين معكوفتين زيادة من الدلائل.
(*)(3/213)
فَصَلٌ فِي سَبَبِ هِجْرَةِ (1) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ
قَالَ اللَّهُ تعالى: (وقل ربي أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) [الإسراء: 80] أَرْشَدَهُ الله وألهمه أن يدعو بهذا الدُّعاء [و] أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا قَرِيبًا وَمَخْرَجًا عَاجِلًا، فَأَذِنَ لَهُ تَعَالَى فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حَيْثُ الْأَنْصَارُ وَالْأَحْبَابُ، فَصَارَتْ لَهُ دَارًا وَقَرَارًا، وَأَهْلُهَا لَهُ أَنْصَارًا.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ (2) عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فأُمر بِالْهِجْرَةِ وأُنزل عَلَيْهِ: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) (3) وَقَالَ قَتَادَةُ: (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) الْمَدِينَةَ (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) كِتَابَ اللَّهِ وَفَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ (4) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مَعَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا مَنْ حُبِسَ أَوْ فُتِنَ (5) ، إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَيَقُولُ لَهُ: لَا تَعْجَلْ لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا " فَيَطْمَعُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ.
فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَارَ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنَ المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم
__________
(1) أنظر في هجرة النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ: ابن هشام 2 / 123 وما بعدها.
ابن سعد 1 / 227 وما بعدها.
صحيح البخاري 5 / 56 الطبري 2 / 253 وما بعدها دار القاموس.
أنساب الاشراف 1 / 120 عيون الاثر 1 / 221 تاريخ الاسلام للذهبي 2 / 218 النويري 16 / 330.
الدرر لابن عبد البر (ص 80) .
(2) قابوس بن أبي ظبيان، وفي نسخة: طهمان، ذكره ابن حبان في المجروحين وقال: كان ردى الحفظ ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، ربما رفع المراسيل وأسند الوقوف.
وذكره العقيلي في الضعفاء الكبير.
وقد روي هذا الحديث مرسلا عن ابن عباس.
(3) أخرجه التِّرمذي في 48 كتاب تفسير القرآن - باب تفسير سورة الاسراء ح 3139 عن أحمد بن منيع.
وقال: هذا حديث صحيح حسن.
(4) زاد البيهقي: فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده، لولا ذلك لاغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم 2 / 517 وأضاف القرطبي على رواية البيهقي قال: وقال الضحاك: هو خروجه من مكة، ودخوله مكة يوم الفتح (10 / 313) .
(5) في ابن سعد: أو مفتون محبوس، أو مريض، أو ضعيف عن الخروج.
(*)(3/214)
قَدْ نَزَلُوا دَارًا وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً، فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ وَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ لِحَرْبِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ - وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ التِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إِلَّا فِيهَا - يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَافُوهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بْنِ جُبَيْرٍ (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَغَيْرُهُ
مِمَّنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتَّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الَّذِي اتَّعَدُوا لَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى يَوْمَ الزَّحْمَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ الله في صورة شيخ جليل عليه بتلة (2) فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدَّارِ فَلَمَّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا قَالُوا مَنِ الشَّيْخُ؟ قَالَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ (3) سَمِعَ بِالَّذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ وَعَسَى أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا.
قَالُوا أَجَلْ فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قريش عتبة وشيبة [ابنا ربيعة] (4) وَأَبُو سُفْيَانَ وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّنَا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا بِمَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا، قَالَ فَتَشَاوَرُوا ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ - قِيلَ إِنَّهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ - احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتَّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ وَاللَّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنَّ أَمْرُهُ من وراء الباب هذا الَّذِي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنْتَزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ.
فَتَشَاوَرُوا ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا فَإِذَا خَرَجَ عَنَّا فَوَاللَّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا حَيْثُ وَقَعَ، إِذَا غَابَ عَنَّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ (5) .
قال الشيخ
__________
(1) من شرح السيرة لابي ذر: جبير، وما في الاصل " جبر " وهو تحريف.
(2) البتلة: كساء غليظ، وفي رواية ابن بكير عن ابن اسحاق: في بت قال البيهقي: والبت: الكساء.
وقيل الطيلسان من خز، وفي تهذيب اللغة: البت ضرب من الطيالسة يسمى الساج مربع غليظ أخضر.
وجمعه: أبت، وبتات وبتوت.
قال الجوهري في الصحاح: البتي الذي يعمله.
(3) علق السهيلي على قوله شيخ من أهل نجد قال: " وإنما قال لهم، إني من أهل نجد، فيما ذكر بعض أهل
السيرة، لانهم قالوا، لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة، لان هواهم مع محمد، فلذلك تمثل لهم في صورة شيخ نجدي، وقال: قيل لمعنى آخر تمثل بهيئة شيخ نجدي " ا.
هـ.
(4) من ابن هشام والبيهقي.
(5) صاحب هذا الرأي: أبو الأسود ربيعة بن عامر، أحد بني عامر بن لؤي.
(*)(3/215)
النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ، وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ؟ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُ أَنْ يَحِلَّ عَلَى حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ (1) ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتَّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا أَرَادَ، أَدِيرُوا (2) فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا.
فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فيه رأياً مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ.
قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى منهمم سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إِلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مُنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا.
فَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ، قَالَ يَقُولُ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ هَذَا الرَّأْيُ وَلَا رَأْيَ غَيْرُهُ (3) فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ.
فأتى جبرائيل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: لَا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ.
قَالَ فَلَمَّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ حتى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ، فلمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجَّ (4) بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنَّهُ لن يخلص إليك شئ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إِذَا نَامَ.
وَهَذِهِ القصَّة التِي ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَدْ رَوَاهَا الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ وَغَيْرِهِمْ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ.
قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا
لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ قَالَ - وَهُمْ عَلَى بَابِهِ - إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنِ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا.
قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ ثمَّ قَالَ: " نَعَمْ أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، أَنْتَ أَحَدُهُمْ " وَأَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [يس: 1 - 9] وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ وضع
__________
(1) في رواية البيهقيّ: على قبيلة من قبائل العرب.
(2) في ابن هشام: دبروا (3) وقال ابن الكلبي في جمهرة الانساب: أن إبليس لما حمد رأي أبي جهل قال: الرأي رأيان: رأي ليس يعرفه * هاد ورأي كنصل السيف معروف يكون أوله عز ومكرمة * يوما، وآخره جد وتشريف (4) تسجى بالثوب: غطى به جسده ووجهه.
(*)(3/216)
عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يكن معهم فقال: ما تنظرون ههنا؟ قَالُوا مُحَمَّدًا، فَقَالَ خَيَّبَكُمُ اللَّهُ، قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ! أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ قَالَ فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ فَيَرَوْنَ علياً على الفراش مستجيا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمًا، عَلَيْهِ بُرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا (1) فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ الْفِرَاشِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الَّذِي كَانَ حَدَّثَنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فيَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)
[الأنفال: 30] وَقَوْلُهُ: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) [الطُّورِ: 30] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَأَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْهِجْرَةِ.
بَابُ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَلِكَ أَوَّلُ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي سِيرَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا هِشَامٌ (2) ، ثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عبَّاس.
قَالَ: بُعث النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم لأربعين سنة، فمكث فيها (3) ثَلَاثَ عَشْرَةَ يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقَدْ
__________
(1) قال في الروض الآنف 1 / 292 روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذكر فضل يس، أنها: إن قرأها خائف أمن، أو جائع شبع، أو عار كسي أو عاطش سقي..وعلل امتناعهم من الدخول إليه صلَّى الله عليه وسلم قال: وذكر بعض أهل التفسير السبب المانع لهم من التقحم عليه في الدار، إنهم هموا بالولوج عليه - وأنهم إنما جاءوا لقتله - فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا..فأصبحوا ينتظرون خروجه - على باب الدار -.
(2) روح بن عبادة، وهشام بن حسان.
(3) في البخاري ورواية البيهقي: بمكة بدلا من فيها.
والحديث أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم ح 3902 فتح الباري 7 / 227 والبيهقي في الدلائل 2 / 131.
(*)(3/217)
كَانَتْ هِجْرَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ بِعْثَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ كَمَّا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ، ونبِّئ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ (1) .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْهِجْرَةِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَعْجَلْ لعلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ صَاحِبًا، قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يعني نفسه، فابتاع راحلتين (2) فاحتبسهما في دار يَعْلِفُهُمَا إِعْدَادًا لِذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، إِمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً حَتَّى إِذَا كَانَ اليوم الذي أذن الله فيه رسوله صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا، قَالَتْ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ! قَالَتْ فَلَمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) أَحَدٌ إِلَّا أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ (4) ، وَمَا ذَاكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ " قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الصُّحْبَةَ " قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يومئذٍ يَبْكِي.
ثُمَّ قال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِهَذَا، فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَطَ (5) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عَبْدُ اللَّهِ بن أريقط.
رجلاً من بني الدئل بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ وَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَعْلَمْ - فِيمَا بَلَغَنِي - بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ حِينَ خَرَجَ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، أَمَّا عَلِيًّ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الودائع التي كانت عنده للناس، وكان
__________
(1) تقدم تخريجه في هذا الجزء فليراجع.
(2) قال البيهقي: 2 / 472: وعلف راحلتين، كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
وفي ابن سعد: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم - عن محمد بن عمر - من نعم بني قشير.
(3) في ابن هشام: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي.
(4) في البخاري: إنما هما أهلك.
وقد كان أبو بكر قد أنكح عائشة مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذلك.
(5) من ابن هشام، وفي الاصل أرقد.
وقال الزرقاني في شرح المواهب 1 / 339: رقيط، وهو من بني الديل وقيل الدئل كما في فتح الباري.
وكان على دين الكفار ولم يعرف له إسلام فيما بعد كما جزم المقدسي وتبعه النووي، وقال في الاصابة: لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في التجريد وعند السهيلي 1 / 8: لم يكن مسلما إذ ذاك ولا وجدنا من طريق صحيحة أنه أسلم بعد ذلك.
(*)(3/218)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بمكة أحد عنده شئ يَخْشَى عَلَيْهِ إِلَّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [الخروج] (1) أتى بأبكر بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَلَمْ أَكُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ أَعْنِي عَلَى هَوْلِ الدُّنْيَا، وَبَوَائِقِ الدَّهْرِ، وَمَصَائِبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ.
اللَّهُمَّ اصْحَبْنِي فِي سَفَرِي.
وَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي وَلَكَ فذلِّلني.
وَعَلَى صَالِحِ خُلُقِي فَقَوِّمِنِي، وَإِلَيْكَ رَبِّ فَحَبِّبْنِي، وَإِلَى النَّاسِ فَلَا تَكِلْنِي، رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ الذي أشرقت له السموات وَالْأَرْضُ، وَكُشِفَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَنْ تُحِلَّ عليَّ غَضَبَكَ، وَتُنْزِلَ بِي سَخَطَكَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
لَكَ العقبى (2) عِنْدِي خَيْرَ مَا اسْتَطَعْتُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَمَدَا إِلَى غَارٍ بِثَوْرٍ - جَبَلٍ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ - فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يَتَسَمَّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَبَرِ.
وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ (3) مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نهاره، ثم يريحها عليهما [يأتيهما] إِذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ.
فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ يَسْمَعُ مَا
يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ.
وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرْعَى فِي رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا.
فَإِذَا غَدَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ يُعْفِّي عَلَيْهِ.
وَسَيَأْتِي فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ الصِّدِّيقَ فِي الذَّهَابِ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَسِيرِهِ لِيَلْحَقَهُ، فَلَحِقَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُمَا خَرَجَا مَعًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَأْتِيهِمَا مِنَ الطَّعَامِ إِذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا، قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بَكْرٍ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا أَيْنَ أَبُوكِ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي.
قَالَتْ فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ - وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا - فلطم خدي لطمة طرح منها
__________
(1) من ابن هشام.
(2) من أبي نعيم، وفي الاصل العقبى.
(3) عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وكان مولداً من مولدي الازد.
أسلم وهو مملوك، فاشتراه أبو بكر واعتقه، شهد بدراً وأُحداً وقتل يوم بئر معونة.
قتله عامر بن الطفيل (*)(3/219)
قُرْطِي ثُمَّ انْصَرَفُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ مَعَهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ - وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: كلا يا أبة إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَتْ وَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ يا أبة ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ.
قَالَتْ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدَ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا
تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ.
قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ لَيْلًا، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَسَ الْغَارَ لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أو حية، بقي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ.
وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاعٌ مِنْ طَرَفَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَكُونُ أَمَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً، وَخَلْفَهُ مَرَّةً.
فَسَأَلَهُ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا كُنْتُ خَلْفَكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ أَمَامِكَ، وَإِذَا كُنْتُ أَمَامِكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ خَلْفِكَ.
حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أُدْخِلَ يَدِي فَأُحِسَّهُ وَأَقُصَّهُ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ دَابَّةٌ أَصَابَتْنِي قَبْلَكَ.
قَالَ نَافِعٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ ذَلِكَ الْجُحْرَ تخوفاً أن يخرج منه دابة أو شئ يُؤْذِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ شَوَاهِدَ أُخَرَ فِي سِيرَةِ الصِّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أنَّا مُوسَى بن الحسن ثنا عَبَّادٍ، ثَنَا عفَّان بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ.
قَالَ: ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ عُمْرَ فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوا عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ انْطَلَقَ إِلَى الْغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ، فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ، فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
فقال: " يا أبا بكر لو كان شئ لَأَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟ " قَالَ: نَعَمْ، والذي بعثك بالحق [ما كانت لتكون من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك] (1) .
فلما انتهيا إِلَى الْغَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رسول الله حتى استبرئ لك الغار،
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من الاصل واستدركت من دلائل البيهقي ج 2 / 477.
(*)(3/220)
فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ [فِي أَعْلَاهُ] (1) ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئِ الْجِحَرَةَ فَقَالَ: مَكَانَكَ يا رسول الله حتى أستبرئ [الجحرة] .
فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَ.
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (2) عَنْ عُمَرَ وَفِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً، وَخَلْفَهُ أُخْرَى، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ.
وَفِيهِ أنَّه لَمَّا حَفِيَتْ رِجْلَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى كَاهِلِهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْغَارَ سَدَّدَ تلك الأجحرة كُلَّهَا.
وَبَقِيَ مِنْهَا جُحْرٌ وَاحِدٌ، فَأَلْقَمَهُ كَعْبَهُ فَجَعَلَتِ الْأَفَاعِي تَنْهَشُهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " وَفِي هَذَا السِّيَاقِ غرابة ونكارة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو.
قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ: شَاذَانُ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، فَأَصَابَ يَدَهُ حَجَرٌ فَقَالَ: إِنْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبَعٌ دَمِيتِ * وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ (3) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عبَّاس أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) (4) قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ اقْتُلُوهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَخْرِجُوهُ.
فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا عليه، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا ردَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكْرَهُمْ.
فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي.
فاقتفوا أَثَرَهُ فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ العنكبوت، فقالوا لو دخل ها هنا أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ.
فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى فَمِ الْغَارِ، وَذَلِكَ مِنْ حِمَايَةِ اللَّهِ رَسُولَهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي فِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ: حدثنا بشار الخفاف
__________
(1) من دلائل البيهقي.
(2) رواه من طريق فرات بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ضبة بن محصن الفزاري.
عن عمر.. (3) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 480 ورواه ابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي.
(4) الانفال 30، قال القرطبي في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) : المكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم مِنْ حَيْثُ لَا يشعرون وقال الزمخشري في الكشاف: أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرا لانه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.
وفي النهاية 4 / 103: مكر الله: إيقاع بلائه بأعدائه.
وقال العسكري في الفروق اللغوية: إن الكيد والمكر متغايران والشاهد أن الكيد يتعدى بنفسه والمكر يتعدي بحرف.
فيقال كاده يكيده ومكر به ولا يقال مكره والذي يتعدى بنفسه اقوى.
(*)(3/221)
ثنا جعفر وسليمان (1) ثنا أبوعمران الْجَوْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
قَالَ: انْطَلَقَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ.
وَجَاءَتْ قُرَيْشٌ يَطْلُبُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْا عَلَى بَابِ الْغَارِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ قَالُوا: لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ، وَكَانَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يَرْتَقِبُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَطْلُبُونَكَ، أَمَا وَاللَّهِ ما على نفسي أئل (2) وَلَكِنْ مَخَافَةَ أَنْ أَرَى فِيكَ مَا أَكْرَهُ.
فَقَالَ لَهُ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَخَفْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " وَهَذَا مُرْسَلٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ حَسَنٌ بِحَالِهِ مِنَ الشَّاهِدِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ.
وَقَدْ كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى وروى هذا الرجل - أعني أبو بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ الْقَاضِيَ -[عَنْ] عَمْرٍو النَّاقِدِ عَنْ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ مُوسَى بن مطر عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ.
قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِذَا حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي اخْتَبَأَتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْ فِيهِ فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ رِزْقُكَ فِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ: نسجُ داودَ مَا حَمَى صَاحِبَ الْغَا * رِ وَكَانَ الْفَخَارُ لِلْعَنْكَبُوتِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَمَامَتَيْنِ عَشَّشَتَا عَلَى بَابِهِ أَيْضًا، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
فَغَمَّى عَلَيْهِ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهِ * وَظَلَّ عَلَى الْبَابِ الْحَمَامُ يَبِيضُ وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ: حدَّثنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا عَوْنُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَمْرٍو الْقَيْسِيُّ - وَيُلَقَّبُ بعوين (3) - حَدَّثَنِي أَبُو مُصْعَبٍ الْمَكِّيُّ.
قَالَ: أَدْرَكْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْغَارِ أَمَرَ اللَّهُ شَجَرَةً فَخَرَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتُرُهُ (4) ، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ مَا بَيْنَهُمَا فَسَتَرَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَأَقْبَلَتَا يدفان حَتَّى وَقَعَتَا بَيْنَ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْنَ الشَّجَرَةِ وَأَقْبَلَتْ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ، مَعَهُمْ عِصِيُّهُمْ وَقِسِيُّهُمْ وَهِرَاوَاتُهُمْ، حتَّى إِذَا كَانُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ قَالَ الدَّلِيلُ - وَهُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ - هَذَا الْحَجَرُ ثُمَّ لَا أَدْرِي أَيْنَ وَضَعَ رِجْلَهُ.
فَقَالَ الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة.
__________
(1) لعله جعفر بن سليمان الضبعي.
(2) آل المريض: حن ورفع صوته عند ابتلائه بالمصيبة.
(3) الاصل: عوين.
(4) في رواية قاسم بن ثابت بن حزم العوفي السرقسطي، حيث ألف كتابا في شرح الحديث سماه الدلائل وجاء فيه: هذا على ما ذكره السهيلي في الروض الآنف 2 / 4: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم لما دخل الغار، وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة، وهي شجرة معروفة، فحجبت عن النار أعين الكفار.
والراءة شجرة مثل قامة الانسان ولها خيطان وزهر أبيض كالريش.
(*)(3/222)
حتى إذا أصبحوا (1) قال: انظروا في الغار، فاستبقه الْقَوْمَ حتَّى إِذَا كَانُوا مِنَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَإِذَا الْحَمَامَتَانِ، فَرَجَعَ (2) فَقَالُوا مَا رَدَّكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الْغَارِ؟ قَالَ رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَعَرَفَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ.
فَسَمِعَهَا النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَرَأَ عَنْهُمَا بِهِمَا، فَسَمَّتَ عَلَيْهِمَا - أَيْ بَرَّكَ عَلَيْهِمَا وَأَحْدَرَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْحَرَمِ فَأَفْرَخَا كَمَا تَرَى (3) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قد رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَمْرٍو - وَهُوَ
الْمُلَقَّبُ بِعُوَيْنٍ - بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ.
وَفِيهِ أَنَّ جميع حمام مكة من نسل تيك الْحَمَامَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَائِفَ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا اقْتَفَيَا الْأَثَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ (4) وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40] يَقُولُ تَعَالَى مُؤَنِّبًا لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الرسول: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أَنْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَمُظْفِرُهُ كَمَا نَصَرَهُ (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَارِبًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ صاحبه وصديقه أبي بكر ليس غَيْرُهُ وَلِهَذَا قَالَ: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغار) أَيْ وَقَدْ لَجَأَ إِلَى الْغَارِ فَأَقَامَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَسْكُنَ الطَّلَبُ عَنْهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ فَقَدُوهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَجَعَلُوا لِمَنْ رَدَّهُمَا - أَوْ أَحَدَهُمَا - مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَاقْتَصُّوا آثَارَهُمَا حَتَّى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الَّذِي يَقْتَصُّ الْأَثَرَ لِقُرَيْشٍ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ الَّذِي هُمَا فِيهِ وَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَى بَابِ الْغَارِ، فَتُحَاذِي أَرْجُلُهُمْ لِبَابِ الْغَارِ وَلَا يَرَوْنَهُمَا، حِفْظًا مِنَ اللَّهِ لَهُمَا.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا هَمَّامٌ أَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ.
قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَنَحْنُ فِي الْغَارِ.
لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ؟ فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظنَّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا " وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ بِهِ (5) .
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ أبا
__________
(1) في الاصل: أصبحن وهو تحريف.
(2) في الاصل: ترجع، وهو تحريف.
(3) رواه أبو نعيم في دلائل النبوة والبيهقي في الدلائل 2 / 482 وابن سعد 1 / 229 وكلهم عن أبي مصعب المكي.
(4) قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عليه) أي على أبي بكر بتأمين النبي صلى الله عليه وسلَّم له فسكن جأشة (جأشه) وذهب روعه 8 / 148.
(5) أخرجه البخاري في 62 كتاب فضائل الصحابة (2) باب مناقب المهاجرين ح 3653 وأعاده في 63 كتاب الانصار باب (45) .
وأخرجه التِّرمذي في كتاب التفسير.
تفسير سورة التوبة ح 3096 والامام أحمد في مسنده 1 / 4.(3/223)
بَكْرٍ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوِ جاؤنا من ههنا لَذَهَبْنَا مِنْ هُنَا " فَنَظَرَ الصِّدِّيقُ إِلَى الْغَارِ قَدِ انْفَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِذَا الْبَحْرُ قَدِ اتَّصَلَ بِهِ، وَسَفِينَةٌ مَشْدُودَةٌ إِلَى جَانِبِهِ.
وَهَذَا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ، وَلَسْنَا نُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا، وَلَكِنْ مَا صَحَّ أَوْ حَسُنَ سَنَدُهُ قُلْنَا بِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ ثَنَا مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنْ حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي رَأَيْتَنِي اخْتَبَأْتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْ فِيهِ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ فِيهِ رِزْقُكَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً.
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يَرْوِيهِ غَيْرُ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ.
قُلْتُ: وَمُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ هَذَا ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه.
وَقَدْ ذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي دُخُولِهِمَا الْغَارَ، وَسَيْرِهِمَا بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ سُرَاقَةَ كَمَا سَيَأْتِي شِعْرًا.
فَمِنْهُ قَوْلُهُ: قَالَ النَّبِيُّ - وَلَمْ أَجْزَعْ - يُوَقِّرُنِي * وَنَحْنُ فِي سُدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا * وَقَدْ تَوَكَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَذَكَرَهَا مُطَوَّلَةً جِدًّا، وَذَكَرَ مَعَهَا قَصِيدَةً أُخْرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَالَ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْحَجِّ - يَعْنِي الَّذِي بَايَعَ فِيهِ الْأَنْصَارَ - بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثُمَّ إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَحْبِسُوهُ.
أَوْ يُخْرِجُوهُ فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الْآيَةَ.
فَأَمَرَ عَلَيًّا فَنَامَ عَلَى
فِرَاشِهِ، وَذَهَبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَهُمَا.
وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ، وَأَنَّ خُرُوجَهُ هو وأبو بكر إلى الغار وكان لَيْلًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيمَا ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضاً.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ: بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ (1) لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ (2) وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَذَكَرَتْ مَا كَانَ مِنْ ردِّه لِأَبِي بكر إلى مكة وجواره له
__________
(1) برك الغماد: موضع بناحية اليمن مما يلي ساحل البحر، وقال ابن فارس: بضم الغين، وقيل: موضع بأقاضي هجر وقيل وراء مكة بخمس ليال.
(2) ابن الدغنة: ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة السلمي، سمي باسم امه - الدغنة - شهد حنينا ثم قدم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بني تميم.
(*)(3/224)
كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، إِلَى قَوْلِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ.
قَالَتْ والنَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يومئذٍ بِمَكَّةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: " إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ: وَهُمَا الْحَرَّتَانِ.
فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ قِبَلَ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْمَدِينَةِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ - وَهُوَ الْخَبَطُ - (1) أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَفَهُمَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي حَرِّ (2) الظَّهِيرَةِ، فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مقبلاً] (3) مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ.
قَالَتْ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْرِجْ
مَنْ عِنْدَكَ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: فإنَّه قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ.
فَقَالَ أبو بكر: الصحبة بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ "! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّمَنِ (4) .
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجَهَازِ فَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ (5) .
قَالَتْ ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَمَكَثَا (6) فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيَدْلِجُ (7) مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، لَا يَسْمَعُ أمراً يكادان بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فهيرة مولى أبي بكر
__________
(1) كذا في الاصل، وفي النهاية لابن الأثير: السمر بضم الميم ضرب من شجر الطلح، وأما الخبط فهو ضرب الشجرة لتناثر ورقها.
(2) في دلائل البيهقي: نحر الظهيرة: أي في أول وقت الحرارة، وهي المهاجرة، ويقال أول الزوال، وهو أشد ما يكون من حر النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها.
(3) من البيهقي.
(4) بالثمن: أي لا آخذها إلا بالثمن، وفي رواية ابن إسحاق: لا أركب بعيراً ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا، ولكن بالثمن الذي ابتعته، قال: أخذته بكذا وكذا، قال: هو لك.
وفي رواية الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر: قال بثمنها.
وقد تقدم عن الواقدي ان ثمنها ثمانمائة اشتراها من نعم بني قشير.
فأخذ إحداهما وهي القصواء.
وأخرج ابن حبان: أنها الجذعاء.
(5) النطاق: كل شئ شددت به الوسط، وسميت ذات النطاقين: لانها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان، تلبس أحدهما، وتحمل في الآخر الزاد لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الغار.
(6) في البخاري والبيهقي: فكمنا.
(7) يدلج: يخرج بالسحر، يقال أدلج: إذا سار في أول الليل، وادلج: إذا سار في آخره.
(*)(3/225)
مِنْحَةً (1) مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ يَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعَشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ - وَهُوَ لبن منحتهما ورضيعهما - حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ.
وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدئل وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا (2) - وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثِ لَيَالٍ.
وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ (3) .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ.
يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلَجٍ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ.
فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ.
قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً (4) ثُمَّ قمت فدخلت [بيتي] (5) فَأَمَرَتْ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسُهَا عليَّ، وَأَخَذَتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَخَطَطْتُ بِزُجِّهِ (6) الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بِي (7) حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدَيَّ إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الأزلام فجعل فرسي يقرب بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا فأهويت، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا غُبَارٌ (8) سَاطِعٌ فِي السَّماء مِثْلُ الدُّخان، فَاسْتَقْسَمَتُ الْأَزْلَامَ فخرج الذي أكره،
__________
(1) منحة من غنم، أي غنم فيها لبن، وقد تقع المنحة على الهبة مطلقا لا قرضا ولا عارية.
(2) قال الخطابي: الخريت مأخوذ من خرت الابرة كأنه يهتدي لمثل خرتها من الطريق، وخرت الابرة بالضم ثقبها، قال الكسائي: خرتنا الارض إذا عرفناها ولم تخف علينا طرقها.
وقال ابن الأثير في النهاية: الخريت الماهر الذي
يهتدي لآخرات المفازة، وهي طرقها الخفية.
(3) أخرجه البخاري بطوله في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم، وأخرج جزءا منه في كتاب الصلاة، وفي كتاب الاجارة وفي كتاب الكفالة..وفي مواضع أخر مقاطع مختصرة.
(4) وفي رواية البيهقيّ: ثم قل ما لبث في المجلس.
(5) من البيهقي.
(6) الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(7) في البيهقي: فركبتها فرفعتها تقرب.
والتقريب: السير دون العدو، وفوق العادة، وقيل: إن ترفع الفرس بديها (بيديها) معا، وتضعهما معا.
(8) في البيهقي: عثان، وهو الدخان.
(*)(3/226)
فناديتهم الامان فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نفسي حين لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ (1) أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم.
فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاس بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ.
فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إلا أن قالا: أَخْفِ عَنَّا.
فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رُقْعَةٍ مَنْ أَدَمٍ.
ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ سُرَاقَةَ فَذَكَرَ هَذِهِ القصَّة، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ أَوَّلَ مَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي يَكْرَهُ لَا يَضُرُّهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ وَيَخْرُجُ الَّذِي يَكْرَهُ لَا يَضُرُّهُ.
حَتَّى نَادَاهُمْ بِالْأَمَانِ.
وَسَأَلَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا يَكُونُ أَمَارَةَ (3) مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ - أَوْ رُقْعَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ - وَذَكَرَ أنَّه جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ (4) مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ لَهُ: " يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ " فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَسْلَمْتُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
جَيِّدٌ.
وَلَمَّا رَجَعَ سُرَاقَةُ جَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا مِنَ الطَّلَبِ إِلَّا ردَّه وَقَالَ: كُفِيتُمْ هَذَا الْوَجْهَ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
جَعَلَ سُرَاقَةُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ مَا رَأَى وَمَا شَاهَدَ مِنْ أَمْرِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ مِنْ قَضِيَّةِ جَوَادِهِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا عَنْهُ.
فَخَافَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مَعَرَّتَهُ، وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ سُرَاقَةُ أَمِيرَ بني مدلج ورئيسهم، فكتب أو جَهْلٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَيْهِمْ: بَنِي مُدْلِجٍ إِنِّي أَخَافُ سَفِيهَكُمْ * سُرَاقَةَ مستغوٍ لِنَصْرِ مُحَمَّدِ عَلَيْكُمْ بِهِ أَلَّا يُفَرِّقَ جَمْعَكُمْ * فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عزٍ وَسُؤْدُدِ قَالَ: فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ يُجِيبُ أَبَا جَهْلٍ فِي قَوْلِهِ هَذَا: أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا * لِأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ عَجِبْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ محمداً * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه (5)
__________
(1) في البيهقي: عنهما، والرواية بالمثنى.
(2) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ ح 3906.
ورواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 486 - 487.
(3) في ابن هشام: آية.
(4) الجعرانة: بكسر أوله: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب.
(5) في السهيلي: علمت بدل عجبت، ببرهان: بدلا من وبرهان.
(*)(3/227)
عليك فكف الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّنِي * إِخَالُ لَنَا يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ (1) بِأَمْرٍ تودَّ النَّصْرَ فِيهِ فَإِنَّهُمْ * وَإِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا مُسَالِمُهْ (2) وَذَكَرَ هَذَا الشِّعْرَ الأموي في مغازيه بسنده عن أبي إِسْحَاقَ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَزَادَ فِي شعر أبي جهل أَبْيَاتًا تَتَضَمَّنُ كُفْرًا بَلِيغًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تجاراً قافلين من الشام [إلى مكة] (3) ، فكسى الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى (4) رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ (5) بِهِمُ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أن قال بأعلا صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ (6) هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ (7) مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ.
فَعَرَفَ النَّاس رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ (8) عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يومئذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ (9) غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
فقال
__________
(1) في الروض الانف: أرى أمره يوماً ستبدو معالمه.
(2) في الروض: صدره بأمر يود الناس فيه بأسرهم.
(3) من دلائل البيهقي.
(4) أوفى: صعد إلى مكان عال وأشرف منه على ما تحته.
(5) قال ابن حجر، يزول بسبب عروضهم له، وفي رواية: يلوح بهم.
(6) وفي رواية: يا بني قبلة، وهي جدة الانصار: والدة الاوس والخزرج.
(أنظر شرح المواهب 1 / 350) .
(7) منهم من يقول لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول، والحديث المعروف لاثنتي عشرة خلت منه، وقيل لثمان خلون وقال أبو سعيد في شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم: لثلاث عشرة من ربيع الأول، وهذا يجمع
بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال.
وعن عبد الرحمن بن عويم قَالَ: وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لبث فيهم ثمان عشرة ليلة (البيهقي 2 / 512) .
(8) في رواية البيهقيّ: ثلاث ليال.
وفي ابن سعد: أربع عشرة ليلة.
وفي البيهقي عن ابن إسحاق: أقام يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.
(9) وهما ابنا رافع بن أبي عمرو بن عباد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النجار، وفي البيهقي أنهما كانا في حجر معاذ = (*)(3/228)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: " هَذَا إِنْ شَاءَ الله المنزل "، ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا (1) .
ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا.
فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين يَنْقُلُ اللَّبِنَ: هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ * هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: لا هم إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجره (2) فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ دُونَ مُسْلِمٍ (3) ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ وَلَيْسَ فِيهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَلْنَذْكُرْ هُنَا مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ مُرَتَّبًا أَوَّلًا فَأَوَّلًا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو سَعِيدٍ الْعَنْقَزِيُّ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ.
قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ سَرْجًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى مَنْزِلِي.
فَقَالَ: لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ مَعَهُ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَرَجْنَا فَأَدْلَجْنَا فَأَحْثَثْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ
الظَّهِيرَةِ، فَضَرَبْتُ بَصَرِي هَلْ أَرَى ظِلًّا نَأْوِي إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَخْرَةٍ فأهويت إليها فإذا بقية
__________
= ابن عفراء وقد شهد سهيل بدرا والمشاهد كلها ومات في خلافة عمر، ولم يشهد سهل بدرا وشهد غيرها ومات قبل أخيه سهيل.
وقال الواقدي: عن الزهري: كانا في حجر أسعد بن زرارة.
وفي سيرة ابن هشام: قال معاذ: هما يتيمان لي.
وفي رواية أخرى عنده: وهما في حجر معاذ بن عفراء.
(1) في رواية البيهقيّ: قال معاذ بن عفراء: سأرضيهما منه فاتخذه مسجداً، وقال قائلون: اشتراه.
وقال الواقدي: ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك.
(2) وفي السيرة لابن هشام: وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ: لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْآخِرَهْ * اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ قال ابن هشام: هذا كلام وليس برجز.
ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فتح الباري 7 / 239 وانظر في بناء هذا المسجد: طبقات ابن سعد 1 / 239 سيرة ابن هشام: 2 / 141 صحيح البخاري الجزء الاول.
الطبري تاريخه 2 / 395 وابن عبد البر في الدرر (88) وسبل الهدى 3 / 485 ونهاية الارب للنويري 16 / 344 وغيرها كثير.
(*)(3/229)
ظِلِّهَا، فَسَوَّيْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَشْتُ لَهُ فَرْوَةً وَقُلْتُ اضْطَجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاضْطَجَعَ، ثُمَّ خَرَجْتُ أَنْظُرُ هَلْ أَرَى أَحَدًا مِنَ الطَّلَبِ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ، فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ - فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ - فَقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ نَعَمْ! قُلْتُ هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ نَعَمْ! فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْهَا ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ كَفَّيْهِ مِنَ الْغُبَارِ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَحَلَبَ لي كثبة (1) من اللبن فصببت عَلَى الْقَدَحِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قُلْتُ هَلْ آنَ الرَّحِيلُ؟ فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا سُرَاقَةُ بْنُ
مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا؟ قَالَ: " لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله معنا " حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ - أَوْ رُمْحَيْنِ أَوْ قَالَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا؟ وَبَكَيْتُ، قَالَ لِمَ تَبْكِي؟ [قُلْتُ] أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ.
فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بما شئت " فسلخت قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ وَوَثَبَ عَنْهَا وَقَالَ: يَا محمَّد قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ فادعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي بِمَوْضِعِ كَذَا وكذا فخذ منها حاجتك.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا حاجة لي فيها " وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُطْلِقَ وَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ حتى قدمنا المدينة [ليلا] (2) وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق على الأناجير (3) وَاشْتَدَّ الْخَدَمَ وَالصِّبْيَانَ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُونَ: اللَّهُ أكبر جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَ مُحَمَّدٌ، قَالَ وَتَنَازَعَ الْقَوْمُ أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْزِلُ اللَّيْلَةَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِأُكْرِمَهُمْ بِذَلِكَ " فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا حَيْثُ أُمِرَ.
قَالَ الْبَرَاءُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى أَحَدُ بَنِي فِهْرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، فَقُلْنَا مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ هُوَ عَلَى أَثَرِي، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ.
قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَمْ يَقْدَمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَرَأَتُ سُوَرًا من المفصل (4) أخرجاه في الصحيحين
__________
(1) الكثبة: كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك، والجمع كتب (أنظر النهاية) .
(2) من دلائل البيهقي.
(3) الاناجير: في النهاية الاناجير والاجاجير: يعني السطوح.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 2 - 3 ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ 1 / 239 والبيهقي 2 / 483 و 503 و 504 وعنهم الصالحي في السيرة الشامية 3 / 345 والبخاري في 63 كتاب 45 باب ح 24 - 39 وفي 66 كتاب 6 باب فتح الباري 7 / 7 و 7 / 259 ومسلم في 53 كتاب الزهد 19 باب 4 / 2310 ح 75.
وأشار المزي في تحفة الاشراف 2 / 55 أن النسائي أخرجه في سننه عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد.
(*)(3/230)
مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِدُونِ قَوْلِ الْبَرَاءِ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا إِلَخْ.
فَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ فَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ وَسَكَنَ عَنْهُمَا النَّاسُ، أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الَّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا (1) فَلَمَّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ فَإِذَا لَيْسَ فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عِصَامًا ثُمَّ عَلَّقَتْهَا بِهِ.
فَكَانَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاحِلَتَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي " قَالَ: فَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي.
قَالَ: " لَا وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتَهَا بِهِ " قَالَ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: " أَخَذْتُهَا بِذَلِكَ " قَالَ هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ الْقَصْوَاءَ، قَالَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَهِيَ الْجَدْعَاءُ وَهَكَذَا حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا الْجَدْعَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إسحق: فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا، وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خَلْفَهُ، لِيَخْدِمَهُمَا فِي الطَّرِيقِ فَحُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بَكْرٍ أتانا نفر من قريش منهم أَبُو جَهْلٍ فَذَكَرَ ضَرْبَهُ لَهَا عَلَى خَدِّهَا لَطْمَةً طَرَحَ مِنْهَا قُرْطَهَا مِنْ أُذُنِهَا كَمَا تقدم.
قال: فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ مَا نَدْرِي أَيْنَ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ، وَإِنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ حَتَّى خرج من أعلا مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ ربُّ النَّاسِ خيرَ جزائِهِ * رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أمَّ معْبدِ هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ ثُمَّ تروَّحا * فأفلحَ منْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ * وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا أَرْبَعَةً، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وعامر بن فهيرة مولى أبي
__________
(1) العصام: ما تعلق بن السفرة وغيرها.
(*)(3/231)
بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ (1) كَذَا يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْمَشْهُورُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ الدئلي.
وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ (2) ، ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ بَعْدَ أَنْ أَجَازَ قُدَيْدًا (3) ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَسَلَكَ بِهِمَا الْخَرَّارَ (4) ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ الْمَرَةِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا لَقْفًا (5) ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مُدْلَجَةَ لَقْفٍ، ثُمَّ استبطن بهما مدلجة محاج (6) ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِجَاجٍ، ثُمَّ تَبَطَّنَ بهما مرجح من ذي العضوين، ثم بطن ذي كشد (7) ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجُدَاجِدِ (8) ، ثُمَّ عَلَى الْأَجْرَدِ (9) ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا ذَا سَلَمٍ، مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءِ مَدْلَجَةِ تِعْهِنَ (10) ، ثُمَّ عَلَى الْعَبَابِيدِ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا الْقَاحَةَ.
ثُمَّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ ظَهْرِهِمْ، فَحَمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّداء - إِلَى المدينة وبعث معه غلاماً يقال له مسعود بن هنيدة، خرج بهما [دليلهما من العرج فسلك بها ثَنِيَّةَ الْعَائِرِ عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ - وَيُقَالُ ثَنِيَّةُ الْغَائِرِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - حَتَّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِيمٍ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِمَا] (11) قُبَاءَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ وَكَادَتِ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ نَحْوًا مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَنَازِلِ، وَخَالَفَهُ فِي بعضها والله
علم قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن السراج، حدثنا محمد بن عبادة بْنِ مُوسَى الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنِي أَخِي مُوسَى بْنُ عبادة حدثني عبد الله بن سيار، حدثني
__________
(1) في ابن هشام: أرقط.
وقد تقدم التعليق عليه.
(2) أمج: بلد من أعراض المدينة، وقيل واد يأخذ من حرة بني سليم.
(معجم البلدان) .
(3) قديد: اسم موضع قرب مكة، وفي معجم ما استعجم: أن هذه القرية سميت قديدا لتقدد السيول بها، وهي لخزاعة.
(4) الخرار: موضع بالحجاز، وقيل واد أو ماء في المدينة (معجم البلدان) .
(5) لقف: ماء وآبار كثيرة، وقيل واد من ناحية السوارقية على فرسخ.
(6) مجاج: قال ياقوت والصحيح عندنا غير ذلك - قال الزبير بن بكار: وهو مجاح بفتح الميم.
(7) كشد: كذا بالاصل، وفي ياقوت كشر.
بين مكة والمدينة.
(8) جدا جد: يجوز أن يكون جمع جدجد، وهي البئر القديمة، وهي هنا الارض المستوية الصلبة.
(معجم البلدان) .
(9) الاجرد: اسم جبل من جبال القبلية، قال نصر: بين المدينة والشام (معجم البلدان) .
(10) تعهن: اسم عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة.
(11) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من سيرة ابن هشام.
(*)(3/232)
إِيَاسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بَكْرٍ مَرُّوا بِإِبِلٍ لَنَا بِالْجُحْفَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِمَنْ هَذِهِ الْإِبِلُ؟ " فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: " سَلِمْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ مَسْعُودٌ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: " سَعِدْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
قَالَ فَأَتَاهُ أَبِي فَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الرِّدَاءِ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم خرج مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنْ بَيْنَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَكَّةَ وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
لِأَنَّهُ أَقَامَ بِغَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّام، ثمَّ سَلَكَ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ وَاجْتَازَ فِي مُرُورِهِ عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ بِنْتِ كَعْبٍ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ خُزَاعَةَ، قال ابْنُ هِشَامٍ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: هِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ تَبِيعٍ حَلِيفِ بَنِي مُنْقِذِ بْنِ ربيعة بن أصرم بن صنبيس (2) بن حرام بن خيسة بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، وَلِهَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْوَلَدِ مَعْبَدٌ وَنَضْرَةٌ وَحُنَيْدَةُ بَنُو أَبِي مَعْبَدٍ، واسمه أكتم (3) بن عبد العزى بن معبد بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس، وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ مِنْ طَرْقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَهَذِهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ: قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ واسمها عاتكة بنت خلف (4) بن معبد بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ فَأَرَادُوا الْقِرَى فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ وَلَا لَنَا مِنْحَةٌ وَلَا لَنَا شَاةٌ إِلَّا حَائِلٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ غَنَمِهَا فَمَسَحَ ضَرْعَهَا بِيَدِهِ وَدَعَا اللَّهَ، وَحَلَبَ فِي الْعُسِّ حَتَّى أَرْغَى وَقَالَ: " اشْرَبِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ " فَقَالَتْ: اشْرَبْ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ فَرَدَّهُ عَلَيْهَا فَشَرِبَتْ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِهَا فَشَرِبَهُ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَسَقَى دَلِيلَهُ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَسَقَى عَامِرًا، ثُمَّ تَرَّوَحَ.
وَطَلَبَتْ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغُوا أُمَّ مَعْبَدٍ فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالُوا: أَرَأَيْتِ محمداً من حليته كذا كذا؟ فَوَصَفُوهُ لَهَا.
فَقَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ، قدمنا فتى حَالِبُ الْحَائِلِ.
قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَذَاكَ الَّذِي نُرِيدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ، بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا أَبِي عن أبيه عن جابر.
قال: لما
__________
(1) في ابن سعد ضبيس وفي الاصابة خبيس.
قال السهيلي: اسمها عاتكة بنت خلد إحدى بني كعب من خزاعة وهي أخت حبيش بن خلد، وخلد الاشعر أبوهما هو بن خنيف بن منقد بن ربيعة بن أصرم بن ضمبيس بن عرم بن حبشية بن كعب بن عمرو.
وذكرها ابن سعد قال: عاتكة بنت خالد بن خليف بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضبيس بن حرام..من خزاعة: (2) في ابن سعد: اسمه تميم، وهو ابن عمها عبد العزى وذكر تمام نسبهما وكان منزلهما بقديد.
(3) في البيهقي: خالد بن منقذ بن ربيعة.
(*)(3/233)
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرَيْنِ فَدَخَلَا الْغَارَ، إِذَا فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَهُ أَبُو بَكْرٍ عَقِبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه شئ.
فَأَقَامَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى نَزَلَا بِخَيْمَاتِ أُمِّ مَعْبَدٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ مَعْبَدٍ إِنِّي أَرَى وُجُوهًا حِسَانًا، وَإِنَّ الْحَيَّ أَقْوَى عَلَى كَرَامَتِكُمْ مِنِّي، فَلَمَّا أَمْسَوْا عِنْدَهَا بَعَثَتْ مَعَ ابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ بِشَفْرَةٍ وَشَاةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أردد الشفرة وهات لنا فَرَقًا " يَعْنِي الْقَدَحَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ لَا لبن فيها ولا ولد.
قال هات لنا فَرَقًا فَجَاءَتْ بِفَرَقٍ فَضَرَبَ ظَهْرَهَا فَاجْتَرَّتْ وَدَرَّتْ فَحَلَبَ فَمَلَأَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثم حلب فبعث فيه إِلَى أُمِّ مَعْبَدٍ.
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ عَنْهُ إِلَّا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي النَّسَبِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ثنا عبد الرحمن بن الْأَصْبَهَانِيِّ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بكر الصديق [رضي الله عنه] .
قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَانْتَهَيْنَا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتٍ مُنْتَحِيًا فَقَصَدَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! إنَّما أَنَا امْرَأَةٌ وَلَيْسَ مَعِي أَحَدٌ، فَعَلَيْكُمَا بِعَظِيمِ الْحَيِّ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقِرَى، قَالَ فَلَمْ يُجِبْهَا وَذَلِكَ عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز [لها] يَسُوقُهَا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْعَنْزِ وَالشَّفْرَةِ إِلَى هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَقُلْ لَهُمَا تَقُولُ لَكُمَا أُمِّي: اذْبَحَا هَذِهِ وَكُلَا وَأَطْعِمَانَا، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْطَلِقْ بِالشَّفْرَةِ وَجِئْنِي بِالْقَدَحِ " قَالَ إِنَّهَا قَدْ عَزَبَتْ وَلَيْسَ بِهَا لَبَنٌ، قَالَ انْطَلَقْ، [فانطلق] فَجَاءَ بِقَدَحٍ فَمَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْعَهَا، ثُمَّ حَلَبَ حَتَّى مَلَأَ الْقَدَحَ، ثمَّ قَالَ: انْطَلَقَ بِهِ إِلَى أُمِّكَ، فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَقَالَ: انْطَلِقْ بِهَذِهِ وَجِئْنِي بِأُخْرَى.
فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ ثُمَّ سَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ بِأُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم [قال] فَبِتْنَا لَيْلَتَنَا، ثُمَّ انْطَلَقْنَا.
فَكَانَتْ تُسَمِّيهِ الْمُبَارَكَ.
وَكَثُرَتْ غَنَمُهَا حَتَّى جَلَبَتْ جَلْبًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فمر أبو بكر فرأى
ابْنُهَا فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: يَا أمَّه هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُبَارَكِ.
فَقَامَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَكَ؟ قَالَ أَوْ مَا تَدْرِينَ مَنْ هُوَ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ.
قَالَتْ: فَأَدْخِلْنِي عَلَيْهِ.
قَالَ: فَأَدْخَلَهَا فَأَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهَا - زَادَ ابْنُ عَبْدَانِ (1) فِي رِوَايَتِهِ - قَالَتْ فَدُلَّنِي عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَتْ مَعِي وَأَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَمَتَاعِ الْأَعْرَابِ.
قَالَ فَكَسَاهَا وَأَعْطَاهَا.
قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ وَأَسْلَمَتْ (2) .
إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ والله أعلم (3) .
وقال
__________
(1) أحد إسناد رواية البيهقي.
واسمه أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ.
(2) قال الواقدي وغيره أنها تأخرت في إسلامها وبيعتها إلى أيام عمر بن الخطاب، وكان ذلك بعد سنة ثماني عشرة (الطبقات 8 / 289) .
(3) دلائل البيهقي 2 / 491 - 492 وقال: وقد ذكر ابن إسحاق من قصة أم معبد شيئا يدل على أنها وهذه واحدة.
= (*)(3/234)
الْبَيْهَقِيُّ (1) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي.
قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ بِشْرُ (2) بْنُ مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيُّ ثَنَا أبجر بن الصباح (3) عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةَ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَدَلِيلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيُّ، فَمَرُّوا بِخَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَكَانَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ امْرَأَةً بَرْزَةً (4) جَلْدَةً تَحْتَبِي وَتَجْلِسُ بِفَنَاءِ الْخَيْمَةِ (5) فَتُطْعِمُ وتسقي، فسألوها هل عندها لحم أو لين (لَبَنٌ) يَشْتَرُونَهُ مِنْهَا؟ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا من ذلك.
وقالت: لو كان عندنا شئ ما أعوذكم الْقِرَى، وَإِذَا الْقَوْمُ مُرْمِلُونَ مُسْنِتُونَ (6) .
فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا شَاةٌ فِي كَسْرِ خَيْمَتِهَا، فَقَالَ: " مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ " فَقَالَتْ شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ.
قَالَ: فَهَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ " قَالَتْ هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ تَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلُبَهَا؟ قَالَتْ إِنْ كَانَ بِهَا حَلْبٌ فَاحْلُبْهَا.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشَّاة فَمَسَحَهَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَمَسَحَ ضَرْعَهَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَدَعَا بِإِنَاءٍ لَهَا يُرْبِضُ الرَّهْطَ فَتَفَاجَّتْ وَاجْتَرَّتْ فَحَلَبَ فِيهَا ثجا حتى
ملأه (7) فَسَقَاهَا وَسَقَى أَصْحَابَهُ فَشَرِبُوا عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ، حَتَّى إِذَا رَوُوْا شَرِبَ آخِرَهُمْ وَقَالَ " سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ " ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فَغَادَرَهُ عِنْدَهَا ثُمَّ ارْتَحَلُوا قَالَ فقلما لَبِثَ أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعَنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكْنَ (8) هَزْلَى لَا نِقَي بِهِنَّ، مُخُّهُنَّ قَلِيلٌ فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ عَجِبَ وَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ وَلَا حَلُوبَةَ فِي الْبَيْتِ والشاء عازب (9) ؟ فقالت: لا والله
__________
= وانظر الروض الآنف 2 / 8 وشرح السيرة لابي ذر 1 / 126 والسيرة الشامية 3 / 350.
(1) في دلائل البيهقي - باب حديث أم معبد - روى البيهقي حديثا طويلا من طرق ثلاث كلها عن حبيش بن خالد أخو عاتكة - أم معبد ج 1 / 277 - 278 ولم يرد في روايته من طريق أبي معبد، ولعل ابن كثير وهم في إسناد هذه الرواية إلى البيهقي، والرواية التالية - والتي رواها ابن سعد في الطبقات 1 / 230 عن أبي معبد قريبة جدا من رواية البيهقي.
(2) في ابن سعد: محمد بن بشر بن محمد السكري.
(3) في ابن سعد: الحر بن الصياح.
(4) امرأة برزة: يريد أنها خلا لها سن فهي تبرز، ليست بمنزلة الصغيرة المحجوبة، والبرزة إذا كانت كهلة لا تحجب احتجاب الشواب وهي مع ذلك عاقلة تجلس للناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور.
(5) كذا في الاصل وابن سعد وفي رواية البيهقيّ: القبة.
(6) مرملون: أصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل، يريد قد نفد زادهم.
مسنتون، وتروى مشتون أي دخلوا في الشتاء.
ومسنتون: أي داخلون في السنة وهي الجدب والمجاعة.
(7) هكذا في الاصل حتى ملاه، وفي الكلام نقص، وفي ابن سعد: حتى عليه الثمال.
وفي البيهقي: حتى علاه البهاء: أي بهاء اللبن، وهو وبيص رغوته، يريد أنه ملاها.
(8) في ابن سعد: ما تساوق.
والتساوك: السير الضعيف، وقيل رداءة المشي قال الازهري: تقول العرب: جاءت الغنم تساوك: أي تتمايل من الهزال والضعف في مشيها.
(9) الشاء العازب: أي بعيدة عن المرعى لا تأوي المنزل في الليل.(3/235)
إنَّه مرَّ بنا رجل ملوك كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ.
فَقَالَ صِفِيهِ لي فوالله إني لا راه صَاحِبَ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ.
فَقَالَتْ رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ.
حَسَنَ الْخُلُقِ مَلِيحَ (1) الْوَجْهِ لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ (2) وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ قَسِيمٌ وَسِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ (3) ، وفي صوته صحل (4) .
أحول أَكْحَلُ أَزَجُّ أَقْرَنُ فِي عُنُقِهِ سَطَعٌ وَفِي لحيته كثاثة.
إِذَا صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِذَا تكلَّم سَمَا وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ، حُلْوُ الْمَنْطِقِ، فَصْلٌ، لَا نَزْرٌ ولا هذر (5) كأن منطقه خرزات نظم ينحدرون، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب.
ربعة لا تنساه (6) عَيْنٌ مِنْ طُولٍ، وَلَا تَقْتَحِمُهُ (7) عَيْنٌ مَنْ قصر، غصن بين غصنين، فهو أنصر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قداً (8) له رفقاء يجفون بِهِ إِنْ قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا لِأَمْرِهِ.
مَحْفُودٌ (9) مَحْشُودٌ، لَا عَابِسٌ وَلَا معتد (10) فَقَالَ يَعْنِي بَعْلَهَا: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ، وَلَوْ صَادَفْتُهُ لَالْتَمَسْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، ولا جهدن إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، قَالَ وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَقُولُ وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ ربُّ النَّاسِ خيرَ جزائِهِ * رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أمَّ معْبدِ (11) هُمَا نَزَلَا بالبرِّ وَارْتَحَلَا بهِ (12) * فأفلحَ منْ أَمْسَى رفيق محمد
__________
(1) في ابن سعد: متبلج الوجه، وفي البيهقي: أبلج الوجه.
(2) وفي البيهقي: نحلة.
والثجلة: أي ضخم البطن.
والنحلة والنجلة: بمعنى: الدقة والضمر والنحول.
وصعلة: صغر الرأس.
(3) في البيهقي عطف، قال القتيبي: سألت عنه الرياشي فقال: لا أعرف العطف.
وأحسبه قال غطف: وهو أن تطول الاشغار ثم تنعطف، وقال: وتروى وطف: وهو الطول.
(4) صهل، كما في ابن سعد وفي البيهقي صهل.
هما واحد: أي كالبحة وهو أن لا يكون حادا.
(5) فصل لانزر ولا هذر: أي وسط ليس بقليل ولا كثير.
(6) في ابن سعد: ربعة لا تنشؤه من طول.
وفي البيهقي: ربعة لا بأس من طول: يحتمل أن يكون معناه: إنه
ليس بالطويل الذي يؤيس مباريه عند مطاولته، ويحتمل أن يكون تصحيفا، قال البيهقي: وأحسبه: لا بائن من طول.
(7) لا تقتحمه عين من قصر: لا تحتقره ولا تزدريه.
(8) في ابن سعد والبيهقي: قدرا.
(9) محفود: مخدوم، محشود: من حشد: أي إذا أردت أنك أعددت له وجمعت.
وقيل: حشده أصحابه: أطافوا به.
(10) في ابن سعد: لا عابث ولا مفند، وفي البيهقي: لا عابس ولا مفند.
(11) في البيهقي: قالا مكان حلا: من القيلولة.
(12) في البيهقي: هما نزلاها بالهدى واهتدت به فقد فاز.(3/236)
فيالِ قصيٍ مَا زَوَى اللهُ عَنْكُمُ * بهِ مِنْ فعالٍ لَا تجُارى وسؤْدُدِ (1) سلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا * فَإِنَّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشَّاة تشهدِ دَعَاهَا بشاةٍ حائلٍ فتحلَّبتْ * لهُ بصريحٍ ضرَّة الشَّاة مربد فَغَادَرَهُ رَهْنًا لَدَيْهَا لحالبٍ * يدرَّ لَهَا فِي مصدرٍ ثمَّ مَوْرِدِ (2) قَالَ وَأَصْبَحَ النَّاسُ - يَعْنِي بِمَكَّةَ - وَقَدْ فَقَدُوا نبيَّهم، فَأَخَذُوا عَلَى خَيْمَتَيْ أمَّ معْبدِ حَتَّى لَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ (3) * وقد سر (4) مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَزَالَتْ عُقُولُهُمْ * وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ [هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد] (5) وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا * عَمًى وَهُدَاةٌ يَهْتَدُونَ بِمُهْتَدِ؟ نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ * وَيَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ (6) وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ * فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ (7)
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جَدِّهِ * بِصُحْبَتِهِ، مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ وَيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ * وَمَقْعَدُهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَرْصَدِ (8) قَالَ - يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ وَهْبٍ - فَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا (9) مَعْبَدٍ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وهكذا رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيِّ فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ مَعْبَدٍ هَاجَرَتْ وَأَسْلَمَتْ وَلَحِقَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَوَاهُ أبو نعيم (10) من
__________
= وفي ابن هشام: هما نزلا بالبرِّ ثم تروحا.. (13) في ابن سعد: لا يجازى بدلا من لا تجارى.
(1) في البيهقي: فغادرها بدلا من فغادره.
ويرددها بدلا من يدر لها وفي ابن سعد: تدر بها.
(2) في ابن سعد والسهيلي: غاب بدل زال.
(3) في ابن سعد والبيهقي وأبي ذر: وقدس: بمعنى طهر.
(4) سقط من الاصل واستدرك من البيهقي.
(5) في البيهقي: مسجد بدل مشهد.
وقبله: وقد نزلت منه على أهل يثرب * ركاب هدى حلت عليهم بأسعد (6) عجزه في ابن سعد: فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد.
(7) في البيهقي: مقام بدل مكان.
وللمؤمنين بدل للمسلمين.
(8) في ابن سعد: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ مَعْبَدٍ هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلمت.
(9) ورواه البيهقي من نفس طرق أبي نعيم: وأسانيده: مكرم بن محرز وليس بكر بن محرز.
وحزام بن هشام بدلا من حرام.
(*)(3/237)
طرق عن بكر بن محرز الكلبي الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهِ مُحْرِزِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ حرام بن هشام عن (2) حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
أُخْرِجَ مِنْ مَكَّةَ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَدَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيُّ فَمَرُّوا بِخَيْمَةِ (2) أُمِّ مَعْبَدٍ وَكَانَتِ امْرَأَةً بَرْزَةً جَلْدَةً تَحْتَبِي بِفِنَاءِ الْقُبَّةِ، وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءً.
قَالَ وَحَدَّثْنَاهُ - فِيمَا أَظُنُّ - مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى - يَعْنِي الْكُدَيْمِيَّ - ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَوْلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَلِيطٍ الْأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ سَلِيطٍ الْبَدْرِيِّ.
قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَابْنُ أُرَيْقِطٍ يَدُلُّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، مَرَّ بِأُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ فَقَالَ لَهَا: " يَا أُمَّ مَعْبَدٍ هَلْ عِنْدَكِ مِنْ لَبَنٍ؟ " قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ إِنَّ الْغَنَمَ لَعَازِبَةٌ قَالَ فَمَا هَذِهِ الشَّاةُ؟ قَالَتْ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ كُلَّهَا وَاحِدَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً شَبِيهَةً بِقِصَّةِ شَاةِ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ فَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ - إِمْلَاءً - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، ثَنَا أَبُو الوليد، ثنا عبد اللَّهِ (3) بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، ثَنَا إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ.
قَالَ لَمَّا انْطَلَقَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مُسْتَخْفِينَ، مَرُّوا بِعَبْدٍ يَرْعَى غَنَمًا، فَاسْتَسْقَيَاهُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَاةٌ تُحْلَبُ، غير أن ههنا عَنَاقًا حَمَلَتْ أَوَّلَ الشِّتَاءِ، وَقَدْ أَخْدَجَتْ (4) وَمَا بقي لها من لَبَنٌ، فَقَالَ ادْعُ بِهَا، فَدَعَا بِهَا فَاعْتَقَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ ضَرْعَهَا وَدَعَا حَتَّى أَنْزَلَتْ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِمِجَنٍّ فَحَلَبَ فَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَسَقَى الراعي، ثم جلس فَشَرِبَ.
فَقَالَ الرَّاعِي: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَاللَّهِ ما أريت مِثْلَكَ قَطُّ.
قَالَ: أَوَ تُرَاكَ تَكْتُمُ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّهُ صَابِئٌ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ ذَلِكَ.
قَالَ: فإني أشهد أنَّك نَبِيٌّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلْتَ إِلَّا نَبِيٌّ وَأَنَا مُتَّبِعُكَ.
قَالَ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا فَإِذَا بَلَغَكَ أَنِّي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنَا.
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ جعفر بن حميد الكوفي عن عبد اللَّهِ بْنِ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ بِهِ.
وَقَدْ ذكر أبو نعيم ههنا قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى
غَنَمًا لِعُقْبَةَ (5) بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بَكْرٍ - وَقَدْ فرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - فَقَالَ: " يا
__________
(1) من البيهقي: وفي الاصل بن وهو تحريف.
(2) في البيهقي: على خيمتي أمَّ معْبدِ.
(3) في دلائل البيهقي ج 2 / 497: عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ.
(4) في البيهقي أخرجت.
وخدجت: ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق، وأخدجت: ولدته ناقص الخلق وإن كان لتمام الحمل.
(5) من البيهقي وابن سعد.
وفي الاصل عتبة وهو تحريف.
(*)(3/238)
غُلَامُ عِنْدَكَ لَبَنٌ تَسْقِينَا؟ " فَقُلْتُ إِنِّي مُؤْتَمَنٌ وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا، فَقَالَا هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ بَعْدُ؟ قُلْتُ نَعَمْ! فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّرْعَ فَدَعَا فحفل الضرع، وجاء أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُتَقَعِّرَةٍ فَحَلَبَ فِيهَا.
ثُمَّ شَرِبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَسَقَيَانِي، ثُمَّ قَالَ للضرع: أقلص أقلص.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، أَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: علِّمني مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ - يَعْنِي الْقُرْآنَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك غُلَامٌ معلَّم " فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ (1) .
فَقَوْلُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَقَدْ فرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، إِنَّمَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّتُهُ هَذِهِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بمن مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ الزَّبِيرِيُّ - حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ فَائِدٍ مَوْلَى عَبَادِلَ قَالَ خَرَجْتُ مع [إِبْرَاهِيمَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ربيعة فأرسل] إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ أَتَى ابْنُ سَعْدٍ - وَسَعْدٌ هُوَ الَّذِي دلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ رَكُوبَةَ (2) - فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ] أَخْبِرْنِي] مَا حدَّثك أَبُوكَ؟ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ - وَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ عِنْدَنَا بِنْتٌ مُسْتَرْضَعَةٌ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الِاخْتِصَارَ في الطريق إلى المدينة، فقال لها سَعْدٌ: هَذَا الْغَائِرُ (3) مِنْ رَكُوبَةَ وَبِهِ
لِصَّانِ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُمَا الْمُهَانَانِ.
فَإِنْ شِئْتَ أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خُذْ بِنَا عَلَيْهِمَا " قَالَ سَعْدٌ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا إِذَا أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ هَذَا الْيَمَانِيُّ.
فَدَعَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَا، ثُمَّ سَأَلَهُمَا عَنْ أَسْمَائِهِمَا فَقَالَا: نَحْنُ الْمُهَانَانِ.
فَقَالَ: " بَلْ أَنْتُمَا الْمُكْرَمَانِ " وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقْدَمَا عَلَيْهِ المدينة فخرج [نا] حتَّى إِذَا أَتَيْنَا ظَاهِرَ قُبَاءَ فَتَلَقَّاهُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ؟ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ.
إِنَّهُ أَصَابَ قِبْلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُهُ ذَلِكَ؟ ثُمَّ مَضَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا طَلَعَ عَلَى النَّخْلِ فَإِذَا الشَّرْبُ مَمْلُوءٌ، فالتفتَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا الْمَنْزِلُ.
رَأَيْتُنِي أَنْزِلُ إِلَى حِيَاضٍ كَحِيَاضِ بَنِي مدلج " انفرد به أحمد (4)
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 171، والامام أحمد في مسنده 1 / 379 والفسوي في المعرفة والتاريخ 2 / 537.
(2) من مسند أحمد ج 4 / 74 وفي الاصل ركونة، وركوبة: ثنية بنى مكة والمدينة عند العرج قرب جبل ورقان.
(3) من مسند أحمد، وفي الاصل: الغامر.
(4) أخرجه أحمد في مسند ج 4 / 74.
وما بين معكوفين في الخبر زيادة من المسند (*)(3/239)
فَصْلٌ فِي دُخُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَدِينَةَ وَأَيْنَ استقر منزله [بها] (1) قَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ قَالَ فَقَدِمْنَا لَيْلًا فَتَنَازَعَهُ الْقَوْمُ أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ " وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ قُدُومِهِ إِلَى قُبَاءَ فَيَكُونُ حَالَ وُصُولِهِ إِلَى قُرْبِ الْمَدِينَةِ كَانَ فِي حرِّ الظَّهِيرَةِ وَأَقَامَ تَحْتَ تِلْكَ النَّخْلَةِ ثُمَّ سَارَ بِالْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَ قُبَاءَ وَذَلِكَ لَيْلًا، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَيْلًا، فَإِنَّ
الْعَشِيَّ مِنَ الزَّوَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ لَمَّا رَحَلَ مِنْ قُبَاءَ كَمَا سَيَأْتِي فَسَارَ فَمَا انْتَهَى إِلَى بَنِي النَّجَّارِ إِلَّا عِشَاءً كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ وَأَقَامَ فِيهِمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأَسَّسَ مَسْجِدَ قُبَاءَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، ثُمَّ رَكِبَ وَمَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فِي مَكَانِ مَسْجِدِهِ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ وَهَمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمَا وَاتَّخَذَهُ مَسْجِدًا.
وَذَلِكَ فِي دَارِ بَنِي النَّجَّارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ [عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ] (2) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِ (3) بْنِ سَاعِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: لَمَّا بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ مَكَّةَ وَتَوَكَّفْنَا قُدُومَهُ كُنَّا نَخْرُجُ إِذَا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ، إِلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا نَنْتَظِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاللَّهِ، مَا نَبْرَحُ حَتَّى تَغَلِبَنَا الشَّمْسُ عَلَى الظِّلَالِ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلَّا دَخَلْنَا - وَذَلِكَ فِي أَيَّامٍ حَارَّةٍ - حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ جَلَسْنَا كَمَا كُنَّا نَجْلِسُ، حَتَّى إِذْ لَمْ يَبْقَ ظِلٌّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ فكان أول من رآه من رجل من اليهود [وقد رأى ما كنا نصنع، وأنا ننتظر قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا] (4) فصرخ بأعلا صَوْتِهِ: يَا بَنِي قَيْلَةَ! هَذَا جَدُّكُمْ قَدْ جَاءَ، فَخَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَهُوَ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي مِثْلِ سِنِّهِ، وَأَكْثَرُنَا لَمْ يَكُنْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ: وَرَكِبَهُ (5) النَّاسُ وَمَا يَعْرِفُونَهُ من أبي بكر،
__________
(1) زيادة من السيرة النبوية لابن كثير.
(2) من ابن هشام.
(3) في ابن هشام: عويمر.
(4) من ابن هشام.
(5) أي ازدحموا عليه.
(*)(3/240)
حَتَّى زَالَ الظِّلُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَظَلَّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَثْلُ
ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ وَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ ثَنَا سُلَيْمَانَ [بْنِ الْمُغِيرَةِ] ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ: إني لا سعى فِي الْغِلْمَانِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى وَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى وَلَا أَرَى شَيْئًا، قَالَ: حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ أَبُو بكر.
فَكَمَنَا في بعض خراب (1) الْمَدِينَةِ، ثُمَّ بَعَثَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يؤذن بِهِمَا الْأَنْصَارَ فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءُ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ حتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ.
فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حتَّى إِنَّ الْعَوَاتِقَ (2) لَفَوْقَ الْبُيُوتِ يَتَرَاءَيْنَهُ يَقُلْنَ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَمَا رَأَيْنَا مَنْظَرًا شبيها به.
قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ عَلَيْنَا ويوم قبض.
فلم أر يومين شبيهاً بِهِمَا وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق الصنعاني عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ - أَوْ مِثْلِهِ (3) - وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ.
قَالَ: وَخَرَجَ النَّاسُ حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْبُيُوتِ وَالْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ مُحَمَّدٌ، اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ مُحَمَّدٌ، اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ انْطَلَقَ وَذَهَبَ حَيْثُ أُمِرَ (4) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَدِيبُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا خَلِيفَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَائِشَةَ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ جَعَلَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَقُلْنَ: طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا * مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا * مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعْ (5) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ يَعْنِي حِينَ نَزَلَ - بِقُبَاءَ عَلَى كُلْثُومِ (6) بْنِ الْهِدْمِ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ على سعد بن
__________
(1) في رواية البيهقيّ: حدار.
(2) العواتق: جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك، وقيل هي التي لم تبن من والدتها، ولم تزوج بعد وقد أدركت وشبت.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 507.
(4) فتح الباري 7 / 8 ومسلم في 53 كتاب الزهد 19 باب في حديث الهجرة ح 75 ص 4 / 2310.
(5) دلائل النبوة ج 2 / 506 وزاد رزين قال: أيها المبعوث فينا * جئت بالامر المطاع (6) كلثوم بْنُ الْهِدْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، مات بعد قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيسر، وكان مسنا، وهو أول من مات من الانصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلثوم يكنى أبا قيس (الروض - الاستيعاب) .
(*)(3/241)
خَيْثَمَةَ، وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ لَهُ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِهِ بيت الاعزاب (1) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسُّنْحِ وَقِيلَ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهَا، حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ مَعَهُ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ.
فكان علي بن أبي طالب إنما كَانَتْ إِقَامَتُهُ بِقُبَاءَ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ.
يَقُولُ: كَانَتْ بِقُبَاءَ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا مُسْلِمَةٌ، فَرَأَيْتُ إِنْسَانًا يَأْتِيهَا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بَابَهَا فَتَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيُعْطِيهَا شَيْئًا مَعَهُ فَتَأْخُذُهُ، فَاسْتَرَبْتُ بِشَأْنِهِ فَقُلْتُ لَهَا يَا أَمَةَ اللَّهِ مَنْ هَذَا الَّذِي يَضْرِبُ عَلَيْكِ بَابَكَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَتَخْرُجِينَ إِلَيْهِ فَيُعْطِيَكِ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَا زَوْجَ لَكِ؟ قَالَتْ: هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ.
وَقَدْ عَرَفَ أَنِّي امْرَأَةٌ لَا أَحَدَ لِي، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوْمِهِ فَكَسَرَهَا ثُمَّ جَاءَنِي بِهَا فَقَالَ احْتَطِبِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْثُرُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ حِينَ هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السلام أقام فيهم ثماني عشر لَيْلَةً.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السلام وأقام فِيهِمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَحَكَى مُوسَى بْنُ عقبة عن مجمع بن يزيد بن حارثة أَنَّهُ.
قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فِينَا - يَعْنِي فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ - اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَيُقَالُ أَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَدْرَكَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَصَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بطن الوادي - وادي رانوناء (2) - فكان أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالْمَدِينَةِ (3) .
فَأَتَاهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبَّاسُ بْنُ عُبادة بْنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَالِمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " لِنَاقَتِهِ فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا وَازَتْ (4) دَارَ بَنِي
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل العزاب وهو تحريف.
(2) في رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: ببطن مهزور (دلائل البيهقي 2 / 504) .
(3) قال ابن سعد: فلما أتى مسجد بني سالم جمع بمن كان معه من المسلمين وهم مائة.
(4) في ابن هشام: وازنت.
(*)(3/242)
بَيَاضَةَ تَلَقَّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَقَالُوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ؟ قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا.
فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا في العدد وَالْمَنَعَةِ.
قَالَ " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا وَازَتْ دَارَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فقالوا: يا رسول هَلُمَّ إِلَيْنَا إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ.
قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ - وَهُمْ أَخْوَالُهُ - دِنْيَا أُمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو إِحْدَى نِسَائِهِمْ، اعْتَرَضَهُ سَلِيطُ بْنُ قيس وأبو سليط أسيرة بن خَارِجَةَ (1) فِي رِجَالٍ مَنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ إِلَى أَخْوَالِكَ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ؟ قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْيَوْمَ، وكل يومئذٍ مِرْبَدًا لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا عَمْرٍو، وكانا في حجر معاذ بن عَفْرَاءَ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُمَا كَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ فِي طَرِيقِهِ بعبد الله بن أبي بن سَلُولَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ.
فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْمَنْزِلِ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ فِي أَنْفُسِهِمْ - فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: انْظُرِ الَّذِينَ دَعَوْكَ فَانْزِلْ عَلَيْهِمْ فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ.
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَعْتَذِرُ عَنْهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَى رَأْسِهِ التَّاجَ وَنُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا (2) .
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ قَدِ اجْتَمَعُوا قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَمَشَوْا حَوْلَ نَاقَتِهِ لَا يَزَالُ أَحَدُهُمْ يُنَازِعُ صَاحِبَهُ زِمَامَ النَّاقَةِ شُحًّا عَلَى كَرَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَكُلَّمَا مرَّ بِدَارٍ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ دَعَوْهُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ فَإِنَّمَا أَنْزِلُ حيث أنزلني الله " فلما انتهت [الناقة] إِلَى دَارِ أَبِي أَيُّوبَ بَرَكَتْ بِهِ عَلَى الْبَابِ فَنَزَلَ فَدَخَلَ بَيْتَ أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى ابتنى مسجده ومساكنه.
__________
(1) في الاصابة: أسير بن عمرو بن قيس أبو سليط البدري، وفي ابن هشام: بن أبي خارجة.
(2) نقل الخبر وفاء الوفا 1 / 184 ونقله البيهقي في الدلائل 2 / 500 وفيه: فقال له سعد بن عبادة: أنا والله يا رسول الله لقد كنا قبل الذي خصنا الله به منك، ومن علينا بقدومك، أردنا أن نعقد على رأس عبد الله بن أبي
التاج ونملكه علينا.
(*)(3/243)
قال ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا بَرَكَتِ النَّاقَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا حَتَّى وَثَبَتْ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لا يثنيها به، ثم التفتت [إلى] خَلْفَهَا فَرَجَعَتْ إِلَى مَبْرَكِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ، ثُمَّ تَحَلْحَلَتْ (1) وَرَزَمَتْ وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ رَحْلَهُ فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَ عَنِ الْمِرْبَدِ لمن هو؟ فقال له معاذ بن عَفْرَاءَ هُوَ يَا رَسُولُ اللَّهِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو وَهُمَا يَتِيمَانِ لِي وَسَأُرْضِيهُمَا مِنْهُ فَاتَّخِذْهُ مَسْجِدًا، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبنى وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَسَتَأْتِي قِصَّةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا أبو الحسن علي بن عمرو الْحَافِظُ ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ الدُّوريّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْوَرْدِ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ صِرْمَةَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ.
قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ فَلَمَّا دَخَلْنَا جَاءَ الْأَنْصَارُ بِرِجَالِهَا وَنِسَائِهَا فَقَالُوا: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: " دَعُوا النَّاقَةَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِ أَبِي أَيُّوبَ، فَخَرَجَتْ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ: نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ * يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " أتحبونني؟ " فَقَالُوا: إِي وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: " وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكُمْ، وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكُمْ، وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكُمْ " هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وقد خرجه الحاكم في مستدركه كما يروى (2) .
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحَّاسُ الْمُقْرِئُ بِبَغْدَادَ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ الْمِصِّيصِيُّ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ.
قَالَ: مرَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَيٍّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَإِذَا جَوَارٍ يَضْرِبْنَ
بِالدُّفُوفِ يَقُلْنَ: نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ * يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يعلم الله أن قلبي يحبكم " (3) وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بِهِ.
وَفِي صَحِيحِ البخاري عن مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
__________
(1) قال السهيلي: " وفسره ابن قتيبة على تلحلح: أي لزم مكانه ولم يبرح.
قال: وتحلحل، معناه زال عن موضعه.
وقال أبو ذر: تحلحلت معناه: تحركت وانزجرت.
(2) نقله السيوطي عن البيهقي في الخصائص 1 / 190 ورواه البيهقي في الدلائل 2 / 508.
(3) في البيهقي 2 / 508: يحبكن.
(*)(3/244)
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَى النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ - حَسِبْتُ أنَّه قَالَ مِنْ عُرْسٍ - فَقَامَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْثِلًا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أحب الناس إلي " قالها ثلاث مرات.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ ثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لَا يُعْرَفُ (1) ، قَالَ فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب إِنَّمَا يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ.
فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ " فَصَرَعَتْهُ فرسه ثم قامت تحمحم، ثم قال: مرني يا نبي الله بما شئت.
فقال: " قِفْ مَكَانَكَ وَلَا تَتْرُكْنَ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا ".
قَالَ فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ.
قَالَ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَانِبَ الْحَرَّةِ ثُمَّ بعث إلى الأنصار فجاؤوا فسلموا عليهما وقالوا اركبا آمنين مطاعين.
فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبُو بكر وحفوا حولهما بالسلاح، وقيل فِي الْمَدِينَةِ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَشْرَفُوا نَبِيَّ اللَّهِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ.
قَالَ فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ إِلَى جَانِبِ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ
أَهْلَهُ إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ فِي نَخْلٍ لأهله يحترف (2) لهم، فعجل أن يضع الذي يحترف فيها فجاء وهي معه، وسمع مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي قَالَ فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا، فَذَهَبَ فَهَيَّأَ [لَهُمَا مَقِيلًا] (3) ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله قد هيأت مَقِيلًا قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَقِيلَا، فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أنَّك نَبِيُّ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ وَلَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم (4) ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَيْلَكُمُ اتقوا الله فوالله الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إنَّكم لَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنِّي جِئْتُ بِحَقٍّ أَسْلِمُوا ".
فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ، ثَلَاثًا.
وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ (5) غَيْرِ مَنْسُوبٍ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ.
__________
(1) يريد هنا: دخول الشيب في لحيته دونه لا السن.
(2) في دلائل البيهقي: يخترف، في الموضعين.
اخترف: جنى من الثمار.
(3) زيادة من البيهقي.
(4) زاد البيهقي في روايته للخبر: فَادْعُهُمْ فَسَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فيَّ مَا لَيْسَ فيَّ، فَأَرْسَلَ نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم.
الخ دلائل ج 2 / 527.
(5) أخرجه البخاري في 63 كتاب الانصار 45 باب هجرة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ح 3911 فتح الباري ج 7 / 199.
قال ابن حجر في الفتح: محمد: هو ابن سلام، وقال أبو نعيم في المستخرج: أظنه أنَّه محمد بن المثنى أبو موسى.
ورواه البيهقي من طريق أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ أبي الحجاج عن عبد الوارث.
(*)(3/245)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ أَبِي رُهْمٍ السَّمَاعِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ.
قَالَ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فِي بَيْتِي نَزَلَ فِي السُّفْلِ، وَأَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ، فَقُلْتُ لَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَكْرَهُ وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَكَ وَتَكُونَ
تَحْتِي، فَاظْهَرْ أَنْتَ فَكُنْ فِي الْعُلْوِ وَنَنْزِلُ نَحْنُ فَنَكُونُ فِي السُّفْلِ، فَقَالَ: " يَا أَبَا أَيُّوبَ إِنَّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ يَغْشَانَا أَنْ أَكُونَ فِي سُفْلِ الْبَيْتِ " فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُفْلِهِ وَكُنَّا فَوْقَهُ فِي الْمَسْكَنِ.
فَلَقَدِ انْكَسَرَ حُبٌّ (1) لَنَا فِيهِ مَاءٌ، فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ بِقَطِيفَةٍ لنا، مالنا لِحَافٌ غَيْرَهَا نَنْشُفُ بِهَا الْمَاءَ تَخَوُّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه شئ فَيُؤْذِيَهُ، قَالَ وَكُنَّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ ثُمَّ نَبْعَثُ إِلَيْهِ فَإِذَا ردَّ عَلَيْنَا فَضْلَةً تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، حَتَّى بَعَثْنَا إِلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ فِيهِ بَصَلًا - أَوْ ثُومًا - فردَّه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَرَ لِيَدِهِ فِيهِ أَثَرًا، قَالَ فَجِئْتُهُ فَزِعًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي رَدَدْتَ عَشَاءَكَ وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضِعَ يَدِكَ؟ فَقَالَ: " إِنِّي وَجَدْتُ فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجَى فَأَمَّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ " قَالَ فَأَكَلْنَاهُ وَلَمْ نَصْنَعْ لَهُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ بَعْدُ (2) .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ - أَوْ أَبِي الْخَيْرِ - مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ أَبِي رُهْمٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ فَذَكَرَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ عَنِ اللَّيْثِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ (3) ثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم نَزَلَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ فِي السُّفْلِ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي العلو فانتبه أبو أيوب فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني في ذَلِكَ - فَقَالَ [النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] : " السُّفْلُ أَرْفَقُ بِنَا " فَقَالَ لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُلْوِ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ فَكَانَ يَصْنَعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم طعاماً، فإذا جئ بِهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا ردَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ لَمْ يَأْكُلْ فَفَزِعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَحَرَامٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ " قَالَ فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ - أَوْ مَا كَرِهْتَ - قَالَ وَكَانَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلم يأتيه الملك (4) .
رواه
__________
(1) حب: الجرة الضخمة.
(2) سيرة ابن هشام ج 2 / 144.
والبيهقي في الدلائل ج 2 / 510 وقال: رواه ابن إسحاق..غير أنه قال عن
أبي أمامة الباهلي عن أبي أيوب.
(3) في البيهقي: بن زيد.
(4) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 509، ومسلم في 36 كتاب الاشربة 31 باب إباحة أكل الثوم ح 171.
وأخرجه التِّرمذي في كتاب الاطعمة 13 باب ح 1807.
عن محمود بن غيلان وقال: حسن صحيح.
وأخرجه أحمد في مسنده 4 / 249، 5 / 94، 96، 100 و 106.
(*)(3/246)
مُسْلِمٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ بِهِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جئ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ (1) وفي رواية بقدر فيه خضروات مِنْ بُقُولٍ، قَالَ فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا فلما رآها كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: " كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي " وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ أَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ عِنْدَهُ، وَرَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ هَدِيَّةٍ أُهْدِيَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ دَارَ أَبِي أَيُّوبَ أَنَا جِئْتُ بِهَا، قَصْعَةٌ فِيهَا خُبْزٌ مَثْرُودٌ بِلَبَنٍ وَسَمْنٍ، فَقُلْتُ أَرْسَلَتْ بِهَذِهِ الْقَصْعَةِ أُمِّي، فَقَالَ: " بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ " وَدَعَا أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا، ثُمَّ جَاءَتْ قَصْعَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ثَرِيدٌ وَعِرَاقُ لَحْمٍ، وَمَا كَانَتْ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَعَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلاث وَالْأَرْبَعَةُ يَحْمِلُونَ الطَّعَامَ يَتَنَاوَبُونَ، وَكَانَ مُقَامُهُ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ نَازِلٌ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ - مَوْلَاهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ وَمَعَهُمَا بَعِيرَانِ وَخَمْسُمِائَةِ درهم ليجئا بِفَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجَتِهِ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَتْ رُقَيَّةُ قَدْ هَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُثْمَانَ، وَزَيْنَبُ عِنْدَ زَوْجِهَا بِمَكَّةَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَجَاءَتْ مَعَهُمْ أُمُّ أَيْمَنَ امْرَأَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِعِيَالِ أَبِي بَكْرٍ وَفِيهِمْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حدَّثنا خَلَفُ بْنُ عَمْرٍو الْعُكْبَرِيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا عَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا صِدِّيقُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَاسْتَنَاخَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ بَيْنَ دَارِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ دَارِ الحسن بن ريد، فَأَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَنْزِلُ.
فَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ: " دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ حَتَّى جَاءَتْ مَوْضِعَ الْمِنْبَرِ فاستناخت ثم تحللت، وثم عريش كانوا يعرشونه وَيَعْمُرُونَهُ وَيَتَبَرَّدُونَ فِيهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فِيهِ فَآوَى إِلَى الظِّلِّ فَأَتَاهُ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ مَنْزِلِي أَقْرَبُ الْمَنَازِلِ إِلَيْكَ فَانْقُلْ رَحْلَكَ إِلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ! فَذَهَبَ بِرَحْلِهِ إِلَى الْمَنْزِلِ، ثُمَّ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَحِلُّ؟ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ مَعَ رَحْلِهِ حَيْثُ كَانَ " وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى بَنَى الْمَسْجِدَ، وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَيْثُ نَزَلَ فِي دَارِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ أَبُو أَيُّوبَ الْبَصْرَةَ - وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَائِبًا عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَخَرَجَ لَهُ ابْنُ عبَّاس عَنْ دَارِهِ حَتَّى أَنْزَلَهُ فِيهَا كَمَا أَنْزَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وملكه كل ما أغلق عليها بَابَهَا.
وَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ أَعْطَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عِشْرِينَ الْفًا، وَأَرْبَعِينَ عَبْدًا.
وَقَدْ صَارَتْ دَارُ أبي بَعْدَهُ إِلَى مَوْلَاهُ أَفْلَحَ.
فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ الْمُغِيرَةُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَصَلَّحَ مَا وَهَى مِنْ بُنْيَانِهَا وَوَهَبَهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ فُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وكذلك نزوله
__________
(1) في النهاية لابن الأثير: بدر: طبق مستدير، شبهه بالبدر لاستدارته.
(*)(3/247)
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَارِ بَنِي النَّجَّارِ وَاخْتِيَارُ الله له ذلك منقبة عظيمة وَقَدْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ دُورٌ كَثِيرَةٌ تَبْلُغُ تِسْعًا كُلُّ دَارٍ مَحَلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِمَسَاكِنِهَا وَنَخِيلِهَا وَزُرُوعِهَا وَأَهْلِهَا، كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِهِمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي مَحَلَّتِهِمْ وَهِيَ كَالْقُرَى الْمُتَلَاصِقَةِ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: مَا أَرَى النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم إِلَّا قَدْ فَضَّلَ عَلَيْنَا فَقِيلَ قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَى كَثِيرٍ: هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بن ربيعة، ومن حديث عبادة بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ سَوَاءً.
زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم خَيَّرَ الْأَنْصَارَ فَجَعَلَنَا آخِرًا، فَأَدْرَكَ سَعْدٌ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَيَّرْتَ دُورَ الْأَنْصَارِ فَجَعَلْتَنَا آخِرًا؟ قَالَ: " أَوَ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أن تكونوا من الأخيار " قَدْ ثَبَتَ لِجَمِيعِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الْأَنْصَارُ الشَّرَفُ وَالرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ العظيم) [التوبة: 100] وقال تعالى: (وَالَّذِينَ تبوؤا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لولا الهجرة لكنت امرءاً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاس وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ " وَقَالَ: " الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي " وَقَالَ: " أَنَا سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ " وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا حجَّاج بْنُ مِنْهَالٍ ثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ.
فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أُبْغَضَهُ اللَّهُ " وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جبير عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ " وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أيضاً عن أبي الوليد [و] الطَّيَالِسِيِّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ.
وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ أَحَدُ شُعَرَاءِ الْأَنْصَارِ فِي قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ وَنَصْرِهِمْ إِيَّاهُ وَمُوَاسَاتِهِمْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ أَيْضًا يَذْكُرُ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ
الْإِسْلَامِ وَمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:(3/248)
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً * يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ * فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ ير داعيا فلما أتانا واطمأنت به النوى (1) * وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطَيْبَةَ رَاضِيَا وَأَلْفَى صَدِيقًا وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ النَّوَى * وَكَانَ لَهُ عَوْنًا مِنَ اللَّهِ بَادِيَا يَقُصُّ لَنَا مَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ * وَمَا قَالَ مُوسَى إِذْ أَجَابَ الْمُنَادِيَا فَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى مِنَ النَّاسِ وَاحِدًا * قَرِيبًا وَلَا يَخْشَى مِنَ النَّاسِ نَائِيَا بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ من جل مَالِنَا * وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتَّآسِيَا (2) نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ * جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الحبيب المواسيا ونعلم إن الله لا شئ غَيْرُهُ * وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَصْبَحَ هَادِيَا (3) أَقُولُ إِذَا صَلَّيْتُ فِي كُلِّ بِيعَةٍ * حَنَانَيْكَ لَا تُظْهِرْ عَلَيْنَا الُأَعَادِيَا (4) أَقُولُ إِذَا جَاوَزْتُ أَرْضًا مُخِيفَةً * تَبَارَكْتَ إِسْمَ اللَّهِ أَنْتَ الْمُوَالِيَا فَطَأْ مُعْرِضًا إِنَّ الْحُتُوفَ كَثِيرَةٌ * وَإِنَّكَ لَا تُبْقِي لِنَفْسِكَ بَاقِيَا (5) فَوَاللَّهِ مَا يَدْرِي الْفَتَى كَيْفَ سَعْيُهُ * إِذَا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ اللَّهَ وَاقِيَا وَلَا تَحْفِلُ النَّخْلُ الْمُعِيمَةُ رَبَّهَا * إِذَا أَصْبَحَتْ رِيًّا وَأَصْبَحَ ثَاوِيَا (6) ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدٍيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَجُوزٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَخْتَلِفُ إِلَى صِرْمَةَ بْنِ قَيْسٍ يَرْوِي هَذِهِ الْأَبْيَاتَ.
رواه البيهقي.
فَصْلٌ وَقَدْ شُرِّفَتِ الْمَدِينَةُ أَيْضًا بِهِجْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهَا وَصَارَتْ كَهْفًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَعِبَادِهِ
__________
(1) في ابن هشام: فلما أتانا أظهر الله دينه.
(2) في ابن هشام: من حل، وتروى من جل بالجيم ومعناه: العظيم الكبير من الابل، أو معظم كل شئ.
(3) في ابن هشام: ونعلم أن الله أفضل هاديا.
(4) في ابن هشام: ورد البيت والذي بعده: أقول إذا أدعوك في كل بيعة * تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا أقول إذا جاوزت أَرْضًا مَخُوفَةً * حَنَانَيْكَ لَا تُظْهِرْ عَلَىَّ الْأَعَادِيَا (5) قال ابن هشام: هذا البيت والذي يليه لافنون التغلبي، وهو صريم بن معشر في أبيات له وبعدهما: كفى حزناً أن يرحل الركب غَدْوَةٌ * وأتركُ في جنب الالهة ثاويا قالهما لما أحس بالموت، بعد أن بركت ناقته على حية فنهشته الحية فمات.
(6) في الاصل المقيمة، والتصويب من ابن هشام وشرح السيرة لابي ذر.
والمعيمة: العاطشة.
(*)(3/249)
الصَّالِحِينَ، وَمَعْقِلًا وَحِصْنًا مَنِيعًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَدَارَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ.
وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا لَهَا مَوْضِعٌ آخَرُ نُورِدُهَا فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ حبيب بن يساف عن جعفر بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " إن الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا " (1) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ شَبَابَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " أُمرت بقرية تأكل القرى، يقول: يثرب، وهي المدينة، تنقي الناس كما ينقي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ " (2) وَقَدِ انْفَرَدَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى مَكَّةَ.
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي أَبُو الْوَلِيدِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ ثَنَا أَبُو مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إليَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ " فَأَسْكَنَهُ اللَّهُ الْمَدِينَةَ " (3) ،.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَالْمَشْهُورُ عَنِ
الْجُمْهُورِ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَّا الْمَكَانَ الَّذِي ضَمَّ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ بأدلة يطول ذكرها ههنا ومحلها ذكرناها فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَشْهَرُ دَلِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ يَقُولُ: " وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرض الله وأحب أرض الله إلي، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهري بِهِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عِنْدِي أَصَحُّ.
قال الإمام أحمد: حدثنا
__________
(1) رواه مسلم في 1 كتاب الايمان 65 باب ح 233.
والبخاري في 29 كتاب فضائل المدينة 6 باب ح 1876 فتح الباري 4 / 93 عن خبيب بن عبد الرحمن بن يساف.
وأخرجه الترمذي في الايمان وابن ماجة في المناسك وأحمد في المسند 1 / 184.
(2) أخرجه البخاري في 29 فضائل المدينة (2) باب فتح الباري 4 / 87 ومسلم في 15 كتاب الحج 88 باب ح 488 وأحمد في 2 / 237، 247، 384.
أمرت بقرية: اي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية - يثرب -.
- تأكل القرى: تغلبها وتظهر عليها.
- تنقي، وفي النهاية: تنفي: تخرجه عنها من النفي، وتنقي من إخراج النقي وهو المخ أو من التنقية وهي إفراد الجيد من الردئ.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 519.
(*)(3/250)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَالَ: " عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ،
وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " (1) وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ بِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ مَعْمَرٍ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ أَيْضًا وَهْمٌ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ (2) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا رَبَاحٌ، عَنْ مَعْمَرٍ.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي سُوقِ الْحَزْوَرَةِ: " وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ خُلَيْدٍ الْحَلَبِيِّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهري عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ بِهِ.
فَهَذِهِ طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَصَحُّهَا مَا تَقَدَّمَ والله أعلم.
وقائع السنة الأولى من الْهِجْرَةِ
اتَّفق الصَّحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ - وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ - فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ عَلَى جَعْلِ ابْتِدَاءِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَ إِلَيْهِ صَكٌّ - أَيْ حُجَّةٌ - لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ وَفِيهِ، أَنَّهُ يَحِلُّ عَلَيْهِ فِي شَعْبَانَ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ شَعْبَانَ؟ أَشَعْبَانُ هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا أَوِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، أَوِ الْآتِيَةِ؟ ثُمَّ جَمَعَ الصَّحَابَةَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي وَضْعِ تَأَرِيخٍ يَتَعَرَّفُونَ بِهِ حُلُولَ الدُّيُونِ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
فَقَالَ قَائِلٌ: أَرِّخُوا كَتَارِيخِ الْفُرْسِ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْفُرْسُ يُؤَرِّخُونَ بِمُلُوكِهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.
وَقَالَ قَائِلٌ: أَرِّخُوا بِتَارِيخِ الرُّومِ.
وَكَانُوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس الْمَقْدُونِيِّ فَكَرِهَ ذَلِكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ أَرِّخُوا بِمَوْلِدِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ بِمَبْعَثِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ بِهِجْرَتِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ بِوَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَمَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى التَّأْرِيخِ بِالْهِجْرَةِ لِظُهُورِهِ وَاشْتِهَارِهِ.
وَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: التَّارِيخُ وَمَتَى أَرَّخُوا التَّارِيخَ.
حدثنا عبد الله بن مسلم ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.
قَالَ: مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ، مَا عَدُّوا إِلَّا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب باب في فضل مكة ح 3925 وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وأخرجه ابن ماجه في المناسك.
والنسائي في المناسك في سننه الكبرى على ما ذكره المزي في تحفة الاشراف 5 / 316 و 11 / 54.
(2) دلائل النبوة ج 2 / 518.
(*)(3/251)
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: اسْتَشَارَ عُمَرُ فِي التَّأْرِيخِ فَأَجْمَعُوا عَلَى الْهِجْرَةِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ قُرَّةَ (1) بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ أرخوا.
فقال ما أرخوا؟ فقال شئ تفعله الاعاجمم يَكْتُبُونَ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا.
فَقَالَ عُمَرُ: حَسَنٌ فَأَرِّخُوا، فَقَالُوا مِنْ أَيِّ السِّنِينَ نَبْدَأُ.
فَقَالُوا مِنْ مَبْعَثِهِ، وَقَالُوا مِنْ وَفَاتِهِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى الْهِجْرَةِ، ثُمَّ قَالُوا وأي الشهور نبدأ؟ قالوا رمضان، ثم قالوا المحرم فهو مصرف (2) النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ فَاجْتَمَعُوا (3) على المحرم.
وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة ثنا نوح بن قيس الطائي (4) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِحْصَنٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) هُوَ الْمُحَرَّمُ فَجْرُ السَّنَةِ وَرَوَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ.
قَالَ: إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرُ اللَّهِ وهو رأس السنة يكسي الْبَيْتُ، وَيُؤَرِّخُ بِهِ النَّاسُ (5) ، وَيُضْرَبُ فِيهِ الْوَرِقُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قال: أن أول من ورخ الْكُتُبَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَإِنَّ النَّاسَ أَرَّخُوا لِأَوَّلِ السَّنَةِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: أَرَّخَ بَنُو إِسْمَاعِيلَ مِنْ نَارِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنْ بُنْيَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ (6) ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنْ مَوْتِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنَ الْفِيلِ، ثُمَّ أَرَّخَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ
- أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ - وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُحَرَّرًا بِأَسَانِيدِهِ وَطُرُقِهِ فِي السِّيرَةِ الْعُمَرِيَّةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا ابْتِدَاءَ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَجَعَلُوا أَوَّلَهَا مِنَ الْمُحَرَّمِ فِيمَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جمهور الائمة.
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل فروة وهو تحريف.
(2) في الطبري: منصرف.
(3) من الطبري وفي الاصل فأجتمعوا.
(4) في الطبري: 2 / 253: الطاحي.
(5) في الطبري: ويؤرخ التاريخ.
(6) في رواية الطبري: فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة وبني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي.
وعلق الطبري على رواية ابن إسحاق قال: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد عن ابن إسحاق غير بعيد من الحق لأنهم لم يكونوا يؤرخون على أمر معروف يعمل به عامتهم وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت في ناحية من نواحي من نواحي بلادهم.
(*)(3/252)
وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ السَّنَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي هَاجَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ السُّهَيْلِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أَيْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ حُلُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ التَّارِيخِ كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَوَّلِ سِنِيِّ التَّارِيخِ عَامَ الْهِجْرَةِ.
وَلَا شكَّ أنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مُنَاسِبٌ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ شُهُورِ الْعَرَبِ الْمُحَرَّمُ فَجَعَلُوا السَّنَةَ الْأُولَى سَنَةَ الْهِجْرَةِ.
وَجَعَلُوا أَوَّلَهَا الْمُحَرَّمَ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ النِّظَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ: اسْتَهَلَّتْ سَنَةُ الْهِجْرَةِ الْمُبَارَكَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، وَقَدْ بَايَعَ
الْأَنْصَارَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهِيَ لَيْلَةُ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَنْصَارُ وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ حتَّى لَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مَنْ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ فِي الطَّرِيقِ كَمَا قَدَّمْنَا ثُمَّ خَرَجَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَسْطُهُ وَتَأَخَّرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ لِيُؤَدِّيَ مَا كَانَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ السلام مِنَ الْوَدَائِعِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ بِقُبَاءَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ قَرِيبًا مِنَ الزَّوَالِ وَقَدِ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَحَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ ورجَّح أَنَّهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ السلام بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ (1) ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ (2) الضُّبَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: بُعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ أَبِيَّاتَ صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَسِ بْنِ قَيْسٍ: ثَوَى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ صرمة:
__________
(1) يعني هنا من أول الوقت الذي استنبى فيه، عن عروة عن عائشة قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصالحة في النَّوم.
(2) من الطبري، وفي الاصل: أبي حمزة الضبي.
وأبو جمرة الضبعي، واسمه نصر بن عمران بن عصام الضبعي، البصري نزيل خراسان مشهور بكنيته، ثقة ثبت من الثالثة مات سنة ثمان وعشرين.
تقريب التهذيب 2 / 72 / 300.
(*)(3/253)
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً * يُذَكِّرُ لُوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ خَمْسَ عَشْرَةَ حِجَّةً، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حُدِّثْتُ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ثَمَانِي سِنِينَ بِمَكَّةَ، وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ.
وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: عَشْرًا بِمَكَّةَ، وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُرِنَ إِسْرَافِيلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ سِنِينَ يلقي إليه الكلمة والشئ وَفِي رِوَايَةٍ يَسْمَعُ حِسَّهُ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ.
وَقَدْ حَكَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ قَوْلَ الشَّعْبِيِّ هَذَا، وَحَاوَلَ ابْنُ جَرِيرٍ (1) أَنْ يَجْمَعَ بين قول من قال أنه عليه السلام أَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فصل ولما حل الركاب النبوي بالمدينة، وكان أَوَّلُ نُزُولِهِ بِهَا فِي دَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهِيَ قُبَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَقَامَ بِهَا - أَكْثَرَ مَا قِيلَ - ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَقِيلَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثَلَاثَ لَيَالٍ.
وَالْأَشْهَرُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ عليه السلام أَقَامَ فِيهِمْ بِقُبَاءَ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ أَسَّسَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِي مِقْدَارِهَا - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ - مَسْجِدَ قُبَاءَ، وَقَدِ ادَّعَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَّسَهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ قَدِمَ إِلَى قُبَاءَ وَحَمَلَ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) وردَّ قَوْلَ مَنْ أَعْرَبَهَا: مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَهُوَ مَسْجِدٌ شَرِيفٌ فَاضِلٌ نَزَلَ فِيهِ قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108] كَمَا تَكَلَّمْنَا عَلَى تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِي صَحِيحِ (2) مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ
وَالْجَوَابَ عَنْهُ.
وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا حسن بن محمد ثنا أبو إدريس ثنا
__________
(1) قال ابن جرير في 2 / 251: فلعل الذين قالوا كان مقامه بمكة بعد الوحي عشرا عدوا مقامه بها من حين أتاه جبريل بالوحي من الله عزوجل وأظهر الدعاء إلى توحيد الله وعد الذين قالوا كان مقامه ثلاث عشرة سنة من أول الوقت الذي استنبى فيه وكان اسرافيل المقرون به وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة.
أنظر الحاشية قبل السابقة.
(2) صحيح مسلم في مناسك الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَسَعِيدِ بن عمرو الاشعثي كلاهما عن حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط.
(*)(3/254)
شُرَحْبِيلُ عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ أنَّه حدَّثه أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطُّهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ فَمَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي تَطَّهَّرُونَ بِهِ؟ " قَالُوا: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا (1) .
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخَرُ.
وَرُوِيَ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ومُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ إِبُرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المطهرين) .
قَالَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قُلْتُ: وَيُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ هَذَا ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدْ كَانَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهُ فِيمَا بَعْدُ وَيُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ يَأْتِي قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ تَارَةً رَاكِبًا وَتَارَةً مَاشِيًا وَفِي الْحَدِيثِ: " صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَعُمْرَةٍ " وَقَدْ ورد في حديث أن جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْضِعِ قِبْلَةِ مَسْجِدِ قباء، فكان هذا
المسجد أو مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، بَلْ أَوَّلَ مَسْجِدٍ جُعِلَ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ.
وَاحْتَرَزْنَا بِهَذَا عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ الصِّدِّيقُ بِمَكَّةَ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَيُصَلِّي لِأَنَّ ذَاكَ كَانَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ سلمان في البشارات، [و] أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ لَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَأَخَذَ مَعَهُ شَيْئًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ بِقُبَاءَ قَالَ هَذَا صَدَقَةٌ فكفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْكُلْهُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ، ثُمَّ جَاءَ مرة أخرى ومعه شئ فَوَضَعَهُ وَقَالَ هَذِهِ هَدِيَّةٌ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا.
تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ.
فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا عَوْفٌ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم المدينة انجفل الناس، فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أنه ليس بوجه كذَّاب.
فكان أول شئ سمعته يقول: " [يا أيها الناس] (2) افشوا السلام وأطعموا
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 422.
(2) من دلائل البيهقي (*) .(3/255)
الطَّعَامَ [وَصِلُوا الْأَرْحَامَ] (1) وصَلُّوا باللَّيل والنَّاس نِيَامٍ، تَدْخُلُوا الجنَّة بِسَلَامٍ " (2) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى بِهِ عَنْهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ صَحِيحٌ.
وَمُقْتَضَى هَذَا السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَمِعَ بالنَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَرَآهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ حِينَ أَنَاخَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِ حين أناخ عند دار أبي أيوب عند ارْتِحَالِهِ مَنْ قُبَاءَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَعَلَّهُ رَآهُ أَوَّلَ مَا رَآهُ بقباء، واجتمع به بعد ما صَارَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ.
قَالَ: فلمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أنَّك رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ فَادْعُهُمْ فَسَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا
أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ.
فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُمْ: " يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَيْلَكُمْ اتقوا الله فوالله الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إنَّكم لَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ فَأَسْلِمُوا " قَالُوا مَا نَعْلَمُهُ.
قالوا [ذلك] لِلنَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ.
قَالَ: " فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ (3) بْنُ سَلَامٍ؟ قَالُوا ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا.
قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ، قَالُوا حَاشَ لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ (4) .
قَالَ: " يَا ابْنَ سَلَامٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ " فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إنَّكم لَتَعْلَمُونَ أنَّه رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ.
فَقَالُوا: كَذَبْتَ.
فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) .
هَذَا لَفْظُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ (6) فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق الصنعاني (7) ثنا عبد الله بن أبي بَكْرٍ، ثَنَا حُمَيْدٌ.
عَنْ أَنَسٍ.
قَالَ: سَمِعَ عبد الله بن سلام
__________
(1) من المسند.
(2) رواه أحمد في المسند 5 / 451، والترمذي في الزهد باب حديث افشوا السلام..عن محمد بن بشار عن عبد الوهاب الثقفي، وغندر وابن أبي عدي ويحيى بن سعيد أربعتهم عن عوف بن أبي جميلة.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة - باب ما جاء في قيام الليل عن بندار، وفي أول كتاب الاطعمة عن أبي بكر بن أبي شيبة.
والبيهقي في الدَّلائل 2 / 531 من طريق يعقوب بن سفيان، ومن طريق علي بن أحمد بن عبدان.
كلاهما عن عوف.
(3) في ابن هشام: الحصين بن سلام.
(4) في الصحيح كررت العبارة: حاش لله ماكان ليسلم ثلاث مرات مؤكدا عليهم.
(5) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ح 3911 ورواه البيهقي من طريق عبد الوارث عن ابن صهيب عن أنس 2 / 526.
(6) في رواية حميد الطويل عن أنس.
ونقلها البيهقي في الدلائل 2 / 528.
(7) في دلائل البيهقي: الصغاني.
(*)(3/256)
بِقُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ - فَأَتَى النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يعلمهنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، مَا أوَّل أَشْرَاطِ السَّاعة؟ وَمَا أوَّل طَعَامٍ يَأْكُلُهُ (1) أَهْلُ الجنَّة؟ وما بال الْوَلَدَ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ (2) ؟ قَالَ: " أَخْبَرَنِي بهنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا " قَالَ جِبْرِيلُ؟ قَالَ: " نَعَمْ! " قَالَ: عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
ثُمَّ قَرَأَ: " مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) [البقرة: 97] قَالَ: " أمَّا أوَّل أَشْرَاطِ السَّاعة: فَنَارٌ تَخْرُجُ عَلَى النَّاس من المشرق تسوقهم (3) إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أوَّل طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجنَّة فزيادة كبد حوت، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجل مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ [إِلَى أَبِيهِ] (4) ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجل نَزَعَتِ الولد " فَقَالَ.
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أو (و) أنك رَسُولُ اللَّهِ.
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي بَهَتُونِي.
فَجَاءَتِ الْيَهُودُ.
فَقَالَ: " أي رجل عبد الله [بن سلام] (5) فِيكُمْ؟ " قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا.
قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ " قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَانْتَقَصُوهُ.
قَالَ هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ بن منير (6) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ حَامِدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ.
قال محمد ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: قَالَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ أَسْلَمَ - وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا -.
قَالَ: لما سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته و [زمانه] الذي كنا نتوكف له، فكنت بقباء مسراً بذلك صَامِتًا عَلَيْهِ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَدِينَةَ فَلَمَّا قَدِمَ نَزَلَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
فَأَقْبَلَ رَجُلٌ حَتَّى أَخْبَرَ بِقُدُومِهِ، وَأَنَا فِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِي أَعْمَلُ فِيهَا، وَعَمَّتِي خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَحْتِي جَالِسَةٌ، فَلَمَّا سَمِعْتُ الْخَبَرَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَّبرتُ، فقالت [لي] عَمَّتِي حِينَ سَمِعَتْ تَكْبِيرِي: لَوْ كُنْتَ سَمِعْتَ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَا زِدْتَ، قَالَ: قُلْتُ لها: أي عمه.
والله هو أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعَلَى دِينِهِ بُعِثَ بِمَا بُعِثَ بِهِ.
قَالَ فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي أَهْوَ الَّذِي كُنَّا
نُخْبَرُ أَنَّهُ يُبْعَثُ مَعَ نَفْسِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهَا: نَعَمْ! قَالَتْ فَذَاكَ إِذًا.
قَالَ فَخَرَجْتُ إِلَى
__________
(1) سقطت من البيهقي.
(2) عبارة البيهقي: وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ وَإِلَى أُمِّهِ.
(3) سقطت من البيهقي، وفي الصحيح: تحشرهم.
(4) من البيهقي.
(5) سقطت من الاصل والبيهقي واستدركت من الصحيح.
(6) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة 6 باب فتح الباري 8 / 165 عن عبد الله بن منير، ولعله تحريف من الناسخ والصواب عبد بن حميد.
ورواه في 63 كتاب مناقب الانصار 51 باب حدثني حامد بن عمر فتح الباري 7 / 272.
(*)(3/257)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ ثمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِي فَأَمَرْتُهُمْ فَأَسْلَمُوا وَكَتَمْتُ إِسْلَامِي مِنَ الْيَهُودِ وَقُلْتُ (1) : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِكَ فَتُغَيِّبَنِي عَنْهُمْ، ثُمَّ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي فَيُخْبِرُوكَ كَيْفَ أَنَا فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ بَهَتُونِي وَعَابُونِي، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ فَأَظْهَرْتُ إِسْلَامِي وَإِسْلَامَ أَهْلِ بَيْتِي وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث [فَحَسُنَ إِسْلَامُهَا] (2) .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بكر حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ أَبِي وَعَمِّي أَحَبَّ إِلَيْهِمَا مِنِّي، لَمْ أَلْقَهُمَا فِي وَلَدٍ لَهُمَا قَطُّ أَهِشُّ إِلَيْهِمَا إِلَّا أَخَذَانِي دُونَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَاءَ - قَرْيَةَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - غَدَا إِلَيْهِ أَبِي وَعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بْنِ أخطب مغلسين، فوالله ماجاآنا إلا مع مغيب الشمس.
فجاآنا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فَهَشِشْتُ إِلَيْهِمَا كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ فَوَاللَّهِ مَا نَظَرَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ يَقُولُ لِأَبِي: أَهْوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ والله! قال تعرفه بنعته وَصِفَتِهِ؟ قَالَ نَعَمْ وَاللَّهِ! قَالَ: فَمَاذَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ؟ قَالَ عَدَاوَتُهُ وَاللَّهِ مَا بَقِيتُ (3) .
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا يَاسِرِ بْنَ أَخْطَبَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ذَهَبَ إِلَيْهِ
وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَادَثَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قومه فقال: يا قوم أطيعونِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالَّذِي كُنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ، فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تُخَالِفُوهُ فَانْطَلَقَ أَخُوهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْيَهُودِ، وَهُمَا مِنْ بني النضير - فجلس إلى رسول الله وَسَمِعَ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ - وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا - فَقَالَ: أَتَيْتُ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَا أَزَالُ لَهُ عَدُوًّا أَبَدًا.
فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ أَبُو يَاسِرٍ يَا ابْنَ أُمِّ أَطِعْنِي فِي هَذَا الْأَمْرِ وَاعْصِنِي فِيمَا شِئْتَ بعده لا تهلك، قال لا وَاللَّهِ لَا أُطِيعُكَ أَبَدًا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَاتَّبَعَهُ قَوْمُهُ عَلَى رَأْيِهِ.
قُلْتُ: أَمَّا أَبُو ياسر واسمه وأما حيي بْنُ أَخْطَبَ فَلَا أَدْرِي مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، وَأَمَّا حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَالِدُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَشَرِبَ عَدَاوَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ لعنه الله حَتَّى قُتِلَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قَتَلَ مُقَاتِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا سَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فصل ولما ارتحل عليه السلام مِنْ قُبَاءَ وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَدْرَكَهُ وَقْتُ الزَّوَالِ وَهُوَ فِي دَارِ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ هُنَالِكَ، فِي وَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي رانواناء فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ مُطْلَقًا لأنه والله أعلم لم يكن
__________
(1) في ابن هشام: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ له: (2) من ابن هشام 2 / 164 ونقل الخبر البيهقي عنه في الدلائل: 2 / 530.
(3) سيرة ابن هشام 2 / 165 والبيهقي في الدلائل 2 / 532.
(*)(3/258)
يَتَمَكَّنُ هُوَ وَأَصْحَابَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى يُقِيمُوا بِهَا جُمُعَةً ذَاتَ خُطْبَةٍ وَإِعِلَانٍ بِمَوْعِظَةٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشَدَّةِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ، وَأَذِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ.
ذِكْرُ خُطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حدَّثني يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالْمَدِينَةِ في بني سالم بن عمرو بْنِ عَوْفٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَلَا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ يَكْفُرُهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَالنُّورِ وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَضَلَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَدُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقُرْبٍ مِنَ الْأَجَلِ.
مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يعصهما فقد وغى وَفَرَّطَ وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَحُضَّهُ عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ نَصِيحَةً، وَلَا أَفْضَلَ من ذلك ذكرا.
وَإِنَّهُ تَقْوَى لِمَنْ عَمِلَ بِهِ عَلَى وَجِلٍ ومخافة [من ربه] (1) ، وعون صدق على مَا تَبْتَغُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ يُصْلِحِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أَمْرِ (2) السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لَا يَنْوِي بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَذُخْرًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، حِينَ يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ إِلَى مَا قَدَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ سِوَى ذَلِكَ يَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد.
والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لأخلف لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ للعبيد) وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي عَاجِلِ أَمْرِكُمْ وَآجِلِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهُ: (مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُوقِّي مَقْتَهُ، وَتُوقِّي عُقُوبَتَهُ، وَتُوقِّي سَخَطَهُ.
وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُبَيِّضُ الْوَجْهَ، وَتُرْضِي الرَّبَّ، وَتَرْفَعُ الدَّرَجَةَ، خُذُوا بِحَظِّكُمْ وَلَا تُفَرِّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ قَدْ عَلَّمَكُمُ اللَّهُ كِتَابَهُ، وَنَهَجَ لَكُمْ سَبِيلَهُ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلِيَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ (3) فَإِنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاس ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَلَى النَّاسِ وَلَا يَقْضُونَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ،
__________
(1) من الطبري.
(2) في الطبري: من أمره في السر والعلانية.
(3) كذا في الاصل والقرطبي نقلا عن ابن جرير، وفي الطبري: لما بعد اليوم.
(*)(3/259)
اللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ " هَكَذَا أَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي السَّنَدِ إِرْسَالٌ (1) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَابٌ - أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ -: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ محمد بن عثمان والأخنس (2) بْنِ شَرِيقٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَانَتْ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أن قام فيهم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا راعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ - لَيْسَ لَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ - أَلَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَآتَيْتُكَ مَالًا، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ قدَّامه فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَاَلِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (3) وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: " إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ] (4) ، إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيَّنَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ، إِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبُّوا مَنْ أحبَّ اللَّهَ، أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ [وَلَا تَمَلُّوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم] (5) فإنه من (6) يَخْتَارُ اللَّهُ وَيَصْطَفِي فَقَدْ سَمَّاهُ خِيَرَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَخِيَرَتَهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالصَّالِحَ مِنَ الْحَدِيثِ وَمِنْ كُلِّ مَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَاصْدُقُوا اللَّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ وَتَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " (7) .
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَيْضًا مُرْسَلَةٌ إِلَّا أَنَّهَا مُقَوِّيَةً لِمَا قَبْلَهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الالفاظ.
__________
(1) ذكر الخطبة القرطبي في تفسيره بنحوها مطولا بلا اسناد ج 18 / 98.
وانظر تاريخ الطبري ج 2 / 255 - 256 دار القاموس الحديث.
(2) في البيهقي: بن الأخنس.
(3) في ابن هشام: والسلام عليكم وعلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(4) مَنْ ابن سحاق والبيهقي.
(5) سقطت من الاصل واستدركت من ابن هشام والبيهقي.
(6) في ابن هشام: فإنه كل يختار.
(7) الخطبتان في ابن هشام ج 2 / 146 - 147 ودلائل البيهقي 2 / 524 - 525.
(*)(3/260)
فصل في بناء مسجده الشريف ومقامه بدار أبي أيوب وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِهَا، فَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمد، قَالَ سَمِعْتُ أبي يحدث فقال حدثنا أبوالتياح يزيد بن حميد الضبي، حدَّثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة نَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بني النجار فجاؤا مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ، قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفَنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغنم، قال: ثم إنه أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بَنِي النجار فجاؤوا فَقَالَ: " يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا " فَقَالُوا لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ أَلَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ (1) : فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ، كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ.
قَالَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ: فَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَلِكَ الصَّخْرَ وَهُمْ
يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ يَقُولُ (2) : " اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ * فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ " وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (3) فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عبد الصمد وعبد الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الذي كَانَ مِرْبَدًا - وَهُوَ بَيْدَرُ التَّمْرِ - لِيَتِيمَيْنِ كَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ، فَسَاوَمَهُمَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبَى حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا وَبَنَاهُ مَسْجِدًا.
قَالَ وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَقُولُ وهو ينقل معهم التراب: هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ * هَذَا أَبَرُّ ربنا وأطهر
__________
(1) قال: أي أنس.
(2) في البخاري: ويقولون.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 46 باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه المدينة ح 3932 وأخرجه أيضاً في كتاب الصلاة - باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية؟ وأخرجه مسلم في كتاب المساجد باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أبو داود في الصلاة عن مسدد.
وابن (*) ماجة في الصلاة.(3/261)
ويقول: لا هم إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجره وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنِ زرارة عوضهما منه نخلاً له في بَيَاضَةَ، قَالَ وَقِيلَ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمِرْبَدَ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حجر معاذ بن عَفْرَاءَ وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا عَمْرٍو فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنيا، حدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الضَّبِّيُّ، ثَنَا
عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ.
قَالَ: لمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَهُوَ مَعَهُمْ يَتَنَاوَلُ اللَّبِنَ حَتَّى اغْبَرَّ صَدْرُهُ، فَقَالَ: " ابْنُوهُ عَرِيشًا كَعَرِيشِ مُوسَى " فَقُلْتُ لِلْحَسَنِ: مَا عَرِيشُ مُوسَى؟ قَالَ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ بَلَغَ الْعَرِيشَ - يَعْنِي السَّقْفَ - وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُبَادَةَ: أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا مَالًا فَأَتَوْا بِهِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنِ هَذَا الْمَسْجِدَ وَزَيِّنْهُ، إِلَى مَتَى نُصَلِّي تَحْتَ هَذَا الْجَرِيدِ؟ فَقَالَ: " مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ أَخِي مُوسَى، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى " (1) وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن موسى عن سنان (2) عَنْ فِرَاسٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ سَوَارِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت (3) فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَبَنَاهَا بِجُذُوعِ وَبِجَرِيدِ النخل، ثم إنها تخربت فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَبَنَاهَا بِالْآجُرِّ، فَمَا زَالَتْ ثَابِتَةً حَتَّى الْآنَ.
وَهَذَا غَرِيبٌ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أبي صَالِحٍ ثَنَا نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بِنَائِهِ فِي عَهْدِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا.
وَغَيَّرَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ (4) وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ يعقوب بن إبراهيم به (5) .
__________
(1) دلائل البيهقي: ج 2 / 540.
(2) في سنن أبي داود والبيهقي: عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان.
(3) في أبي داود والبيهقي نقلا عنه: نخرت بدل تخربت في الموضعين.
(4) القصة: هي الجص كما في النهاية، وفي البيهقي: والفضة.
(5) رواه البخاري في 8 كتاب الصلاة 62 باب المساجد فتح الباري 1 / 54 ورواه أبو داود في كتاب الصلاة باب بناء = (*)(3/262)
قُلْتُ: زَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ " وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ الْمَوْجُودُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ بَعْدَهُ، فيستدل بذلك على الراجح من قول الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ حُكْمُ الْمَزِيدِ فَتَدْخُلُ الزِّيَادَةُ فِي حُكْمِ سَائِرِ الْمَسْجِدِ مِنْ تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ، وَقَدْ زِيدَ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ زَادَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ كَانَ نَائِبَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَدْخَلَ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي وَقْتِهِ، ثُمَّ زِيدَ زِيَادَةً كَثِيرَةً فِيمَا بَعْدُ، وَزِيدَ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ حَتَّى صَارَتِ الرَّوْضَةُ وَالْمِنْبَرُ بَعْدَ الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهِدُ الْيَوْمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ؟ وَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَغِّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ فِيهِ.
فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَدَأَبُوا فِيهِ.
فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ * لذلك مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ: لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْآخِرَهْ * اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخره، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار " قال فدخل عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَدْ أَثْقَلُوهُ باللَّبِن فَقَالَ: يا رسول قَتَلُونِي يَحْمِلُونَ عَلَيَّ مَا لَا يَحْمِلُونَ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفُضُ وَفْرَتَهُ بِيَدِهِ - وَكَانَ رَجُلًا جَعْدًا - وَهُوَ يَقُولُ: " وَيْحَ ابْنِ سُمَيَّةَ لَيْسُوا بالذين يقتلونك إنما يقتلك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَلْ هُوَ مُعْضَلٌ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَبَيْنَ أُمِّ سَلَمَةَ وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ - يَعْنِي ابْنَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - عَنْ أُمِّهِمَا خَيْرَةَ مَوَلَاةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تقتل عمار الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارٍ وَهُوَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ:
" وَيْحٌ لَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " (1) وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ، جَعَلَ أَصْحَابُ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ كل واحد لبنة لبنة، وعمرا يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَةً عَنْهُ وَلَبِنَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ظَهْرَهُ.
وَقَالَ " ابْنَ سُمَيَّةَ، لِلنَّاسِ أَجْرٌ وَلَكَ أَجْرَانِ، وَآخِرُ زادك شربة من لَبن وتقتلك الفئة
__________
= المساجد ح 451 و 452 ج 1 / 123.
ونقل الحديثان البيهقي في الدلائل ج 2 / 541.
(1) - أخرج الحديث مسلم عن أم سلمة من طرق متعددة في كتاب الفتن 4 / 2335 - 2336.
(*)(3/263)
الْبَاغِيَةُ " (1) وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحيحين.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
قَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ.
فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: " وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ " قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ (2) .
لَكِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ لِعَمَّارٍ حِينَ جَعَلَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، جَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: " بُؤْسَ ابْنِ سمية تقتلك فِئَةٌ بَاغِيَةٌ " (3) وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حديث شعبة عن أبي مسلم عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي - أَبُو قَتَادَةَ - أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ " بُؤْسًا لَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَفَرَ الْخَنْدَقَ كَانَ النَّاسُ يَحْمِلُونَ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ - نَاقِهٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ - فَجَعَلَ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ
فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ وَيَقُولُ: " وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " (4) .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا سَمِعَهُ بِنَفْسِهِ وَمَا سَمِعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ (5) .
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق إسماعيل الصفار، وهو جزء من حديث أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 289 وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 4 / 319.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 546.
ورواه البخاري في 8 كتاب الصلاة 63 باب فتح الباري 1 / 541 عن مسدد، وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد عن إبراهيم بن موسى.
وأخرجه مسلم في كتاب الفتن 4 / 2335، والترمذي في مناقب عمار بن ياسر 5 / 669 وأحمد في مسنده 2 / 161.
وقال البيهقي: وفي رواية الْبُخَارِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الوهاب ترك لفظة " تقتلك الفئة الباغية " وكأنه إنما تركها لمخالفة أبي نضرة عن أبي سعيد عكرمة في ذلك.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 548، ومسلم في كتاب الفتن 4 / 2335.
(4) مسلم في كتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة 4 / 2335 ورواه الإمام أحمد في مسنده 3 / 5.
(5) العبارة في الدَّلائل: 2 / 549: وقد بين عن أبي نضرة، عن أبي سعيد في هذه الرواية ما سمع من غيره من هذا = (*)(3/264)
قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الْخَنْدَقَ وَهْمًا أَوْ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَفِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: حَمْلُ اللَّبِنِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاقِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ حَيْثُ أَخْبَرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ وَقَدْ قَتَلَهُ أَهْلُ الشَّام فِي وَقْعَةِ صِفِّينَ وَعَمَّارٌ مَعَ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِالْأَمْرِ مِنْ مُعَاوِيَةَ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ بُغَاةً تَكْفِيرُهُمْ كَمَا يُحَاوِلُهُ جَهَلَةُ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا بُغَاةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا
مُجْتَهِدِينَ فِيمَا تَعَاطَوْهُ مِنَ الْقِتَالِ وَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا بَلِ الْمُصِيبُ لَهُ أَجْرَانِ وَالْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ، ومن زاد في هذا الحديث بعد تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ - لَا أَنَالَهَا اللَّهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ - فَقَدِ افْتَرَى فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْهَا إِذْ لَمْ تُنْقَلْ مِنْ طَرِيقٍ تُقْبَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ عَمَّارًا وَأَصْحَابَهُ يَدْعُونَ أَهْلَ الشَّامِ إِلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ.
وَأَهْلُ الشَّامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَأْثِرُوا بِالْأَمْرِ دُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَوْزَاعًا عَلَى كُلِّ قُطْرٍ إِمَامٌ بِرَأْسِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ وَاخْتِلَافِ الْأُمَّةِ فَهُوَ لَازِمُ مَذْهَبِهِمْ وَنَاشِئٌ عَنْ مَسْلَكِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْصِدُونَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى وَقْعَةِ صِفِّينَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَحُسْنِ تأييده وتوفيقه والمقصود ههنا إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى بَانِيهِ أَفْضَلُ الصَّلاة والتَّسليم.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ (1) : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ، ثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا حَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: [لمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ] (2) جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثمَّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثمَّ جَاءَ عُثْمَانُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَؤُلَاءِ وُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدِي ".
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيِّ عَنْ حَشْرَجٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ سَفِينَةَ.
قَالَ: لمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَضَعَ حَجَرًا.
ثُمَّ قَالَ " لِيَضَعْ أَبُو بَكْرٍ حَجَرًا إِلَى جَنْبِ حَجَرِي، ثُمَّ لْيَضَعْ عُمَرُ حَجَرَهُ إِلَى جَنْبِ حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ لْيَضَعْ عُثْمَانُ حَجَرَهُ إِلَى جَنْبِ حَجَرِ عُمَرَ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِي " وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا السِّيَاقِ غَرِيبٌ جِدًّا، وَالْمَعْرُوفُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ
__________
(1) = الحديث ونقل فيها حمل اللبنة واللبنتين كما نقلها عكرمة.
(1) دلائل النبوة ج 2 / 553.
(2) سقطت من الاصل واستدركت من الدلائل.
(*)(3/265)
حَشْرَجِ بْنِ نُبَاتَةَ الْعَبْسِيِّ (1) وَعَنْ بَهْزٍ وَزَيْدِ بن الحباب وعبد الصمد وحماد بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ عَنْ سَفِينَةَ قَالَ سمعت رسول الله يَقُولُ: " الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْمُلْكُ " ثُمَّ قَالَ سَفِينَةُ أَمْسِكْ، خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سنين وخلافة عثمان اثنتا عَشْرَةَ سَنَةً وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ، هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَلَفَظُهُ " الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا " وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أوَّل مَا بُنِيَ مِنْبَرٌ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ الناس وهو مستنداً إِلَى جِذْعٍ عِنْدَ مُصَلَّاهُ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ فَلَمَّا اتُّخِذَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِنْبَرُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَعَدَلَ إِلَيْهِ لِيَخْطُبَ عليه، فلما جاوز ذَلِكَ الْجِذْعَ خَارَ ذَلِكَ الْجِذْعُ وحنَّ حَنِينَ النُّوقِ الْعِشَارِ لِمَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْ خُطَبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلام عِنْدَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ حَتَّى سَكَنَ كَمَا يَسْكُنُ الْمَوْلُودُ الَّذِي يَسْكُتُ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بَعْدَمَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَيْهِ، أَوَ لَيْسَ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَاءَهُ أَحَقَّ أَنْ يَشْتَاقُوا إِلَيْهِ (2) ؟ ! تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي.
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ الْخِدْرِي هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْعَمْرِيُّ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ " لِمَسْجِدِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ " فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ " يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءَ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيِّ بِهِ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ في المسجد الذي أسس على التقوى،
__________
(1) كذا في الاصل، وهو حشرج بن نباتة الاشجعي.
والحديث في مسند أحمد 4 / 273 و 5 / 445، 220 ورواه أبو داود في كتاب السنة 4 / 211، والترمذي في كتاب الفتن 4 / 503.
(2) دلائل النبُّوة للبيهقي 2 / 559.
(*)(3/266)
وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن أبي سعيد كيف سمعت أباك فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ أَبِي أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ.
ثُمَّ قَالَ: " هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا " وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عثمان التميمي، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.
قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد في الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى.
فَقَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ فَقَالَ: " هُوَ مَسْجِدِي هَذَا " وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا " فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَعَلَّهَا تَقْرُبُ مِنْ إِفَادَةِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
لِأَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَوْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
مِنْ ذَلِكَ لأنَّ هَذَا أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ التِي تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَيْهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تشدُّ
الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ " وَذَكَرَهَا.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ " وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: " فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى القطان عن حبيب عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي " وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَسَنُورِدُهَا فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّ ذَاكَ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَهَذَا بَنَاهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَرَّرُوا أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ في بلد حرمه الله يوم خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَحَرَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ مَا ليس في غيره، وبسط هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْضِعٌ آخَرُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَصْلٌ وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ حُجر لِتَكُونَ مَسَاكِنَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ وَكَانَتْ مَسَاكِنَ(3/267)
قَصِيرَةَ الْبِنَاءِ قَرِيبَةَ الْفِنَاءِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ - وَكَانَ غُلَامًا مَعَ أُمِّهِ خَيْرَةَ مُوْلَاةِ أُمِّ سَلَمَةَ - لَقَدْ كُنْتُ أَنَالُ أَطْوَلَ سَقْفٍ فِي حِجر النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي.
قُلْتُ: إِلَّا إنَّه قَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ شَكِلًا ضَخْمًا طُوَالًا رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ: كَانَتْ مَسَاكِنُهُ عليه السلام مَبْنِيَّةً مِنْ جَرِيدٍ عَلَيْهِ طِينٌ بَعْضُهَا مِنْ حجارة مرضومة (1) وسقوفها كلها م جَرِيدٍ.
وَقَدْ حَكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ وَكَانَتْ حُجَرُهُ مِنْ شَعَرٍ مَرْبُوطَةً بِخَشَبٍ مِنْ عَرْعَرٍ.
قَالَ وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ أن بابه عليه السلام كَانَ يُقْرَعُ بِالْأَظَافِيرِ، فدلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَبْوَابِهِ حَلَقٌ.
قَالَ وَقَدْ أُضِيفَتِ الْحُجَرُ كُلُّهَا بَعْدَ مَوْتِ
أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا: وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بن أريقط الدئلي إِلَى مَكَّةَ بَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ زَيْدَ بْنَ حارثة وأبا رافع مَوْلَيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْتُوا بِأَهَالِيهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَبَعَثَا مَعَهُمْ بِحِمْلَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِيَشْتَرُوا بِهَا إِبِلًا مِنْ قُدَيْدٍ، فذهبوا فجاؤوا بِبِنْتَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومَ وَزَوْجَتَيْهِ سَوْدَةَ وَعَائِشَةَ، وَأُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ وَأَهْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِ أَبِي بَكْرٍ صُحْبَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبي بَكْرِ وَقَدْ شَرَدَ بِعَائِشَةَ وَأُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ الْجَمَلُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَجَعَلَتْ أُمُّ رُومَانَ تَقُولُ: وَاعَرُوسَاهُ، وَابِنْتَاهُ! قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَرْسِلِي خِطَامَهُ، فَأَرْسَلْتُ خِطَامَهُ فَوَقَفَ بإذن الله وسلمنا الله عزوجل.
فَتَقَدَّمُوا فَنَزَلُوا بِالسَّنْحِ.
ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدِمَتْ مَعَهُمْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمٌّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
فَصْلٌ فِيمَا أَصَابَ الْمُهَاجِرِينَ من حمى الْمَدِينَةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وهب بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مَالِكٌ عَنْ (2) هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ * وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نعله (3)
__________
(1) مرضومة: أي مضمومة بعضها فوق بعضٍ - والرضام من الجبل دون الهضاب.
(2) صحيح البخاري 5 / 168 باب ما جاء في هجرة النبي ح 404 وفيه: مالك عن هشام وفي الاصل مالك بن هشام وهو تحريف.
(3) مصبح: أي مصاب بالموت صباحا.
(*)(3/268)
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ (1) وَيَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً * بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ (2) وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ * وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ (3) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارَكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ (4) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هِشَامٍ مُخْتَصَرًا.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (5) لَهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَهُ وَزَادَ بَعْدَ شِعْرِ بِلَالٍ ثمَّ يَقُولُ: اللَّهم الْعَنْ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خلف كما أخرجونا [من أرضنا] (6) إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ (7) .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَفِي مُدِّهَا (8) وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حماها إلى الجحفة " قالت وقدمنا الْمَدِينَةِ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، وَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا (9) - يَعْنِي مَاءً آجِنًا - وَقَالَ زِيَادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وعمر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ [عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرٍ] (10) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ مِنَ الْحُمَّى، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ، وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ، قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَبِلَالٌ مَوْلَيَا أَبَى بَكْرٍ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَأَصَابَتْهُمُ الْحُمَّى، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَعُودُهُمْ (11) وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ، وَبِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ شِدَّةِ الْوَعْكِ فَدَنَوْتُ من أبي بكر فقلت [له] كَيْفَ تَجِدُكَ يَا أَبَهْ؟ فَقَالَ (12) : كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ * وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نعله
__________
(1) رفع الصوت بكاء أو غناء.
(2) هو نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت.
(3) مجنة: على بريد من مكة.
شامة وطفيل: جبلان بقرب مكة.
(4) الجحفة: ميقات أهل مصر والشام والمغرب.
(5) صحيح البخاري ج 3 / 55 ح 461.
(6) من البخاري، سقطت من الاصل.
(7) الوباء: المرض العام الذي أصاب المدينة.
(8) في البخاري: في صاعنا وفي مدنا.
(9) نجلا: أي نزا وهو الماء القليل كما في النهاية لابن الأثير.
(10) ما بين معكوفين من ابن هشام ج 2 / 238.
(11) من ابن هشام، وفي الاصل: أدعوهم وهو تحريف.
(12) الابيات لعمرو بن مامة.
(*)(3/269)
قالت: فقلت: وَاللَّهِ مَا يَدْرِي أَبَى مَا يَقُولُ، قَالَتْ ثُمَّ دَنَوْتُ إِلَى عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ فَقُلْتُ [له] كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ * إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ كُلُّ امْرِئٍ مُجَاهِدٌ بِطَوْقِهِ * كَالثَّوْرِ يَحْمِي جلده بروقه قال فقلت والله ما يدرى مَا يَقُولُ، قَالَتْ وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَدْرَكَتْهُ الْحُمَّى اضْطَجَعَ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ ثُمَّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ فَقَالَ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً * بِفَخٍّ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ * وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ وَقُلْتُ إِنَّهُمْ لَيَهْذُونَ وَمَا يَعْقِلُونَ مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَبَارَكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إِلَى مَهْيَعَةَ " وَمَهْيَعَةُ هِيَ الْجُحْفَةُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة اشتكى أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٌ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيَادَتِهِمْ فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ * وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَسَأَلْتُ عَامِرًا فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ * إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ (1) وَسَأَلَتْ بِلَالًا فَقَالَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً * بِفَخٍّ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ (2) فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ، فَنَظَرَ إِلَى السَّماء وَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَفِي مدها، وانقل وباءها إلى مهيعة.
وهي الجحنة فِيمَا زَعَمُوا.
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بِهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْهَا مِثْلَهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو.
قَالَا: ثَنَا أَبُو العبَّاس الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بن عروة، عن
__________
(1) في رواية: لقد وجدت، وفي رواية أخرى: قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه.
(2) في رواية: بواد، وفخ: قال الدينوري بالخاء المعجمة: موضع خارج مكة.
(*)(3/270)
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أرض الله، وواديها بطحان نجل [يجري عليه الأثل] (1) .
قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ وَبَاؤُهَا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وكان إذا كان الوادي وبيئاً فأشرف عليها الْإِنْسَانُ قِيلَ لَهُ إِنَّ يَنْهَقَ نَهِيقَ الْحِمَارِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَبَاءُ ذَلِكَ الْوَادِي.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى المدينة: لعمري لئن عبرت مِنْ خِيفَةِ الرَّدَى * نَهِيقَ الْحِمَارِ إِنَّنِي لَجَزُوعُ (2) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ (3) مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: عَنْ سَالِمُ [بْنُ عَبْدِ اللَّهِ] عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ - وهي الجحفة فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة - وهي الجحفة - " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ.
قَالَ هِشَامٌ: فَكَانَ الْمَوْلُودُ يُولَدُ بِالْجُحْفَةِ فَلَا يَبْلُغُ الحلم حتى تصرعه الحمى.
ورواه الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ (4) .
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ.
فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ بها بَلَاءٌ وَسَقَمٌ حَتَّى أَجْهَدَهُمْ ذَلِكَ، وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ - يَعْنِي مَكَّةَ - عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ.
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا [الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ] (5) وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.
قُلْتُ: وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ كَانَتْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ (6) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ دعاؤه
__________
(1) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من دلائل النبوة ج 2 / 567.
(2) في الدلائل: عشرت بدلا من عبرت.
(3) صحيح البخاري 2 / 37 ونقله البيهقي من طريق فضيل بن سليمان.
(4) ج 2 / 568 وفيه: وبئة بدل وبيئة.
(5) الخبر في البخاري عن سليمان بن حرب 25 كتاب الحج 55 باب ح 1602 فتح الباري 3 / 368 وأعاده في المغازي باب عمرة القضاء.
ورواه مسلم في 15 كتاب الحج 29 باب مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تميمة عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
ح 240.
- ما بين معكوفين من الصحيحين.
- وهنهم، وفي مسلم وهنتهم: أي أضعفتهم، قال الفراء وغيره: يقال وهنته وأوهنته الحمى لغتان.
ويثرب كان اسم المدينة في الجاهلية.
- يمشوا ما بين الركنين: أي حيث لا تقع عليهم أعين المشركين، فإنهم لم يكونوا في تلك الجهة.
(6) في الكامل لابن الاثير: في ذي الحجة.
وما أثبتناه عن الطبري 3 / 100 وانظر في عمرة القضاء: الطبري = (*)(3/271)
عليه السلام بِنَقْلِ الْوَبَاءِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ رُفِعَ وَبَقِيَ آثَارٌ مِنْهُ قَلِيلٌ.
أَوْ أنهم بقوا في خمار وما كَانَ أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابَتْهُمْ حُمَّى الْمَدِينَةِ حَتَّى جَهَدُوا مَرَضًا، وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى الله عليه وسلم حتى كانوا وما يُصَلُّونَ إِلَّا وَهُمْ قُعُودٌ، قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُصَلُّونَ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ: " اعْلَمُوا أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ " فَتَجَشَّمَ الْمُسْلِمُونَ الْقِيَامَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالسَّقَمِ الْتِمَاسَ الْفَضْلِ (1) .
فَصْلٌ فِي عَقْدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الألفة بين المهاجرين والأنصار بِالْكِتَابِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فَكُتِبَ بَيْنَهُمْ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِهَا وَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهَا وَمُوَادَعَتِهِ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ بِهَا مِنْ أَحْيَاءِ الْيَهُودِ بَنُو قَيْنُقَاعَ وَبَنُو النَّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانَ نُزُولُهُمْ بِالْحِجَازِ قَبْلَ الْأَنْصَارِ أَيَّامَ بُخْتُ نَصَّرَ حِينَ دَوَّخَ بِلَادَ الْمَقْدِسِ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ سَيْلُ الْعَرِمِ وَتَفَرَّقَتْ شَذَرَ مَذَرَ نَزَلَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ الْمَدِينَةَ عِنْدَ الْيَهُودِ فَحَالَفُوهُمْ وَصَارُوا يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ لِمَا يَرَوْنَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضْلِ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ لَكِنْ منَّ اللَّهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِالْهُدَى وَالْإِسْلَامِ وَخَذَلَ أُولَئِكَ لحسدهم وبغيهم واستكبارهم عن اتباع الحق.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدَّثنا نَصْرُ بْنُ بَابٍ عَنْ حَجَّاجٍ - هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ - قَالَ وَحَدَّثَنَا سُرَيْجٌ ثَنَا عَبَّادٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يعقلوا
__________
= 3 / 100 صحيح البخاري 5 / 141 طبقات ابن سعد 3 / 120 سيرة ابن هشام 3 / 319 عيون الاثر 2 / 192 المغازي للواقدي 2 / 731 أنساب الاشراف 1 / 169 المسيرة الحلبية 3 / 71.
(1) سيرة ابن هشام: 2 / 220.
(*)(3/272)
مَعَاقِلَهُمْ، وَأَنْ يَفْدُوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا سُرَيْجٌ ثَنَا عَبَّادٌ عن حجاج عن الحكم عن قاسم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أحمد، وفي صحيح مسلم عن جابر.
كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كل بطن عقولة.
[دستور المدينة] (1) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: " وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار، وادع فيه يهود وَعَاهَدَهُمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ وَشَرَطَ لَهُمْ.
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبيّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ.
1 - إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ (2) .
2 - الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ (3) يَتَعَاقَلُونَ بينهم، وهم يفدون عانيهم (4) بالمعروف والقسط [بين المؤمنين] (5) .
3 - وبنو عوف على ربعتهم يتعاقبون مَعَاقِلَهُمُ الْأَوْلَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ (6) .
ثُمَّ ذَكَرَ كُلَّ بَطْنٍ من بطون الأنصار وأهل كل دار: 4 -[وبنو الحرث على ربعتهم] (7) (حسب المقطع الثالث) .
5 - وبنو ساعدة على ربعتهم (حسب المقطع الثالث) .
__________
استدرك من كتاب محمد في المدينة - وات.
قال وات: ص 337: احتفظ ابن إسحاق بوثيقة قديمة تسمى عادة دستور المدينة، وهو بعد أن يقدم له ببضع كلمات، لا يذكر شيئا عن الطريقة التي وصلت بها إليه الوثيقة، ولا متى وكيف طبق هذا الدستور.
أما وضع الوثيقة في مطلع حديثه عن الفترة المدنية فليس له من سبب سوى التسلسل المنطقي.
(2) أي متميزين عن الناس، ويمكن أن يعني ذلك اليهود، ولكن هذا بعيد.
(3) يقول لين إن " على ربعتهم " تعني وضعهم الاول، ولا مجال للقول أن هذا إشارة إلى الربع بل يعني إما أن كل جماعة تبقى منفصلة أو أنها تستمر في اتباع عاداتها.
وينص البند على وجوب اتباع تقسيم عادل بين مختلف الجماعات داخل القبائل.
(4) العاني: الاسير.
(5) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من ابن هشام.
(6) على معاقلهم الاولى: أي دفع الديات يجري حسب القوانين السائدة سابقا، " وبين المؤمنين " يمكن أن تعني استبعاد غير المؤمنين المنتمين لبني عوف.
(7) من ابن هشام.
(*)(3/273)
6 - وبنو جشم على ربعتهم (حسب المقطع الثالث) .
7 - وبنو النجار على ربعتهم (حسب المقطع الثالث) .
8 - وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم (حسب المقطع الثالث) .
9 - وبنو النبيت على ربعتهم (حسب المقطع الثالث) .
10 -[وبنو أوس على ربعتهم] (1) (حسب المقطع الثالث) .
إِلَى أَنْ قَالَ: 11 - وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مفرحا (2) بينهم وان يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
12 - وَلَا يُحَالِفُ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ.
13 - وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوِ ابْتَغَى، دَسِيعَةَ (3) ظُلْمٍ أَوْ إِثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ أَوْ
فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جميعاً وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ.
14 - وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مؤمناً في كافر ولا ينصر كافرا عَلَى مُؤْمِنٍ.
15 - وَإِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ: يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دون الناس 16 - وإن مَنْ تَبِعَنَا مَنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ والأسوة غير مظلومين ولا تناصر عَلَيْهِمْ.
17 - وَإِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ: لَا يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ.
18 - وَإِنَّ كُلَّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يُعْقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا (4) .
19 - وإن المؤمنين يبئ (5) بعضهم على بعض بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هُدًى وَأَقْوَمِهِ.
20 - وَإِنَّهُ لا يجبر مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسًا وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ.
21 - وَإِنَّهُ مَنِ اعْتَبَطَ (6) مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ بِهِ إِلَّا أن يرضى ولي القتول، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إِلَّا قِيَامٌ عَلَيْهِ.
22 - وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن ينصر محدثا (7) ولا
__________
(1) من ابن هشام.
وقولنا حسب كل مقطع زيادة استدركناه للايضاح.
(2) مفرحا: قال ابن هشام: المفرح المثقل بالدين، والكثير العيال.
(3) دسيعة: من ابن هشام، وفي الاصل دسيسة ظلم، وعند وات: وسبقه ظلم.
(4) يمكن أن تطبق هذه الجملة على ركوب البعير، راجع قلهوزن وابن هشام.
أو على أي واجب عسكري، راجع كايتاني.
(5) يبئ: من البواء أي المساواة.
(6) من ابن هشام، وفي الاصل اغتبطه.
واعتبطه: قتله بلا جناية أو ذنب يوجب قتله.
(7) محدثا: المحدث الشخص الذي يحدث اضطرابا في الوضع القائم.
(*)(3/274)
يأويه وَإِنَّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ.
23 - وَإِنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فيه من شئ فإن مرده إلى الله عزوجل وَإِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
24 - وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ.
25 - وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وَأَنْفُسِهِمْ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ (1) إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ.
26 - وَإِنَّ لِيَهُودِ بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
27 - وأن ليهود بني الحرث مثل ما ليهود بني عوف.
28 - وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
29 - وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
30 - وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
31 - وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتع إلا نفسه وأهل بيته.
32 - وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم (2) .
33 - وإن لبني الشُّطَيْبَةِ (3) مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنَّ البر دون الإثم (4) .
34 - وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.
35 - وَإِنَّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ (5) 36 - وَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ منهم أحد إلا بإذن محمد وأنه لا ينحجر (6) على ثأر جرح وأنه من فتك نفسه فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أبر (7) من هَذَا.
37 - وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أهل
__________
(1) يوتغ: يهلك.
(2) من وات.
(3) في الاصل الشطنة، وفي فنسنك الشطبة راجع السمهودي.
وأثبتنا ما في ابن هشام.
(4) العبارة من رقم 26 إلى 33 من وات، وجاءت العبارة في الاصل وابن هشام: وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ، وَبَنِي الْحَارِثِ وَبَنِي سَاعِدَةَ وَبَنِي جُشَمَ وَبَنِي الْأَوْسِ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ وجفنة وبني الشطنة (الشطيبة) مثل ما ليهود بني عوف.
(5) معنى بطانة غامض، ربما تعنى الذين تربطهم روابط وثيقة مع بعض يهود المدينة.
وهذه روابط الصداقة وليس الدم راجع القرآن سورة 3 / 114 - 118 الاغاني ج 17 / 56، 22 ويقول فنسنك: إنها تعني العرب الذين انضموا لليهود قبل مجئ الاوس والخزرج.
(6) في ابن هشام: ينحجز وعند وات: ينجز، ومعنى ينحجر: كما في النهاية: اتحجر جرحه للبرء انفجر، يعني التأم بعد اجتماعه.
(7) في الاصل: أثر هذا (*) .(3/275)
هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ وأن النصر للمظلوم.
38 -[وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا محاربين] (1) .
39 - وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا (2) لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.
40 - وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ.
41 - وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا.
42 - وانه ماكان بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ عزوجل وإلى محمد رسول الله وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ.
43 - وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا.
44 - وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ.
45 - وَإِذَا دَعَوْا إِلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ فإنهم يصالحونه ويلبسونه وَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) إِلَّا مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ، عَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمُ الذي
قبلهم.
[46 - وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم.
47 - لا يكسب كاسب إلا على نفسه (4) ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أصدق مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ] (5) وَإِنَّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ أَوْ آثِمٍ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بالمدينة إلا من ظلم واثم وأن الله جار لمن بر واتقى، [ومحمد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (6) (7) .
كَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْغَرِيبِ وَغَيْرِهِ بِمَا يَطُولُ.
__________
(1) من ابن هشام، وكررها وات أيضا كما عند ابن هشام وقد ذكرت العبارة تحت بند رقم 24.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل حرفها، ولعل المناسب أكثر والاقرب للصواب ما في النهاية: جرفها، والجرف: موضع قريب من المدينة.
(3) ربما يعني ذلك: أن هذا دين على المؤمنين راجع ف.
رأيت " النحو العربي ".
(4) أو يعني: عليهم أن يحكموا دون الاهتمام بالمؤمنين.
(5) ما بين معكوفين زيادة من ابن هشام، سقطت من الاصل.
(6) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من ابن هشام.
(7) تنظيم وترقيم مواد الشروط التي شرطها رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يهود أخذت من كتاب " محمد في المدينة - وات ".
(*)(3/276)
فَصْلٌ فِي مُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى [وَالَّذِينَ تبوؤا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] [الحشر: 9] وقال تعالى: [وَالَّذِينَ عاقدت أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شئ شَهِيدًا] [النساء: 33] .
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الصَّلت بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [ولكل جعلنا موالي) قال: ورثة (والذين عاقدت أيمانكم) كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نزلت (ولكل جعلنا موالي) نسخت ثم قال: (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قُرِئَ عَلَى سُفْيَانَ سَمِعْتُ عَاصِمًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَالَفَ النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِنَا قَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ آخَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: - فِيمَا بَلَغَنَا وَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ - " تَآخَوْا فِي اللَّهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ " ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ " هَذَا أَخِي " فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ خَطِيرٌ (1) وَلَا نَظِيرٌ مِنَ الْعِبَادِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخَوَيْنِ، وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ وَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَوَيْنِ وَإِلَيْهِ أَوْصَى حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَ جَعْفَرٌ يومئذٍ غَائِبًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ (2) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيُّ أَخَوَيْنِ، وَعُمَرُ بْنُ الخطَّاب وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ أَخَوَيْنِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخَوَيْنِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَخَوَيْنِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ أَخَوَيْنِ، وَيُقَالُ بَلْ كَانَ الزُّبَيْرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بن مسعود (3) أخوين،
__________
(1) خطير: النظير والمثل.
(2) قال الواقدي: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود لا اختلاف فيه عندنا، وأما في رواية ابن إسحاق خاصة فلم يذكره غيره.
وقال الواقدي معلقا على روايته: كيف يكون هذا؟ وإنما كانت المؤاخاة بينهم بعد قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وقبل يوم بدر، وجعفر قد هاجر قبل ذلك من مكة إلى الحبشة،
وقدم بعد ذلك بسبع سنين.
هذا وهل من ابن إسحاق.
راجع طبقات ابن سعد 3 / 584.
(3) في الطبقات ج 3 / 102: كان الزبير وطلحة أخوين، وفي رواية له عن عروة وأخرى عن بشير بن = (*)(3/277)
وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ النَّجَّارِيُّ أَخَوَيْنِ، وَطَلْحَةُ [بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ] (2) وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَخَوَيْنِ، وَسَعِيدُ (2) بْنُ زَيْدٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَخَوَيْنِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو أَيُّوبَ أَخَوَيْنِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ أَخَوَيْنِ، وَعَمَّارُ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ الْعَبْسِيُّ حَلِيفُ عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ.
وَيُقَالُ بَلْ كَانَ عَمَّارٌ وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شماس أخوين.
قلت: وهذا السند مِنْ وَجْهَيْنِ.
قَالَ: وَأَبُو ذَرٍّ بُرَيْرُ بْنُ جُنَادَةَ (3) وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ أَخَوَيْنِ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ (4) وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ أخوين، وسلمان وأبو الدرداء [عويمر بن ثعلبة] أَخَوَيْنِ وَبِلَالٌ وَأَبُو رُوَيْحَةَ (5) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَثْعَمِيُّ ثُمَّ أَحَدُ الْفَزَعِ (6) أَخَوَيْنِ.
قَالَ فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ سُمِّيَ لَنَا مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بَيْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قُلْتُ: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ، أَمَّا مُؤَاخَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٍّ فَإِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَمُسْتَنَدُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ ارْتِفَاقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَلِيَتَأَلَّفَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا مَعْنَى لِمُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا مُهَاجِرِيٍّ لِمُهَاجِرِيٍّ آخَرَ كَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُؤَاخَاةِ حَمْزَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم لَمْ يَجْعَلْ مَصْلَحَةَ عَلِيٍّ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صِغَرِهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ يَكُونُ حَمْزَةُ قَدِ الْتَزَمَ بِمَصَالِحِ مَوْلَاهُمْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَآخَاهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا ذِكْرُهُ لِمُؤَاخَاةِ جَعْفَرٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِيهِ نَظَرٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، فَإِنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِنَّمَا قَدِمَ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سَبْعٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فكيف يؤاخي بينه وبين
__________
= عبد الرحمن بن كعب بن مالك: كان الزبير وكعب بن مالك اخوين.
(1) من ابن هشام.
(2) في ابن هشام: سعد.
وفي الطبقات لابن سعد: سعيد وَقَدْ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وبين رافع بن مالك الزرقي.
(3) وقال ابن هشام: يقال أبو ذر: جندب بن جنادة.
قال ابن سعد في الطبقات: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ المنذر بن عمرو وطليب بن عمرو.
وعلق محمد بن عمر على قول ابن إسحاق قال: كيف يكون هكذا، وإنما آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أصحابه قبل بدر وأبو ذر يومئذ غائب عن المدينة ولم يشهد بدراً ولا أحدا ولا الخندق وإنما قدم المدينة بعد ذلك.
(4) واسم أبي بلتعة: عمرو بن أشد بن معاذ.
قال الواقدي: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عويم وعمر بن الخطَّاب.
(5) في طبقات ابن سعد: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ بلال وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وعلق الواقدي على رواية ابن إسحاق قال: ليس ذلك بثبت ولم يشهد أبو رويحة بدرا.
(6) قال السهيلي: الفزع بالفتح عند أهل النسب هو ابن شهران بن عفرس، وبالسكون ابن عبد الله بن ربيعة.
(راجع ابن حبيب في مؤتلف القبائل ومختلفها) .
(*)(3/278)
مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَوَّلَ مَقْدِمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ أُرْصِدَ لِأُخُوَّتِهِ إِذَا قَدِمَ حِينَ يَقْدَمُ، وَقَوْلُهُ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخَوَيْنِ يخالف لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجِرَاحِ وَبَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ.
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ مُؤَاخَاةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بَابُ كَيْفَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ.
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ [المدينة] فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ،
فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ.
فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.
قَالَ: " فَمَا سُقْتَ فِيهَا؟ " قَالَ وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ " تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثَنَا حَمَّادٌ ثَنَا ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيْ أَخِي أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالًا فَانْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا.
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.
فَدَلُّوهُ فَذَهَبَ فاشترى وباع فربح فجاء بشئ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ.
ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ الله أن يلبث فجاء وعليه ودع زَعْفَرَانٍ (3) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَهْيَمْ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، قَالَ: " مَا أَصْدَقْتَهَا؟ " قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ " أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ".
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لرجوت أن
__________
(1) قال في طبقات ابن سعد عن الواقدي: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أبي عبيدة ومحمد بن مسلمة.
وفي رواية أخرى للواقدي عن محمد بن إبراهيم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة.
وقال الواقدي: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سعد بن معاذ وسعد بن أبي وقاص.
وبشأن أبي طلحة قال عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أبي طلحة وأرقم بن الارقم المخزومي (راجع طبقات ابن سعد 3 / 410 و 421 و 505) .
(2) وأخرجه البخاري من حديث حماد بن زيد في 67 كتاب النكاح 56 باب كيف يدعى للمتزوج وأخرجه مسلم في 16 كتاب النكاح 12 باب الصداق.
(3) كذا في الاصل: ودع زعفران، وفي البيهقي ردع: بفتح الراء وسكون الدال: أثر الطيب.
(*)(3/279)
أُصِيبَ ذَهَبًا وَفِضَّةً (1) .
وَتَعْلِيقُ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ غَرِيبٌ فَإِنَّهُ لَا
يُعْرَفُ مُسْنَدًا إِلَّا عَنْ أَنَسٍ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ تَلَقَّاهُ عَنْهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ.
قَالَ: قَالَ الْمُهَاجِرُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ، وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا مِنْ كَثِيرٍ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَؤُونَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ.
قَالَ: " لَا! مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ وَدَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ " هَذَا حَدِيثٌ ثُلَاثِيُّ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَمْ يخرِّجه أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ ثابت في الصحيح من (2) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ قالت الأنصار: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ.
قَالَ: لَا.
قالوا أفتكفوننا الْمَؤُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
تَفَرَّدَ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ " فَقَالُوا أَمْوَالُنَا بَيْنَنَا قَطَائِعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ؟ " قَالُوا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " هُمْ قَوْمٌ لَا يَعْرِفُونَ الْعَمَلَ، فَتَكْفُونَهُمْ وَتُقَاسِمُونَهُمُ الثَّمَرَ ".
قَالُوا نَعَمْ! وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ وَحُسْنِ سَجَايَاهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى: (والذين تبوؤا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الْآيَةَ.
فَصْلٌ فِي مَوْتِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بن زرارة (3) ابن عُدَسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ أَحَدِ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةَ عَلَى قَوْمِهِ بَنِي النَّجَّارِ، وَقَدْ شَهِدَ الْعَقَبَاتِ الثَّلَاثَ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلٍ وَكَانَ شَابًّا وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِالْمَدِينَةِ فِي نَقِيعَ الْخَضِمَاتِ فِي هَزْمِ النَّبِيتِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهَلَكَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ (4) أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَالْمَسْجِدُ يُبْنَى أَخَذَتْهُ الذُّبْحَةُ - أَوِ الشَّهْقَةُ -.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّارِيخِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ثنا يزيد بن
__________
(1) وأخرجه في كتاب النكاح - أبو داود - باب قلة المهرح 2109 ص 2 / 235 عن موسى بن إسماعيل.
(2) بياض في الاصل قدر كلمة: ولعله: من غيره.
(3) يكنى أبا أمامة وأمه سعاد ويقال الفريعة بِنْتَ رَافِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الابجر وهو ابن خالة سعد بن معاذ ولم يعقب ذكرا.
(4) قال الواقدي: مات أسعد بن زرارة في شوال على رأس تسعة أشهر من الهجرة، وذلك قبل بدر وقال الطبري في تاريخه: مات أسعد في سنة مقدمه صلى الله عليه وسلم وكانت وفاته قبل أن يفرغ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بناء مسجده.
(*)(3/280)
زُرَيْعٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فِي الشَّوْكَةِ.
رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِئْسَ الْمَيِّتُ أَبُو أُمَامَةَ، لِيَهُودَ وَمُنَافِقِي الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلَا لِصَاحِبِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقد زعم أبو الحسن بن الْأَثِيرِ فِي [أُسد] الْغَابَةِ أَنَّهُ مَاتَ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ بَنِي النَّجَّارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ نَقِيبًا بَعْدَ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقَالَ: " أَنْتُمْ أَخْوَالِي وَأَنَا بِمَا فِيكُمْ وَأَنَا نَقِيبُكُمْ " وَكَرِهَ أَنْ يَخُصَّ بِهَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ.
فَكَانَ مِنْ فَضْلِ بَنِي النَّجَّارِ الَّذِي يَعْتَدُّونَ بِهِ عَلَى قَوْمِهِمْ أَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقِيبَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ أَبِي نُعَيْمٍ وَابْنِ مَنْدَهْ فِي قَوْلِهِمَا إِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ كَانَ نَقِيبًا عَلَى بَنِي سَاعِدَةَ، إِنَّمَا كَانَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ، وَصَدَقَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِيمَا قَالَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي التَّارِيخِ (1) : كَانَ أَوَّلَ مَنْ تُوَفِّي بَعْدَ مَقْدَمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - فِيمَا ذُكِرَ - صَاحِبُ مَنْزِلِهِ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ، لَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ مَقْدَمِهِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ مَقْدَمِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ بِالذُّبْحَةِ أَوِ الشَّهْقَةِ.
قُلْتُ: وَكُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ
شَيْخًا كَبِيرًا أَسْلَمَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وَنَزَلَ بِقُبَاءَ نَزَلَ فِي مَنْزِلِ هَذَا فِي اللَّيل، وَكَانَ يَتَحَدَّثُ بِالنَّهَارِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَنْزِلِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَنِ ارْتَحَلَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَقْدَمِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ.
ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ (3) .
__________
(1) تاريخ الطبري ج 2 / 256 دار القاموس الحديث.
(2) قال في الطبقات: وكان يتحدث في منزل سعد بن خيثمة.
(3) راجع الكامل في التاريخ 2 / 110 وتاريخ الطبري 2 / 256 وطبقات ابن سعد 3 / 623 و 3 / 611.
وقال ابن الأثير في أسد الغابة: قيل إنه أول من مات مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بعد قدومه المدينة ولم يدرك شيئاً من مشاهده.
4 / 253.
(*)(3/281)
فَصْلٌ فِي مِيلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ الْهِجْرَةِ فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَمَا أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْأَنْصَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِعِشْرِينَ شَهْرًا قَالَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ.
وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ النُّعْمَانَ وُلِدَ قَبْلَ الزُّبَيْرِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، والصحيح ما قدمنا.
فقال الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ ونزلت بِقُبَاءَ فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ ثمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ في فيه فكان أول شئ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا له وبرك عليه.
فكان أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ.
تَابَعَهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَتَوْا بِهِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرَةً فَلَاكَهَا ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْوَاقِدِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُرَيْقِطٍ لَمَّا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ لِيَأْتُوا بِعِيَالِهِ وَعِيَالِ أَبِي بَكْرٍ فَقَدِمُوا بِهِمْ أَثَرَ هِجْرَةِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْمَاءُ حَامِلٌ مُتِمٌّ أَيْ مُقْرِبٌ قَدْ دَنَا وَضْعُهَا لِوَلَدِهَا، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ كَّبر الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً عَظِيمَةً فَرَحًا بِمَوْلِدِهِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَهُمْ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ سَحَرُوهُمْ حَتَّى لَا يُولَدَ لَهُمْ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ وَلَدٌ، فَأَكْذَبَ اللَّهُ الْيَهُودَ فِيمَا زَعَمُوا.
فَصْلٌ وَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَالَ الإمام أحمد: حدثنا وكيع [بن الجراح] ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طرق عن سفيان الثوري به (1) .
وقال
__________
(1) روى ابن سعد عن محمد بن عمر عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عائشة: الحديث بنحوه وفيه زيادة: وأعرس بي في شوال على رأس ثمانية أشهر من المهاجر.
(*)(3/282)
التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ دُخُولُهُ بها عليه السلام بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ - أَوْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ - وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ في تزويجه عليه السلام بِسَوْدَةَ كَيْفِيَّةُ تَزْوِيجِهِ وَدُخُولِهِ بِعَائِشَةَ بَعْدَ مَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَأَنَّ دُخُولَهُ بِهَا كَانَ بِالسُّنْحِ نَهَارًا وَهَذَا خِلَافُ مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وفي دخوله عليه السلام بها في شوال رداً لِمَا يَتَوَهَّمُهُ (1) بَعْضُ النَّاسِ مِنْ كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ بَيْنَ الْعِيدَيْنِ خَشْيَةَ الْمُفَارَقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَهَذَا ليس بشئ لِمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَادَّةً عَلَى مَنْ تَوَهَّمَهُ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: تَزَوَّجَنِي فِي شوال، وبنى بي في شوال - أَيْ دَخَلَ بِي - فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَائِهِ كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ فدلَّ هَذَا عَلَى أنها فهمت منه
عليه السلام أَنَّهَا أَحَبُّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْفَهْمُ مِنْهَا صَحِيحٌ لِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاس أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ " قُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ قَالَ " أبوها ".
فَصْلٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي السَّنَةَ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ - زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ - فِيمَا قِيلَ - رَكْعَتَانِ، وَكَانَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ فِي ربيع الآخر لمضي ثنتي عشرة ليلة مضت، وَقَالَ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْحِجَازِ فِيهِ.
قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا.
وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ فُرِضَتْ أَرْبَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصلاة) الآية [النساء: 101] .
__________
(1) قال أبو عاصم: إنما كره الناس أن يدخلوا النساء في شوال لطاعون وقع في شوال في الزمن الاول.
فإن صح قول أبي عاصم يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد رفع هذا الوهم والتوهم عند الناس في كراهية الدخول بالنساء في شوال.
(راجع طبقات ابن سعد 8 / 60) .
(*)(3/283)
فصل في الأذان ومشروعيته قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ إخوانه من المهاجرين واجتمع كبائر (1) الْأَنْصَارِ اسْتَحْكَمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، فَقَامَتِ الصَّلَاةُ وَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ، وَقَامَتِ
الْحُدُودُ وَفُرِضَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَتَبَوَّأَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ من الأنصار هم الذين تبوؤا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَهَا إِنَّمَا يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ لِلصَّلَاةِ لِحِينِ مَوَاقِيتِهَا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، فهمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ بُوقًا (2) كَبُوقِ يَهُودَ الَّذِي يَدْعُونَ بِهِ لِصَلَاتِهِمْ، ثُمَّ كَرِهَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالنَّاقُوسِ فَنُحِتَ لِيَضْرِبَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لِلصَّلَاةِ، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ (3) أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، النِّدَاءَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ طَافَ بِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ طَائِفٌ، مرَّ بِي رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ قُلْتُ نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ وَمَا هُوَ؟ قَالَ تَقُولُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ الله أكبر الله أگبر، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أنَّ محمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
فَلَمَّا أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهَا فَإِنَّهُ أَنْدَى (4) صَوْتًا مِنْكَ " فَلَمَّا أَذَّنَ بِهَا بِلَالٌ سَمِعَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَهُوَ يجرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى.
فَقَالَ رسول الله فلله الحمد [على ذلك] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الله بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ أَبِيهِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ، وصحَّحه التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ علَّمه الْإِقَامَةَ قَالَ: ثُمَّ تقول إذا أقمت
__________
(1) في ابن هشام: أمر.
(2) في رواية البخاري بوقة وفي رواية لمسلم والنسائي قرنا وقيل القنع وقيل الشبور وهذه الالفاظ الاربعة (القنع - الشبور - البوقة - القرن) بمعنى واحد وهو الذي ينفخ فيه ليخرج منه الصوت.
(3) هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ بن ثعلبة الانصاري الخزرجي المدني البدري، من سادة الصحابة، شهد العقبة وبدراً، وهو الذي أري الآذان، وكان ذلك في السنة الأولى من الهجرة له أحاديث كثيرة توفي سنة اثنتين وثلاثين
(ترجمته في العبر للذهبي 1 / 33 تهذيب التهذيب 5 / 223 الاصابة 2 / 213، طبقات ابن سعد 3 / 536 تاريخ يعقوب بن سفيان الفسوي 1 / 260.
(4) اندى: أقوى وأبعد.
(*)(3/284)
الصَّلَاةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أنَّ محمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ هَذَا الْحَدِيثَ: عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحَكَمِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ فِي ذلك: الحمد لله ذي الجلال وذي الإ * كرام حمداً على الأذان كبيرا إذ أتاني به البشير من الل * هـ فَأَكْرِمْ بِهِ لَدَيَّ بَشِيرَا فِي لَيَالٍ وَالَى بِهِنَّ ثَلَاثٍ * كُلَّمَا جَاءَ زَادَنِي تَوْقِيرَا قُلْتُ: وَهَذَا الشِّعْرُ غَرِيبٌ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ نَحْوَ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّعْرَ وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، ثَنَا أَبِي، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم اسْتَشَارَ الناس لما يهمهم من الصَّلَاةِ، فَذَكَرُوا الْبُوقَ فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ، ثُمَّ ذَكَرُوا النَّاقُوسَ فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى.
فَأُرِيَ النِّدَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَعُمَرُ بْنُ الخطَّاب، فَطَرَقَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَزَادَ بِلَالٌ فِي نِدَاءِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى وَلَكِنَّهُ سَبَقَنِي، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ هَذَا الْفَصْلِ فِي بَابِ الْأَذَانِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَخْلَدٍ ثَنَا أَبِي، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ وَفِيهِ: فَخَرَجَ مَلَكٌ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَأَذَّنَ بِهَذَا الْأَذَانِ وَكُلَّمَا قَالَ كَلِمَةً صَدَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَخَذَ الْمَلَكُ بِيَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمَهُ فأمَّ بِأَهْلِ السَّمَاءِ وَفِيهِمْ آدَمُ وَنُوحٌ.
ثُمَّ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَأَخْلِقْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا لِمَا يَعْضُدُهُ وَيُشَاكِلُهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ كَمَا زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ تفرَّد بِهِ زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو الْجَارُودِ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْجَارُودِيَّةُ (2) وَهُوَ مِنَ الْمُتَّهَمِينَ.
ثُمَّ لَوْ كان هذا قد سمعه
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ح 499 وابن ماجة ح 708 والامام أحمد في مسنده 4 / 43 والبيهقيّ في دلائل النبوة 7 / 17 - 18 والسنن الكبرى 1 / 390 وابن إسحاق دون ذكر حديث الاقامة في السيرة 2 / 154.
(2) قال الاسفرايني في الفرق بين الفرق: ص 22: الجارودية فرقة من الفرق الزيدية من اتباع المنذر بن عمرو المعروف بأبي الجارود كفروا الصحابة لتركهم بيعة علي، وقالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي بالنص دون = (*)(3/285)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الصَّلَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ.
قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: ائْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَصْحَابُهُ [بِالنَّاقُوسِ] (1) لِلِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ، فَبَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَشَبَتَيْنِ لِلنَّاقُوسِ إِذْ رَأَى عُمَرُ فِي الْمَنَامِ لَا تَجْعَلُوا النَّاقُوسَ بَلْ أَذِّنُوا لِلصَّلَاةِ.
فَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَهُ بِمَا رَأَى وَقَدْ جَاءَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ فَمَا رَاعَ عُمَرَ إِلَّا بِلَالٌ يُؤَذِّنُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ " قَدْ سَبَقَكَ بِذَلِكَ الْوَحْيُ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِنَّهُ قَدْ جَاءَ الْوَحْيُ بِتَقْرِيرِ مَا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ كَمَا صرَّح بِهِ بَعْضُهُمْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَالَتْ: كَانَ بَيْتِي مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ عَلَيْهِ لِلْفَجْرِ كُلَّ غَدَاةٍ، فَيَأْتِي بِسَحَرٍ، فَيَجْلِسُ عَلَى الْبَيْتِ يَنْتَظِرُ الْفَجْرَ، فَإِذَا رَآهُ تَمَطَّى، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْمَدُكَ وَأَسْتَعِينُكَ
عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ يُقِيمُوا دِينَكَ، قَالَتْ ثُمَّ يُؤَذِّنُ، قَالَتْ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُهُ كَانَ تَرَكَهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً - يَعْنِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ (2) .
فَصْلٌ فِي سَرِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ المطَّلب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِوَاءً أَبْيَضَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ (3) لِيَعْتَرِضَ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ وَأَنَّ حَمْزَةَ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ (4) فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، قَالَ وَكَانَ الَّذِي يَحْمِلُ لِوَاءَ حَمْزَةَ أَبُو مَرْثَدٍ الغنوي (5) .
__________
الاسم.
وافترقت الجارودية في الامام المنتظر فرقا: فمنهم من لم يعين واحدا بالانتظار وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ محمد بن القاسم صاحب الطالقان وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ محمد بن عمر الذي خرج بالكوفة.
(1) من ابن هشام.
ج 2 / 155.
(2) سنن ابن داود كتاب الصلاة باب الاذان فوق المنارة ح 519 ص 1 / 143 وسيرة ابن هشام ج 2 / 156.
(3) قال ابن سعد: قال بعضهم كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار.
والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين ولم يُبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا من الانصار مبعثا حتى غزا بهم بدر وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونه في دارهم، وهذا الثبت عندنا.
(4) التقى حمزة وأبو جهل سيف البحر، يعني ساحله من ناحية العيص، وكانت عير قريش قد جاءت من الشام تريد مكة.
(5) أبو مرثد واسمه كناز بن الحصين الْغَنَوِيُّ حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ ابن سعد: كانت راية حمزة أول راية = (*)(3/286)
فَصْلٌ فِي سَرِيَّةِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ في شوال لعبيدة بْنَ الْحَارِثِ [بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ] لِوَاءً أَبْيَضَ وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَطْنِ رَابِغٍ (1) .
وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ فَبَلَغَ ثَنِيَّةَ الْمَرَةِ وَهِيَ بِنَاحِيَةِ الْجُحْفَةِ فِي سِتِّينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَنْصَارِيٌّ، وَأَنَّهُمُ الْتَقَوْا هُمْ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ أَحْيَاءٌ (2) وكان بينهم الرمي دون المسابقة.
قال الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِائَتَيْنِ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَهُوَ الْمُثْبَتُ عِنْدَنَا، وَقِيلَ كَانَ عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ (3) .
فَصْلٌ [فِي سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار] (4) قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا - يَعْنِي فِي السَّنَةِ الْأُولَى فِي ذِي الْقَعْدَةِ (5) - عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الْخَرَّارِ (6) لِوَاءً أَبْيَضَ يَحْمِلُهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ [عَنْ أَبِيهِ] (7) .
قَالَ: خَرَجْتُ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا عَلَى أَقْدَامِنَا، أَوْ قَالَ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، فَكُنَّا نَكْمُنُ النَّهَارَ وَنَسِيرُ اللَّيْلَ حَتَّى صَبَّحْنَا الْخَرَّارَ صُبْحَ خَامِسَةٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَهِدَ إليَّ أَنْ لَا أُجَاوِزَ الْخَرَّارَ، وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ سَبَقَتْنِي قَبْلَ ذَلِكَ بيوم.
قال
__________
= عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاحد في الاسلام - وإلى ذلك ذهب ابن عبد البر - وقال بعضهم أن راية عبيدة كانت الاولى.
وقال ابن سعد قال ابن إسحاق بل كانت راية عبيدة بن الحارث.
وقال ابن الأثير في الكامل: قال بعضهم كان لواء أبي عبيدة أول لواء عقده، وإنما اشتبه ذلك لقرب بعضها ببعض.
(1) بطن رابغ: وهي على عشرة أميال من الجحفة وأنت تريد قديد.
(2) أحياء: وفي رواية ابن إسحاق: ماءً بالحجاز بأسفل ثنية المرة.
(3) في رواية ابن إسحاق: كان على القوم عكرمة بن أبي جهل.
(4) عنوان سقط من الاصل، زيادة استدر كناها للايضاح.
(5) على راس تسعة أشهر من الهجرة.
(6) في الكامل لابن الاثير: إلى الابواء، وفي ابن هشام أن غزوة قام بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ
شَهْرًا من مقدمه المدينة.
(7) من الطبري.
(*)(3/287)
الْوَاقِدِيُّ: كَانَتِ الْعِيرُ سِتِّينَ وَكَانَ مَنْ مَعَ سَعْدٍ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بن جرير (رح) وعند ابن إسحاق (رح) أَنَّ هَذِهِ السَّرَايَا الثَّلَاثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْوَاقِدِيُّ كُلَّهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ مِنْ وَقْتِ التَّارِيخِ.
قُلْتُ: كَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ لَيْسَ بصريح فيما قاله أبو جعفر (رح) لِمَنْ تَأَمَّلَهُ كَمَا سَنُورِدُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَغَازِي فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وذلك تلوماً نحن فيه إن شاء الله، ويحتمل أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهَا وَقَعَتْ هَذِهِ السَّرَايَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَسَنَزِيدُهَا بَسْطًا وَشَرْحًا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْوَاقِدِيُّ (رح) عِنْدَهُ زِيَادَاتٌ حَسَنَةٌ، وَتَارِيخٌ مُحَرَّرٌ غَالِبًا فَإِنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ الْكِبَارِ وَهُوَ صَدُوقٌ فِي نَفْسِهِ مِكْثَارٌ كَمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي عدالته وجرحه في كتابنا الموسوم بالتكميل فِي مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.
فَصْلٌ وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ - وَهِيَ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَيِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وُلِدَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَبْلَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمَا وُلدا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَسَنُشِيرُ فِي آخِرِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ وَزِيَادَ بْنَ سُمَيَّةَ وُلِدَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأُولَى (1) فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وممَّن تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الصَّحَابَةِ، كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ الْأَوْسِيُّ الَّذِي نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَسْكَنِهِ بِقُبَاءَ إِلَى حِينَ ارْتَحَلَ مِنْهَا إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْدَهُ - - فِيهَا أَبُو
أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ نَقِيبُ بَنِي النَّجَّارِ تُوُفِّيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ كَمَا تَقَدَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ - مَاتَ أَبُو أحيحة بما له بِالطَّائِفِ وَمَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ والْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ فِيهَا بِمَكَّةَ.
قُلْتُ: وَهَؤُلَاءِ مَاتُوا على شركهم لم يسلموا لله عزوجل.
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل: السنة الثانية وهو تحريف.
(*)(3/288)
بسم الله الرحمن الرحيم
ذِكْرُ مَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الهجرة
وَقَعَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمَغَازِي وَالسَّرَايَا وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَجَلِّهَا بَدْرٌ الْكُبْرَى الَّتِي كَانَتْ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالْغَيِّ.
وَهَذَا أَوَانُ ذِكْرِ الْمَغَازِي وَالْبُعُوثِ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ
كِتَابُ الْمَغَازِي
قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كتاب السيرة بعد ذكر أَحْبَارَ الْيَهُودِ وَنَصْبِهِمُ الْعَدَاوَةَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، فَمِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَخَوَاهُ أَبُو يَاسِرٍ وَجُدَيٌّ، وَسَلَّامُ (1) بْنُ مِشْكَمٍ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهُوَ أَبُو رَافِعٍ الْأَعْوَرُ، تَاجِرُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ الصَّحَابَةُ بِأَرْضِ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي، وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَعَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ، وكعب بن الأشرف وهو من طئ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ وَأُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَدْ قَتَلَهُ الصَّحَابَةُ قَبْلَ أَبِي رَافِعٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَحَلِيفَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو وَكَرْدَمُ بن قيسم لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْفِطْيَوْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صوريا، ولم يكن
بالحجاز - بعد - أعلم بالتوراة منه.
قلت: وقيل أنه أسلم، وابن صلوبا ومخيريق وقد أسلما يَوْمَ أُحد كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَ حَبْرَ قَوْمِهِ، وَمِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَسَعْدُ بن حنيف، ومحمود بن شيخان (2) وَعُزَيْزُ بْنُ أَبِي عُزَيْزٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضيف، وَسُوَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَرِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَفِنْحَاصُ وأشيع ونعمان بن ضا، وبحرى بن عمرو، وشاش بن عدي، وشاش بْنُ قَيْسٍ، وَزَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُعْمَانُ بْنُ عمير (3) وَسُكَيْنُ بْنُ أَبِي سُكَيْنٍ، وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى أَبُو أَنَسٍ، وَمَحْمُودُ بن
__________
(1) سلام: يروى بتخفيف اللام كما يروى بتشديدها.
ومن رواها بالتخفيف استشهد بقول الشاعر: سقاني فأرواني كُمَيْتًا مُدَامَةً * عَلَى عَجَلٍ مِنِّي سَلَامُ بْنُ شكم (2) في ابن هشام: محمود بن سبحان (3) في ابن هشام: عمرو.
(*)(3/289)
دَحْيَةَ، وَمَالِكُ بْنُ صَيْفٍ (1) وَكَعْبُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعَازَرُ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَخَالِدٌ وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ آزر بن أبي آزَرَ، وَرَافِعُ بْنُ حَارِثَةَ، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَرَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ حَبْرَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ، وَكَانَ اسْمُهُ الْحُصَيْنُ فَلَمَّا أَسْلَمَ سمَّاه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم عَبْدَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ الزُّبَيْرُ بن باطا بن وهب، وعزال بن شموال وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَهُوَ صَاحِبُ عَقْدِهِمُ الَّذِي نَقَضُوهُ عَامَ الْأَحْزَابِ وَشَمْوِيلُ بْنُ زَيْدٍ، وَجَبَلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُكَيْنَةَ، وَالنَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ، وكردم بْنُ كَعْبٍ (2) وَوَهْبُ بْنُ زَيْدٍ وَنَافِعُ بْنُ أبي نافع، [وأبو نَافِعٍ] (3) وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، وَكَرَدْمُ بْنُ زَيْدٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَرَافِعُ بن زميلة (4) ، وَجَبَلُ بْنُ أَبِي قُشَيْرٍ، وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا.
قَالَ وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ وَهُوَ الَّذِي سَحَرَ (5) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ، كِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا.
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَرْدَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَمِنْ يَهُودِ بَنِي النجار، سلسلة
ابن بَرْهَامَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ وأهل الشُّرُورِ وَالْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَصْحَابُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْأَسْئِلَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ قَالَ وَأَصْحَابُ النَّصْبِ لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ لِيُطْفِئُوهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقَ، ثُمَّ ذَكَرَ إِسْلَامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام (6) وإسلام عمته خالدة [بنت الحارث] كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَذَكَرَ إِسْلَامَ مُخَيْرِيقَ يَوْمَ أُحد كَمَا سَيَأْتِي وَأَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ - وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ - يَا مَعْشَرَ يَهُودَ وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ، قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، قَالَ لَا سَبْتَ لَكُمْ.
ثم أخذ سلاحه وخرج
__________
(1) ويروى: الضيف وهما روايتان فيه.
(2) في ابن هشام: قردم بن كعب.
(3) من ابن هشام، سقطت من الاصل.
(4) في ابن هشام: رميلة بالراء.
(5) في ابن هشام: أخذ، وأخد من الاخذة وهو ضرب من السحر.
قال السهيلي: وهذا الحديث مشهور عند الناس ثابت عند أهل الحديث غير أني لم أجد في الكتب المشهورة لم لبث رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ السحر حتى شفي منه.
ووجدت في جامع معمر بن راشد: روى معمر عن الزهري قال: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ.
والحديب أخرجه البخاري عن أنس بن عياض في 80 كتاب الدعوات 57 باب فتح الباري 11 / 192 ورواه البخاري عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة وأخرجاه من أوجه أخر عن هشام ورواه البيهقي في الدلائل عن الكلبي عن أبي صالح، أبي النضر الكوفي، عن ابن عباس ج 6 / 247 - 248.
(6) قال السهيلي: سلام بتخفيف اللام ولا يوجد من اسمه سلام بالتخفيف في المسلمين ويقال سلام بالتشديد، وسلام بالتخفيف في اليهود.
(*)(3/290)
وعهد إِلَى مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ إِنْ قُتِلْتُ هَذَا الْيَوْمَ فَأَمْوَالِي لِمُحَمَّدٍ يَرَى فِيهَا مَا أَرَاهُ اللَّهُ - وَكَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ - ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
فيما بلغني " مخيريق خير يهود " (1) .
فَصْلٌ ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ مَالَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَضْدَادِ مِنَ الْيَهُودِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَمِنَ الْأَوْسِ زُوَيُّ بْنُ الْحَارِثِ، وَجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ وَفِيهِ نَزَلَ: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) [التوبة: 74] وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحُمُرِ، فَنَمَاهَا ابْنُ امْرَأَتِهِ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَرَ الْجُلَاسُ ذَلِكَ وَحَلِفَ مَا قَالَ فَنَزَلَ فِيهِ ذَلِكَ.
قَالَ وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ حَتَّى عُرِفَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ وَالْخَيْرُ قَالَ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ الْمُجَذَّرَ بْنَ ذِيَادٍ الْبَلَوِيَّ وَقَيْسَ بْنَ زَيْدٍ أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مُنَافِقًا فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا ثُمَّ لَحِقَ بِقُرَيْشٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الْمُجَذَّرُ قَدْ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدَ بْنَ الصَّامِتِ فِي بَعْضِ حُرُوبِ (2) الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَذَ بِثَأْرِ أَبِيهِ مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ، كَذَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ الصَّامِتِ إِنَّمَا هُوَ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ قَتْلَهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ.
وَأَنْكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنْ يَكُونَ الْحَارِثُ قَتَلَ قَيْسَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم.
أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِقَتْلِهِ إِنْ هُوَ ظَفِرَ بِهِ، فَبَعَثَ الْحَارِثُ إِلَى أَخِيهِ الْجُلَاسِ يَطْلُبُ لَهُ التَّوْبَةَ لِيَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - فِيمَا بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 86] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
قَالَ: وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنَّ يَنْظُرَ إِلَى شَيْطَانٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا " وَكَانَ جَسِيمًا أَدْلَمَ (3) ثَائِرَ شَعْرِ الرَّأْسِ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ أَسْفَعَ الْخَدَّيْنِ، وَكَانَ يَسْمَعُ الْكَلَامَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْقُلُهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ الَّذِي قَالَ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، من حدثه بشئ صدقه.
__________
(1) علل السهيلي قوله: مخيريق خير يهود قال: ومخيريق مسلم، ولا يجوز أن يقال في مسلم: هو خير النصارى ولا
خير اليهود، فإن قيل وكيف جاز هذا؟ قلنا: لانه قال:: خير يهود، ولم يقل: خير اليهود، ويهود اسم علم كثمود.. (2) تقدم التعليق على مقتله، وكان ذلك يوم بعاث.
(3) الادلم: الاسود الطويل، وقيل هو المسترحي الشفتين.
(*)(3/291)
فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أذن) [التوبة: 61] الآية.
قَالَ: وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ وَكَانَ مِمَّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضِّرَارِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ عَاهَدَا اللَّهَ لَئِنْ آتانا من فضله لنصدقن ثُمَّ نَكَثَا، فَنَزَلَ فِيهِمَا ذَلِكَ، وَمُعَتِّبٌ هُوَ الَّذِي قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: لَوْ كَانَ لَنَا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا فَنَزَلَ فِيهِ (1) الْآيَةُ.
وَهُوَ الَّذِي قَالَ يَوْمَ الأحزاب كان محمد يعدنا أنا نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يؤمن أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ فَنَزَلَ فِيهِ: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) .
قال ابن إسحاق: والحراث بْنُ حَاطِبٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَثَعْلَبَةُ وَالْحَارِثُ ابْنَا حَاطِبٍ، وَهُمَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَيْسُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَكَرَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثَعْلَبَةَ وَالْحَارِثَ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ فِي أَسْمَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ (2) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وبخرج وَكَانَ مِمَّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضِّرَارِ وَعَمْرُو بْنُ حرام (3) وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْعَطَّافِ، وَابْنَاهُ يَزِيدُ (4) وَمُجَمِّعٌ ابْنَا جَارِيَةٍ وَهُمْ مِمَّنِ اتَّخَذَ مَسْجِدَ الضِّرَارِ، وَكَانَ مُجَمِّعٌ غلاماً حدثاً قد جمع أكثر القرآن و [كان] يُصَلِّي بِهِمْ فِيهِ، فَلَمَّا خُرِّبَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ - وَكَانَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ سَأَلَ أَهْلُ قُبَاءٍ عُمَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ مُجَمِّعٌ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، أو ليس إِمَامَ الْمُنَافِقِينَ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ؟ فَحَلَفَ بِاللَّهِ ما علمت بشئ مِنْ أَمْرِهِمْ فَزَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ تَرْكَهُ فَصَلَّى بِهِمْ.
قَالَ وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَانَ مِمَّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضِّرَارِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَنَزَلَ فِيهِ ذَلِكَ (5) .
قَالَ
وَخِذَامُ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ الَّذِي أُخْرِجَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ مِنْ دَارِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ مُسْتَدْرِكًا عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ فِي مُنَافِقِي بَنِي النَّبِيتِ مِنَ الْأَوْسِ وَبِشْرٌ وَرَافِعٌ ابْنَا زَيْدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِرْبَعُ بْنُ قَيْظِيِّ - وَكَانَ أَعْمَى - وَهُوَ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَجَازَ فِي حَائِطِهِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى أُحُدٍ: لَا أُحِلُّ لَكَ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا أَنْ تَمُرَّ فِي حَائِطِي وَأَخَذَ فِي يَدِهِ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ ثمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَا
__________
(1) نزل فيه قوله تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الجاهلية يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ... ) .
(2) ذكرهما الواقدي في المغازي في أهل بدر، وقال: الحارث بن حاطب رده من الروحاء وضرب له بسهمه وأجره 1 / 159.
(3) في ابن هشام: عمرو بن خذام.
(4) في ابن هشام: زيد.
(5) نزل فيه قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تستهزئون) .
(*)(3/292)
أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ لَرَمَيْتُكَ بِهَا، فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوهُ فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ " (1) وَقَدْ ضَرَبَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ بِالْقَوْسِ فَشَجَّهُ.
قَالَ وَأَخُوهُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيِّ وَهُوَ الَّذِي قَالَ [لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الخندق] (2) : إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ.
قَالَ اللَّهُ: (وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا) [الأحزاب: 13] قَالَ وَحَاطِبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ رَافِعٍ وَكَانَ شَيْخًا جَسِيمًا قَدْ عَسَا (3) فِي جَاهِلِيَّتِهِ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ حَاطِبٍ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَاتُ، فَحُمِلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ.
فَحَدَّثَنِي عاصم بن عمر بن قتادة فإنه اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ بِهَا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ وَنِسَائِهِمْ وَهُوَ يَمُوتُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ يا ابن حَاطِبٍ.
قَالَ: فَنَجَمَ نِفَاقُ أَبِيهِ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَجَلْ جَنَّةٌ مِنْ حَرْمَلٍ، غَرَرْتُمْ وَاللَّهِ هَذَا الْمِسْكِينَ مِنْ نَفْسِهِ.
قَالَ وَبَشِيرُ بْنُ أُبَيْرِقٍ أَبُو طُعْمَةَ سَارِقُ الدِّرْعَيْنِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ) الْآيَاتِ (4) .
قَالَ وَقُزْمَانُ حَلِيفٌ لِبَنِي ظَفَرٍ الَّذِي قَتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعَةَ (5) نَفَرٍ، ثُمَّ لَمَّا آلَمَتْهُ الْجِرَاحَةُ قَتَلَ نَفْسَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَاتَلْتُ إِلَّا حَمِيَّةً عَلَى قَوْمِي ثُمَّ مَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ يُعْلَمُ إِلَّا أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ وَحُبِّ يَهُودَ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَوْسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِنَ الْخَزْرَجِ رَافِعُ بْنُ وَدِيعَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، وَالْجَدُّ بن قيس وهو الذي قال: [يا محمد] ائْذَنْ لِي وَلَا تفتني، وعبد الله بن أبي بن سَلُولَ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ وَرَئِيسَ الْخَزْرَجِ وَالْأَوْسِ أَيْضًا، كَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ شَرِقَ اللَّعِينُ بِرِيقِهِ وَغَاظَهُ ذَلِكَ جِدًّا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ (6) : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجِنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل، وَقَدْ نَزَلَتْ فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيهِ وَفِي وَدِيعَةَ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَوْفٍ - وَمَالِكِ بن أبي قوقل وسويد وداعس وهتم مِنْ رَهْطِهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يخرجون
__________
(1) في ابن هشام: أعمى البصيرة.
(2) من ابن هشام.
(3) عسا: أي كبر وأسن.
(4) وأما قصة نزول هذه الآيات فهي: أن بني ابيرق - بشر ومبشر وبشير، نقب أحدهم أو كلهم مشربة لرفاعة بن زيد وسرقوا له طعاما وادراعا، فجاء ابن أخيه قتادة يشكو الامر إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء أحد بني الابيرق إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستغربا هذه التهمة ومدافعا ومنكرا وطالب بالبينة وجعل يجادل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أغضبه على قتادة ورفاعة فأنزل الله تعالى (وَلَا تجادل) وكان البرئ الذي اتهم بالسرقة لبيد بن سهل وقد رماه بالسرقة بنو الابيرق، فبرأه الله فهرب بنو الابيرق - هرب من سرق منهم - إلى مكة ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيب..فقال فيها حسان شعرا، فأخرجته من بيتها فهرب إلى خيبر..حيث مات وهو يسرق بيتا وقع حائطه عليه فقتله.
(5) في نسخة لابن هشام: تسعة.
وفي نسخة أخرى: بضعة نفر.
(6) وكان ذلك في غزوة بني المصطلق، وفي قوله ذلك نزلت سورة المنافقين بأسرها فيه وفي رهطه المنافقين.
(*)(3/293)
معهم) الْآيَاتِ حِينَ مَالُوا فِي الْبَاطِنِ إِلَى بَنِي النضير.
فصل [في إسلام بعض أحبار يهود نفاقاً] (1) ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ فَكَانُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ فَأَتْبَعَهُمْ بِصِنْفِ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ مِنْ شَرِّهِمْ، سَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ حِينَ ضَلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَأْتِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم " وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا فَهِيَ فِي هَذَا الشِّعْبِ قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا " فَذَهَبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ.
قَالَ وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَعُثْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَوْمَ مَاتَ - فِيمَا بَلَغْنَا -: " قَدْ مَاتَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ " وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ: وَهُوَ الَّذِي هَبَّتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ يَوْمَ مَوْتِهِ عِنْدَ مَرْجِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ (2) فَقَالَ: " إِنَّهَا هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفَّارِ " فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ قَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَسِلْسِلَةُ بْنُ بَرْهَامَ وَكِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا.
فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ قَالَ: فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَحْضُرُونَ الْمَسْجِدَ وَيَسْمَعُونَ أَحَادِيثَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْخَرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِدِينِهِمْ، فَاجْتَمَعَ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا مِنْهُمْ أُنَاسٌ فَرَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ خَافِضِي أَصْوَاتِهُمْ، قَدْ لَصَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ إِخْرَاجًا عَنِيفًا، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي النَّجَّارِ - وَكَانَ صَاحِبَ آلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَحَبَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ وَهُوَ يَقُولُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَتُخْرِجُنِي يَا أَبَا أَيُّوبَ مِنْ مِرْبَدِ بَنِي ثَعْلَبَةَ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى رَافِعِ بْنِ وَدِيعَةَ النَّجَّارِيِّ فَلَبَّبَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ نَتَرَهُ نَتْرًا شَدِيدًا (3) وَلَطَمَ وَجْهَهُ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ: أُفٍ لَكَ مُنَافِقًا خَبِيثًا.
وَقَامَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو - وَكَانَ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ - فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَادَهُ بِهَا قَوْدًا عَنِيفًا حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ جَمَعَ عُمَارَةُ يَدَيْهِ جَمِيعًا فَلَدَمَهُ بِهِمَا لَدْمَةٍ فِي صَدْرِهِ خَرَّ مِنْهَا قَالَ يَقُولُ: خَدَشْتَنِي يَا عُمَارَةُ، فَقَالَ عُمَارَةُ.
أَبْعَدَكَ اللَّهُ يَا مُنَافِقُ، فَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ - وَكَانَ بَدْرِيًّا - إِلَى قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ وَكَانَ شَابًّا - وَلَيْسَ في المنافقين شاب سواه - فجعل يدفع
__________
(1) زيادة استدركت لمزيد من التوضيح.
(2) في ابن هشام: من غزوة بني المصطلق.
(3) في النهاية: النتر جذب فيه قوة وجفوة.
(*)(3/294)
فِي قَفَاهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ.
وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ (1) إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو - وَكَانَ ذَا جُمَّةٍ - فَأَخَذَ بِجُمَّتِهِ فَسَحَبَهُ بِهَا سَحْبًا عَنِيفًا عَلَى مَا مرَّ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى أَخْرَجَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ الْمُنَافِقُ: قَدْ أَغْلَظْتَ يَا أَبَا (2) الْحَارِثِ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَهْلٌ لِذَلِكَ أَيْ عدوَّ اللَّهِ لِمَا أُنْزِلَ فِيكَ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّكَ نَجَسٌ، وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إِلَى أَخِيهِ زُوَيِّ بْنِ الْحَارِثِ فَأَخْرَجَهُ إِخْرَاجًا عَنِيفًا وَأَفَّفَ مِنْهُ وَقَالَ: غَلَبَ عَلَيْكَ الشَّيْطَانُ وَأَمْرُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا نَزَلَ فِيهِمْ من الآيات من سورة البقرة، وَمِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى تَفْسِيرِ ذَلِكَ فأجاد وأفاد رحمه الله (3) .
أول المغازي وهي غزوة الأبواء أبو غزوة ودان وَهُوَ بَعْثُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي.
قَالَ الْبُخَارِيُّ " كِتَابُ الْمَغَازِي " (4) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَوَّلُ مَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَبْوَاءُ.
ثُمَّ بُوَاطُ، ثُمَّ الْعُشَيْرَةُ.
ثُمَّ رَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ سُئِلَ كَمْ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ شَهِدَ مِنْهَا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوَّلُهُنَّ الْعُسَيْرَةُ - أَوِ الْعُشَيْرَةُ -.
وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَفِي صحيح البخاري عن بريدة قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَاتَلَ فِي ثماني منهن.
قال الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَقَاتَلَ فِي ثَمَانٍ، يَوْمَ بَدْرٍ، وأُحد، وَالْأَحْزَابِ، وَالْمُرَيْسِيعِ، وَقُدَيْدٍ، وَخَيْبَرَ، وَمَكَّةَ، وَحُنَيْنٍ.
وَبَعَثَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَرِيَّةً وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ التَّنُوخِيُّ ثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ أَخْبَرَنِي النُّعْمَانُ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا ثمانية عشر غَزْوَةً، قَاتَلَ فِي ثَمَانِ غَزَوَاتٍ، أَوَّلُهُنَّ بَدْرٌ، ثُمَّ أُحُدٌ، ثُمَّ الْأَحْزَابُ، ثُمَّ قُرَيْظَةُ، ثُمَّ بِئْرُ مَعُونَةَ ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، ثُمَّ غَزْوَةُ خَيْبَرَ، ثُمَّ غَزْوَةُ مَكَّةَ، ثُمَّ حُنَيْنٌ وَالطَّائِفُ (5) قَوْلُهُ بِئْرُ مَعُونَةَ بَعْدَ قُرَيْظَةَ فِيهِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ أُحُدٍ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ يَعْقُوبُ حدَّثنا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى يَقُولُ أَرْبَعًا
__________
(1) ذكر ابن هشام في السيرة اسم الرجل: عبد الله بن الحارث من بني الخزرج.
(2) في ابن هشام: يا بن الحارث.
(3) راجع سيرة ابن هشام ج 2 / 177 وما بعدها.
(4) في البخاري: كتاب المغازي - باب غزوة العشيرة أو العسيرة ج 5 / 176.
(5) الغزوات المذكورة تسع لا ثماني.
(*)(3/295)
وَعِشْرِينَ.
فَلَا أَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ وَهْمًا أَوْ شَيْئًا سَمِعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الدَّبَرِيِّ (1) عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً وَقَالَ عبد الرحمن بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ غَزْوَةً.
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ كَانَتْ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ.
ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ السَّرَايَا (2) دُونَ الْغَزَوَاتِ، فَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الْإِكْلِيلِ عَلَى التَّرْتِيبِ بُعُوثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ زِيَادَةً عَلَى الْمِائَةِ.
قَالَ وَأَخْبَرَنِي الثِّقة مِنْ أَصْحَابِنَا بِبُخَارَى أَنَّهُ قَرَأَ فِي كِتَابِ أَبِي عبد الله بْنِ نَصْرٍ، السَّرَايَا وَالْبُعُوثَ دُونَ الْحُرُوبِ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَحَمْلُهُ كَلَامَ قَتَادَةَ عَلَى
مَا قَالَ فِيهِ نَظَرٌ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ أَزْهَرَ بْنِ الْقَاسِمِ الرَّاسِبِيِّ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ: أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ بَعْثًا، وَتِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً.
خَرَجَ فِي ثَمَانٍ منها بنفسه، بدر، وأُحد، والأحزاب، والمريسيع، وَخَيْبَرَ، وَفَتْحِ مَكَّةَ وَحُنَيْنٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهري: هَذِهِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا، يَوْمَ بَدْرٍ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ أُحد فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ - وَهُوَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ - فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ، ثُمَّ قَاتَلَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَبَنِي لِحْيَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَنَةَ سِتٍّ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَحَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ (3) ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَغَزَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ، وَكَانَتْ أَوَّلُ غزاة غزاها
__________
(1) في الاصل: الدري، والصواب الدبري وهو إسحاق بن إبراهيم الدبري.
(2) اتفق أصحاب السير والرواة أن الغزوة هي الحرب التي يحضرها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ ويقاتل فيها، وأما البعث أو السرية فيكلف فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد أصحابه أو طائفة منهم.
وقد اختلف أصحاب السير في عدد غزواته وسراياه.
والاقرب للصحة أنه خرج في سبع وعشرين غزوة قاتل في تسع منها - وقال ابن سعد ويقال قاتل في بني النضير ووادي القرى وقاتل في الغابة - وبلغ عدد بعوثه وسراياه سبعا وأربعين.
وذكر الصالحي أسماء الغزوات في السيرة الشامية 4 / 16 قال هي: غزوة الابواء - (ودان) - غزوة بواط - غزوة سفوان - بدر الأولى - غزوة العشيرة - غزوة بدر الكبرى - غزوة بني سليم - (قرقر الكدر) غزوة السويق، غزوة غطفان، غزوة الفرع، غزوة بني قينقاع، غزوة أحد، غزوة حمراء الاسد، غزوة بني النضير، غزوة بدر الموعد، غزوة دومة الجندل، غزوة المريسيع، غزوة الخندق، غزوة بني قريظة، غزوة بني لحيان، غزوة الحديبية، غزوة ذي قرد، غزوة خيبر، غزوة ذات الرِّقاع، غزوة عمرة القضاء، غزوة فتح مكة، غزوة حنين، غزوة الطائف، غزوة تبوك.
(3) قال الواقدي في المغازي 1 / 6: وحج الناس سنة ثمان، ويقال أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عتاب بن أسيد على
الحج، ويقال حج الناس أوزاعا (متفرقين) بلا أمير.
(*)(3/296)
الأبواء.
وقال حنبل بن هلال عن إسحاق بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الرفى (الرَّقِّيِّ) عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ الْيَمَانِيِّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) الآية بَعْدَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، إِلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ غَزَا بَنِي النَّضِيرِ، ثُمَّ غَزَا أُحُدًا فِي شَوَّالٍ - يَعْنِي مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ - ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ (1) ، ثُمَّ قَاتَلَ بَنِي لِحْيَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ (2) ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَنَةَ سِتٍّ (3) ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي شَعْبَانَ (4) سَنَةَ ثَمَانٍ، وَكَانَتْ حُنَيْنٌ فِي رَمَضَانَ (5) سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى عَشْرَةَ غَزْوَةً لَمْ يُقَاتِلْ فيها، فكانت أول غزوة غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَبْوَاءَ.
ثُمَّ الْعُشَيْرَةَ، ثمَّ غَزْوَةَ غَطَفَانَ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ غَزْوَةَ الْأَبْوَاءَ (6) ثمَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ الْأُولَى، ثُمَّ غَزْوَةَ الطَّائف، ثُمَّ غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ غَزْوَةَ الصَّفْرَاءِ، ثمَّ غَزْوَةَ تبوك آخر غزوة.
ثم ذكر البعوث، هكذا كَتَبْتُهُ مِنْ تَارِيخِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَالصَّوَابُ مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُرَتَّبًا.
وَهَذَا الْفَنُّ مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِأَمْرِهِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ عَمِّي الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: فِي عِلْمِ الْمَغَازِي عِلْمُ الآخرة والدنيا وقال محمد بن إسحاق (رح) فِي الْمَغَازِي بَعْدَ ذِكْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا سقناه عنه من تعيين رؤس الْكُفْرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ وَجَمَعَهُمْ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ.
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهَيَّأَ لِحَرْبِهِ وَقَامَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّهِ وَقِتَالِ مَنْ أَمَرَهُ بِهِ مِمَّنْ يَلِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: وَقَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ وَكَادَتِ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَقَامَ بَقِيَّةَ شهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر وجمادين وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَشَهْرَ
رَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ.
وَالْمُحَرَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ (7) شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ.
قَالَ ابْنُ
__________
(1) في مغازي الواقدي: في ذي القعدة سنة خمس.
(2) في الواقدي: في ربيع الأول سنة ست.
(3) في الواقدي: في جمادى الأولى سنة سبع.
(4) في الواقدي: لثلاث عشرة مضت من رمضان.
(5) في الواقدي: في شوال.
(6) كذا في الاصل: كرر غزوة الابواء مرتين، وفي ابن هشام: الابواء، بواط، العشيرة..الخ.
(7) في الواقدي: أحد عَشَرَ شَهْراً، وفي كامل ابن الأثير أنه صلى الله عليه وسلم عقد لسعد بن أبي وقاص وسيره إلى الايواء في ذي القعدة من السنة الأولى لمقدمه المدينة.
وقال الطبري في تاريخه: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول جميع أهل السير فيها؟ - أي في السنة الثانية - في ربيع الأول بنفسه غزوة الابواء.
وقال الواقدي: غاب خمس عشرة ليلة.
(*)(3/297)
هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ وِدَّان (1) وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ (2) ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ وَدَّانَ أَيْضًا، يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَوَادَعَتْهُ فِيهَا بَنُو ضَمْرَةَ وَكَانَ الَّذِي وَادَعَهُ (3) مِنْهُمْ مَخْشِيَّ بْنَ عَمْرٍو الضَّمْرِيَّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ.
وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ صَفَرٍ وَصَدْرًا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ عَمِّهِ حَمْزَةَ، وَكَانَ أَبْيَضَ.
[سرية عبيدة بن الحارث] (4) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُقَامِهِ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ فِي سِتِّينَ - أَوْ ثَمَانِينَ - رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ مَاءً بِالْحِجَازِ بِأَسْفَلِ ثَنِيَّةِ الْمَرَةِ فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا عَظِيمًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ
قِتَالٌ إِلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ قَدْ رَمَى يومئذٍ بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ انْصَرَفَ الْقَوْمُ عَنِ الْقَوْمِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ حَامِيَةٌ.
وَفَرَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ الْمَازِنِيُّ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا لِيَتَوَصَّلَا بِالْكُفَّارِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يومئذٍ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
وَرَوَى ابْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ (5) عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ حِكَايَةِ الْوَاقِدِيِّ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِكْرَزٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ أَبُو سُفْيَانَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الْقَصِيدَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى أَبِي [بَكْرٍ] الصِّدِّيقِ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ الَّتِي أَوَّلُهَا: أَمِنْ طَيْفِ سَلْمَى بِالْبِطَاحِ الدَّمَائِثِ * أَرِقْتَ وَأَمْرٌ فِي الْعَشِيرَةِ حادث
__________
(1) ودان: بفتح الواو: قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع، وقيل: واد على الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة.
وتبعد عن الابواء ستة أميال هي بحذائها: قاله الطبري.
(2) الابواء: قرية من عمل الفرع بينها وبين الجحفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلا.
(3) في مغازي الواقدي: وادعهم على ألا يكثروا عليه، ولا يعينوا عليه أحدا، ثم كتب بينهم وبينه كتابا.
أنظر في غزوة الابواء ابن هشام ج 2 وابن سعد ج 2 والواقدي ج 1 والطبري ج 2 والدرر لابن عبد البر 96 وسبل الهدى ج 4 ودلائل البيهقي ج 3.
(4) سقط من الاصل، عنوان استدركناه من كتب السير والمغازي.
لمزيد من التوضيح والتبويب.
(5) في سيرة ابن هشام: قال ابن هشام: حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء.
(*)(3/298)
تَرَى مِنْ لُؤَيٍّ فِرْقَةً لَا يَصُدُّهَا * عَنِ الْكُفْرِ تَذْكِيرٌ وَلَا بَعْثُ بَاعِثِ رَسُولٌ أَتَاهُمْ صَادِقٌ فَتَكَذَّبُوا * عَلَيْهِ وَقَالُوا لَسْتَ فِينَا بِمَاكِثِ إِذَا مَا دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ أَدْبَرُوا * وَهَرُّوا هَرِيرَ الْمُحْجَرَاتِ اللَّوَاهِثِ (1)
الْقَصِيدَةَ إِلَى آخِرِهَا، وَذَكَرَ جَوَابَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى فِي مُنَاقَضَتِهَا الَّتِي أَوَّلُهَا: أَمِنْ رَسْمِ دَارٍ أَقْفَرَتْ بِالْعَثَاعِثِ * بكيت بعين دمعها غير لابث (2) ومن عجيب الْأَيَّامِ - وَالدَّهْرُ كُلُّهُ * لَهُ عَجَبٌ - مِنْ سَابِقَاتٍ وَحَادِثِ لِجَيْشٍ أَتَانَا ذِي عُرَامٍ يَقُودُهُ * عُبَيْدَةُ يُدْعَى فِي الْهِيَاجِ ابْنَ حَارِثِ لِنَتْرُكَ أَصْنَامًا بِمَكَّةَ عُكَّفًا * مَوَارِيثَ مَوْرُوثٍ كَرِيمٍ لِوَارِثِ وَذَكَرَ تَمَامَ الْقَصِيدَةِ وَمَا مَنَعَنَا مِنْ إِيرَادِهَا بِتَمَامِهَا إِلَّا أَنَّ الْإِمَامَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ هِشَامٍ (رح) وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ ذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَاتَيْنِ الْقَصِيدَتَيْنِ (3) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رَمْيَتِهِ تِلْكَ فِيمَا يَذْكُرُونَ: أَلَا هَلَ اتَى رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي * حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي أَذُودُ بِهَا أَوَائِلَهُمْ ذِيَادًا * بِكُلِّ حُزُونَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ فَمَا يَعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوٍّ * بِسَهْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَبْلِي وَذَلِكَ أَنَّ دِينَكَ دِينُ صِدْقٍ * وَذُو حَقٍّ أَتَيْتَ بِهِ وَفَضْلِ (4) يُنَجَّى الْمُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُخْزَى * بِهِ الْكُفَّارُ عِنْدَ مَقَامِ مَهْلِ فَمَهْلًا قَدْ غَوَيْتَ فَلَا تعبني * غوي الحي ويحك يا ابن جَهْلِ (5) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِسَعْدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَتْ رَايَةُ عُبَيْدَةَ - فِيمَا بَلَغْنَا - أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْإِسْلَامِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ خَالَفَهُ الزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْوَاقِدِيُّ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ بَعْثَ حَمْزَةَ قَبْلَ بَعْثِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ أَوَّلَ أُمَرَاءِ السَّرَايَا عَبْدُ الله بن جحش الأسدي.
__________
(1) هروا: وثبوا كما تثب الكلاب: المحجرات وفي ابن هشام: المجحرات: وهي الكلاب التي أجحرت أي ألجئت إلى مواضعها.
(2) العثاعث: واحدها عثعث وهي أكداس الرمل التي لا تنبت شيئاً.
(3) يرجح قول ابن هشام في نفيه القصيدة ونسبتها إلى أبي بكر، ما روى عروة عن عائشة ابنة أبي بكر أنها قالت:
كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر في الاسلام.
(4) في ابن هشام: وعدل مكان وفضل.
(5) المراد عكرمة بن أبي جهل، وكان كما في رواية على القوم سيدهم وأميرهم.
(*)(3/299)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه حِينَ أَقْبَلَ مِنْ غَزْوَةِ الْأَبْوَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهَكَذَا حَكَى مُوسَى بْنُ عقبة عن الزهري.
فَصْلٌ [فِي سَرِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ] (1) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ (2) أَحَدٌ فَلَقِيَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ بِذَلِكَ السَّاحِلِ فِي ثَلَاثِمَائَةِ رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ وَكَانَ مُوَادِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَانْصَرَفَ بَعْضُ الْقَوْمِ عَنْ بَعْضٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ كَانَتْ رَايَةُ حَمْزَةَ أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْثَهُ وَبَعْثَ عُبَيْدَةَ كَانَا مَعًا فشبِه ذَلِكَ عَلَى النَّاس.
قُلْتُ: وَقَدْ حَكَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ بَعْثَ حَمْزَةَ قَبْلَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ بَعْثَ حَمْزَةَ كَانَ قَبْلَ غَزْوَةِ الْأَبْوَاءِ.
فَلَمَّا قَفَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْأَبْوَاءِ بَعَثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ فِي سِتِّينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ سَرِيَّةُ حَمْزَةَ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى، وَبَعْدَهَا سَرِيَّةُ عُبَيْدَةَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شِعْرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَايَتَهُ أَوَّلُ رَايَةٍ عُقِدَتْ فِي الْإِسْلَامِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَإِنْ كَانَ حَمْزَةُ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَا قَالَ، لَمْ يَكُنْ يقول إلا حقاً، والله أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
فَأَمَّا مَا سَمِعْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فَعُبَيْدَةُ أَوَّلُ.
وَالْقَصِيدَةُ هِيَ قَوْلُهُ: أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلتَّحَلُّمِ وَالْجَهْلِ * وللنقض من رأي الرجال وللعقل
وللرا كبينا بِالْمَظَالِمِ لَمْ نَطَأْ * لَهُمْ حُرُمَاتٌ مِنْ سَوَامٍ ولا أهل كأنا بتلناهم ولا بتل (3) عندنا * لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل
__________
(1) زيادة استدر كناها من كتب المغازي لما يقتضيه حسن التبويب.
(2) قال الواقدي: بعثه في ثلاثين راكباً شطرين: خمسة عشر من المهاجرين وخمسة عشر من الانصار وسمى من المهاجرين تسعة وذكر من الأنصار: أُبي بن كعب، وعمارة بن حزم، وعبادة بن الصامت، وعبيد بن أوس، وأوس بن خولي، وأبو دجانة، والمنذر بن عمرو، ورافع بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن حرام وقطبة بن عامر بن حديدة.
وما ذكره الواقدي بعيد، لان المجمع عَلَيْهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم لم يبعث أحدا من الأنصار حتَّى غزا بهم بدراً، قال الواقدي في آخر حديثه: وهو المثبت عندنا.
(3) البتل: القطع، وفي ابن هشام: تبلناهم ولا تبل: التبل: العداوة، وتبلناهم: عاديناهم وتروى: نبلناهم = (*)(3/300)
وَأَمْرٍ بِإِسْلَامٍ فَلَا يَقْبَلُونَهُ * وَيَنْزِلُ مِنْهُمْ مِثْلَ مَنْزِلَةِ الْهَزْلِ فَمَا بَرِحُوا حَتَّى انْتَدَبْتُ لِغَارَةٍ * لَهُمْ حَيْثُ حَلُّوا أَبْتَغِي رَاحَةَ الْفَضْلِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ أَوَّلُ خَافِقٍ * عَلَيْهِ لِوَاءٌ لَمْ يكن لاح من قبل لِوَاءٌ لَدَيْهِ النَّصْرُ مِنْ ذِي كَرَامَةٍ * إِلَهٍ عَزِيزٍ فِعْلُهُ أَفْضَلُ الْفِعْلِ عَشِيَّةَ سَارُوا حَاشِدِينَ وَكُلُّنَا * مَرَاجِلُهُ مِنْ غَيْظِ أَصْحَابِهِ تَغْلِي فَلَمَّا تَرَاءَيْنَا أَنَاخُوا فَعَقَّلُوا * مَطَايَا وَعَقَّلْنَا مَدَى غَرَضِ النَّبْلِ وَقُلْنَا لَهُمْ حَبْلُ الْإِلَهِ نَصِيرُنَا * وَمَا لَكُمْ أَلَّا الضَّلَالَةُ مِنْ حَبْلِ فَثَارَ أَبُو جَهْلٍ هُنَالِكَ بَاغِيًا * فَخَابَ وَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَ أَبِي جَهْلِ وَمَا نَحْنُ إِلَّا فِي ثَلَاثِينَ راكباً * وهم مائتمان بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَضْلِ فِيَالَ لُؤَيٍّ لَا تُطِيعُوا غُوَاتَكُمْ * وَفِيئُوا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَنْهَجِ السَّهْلِ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْكُمُ * عَذَابٌ فَتَدْعُوا بِالنَّدَامَةِ وَالثُّكْلِ
قَالَ فَأَجَابَهُ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ: عَجِبْتُ لِأَسْبَابِ الْحَفِيظَةِ وَالْجَهْلِ * وَلِلشَّاغِبِينَ بِالْخِلَافِ وَبِالْبُطْلِ وَلِلتَّارِكِينَ مَا وَجَدْنَا جُدُودَنَا * عَلَيْهِ ذَوِي الْأَحْسَابِ وَالسُّؤْدُدِ الْجَزْلِ ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَاتَيْنِ الْقَصِيدَتَيْنِ لِحَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ.
غَزْوَةُ بُوَاطَ (1) مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ - يَعْنِي مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ - يُرِيدُ قُرَيْشًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ السَّائِبَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَكَانَ مَقْصِدُهُ أَنْ يَعْتَرِضَ لِعِيرِ قُرَيْشٍ وَكَانَ فِيهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمِائَةُ رَجُلٍ وَأَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ بُوَاطَ مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا فلبث
__________
= ولا نبل: بالنون، يعني نرميهم بالنبل.
(1) بواط: جبال من جبال جهينة، بقرب ينبع بينها وبين المدينة نحو أربعة برد، وهي قريب من ذي خشب مما يلي طريق الشام.
قال السهيلي: بواط: جبلان فرغان لاصل واحد، أحدهما جلسى والآخر غورى.
(*)(3/301)
بِهَا بَقِيَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَبَعْضَ جُمَادَى [الأولى] .
غزوة العشيرة (1) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ وَخَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَعَرَّضُ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ ذَاهِبَةً إِلَى الشَّامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَلَكَ عَلَى نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخيار، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ بِبَطْحَاءِ ابْنِ أَزْهَرَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ السَّاقِ فَصَلَّى عِنْدَهَا فَثَمَّ مَسْجِدُهُ، فَصُنِعَ لَهُ عِنْدَهَا طَعَامٌ فَأَكَلَ
مِنْهُ وَأَكَلَ الناس معه، فرسوم أثافي البرمة معلوم هناك، وَاسْتَسْقَى لَهُ مِنْ مَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْمُشَيْرِبُ ثُمَّ ارْتَحَلَ فَتَرَكَ الْخَلَائِقَ (2) بِيَسَارٍ وَسَلَكَ شُعْبَةَ عبد الله، ثم صب للشاد (3) حتى هبط ملل (4) ، فَنَزَلَ بِمُجْتَمَعِهِ وَمُجْتَمَعِ الضَّبُوعَةِ ثُمَّ سَلَكَ فَرْشَ مَلَلٍ حَتَّى لَقِيَ الطَّرِيقَ بِصُخَيْرَاتِ الْيَمَامِ،، ثُمَّ اعْتَدَلَ بِهِ الطَّرِيقُ حَتَّى نَزَلَ الْعَشِيرَةَ مِنْ بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليال مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَوَادَعَ فِيهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ (5) : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ [بْنُ مُحَمَّدٍ] ثَنَا وَهْبٌ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فقيل له كَمْ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ.
قُلْتُ كم غزوت أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قُلْتُ فأيهن كان أول؟ قال العشير - أو العسير - فذكرت لقتادة فقال: العشير.
وَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي أنَّ أَوَّلَ الْغَزَوَاتِ الْعُشَيْرَةُ، وَيُقَالُ بِالسِّينِ وَبِهِمَا مَعَ حَذْفِ التَّاءِ، وَبِهِمَا مَعَ الْمَدِّ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غُزَاةً شَهِدَهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ الْعُشَيْرَةَ وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا غَيْرُهَا لَمْ يَشْهَدْهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ويومئذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ مَا قَالَ.
فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ (6) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو يَزِيدَ مُحَمَّدُ بْنُ خُثَيْمٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ.
قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ
__________
(1) العشيرة: من ناحية ينبع بين مكة والمدينة.
(2) الخلائق: البئر التي لا ماء فيها.
وقال السهيلي: بالحاء المهملة: آبار معلومة.
وقال ياقوت: وكان لعبد الله بن أحمد بن جحش أرض يقال لها الخلائق بنواحي المدينة.
(3) في ابن هشام: لليسار.
(4) في ابن هشام: يليل، وهي قرية قرب وادي الصفراء من أعمال المدينة، وفيه عين كبيرة تسمى البحيرة.
(5) كتاب المغازي - باب غزوة العشيرة ح 1 ص 5 / 176.
(6) في ابن هشام: ابن خيثم.
في الموضعين.
(*)(3/302)
بِهَا شَهْرًا فَصَالَحَ بِهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ فَوَادَعَهُمْ، فَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ - مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ لَهُمْ - نَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ؟ فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ سَاعَةً فَغَشِيَنَا النَّوْمُ فَعَمَدْنَا إِلَى صُوَرٍ مِنَ النَّخْلِ فِي دَقْعَاءَ (1) مِنَ الْأَرْضِ فَنِمْنَا فِيهِ.
فَوَاللَّهِ مَا أَهَبَّنَا إلا ورسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُنَا بِقَدَمِهِ فَجَلَسْنَا وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءِ فيومئذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: " يَا أَبَا تُرَابٍ " لِمَا عَلَيْهِ مِنَ التُّراب، فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِنَا فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْقَى النَّاس رَجُلَيْنِ؟ " قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: " أُحَيْمِرُ (2) ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقة وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ - وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَدَهُ على رأسه - حتى تبل مِنْهَا هَذِهِ - وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ - " وَهَذَا حديث غريب من هذا الوجه له شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَسْمِيَةِ عَلِيٍّ أَبَا تُرَابٍ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ مُغَاضِبًا فَاطِمَةَ، فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَنَامَ فِيهِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ مُغَاضِبًا فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَيْقَظَهُ وَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: " قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ " (3) .
غَزْوَةُ بَدْرٍ - الْأُولَى (4) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ لَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ رَجَعَ مِنَ الْعُشَيْرَةِ إِلَّا ليال قَلَائِلَ لَا تَبْلُغُ الْعَشَرَةَ، حَتَّى أَغَارَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طَلَبِهِ حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَفَوَانَ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى، وَفَاتَهُ كُرْزٌ فَلَمْ يُدْرِكْهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ لؤلؤه مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ جُمَادَى وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَقَدْ كَانَ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ سَعْدًا فِي ثَمَانِيَةِ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ حَتَّى بَلَغَ الْخَرَّارَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْثَ سَعْدٍ هَذَا كَانَ بَعْدَ حَمْزَةَ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
هَكَذَا ذكره (1) دقعاء: التراب اللين.
(2) أحيمر ثمود: هو الذي عقر ناقة صالح واسمه قدار بن سالف وقد تقدم.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: في كتاب الصلاة باب نوم الرجال في المسجد عن سهل بن سعد.
وأخرجه أيضاً في كتاب فضائل أصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم باب مناقب علي - عن سهل بن سعد.
وأخرجه في كتاب الأدب باب التكني بأبي تراب.
(4) قال الواقدي: غزوة بدر الأولى وقعت قبل غزوة العشيرة، وكانت في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهراً، وأما غزوة العشيرة فكانت في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً.
(أنظر مغازي الواقدي 1 / 12 - ابن سعد 2 / 9 - الطبري 2 / 291) .
(*)(3/303)
ابْنُ إِسْحَاقَ مُخْتَصَرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْوَاقِدِيِّ لِهَذِهِ الْبُعُوثِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي بَعْثَ حَمْزَةَ فِي رَمَضَانَ، وَبَعْثَ عُبَيْدَةَ فِي شَوَّالٍ، وَبَعْثَ سَعْدٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كُلُّهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى.
وقد قال الإمام أحمد: حدثني عبد المتعال بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ حدَّثنا أَبِي، ثَنَا الْمُجَالِدُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ جَاءَتْهُ جُهَيْنَةُ فَقَالُوا إِنَّكَ قَدْ نَزَلْتَ بين أظهرنا فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فَأَوْثَقَ لَهُمْ فَأَسْلَمُوا قَالَ فَبَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَبٍ وَلَا نَكُونُ مِائَةً وَأَمَرَنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ إِلَى جَنْبِ جُهَيْنَةَ فَأَغَرْنَا عَلَيْهِمْ وَكَانُوا كَثِيرًا فَلَجَأْنَا إِلَى جُهَيْنَةَ فَمَنَعُونَا وَقَالُوا لِمَ تُقَاتِلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ مَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ بَعْضُنَا نَأْتِي نبي الله فنخبره، وقال قوم لا بل نقيم ههنا، وَقُلْتُ أَنَا فِي أُنَاسٍ مَعِي لَا بَلْ نأتي عير قريش فنقتطعها.
وكان الفئ إِذْ ذَاكَ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى الْعِيرِ وَانْطَلَقَ أَصْحَابُنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَامَ غَضْبَانَ مُحْمَرَّ الْوَجْهِ.
فَقَالَ: " أَذَهَبْتُمْ مِنْ عِنْدِي جميعاً ورجعتم مُتَفَرِّقِينَ إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْفُرْقَةُ، لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلًا لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ أَصْبَرُكُمْ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ " فَبَعَثَ عَلَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ فَكَانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلائل مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُجَالِدٍ بِهِ نَحْوَهُ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ
لِأَصْحَابِهِ: لِمَ تُقَاتِلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَالُوا نُقَاتِلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مَنْ أَخْرَجَنَا مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامِ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
فَأَدْخَلَ بَيْنَ سَعْدٍ وَزِيَادٍ قُطْبَةَ بْنَ مَالِكٍ وَهَذَا أَنْسَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ يقتضي أن أول السَّرَايَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ الْأَسَدِيُّ وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أَوَّلَ الرَّايَاتِ عُقِدَتْ لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَلِلْوَاقِدِيِّ حَدِيثٌ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ الرَّايَاتِ عُقِدَتْ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ سرية عبد الله بن جحش التي كان سببها لِغَزْوَةِ بَدْرٍ الْعُظْمَى (2) وَذَلِكَ يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ التقى الجمعان والله على كل شئ قَدِيرٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ (3) الْأَسَدِيُّ في
__________
(1) دلائل البيهقي ج 3 / 14 - 15.
(2) كذا العبارة في الاصل، ولعل الصواب: التي كانت سببا لغزوة بدر العظمى.
(3) عبد اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ الاسدي، أحد السابقين، هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، آخى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عاصم بن ثابت شهد بدراً وكان أحد أعظم أبطال غزوة أحد واستشهد فيها، قتله أبو الحكم الأخنس بن شريق وقد مثل به، دفن هو وحمزة في قبر واحد، وهو ابن أميمة بنت عبد المطلب، كان له يوم قتل نيف وأربعون سنة.
(*)(3/304)
رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَهُمْ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْوَائِلِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وواقد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ أَيْضًا، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ حَلِيفُ بَنِي عدي أيضاً، وسهل بن بَيْضَاءَ الْفِهْرِيُّ (1) فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ ثَامِنُهُمْ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً وَأَمِيرُهُمُ التاسع فالله أعلم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ، فَيَمْضِيَ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا يَسْتَكْرِهَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا.
فَلَمَّا سَارَ بِهِمْ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ فَإِذَا فِيهِ: إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ.
وَقَالَ: قَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ فَأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ، فَوْقَ الْفُرُعِ يُقَالُ لَهُ بُحْرَانُ، أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبِهِ وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وبقية أصحابه حتى نزل نخلة، فمرت عير لقريش فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: واسم الحضرمي عبد الله بن عباد [أحد] (2) الصدف (3) وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ وَأَخُوهُ نَوْفَلٌ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ.
فَلَمَّا رَأَوْهُ أمنوا، وقال عُمَّارٌ: لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، وَتَشَاوَرَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ فَلْيَمْتَنِعُنَّ بِهِ مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ، وَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شَجَّعُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ وَأَفْلَتَ القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وقابل عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ الله بن جحش
__________
(1) لم يأت الواقدي على ذكره، وفي رواية للطبري عن السدي ذكر عمار بن ياسر وعامر بن فهيرة، وقال كانوا سبعة نفر عليهم ابن جحش.
وقال الواقدي: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان لم يشهدا الواقعة.
وقال ابن سعد: بعثه في اثني عشر رجلاً من المهاجرين.
(2) من ابن هشام.
(3) قال ابن هشام: واسم الصدف: عمرو بن مالك.
(*)(3/305)
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فيما غَنِمْنَا الْخُمُسَ فَعَزَلَهُ، وَقَسَمَ الْبَاقِيَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْخُمُسُ.
قَالَ لَمَّا نَزَلَ الْخُمُسُ نَزَلَ كَمَا قَسَمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن جحش كما قاله ابْنُ إِسْحَاقَ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ " فَوَقَفَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا (1) فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ، وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ، وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ، فَقَالَ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ: إِنَّمَا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا فِي شَعْبَانَ، وَقَالَتْ يَهُودُ: تُفَائِلُ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَمْرٌو عَمَرَتِ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيُّ حَضَرَتِ الْحَرْبُ وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدَتِ الْحَرْبُ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة: 217] أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَدْ صَدُّوكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْهُ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أَيْ قَدْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ عَنْ دِينِهِ، حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ، فَذَلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ، ثُمَّ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ، غَيْرَ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فلما نزل القرآن بهذا الْأَمْرِ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشَّفَقِ، قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ عُثْمَانَ وَالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نفد يكموهما حَتَّى يَقْدَمَ صَاحِبَانَا " يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ - فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا.
فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ.
فَقَدِمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ فَأَفْدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَجَلَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ، طَمِعُوا فِي الْأَجْرِ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَطْمَعُ أن تكون لنا غزاة نُعْطَى فِيهَا أَجْرَ الْمُجَاهِدِينَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 218] فوصفهم (2) اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَعْظَمِ الرَّجَاءِ.
قَالَ ابن إسحاق: والحديث في ذلك
__________
(1) قال الواقدي عن أبي بردة بن نيار أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف غنائم أهل نخلة، ومضى إلى بدر، حتَّى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر، وأعطى كل قوم حقهم.
(2) في ابن هشام: فوضعهم.
(*)(3/306)
عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَكَذَا رَوَى شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ نَحْوًا مِنْ هَذَا وَفِيهِ، وَكَانَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: هُوَ أَوَّلُ قَتِيلٍ قَتْلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذِهِ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعُثْمَانُ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ (1) .
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ أَنَّهُ قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ أَوَّلَ أَمِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ لِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ شَوَاهِدَ مُسْنَدَةً فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي الْحَضْرَمِيُّ عَنْ أَبِي السَّوَّارِ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَهْطًا وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ.
أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فلما ذهب بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا
وَأَمَرَهُ أَنْ [لَا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وكذا.
وقال " لا تكرهن أحداً على المسير مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ " فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ وَقَالَ سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ وقرأ عليهم الكتاب فرجع منهم رَجُلَانِ (2) وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أو من جُمَادَى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قتال فيه قل قتال فيه كبير) الْآيَةَ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ: عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عن ابن مسعود عن جماعة من الصحابة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قتال فيه كبير) وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ وَسَعْدُ بْنُ أبي وقاص وعتبة بن غزوان وسهل بن بَيْضَاءَ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ حَلِيفٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَتَبَ لِابْنِ جَحْشٍ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَنَزِلَ بَطْنَ مَلَلٍ فَلَمَّا نَزَلَ بَطْنَ مَلَلٍ فَتَحَ الْكِتَابَ فَإِذَا فِيهِ: أَنْ سِرْ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلَةَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْمَوْتَ فَلْيَمْضِ وَلْيُوصِ فَإِنَّنِي مُوصٍ وَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَارَ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ أَضَلَّا رَاحِلَةً لَهُمَا فَأَقَامَا (3) يَطْلُبَانِهَا، وَسَارَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى نَزَلَ بَطْنَ نَخْلَةَ فَإِذَا هُوَ بِالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
فَذَكَرَ قَتْلَ وَاقِدٍ لِعَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَرَجَعُوا بِالْغَنِيمَةِ وَالْأَسِيرَيْنِ فَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ.
وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ محمَّداً يَزْعُمُ أنَّه يَتَّبِعُ طَاعَةَ اللَّهِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَحَلَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَقَتَلَ صَاحِبَنَا فِي رَجَبٍ.
وقال المسلمون إنما
__________
(1) مغازي الواقدي 1 / 13 النويري 17 / 6 ابن هشام 2 / 257 الدرر ص 99.
دلائل النبُّوة للبيهقي 3 / 17.
(2) في الطبري: رجلا.
وفي البيهقي عن الزهري: تخلف رجلان.
(3) في الطبري: فأتيا بحران يطلبانها.
(*)(3/307)
قَتَلْنَاهُ فِي جُمَادَى.
قَالَ السُّدِّيُّ (1) : وَكَانَ قَتْلُهُمْ لَهُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَآخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
قُلْتُ: لَعَلَّ جُمَادَى كَانَ نَاقِصًا فَاعْتَقَدُوا بَقَاءَ الشَّهْرِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وقد كان الهلال رؤي تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى، وَكَانَتْ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَلَمْ يَشْعُرُوا وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جُنْدُبٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبَى حَاتِمٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَخَافُوا إِنْ لَمْ يَتَدَارَكُوا هَذِهِ الْغَنِيمَةَ وَيَنْتَهِزُوا هَذِهِ الْفُرْصَةَ دَخَلَ أُولَئِكَ فِي الْحَرَمِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَقْدَمُوا عَلَيْهِمْ عَالِمِينِ بِذَلِكَ وَكَذَا قَالَ الزُّهري عَنْ عُرْوَةَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ: قَالَ الزُّهري عَنْ عُرْوَةَ فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَحَرَّمَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ كَمَا كَانَ يُحَرِّمُهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَةٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (2) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي غَزْوَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ جَوَابًا لِلْمُشْرِكِينَ فِيمَا قَالُوا مِنْ إِحْلَالِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ هِيَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً * وَأَعْظَمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ صُدُودُكُمْ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ * وَكُفْرٌ بِهِ وَاللَّهُ رَاءٍ وَشَاهِدُ وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ أَهْلَهُ * لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ فَإِنَّا وَإِنْ عَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ * وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ سَقَيْنَا مِنَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ رِمَاحَنَا * بِنَخْلَةَ لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقِدُ دَمًا وَابْنُ عَبْدِ الله عثمان بيننا * ينازعه غلّ من القيد عَانِدُ
فَصْلٌ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فِي سَنَةِ ثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر وقال بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ كَمَا سَيَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ غَزْوَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: وَيُقَالُ صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ (3) فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) في الطبري: وقيل، متابعا السدي كلامه.
(2) دلائل النبوة 3 / 17.
(3) كَانَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلى صخرة بيت المقدس، وكان أول ما فرضت القبلة إليها والنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة، وكان يحب = (*)(3/308)
الْمَدِينَةَ.
وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طريق السدي فسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحابة.
قال الجمهور الأعظم: إنما صُرِفَتْ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ.
ثُمَّ حُكي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهَا حُوِّلَتْ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفَ مِنْ شَعْبَانَ، وَفِي هَذَا التَّحْدِيدِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أورثوا الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عما تعملون) [البقرة: 144] .
وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنِ اعْتِرَاضِ سُفَهَاءِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْجَهَلَةِ الطَّغَامِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَسْخٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ هَذَا وَقَدْ أَحَالَ اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقُرْآنِ تَقْرِيرَ جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (مَا ننسخ من آية، أو ننسأها (1) نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله على كل شئ قدير) وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ سَمِعَ زُهَيْرًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا - أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا - وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ إلى البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها إلى الكعبة الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهِ: (وَمَا كَانَ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لرؤف رحيم) [الْبَقَرَةِ: 143] رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (2) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ.
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ - أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ - شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 144] .
قَالَ فَوُجِّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ - وَهُمُ الْيَهُودُ - مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَصَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ وَاسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا - أو سبعة شهرا - وهذا (*) = استقبال الكعبة وكان يصلي بمكة ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك.
وكان يؤثر أن يصرف إلى الكعبة فأمره الله أن يستقبل الكعبة.
(1) ننسأها: كذا في الاصل، وهي قراءة أبي عمرو، وصورتها في القرآن الكريم: ننسها.
(2) أخرجه مسلم في (5) كتاب المساجد 2 باب ح 11 و 13 والبخاري في 8 كتاب الصلاة 31 باب التوجه نحو القبلة.
والحديث رواه الشافعي في الرسالة، وأخرجه مالك في الموطأ في 14 كتاب القبلة (4) باب ما جاء في القبلة ح 6 ص 1 / 195.
(*)(3/309)
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يحب أن يصرف قِبْلَتُهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ يُكْثِرُ الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله عزوجل فَكَانَ مِمَّا يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَطَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ سائلاً ذلك فأنزل الله عزوجل: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الْآيَةَ.
فَلَمَّا نَزَلَ الْأَمْرُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى وأنَّ ذَلِكَ كَانَ وَقْتَ الظُّهْرِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ نَزَلَ تَحْوِيلُهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْكَعْبَةِ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرُ وَالْعَجَبُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ خَبَرُ ذَلِكَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوُ ذَلِكَ (1) .
وَالْمَقْصُودُ أنَّه لمَّا نَزَلَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَنَسَخَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ طعن طاعنون من السفهاء والجهلة والأغبياء قالوا مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا هَذَا وَالْكَفَرَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ لِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ صِفَةِ محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْمَدِينَةَ مُهَاجَرُهُ وَأَنَّهُ سَيُؤْمَرُ بِالِاسْتِقْبَالِ إلى الكعبة كما قال: (وأن الذين أورثوا الكتاب ليعلمون إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ ربهم) الآية وَقَدْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ هَذَا كُلِّهِ عن سؤالهم، ونعتهم فَقَالَ: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مستقيم) أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فِي خَلْقِهِ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فِي شَرْعِهِ وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَنِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحِكْمَةُ الَّتِي يَجِبُ لَهَا الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أَيْ خِيَارًا (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شهيداً) أَيْ وَكَمَا اخْتَرْنَا لَكُمْ أَفْضَلَ الْجِهَاتِ فِي صَلَاتِكُمْ وَهَدَيْنَاكُمْ إِلَى قِبْلَةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَالِدِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي بِهَا مُوسَى فَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ خِيَارَ الْأُمَمِ وَخُلَاصَةَ الْعَالَمِ وَأَشْرَفَ الطَّوَائِفِ وَأَكْرَمَ التَّالِدِ وَالطَّارِفِ لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْكُمْ وَإِشَارَتِهِمْ يَوْمَئِذٍ بِالْفَضِيلَةِ إِلَيْكُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا مِنَ اسْتِشْهَادِ نُوحٍ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا اسْتَشْهَدَ بِهِمْ نُوحٌ مَعَ تَقَدُّمِ زَمَانِهِ فَمَنْ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا حِكْمَتَهُ فِي حُلُولِ نِقْمَتِهِ بِمَنْ شَكَّ وَارْتَابَ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ.
وَحُلُولِ نِعْمَتِهِ عَلَى مَنْ صَدَّقَ وَتَابَعَ هَذِهِ الْكَائِنَةَ.
فَقَالَ: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يتبع الرسول) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا لِنَرَى مَنْ يَتَّبِعُ
__________
(1) فتح الباري 8 كتاب الصلاة 32 باب وفي مسلم 5 كتاب المساجد 2 باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ح 13.
(*)(3/310)
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لكبيرة أَيْ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْكَائِنَةُ الْعَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ كبيرة المحل شديدة الأمر إِلَّا عَلَى الَّذِي هَدَى اللَّهُ أَيْ فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا مُصَدِّقُونَ لَهَا لَا يَشُكُّونَ وَلَا يَرْتَابُونَ بَلْ يَرْضَوْنَ وَيُؤْمِنُونَ وَيَعْمَلُونَ لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ لِلْحَاكِمِ الْعَظِيمِ الْقَادِرِ الْمُقْتَدِرِ الْحَلِيمِ الْخَبِيرِ اللَّطِيفِ الْعَلِيمِ وَقَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ ليضيع إيمانكم) أَيْ بِشِرْعَتِهِ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةَ إِلَيْهِ (إن الله بالناس لرؤف رحيم) وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي التَّفْسِيرِ وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا فِي كَتَابِنَا الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فِي أَهْلِ الْكِتَابِ -: " إِنَّهُمْ لَمْ يحسدونا على شئ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا الله إليها وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لها وضلوا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ ".
فَصْلٌ فِي فريضة شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (1) : وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ فُرِضَ فِي شَعْبَانَ (2) مِنْهَا، ثُمَّ حَكَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ موسى [وغرق فيه آل فرعون] (3) .
فَقَالَ: " نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ " فِصَامَهُ وَأَمَرَ (4) النَّاسَ بِصِيَامِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عبَّاس وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أخر) الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 183 - 185] وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَالْأَحْكَامِ
المستفادة منه ولله الحمد.
__________
(1) تاريخ الطبري ج 2 / 265.
(2) قال ابن سيد الناس: فرض صوم شهر رمضان فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وقال القرطبي: الصحيح سبعة عشر شهراً وهو قول مالك وابن المسيب وابن إسحاق وقال الواقدي: الثبت عندنا الاول.
(3) زيادة من الطبري.
(4) قال ابن الأثير: لما فرض رمضان لم يأمرهم بصوم عاشوراء ولم ينههم عنه.
(*)(3/311)
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
قَالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَذَكَرَ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ.
وقال وَأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَامَ عَاشُورَاءَ ثم إن الله فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ وَأَنْزَلَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين من قبلكم) إِلَى قَوْلِهِ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فَأَثْبَتَ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَأَثْبَتَ الْإِطْعَامَ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ فَهَذَانِ حَوْلَانِ.
قَالَ وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا.
ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ صِرْمَةُ كَانَ يَعْمَلُ صَائِمًا حَتَّى أَمْسَى فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَهَدَ جَهْدًا شَدِيدًا فَقَالَ: " مالي أَرَاكَ قَدْ جَهَدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا " فَأَخْبَرَهُ، قَالَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هن لباس لكم) إِلَى قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ نَحْوَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ.
وَلِتَحْرِيرِ هَذَا، مَوْضِعٌ آخَرُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمِرَ النَّاسُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ - أَوْ يَوْمَيْنِ - وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، قَالَ وَفِيهَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِيدِ وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى فَكَانَ أَوَّلَ صَلَاةِ عِيدٍ صَلَّاهَا وَخَرَجُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْحَرْبَةِ (1) وكان لِلزُّبَيْرِ وَهَبَهَا لَهُ النَّجَاشِيُّ فَكَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَعْيَادِ.
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ ذَاتُ النُّصُبِ (2) كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: العنزة وهي عصا في رأسها سنان مثل سنان الرمح.
(2) أي زكاة المال.
(*)(3/312)
بسم الله الرحمن الرحيم غزوة بدر العظمى * يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ في الحق بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ يريد اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) وَمَا بَعْدَهَا إِلَى تَمَامِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا هُنَالِكَ وَسَنُورِدُ هَاهُنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يُنَاسِبُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ سَرِيَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ
بِأَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ عَظِيمَةٍ فِيهَا أَمْوَالٌ وَتِجَارَةٌ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا - أَوْ أَرْبَعُونَ - مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهري: كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ بِشَهْرَيْنِ، قَالَ وَكَانَ فِي الْعِيرِ أَلْفُ بَعِيرٍ تَحْمِلُ أَمْوَالَ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا إِلَّا حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى فَلِهَذَا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ الْحَدِيثِ فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ (1) بَدْرٍ قَالُوا: لَمَّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: " هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لعل الله ينفلكموها، فانتدب الناس فخفف بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا من الحجاز يتجسس (2) مَنْ لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ (3) النَّاسِ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أن
__________
(1) بدر: اسم بئر حفرها رجل من غفار اسمه بدر، قيل هو بدر بن قريش بن يخلد، وبه - في قول - سميت قريش، وقيل إن بدرا: رجل كانت له بئر بدر وهي على أربع مراحل من المدينة.
قال ابن سعد: كانت بدر موسماً من مواسم الجاهلية يجتمع بها العرب، وبين بدر والمدينة ثمانية برد وميلان.
(معجم البلدان - شرح المواهب - الروض الانف - طبقات ابن سعد) .
(2) في ابن هشام والواقدي: يتحسس بالحاء.
قال السهيلي: التحسس أن تتسمع الاخبار بنفسك، والتجسس بالجيم هو أن تفحص عنها بغيرك.
(3) في ابن هشام: على أمر الناس.
(*)(3/313)
مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ (1) عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ فَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَالَا: وَقَدْ رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ إِلَى مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ لَهُ يَا أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا أَفْظَعَتْنِي (2) وَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْهَا شَرٌّ وَمُصِيبَةٌ فَاكْتُمْ عَلَيَّ مَا أُحَدِّثُكَ، قَالَ لَهَا وَمَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، حَتَّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ صَرَخَ بأعلا صوته ألا انفروا يا آل غدر (3) لَمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَأَرَى النَّاسَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ بِعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ثم صرخ بمثلها.
ألا انفروا يا آل غدر لَمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بِعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبَى قُبَيْسٍ فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ وَلَا دَارٌ إِلَّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا فِلْقَةٌ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا وَأَنْتِ فَاكْتُمِيهَا لَا تَذْكُرِيهَا لِأَحَدٍ، ثُمَّ خَرَجَ الْعَبَّاسُ فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ - وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا - فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهَا فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ (4) عُتْبَةَ فَفَشَا الْحَدِيثُ حَتَّى تَحَدَّثَتْ به قريش [في أنديتها] ، قَالَ الْعَبَّاسُ: فَغَدَوْتُ لِأَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي رَهْطٍ (5) مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٍ يَتَحَدَّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ فَأَقْبِلْ إِلَيْنَا، فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَهُمْ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، مَتَى حَدَثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ تِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا رَأَتْ؟ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَمَّا رَضِيتُمْ أن يتنأ رِجَالُكُمْ حَتَّى تَتَنَبَّأَ نِسَاؤُكُمْ! قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ: انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ، فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ فَإِنْ يَكُ حَقًّا مَا تَقُولُ فَسَيَكُونُ، وَإِنْ تَمْضِ الثَّلَاثُ وَلَمْ يكن من ذلك شئ نَكْتُبُ عَلَيْكُمْ كِتَابًا أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: فَوَاللَّهِ مَا كَانَ مني إليه كبير شئ (6) إِلَّا أَنِّي جَحَدْتُ ذَلِكَ وَأَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ رأت شيئاً، قال: ثم تفرقنا فلما
__________
(1) في ابن سعد: وكان بلغ المشركين بالشام أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرصد انصرافهم فبعثوا ضمضم بن عمرو حين فصلوا من الشام إلى قريش بمكة يخبرونهم بما بلغهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2) أفظعتني: اشتدت علي، وفي ابن الاثير: افزعتها.
(3) في ابن هشام: بالغدر، وتروى يا أهل غدر شرحها السهيلي: جمع غدور، وهي بضم الغين والدال، وهي تحريض لهم، أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم.
قال أبو عبيد تقول: يا غدر، أي يا غادر فإذا جمعت قلت: يا آل غدر.
(4) من ابن هشام وابن الاثير، وفي الاصل: لابنه.
(5) ذكرهم ابن عقبة في روايته: أبا جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة وأمية وأُبي بن خلف وزمعة بن الاسود وأبا البختري في نفر من قريش.
(6) قال ابن عقبة أن العباس رد عليه قال: هل أنت منته، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك، فقال من حضرهما: = (*)(3/314)
أَمْسَيْتُ لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا أَتَتْنِي، فَقَالَتْ: أَقْرَرْتُمْ لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عندك غيرة لشئ مِمَّا سَمِعْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ فَعَلْتُ مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ، وَايْمُ الله لا تعرضن لَهُ، فَإِذَا عَادَ لَأَكْفِيكُنَّهُ، قَالَ فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضَبٌ أَرَى أَنِّي قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبُّ أَنْ أُدْرِكَهُ مِنْهُ.
قَالَ: فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَمْشِي نَحْوَهُ أَتَعَرَّضُهُ لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعَ بِهِ، وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ، حَدِيدَ النَّظَرِ، قَالَ: إِذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدُّ، قال: قلت في نفسي: ماله لَعَنَهُ اللَّهُ أَكُلُّ هَذَا فَرَقٌ مِنِّي أَنْ أُشَاتِمَهُ؟ ! وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ جَدَّعَ بَعِيرَهُ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ (1) ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ.
قَالَ: فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ عَنِّي مَا جَاءَ مِنَ الْأَمْرِ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا وَقَالُوا أَيُظَنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الحضرمي؟ [كلا] (2) وَاللَّهِ لَيَعْلَمَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ رُؤْيَا عَاتِكَةَ كَنَحْوٍ مِنْ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ فلمَّا جَاءَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ خَافُوا مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِمَّا خَارِجٌ وَإِمَّا بَاعِثٌ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَأَوْعَبَتْ قُرَيْشٌ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ إِلَّا أنَّ أَبَا لَهَبِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصِيَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، اسْتَأْجَرَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ قَدْ أَفْلَسَ بِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَانَ قَدْ أَجْمَعَ الْقُعُودَ وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا جَسِيمًا ثَقِيلًا، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ (3) وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ بِمِجْمَرَةٍ يَحْمِلُهَا، فِيهَا نَارٌ وَمِجْمَرٌ، حَتَّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، اسْتَجْمِرْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءِ قَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ ثُمَّ تَجَهَّزَ وَخَرَجَ مَعَ النَّاسِ هَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَقَدْ رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أمية
__________
= ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا.
(1) اللطيمة: جميع ما حملت الإبل للتجارة قاله أبو الزناد، وقال غيره: اللطيمة: العطر خاصة.
(2) من ابن هشام.
(3) قال الواقدي: آتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل، وعقبة معه مجمرة فيها بخور ومع أبي جهل مكحلة ومرود.
فأدخلها عقبة تحته وقال: تبخر.
فإنما أنت امرأة.
وقال أبو جهل: اكتحل، فإنما أنت امرأة.
(*)(3/315)
بمكة، قال سَعْدٌ لِأُمَيَّةَ انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ يَا [أَبَا] (1) صَفْوَانَ مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ هَذَا سَعْدٌ.
قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا أَرَاكَ تَطُوفُ بمكة آمناً وقد أو يتم الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ - وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ - أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ يَا سَعْدُ عَلَى أَبِي
الْحَكَمِ فإنَّه سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي، قَالَ سَعْدٌ دَعْنَا عَنْكَ يَا أُمَيَّةَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ " قَالَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ لَا أَدْرِي؟ فَفَزِعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ يَا أُمَّ صَفْوَانَ أَلَمْ تَرَيْ مَا قَالَ لِي سَعْدٌ؟ قَالَتْ: وَمَا قَالُ لَكَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ بِمَكَّةَ.
قَالَ: لَا أَدْرِي.
فَقَالَ أُمَيَّةُ وَاللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ.
اسْتَنْفَرَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ فَقَالَ أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ، فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ إِنَّكَ مَتَى يَرَاكَ النَّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُو جَهْلٍ حَتَّى قَالَ أَمَّا إِذْ عبتني (2) فَوَاللَّهِ لَأَشْتَرِيَنَّ (3) أَجْوَدَ بِعِيرٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ أُمَيَّةُ: يَا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا صَفْوَانَ وَقَدْ نَسِيتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَ: لَا، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلَّا قَرِيبًا، فَلَمَّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلَّا عَقَلَ بَعِيرَهُ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ بِبَدْرٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ نَحْوَهُ، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ خَلَفِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَكْذِبُ (4) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جَهَازِهِمْ وَأَجْمَعُوا الْمَسِيرَ، ذَكَرُوا مَا كَانَ (5) بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ.
فَقَالُوا إِنَّا نَخْشَى أَنْ يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ فِي ابْنٍ لِحَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ قَتْلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِإِشَارَةِ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْمُلَوَّحِ، ثُمَّ أَخَذَ بِثَأْرِهِ أَخُوهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَتَلَ عامرا
__________
(1) من صحيح البخاري.
(2) في صحيح البخاري ودلائل البيهقي: إذ غلبتني.
(3) قال الواقدي: ابتاعوا له جملا بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب بن أساف، وفي رواية يساف.
(4) رواه البخاري في 64 كتاب المغازي 2 باب ذكر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم من يقتل ببدر ح 3950 فتح الباري 7 / 282 وفي 61
كتاب المناقب 25 باب ح 3632 فتح الباري 6 / 629 عن أحمد بن إسحاق.
ورواه البيهقي من طريقيه في دلائله 3 / 25.
(5) من ابن هشام، وفي الاصل: كانوا تحريف.
(*)(3/316)
وخاص بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ ثُمَّ جَاءَ مِنَ اللَّيْلِ فَعَلَّقَهُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَخَافُوهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يَثْنِيَهُمْ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ.
فَقَالَ: أَنَا لَكُمْ جَارٌ من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تَكْرَهُونَهُ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا.
قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ، وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عقبيه وقال إني برئ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الانفال: 47 - 48] غرَّهم لعنه الله حتى ساروا وسار معهم منزلة منزلة ومعه جنوده وراياته كما قاله غير واحد منهم، فأسلمهم لمصارعهم.
فلما رأى الجد والملائكة تنزل للنصر وعاين جبريل نكص على عقبيه وقال إني برئ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ.
وهذا كقوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برئ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الحشر: 16] وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81] فَإِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ لمَّا عَايَنَ الْمَلَائِكَةَ يومئذٍ تَنْزِلُ لِلنَّصْرِ فرَّ ذَاهِبًا فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هزم يومئذٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ هُوَ الْمُشَجِّعَ لَهُمْ الْمُجِيرَ لَهُمْ كَمَا غَرَّهُمْ وَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: خَرَجَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ فِي تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مُقَاتِلًا مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ (1) يَقُودُونَهَا وَمَعَهُمُ الْقِيَانُ (2) يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وَيُغَنِّينَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَذَكَرَ الْمُطْعِمِينَ لِقُرَيْشٍ يَوْمًا يَوْمًا، وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَحَرَ لَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ أَبُو جَهْلٍ نَحَرَ لَهُمْ عَشْرًا (3) ، ثُمَّ نَحَرَ لَهُمْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ بِعُسْفَانَ تِسْعًا، وَنَحَرَ لَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِقُدَيْدٍ عَشْرًا، وَمَالُوا مِنْ قُدَيْدٍ إِلَى مِيَاهٍ نَحْوَ الْبَحْرِ فَظَلُّوا فِيهَا وَأَقَامُوا بِهَا يَوْمًا فَنَحَرَ لَهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تِسْعًا، ثُمَّ أَصْبَحُوا بِالْجَحْفَةِ فَنَحَرَ لَهُمْ يومئذٍ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَشْرًا، ثُمَّ أَصْبَحُوا بِالْأَبْوَاءِ فَنَحَرَ لَهُمْ نُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ عَشْرًا، وَنَحَرَ لَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَشْرًا، [وَنَحَرَ لَهُمْ الحارث بن عامر بن نوفل تسعاً] (4) وَنَحَرَ لَهُمْ عَلَى مَاءِ بَدْرٍ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عشراً، [ونحر لهم مقبس الجمحي
__________
(1) في رواية الواقدي وابن الاثير: مائة فرس.
(2) ذكر الواقدي اسماءهن: سارة مولاة عمرو بن هاشم بن المطلب، وعزة مولاة الأسود بن المطلب، ومولاة أمية بن خلف.
(3) نحر لهم بمر.
(4) زيادة من رواية موسى بن عقبة، دلائل البيهقي 3 / 109.
(*)(3/317)
على ماء بدر تسعاً] (1) ثُمَّ أَكَلُوا مِنْ أَزْوَادِهِمْ.
قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ قَالَ: كَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ سِتُّونَ فَرَسًا وَسِتُّمِائَةِ دِرْعٍ وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَانِ وَسِتُّونَ دِرْعًا.
هَذَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ فِي نَفِيرِهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَمَسِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ.
وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيَالٍ (2) مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أَصْحَابِهِ وَاسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَكَانَ أَبْيَضَ، وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَايَتَانِ سَوْدَاوَانِ إِحْدَاهُمَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يُقَالُ لَهَا الْعُقَابُ، وَالْأُخْرَى مَعَ بَعْضِ الْأَنْصَارِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ كَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَالَ الْأُمَوِيُّ كَانَتْ مَعَ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّاقَةِ قَيْسَ بْنَ أَبِي صَعْصَعَةَ أَخَا بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: وَكَانَ مَعَهُمْ فَرَسَانِ عَلَى إِحْدَاهُمَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَلَى الْأُخْرَى الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ (3) ومن سعد بن خيثمة ومن الْمِقْدَادُ بْنُ
الْأَسْوَدِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ: عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ (4) .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي صَخْرٍ عن أبي معاوية البلخي (5) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: مَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الأسود - يعني يوم بدر - وقال الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خالد عن التيمي قَالَ: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَارِسَانِ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَلَى الْمَيْسَرَةِ (6) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ ومرثد بن
__________
(1) زيادة من رواية ابن عقبة، دلائل البيهقي 3 / 110.
(2) قال ابن هشام: خرج يوم الاثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان.
وقال الواقدي: يوم الاحد لاثنتي عشرة خلت من رمضان، وفي ابن الاثير والطبري لثلاث ليال خلون من شهر رمضان.
وعند ابن سعد يَوْمِ السَّبْتِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنَ شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهراً من مهاجره.
(3) العبارة غير مستقيمة في الاصل.
ورواية البيهقي عن ابن عقبة - ولعلها أصوب - على إحداهما مصعب بن عمير وعلى الآخر سعد بن خيثمة، ومرة الزبير بن العوام، ومرة المقداد بن الأسود.
(4) وفي رواية للنسائي: على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سمرة يصلي ويبكي حتى أصبح.
رواه في الصلاة تحفة الاشراف 7 / 357 ورواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 49.
والمقداد بن الأسود من أول من أظهر الاسلام، وكان من الفضلاء النجباء الخيار الكبار مِنْ أَصْحَابِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(5) دلائل النبوة ج 3 / 39 وفيه: البجلي بدل البلخي.
(6) في رواية للواقدي: كان معهم فرسان: فرس للمقداد - ولا اختلاف عندنا أن المقداد له فرس - وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي وقبل للزبير (ابن الأثير) وكان اسم فرس المقداد: سبحة وفرس مرثد: السيل.
وفي رواية لقتيبة عند ابن سعد: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ثلاثة أفراس وذكر الفرسان الثلاثة.
والاول أرجح (*)(3/318)
أَبِي مَرْثَدٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَبُو كَبْشَةَ وَأَنَسَةُ (1) يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا.
كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ عن زربن حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيٌّ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ فَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ.
فَقَالَ: " مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا " وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْفَلَّاسِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ (2) .
قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ كَانَ زَمِيلَاهُ عَلِيٌّ وَمَرْثَدٌ بَدَلَ أَبِي لُبَابَةَ (3) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْأَجْرَاسِ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ أَعْنَاقِ الْإِبِلِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَإِنَّمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ في الأطراف وتابعه سعيد بن بشر عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ.
قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبِ اللَّهُ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ تَفَرَّدَ بِهِ (4) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرِيقَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، عَلَى نَقْبِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ عَلَى الْعَقِيقِ، ثُمَّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ عَلَى أُولَاتِ الْجَيْشِ ثُمَّ مرَّ عَلَى تُرْبَانَ (5) ثُمَّ عَلَى مَلَلٍ ثُمَّ عَلَى غَمِيسِ الْحَمَامِ ثُمَّ عَلَى صخيرات اليمامة ثُمَّ عَلَى السَّيَالَةِ ثُمَّ عَلَى فَجِّ الرَّوْحَاءِ ثُمَّ عَلَى شَنُوكَةَ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُعْتَدِلَةُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ لَقِيَ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّاسِ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، فَقَالَ لَهُ النَّاس: سلِّم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَوَفِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: نَعَمْ! فسلَّم عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي عَمَّا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هذه، قال له سلمة بن
__________
(1) أبو كبشة وانسة مَوْلَيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2) رَوَاهُ البيهقي في الدلائل ج 3 / 39 والنسائي في السير تحفة الاشراف 7 / 26 والحاكم في المستدرك 3 / 20 وقال: صحيح على شرط الشيخين.
(3) المشهور عند أهل المغازي أن أبا لبابة رده النبي صلى الله عليه وسلَّم من الروحاء واستخلفه على المدينة، وعده ابن سعد من المتخلفين في المدينة ولم يذكر مسيرة إلى الروحاء، وفي ابن الأثير أن زميلي النبي صلى الله عليه وسلم على وزيد بن حارثة.
(4) أخرجه البخاري مطولا في كتاب الأحكام باب هل للامام أن يمنع المجرمين، وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه؟ وللحديث طرق أخرى ذكرها المزي في تحفة الاشراف 8 / 311 - 312.
(5) تربان: بالضم دار بين الحفير والمدينة.
(*)(3/319)
سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ: لَا تَسْأَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَأَنَا أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ، نَزَوْتَ عَلَيْهَا، فَفِي بَطْنِهَا مِنْكَ سَخْلَةٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ أَفْحَشْتَ عَلَى الرَّجُلِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ سَلَمَةَ.
وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْسَجَ وَهِيَ بِئْرُ الرَّوْحَاءِ ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْهَا بِالْمُنْصَرَفِ (1) تَرَكَ طَرِيقَ مَكَّةَ بِيَسَارٍ، وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى النَّازِيَةِ يُرِيدُ بَدْرًا؟ فَسَلَكَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا حَتَّى إذا جزع (2) وادياً يقال له وحقان بَيْنَ النَّازِيَةِ وَبَيْنَ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ ثُمَّ عَلَى الْمَضِيقِ ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهُ حتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصَّفْرَاءِ بَعَثَ بَسْبَسَ (3) بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ، حَلِيفَ بَنِي سَاعِدَةَ، وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ حَلِيفَ بَنِي النَّجَّارِ إِلَى بَدْرٍ يَتَجَسَّسَانِ (4) الْأَخْبَارَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ وَعِيرِهِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بَعَثَهُمَا قَبْلَ أَنْ يُخرج مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا رَجَعَا فَأَخْبَرَاهُ بِخَبَرِ الْعِيرِ اسْتَنْفَرَ النَّاسَ إِلَيْهَا فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إِسْحَاقَ مَحْفُوظًا فَقَدْ بَعَثَهُمَا مَرَّتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَدَّمَهُمَا فَلَمَّا اسْتَقْبَلَ الصَّفْرَاءَ وَهِيَ قَرْيَةٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ سَأَلَ عَنْ جَبَلَيْهَا مَا أَسْمَاؤُهُمَا (5) ؟ فَقَالُوا: يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: مُسْلِحٌ وَلِلْآخَرِ: مُخْرِئٌ، وَسَأَلَ عَنْ أَهْلِهِمَا فَقِيلَ بَنُو النَّارِ، وَبَنُو حُرَاقٍ، بِطْنَانِ مِنْ غِفَارٍ، فَكَرِهَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرُورَ بَيْنَهُمَا وَتَفَاءَلَ بِأَسْمَائِهِمَا وَأَسْمَاءِ أَهْلِهِمَا فَتَرَكَهُمَا وَالصَّفْرَاءَ بِيَسَارٍ وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى وَادٍ،
يُقَالُ لَهُ: ذَفِرَانُ فَجَزَعَ فِيهِ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ وَمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ، فَنَحْنُ مَعَكَ وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ " وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدُ النَّاسِ وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى: عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ.
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ الله؟ قال:
__________
(1) المنصرف: موضع بين مكة وبدر وبينهما أربعة برد (معجم البلدان) .
(2) جزع الوادي: قطعه عرضا، ولا يجزع الوادي إلا عرضا.
(3) في مصنف أبي داود: بسبسة: قاله السهيلي ونسبه ابن الاثير لجهينة وغيره إلى ذبيان وقال: هو بَسْبَسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَرَشَةَ بن عمرو بن سعد بن ذبيان.
(4) وفي رواية: يتحسسان تقدم شرحها.
(5) كذا في الاصل، وهو تحريف، وفي ابن هشام: ما اسماهما؟ وهو أصح.
(*)(3/320)
" أَجَلْ " قَالَ فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَكَ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ، فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ.
لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تقرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى
بَرَكَةِ اللَّهِ.
قَالَ: فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشَّطَهُ ثُمَّ قَالَ: " سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ القوم " هكذا رواه ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه [كان] أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
فَقَالَ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههنا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وبين يديك وخلفك، [قال] فَرَأَيْتُ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وجهه [لذلك] وَسَرَّهُ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ فَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ مُخَارِقٍ به (1) ورواه النسائي من حديثه وعنده: وجاء المقداد بن الأسود يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ - هُوَ ابْنُ حُمَيْدٍ - عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجَهُ إِلَى بَدْرٍ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.
فقال بعض الأنصار: يا رسول الله إذاً لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى برك الغماد لاتبعناك.
وهذا إسناد ثلاثي صحيح عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاور (2) حين بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، إِيَّانَا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبِحَارَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا (3) إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ.
قال فانطلقوا
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي (4) باب فتح الباري 7 / 287، وأعاده في التفسير مرتين، مرة عن أبي نعيم، ومرة عن حمدان بن عمر، تفسير سورة المائدة باب قوله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فقاتلا..) وما بين معكوفين في الحديث زيادة من الصحيح.
(2) في الحديثين مشاورة النبي للناس: قال فيها العلماء إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار، لأنه لم يكن بايعهم على أن
يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه، فلما عرض الخروج لابي سفيان - في بدر - أراد أن يعلم موقفهم من الموضوع المطروح، وهل أنهم يوافقون على ذلك أم لا؟ فكانت إصابتهم له كاملة، واستعدادهم للقتال حسن.
(3) كتابة عن ركضها، فإن الفارس إذا أراد ركض مركوبه يحرك رجليه من جانبيه، ضاربا على موضع كبده (*)(3/321)
حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاجِ، فَأَخَذُوهُ وَكَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه فيقول مالي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلِ بن هشام وعتبة بن ربيعة وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ فَإِذَا ضَرَبُوهُ.
قَالَ: نَعَمْ! أَنَا أُخْبِرُكُمْ هَذَا أبو سفيان فإذا تركوه فسألوه قال مالي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ وعتبة وشيبة وأمية، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضًا ضَرَبُوهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ انْصَرَفَ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنكم لتضربونه إذا صدق وَتَتْرُكُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ.
قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ يضع يده على الأرض ههنا وههنا، فَمَا أَمَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم (1) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَفَّانَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ - وَاللَّفْظُ لَهُ - مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ: " إِنِّي أُخْبِرْتُ عَنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهَا مُقْبِلَةٌ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ قِبَلَ هَذِهِ الْعِيرِ لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِمُنَاهَا؟ " فَقُلْنَا نَعَمْ! فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ قَالَ لَنَا: " مَا تَرَوْنَ فِي الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِمَخْرَجِكُمْ؟ " فَقُلْنَا لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْقَوْمِ وَلَكِنَّا أَرَدْنَا الْعِيرَ، ثُمَّ قال: " تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ؟ " فَقُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ.
فقام المقداد بن عمرو [فقال] : إذاً لا نقول لك يا رسول كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وربك فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ، قَالَ فَتَمَنَّيْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَوْ أَنَّا قُلْنَا مِثْلَ مَا قَالَ الْمِقْدَادُ أحبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يكونَ لَنَا مَالٌ عَظِيمٌ فَأَنْزَلَ الله عزوجل على رسوله: (كَمَا أخرجك مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.
قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِيَّانَا تُرِيدُ؟ فَوَالَّذِي أَكْرَمَكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ وَلَا لِي بِهَا عِلْمٌ، وَلَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَأْتِيَ بَرْكَ الْغِمَادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ وَلَا نَكُونُ كَالَّذِينِ قَالُوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ متبعون، ولعل أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ وَعَادِ مَنْ شِئْتَ وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ.
فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ: " كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) الْآيَاتِ.
وَذَكَرَهُ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ.
وَمَا أَمَرْتَ بِهِ مِنْ أمر فأمرنا تبع لامرك
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب الاسير ينال منه ويضرب.
وأخرجه مسلم في 32 كتاب الجهاد 30 باب غزوة بدر ح 83 ص 3 / 1403.
(*)(3/322)
فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ (1) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ ارتحل رسول الله مِنْ ذَفِرَانَ فَسَلَكَ عَلَى ثَنَايَا يُقَالُ لَهَا الْأَصَافِرُ، ثُمَّ انْحَطَّ مِنْهَا إِلَى بَلَدٍ يُقَالُ له الدية (2) وترك الحنان بيمين وهو كئيب عَظِيمٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ (3) .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ أَبُو بَكْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ - كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حبَّان - حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنَ الْعَرَبِ فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ.
فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخْبَرْتَنَا أَخْبَرْنَاكَ فقال أو ذاك بِذَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ الشَّيْخُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الَّذِي أَخْبَرَنِي فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا
لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا.
لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ مِنْ مَاءٍ " ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ.
قَالَ يَقُولُ الشَّيْخُ: مَا مِنْ مَاءٍ أَمِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ؟ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ لِهَذَا الشَّيْخِ سُفْيَانُ الضَّمْرِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أصحابه فلمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ والزُّبير بْنِ الْعَوَّامِ (4) وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ لَهُ كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَأَصَابُوا رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمُ غُلَامُ بَنِي الْحَجَّاجِ (5) وَعَرِيضٌ أَبُو يَسَارٍ غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَقَالُوا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ فَضَرَبُوهُمَا، فَلَمَّا أَذْلَقُوهُمَا (6) قَالَا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ فَتَرَكُوهُمَا، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ: " إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا وَاللَّهِ إِنَّهُمَا لِقُرَيْشٍ، أخبراني عن قريش؟ قالا: هم [والله] وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة
__________
(1) نقله البيهقي في الدلائل 3 / 107 بنحوه في باب سياق قصة بدر عن مغازي موسى بن عقبة.
(2) كذا في الاصل، وفي ابن هشام والواقدي وتاريخ الطبري ومعجم البلدان: الدبة: وهي بلد بين الاصافر وبدر.
(3) في الواقدي: معه قتادة بن النعمان، ويقال عبد الله بن كعب المازني، ويقال: معاذ بن جبل.
(4) في الواقدي: بسبس بن عمرو بدلا من الزبير بن العوام، وفي روايته أنه صلى الله عليه وسلم أنه التفى صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ببسبس فأخبره خبر قريش.
وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم بعث بسبس وعدي بن أبي الزغباء يتحسسان أخبار قريش (الطبري - ابن الاثير - سيرة ابن هشام طبقات ابن سعد) .
(5) في ابن الاثير: الجحجاح، وفي الواقدي ذكر ثلاثة: أسلم غلام منبه بن الحجاج، ويسار غلام عبيد بن سعيد بن العاص، وأبو رافع غلام أمية بن خلف.
(6) أذلقوهما: بالغوا في ضربهما وآذوهما.
(*)(3/323)
الْقُصْوَى، وَالْكَثِيبُ الْعَقَنْقَلُ.
فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمِ الْقَوْمُ؟ قَالَا كَثِيرٌ.
قَالَ مَا عِدَّتُهُمْ، قَالَا: لَا نَدْرِي، قَالَ: كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ " ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟ قَالَا: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عمرو، وعمرو بن عبدود.
قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: " هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو وَعَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ قَدْ مَضَيَا حَتَّى نَزَلَا بَدْرًا فَأَنَاخَا إِلَى تَلٍّ قَرِيبٍ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ أَخَذَا شَنًّا لَهُمَا يَسْتَقِيَانِ فِيهِ.
وَمَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ عَلَى الْمَاءِ، فَسَمِعَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسٌ جَارِيَتَيْنِ من جواري الحاضر وهما يتلازمان عَلَى الْمَاءِ وَالْمَلْزُومَةُ تَقُولُ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ فَأَعْمَلُ لَهُمْ، ثم أقضيك الذي الَّذِي لَكِ.
قَالَ مَجْدِيُّ: صَدَقَتْ ثُمَّ خَلَّصَ بَيْنَهُمَا.
وَسَمِعَ ذَلِكَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسٌ فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَاهُ بِمَا سَمِعَا، وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذِرًا حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ.
فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ أَحَدًا؟ قَالَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أُنْكِرُهُ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ قَدْ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ، ثُمَّ اسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا، فَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ مُنَاخَهُمَا فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتَّهُ فَإِذَا فِيهِ النَّوَى.
فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ سَرِيعًا فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ عَنِ الطَّرِيقِ فَسَاحَلَ بِهَا وَتَرَكَ بَدْرًا بِيَسَارٍ وَانْطَلَقَ حَتَّى أَسْرَعَ.
وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا نَزَلُوا الْجُحْفَةَ رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا.
فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَإِنِّي لَبَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ حَتَّى وَقَفَ، وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ ثمَّ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ،
وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ فَعَدَّ رِجَالًا مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ ضَرَبَ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إِلَّا أَصَابَهُ نَضْحٌ مِنْ دَمِهِ.
فَبَلَغَتْ أَبَا جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ هَذَا أَيْضًا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ سَيَعْلَمُ غَدًا مَنِ الْمَقْتُولُ إِنْ نَحْنُ الْتَقَيْنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهِ سُوقٌ كُلَّ عَامٍ فَنُقِيمَ عَلَيْهِ ثلاثاً فننحر الجزور، وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا فَامْضُوا وَقَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ(3/324)
شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ - وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ - وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ (1) : يَا بَنِي زُهْرَةَ قَدْ نَجَّى اللَّهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَخَلَّصَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَإِنَّمَا نَفَرْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ، فَاجْعَلُوا بِي جُبْنَهَا وَارْجِعُوا فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِأَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ ضَيْعَةٍ (2) لَا مَا يَقُولُ هَذَا.
قَالَ فَرَجَعُوا فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيٌّ وَاحِدٌ، أَطَاعُوهُ وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا وَقَدْ نَفَرَ مِنْهُمْ نَاسٌ إِلَّا بَنِي عَدِيٍّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ (3) .
قَالَ: وَمَضَى الْقَوْمُ وَكَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (4) - وَكَانَ فِي الْقَوْمِ - وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ.
فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي هَاشِمٍ - وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا - أَنَّ هَوَاكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، فَرَجَعَ طَالِبٌ إِلَى مَكَّةَ مَعَ مَنْ رَجَعَ.
وَقَالَ في ذلك: لا هُمَّ إِمَّا يغزوَنَّ طَالِبْ * فِي عُصْبَةٍ محالفٍ مُحَارِبْ (5) فِي مِقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبْ * فَلْيَكُنِ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السَّالِبْ (6) وَلِيَكُنِ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، خَلْفَ الْعَقَنْقَلِ وَبَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ يَلْيَلُ، بَيْنَ بَدْرٍ وَبَيْنَ الْعَقَنْقَلِ، الْكَثِيبِ الَّذِي خَلْفَهُ قُرَيْشٌ، وَالْقَلِيبُ بِبَدْرٍ فِي
الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ يَلْيَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا قَالَ تَعَالَى: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ السَّاحِلِ (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) الآيات [الأنفال: 42] .
وَبَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا (7) فَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الجحفة: كانت قرية كبيرة على طريق المدينة، من مكة على أربع مراحل (معجم البلدان 3 / 62) .
(2) في السيرة الحلبية وفي الواقدي: في غير منفعة.
(3) في الواقدي: وكانوا مائة، والاثبت أقل من مائة.
وأما بنو عدي فرجعوا من الطريق، وقيل من مر الظهران.
وقال ابن سعد: كانت بنو عدي بن كعب مع النفير فلما بلغوا ثنية لفت عدلوا في السحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة.
(4) في رواية للطبري عن ابن الكلبي أن طالب أخرج كرها مع المشركين.
وأنه رجع إلى مكة فيمن رجع قبل بدر.
ج 2 / 276.
وفي رواية لابن الاثير والطبري: أنه لم يوجد في الاسرى ولا في القتلى ولا فيمن رجع إلى مكة.
(5) في رواية ابن عقبة: إما يخرجن طالب * في نفر مقاتل محارب وفي الطبري الشطر الاول: يا رب إما يغزوَنَّ طالب (6) مقنب: المقنب الجماعة من الخيل، نحو ثلاثمائة.
(7) الدهس: كل مكان لين لم يبلغ أن يكون رملا.
(*)(3/325)
وأصحابه منها ماء لبدلهم الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ السَّيْرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَاءٌ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ.
قُلْتُ وَفِي هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) [الأنفال: 12] فَذَكَرَ أَنَّهُ طَهَّرَهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا،
وَأَنَّهُ ثبَّت أَقْدَامَهُمْ وَشَجَّعَ قُلُوبَهُمْ وَأَذْهَبَ عنهم تخذيل الشيطان وتخويفه للنفوس ووسوسته الخواطر، وَهَذَا تَثْبِيتُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَأَنْزَلَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي قَوْلِهِ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) [الانفال: 13] أي على الرؤوس (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) أَيْ لِئَلَّا يَسْتَمْسِكَ مِنْهُمُ السِّلَاحُ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العقاب، ذلكم فذقوه وأن للكافرين عذاب النار) [الْأَنْفَالِ: 14] .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ ثَنَا إِسْرَائِيلُ ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ: أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنَ الْمَطَرِ - يَعْنِي اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ - فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي قَائِمًا يُصَلِّي - وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عَلِيٍّ (1) .
قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يوم بدر إلا الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ مُطَوَّلًا.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ غُنْدُرٍ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ (2) : وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ فَأَطْفَأَ بِهِ الْغُبَارَ وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَطَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ.
قُلْتُ: وَكَانَتْ لَيْلَةُ بَدْرٍ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي إِلَى جِذْمِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، وَيُكْثِرُ فِي سُجُودِهِ أَنْ يَقُولَ " يَا حَيَّ يَا قَيُّومَ " يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَيُلِظُّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبادرهم إلى الماء حتى جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ منذر بْنِ الْجَمُوحِ.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أن نتقدمه ولا نتأخر
__________
(1) تاريخ الطبري: 2 / 269.
(2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في الصلاة، عن محمد بن المثنى، عن محمد، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ تحفة الاشراف 7 / 357 (*)(3/326)
عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ.
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فإنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ فَامْضِ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ (1) مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه مَاءً ثُمَّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ ".
قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس.
قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجمع الأقماص (2) وجبريل عن يمينه إذا أَتَاهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ السَّلَامُ " فَقَالَ الْمَلَكُ (3) إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ إِنَّ الْأَمْرَ [هُوَ] الَّذِي أَمَرَكَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا جِبْرِيلُ هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ فَقَالَ مَا كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ فَسَارَ حَتَّى أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ أمر بالقلب فعورت، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ لَمَّا أَشَارَ بِمَا أَشَارَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ وَجِبْرِيلُ عِنْدَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمَلَكُ يَا مُحَمَّدُ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلام وَيَقُولُ لَكَ إِنْ الرَّأْيَ مَا أَشَارَ بِهِ الْحُبَابُ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم إِلَى جِبْرِيلَ فَقَالَ لَيْسَ كُلُّ الْمَلَائِكَةِ أَعْرِفُهُمْ وَإِنَّهُ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ.
وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ (4) أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي يَلِي الْمُشْرِكِينَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَأَنَّهُمْ نَزَلُوا فِيهِ وَاسْتَقَوْا منه وملؤا الْحِيَاضَ حَتَّى أَصْبَحَتْ مِلَاءً وَلَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ مَاءٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ.
قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَّا نَبْنِيَ لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ وَنُعِدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى، جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا
مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ ما نحن بأشد حبالك مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ.
فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشٌ كَانَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ فَأَقْبَلَتْ، فلمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم
__________
(1) كَذَا في الاصل وابن هشام والواقدي نغور: نفسد قاله أبو ذر في شرح السيرة، وفي ابن سعد وكامل ابن الاثير نعور: أي ندفن.
(2) كذا في الاصل، ولم نعثر في أي من الكتب التي بأيدينا على هذا النص، ولعلها الاقباص: جمع قبص والقبص الجماعة من الناس.
(3) في ابن سعد: أن جبريل نزل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: الرأي ما أشار به الحباب.
(4) أنظر دلائل البيهقي ج 3 / 110.
(*)(3/327)
تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي جاؤا مِنْهُ إِلَى الْوَادِي - قَالَ: " اللَّهم هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تَحَادُّكَ (1) وتكذِّب رَسُولَكَ اللَّهم فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ (2) الْغَدَاةَ ".
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ " إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ " إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا قَالَ: وَقَدْ كَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ أَوْ أَبُوهُ إِيمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ ابْنًا لَهُ بِجَزَائِرَ أَهْدَاهَا لَهُمْ.
وَقَالَ: " إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نَمُدَّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا " قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ أَنْ وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، وَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ، فَلَعَمْرِي إِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ مَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَإِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ اللَّهَ، كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ فَمَا لِأَحَدٍ بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ.
قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُمْ فَمَا شَرِبَ مِنْهُ رَجُلٌ يومئذٍ إِلَّا قُتِلَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ فَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ نَعْقِدُهُ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَنَذْكُرُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ.
قَالَ: كنَّا نَتَحَدَّثُ أنَّ أصحاب بدر ثلثمائة ويضع عشرة عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَمَا جَاوَزَهُ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ (3) .
وَلِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْهُ.
قَالَ: اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا على ستين، والأنصار نيفاً وأربعون ومائتان (4) .
وروى الإمام أحمد: عن نصر بن رئاب عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَدْرٍ ثلثمائة وثلاثة عشر، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ سِتَّةً وَسَبْعِينَ وَكَانَ هَزِيمَةُ أَهْلِ بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) [الأنفال: 43] الْآيَةَ.
وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَقِيلَ إِنَّهُ نَامَ فِي الْعَرِيشِ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ، فَدَنَا الْقَوْمُ مِنْهُمْ فَجَعَلَ الصِّدِّيقُ يُوقِظُهُ وَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَنَوْا مِنَّا فَاسْتَيْقِظْ، وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا.
ذَكَرَهُ الْأُمَوِيُّ (5) وَهُوَ غريب جداً.
وقال تعالى:
__________
(1) تحادك: تعاديك.
(2) أحنهم: أي أهلكهم.
(3) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 6 باب عدة أصحاب بدر ح 3959 وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجهاد عن أبي عامر العقدي.
(4) رواه البخاري من طريقين فتح الباري 64 كتاب المغازي 6 باب ح 3958، 7 / 290 عن مسلم بن إبراهيم، وعن ابن أبي شيبة فتح الباري 7 / 391.
(5) نقله البيهقي في الدلائل 3 / 113.
(*)(3/328)
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) [الأنفال: 44] .
فَعِنْدَمَا تَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ قَلَّلَ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمَا فِي أَعْيُنِ الْآخَرِينَ لِيَجْتَرِئَ هَؤُلَاءِ عَلَى
هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَلَيْسَ هَذَا معارض لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ) فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْكَافِرَةَ تَرَى الْفِرْقَةَ الْمُؤْمِنَةَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْكَافِرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَذَلِكَ عِنْدَ التحام الحرب والمسابقة (1) أَوْقَعَ اللَّهُ الْوَهَنَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَاسْتَدْرَجَهُمْ أَوَّلًا بِأَنْ أَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ قَلِيلًا، ثُمَّ أَيَّدَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ فَجَعَلَهُمْ فِي أَعْيُنِ الْكَافِرِينَ عَلَى الضِّعْفِ مِنْهُمْ حَتَّى وَهَنُوا وَضَعُفُوا وَغُلِبُوا.
وَلِهَذَا قَالَ: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) .
قَالَ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عبيد (2) وعبد الله [قال] : لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ فَقَالَ أَرَاهُمْ مِائَةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: لَمَّا اطْمَأَنَّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيَّ فَقَالُوا: احْزُرْ لَنَا الْقَوْمَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، قَالَ فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ (3) رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا، أَوْ يَنْقُصُونَ وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتَّى أَنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ.
قَالَ: فَضَرَبَ فِي الْوَادِي حَتَّى أَبْعَدَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، وَلَكِنْ قَدْ رَأَيْتُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ الْبَلَايَا (4) تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحَ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ قَوْمٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بعد ذلك فروا رأيكم [يا معشر قريش] (5) ؟ فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى فِي النَّاسِ، فَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، وَالْمُطَاعُ فِيهَا، هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ لَا تَزَالَ تُذْكَرُ فِيهَا بِخَيْرٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ؟ قَالَ وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ؟ قَالَ تَرْجِعُ بِالنَّاسِ وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِكَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
أَنْتَ عليَّ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَلِيفِي فعليَّ عَقْلُهُ وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ.
فَأْتِ ابْنَ الْحَنْظَلِيَّةِ (6) - يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - فَإِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ (7) أَمْرَ النَّاسِ غيره، ثم قام عتبة
__________
(1) في الاصل: السابقة وهو تحريف.
(2) في دلائل البيهقي ج 3 / 67: أبي عبيد.
(3) في رواية البيهقيّ: عنه: ثلاثمائة وخمسون.
(4) البلايا: جمع بلية، قيل هي الناقة أو الدابة تربط على قبر الميت فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت.
وفي ابن الاثير: الولايا وهي جمع ولية: البرذعة.
(5) من دلائل البيهقي 3 / 65 والخبر في سيرة ابن هشام 2 / 274 وكامل ابن الاثير 2 / 123.
(6) قال ابن هشام: الحنظلية أم أبي جهل، وهي أسماء بنت مخربة أحد بني نهشل بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ = (*)(3/329)
خَطِيبًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلْقَوْا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَاللَّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ - أَوِ ابْنَ خَالِهِ - أَوْ رَجُلًا من عشيرته فارجوا وَخَلُّوا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ أَلْفَاكُمْ وَلَمْ تَعَرَّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ.
قَالَ حَكِيمٌ: فَانْطَلَقْتُ حتَّى جِئْتُ أَبَا جَهْلٍ، فوجدته قد نثل درعاً فَهُوَ يُهَنِّئُهَا (1) فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا الْحَكَمِ إِنَّ عُتْبَةَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ بِكَذَا وَكَذَا.
فَقَالَ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سِحْرُهُ حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةَ جَزُورٍ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ فَقَدْ تَخَوَّفَكُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ.
فَقَالَ: هَذَا حَلِيفُكَ يُرِيدُ أن يرجع الناس، وَقَدْ رَأَيْتُ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أَخِيكَ، فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فَاكْتَشَفَ ثُمَّ صَرَخَ: وَاعَمْرَاهُ وَاعَمْرَاهُ.
قَالَ: فَحَمِيَتِ الْحَرْبُ وَحَقِبَ أَمْرُ النَّاسِ وَاسْتَوْثَقُوا (2) عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ وَأَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ الرَّأْيَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ عُتْبَةُ.
فَلَمَّا بَلَغَ عُتْبَةُ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ انْتَفَخَ وَاللَّهِ سِحْرُهُ قَالَ: سَيَعْلَمُ مُصَفِّرُ اسْتِهِ مَنِ انْتَفَخَ سِحْرُهُ أَنَا أَمْ هُوَ، ثُمَّ الْتَمَسَ عُتْبَةُ بَيْضَةً لِيُدْخِلَهَا فِي رَأْسِهِ فَمَا وَجَدَ فِي الْجَيْشِ بَيْضَةً تَسَعَهُ مِنْ عِظَمِ رَأْسِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ اعْتَجَرَ عَلَى رَأْسِهِ بِبُرْدٍ لَهُ (3) .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ: مِنْ طَرِيقِ مُسَوَّرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْيَرْبُوعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ إِذْ دَخَلَ حَاجِبُهُ فَقَالَ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَسْتَأْذِنُ،
قَالَ: ائْذَنْ لَهُ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: مَرْحَبًا يَا أَبَا خَالِدٍ ادْنُ، فَحَالَ عَنْ صَدْرِ الْمَجْلِسِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوِسَادَةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: حَدِّثْنَا حَدِيثَ بَدْرٍ.
فَقَالَ: خَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْجُحْفَةِ رَجَعَتْ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا فَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْ مُشْرِكِيهِمْ بَدْرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى نَزَلْنَا الْعُدْوَةَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَجِئْتُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ يَا أَبَا الْوَلِيدِ هَلْ لَكَ فِي أَنْ تَذْهَبَ بِشَرَفِ هَذَا الْيَوْمَ مَا بَقِيتَ؟ قَالَ أَفْعَلُ مَاذَا؟ قُلْتُ إِنَّكُمْ لَا تَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا دَمَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَهُوَ حَلِيفُكَ، فَتَحَمَّلْ بِدِيَتِهِ وَيَرْجِعُ النَّاسُ.
فَقَالَ أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ وَاذْهَبْ إِلَى ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ - يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - فَقُلْ لَهُ هَلْ لَكَ أَنْ تَرْجِعَ الْيَوْمَ بِمَنْ مَعَكَ عَنِ ابْنِ عَمِّكَ؟ فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَإِذَا ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: فَسَخْتُ عَقْدِي مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ، وَعَقْدِي الْيَوْمَ إِلَى بَنِي مَخْزُومٍ فَقُلْتُ لَهُ: يَقُولُ لَكَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ هَلْ لَكَ أَنْ تَرْجِعَ اليوم بِمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ أَمَا وَجَدَ رَسُولًا غَيْرَكَ؟ قُلْتُ: لَا! وَلَمْ أَكُنْ لِأَكُونَ رَسُولًا لِغَيْرِهِ.
قال حكيم: فخرجت مبادرا إلى
__________
= مالك بن زيد بن مناة بن تميم.
(7) من ابن هشام وفي الاصل: يسجر.
(1) يهنها: أي يتفقدها قاله أبو ذر.
وفي الكامل لابن الاثير: يهيئها: يتفقدها ويصلحها (2) في ابن هشام: استوسقوا: اجتمع أمرهم.
(3) سيرة ابن هشام 2 / 275 والبيهقي في الدلائل 3 / 65 وابن الاثير 2 / 124.
(*)(3/330)
عتبة لئلا يفوتني من الخبر شئ وَعُتْبَةُ مُتَّكِئٌ عَلَى إِيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ الْغِفَارِيِّ، وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر.
فطلع أبو جهل الشر فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لِعُتْبَةَ: انْتَفَخَ سِحْرُكَ؟ فَقَالَ لَهُ عُتْبَةُ: سَتَعْلَمُ، فسلَّ أَبُو جَهْلٍ سَيْفَهُ فَضَرَبَ بِهِ مَتْنَ فَرَسِهِ، فَقَالَ إِيمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ بِئْسَ الْفَأْلُ هَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَامَتِ الْحَرْبُ (1) .
وَقَدْ صَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وعباهم أحسن تعبية فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَالَ: صَفَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ لَيْلًا.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ أَسْلَمَ أَبَا عِمْرَانَ حَدَّثَهُ أنه سمع أبا أيوب يقول: صَفَّنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَبَدَرَتْ مِنَّا بَادِرَةٌ أَمَامَ الصَّفِّ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَعِي مَعِي " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حَبَّانُ بْنُ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّلَ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ يُعَدِّلُ بِهِ الْقَوْمَ، فمرَّ بِسَوَادِ بن غزية حليف بني عدي ابن النَّجَّارِ وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ مِنَ الصَّفِّ، فَطَعَنَ فِي بطنه بالقدح وقال " استويا سَوَادُ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَأَقِدْنِي فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ فَقَالَ: اسْتَقِدْ، قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَ بَطْنَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يمسَّ جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير صلى الله عليه وسلم وَقَالَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ الْحَارِثِ - وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ - قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: " غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا " فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَهَا، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَدَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّفُوفَ وَرَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَغَيْرُهُ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَدْهَمَهُ الْعَدُوُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْجَنَائِبُ النَّجَائِبُ مُهَيَّأَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ احْتَاجَ إِلَيْهَا رَكِبَهَا وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا أَشَارَ بِهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاس؟ فَقَالُوا أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ أَمَا إِنِّي مَا بَارَزَنِي أَحَدٌ إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، إِنَّا جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشًا فَقُلْنَا مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ من المشركين، فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا أَهْوَى إِلَيْهِ فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ.
قَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذته قريش فهذا يحاده، وَهَذَا يُتَلْتِلُهُ وَيَقُولُونَ أَنْتَ جَعَلْتَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أبو بكر يضرب ويجاهد هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ثم
__________
(1) تاريخ الطبري ج 2 / 278.
(*)(3/331)
رَفَعَ عَلِيٌّ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: فَوَاللَّهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مَلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ للصديق حيث هو مع الرسول فِي الْعَرِيشِ كَمَا كَانَ مَعَهُ فِي الْغَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الِابْتِهَالَ وَالتَّضَرُّعَ وَالدُّعَاءَ وَيَقُولُ فِيمَا يَدْعُو بِهِ " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ " وَجَعَلَ يهتف بربه عزوجل وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِزَ لِي مَا وَعَدْتِنِي، اللَّهُمَّ نَصْرَكَ " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ.
وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْتَزِمُهُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُسَوِّي عَلَيْهِ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ مُشْفِقًا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الِابْتِهَالِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
هَكَذَا حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ الصِّدِّيقَ إِنَّمَا قَالَ بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ مِنْ بَابِ الْإِشْفَاقِ لِمَا رَأَى مِنْ نَصَبِهِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ: بَعْضَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ لِمَ تُتْعِبُ نَفْسَكَ هَذَا التَّعَبَ وَاللَّهُ قَدْ وَعَدَكَ بِالنَّصْرِ، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَقِيقَ الْقَلْبِ شَدِيدَ الْإِشْفَاقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ بأنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ وَالصِّدِّيقُ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ وَكَانَ مَقَامُ الْخَوْفِ فِي هَذَا الْوَقْتِ - يَعْنِي أَكْمَلَ - قَالَ لِأَنَّ لِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ فَخَافَ أَنْ لَا يُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَهَا، فَخَوْفُهُ ذَلِكَ عِبَادَةٌ.
قُلْتُ وأمَّا قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ إِنَّ هَذَا الْمَقَامَ فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ يَوْمَ الْغَارِ فَهُوَ قَوْلٌ مردود على قائله إذ لم يتذكر هَذَا الْقَائِلُ عَوَرَ مَا قَالَ وَلَا لَازِمَهُ وَلَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا وَقَدْ تَوَاجَهَ الْفِئَتَانِ وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ وَحَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ وَاسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَضَجَّ الصَّحَابَةُ بِصُنُوفِ الدُّعَاءِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ والسَّماء سَامِعِ الدُّعَاءِ وَكَاشِفِ الْبَلَاءِ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَجُلًا
شرساً سئ الْخُلُقِ فَقَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ أَوْ لَأَهْدِمَنَّهُ أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ خَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَأَطَنَّ (1) قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ وَهُوَ دُونَ الْحَوْضِ فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخُبُ رِجْلُهُ دَمًا نَحْوَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ حَبَا إِلَى الْحَوْضِ حَتَّى اقْتَحَمَ فِيهِ يُرِيدُ - زَعَمَ - أَنْ تبر يَمِينَهُ (2) وَاتَّبَعَهُ حَمْزَةُ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ.
قَالَ الْأُمَوِيُّ: فَحَمِيَ عِنْدَ ذَلِكَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ شَجَاعَتَهُ، فَبَرَزَ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ دَعَوْا إِلَى الْبِرَازِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فتية من الأنصار ثلاثة وهم عوف ومعاذ ابنا الحارث وأمهما عفراء،
__________
(1) أطن: أطار (شرح أبي ذر) .
(2) في الواقدي: زحف الاسود حتى وقع في الحوض فهدمه برجله الصحيحة، وشرب منه.
وقال موسى بن عقبة في روايته: فأقبل يحبو حتى وقع في جوف الحوض فهدم منه واتبعه حمزة حتى قتله (أنظر دلائل البيهقي 3 / 113 - مغازي الواقدي 1 / 68) .
(*)(3/332)
وَالثَّالِثُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (1) - فِيمَا قِيلَ - فَقَالُوا مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.
فقالوا مالنا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ وَلَكِنْ أَخْرِجُوا إِلَيْنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا، وَنَادَى مُنَادِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ " وَعِنْدَ الْأُمَوِيِّ أَنَّ النَّفَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ لَمَّا خَرَجُوا كَرِهَ (2) ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَوْقِفٍ وَاجَهَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَاءَهُ فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ فَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ وَأَمَرَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ بِالْخُرُوجِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا مَنْ أَنْتُمْ؟ - وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا مُلَبَّسِينَ لَا يُعْرَفُونَ مِنَ السِّلَاحِ - فَقَالَ عُبَيْدَةُ: عُبَيْدَةُ، وَقَالَ حَمْزَةُ: حَمْزَةُ، وقال علي: علي.
قالوا نعم! كفاء كِرَامٌ.
فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ، عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ.
فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِلِ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا بِضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، وكرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفَّفَا عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا
فَحَازَاهُ إِلَى أصحابهما (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في ربهم) [الحج: 19] نزلت في حمزة وصاحبه، وعتبة وصاحبه يَوْمَ بَرَزُوا فِي بَدْرٍ (4) .
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حجَّاج بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبِي ثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ عزوجل فِي الْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نزلت: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في ربهم) قَالَ هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ (5) .
وَقَدْ أَوْسَعْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ.
قَالَ: بَرَزَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ حَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَعَلِيٌّ.
فَقَالُوا تَكَلَّمُوا نَعْرِفْكُمْ.
فَقَالَ حَمْزَةُ: أَنَا أسد الله وأسد رسول الله أنا حمزة بن عبد المطلب.
فقال كفؤ
__________
(1) قال الواقدي: الثبت عندنا، بنو عفراء الثلاثة: معاذ ومعوذ وعوف.
(2) في الواقدي وابن سعد: استحيى من ذلك.
(3) في ابن هشام: إلى أصحابه.
وقال ابن الأثير في تاريخه: وقد قطعت رجله، فلما أَتَوْا بِهِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ألست شهيدا يا رسول الله؟ قال: بلى.
(4) أخرجه البخاري في كتاب التفسير 3 باب (هذان خصمان..) فتح الباري 8 / 443.
(5) أخرجه البخاري عن محمد بن عبد الله الرقاشي عن معتمر في كتاب المغازي باب قتل أبي جهل.
(*)(3/333)
كَرِيمٌ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رسول الله، وَقَالَ عُبَيْدَةُ: أَنَا الَّذِي فِي الْحُلَفَاءِ (1) ، فَقَامَ كُلُّ رَجُلٍ إِلَى رَجُلٍ فَقَاتَلُوهُمْ فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ.
فقالت هند [بنت عتبة] في ذلك: أعيني جودي بِدَمْعٍ سَرِبْ * عَلَى خَيْرِ خِنْدِفَ لَمْ يَنْقَلِبْ (2)
تَدَاعَى لَهُ رَهْطُهُ غُدْوَةً * بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبْ يُذِيقُونَهُ حَدَّ أَسْيَافِهِمْ * يَعُلُّونَهُ بعدُ مَا قَدْ عطب (3) ولها نَذَرَتْ هِنْدُ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ كَبِدِ حَمْزَةَ.
قُلْتُ: وَعُبَيْدَةُ هَذَا هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ المطلب بن عبد مناف ولما جاؤا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْجَعُوهُ إِلَى جَانِبِ مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأشرفه (4) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَمَهُ فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى قَدَمِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَآنِي أَبُو طَالِبٍ لَعَلِمَ أني أحق بقوله: ونسلمه حتى نصرع دونه * وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ (5) ثُمَّ مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْهَدُ أَنَّكَ شَهِيدٌ " رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِهْجَعٌ (6) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ، ثُمَّ رُمِيَ بَعْدَهُ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ نَحْرَهُ فَمَاتَ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ حارثة بن سراقة قتل
__________
(1) في الواقدي: وقال عتبة: وأنا أسد الحلفاء..يعني بالحلفاء الاجمة.
علق ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 334 قال: قد رويت هذه الكلمة على صيغة أخرى " وأنا أسد الحلفاء " وروى " وأنا أسد الاحلاف " أراد أنه سيد حلف المطيبين.
ورد قوم هذا التأويل فقالوا: إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء ولا الاحلاف، وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم.
وقال قوم: إنما عنى حلف الفضول وكان بعد حلف المطيبين، بزمان وهذا التفسير بعيد وغير صحيح لان بني عبد شمس لم يكونوا في حلف الفضول.
فقد بان أن ما ذكره الواقد أصح وأنبت.
(2) في رواية البيهقيّ: أيا عيني بدل أعيني.
(3) البيت في رواية ابن عقبة: يذيقونه حر أسيافهم.
يعلونه بعدُ ما قَدْ ضرب (4) في السيرة الحلبية وانسان العيون: فأفرشه.
(5) في الواقدي وابن الاثير: حوله بدلا من دونه.
وقبله في الواقدي: كذبتم وبيت الله نخلى محمداً * ولما نطاعن دونه ونناظل (6) في ابن سعد: قتله عامر بن الحضرمي.
وكان حارثة أول قتيل من الانصار قتله حبان العرقة.
ويقال عمير بن الحمام وقد قتله خالد بن الاعلم العقيلي.
وفي رواية ابن عقبة ان عمير أول قتيل قتل (دلائل البيهقي 3 / 113 - ابن سعد 2 / 12، ابن الاثير 2 / 126.
(*)(3/334)
يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ فِي النَّظَّارَةِ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ حَارِثَةَ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِلَّا فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ - يَعْنِي مِنَ النِّيَاحِ - وَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم " وَيْحَكَ أَهَبِلْتِ، إِنَّهَا جِنَانٌ ثَمَانٍ وَإِنَّ ابْنَكَ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَزَاحَفَ النَّاسُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
وقد (1) أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَحْمِلُوا حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، وَقَالَ إِنِ اكْتَنَفَكُمُ الْقَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ.
قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ إِذَا أَكْثَبُوكُمْ - يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فَارْمُوهُمْ وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ (2) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ (3) إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج يا بني عبد الله وشعار الأوس يا بني عبيد الله، وسمى خيله خيل الله.
قال ابن هشام: كان شِعَارُ الصَّحَابَةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله عنه - يعني وهو يستغيث الله عزوجل - كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بشرى لكم وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 9 - 10] .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قُرَادٌ، ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ
بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْقِبْلَةَ وَعَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَإِزَارُهُ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنَّ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا تُعْبَدُ بَعْدُ فِي الْأَرْضِ أبداً " فما زال يستغيث بربه وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ.
فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّهُ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَاكَ (4) مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9] وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي (5) وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 10 باب فتح الباري 7 / 306 وأخرجه أبو داود في الجهاد وأحمد في مسنده 3 / 498.
(2) من دلائل البيهقي، وفي الاصل أبي وهو تحريف.
وفيه: ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عروة عن عروة بن الزبير.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل: وقال وهو تحريف.
(4) في الاصل ورواية البيهقي: كذلك والتصحيح من مسند أحمد.
(5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ج 1 / 30 ومسلم في كتاب الجهاد (32) (18) باب الامداد بالملائكة ح (58) ص 3 / 1383 والبيهقي في الدلائل 3 / 51.
(*)(3/335)
وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الْيَمَانِيِّ وَصَحَّحَهُ عَلِيُّ ابن الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابن عباس والسدي وابن جرير وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي دُعَاءِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَجُّوا إلى الله عزوجل في الاستغانة بِجَنَابِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (بِأَلْفٍ مِنَ الملائكة مردفين) أَيْ رِدْفًا لَكُمْ وَمَدَدًا لِفِئَتِكُمْ رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو كدينة عن قابوس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (مُرْدِفِينَ) وَرَاءَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ (مُرْدِفِينَ) بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ وَكَذَا قَالَ أَبُو ظَبْيَانَ وَالضَّحَاكُ وَقَتَادَةُ.
وَقَدْ رَوَى
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةِ مُجَنِّبَةٍ، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنِّبَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهري، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعُزَيْزِ بن عمران عن الربعي، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ.
قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ من الملائكة على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيهما أَبُو بَكْرٍ، وَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الملائكة على مَيْسَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَةِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ فَزَادَ: وَنَزَلَ إِسْرَافِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ طَعَنَ يومئذٍ بِالْحَرْبَةِ حَتَّى اخْتَضَبَتْ إِبِطُهُ مِنَ الدِّمَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ نَزَلَتْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ وَيُؤَيِّدُهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدَفِينَ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ (1) بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، حدَّثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَوْهَبٍ، أخبرني إسماعيل بن عوف (2) بن عبد اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ [عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (3) قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَاتَلْتُ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ جِئْتُ مُسْرِعًا لِأَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ، قَالَ: فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ " لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا فَرَجَعْتُ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَذَهَبْتُ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ (4) .
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المجيد أبي علي الحنفي.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ مَا سمعت مناشداً ينشد [حقاً له] (5) أشد من مناشدة
__________
(1) في البيهقي: عبد الله.
(2) في البيهقي: إسماعيل بن عون عن عبيد الله، وفي ابن سعد: اسماعيل بن عون بن عبيد الله.
(3) من البيهقي.
(4) دلائل النبُّوة للبيهقي ج 3 / 49.
والخبر في طبقات ابن سعد 2 / 26.
(5) من دلائل البيهقي ج 2 / 50.
(*)(3/336)
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، جَعَلَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ " ثُمَّ الْتَفَتَ وَكَأَنَّ شِقَّ وَجْهِهِ الْقَمَرُ.
وَقَالَ " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ عَشِيَّةً " (1) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ لَمَّا الْتَقَيْنَا يَوْمَ بَدْرٍ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْتُ مُنَاشِدًا يَنْشُدُ حَقًّا لَهُ أَشَدَّ مُنَاشَدَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره.
وقد ثبت إخباره عليه السلام بمواضع مصارع رؤوس الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا تقدَّم، وَسَيَأْتِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَمُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْوَقْعَةِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ عَنْ أَنَسٍ وَعُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ بِأَنْ يُخْبِرَ بِهِ قبل بِيَوْمٍ وَأَكْثَرَ، وَأَنْ يُخْبِرَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَاعَةٍ يَوْمَ الْوَقْعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ (2) : مِنْ طُرُقٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: " اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، الله إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا " فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر: 45 - 46] وهذه الآية مكية وقد جاء تصديقها يوم بدر كما رواه ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبي ثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أيوب عن عكرمة قال لما نزلت: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قَالَ عُمَرُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ وَأَيُّ جَمْعٍ يُغْلَبُ؟ قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) فَعَرَفْتُ تَأْوِيلَهَا يومئذٍ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَانَ سَمِعَ عائشة تقول نزل على محمد بِمَكَّةَ - وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ - (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاشِدُ رَبَّهُ مَا وَعَدَهُ مِنَ النَّصْرِ وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدُ " وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ
فَإِنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ، وَقَدْ خَفَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [خَفْقَةً] (3) وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ: " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ " يَعْنِي الْغُبَارَ.
قَالَ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ فَحَرَّضَهُمْ.
وَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجنَّة " قال عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ وَفِي يَدِهِ تَمَرَاتٌ يَأْكُلُهُنَّ: بخٍ بخٍ أَفَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَنِي هؤلاء؟
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 3 / 50 ومسلم مطولا في 32 كتاب الجهاد (18) باب الامداد بالملائكة في غزوة بدر ح 58 وأحمد في مسنده 1 / 30 - 32.
(2) في 65 كتاب التَّفسير - تفسير سورة القمر (5) باب قوله: (سيهزم الجمع) ح 4875 فتح الباري 8 / 619 وأخرجه في كتاب الجهاد.
باب: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلَّم.
وفي كتاب المغازي باب: إذ تستغيثون ربكم.
(3) من ابن إسحاق، وخفق: نام نوما سريعا.
(*)(3/337)
قال: ثم قذف الثمرات مِنْ يَدِهِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هاشم بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ.
قَالَ: بُعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبساً (2) عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَدْرِي مَا اسْتَثْنَى مِنْ بَعْضِ نِسَائِهِ، قَالَ فحدثه الحديث.
قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظهره حاضر فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا " فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهُورِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ قَالَ " لَا إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا " وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يتقد من أحد منكم إلى شئ حتى أكون أنا دون " فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قوموا إلى جنة عرضها السموات وَالْأَرْضُ " قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ يا رسول الله جنة عرضها السموات وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ بخٍ بخٍ؟ فَقَالَ رسول الله: " ما يحملك على قول بخٍ بخٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنَ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنَ أَهْلِهَا " قَالَ فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ
فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: لئن أنا حييت حتى آكل ثمراتي هَذِهِ إِنَّهَا حَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ فَرَمَى مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ (3) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شيبة وَجَمَاعَةٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ (4) أَنَّ عُمَيْرًا قَاتَلَ وَهُوَ يَقُولُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادِ * إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ * وَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدَّثنا حَجَّاجٌ، حدَّثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عن علي.
قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتو يناها (5) وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحيز (6) عَنْ بَدْرٍ فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بدر - وبدر
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 2 / 279.
(2) عند مسلم: بسيسة، وفي كتب السيرة بسبس وهو بسبس بن عمرو، ويقال ابن بشر من الانصاري.
قال النووي: يجوز أن يكون أحد اللفظين اسما له، والآخر لقبا.
(3) ورواه البيهقي من طريق أبي النضر 3 / 68 ومسلم في 33 كتاب الامارة 41 باب ثبوت الجنة ح 145 ص 1509 وأبو داود مختصرا في كتاب الجهاد باب بعث العيون عن هارون بن عبد الله.
(4) تاريخ الطبري ج 2 / 281.
(5) اجتويناه: أصابنا الجوى، وهو المرض والتعب والارهاق، وقد أصاب بعض الصحابة مرض من جو المدينة بعد الهجرة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا للمدينة وأهلها.
(6) في البيهقي: يتخبر: أي يتعرف.
(*)(3/338)
بِئْرٌ - فَسَبَقْنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ: رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط فأما القرشي فانفلت، وأما المولى فوجدناه فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ كَمِ الْقَوْمُ؟ فَيَقُولُ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ
شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ كَمِ الْقَوْمُ؟ قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ.
فَجَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى ثُمَّ إِنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ الْجُزُرِ فَقَالَ عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْقَوْمُ أَلْفٌ، كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ وَتَبَعِهَا " (1) ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنْ مَطَرٍ فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ (2) نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبَّهُ وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْفِئَةَ لَا تُعْبَدُ " فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى الصَّلَاةَ عِبَادَ اللَّهِ (3) فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرَّض عَلَى الْقِتَالِ ثُمَّ قَالَ " إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلَعِ الْحَمْرَاءِ مِنَ الْجَبَلِ " فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ إِذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا علي ناد حَمْزَةَ " وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ يَنْهَى عَنِ الْقِتَالِ وَيَقُولُ لهم يا قوم أعصبوها بِرَأْسِي وَقُولُوا جَبُنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ (4) .
فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ وَاللَّهِ لَوْ غيرك يقوله لا عضضته (5) قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا.
فَقَالَ: إِيَّايَ تعير يا مصفر استه (6) ؟ سيعلم الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ فَبَرَزَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ حَمِيَّةً فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ فَخَرَجَ فتية من الأنصار مشببة فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز مِنْ بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قم يا حمزة، وقم يا علي، وَقُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ " فَقَتَلَ اللَّهُ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وأسرنا سبعين وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأنصار بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ العبَّاس: يا رسول الله والله إن هذا مَا أَسَرَنِي لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ مَا أُرَاهُ فِي الْقَوْمِ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: " اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ " قَالَ: فَأَسَرْنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَبَّاسَ وَعَقِيلًا وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ هَذَا سِيَاقٌ حَسَنٌ وَفِيهِ شَوَاهِدُ لِمَا تَقَدَّمَ ولما سيأتي.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 86 و 126 و 1 / 156 دون ذكر بدر.
ورواه البيهقي من طريق الحسن بن محمد الزعفراني وفيه: أخذنا رجلين: أحدهما عربي والآخر مولى.
وروى ابن هشام بنحوه في السيرة 2 / 255 - 256.
(2) في رواية البيهقيّ: والجحف.
(3) في رواية البيهقيّ: الصلاة جامعة.
(4) زاد البيهقي، يَا قَوْمِ إِنِّي أرى أقواما مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير.
(5) أي قلت له: أعضض بأير أبيك.
(6) يا مصفر استه: قال في النهاية: رماه بالابنة، وانه كان يزعفر استه! وقيل كلمة تقال للمتنعم المترف الذي لم تحنكه التجارب.
(*)(3/339)
وَقَدْ تَفَرَّدَ بِطُولِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (1) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِهِ، وَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرِيشِ وحرَّض النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ وَالنَّاسُ على مصافهم صابرين ذاكرين الله كثير كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا لَهُمْ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: 45] .
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَالَ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ يُقَالُ قَلَّمَا ثَبَتَ قَوْمٌ قِيَامًا، فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَجْلِسَ أَوْ يَغُضَّ طَرْفَهُ وَيَذْكُرَ اللَّهَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الرِّيَاءِ.
وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَصْحَابِهِ: أَلَّا تَرَوْنَهُمْ - يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِثِيًّا عَلَى الرُّكَبِ كَأَنَّهُمْ حَرَسٌ يَتَلَمَّظُونَ كَمَا تَتَلَمَّظُ الْحَيَّاتُ - أَوْ قَالَ الْأَفَاعِي -.
قَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: وَقَدْ كَانَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حرَّض الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ قَدْ نَفَلَ كُلَّ امْرِئٍ مَا أَصَابَ.
وَقَالَ " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ [فَيُقْتَلُ] صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ " وَذَكَرَ قِصَّةَ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ كَمَا تقدَّم، وَقَدْ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ قِتَالًا شَدِيدًا بِبَدَنِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَمَا كَانَا فِي الْعَرِيشِ يُجَاهِدَانِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، ثُمَّ نَزَلَا فَحَرَّضَا وَحَثَّا عَلَى الْقِتَالِ وَقَاتِلَا بِالْأَبْدَانِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
أَقْرَبُنَا مِنَ الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يومئذٍ بَأْسًا.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ اتَّقينا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ عَلِيٍّ.
قَالَ: قِيلَ لَعَلِيٍّ وَلِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ بَدْرٍ: مَعَ أَحَدِكُمَا جِبْرِيلُ وَمَعَ الْآخَرِ مِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ يَشْهَدُ الْقِتَالَ وَلَا يُقَاتِلُ - أَوْ قَالَ يَشْهَدُ الصَّفَّ (3) - وَهَذَا يُشْبِهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ فِي الْمَيْمَنَةِ وَلَمَّا تَنَزَّلَ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ تَنْزِيلًا كَانَ جِبْرِيلُ عَلَى أَحَدِ الْمُجَنِّبَتَيْنِ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ فِي الْمَيْمَنَةِ مِنْ نَاحِيَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ مِيكَائِيلُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَوَقَفُوا فِي المسيرة وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِيهَا (4) وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عَلِيٍّ.
قَالَ: كنت أسبح عَلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ فَجَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ ثم
__________
(1) الحديث بطوله في مسند أحمد 1 / 117 وذكره الهيثمي في الزوائد 6 / 75 وقال: رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة.
وروى أبو داود بعضه في كتاب الجهاد باب: في المبارزة.
(2) مسند أحمد 1 / 126 وأعاده في 1 / 156 واختصره في 1 / 86.
(3) مسند أحمد 2 / 255 ونقله السيوطي في الخصائص الكبرى 1 / 201 والصالحي في السيرة الشامية وعزاه للامام أحمد والبزار والحاكم: في 4 / 63.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 3 / 55 وأبو يعلى والحاكم عن علي رضي الله عنه.
وذكره الهيثمي في الزوائد 6 / 77 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات، ونقله الصالحي في السيرة الشامية 4 / 61.
(*)(3/340)
أُخْرَى ثمَّ أُخْرَى فَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَوَقَفَ عَلَى يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَاكَ أَبُو بَكْرٍ، وَإِسْرَافِيلُ فِي أَلْفٍ فِي الْمَيْسَرَةِ وَأَنَا فِيهَا، وجبريل في ألف قال ولقد طفت يومئذٍ حتى بلغ إِبِطِي وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْعِقْدِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَفْخَرَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَكُفُّ مَطِيَّهُمْ * جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حدَّثنا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ
مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ - قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَقَالَ مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - قَالَ وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ - يعني الرؤس - وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ.
قال: بينما رجل من المسلمين يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتُ الْفَارِسِ [يَقُولُ:] أَقْدِمْ حَيْزُومُ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ قَدْ خرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هو حطم [أنفه] وشق وجهه كضربة السوط واخضر (1) ذَلِكَ أَجْمَعُ فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ ذَاكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ " فَقَتَلُوا يومئذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ (2) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عمَّن حدَّثه عَنِ ابْنِ عبَّاس عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ.
قَالَ: حَضَرْتُ أَنَا وَابْنُ عم لي بدراً ونحن على شركنا، وإنا لَفِي جَبَلٍ (3) نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدائرة (4) ، فَأَقْبَلَتْ سَحَابَةٌ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ الْجَبَلِ سَمِعْنَا منها حمحمة الخيل، وسمعنا قائلاً يقول: (قدم حَيْزُومُ، فَأَمَّا صَاحِبِي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ مكانه، وأما أنا لكدت أَنْ أَهْلِكَ ثُمَّ انْتَعَشْتُ (5) .
بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر عن بعض
__________
(1) واخضر: من مسلم، وفي الاصل وحضر وهو تحريف.
(2) رواه مسلم في 32 كتاب الجهاد (28) باب: الامداد بالملائكة في غزوة بدر ح 58 ص 1383.
- حيزوم: اسم فرس الملك، وهو منادى بحذف حرف النداء، أي: يا حيزوم.
- أبو زميل: وهو سماك الحنفي.
- ما بين معكوفين في الحديث من صحيح مسلم.
(3) الخبر في الواقدي 1 / 76: ونحن على احدى عجمتي بدر العجمة الشامية - العجمة من رمل.
(4) في ابن هشام: الدبرة، وهي الدائرة.
(5) العبارة في ابن هشام وأبي نعيم والواقدي: وأما أنا فكدت أن أهلك ثم تماسكت.
(*)(3/341)
بَنِي سَاعِدَةَ (1) ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ - وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا - قَالَ - بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - لَوْ كُنْتُ الْيَوْمَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ (2) الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ لَا أَشُكُّ فِيهِ وَلَا أَتَمَارَى.
فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ وَرَآهَا إِبْلِيسُ وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ: (أَنِّي معكم فثبتوا الذي آمَنُوا) .
وتثبتهم أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَأْتِي الرَّجُلَ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ أَبْشِرُوا فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بشئ والله معكم كروا عليهم.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدَ (3) بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمَلَكُ يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ من يعرفون [من الناس يثبتونهم] (4) فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ دَنَوْتُ مِنْهُمْ وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشئ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية [الانفال: 12] .
وَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ الْمَلَائِكَةَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وقال: إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون وَهُوَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ يحرِّض أَصْحَابَهُ وَيَقُولُ: لَا يَهُولَنَّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَوْعِدٍ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا نَرْجِعُ حَتَّى نُفَرِّقَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي الْجِبَالِ (5) فَلَا تقتلوهم وخذوهم أخذاً.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ سَلَامَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ - بَعْدَمَا ذَهَبَ بَصَرُهُ - يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ بِبَدْرٍ ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّهُ بَصَرِي لَأَرَيْتُكَ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَمَارٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ (6) عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ " هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ وَعَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ ".
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عباس وَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ عَنْ أبيه.
وحدثني عابد (7) بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ
عَنْ عُمَارَةَ بن أكيمة الليثي عن عكرمة عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالُوا: لَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) روى الخبر البيهقي في الدلائل 3 / 53 عن سهل بن سعد عن أبي أسيد الساعدي وذكره.
(2) في الواقدي: وهو الملص، وهو موضع بعينه، أنشد أبو حنيفة: اللسان 7 / 95.
فما زال يسقى بطن ملص وعرعرا * وأرضهما حتى أطمأن جسيمها (3) من الواقدي 1 / 79 وفي نسخ البداية المطبوعة: دواد، وهو تحريف.
(4) من الواقدي.
(5) عبارة البيهقي: حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال.
(6) في 64 كتاب المغازي (11) باب ح 3995 فتح الباري 7 / 312.
(7) في الواقدي: عائذ بن يحيى.
الخبر في المغازي ج 1 / 81: وفيه عُمَارَةَ بْنِ أُكَيْمَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وسقط من الاسناد اسم: عكرمة.
(*)(3/342)
رَافِعٌ يَدَيْهِ يَسْأَلُ اللَّهَ النَّصْرَ وَمَا وَعَدَهُ يَقُولُ " اللَّهُمَّ إِنْ ظَهَرُوا عَلَى هَذِهِ الْعِصَابَةِ ظَهَرَ الشِّرْكُ وَلَا يَقُومُ لَكَ دِينٌ " وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّكَ اللَّهُ وَلَيُبَيِّضَنَّ وَجْهَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ عِنْدَ اكتناف الْعَدُوِّ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ تغيَّب عَنِّي سَاعَةً ثُمَّ طَلَعَ وَعَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ يَقُولُ أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ إِذْ دَعَوْتَهُ ".
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ إِلَى رَأْسِ الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ (1) .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَالِدِي، حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَازِنٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ (2) اللَّيْثِيِّ قَالَ: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ المشركين لِأَضْرِبَهُ فَوَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي فَعَرَفْتُ أَنَّ غَيْرِي قَدْ قَتَلَهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.
قَالَ: كان الناس [يوم بدر] يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قَتَلُوهُمْ بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَعَلَى الْبَنَانِ مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ
وَقَدْ أُحْرِقَ بِهِ (3) .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ (4) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قَدْ أَرْخَوْهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ إِلَّا جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ كَانَتْ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ عُدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ (5) .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى [بْنُ عَبْدِ اللَّهِ] بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَوْلًى لِسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو سَمِعْتُ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ يَوْمَ بَدْرٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُعْلِمِينَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ.
وَكَانَ أَبُو أُسَيْدٍ يُحَدِّثُ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ.
قَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَكُمُ الْآنَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي، لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ لَا أَشُكُّ وَلَا أَمْتَرِي.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: " مَنِ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَقْدِمْ حَيْزُومُ؟ " فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ مَا كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ (6) .
قُلْتُ: وَهَذَا الْأَثَرُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَيْزُومَ اسْمُ فَرَسِ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال الواقدي حدثني إسحاق بن
__________
(1) دلائل النبوة 3 / 56 ونقله الصالحي في السيرة الشامية 4 / 63 عن البيهقي وأبي نعيم.
(2) كذا في الاصل والبيهقي عن ابن إسحاق، وفي السيرة لابن هشام: أبي داود المازني، قال السهيلي: اسم أبي داود هذا: عمرو، وقيل: عمير بن عامر.
(3) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 56 ونقله الصالحي في السيرة الشامية 4 / 63 عن البيهقي.
(4) مقسم: وهو مولى عبد الله بن الحارث.
(5) سيرة ابن هشام ج 2 / 286.
(6) مغازي الواقدي 1 / 76 و 77.
(*)(3/343)
يَحْيَى عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فَمَا أَدْرِي كَمْ يَدٍ مَقْطُوعَةٍ وَضَرْبَةٍ جائفة (1) لم يدم كلمها وقد رَأَيْتُهَا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عن أبي عقيل (2) [عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ] عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ
نِيَارٍ قَالَ: جِئْتُ يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثَةِ أَرْؤُسٍ فَوَضَعْتُهُنَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَقُلْتُ أَمَّا رَأْسَانِ فَقَتَلْتُهُمَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا طَوِيلًا [ضَرَبَهُ فَتَدَهْدَى أَمَامَهُ] فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ فُلَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ " وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: كَانَ السَّائِبُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي أَحَدٌ مِنَ النَّاس، فَيُقَالُ فَمَنْ؟ يَقُولُ: لَمَّا انْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ انْهَزَمْتُ مَعَهَا فَأَدْرَكَنِي رجل أشعر طويل على فرس أبيض (3) فَأَوْثَقَنِي رِبَاطًا وَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَوَجَدَنِي مَرْبُوطًا فَنَادَى فِي الْعَسْكَرِ مَنْ أَسَرَ هَذَا؟ حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ أَسَرَكَ؟ قُلْتُ: لَا أَعْرِفُهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسَرَكَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ " اذْهَبْ يَا ابن عوف بأسيرك.
وقال الواقدي: حدثني عابد بْنُ يَحْيَى (4) حَدَّثَنَا أَبُو الْحُوَيْرِثِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أُكَيْمَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بِجَادٌ (5) مِنَ السَّمَاءِ قَدْ سدَّ الْأُفُقَ فَإِذَا الوادي يسيل نهلاً فوقع في نفسي إن هذا شئ مِنَ السَّمَاءِ أُيِّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَمَا كَانَتْ إلا الهزيمة ولقي الملائكة وقال إسحاق بن رَاهْوَيْهِ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
قَالَ: رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ - وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ - مِثْلَ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مِثْلَ النَّمْلِ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ وَلَمَّا تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّصْرِ وَرَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وبشَّر بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَقَالَ: " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ يَقُودُ فَرَسَهُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ " يَعْنِي مِنَ الْمَعْرَكَةِ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرِيشِ فِي الدِّرْعِ فَجَعَلَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ وَيُبَشِّرُ النَّاسَ بِالْجَنَّةِ وَيُشَجِّعُهُمْ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسُ بَعْدُ عَلَى مَصَافِّهِمْ لَمْ يَحْمِلُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ حَصَلَ لَهُمُ السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَقَدْ حَصَلَ النُّعَاسُ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالثَّبَاتِ وَالْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ: " (إِذْ يغشيكم النعاس أمنة مِنْهُ) وَهَذَا كَمَا حَصَلَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: النُّعَاسُ فِي الْمَصَافِّ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ النِّفَاقِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ المؤمنين) [الانفال: 19] .
قال
__________
(1) جائفة: طعنة تبلغ الجوف (قاموس) .
(2) في الواقدي: أبي عفير.
وما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من المغازي 1 / 78.
(3) في الواقدي: فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء والأرض.
(4) في الواقدي: عائذ.
(5) البجاد: كساء، وفي النهاية: وفي حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إِلَى مِثْلِ الْبِجَادِ: الْأَسْوَدِ يَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ، أراد الملائكة (ج 1 / 60) .
(*)(3/344)
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الزُّهري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ - حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ - اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ.
فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ (1) ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرِّجاه.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ مُطَرِّفٍ فِي قوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فقد جاءكم الفتح) قال: قال أبو جهل: اللهم [أعن] أَعَزَّ الْفِئَتَيْنِ، وَأَكْرَمَ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَأَكْثَرَ الْفَرِيقَيْنِ.
فَنَزَلَتْ: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) [الأنفال: 7] قَالَ أَقْبَلَتْ عِيرُ أَهْلِ مَكَّةَ تُرِيدُ الشَّامَ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ المدينة فخرجوا ومعهم رسول صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُونَ الْعِيرَ، فَبَلَغَ ذلك أهل مكة فأسرعوا إِلَيْهَا لِكَيْلَا يَغْلِبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَصْحَابُهُ فَسَبَقَتِ الْعِيرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَلْقَوُا الْعِيرَ، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ الْقَوْمَ، وَكَرِهَ الْقَوْمُ مَسِيرَهُمْ لِشَوْكَةِ الْقَوْمِ.
فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ رَمْلَةٌ دِعْصَةٌ فأصاب المسلمون ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يُوَسْوِسُهُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ وَأَنْتُمْ كَذَا (2) ! فَأَمْطَرَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مَطَرًا شَدِيدًا فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ فَصَارَ الرَّمْلُ لَبْدًا (3) وَمَشَى النَّاسُ عَلَيْهِ وَالدَّوَابُّ، فَسَارُوا إِلَى الْقَوْمِ وَأَيَّدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ من الملائكة.
فكان
__________
الاستفتاح: طلب النصر، وكان للمسلمين، وقد بان الامر للكفار وانكشف الحق لهم.
وفي ذلك ثلاثة أقوال: أ - يكون خطابا للكفار، لانهم استفتحوا - قول أبي جهل - فقالوا: اللهم أقطعنا الرحم.
وقول النضر: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء..فقتل يوم بدر.
قال القاضي: إذا حملنا الفتح على البيان والحكم والقضاء فقد يراد به الكفار.
ب - يكون خطابا للمؤمنين: أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وفتح الله عليكم.
قال القاضي: وهذا القول أولى لان قوله (فقد جاءكم النصر) لا يليق إلا بالمؤمنين.
ج - يحتمل كونه خطابا للمؤمنين، ثم للكفار وهو توعده لهم إن عادوا إلى الايقاع بالمسلمين والتعدي عليهم نعد إلى مثل بدر.
قال القشيري: والصحيح أنه خطاب للكفار.
وقاله الحسن ومجاهد والسدي.
(أنظر تفسير الرازي ج 15 / تفسير الآية) (2) في رواية أن بعضهم كانوا محدثين من الاحتلام.
(3) في رواية البيهقيّ: كدا.(3/345)
جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُجَنِّبَةً وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (1) مُجَنِّبَةً وَجَاءَ إِبْلِيسُ في جند من الشياطين ومعه ذريته (2) وَهُمْ فِي صُورَةِ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاس قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ، وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: " يَا رَبِّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا ".
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ، فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَأَصَابَ
عَيْنَيْهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ.
وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ فَلَمَّا رَآهُ - وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ أَمَا زَعَمْتَ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ قَالَ: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 48] وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ (3) .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا مَسْعَدَةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَطَّارِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ.
قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ مَا فعل الْمَلَائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ إِلَيْهِ، فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَوَكَزَ فِي صدر الحارث ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَظِرَتَكَ إِيَّايَ وَخَافَ أَنْ يَخْلُصَ الْقَتْلُ إِلَيْهِ.
وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ لَا يَهُولَنَّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ محمَّد، وَلَا يَهُولَنَّكُمْ قَتْلُ شَيْبَةَ وَعُتْبَةَ وَالْوَلِيدِ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَجَّلُوا، فوللات والعزى لا نرجع حتى نفرقهم بالجبال، فَلَا أُلْفِيَنَّ رَجُلًا مِنْكُمْ قَتَلَ رَجُلًا وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا حَتَّى تُعَرِّفُوهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ إِيَّاكُمْ وَرَغْبَتِهِمْ عَنِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى.
ثُمَّ قَالَ أَبُو جَهْلٍ مُتَمَثِّلًا: مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الشَّمُوسُ مِنِّي * بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سِنِّي لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيِّ [عَنْ عَمِّهِ] عَنْ أَبِي بكر بن أبي سليمان بن (4) أَبِي حَثْمَةَ سَمِعْتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ يَسْأَلُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ فَجَعَلَ الشَّيْخُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ حَكِيمٌ: الْتَقَيْنَا فَاقْتَتَلْنَا فَسَمِعْتُ صَوْتًا وَقَعَ مِنَ السَّماء إلى الأرض مثل وقعة الحصاة
__________
(1) في رواية البيهقيّ: في خمسمائة مجنبة.
(2) في البيهقي: معه راية في صورة.
(3) دلائل النبوة ج 3 / 78 - 79 عن طريق عَبْدِ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عن علي عن ابن عباس.
(4) في الاصل تحريف، الصواب أثبتناه من الواقدي.
والعبارة في الاصل: موسى بن يعقوب الزمعي عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أبي حتمة.
(*)(3/346)
فِي الطَّسْتِ، وَقَبَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَبْضَةَ التُّرَابَ فَرَمَى بِهَا فَانْهَزَمْنَا.
قَالَ الواقدي: وحدثنا [أبو] (1) إسحاق عن محمد عن (2) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (3) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَير سَمِعْتُ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيَّ يَقُولُ: انْهَزَمْنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَسْمَعُ صَوْتًا كَوَقْعِ الْحَصَى في الطاس فِي أَفْئِدَتِنَا وَمِنْ خَلْفِنَا (4) ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ الرُّعْبِ عَلَيْنَا.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حدَّثنا أَبِي، ثنا ابن أبي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَقَطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ.
فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ.
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَقَدْ شَجَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ وَقَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى طَمِعُوا فِيهِمْ، خَفَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَفْقَةً فِي الْعَرِيشِ ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ: " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَتِهِ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ وَعِدَتُهُ " وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ كَفًّا مِنَ الْحَصَى بِيَدِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ " ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ " احْمِلُوا فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا الْهَزِيمَةُ " فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْهُمْ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ " ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: " شُدُّوا " فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي يوم بدر " أعطني حصباء من الأرض " فناوله حصباء عليها تُرَابٌ فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ مِنْ ذلك التراب شئ، ثُمَّ رَدِفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: " فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) وَهَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ يوم بدر، وقد فعل عليه السلام مِثْلَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حَرَّضَ
أَصْحَابَهُ عَلَى الْقِتَالِ وَرَمَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا رَمَاهُمْ بِهِ مِنَ التُّرَابِ وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى صَعِدَ إِلَى الْعَرِيشِ أَيْضًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَوَقَفَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ وَمَعَهُمُ السُّيُوفُ خِيفَةَ أَنْ تَكُرَّ رَاجِعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النَّاس، فَقَالَ لَهُ: " كَأَنِّي بِكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ الْقَوْمُ؟ " قَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ.
فَكَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ.
قال ابن إسحاق: وحدثني
__________
(1) من الواقدي، وفي الاصل إسحاق وهو تحريف.
(2) من الواقدي، وفي الاصل ابن.
(3) في المغازي: ابن عبد.
(4) في الواقدي: في الطساس بين أيدينا ومن خلفنا.
(*)(3/347)
الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يومئذٍ: " إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالًا من بني هاشم وغيزهم؟ قَدْ أُخْرِجُوا كَرْهًا لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ مُسْتَكْرَهًا " فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لَأَلْحِمَنَّهُ بِالسَّيْفِ.
فَبَلَغَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِعُمَرَ: " يَا أَبَا حَفْصٍ " قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّانِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي حَفْصٍ، أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ؟ " فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ فَوَاللَّهِ لَقَدْ نَافَقَ.
فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: مَا أَنَا بِآمِنٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ يومئذٍ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا إِلَّا أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّي الشَّهَادَةُ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
مَقْتَلُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَامٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ (1) .
كَانَ لَا يُؤْذِيهِ ولا يبلغه عنه شئ يَكْرَهُهُ، وَكَانَ مِمَّنْ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ فَلَقِيَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ قَتْلِكَ وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ زَمِيلٌ لَهُ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ وهو جنادة بن مُلَيْحَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي لَيْثٍ.
قَالَ وَزَمِيلِي؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجَذَّرُ (2) لَا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زَمِيلِكَ، مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِكَ وَحْدَكَ، قَالَ لَا وَاللَّهِ إِذًا لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا لَا يَتَحَدَّثُ عَنِّي نِسَاءُ قريش بمكة أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ.
وَقَالَ أبو البختري وهو ينازل المجذر: لن يترك (3) ابْنُ حُرَّةٍ زَمِيلَهُ * حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَهُ قَالَ: فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ وَقَالَ فِي ذَلِكَ: إِمَّا جَهِلْتَ أَوْ نَسِيتَ نَسَبِي * فَأَثْبِتِ النِّسْبَةَ إِنِّي مِنْ بَلِي الطَّاعِنِينَ برماح اليزني * والطاعنين الكبش حتى ينحني (4)
__________
(1) قال الواقدي: كان أبو البختري قد لبس السلاح يوما بمكة في بعض ما كان بلغ من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم من الاذى وقال: لا يعترض اليوم أحد لمحمد بأذى إلا وضعت فيه السلاح.
(2) الواقدي روى القصة وسمى الرجل صاحب القصة مع أبي البختري: أبا داود المازني.
(3) في ابن هشام: لن يسلم ابن حرة زميله.
(4) في ابن هشام: والضاربين بدل والطاعنين.
(*)(3/348)
بَشِّرْ بِيُتْمٍ مَنْ: أَبُوهُ الْبَخْتَرِي * أَوْ بَشِّرَنْ بِمِثْلِهَا مِنِّي بَنِي أَنَا الَّذِي يُقَالُ أَصْلِي مِنْ بَلِي * أَطْعَنُ بِالصَّعْدَةِ حَتَّى تَنْثَنِي وَأَعْبِطُ القرن بعصب مَشْرَفِي * أُرْزِمُ لِلْمَوْتِ كَإِرْزَامِ الْمَرِي (1) فَلَا يَرَى مُجَذَّرًا يَفْرِي فَرِي ثُمَّ أَتَى الْمُجَذَّرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جَهِدْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْسِرَ فَآتِيكَ
بِهِ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَنِي، فَقَاتَلْتُهُ فَقَتَلْتُهُ.
فَصْلٌ فِي مَقْتَلِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ وَحَدَّثَنِيهِ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو، فَتَسَمَّيْتُ حِينَ أَسْلَمْتُ عبد الرحمن، فكان يلقاني ونحن بِمَكَّةَ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو أَرَغِبْتَ عَنِ اسم سماكه أبوك؟ قَالَ: فَأَقُولُ: نَعَمْ! قَالَ: فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، فَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَيْئًا أَدْعُوكَ بِهِ، أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُجِيبُنِي بِاسْمِكَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَدْعُوكَ بِمَا لَا أَعْرِفُ.
قَالَ: وَكَانَ إِذَا دَعَانِي يَا عَبْدَ عَمْرٍو لَمْ أُجِبْهُ، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اجْعَلْ مَا شِئْتَ.
قَالَ: فَأَنْتَ عَبْدُ الْإِلَهِ، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: فَكُنْتُ إِذَا مَرَرْتُ بِهِ قَالَ يَا عَبْدَ الْإِلَهِ فَأُجِيبُهُ فَأَتَحَدَّثُ مَعَهُ، حتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ عَلِيٍّ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، قَالَ: وَمَعِي أَدْرَاعٌ لِي قَدِ اسْتَلَبْتُهَا، فَأَنَا أَحْمِلُهَا فَلَمَّا رَآنِي.
قَالَ يَا عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ يَا عَبْدَ الْإِلَهِ فَقُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ هَلْ لَكَ فيَّ فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الْأَدْرَاعِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ هَا اللَّهِ (2) ، قَالَ: فَطَرَحْتُ الْأَدْرَاعَ مِنْ يَدِي، وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَبِيَدِ ابْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، أما لكم حاجة في اللبن (3) ؟ [قال] : ثُمَّ خَرَجْتُ أَمْشِي بِهِمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ (4) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَالَ: قَالَ لِي أُمَيَّةُ بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذاً بِأَيْدِيهِمَا: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ المعلم بريشة نعامة
__________
(1) قال ابن هشام: المري: الناقة التي يستنزل لبنها على عسر، وقيل: هي الناقة الغزيرة اللبن.
القرن: المقاوم في الحرب.
العضب: السيف القاطع.
(2) في السيرة وشرح السيرة لابي ذر والسهيلي: ها الله ذا.
قال السهيلي: أي هذا قسمي، فكأنه قال: ها أنذا مقسم.
(3) قال ابن هشام: يريد باللبن: أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن.
(4) كذا في الاصل: والظاهر أن كلمة " عن " مقحمة.
(*)(3/349)
في صدره؟ قال: قلت: حَمْزَةُ.
قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَقُودُهُمَا إِذْ رَآهُ بِلَالٌ مَعِي - وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بلالاً بمكة على [ترك] الْإِسْلَامِ - فَلَمَّا رَآهُ قَالَ رَأَسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، قَالَ: قلت: أي بلال أسيري، قال لا نجوت إن نجا، ثم قال صرخ بأعلا صَوْتِهِ يَا أَنْصَارَ اللَّهِ! رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، فَأَحَاطُوا بِنَا حَتَّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمَسَكَةِ (1) فَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ، قَالَ: فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ فَضَرَبَ رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ، وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهَا قَطُّ، قَالَ: قُلْتُ: انْجُ بِنَفْسِكَ ولا نجاء [بك] ، فوالله ما أغنى عنك شيئا.
قال فهبر وهما بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا.
قَالَ فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا فَجَعَنِي بِأَدْرَاعِي وَبِأَسِيرَيَّ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَقَالَ فِي الْوِكَالَةِ حدَّثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ - حَدَّثَنَا يُوسُفُ - هُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ - عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتَبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ [مِنَ] الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ؟ ! لَا نجوت إن نجا أمية بن خلف فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَتَوْا حَتَّى تَبِعُونَا وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ ابْرُكْ فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذلك فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ سَمِعَ يُوسُفُ صَالِحًا وَإِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ.
تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَيْنِهِمْ كُلِّهِمْ.
وَفِي مُسْنَدِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ (2) .
مَقْتَلُ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَقْبَلَ أبو جهل يومئذٍ يرتجز [وهو يقاتل] وَيَقُولُ:
مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الْعَوَانُ مِنِّي * بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سِنِّي لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَدُوِّهِ، أَمَرَ بأبي جهل أن يلتمس في القتلى،
__________
(1) أي جعلونا في حلقة كالسوار وأحدقوا بنا.
(2) في الواقدي، قتله خبيب بن يساف، وقد ضرب أمية خبيت حتى قطع يده من المنكب، وتزوج خبيب بابنة أمية بعد مقتله.
1 / 83.
(*)(3/350)
وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ كَمَا حدَّثني ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ (1) عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَيْضًا قَدْ حَدَّثَنِي ذَلِكَ قَالَا.
قَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ: سَمِعْتُ الْقَوْمَ وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ (2) وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لَا يُخْلَصُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطَنَّتْ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَوَاللَّهِ مَا شَبَّهْتُهَا حِينَ طَاحَتْ إِلَّا بِالنَّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى (3) حِينَ يُضْرَبُ بِهَا، قَالَ: وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي فَطَرَحَ يَدِي فَتَعَلَّقَتْ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ.
ثُمَّ مرَّ بِأَبِي جَهْلٍ - وَهُوَ عَقِيرٌ - مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ.
وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ (4) حَتَّى قُتِلَ، فمرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى وَقَدْ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - انْظُرُوا إِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي الْقَتْلَى إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ فِي رُكْبَتِهِ فَإِنِّي ازْدَحَمْتُ أَنَا وَهُوَ يَوْمًا عَلَى مَأْدُبَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ وَنَحْنُ غُلَامَانِ وَكُنْتُ أَشَفُّ مِنْهُ بِيَسِيرٍ، فَدَفَعْتُهُ فوقع على ركبتيه فجحش (5) في أحدهما جَحْشًا لَمْ يَزَلْ أَثَرُهُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ.
فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ.
قَالَ وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ بِي مَرَّةً بِمَكَّةَ فَآذَانِي وَلَكَزَنِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ وَبِمَاذَا أَخْزَانِي؟ قَالَ: أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ (6) أَخْبَرَنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: قُلْتُ لِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: قَالَ لِي: لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ، قَالَ: ثُمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
__________
(1) في السيرة: ابن يزيد.
(2) قال ابن هشام: الحرجة الشجر الملتف.
وفي الحديث عن عمر بن الخطاب: أنه سأل أعرابيا عن الحرجة، فقال: هي شجرة من الاشجار لا يوصل إليها.
(السيرة 2 / 287) .
(3) مرضخة: جمعها مراضخ، والمرضخة حجر يرضخ به النوى أي يكسر.
عن النهاية.
(4) ذكر السهيلي الغلامين اللذين قتلا أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، وفي مسلم أنهما: معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح.
وفي رواية ابن إدريس عن ابن إسحاق كما في رواية مسلم.
وقال أبو عمرو: أن ابني عفراء قتلاه عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أنس.
وقال الواقدي: قتله معاذ بن عمرو بن الجموح.
وفي رواية أخرى عنده: قتله ابنا الحارث.
وهما ابنا عفراء.
(5) جحش جحشا أي خدش خدشا،.
وفي الصحاح: الجحش: سحج الجلد اي قشره (الصحاح) ، وفي الاصل: حجش.
(6) أعمد من رجل قتلتموه ويقال: أعمد من رجل قتله قومه قال ابن هشام: أي ليس عليه عار إن قتلتموه أو قتله قومه.
وقال أبو ذر: يريد: أكبر من رجل قتلتموه على سبيل التحقير منه لفعلهم به.(3/351)
يا رسول الله هذا رأس عدوالله.
فقال: " اللَّهُ الَّذِي لَا إله غيره؟ ".
وكان يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ نَعَمْ! وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهٍ غَيْرُهُ ثُمَّ أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ.
هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (1) مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الصَّفِّ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أكون بين أظلع مِنْهُمَا فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ فَقُلْتُ
نَعَمْ وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ؟ قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي أَيْضًا مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَجُولُ فِي النَّاسِ فقلت ألا تريان؟ هذا صاحبكم الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: " أَيُّكُمَا قَتَلَهُ ".
قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُهُ.
قَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ " قَالَا: لَا.
قَالَ فَنَظَرَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السيفين فقال: " كلاهما قَتَلَهُ " وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجموح - والآخر معاذ بن عَفْرَاءَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ الْتَفَتُّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ: يَا عَمِّ أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ، فَقُلْتُ يَا ابْنَ أَخِي مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ عَاهَدْتُ اللَّهَ إِنْ رَأَيْتُهُ أَنْ أقتله أو أموت دونه، وقال لِي الْآخَرُ سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلَهُ، قَالَ فما سرني أنني بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَكَانَهُمَا فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ فَشَدَّا عَلَيْهِ مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ حَتَّى ضَرْبَاهُ وَهُمَا ابْنَا عفراء.
وفي الصحيحين أيضاً: من حديث أبي (2) سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " من ينظر ماذا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ " قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَانْطَلَقَ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ.
قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ قال فقلت: أنت أبو جهل؟ فقال وهل فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ - أَوْ قَالَ قَتَلَهُ قَوْمُهُ (3) - وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ: عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن قَيْسٍ (4) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: هَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ
__________
(1) أخرجه البخاري عن مسدد في كتاب الخمس - باب من لم يخمس الاسلاب.
وأخرجه أيضاً في المغازي عن ابن المديني ويعقوب بن إبراهيم.
وأخرجه مسلم في 32 كتاب الجهاد 13 باب ح 32 ص 1372.
عن يحيى بن يحيى.
(2) في البخاري والبيهقي: سليمان.
(3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي 8 باب قتل أبي جهل فتح الباري 7 / 293 وفيه عن سليمان التيمي.
ورواه
مسلم في كتاب الجهاد والسير - باب قتل أبي جهل 3 / 1425.
(4) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 8 باب قتل أبي جهل ح 3961 فتح الباري 7 / 293.
وفيه: عن أبي أمامة عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وليس كما في الاصل: إسماعيل بن قيس فهو تحريف.
(*)(3/352)
صَرِيعٌ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ وَمَعَهُ سَيْفٌ جَيِّدٌ.
وَمَعِي سيف ردئ فَجَعَلْتُ أَنْقُفُ رَأْسَهُ بِسَيْفِي وَأَذْكُرُ نَقْفًا كَانَ يَنْقُفُ رَأْسِي بِمَكَّةَ حَتَّى ضَعُفَتْ يَدُهُ فَأَخَذْتُ سَيْفَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: عَلَى مَنْ كَانَتِ الدَّائِرَةُ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا أَلَسْتَ رُوَيْعِيَنَا بِمَكَّةَ؟ قَالَ: فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ فَاسْتَحْلَفَنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَامَ مَعِي إِلَيْهِمْ فَدَعَا عَلَيْهِمْ (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ ضُرِبَتْ رِجْلُهُ وَهُوَ يَذُبُّ النَّاسَ عَنْهُ بِسَيْفٍ لَهُ، فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ.
قَالَ: هَلْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ قَتَلَهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلْتُ أَتَنَاوَلُهُ بِسَيْفٍ لِي غَيْرِ طَائِلٍ فَأَصَبْتُ يَدَهُ فَنَدَرَ (2) سَيْفُهُ فَأَخَذْتُهُ فَضَرَبْتُهُ حَتَّى قَتَلْتُهُ قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا أُقَلُّ مِنَ الْأَرْضِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ " اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ " فَرَدَّدَهَا ثَلَاثًا، قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَالَ فَخَرَجَ يَمْشِي مَعِي حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ هَذَا كَانَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَنَفَلَنِي سَيْفَهُ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقُلْتُ: قَدْ قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: " اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ " فَقُلْتُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَرَّتَيْنِ - أَوْ ثَلَاثًا - قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ " ثُمَّ قَالَ: " انْطَلِقْ فَأَرِنِيهِ " فَانْطَلَقْتُ فَأَرَيْتُهُ فَقَالَ: " هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ " (3) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَصْرَعِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَقَالَ: " رَحِمَ اللَّهُ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَهُمَا شُرَكَاءُ فِي قَتْلِ فِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَأْسِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ " فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ قَتَلَهُ مَعَهُمَا؟ قَالَ " الْمَلَائِكَةُ وَابْنُ
مَسْعُودٍ قَدْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (4) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الجبَّار حدَّثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ الْأَزْهَرِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَشِيرُ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَيْتَهُ قَتِيلًا؟ فَحَلَفَ لَهُ فَخَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنِ الشَّعْثَاءِ - امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ (5) - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بالفتح وحين جئ
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 3 / 88.
(2) ندر: سقط.
(3) رواه البيهقي في الدلائل 3 / 88 وأبو داود في كتاب الجهاد 142 عن محمد بن العلاء عن إِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أبيه..والنسائي في السير - في السنن الكبرى - تحفة الاشراف 7 / 162.
(4) دلائل النبوة ج 3 / 89 عن الواقدي، والخبر في المغازي 1 / 91.
(5) دلائل النبوة ج 3 / 89 وفيه قالت: دخل على عبد الله بن أبي أوفى، فرأيته صلى الضحى ركعتين فقالت له = (*)(3/353)
بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ حدَّثنا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي شَعْثَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ بشِّر بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ رَكْعَتَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدنيا: حدثنا أبي، حدثنا هشام (1) أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي مَرَرْتُ بِبَدْرٍ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَضْرِبُهُ رَجُلٌ بِمِقْمَعَةٍ مَعَهُ حَتَّى يَغِيبَ فِي الْأَرْضِ ثمَّ يَخْرُجُ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِرَارًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ يُعَذَّبُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " (2) .
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: سَمِعْتُ أَبِي، ثَنَا الْمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا جَالِسًا فِي بَدْرٍ وَرَجُلٌ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِعَمُودٍ مِنْ حَدِيدٍ حَتَّى يَغِيبَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ أَبُو جَهْلٍ وُكِّلَ بِهِ مَلَكٌ يَفْعَلُ بِهِ كُلَّمَا خَرَجَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ الزُّبير: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُكَنَّى أَبَا ذَاتِ الْكَرِشِ، فَقَالَ أنَّا أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِعَنَزَةٍ فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنِهِ فَمَاتَ قَالَ هِشَامٌ فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ ثُمَّ تَمَطَّيْتُ فَكَانَ الْجَهْدَ أَنْ نَزَعْتُهَا، وَقَدِ انْثَنَى طَرَفَاهَا، قَالَ عُرْوَةُ فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ إياها، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ إياها، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَهَا إِيَّاهُ عُمَرُ بن الخطاب فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ عُمَرُ أَخَذَهَا ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ مِنْهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ فَطَلَبَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ حتَّى قُتِلَ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - ومرَّ بِهِ - إِنِّي أَرَاكَ كَأَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا أَرَاكَ تَظُنُّ أَنِّي قَتَلْتُ أَبَاكَ إِنِّي لَوْ قَتَلْتُهُ لَمْ أَعْتَذِرْ إِلَيْكَ مِنْ قَتْلِهِ، وَلَكِنِّي قَتَلْتُ خَالِيَ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَأَمَّا أَبُوكَ فَإِنِّي مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ يَبْحَثُ بَحْثَ الثور بروقه فحدث عَنْهُ وَقَصَدَ لَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ (3) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَاتَلَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ الْأَسَدِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفِهِ حَتَّى انْقَطَعَ فِي يَدِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ جِذْلًا (4) مِنْ حَطَبٍ فَقَالَ: " قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشَةُ " فَلَمَّا أَخَذَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هزَّه فَعَادَ سَيْفًا فِي يَدِهِ طَوِيلَ الْقَامَةِ شَدِيدَ الْمَتْنِ أَبْيَضَ
__________
= امرأته: إنك صليت ركعتين فقال..وذكر تمام الحديث.
(1) في البيهقي: هشيم.
(2) الخبر في دلائل البيهقي 3 / 90، ونقله الصالحي في السيرة الشامية 4 / 80 وعزاه لابن أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " مَنْ عَاشَ بَعْدَ الموت " عن الشعبي.
(3) سيرة ابن هشام 2 / 290 ورواه الواقدي في المغازي 1 / 92 وقال في أوله: وأقبل العاص بن سعيد يحث للقتال، فالتقى هو وعلي فقتله علي.
(4) في الواقدي: عودا.
(*)(3/354)
الْحَدِيدَةِ، فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ السَّيف يُسَمَّى: الْعَوْنَ.
ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قَتَلَهُ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، وَأَنْشَدَ طُلَيْحَةُ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً مِنْهَا قَوْلُهُ: عَشِيَّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أَقْرَمَ ثَاوِيًا * وَعُكَّاشَةَ الْغَنْمِيَّ عِنْدَ مَجَالِ (1) وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ طُلَيْحَةُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعُكَّاشَةُ هُوَ الَّذِي قَالَ حِينَ بشَّر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الجنَّة بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ: " اللَّهم اجْعَلْهُ مِنْهُمْ " وَهَذَا الحديث مخرج في الصِّحاح والحسان وغيرهما.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - " مِنَّا خَيْرُ فَارِسٍ فِي الْعَرَبِ " قَالُوا وَمَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ " عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ " فَقَالَ ضرار بن الأزور: ذَاكَ رَجُلٌ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ لَيْسَ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُ مِنَّا لِلْحِلْفِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي عمر بن عثمان الخشني (2) عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّتِهِ قَالَتْ: قَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: انْقَطَعَ سَيْفِي يَوْمَ بَدْرٍ فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَقَاتَلْتُ بِهِ حَتَّى هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عِدَّةٍ قَالُوا: انْكَسَرَ سَيْفُ سَلَمَةَ بْنِ حَرِيشٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَبَقِيَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضِيبًا كأنَّ فِي يَدِهِ مِنْ عَرَاجِينِ ابْنِ طَابٍ (3) فَقَالَ: اضْرِبْ بِهِ فَإِذَا سَيْفٌ جَيِّدٌ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ (4) .
ردُّه عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَ قَتَادَةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أحمد [عبد الله] بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا يَحْيَى الحماني ثنا عبد العزيز (5) بن سليمان بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن
__________
(1) ابن أقرم: قال ابن هشام: هو ثابت ابن أقرم الانصاري وانظر الخبر في سيرة ابن هشام 2 / 290 ومغازي الواقدي 1 / 93.
(2) في البيهقي والواقدي: الجحشي.
(3) ابن طاب: ضرب من الرطب.
وعراجين: جمع عرجون.
والعرجون: العذق أو إذا يبس واعوج.
(4) من ابن سعد، وفي الاصل أبي عبيدة وهو تحريف.
والخبران في المغازي الواقدي 1 / 93 والبيهقي في الدلائل 3 / 99 عنه.
- وعكاشة بن محصن بن حُرثان من السابقين الأولين شهد بدرا له ترجمة في الاصابة 2 / 492.
- سلمة بن أسلم بن حريس بن عدي بن مجدعة بن حارثة، يكنى أبا سعد.
شهد بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد كلها قتل يوم جسر أبي عبيد سنة 14 هـ له ترجمة في ابن سعد 2 / 446.
(5) في البيهقي: عبد الرحمن.
(*)(3/355)
قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ: أنَّه أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا، فَسَأَلُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " لا " فدعاه فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ، فَكَانَ لَا يَدْرِي أَيَّ عينيه أصيب (1) - وَفِي رِوَايَةٍ فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ -.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَأَنْشَدَ مَعَ ذَلِكَ: أَنَا ابْنُ الَّذِي سَالَتْ عَلَى الخَدِّ عينُهُ * فردَّتْ بكفِّ الْمُصْطَفَى أَيَّمَا رَدِّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُنْشِدًا قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ فِي مَوْضِعِهِ حَقًّا: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبنٍ * شَيباً بماءٍ فعادَا بعدُ أَبْوَالًا فَصْلٌ قصَّة أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، [حدثني رفاعة بن رافع بن مالك] (2) .
قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ تَجَمَّعَ النَّاسُ عَلَى أُمَيَّةَ (3) بْنِ خَلَفٍ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ فَنَظَرْتُ إِلَى قِطْعَةٍ مِنْ دِرْعِهِ قَدِ انْقَطَعَتْ مِنْ تَحْتِ إِبِطِهِ، قَالَ فَطَعَنْتُهُ بِالسَّيْفِ فِيهَا طَعْنَةً، وَرُمِيتُ
بِسَهْمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَفُقِئَتْ عَيْنِي فَبَصَقَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا لي فما أذاني منها شئ.
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَلَمْ يخرِّجوه (4) .
وَرَوَاهُ الطَّبرانيّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ (5) : وَنَادَى أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ فَقَالَ: أَيْنَ مَالِي يَا خَبِيثُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا شِكَّةٌ وَيَعْبُوبْ * وَصَارِمٌ يَقْتُلُ ضُلَّالَ الشِّيبْ يَعْنِي لَمْ يَبْقَ إِلَّا عُدَّةُ الْحَرْبِ، وَحِصَانٌ وَهُوَ الْيَعْبُوبُ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ شُيُوخَ الضَّلَالَةِ، هَذَا يَقُولُهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي مَغَازِي الْأُمَوِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل يمشي هو وأبو بكر الصديق بين
__________
(1) دلائل النبوة 3 / 100.
(2) من البيهقي، والعبارة في الاصل: حَدَّثَنِي رِفَاعَةُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةِ بْنِ رافع عن أبيه رافع بن مالك.
(3) من الدلائل.
وفي الاصل أبي، وقد تقدم في قصة قتل أمية، - في رواية - أن رفاعة بن رافع هو الذي قتله.
(4) الخبر في دلائل البيهقي 3 / 100، ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد 6 / 82 وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير والاوسط، وفيه عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف.
(5) سيرة ابن هشام: 2 / 291.
(*)(3/356)
الْقَتْلَى وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " نُفَلِّقُ هَامًا " فَيَقُولُ الصِّدِّيقُ: مِنْ رِجال أعزةٍ * عَلَينَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وأظلما طرح رؤوس الكفر في بئر يوم بَدْرٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ، طُرِحُوا فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا فَذَهَبُوا لِيُخْرِجُوهُ فَتَزَايَلَ [لَحْمُهُ] فَأَقَرُّوهُ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ، وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا " قَالَتْ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى فَقَالَ:
" لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقٌّ " قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ عَلِمُوا (1) قال ابن إسحاق: وحدثني حميد الطويل عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعَ أَصْحَابُ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ - فَعَدَّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْقَلِيبِ - هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حقاً " فقال المسلمون: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: " مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُونِي " وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عن أنس فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قال: " يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا " (2) .
قُلْتُ: وَهَذَا مِمَّا كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَتَأَوَّلُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَمَا قَدْ جُمِعَ مَا كَانَتْ تَتَأَوَّلُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي جُزْءٍ وَتَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِبَعْضِ الْآيَاتِ، وَهَذَا الْمَقَامُ مِمَّا كَانَتْ تُعَارِضُ فِيهِ قَوْلَهُ: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وَلَيْسَ هُوَ بِمُعَارِضٍ لَهُ وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحابة وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ نَصًّا عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قبره ببكاء أهله فقالت: رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ " قَالَتْ وَذَاكَ مثل قوله
__________
(1) قال السهيلي معارضا قول عائشة: وعائشة لم تحضر، وغيرها ممن حضر أحفظ للفظه عليه السلام.
(2) سيرة ابن هشام ج 2 / 292، والكامل لابن الاثير 2 / 129.
(*)(3/357)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ، قَالَ إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ
مَا أَقُولُ وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّهُمُ الْآنَ ليعلمون إنما كنت أقول لهم حق، ثم قرأت: (وإنك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 81] (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 22] تقول حين تبوؤا مقاعدهم من النَّارِ (1) .
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ كَمَا سَنُقَرِّرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ ثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَقَفَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: " هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا " ثُمَّ قَالَ: " إِنَّهُمُ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَهُمْ " وَذُكِرَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ، ثُمَّ قَرَأَتْ (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الموتى) حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أَصْحَابُهُ وَقَالُوا مَا نَرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ (2) فَجَعَلَ يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان ويا فلان بن فلان يسركم أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وعد رَبُّكُمْ حَقًّا ".
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ ".
قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا (3) : وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا طَلْحَةَ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّام حَتَّى جَيَّفُوا، ثُمَّ
أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: " يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا " قَالَ فَسَمِعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّكَ لا
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي (8) قتل أبي جهل ح 3979 وأخرجه مسلم في الجنائز عن أبي كريت عن أبي أسامة، والنسائي في الجنائز عن محمد بن آدم.
(2) شفة الركي: على طرف البئر.
وفي رواية: شفير.
(3) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي (8) باب قتل أبي جهل ح 3976 ومسلم في صفة الجنة والنار (17) باب ح 78.
(*)(3/358)
تسمع الموتى) فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ * كَخَطِّ الْوَحْيِ فِي الْوَرَقِ الْقَشِيبِ (1) تَدَاوَلُهَا الرِّيَاحُ وَكُلُّ جَوْنٍ * مِنَ الْوَسْمِيِّ منهمرٌ سَكُوبِ فَأَمْسَى رَسْمُهَا خَلَقًا وَأَمْسَتْ * يَبَابًا بَعْدَ سَاكِنِهَا الْحَبِيبِ فَدَعْ عَنْكَ التَّذَكُّرَ كُلَّ يَوْمٍ * وَرُدَّ حَرَارَةَ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ (2) وَخَبِّرْ بِالَّذِي لَا عَيْبَ فيهِ * بِصِدْقٍ غَيْرِ إِخْبَارِ الْكَذُوبِ بِمَا صَنَعَ الْمَلِيكُ غَدَاةَ بَدْرٍ * لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ من النصيب غداة كأن جمعهمم حراءٌ * بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنْحَ الْغُرُوبِ فَلَاقَيْنَاهُمُ مِنَّا بجمعٍ * كَأُسْدِ الْغَابِ مردانٍ وَشِيبِ أَمَامَ محمدٍ قَدْ وَازَرُوهُ * عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الْحُرُوبِ بِأَيْدِيهِمْ صوارمٌ مرهفاتٌ * وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خَاظِي الْكُعُوبِ
بنو الأوس الغطارف آزرتها * بَنُو النَّجَّارِ فِي الدِّين الصَّلِيبِ فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا * وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بِالْجَبُوبِ وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رجالٍ * ذَوِي حَسَبٍ إِذَا نُسِبُوا حَسِيبِ يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا * قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ (3) أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِيَ كَانَ حَقًّا * وَأَمْرُ اللَّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ فَمَا نَطَقُوا وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا: * صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا رأيٍ مُصِيبِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقَوْا فِي الْقَلِيبِ، أُخِذَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَسُحِبَ فِي الْقَلِيبِ فَنَظَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تغير لونه، فقال: " يا حُذَيْفَةَ لَعَلَّكَ قَدْ دَخْلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شئ - أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ لِلْإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، بَعْدَ الَّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ، أَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ وَقَالَ له خيراً.
وقال
__________
(1) القشيب: الجديد.
قال السهيلي: أراد حسان بالقشيب هنا: الذي خالطه ما يفسده إما من دنس وإما من قدم.
يقال طعام مقشب: إذا كان فيه السم.
(2) في ابن هشام: الصدر.
(3) كباكب: جماعات (*)(3/359)
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ثَنَا عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً) قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
قَالَ عَمْرٌو: هم قريش، ومحمد نعمة الله (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) قَالَ: النَّارُ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ آوَوْا نَبِيَّهُمُ * وَصَدَّقُوهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُفَّارُ إِلَّا خَصَائِصَ أَقْوَامٍ هُمُ سلفٌ * لِلصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْصَارُ
مُسْتَبْشِرِينَ بِقَسْمِ اللَّهِ قَوْلُهُمُ * لَمَّا أَتَاهُمْ كَرِيمُ الْأَصْلِ مُخْتَارُ أَهْلًا وَسَهْلًا فَفِي أمنٍ وَفِي سعةٍ * نِعْمَ النبيُّ وَنِعْمَ الْقَسْمُ وَالْجَارُ (1) وقاسموهم بها الأموال إذ قدموا * مهاجرين وقسم الجاهل النَّارُ (2) سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحَيْنِهِمُ * لَوْ يعلمون يقين العلم ما ساروا والاهم بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ * إِنَّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَالَاهُ غَرَّارُ (3) وَقَالَ إِنِّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُمْ * شرَّ الْمَوَارِدِ فِيهِ الْخِزْيُ وَالْعَارُ ثُمَّ الْتَقَيْنَا فَوَلَّوْا عَنْ سَرَاتِهِمُ * مِنْ مُنْجِدِينَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَارُوا وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بكر.
وعبد الرزاق.
قالا: حدثنا إسرائيل، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَتْلَى قِيلَ لَهُ عَلَيْكَ الْعِيرَ لَيْسَ دونها شئ، فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الْوِثَاقِ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ.
قَالَ لمَ؟ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
وَقَدْ كَانَتْ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ سَرَاةِ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، هَذَا مَعَ حُضُورِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَ قَدَرُ اللَّهِ السَّابِقُ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنْ سَيُسْلِمَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا وَاحِدًا فَأَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَكِنْ قَتَلُوا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ كَانَ فِي الْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلُ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاقْتَلَعَ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ وَكُنَّ سَبْعًا فِيهِنَّ مِنَ الْأُمَمِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَرَاضِي وَالْمَزْرُوعَاتِ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَرَفَعَهُنَّ حَتَّى بَلَغَ بِهِنَّ عَنَانَ السَّمَاءِ عَلَى طَرَفِ جَنَاحِهِ ثُمَّ قَلَبَهُنَّ مُنَكَّسَاتٍ وَأَتْبَعَهُنَّ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي سُوِّمَتْ لَهُمْ كَمَا ذكرنا ذلك في قصَّة قوم لوط.
كما تقدَّم.
وَقَدْ شرَّع اللَّهُ جِهَادَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكَافِرِينَ وَبَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد: 4] الآية.
وقال
__________
(1) القسم: بالكسر: الخط والنصيب، وبعده في ابن هشام: فَأَنْزَلُوهُ بِدَارٍ لَا يَخَافُ بِهَا * مَنْ كَانَ جارهم داراً هي الدار
(2) قوله الجاهل: في ابن هشام الجاحد.
(3) قوله والاهم: في ابن هشام دلاهم.
(*)(3/360)