|
المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)
المحقق: علي شيري
الناشر: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: الأولى 1408، هـ - 1988 م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
قام بفهرسته الفقير إلى الله: عبد الرحمن الشامي، ويسألكم الدعاء.
[النحل: 145] وَقَالَ تَعَالَى (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الْآيَةَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 46] قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أعذرا إليه قولا له وإن لَكَ رَبًّا وَلَكَ مَعَادًا وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قُولَا له إن لي الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ أَقْرَبُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ.
قال يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ يَا مَنْ ينحبب إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ (قَالَا رَبَّنَا إنا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) [طه: 201] وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا وشيطاناً مَرِيدًا لَهُ سُلْطَانٌ فِي بِلَادِ مِصْرَ طَوِيلٌ عَرِيضٌ وَجَاهٌ وَجُنُودٌ وَعَسَاكِرُ وَسَطْوَةٌ فَهَابَاهُ مِنْ حَيْثُ الْبَشَرِيَّةُ وَخَافَا أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمَا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ فَثَبَّتَهُمَا تَعَالَى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى فَقَالَ (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46] كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (إِنَّا معكم مستمعون) [الشعراء: 15.
] .
(فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبع الْهُدَى.
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وتولى) [طه: 47 - 48] يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَمَرَهُمَا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَيَدْعُوَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُطْلِقَهُمْ مِنْ أَسْرِهِ وَقَهْرِهِ وَلَا يُعَذِّبَهُمْ (1) .
(قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) [طه: 47] وَهُوَ الْبُرْهَانُ الْعَظِيمُ فِي الْعِصِيِّ
وَالْيَدِ (والسلام على من اتَّبَعَ الْهُدَى) تقيد مُفِيدٌ بَلِيغٌ عَظِيمٌ.
ثُمَّ تَهَدَّدَاهُ وَتَوَعَّدَاهُ عَلَى التَّكْذِيبِ فَقَالَا (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أَيْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بِقَلْبِهِ وَتَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مِنْ بِلَادِ مَدْيَنَ دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ وأخيه هرون وهما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل وَهُوَ اللِّفْتُ فَأَكَلَ مَعَهُمَا * ثُمَّ قَالَ: يَا هرون إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي وَأَمَرَكَ أَنْ نَدْعُوَ فِرْعَوْنَ إِلَى عِبَادَتِهِ فَقُمْ مَعِي؟ فَقَامَا يَقْصِدَانِ بَابَ فِرْعَوْنَ، فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ فَقَالَ: مُوسَى لِلْبَوَّابِينَ وَالْحَجَبَةِ: أَعْلِمُوهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بِالْبَابِ فَجَعَلُوا يسخرون منه ويستهزؤن بِهِ (2) .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ طَوِيلٍ.
وَقَالَ محمد بن اسحق أَذِنَ لَهُمَا بَعْدَ سَنَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُ أَحَدٌ يَتَجَاسَرُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ لَهُمَا فَاللَّهُ أَعْلَمُ * وَيُقَالُ إِنَّ مُوسَى تَقَدَّمَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ بِعَصَاهُ فَانْزَعَجَ فِرْعَوْنُ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِمَا فَوَقَفَا بَيْنَ يديه فدعواه إلى الله عزوجل كما أمرهما.
__________
(1) أي لا يعذبهم بالسخرة والتعب في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن ما لا يطيقونه.
(2) الخبر رواه الطبري في تاريخه 1 / 208 وفيه: فانطلقا إليه ليلا، فأتيا الباب فضرباه ففزع فرعون وفزع البواب، وقال فرعون: من هذا الذي يضرب بابي في هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين، ففزع البواب، فأتى فرعون، فأخبره ان ههنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قال: فادخله.
فدخل.. [*]
(1/292)
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى عليه السلام إن هرون اللَّاوِيَّ يَعْنِي مِنْ نَسْلِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ سَيَخْرُجُ وَيَتَلَقَّاكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ مَشَايِخَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِنْدِ فِرْعَوْنَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ * وَقَالَ لَهُ سَأُقْسِّي قَلْبَهُ فَلَا يُرْسِلُ الشَّعْبَ وَأَكْثَرُ آيَاتِي وأعاجيبي بأرض مصر * وأوحى الله إلى هرون أَنْ يَخْرُجَ إِلَى أَخِيهِ يَتَلَقَّاهُ بِالْبَرِّيَّةِ عِنْدَ جَبَلِ حُورِيبَ فَلَمَّا تَلْقَاهُ أَخْبَرَهُ مُوسَى بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ * فَلَمَّا دَخَلَا مِصْرَ جَمْعَا شُيُوخَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمَّا بَلَّغَاهُ رِسَالَةَ اللَّهِ قَالَ:
مَنْ هُوَ اللَّهُ لَا أَعْرِفُهُ وَلَا أُرْسِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يا موسى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أعطى كل شئ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه: 49 - 55] .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ أَنْكَرَ إِثْبَاتَ الصَّانِعِ تَعَالَى قَائِلًا (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا موسى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أعطى كل شئ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ وقدَّر لَهُمْ أَعْمَالًا وَأَرْزَاقًا وَآجَالًا * وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابِهِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ هَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إلى ما قدره له فطابق عمله فِيهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّرَهُ وَعَلِمَهُ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقَدَرِهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قدر فهدى) [الْأَعْلَى: 1 - 3] أَيْ قَدَّرَ قَدَرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ.
(قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) [طه: 51] يَقُولُ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى: فَإِذَا كَانَ رَبُّكَ هُوَ الْخَالِقُ الْمُقَدِّرُ الْهَادِي الْخَلَائِقَ لِمَا قَدَّرَهُ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، فَلِمَ عَبَدَ الْأَوَّلُونَ غَيْرَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَنْدَادِ، مَا قَدْ عَلِمْتَ فَهَلَّا اهْتَدَى إِلَى مَا ذَكَرْتَهُ الْقُرُونُ الْأُولَى (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) [طه: 52] أَيْ هُمْ وَإِنْ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَكَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا أَقُولُ لِأَنَّهُمْ جَهَلَةٌ مِثْلُكَ، كل شئ فَعَلُوهُ مُسْتَطَرٌ عَلَيْهِمْ فِي الزُّبُرِ، مِنْ صَغِيرٍ وكبير، وسيجزيهم على ذلك ربي عزوجل وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ لَا يضل عنه شئ وَلَا يَنْسَى رَبِّي شَيْئًا.
ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ عَظَمَةَ الرَّبِّ وَقُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَجَعْلَهُ الْأَرْضَ مِهَادًا (1) وَالسَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَتَسْخِيرَهُ السَّحَابَ وَالْأَمْطَارَ لِرِزْقِ الْعِبَادِ وَدَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ كَمَا قَالَ: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه: 54] أَيْ لِذَوِي الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْقَوِيمَةِ غَيْرِ السَّقِيمَةِ فَهُوَ تَعَالَى الخالق الرازق.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وأنتم تعلمون) [البقرة: 21 - 22] ولما
__________
(1) مهادا: جمع مهد، وقيل جاز أن يكون مفردا كفراش، أي فراشا وقرارا تستقرون عليها.
[*]
(1/293)
ذَكَرَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ وَاهْتِزَازَهَا بِإِخْرَاجِ نَبَاتِهَا فِيهِ نَبَّهَ بِهِ عَلَى الْمَعَادِ فَقَالَ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْأَرْضِ خَلَقْنَاكُمْ (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) كما قال تعالى (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) .
قال تَعَالَى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم: 27] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى.
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضحى) [طه: 56: 58] .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شَقَاءِ فِرْعَوْنَ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ فِي تَكْذِيبِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنِ اتِّبَاعِهَا وَقَوْلِهِ لِمُوسَى إِنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ وَنَحْنُ نُعَارِضُكَ بِمِثْلِهِ ثُمَّ طَلَبَ مِنْ مُوسَى أَنَّ يُوَاعِدَهُ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَمَكَانٍ مَعْلُومٍ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُظْهِرَ آيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ جَهْرَةً بِحَضْرَةِ النَّاسِ ولهذا قال (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ وَمُجْتَمَعٍ لَهُمْ (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أَيْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي وَقْتِ اشْتِدَادِ ضِيَاءِ الشَّمْسِ فَيَكُونُ الْحَقُّ أَظْهَرَ وَأَجْلَى وَلَمْ يَطْلُبْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَيْلًا فِي ظَلَامٍ كَيْمَا يُرَوِّجُ عَلَيْهِمْ مِحَالًا وَبَاطِلًا بَلْ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا جَهْرَةً لِأَنَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُ كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفُ الْقِبْطِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى.
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ استعلى) [طه: 60 - 64] .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ ذَهَبَ فَجَمَعَ مَنْ كَانَ بِبِلَادِهِ (1) مِنَ السَّحَرَةِ وَكَانَتْ بِلَادُ مِصْرَ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ مَمْلُوءَةً سَحَرَةً فُضَلَاءَ، فِي فَنِّهِمْ غَايَةٌ، فَجَمَعُوا لَهُ مَنْ كُلِّ بَلَدٍ وَمِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ خُلُقٌ كَثِيرٌ وَجَمُّ غَفِيرٌ، فَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ * وَقِيلَ سَبْعِينَ ألفاً قاله القاسم بن أبي بردة.
وَقَالَ السُّدِّيُّ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا (2) .
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا * وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ فِرْعَوْنُ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْعُرَفَاءِ فَيَتَعَلَّمُوا السِّحْرَ وَلِهَذَا قَالُوا وَمَا أكرهتنا عليه من السحر وفي هذا نظر.
__________
(1) في نسخة: من كان في بلاده.
(2) في نسخة بضعة وثمانين ألفا.
وفي أخرى وأربعين ألفا.
[*]
(1/294)
وَحَضَرَ فِرْعَوْنُ وَأُمَرَاؤُهُ وَأَهْلُ دَوْلَتِهِ وَأَهْلُ بَلَدِهِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ.
وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ نَادَى فِيهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا هَذَا الْمَوْقِفَ الْعَظِيمَ فَخَرَجُوا وَهُمْ يَقُولُونَ (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) [الشعراء: 40] .
وَتَقَدَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّحَرَةِ فَوَعَظَهُمْ وَزَجَرَهُمْ عَنْ تَعَاطِي السِّحْرِ الْبَاطِلِ الَّذِي فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ فَقَالَ (وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) [طه: 61 - 62] قِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا (1) فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ نَبِيٍّ وَلَيْسَ بِسَاحِرٍ، وَقَائِلٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ سَاحِرٌ فَاللَّهُ أَعْلَمُ * وَأَسَرُّوا التَّنَاجِيَ بِهَذَا وَغَيْرِهِ (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا) [طه: 63] يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا وأخاه هرون سَاحِرَانِ عَلِيمَانِ مُطْبِقَانِ مُتْقِنَانِ لِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ وَمُرَادُهُمْ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْهِمَا وَيَصُولَا عَلَى الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ وَيَسْتَأْصِلَاكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ وَيَسْتَأْمِرَا عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصناعة (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) * وَإِنَّمَا قَالُوا الْكَلَامَ الْأَوَّلَ لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَوَاصَوْا وَيَأْتُوا بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَكِيدَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالسِّحْرِ وَالْبُهْتَانِ.
وَهَيْهَاتَ كَذَبَتْ وَاللَّهِ الظُّنُونُ وَأَخْطَأَتِ الْآرَاءُ.
أَنَّى يُعَارِضُ الْبُهْتَانُ.
وَالسِّحْرُ وَالْهَذَيَانُ.
خَوَارِقَ الْعَادَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا الدَّيَّانُ.
عَلَى يَدَيْ عَبْدِهِ الْكَلِيمِ.
وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ الْمُؤَيَّدِ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي يَبْهَرُ الْأَبْصَارَ وَتَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ وَالْأَذْهَانُ وَقَوْلُهُمْ (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أي جميع (2) ما عندكم (ثم اتوا صَفّاً) أي جملة واحدة ثم حضوا بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى التَّقَدُّمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ وَمَا يعدهم الشيطان إلا غروراً (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى.
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طه 65 - 69] .
لَمَّا اصْطَفَّ السَّحَرَةُ، وَوَقَفَ موسى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تُجَاهَهُمْ قَالُوا لَهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ قَبْلَنَا (3) ، وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ قَبْلَكَ (قَالَ بَلْ أَلْقُوا) أَنْتُمْ وَكَانُوا قَدْ عَمَدُوا إِلَى حِبَالٍ وَعِصِيٍّ فَأَوْدَعُوهَا الزِّئْبَقَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تَضْطَرِبُ بِسَبَبِهَا تِلْكَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ اضْطِرَابًا يُخَيَّلُ لِلرَّائِي أَنَّهَا تَسْعَى بِاخْتِيَارِهَا * وَإِنَّمَا تَتَحَرَّكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) [الشعراء: 44] .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وجاؤا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف: 116] .
وَقَالَ تَعَالَى (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى.
فَأَوْجَسَ في نفسه خيفة موسى)
__________
(1) في القرطبي: تشاوروا.
(2) أي جميع ما عندكم من كيد وحيلة واعزموا وجدوا واحكموا أمركم.
(3) في قولهم (إما أن تلقي) فيه أدب تجاه موسى وكان ذلك إشارة إلى - قرب إيمانهم - وأحد أسبابه.
[*]
(1/295)
أَيْ خافٍ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتَتِنُوا بِسِحْرِهِمْ وَمِحَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضَعُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي السَّاعة الرَّاهنة (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ الساحر حيت أَتَى) فَعِنْدَ ذَلِكَ أَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ وَقَالَ (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [يونس: 81 - 82] وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ.
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ.
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
رب موسى وهرون) [الْأَعْرَافِ: 117 - 122] .
وَذَلِكَ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ألقاها صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً ذَاتَ قَوَائِمَ، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلف، وَعُنُقٍ عَظِيمٍ وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ بِحَيْثُ إِنَّ النَّاسَ انْحَازُوا مِنْهَا وَهَرَبُوا سِرَاعًا وَتَأَخَّرُوا عَنْ مَكَانِهَا وَأَقْبَلَتْ هِيَ عَلَى مَا أَلْقَوْهُ (1) مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَجَعَلَتْ تَلَقَّفَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا.
وَأَمَّا السَّحَرَةُ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا مَا هَالَهُمْ وَحَيَّرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ وَاطَّلَعُوا عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي خَلَدِهِمْ وَلَا بَالِهِمْ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ صِنَاعَاتِهِمْ وَأَشْغَالِهِمْ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ تَحَقَّقُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِسِحْرٍ وَلَا شَعْبَذَةٍ (2) وَلَا مِحَالٍ وَلَا خَيَالٍ وَلَا زُورٍ وَلَا بُهْتَانٍ وَلَا ضَلَالٍ بَلْ حَقٌّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَقُّ الَّذِي ابْتَعَثَ هَذَا الْمُؤَيَّدَ بِهِ بِالْحَقِّ وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةَ الْغَفْلَةِ، وَأَنَارَهَا بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْهُدَى وَأَزَاحَ عَنْهَا الْقَسْوَةَ، وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ وَخَرُّوا لَهُ سَاجِدِينَ، وَقَالُوا جَهْرَةً لِلْحَاضِرِينَ وَلَمْ يَخْشَوْا عُقُوبَةً وَلَا بَلْوَى (آمَنَّا برب موسى وهرون) كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هرون وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى.
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى.
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى.
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) : [طه: 70 - 76] .
قَالَ سَعِيدُ بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ لَمَّا سَجَدَ السَّحَرَةُ رَأَوْا مَنَازِلَهُمْ وَقُصُورَهُمْ فِي الْجَنَّةِ تُهَيَّأُ لَهُمْ وَتُزَخْرَفُ لِقُدُومِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى تَهْوِيلِ فِرْعَوْنَ وَتَهْدِيدِهِ وَوَعِيدِهِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ السحرة قد أسلموا واشهروا ذكر موسى وهرون فِي النَّاسِ
عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ، أَفْزَعَهُ ذَلِكَ، وَرَأَى أَمْرًا بَهَرَهُ، وَأَعْمَى بَصِيرَتَهُ وَبَصَرَهُ، وكان فيه كيد
__________
(1) في نسخة: على ما ألقوا - وفي أخرى: على ما أقبلت.
(2) في نسخة: شعوذة.
[*]
(1/296)
وَمَكْرٌ وَخِدَاعٌ، وَصَنْعَةٌ بَلِيغَةٌ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِلسَّحَرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذن لكم) [الاعراف: 123] أَيْ هَلَّا شَاوَرْتُمُونِي فِيمَا صَنَعْتُمْ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بِحَضْرَةِ رَعِيَّتِي ثُمَّ تَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ وَأَبْرَقَ وَأَرْعَدَ وَكَذَبَ فَأَبْعَدَ قَائِلًا (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 123] .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنَ الْبُهْتَانِ [الَّذِي] يَعْلَمُ كُلُّ فَرْدٍ عَاقِلٍ مَا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْهَذَيَانِ بَلْ لَا يَرُوجُ مَثَلَهُ عَلَى الصِّبْيَانِ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دَوْلَتِهِ وَغَيْرِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَرَهُ هَؤُلَاءِ يَوْمًا مِنَ الدَّهر فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَهُمُ الَّذِي عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ * ثُمَّ هُوَ لَمْ يَجْمَعْهُمْ وَلَا عِلْمَ بِاجْتِمَاعِهِمْ حَتَّى كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي اسْتَدْعَاهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وَوَادٍ سَحِيقٍ وَمِنْ حَوَاضِرِ بِلَادِ مِصْرَ وَالْأَطْرَافِ وَمِنَ الْمُدُنِ وَالْأَرْيَافِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إلى فرعون وملائه فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى.
عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ.
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ.
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ.
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ.
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ.
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وجاؤا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ.
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ.
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
رب موسى وهرون قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ.
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف: 103 - 126] .
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ موسى وهرون إلى فرعون وملائه بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.
فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ.
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ.
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ.
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [يُونُسَ: 75 - 82] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ
(1/297)
المسجونين.
قال أو لو جئتك بشئ مُبِينٍ.
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ.
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ.
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ.
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ.
لَعَلَّنَا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين.
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قالوا لفرعون إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ.
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ.
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ.
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ موسى وهرون * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) .
[الشُّعَرَاءِ: 19 - 51] .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ وَافْتَرَى وَكَفَرَ غَايَةَ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وَأَتَى بِبُهْتَانٍ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُونَ بَلِ الْعَالَمُونَ فِي قَوْلِهِ (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 123] وَقَوْلُهُ (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) يَعْنِي يَقْطَعُ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى وَعَكْسَهُ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أَيْ لَيَجْعَلُهُمْ (1) مَثُلَةً وَنَكَالًا لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِمْ أَحَدٌ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَأَهْلِ مِلَّتِهِ وَلِهَذَا قَالَ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ لِأَنَّهَا أَعْلَى وَأَشْهَرُ (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) أَيْ لَنْ نُطِيعَكَ وَنَتْرُكَ مَا وَقَرَ فِي قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات (وَالَّذِي فرطنا) قِيلَ مَعْطُوفٌ.
وَقِيلَ قَسَمٌ (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أَيْ فَافْعَلْ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ (إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيا) أَيْ إِنَّمَا حُكْمُكَ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِذَا انْتَقَلْنَا مِنْهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ صِرْنَا إِلَى حُكْمِ الَّذِي أَسْلَمْنَا لَهُ وَاتَّبَعْنَا رُسُلَهُ (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أَيْ وَثَوَابُهُ خَيْرٌ مِمَّا وَعَدَتْنَا بِهِ مِنَ التَّقْرِيبِ (2) وَالتَّرْغِيبِ وَأَبْقَى أَيْ وَأَدْوَمُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا) [الشعراء: 50 - 51] أَيْ (3) ما جترمناه مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من القبط، بموسى وهرون عليهما لسلام * وَقَالُوا لَهُ أَيْضًا (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جاءتنا) أي
__________
1) في نسخة: أي ليجعلنهم.
2) في نسخة: الترهيب.
3) في القرطبي: أي الشرك الذي كانوا عليه.
[*]
(1/298)
لَيْسَ لَنَا عِنْدَكَ ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانُنَا بِمَا جَاءَنَا بِهِ رَسُولُنَا، وَاتِّبَاعُنَا آيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جاءتنا (رَبَّنَا
أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً) أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى مَا ابْتُلِينَا بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ هَذَا الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ وَالسُّلْطَانِ الشَّدِيدِ بَلِ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) وَقَالُوا أَيْضًا يَعِظُونَهُ وَيُخَوِّفُونَهُ بِأْسَ رَبِّهِ الْعَظِيمِ (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً (1) فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) يَقُولُونَ لَهُ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ فَكَانَ مِنْهُمْ (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) أَيِ الْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) فَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ فَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْأَقْدَارُ الَّتِي لَا تُغَالَبُ وَلَا تُمَانَعُ وَحُكْمُ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ لِيُبَاشِرَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يَصُبُّ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ الْحَمِيمُ * وَيُقَالُ لَهُ عَلَى وجه التقريع والتوبيخ وهو المقبوح المنبوح والذميم اللَّئِيمُ (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان: 49] .
وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ صَلَبَهُمْ وَعَذَّبَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كانوا من أول النهار سحرة صاروا مِنْ آخِرِهِ شُهَدَاءَ بَرَرَةً * وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُمْ (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِيْنَ) .
فَصْلٌ وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ العظيم وهو الغلب الذي غلبته الْقِبْطِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْهَائِلِ وَأَسْلَمَ السَّحَرَةُ الَّذِينَ اسْتَنْصَرُوا رَبَّهُمْ لَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قَصَصِ مَا تقدَّم فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ.
قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ.
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا.
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كيف تعلمون) [الْأَعْرَافِ: 127 - 129] .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ أَنَّهُمْ حَرَّضُوا مِلَكَهُمْ فِرْعَوْنَ عَلَى أَذِيَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُقَابَلَتِهِ بَدَلَ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ بالكفر والرد والأذى قالوا (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) يَعْنُونَ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ دَعْوَتَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ والنهي عن عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ فَسَادٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ القبط لعنهم الله.
وقرأ بعضهم (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) أَيْ وَعِبَادَتَكَ وَيَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا وَيَذْرُ دِينَكَ وَتُقَوِّيهِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى.
الثَّانِي وَيَذَرُ أَنْ يَعْبُدَكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أنَّه إِلَهٌ لَعَنَهُ اللَّهُ (قَالَ سَنُقَتِّلُ أبناءهم ونستحي نِسَاءهُمْ) أي لئلا يكثر مقاتلتهم (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) أي غالبون (وقال موسى لقومه *
__________
(1) المجرم: المراد به المشرك.
[*]
(1/299)
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ إِذَا هَمُّوا همَّ بِأَذِيَّتِكُمْ وَالْفَتْكِ بِكُمْ فَاسْتَعِينُوا أَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ وَاصْبِرُوا عَلَى بَلِيَّتِكُمْ (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لمتقين) أي فكونوا أنتم المتقين لتكون لكم العاقبة كما قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ.
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس: 84 - 86] وقولهم (قَالُوا أُوذِينَا (1) مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) أَيْ قَدْ كَانَتِ الْأَبْنَاءُ تُقْتَلُ قَبْلَ مَجِيئِكَ وَبَعْدَ مَجِيئِكَ إِلَيْنَا (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 129] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم الْمُؤْمِنِ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا (2) وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كذاب) [غَافِرٍ: 23 - 24] وَكَانَ فِرْعَوْنُ الْمَلِكَ وَهَامَانُ الْوَزِيرَ.
وَكَانَ قَارُونُ إِسْرَائِيلِيًّا مِنْ قَوْمِ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ كان على دين فرعون وملائه وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا كَمَا سَتَأْتِي قِصَّتُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر: 25] وَهَذَا الْقَتْلُ لِلْغِلْمَانِ مِنْ بَعْدِ بَعْثَةِ مُوسَى إِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ (3) ، وَالتَّقْلِيلِ لِمَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِئَلَّا يكون لهم شوكة يمتنعون بها، ويصولون عَلَى الْقِبْطِ بِسَبَبِهَا وَكَانَتِ الْقِبْطُ مِنْهُمْ يَحْذَرُونَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَرُدَّ عَنْهُمْ قَدَرَ الذي يقول للشئ كُنْ فَيَكُونُ (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26] .
وَلِهَذَا يَقُولُ النَّاسُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ: صَارَ فِرْعَوْنُ مُذَكِّرًا، وَهَذَا مِنْهُ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ فِي زَعْمِهِ يَخَافُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُضِلَّهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
(وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) [غافر: 27] أَيْ عُذْتُ بِاللَّهِ وَلَجَأْتُ إِلَيْهِ [واستجرت] (4) بجنابه أن يسطو فرعون وغيره على بسوء وقوله (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) أَيْ جَبَّارٍ عَنِيدٍ لَا يَرْعَوِي وَلَا يَنْتَهِي وَلَا يَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ مَعَادًا وَلَا جَزَاءً.
وَلِهَذَا قَالَ (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ.
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أتقتلون رجلا
__________
(1) قيل في الاذى: - في ابتداء ولادته صلى الله عليه وسلم كان الاذى قتل الابناء واسترقاق النساء.
- تسخير بَنِي إسْرائِيلَ فِي الاعمال نصف النهار.
- الاذى بعد مجيئه: تسخيرهم جميع النهار كله.
- قال الحسن: الاذى قبل وبعد: واحد هو الجزية.
(القرطبي 7 / 263) .
(2) وهي الآيات التسع المذكورة في قوله تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قيل هي: العصا واليد واللسان والبحر والطُّوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم.
وقيل وفيها: السنين والنقص من الثمرات.
(3) زاد القرطبي: ليمتنعوا من الايمان ولئلا يكثر جمعهم.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.
[*]
(1/300)
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ.
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 28 - 29] وهذا الرَّجل هُوَ ابْنُ عَمِّ فِرْعَوْنَ (1) وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ قَوْمِهِ خَوْفًا مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ * وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَهُوَ بَعِيدٌ وَمُخَالِفٌ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْقِبْطِ بِمُوسَى إِلَّا هَذَا وَالَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ (2) وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ * قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَا يُعْرَفُ مَنِ اسْمُهُ شَمْعَانُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ إِلَّا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ * حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ * وَفِي تَارِيخِ الطبراني أن اسمه خير فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ فَلَمَّا هَمَّ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِقَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَشَاوَرَ مَلَأَهُ فِيهِ خَافَ هَذَا الْمُؤْمِنُ عَلَى مُوسَى فَتَلَطَّفَ فِي رَدِّ فِرْعَوْنَ بِكَلَامٍ جَمَعَ فيه الترغيب والترهيب فقال عَلَى وَجْهِ الْمَشُورَةِ وَالرَّأْيِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ " (3) .
وَهَذَا مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ هذا المقام فإن فرعون لأشد جَوْرًا مِنْهُ وَهَذَا الْكَلَامُ لَا أَعْدَلَ مِنْهُ لأن فيه عصمة نبي * ويحتمل أنه [كاشفهم] (4) بِإِظْهَارِ إِيمَانِهِ وَصَرَّحَ لَهُمْ بِمَا كَانَ يَكْتُمُهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَالَ رَبِّيَ اللَّهُ فمثل هذا لا يقابل بهذا بَلْ بِالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالْمُوَادَعَةِ وَتَرَكِ الِانْتِقَامِ يَعْنِي لانه (قد جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ بِالْخَوَارِقِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى صَدْقِهِ، فِيمَا جَاءَ بِهِ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ، فَهَذَا إِنْ وَادَعْتُمُوهُ كنتم في سلامة لانه (إن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ولا يضركم ذلك (وَإِنْ يَكُ صَادِقاً) وَقَدْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُ (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أَيْ وَأَنْتُمْ تُشْفِقُونَ أَنْ يَنَالَكُمْ أَيْسَرُ جَزَاءٍ مِمَّا يَتَوَعَّدُكُمْ بِهِ فَكَيْفَ بِكُمْ إِنَّ حَلَّ جَمِيعُهُ عَلَيْكُمْ.
وَهَذَا الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ التَّلَطُّفِ وَالِاحْتِرَازِ وَالْعَقْلِ التَّامِّ.
وقوله
__________
(1) اختلفوا في اسمه: قيل حبيب وقيل شمعان.
وقال الطبري: خبرك وقيل حزقيل.
والاكثر من العلماء على انه: قبطي ; ابن عم فرعون.
(2) والمراد به: الرجل الذي ذكر اسمه في قوله تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) .
وقد تقدم التعليق.
فليراجع.
(3) أخرجه أحمد في مسنده ج 3 / 19 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم.
وفيه علي بن زيد بن جدعان ; وفيه: كلمة حق بدل من كلمة عدل.
ورواه ابن ماجه، وأبو داود في سننه في كتاب الملاحم باب الامر والنهي.
والترمذي في 34 كتاب الفتن (13) باب ما جاء في أفضل الجهاد ح 2174 ولفظة: إن من أعظم الجهاد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
(4) في بعض النسخ: كاشرهم وهو تحريف.
[*]
(1/301)
(يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) [غافر: 29] يُحَذِّرُهُمْ أَنَّ يَسْلُبُوا هَذَا الْمُلْكَ العزيز فإنه من تعرض الدُّوَلُ لِلدِّينِ إِلَّا سُلِبُوا مُلْكَهُمْ وَذَلُّوا بَعْدَ عِزِّهِمْ وَكَذَا وَقْعَ لِآلِ فِرْعَوْنَ مَا زَالُوا فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ، وَمُخَالَفَةٍ وَمُعَانَدَةٍ لِمَا جَاءَهُمْ مُوسَى بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالْأَمْلَاكِ وَالدُّورِ وَالْقُصُورِ، وَالنِّعْمَةِ وَالْحُبُورِ، ثُمَّ حُوِّلُوا إِلَى الْبَحْرِ مُهَانِينَ، وَنُقِلَتْ أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ.
ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق، الْبَارُّ الرَّاشِدُ التَّابِعُ لِلْحَقِّ، النَّاصِحُ لِقَوْمِهِ الْكَامِلُ العقل: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ عَالِينَ عَلَى النَّاسِ حَاكِمِينَ عَلَيْهِمْ (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بأس الله إن جَاءنَا) أَيْ لَوْ كُنْتُمْ أَضْعَافَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لَمَا نَفَعَنَا ذَلِكَ وَلَا رَدَّ عَنَّا بَأْسَ مَالِكِ الْمَمَالِكِ.
(قَالَ فِرْعَوْنُ) أَيْ فِي جَوَابِ هَذَا كُلِّهِ (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) أَيْ مَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا مَا عِنْدِي (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) وَكَذَبَ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَهَاتَيْنِ المقدمتين فإنه قد كان يتحقق فِي بَاطِنِهِ وَفِي نَفْسِهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي جاء به موسى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا كَانَ يُظْهِرُ خِلَافَهُ بَغْيًا وَعُدْوَانًا وَعُتُوًّا وَكُفْرَانًا قَالَ الله تعالى إخباراً عن مُوسَى (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بصائر وإني لا أظنك يا فرعون مَثْبُوراً فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً.
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء: 102 - 104] وَقَالَ تَعَالَى (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ.
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النَّمْلِ: 13 - 14] وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) .
فَقَدْ كَذَبَ أَيْضًا فإنَّه لَمْ يَكُنْ عَلَى رَشَادٍ مِنَ الْأَمْرِ بَلْ كَانَ عَلَى سَفَهٍ وضلال وخبل وخيال فكان أَوَّلًا مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَالْأَمْثَالَ.
ثُمَّ دَعَا قَوْمَهُ الْجَهَلَةَ الضُّلَّالَ إِلَى أَنِ اتَّبَعُوهُ وَطَاوَعُوهُ (1) وَصَدَّقُوهُ فِيمَا زَعَمَ مِنَ الْكُفْرِ الْمُحَالِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ رَبٌّ تَعَالَى اللَّهُ ذُو الْجَلَالِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ.
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ.
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً ومثلا للآخرين) [الزُّخْرُفِ: 51 - 56] وَقَالَ تَعَالَى: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [النَّازِعَاتِ: 20 - 26] وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ.
إِلَى فرعون وملائه فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يوم القيمة فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ.
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً ويوم القيمة بئس الرفد المرفود) [هود: 96 - 99] .
__________
(1) في نسخة: وأطاعوه ; وفي أخرى: وطاعوه.
[*]
(1/302)
وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ كَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) وَفِي قَوْلِهِ (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) .
(وَقَالَ الذين آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ.
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ.
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ.
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر: 30 - 35] يُحَذِّرُهُمْ وَلِيُّ اللَّهِ إِنْ كَذَّبُوا بِرَسُولِ اللَّهِ مُوسَى أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ النَّقِمَاتِ وَالْمَثُلَّاتِ مِمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِهِمْ ذَلِكَ مما أقام بِهِ الْحُجَجَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً فِي صدق ما جاءتْ بِه الأنبياء لما أَنْزَلَ مِنَ النِّقْمَةِ بِمُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَمَا أَنْجَى (1) اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَخَوَّفَهُمْ يوم القيمة وَهُوَ يَوْمُ التَّنَادِ أَيْ حِينَ يُنَادِي النَّاس بَعْضُهُمْ بَعْضًا حِينَ يُوَلُّونَ [مُدْبِرِينَ] (2) إِنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ (يَقُولُ الْإِنْسَانُ
يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ - إِلَى رَبِّكَ يومئذ المستقر) [الْقِيَامَةِ: 10 - 12] وَقَالَ تَعَالَى (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ.
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا تكذبان) [الرَّحْمَنِ: 33 - 36] وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ (يَوْمَ التَّنَادِّ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَي يَوْمَ الْفِرَارِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ يُحِلُّ اللَّهُ بِهِمُ الْبَأْسَ، فَيَوَدُّونَ الْفِرَارَ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ.
(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ، لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لعلكم تسألون) [الْأَنْبِيَاءِ: 12 - 13] ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عَنْ نُبُوَّةِ يُوسُفَ فِي بِلَادِ مِصْرَ مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَهَذَا مِنْ سُلَالَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَيَدْعُو النَّاس إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَأَنْ لَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ بَرِّيَّتِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي ذلك الزمان أي مِنْ سَجِيَّتِهِمُ التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَمُخَالَفَةَ الرُّسُلِ وَلِهَذَا قَالَ (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) [غافر: 34] أَيْ وَكَذَّبْتُمْ فِي هَذَا وَلِهَذَا قَالَ (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ.
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) [غافر: 34 - 35] أي يريدون حُجَجَ اللَّهِ وَبَرَاهِينَهُ وَدَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ يَمْقُتُهُ اللَّهُ غَايَةَ الْمَقْتِ أَيْ يُبْغِضُ مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ مِنَ النَّاسِ وَمَنِ اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الْخَلْقِ (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر: 35] قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ وبالنعت وكلاهما
__________
(1) في نسخة: ونجى.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
[*]
(1/303)
مُتَلَازِمٌ أَيْ هَكَذَا إِذَا خَالَفَتِ الْقُلُوبُ الْحَقَّ - وَلَا تُخَالِفُهُ إِلَّا بِلَا بُرْهَانٍ - فَإِنَّ اللَّهَ يطبع عليها، أي يختم عليها [بما فيها] (1) .
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي
تَبَابٍ) [غَافِرٍ: 36 - 37] كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَزَعَمَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ مَا كَذَّبَهُ وَافْتَرَاهُ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لاظنه كاذبا) [القصص: 33] وقال ههنا (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ) أَيْ طُرُقَهَا وَمَسَالِكَهَا (فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً) وَيَحْتَمِلُ هَذَا مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ إِنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا غَيْرِي وَالثَّانِي فِي دَعْوَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ.
وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ حَالِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ ظَاهِرَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَالثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ حَيْثُ قال (فأطلع إلى إله موسى) أَيْ فَأَسْأَلَهُ هَلْ أَرْسَلَهُ أَمْ لَا (وَإِنِّي لأظنه كاذبا) أَيْ فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَصُدَّ النَّاسَ عَنْ تَصْدِيقِ مُوسَى عليه السلام أن يَحُثَّهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سوء علمه وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) [غافر: 37] وَقُرِئَ (وَصَدَّ عَنِ السبيل ما كيد فرعون إلا في تباب) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ يَقُولُ إِلَّا فِي خسار أي باطل لا يحصل له شئ مِنْ مَقْصُودِهِ الَّذِي رَامَهُ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ أَنْ يَتَوَصَّلُوا بِقُوَاهُمْ إِلَى نَيْلِ السَّمَاءِ أَبَدًا.
أَعْنِي السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَكَيْفَ بِمَا بَعْدَهَا من السموات الْعُلَى، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الِارْتِفَاعِ، الَّذِي لا يعلمه إلا الله عزوجل.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الصَّرْحَ، وَهُوَ الْقَصْرُ الَّذِي بَنَاهُ وَزِيرُهُ هَامَانُ له، لم يرَ بناء أعلى منه وإن كَانَ مَبْنِيًّا مِنَ الْآجُرِّ الْمَشْوِيِّ بِالنَّارِ وَلِهَذَا قال (فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) [القصص: 38] وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يُسَخَّرُونَ فِي ضَرْبِ اللَّبِنِ وَكَانَ مِمَّا حَمَلُوا مِنَ التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شئ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهِ بَلْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ تُرَابَهُ وَتِبْنَهُ وَمَاءَهُ، وَيُطْلَبُ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ قِسْطٌ مُعَيَّنٌ، إِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ وَإِلَّا (2) ضُرِبُوا وَأُهِينُوا غَايَةَ الْإِهَانَةِ وَأُوذُوا غَايَةَ الْأَذِيَّةِ.
وَلِهَذَا قَالُوا لِمُوسَى (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أن تأتينا ومن بعدما جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فَوَعَدَهُمْ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ عَلَى الْقِبْطِ وَكَذَلِكَ وَقَعَ وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَلْنَرْجِعْ إِلَى نَصِيحَةِ الْمُؤْمِنِ وَمَوْعِظَتِهِ وَاحْتِجَاجِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة ; واستدركت من مطبوعة السعادة مصر.
(2) في نسخة: ضربوا وأهينوا - بدون إلا - وفي أخرى - ضربوهم وهانوهم.
[*]
(1/304)
اتبعوني أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غَافِرٍ: 38 - 40] يَدْعُوهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَالْحَقِّ وَهِيَ مُتَابَعَةُ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى وتصديق فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، ثُمَّ زَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ الْفَانِيَةِ الْمُنْقَضِيَةِ لَا مَحَالَةَ، وَرَغَّبَهُمْ فِي طَلَبِ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهُ الَّذِي لَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ لَدَيْهِ.
الْقَدِيرِ الَّذِي ملكوت كل شئ بِيَدَيْهِ، الَّذِي يُعْطِي عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرًا، وَمِنْ عَدْلِهِ لَا يُجَازَى عَلَى السَّيِّئَةِ إِلَّا مِثْلَهَا.
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ الَّتِي مِنْ وَافَاهَا - مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ - فَلَهُمُ الْجَنَّاتُ (1) الْعَالِيَاتُ، وَالْغُرَفُ (2) الْآمِنَاتُ، وَالْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَةِ الْفَائِقَاتُ، وَالْأَرْزَاقُ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا تَبِيدُ.
وَالْخَيْرُ الَّذِي كُلُّ مَا لَهُمْ مِنْهُ فِي مَزِيدٍ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي إِبْطَالِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَتَخْوِيفِهِمْ مما يصيرون إليه فقال (ويا قوم مالي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ.
لا جرم أن ما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 41 - 46] كان يدعوهم إلى عبادة رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الذي يقول لشئ كُنْ فَيَكُونُ وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ الْجَاهِلِ الضَّالِّ الْمَلْعُونِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ
بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ نَفْعٍ وَلَا إِضْرَارٍ (3) فَقَالَ (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) أَيْ لَا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا وَلَا حُكْمًا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَكَيْفَ تَمْلِكُهُ يَوْمَ الْقَرَارِ * وَأَمَّا الله عزوجل فَإِنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الْعِبَادَ وَيُمِيتُهُمْ وَيَبْعَثُهُمْ فَيُدْخِلُ طَائِعَهُمُ الْجَنَّةَ وعاصيهم إلى النَّارَ.
ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ إِنْ هُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ بِقَوْلِهِ (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) قال الله (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) أي بإنكاره سلم (4) مما أصابهم
__________
(1) في نسخة: الدرجات العاليات.
(2) في نسخة: والغرف والخيرات.
(3) في نسخة: لا تملك لا نفعاً ولا ضراً.
(4) بعد تهديده ووعيده لهم، تأمروا عليه لقتله - أي لمؤمن آل فرعون - ففوض أمره لله.
قال مقاتل: فهرب إلى الجبل ولم يقدروا عليه، وقال قتادة: نجاه الله مع بني إسرائيل.
[*]
(1/305)
مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَمَكْرِهِمْ فِي صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا أَظْهَرُوا لِلْعَامَّةِ مِنَ الْخَيَالَاتِ وَالْمُحَالَاتِ الَّتِي لَبَّسُوا (1) بِهَا عَلَى عَوَامِّهِمْ وَطَغَامِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ (وَحَاقَ) أَيْ أَحَاطَ (بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) أَيْ تُعْرَضُ أَرْوَاحُهُمْ فِي بَرْزَخِهِمْ (2) صَبَاحًا وَمَسَاءً عَلَى النَّارِ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 45 - 46] وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُهْلِكْهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ وَإِزَاحَةِ الشُّبَهِ عَنْهُمْ، وَأَخْذِ الحجة عليهم منهم، بالترهيب (3) تَارَةً وَالتَّرْغِيبِ أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى.
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.
فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) [الْأَعْرَافِ: 130 - 133] .
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ ابْتَلَى آلَ فِرْعَوْنَ وَهُمْ قَوْمُهُ مِنَ الْقِبْطِ بِالسِّنِينَ وَهِيَ أَعْوَامُ الْجَدْبِ الَّتِي لَا يُسْتَغَلُّ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا ينتفع بضرع وقوله (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ) وَهِيَ قِلَّةُ الثِّمَارِ مِنَ الْأَشْجَارِ (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي فلم ينتفعوا ولم يرعوا بَلْ تَمَرَّدُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ (فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ) والخصب ونحوه (قَالُوا لَنَا هَذِهِ) أَيْ هَذَا الَّذِي نَسْتَحِقُّهُ وَهَذَا الَّذِي يَلِيقُ بِنَا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) أَيْ يَقُولُونَ هَذَا بِشُؤْمِهِمْ أَصَابَنَا هَذَا، وَلَا يقولون في الأول أنه ببركتهم وحسن مجاورتهم [لهم] (4) وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ مُنْكِرَةٌ مُسْتَكْبِرَةٌ نَافِرَةٌ عَنِ الْحَقِّ إِذَا جَاءَ الشَّرُّ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ رَأَوْا خَيْرًا ادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أَيِ اللَّهُ يَجْزِيهِمْ عَلَى هَذَا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ (وَلَكِنَّ أكثرهم لا يعلمون) [الاعراف: 132] (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بهما فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 133] أَيْ مَهْمَا جِئْتَنَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ - وَهِيَ الْخَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ (5) فَلَسْنَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتَّبِعُكَ وَلَا نُطِيعُكَ ولو جئتنا لكل آيَةٍ (6) وَهَكَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
__________
(1) في النسخ المطبوعة: ألبسوا.
(2) في نسخة: في البرزخ.
(3) في النسخ المطبوعة: فبالترغيب.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.
(5) في نسخة: وهي خوارق العادات (6) قال القرطبي في تفسيره: بقي موسى في القبط بعد إلقاء السحرة سجدا عشرين سنة يرميهم الآيات إلى أن أغرق الله فرعون: وعن نوف قال: أربعين سنة.
[*]
(1/306)
العذاب الاليم) [يُونُسَ: 96 - 97] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) [الأعراف: 133] أَمَّا الطُّوفَانُ فَعَنِ ابْنِ عبَّاس هُوَ كَثْرَةُ الْأَمْطَارِ الْمُتْلِفَةِ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ.
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ * وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ هُوَ كَثْرَةُ الْمَوْتِ * وَقَالَ مُجَاهِدٌ الطُّوفَانُ الْمَاءُ وَالطَّاعُونُ عَلَى كُلِّ حَالٍ * وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْرٌ طَافَ بِهِمْ * وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ عَنِ الْحَكَمِ بن مينا، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ قال] (1) : " الطُّوفَانُ الْمَوْتُ " (2) وَهُوَ غَرِيبٌ * وَأَمَّا الْجَرَادُ فَمَعْرُوفٌ * وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ سُئل رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْجَرَادِ فَقَالَ: " أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ " (3) وَتَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّقَذُّرِ لَهُ، كَمَا تَرَكَ أَكْلَ الضَّبِّ، وَتَنَزَّهَ عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ غَزْونَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ (4) .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي التَّفْسِيرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ اسْتَاقَ خضراءهم فلم يترك لهم زرعاً وَلَا ثِمَارًا وَلَا سَبَدًا وَلَا لَبَدًا (5) .
وَأَمَّا الْقُمَّلُ فَعَنِ ابْنِ عبَّاس: هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَعَنْهُ: أَنَّهُ الْجَرَادُ الصِّغَارُ الَّذِي لَا أَجْنِحَةَ لَهُ.
وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ هُوَ دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ * وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ [القمل] (6) هِيَ الْبَرَاغِيثُ * وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّهَا الْحَمْنَانُ (7) وَهُوَ صِغَارُ الْقِرْدَانِ - فَوْقَ الْقَمْقَامَةِ - فَدَخَلَ مَعَهُمُ الْبُيُوتَ وَالْفُرُشَ فَلَمْ يَقِرَّ لَهُمْ قَرَارٌ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ مَعَهُ الْغَمْضُ وَلَا الْعَيْشُ.
وَفَسَّرَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ بِهَذَا الْقُمَّلِ الْمَعْرُوفِ.
وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ.
وَأَمَّا الضفادع فمعروفة لبستهم حتى كانت
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) رواه السيوطي في الفتح الكبير 2 / 219.
(3) أخرجه أبو داود في سننه - في كتاب الاطعمة - باب في أكل الجراد.
ج 3813 ص ج 3 / 357 بيروت.
وفيه محمد بن الفرج البغدادي.
صدوق.
(4) أخرجه مسلم في 34 / 8 / 52 والبخاري في 72 / 13 وأبو داود في سننه باب في أكل الجراد ح 3812 وفيه: ست أو سبع غزوات نأكله معه.
(5) لا سبدا ولا لبداً: أي لا قليلاً ولا كثيراً.
(6) سقطت من النسخ المطبوعة.
(7) الحمنان: جمع حمنانة فالقراد أول ما يكون - قمقامة ثم يصير حمنانة - ثم يصير قرادا ثم يصير حلمة.
قال والقمل واحدتها قملة وهي من جنس القردان، وهي أصغر منها، وهو يتخلق من عرق البعير ومن الوسخ والتلطخ بالثلوط والابوال كتاب الحيوان للجاحظ ج 5 / 438 وما بعدها.
[*]
(1/307)
تَسْقُطُ فِي أَطَعِمَاتِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا فَتَحَ فَمَهُ (1) لِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ سَقَطَتْ فِي فِيهِ ضِفْدِعَةٌ مِنْ تِلْكَ الضَّفَادِعِ.
وَأَمَّا الدَّمُ فَكَانَ قَدْ مُزِجَ مَاؤُهُمْ كُلُّهُ بِهِ فَلَا يَسْتَقُونَ مِنَ النِّيلِ شَيْئًا إِلَّا وَجَدُوهُ دَمًا عَبِيطًا وَلَا مِنْ نَهْرٍ وَلَا بِئْرٍ ولا شئ إِلَّا كَانَ دَمًا فِي السَّاعة الرَّاهنة.
هَذَا كله لم ينل بني إسرائيل من ذلك شئ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْحُجَّةِ القاطعة إن هذا كله يحصل لهم من فِعْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَنَالُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِي هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحق فَرَجَعَ عَدُوُّ اللَّهِ فِرْعَوْنُ حِينَ آمَنَتِ السَّحَرَةُ مَغْلُوبًا مَفْلُولًا ثُمَّ أَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى الكفر والتمادي في الشر وتابع اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ: فَأَخَذَهُ بِالسِّنِينَ فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الطُّوفَانَ، ثُمَّ الْجَرَادَ، ثُمَّ الْقُمَّلَ، ثُمَّ الضَّفَادِعَ، ثُمَّ الدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ (2) فَأَرْسَلَ الطُّوفَانَ وَهُوَ الْمَاءُ فَفَاضَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ثُمَّ رَكَدَ.
لا يقدرون على أن يخرجوا وَلَا أَنْ يَعْمَلُوا شَيْئًا حَتَّى جُهِدُوا جُوعًا فلما بلغهم ذلك (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الأعراف: 134] فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَكَشْفَهُ (3) عَنْهُمْ فَلَمَّا لَمَّ يَفُوا له بشئ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَ الشَّجَرَ فِيمَا بَلَغَنِي حتَّى إِنْ كَانَ لَيَأْكُلُ مَسَامِيرَ الْأَبْوَابِ مِنَ الْحَدِيدِ حَتَّى تَقَعَ دُورُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالُوا فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فلم
يفوا له بشئ مِمَّا قَالُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ.
فَذَكَرَ لِي أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى كَثِيبٍ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَمَشَى إِلَى كَثِيبٍ أَهْيَلَ عَظِيمٍ فَضَرَبَهُ بِهَا فَانْثَالَ عَلَيْهِمْ قُمَّلًا حَتَّى غَلَبَ عَلَى الْبُيُوتِ وَالْأَطْعِمَةِ وَمَنَعَهُمُ النَّوْمَ وَالْقَرَارَ فَلَمَّا جَهَدَهُمْ قَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا لَهُ فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عنهم فلما لم يفوا له بشئ مما قالوا أرسل اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ فَمَلَأَتِ الْبُيُوتَ وَالْأَطْعِمَةَ وَالْآنِيَةَ فَلَمْ يَكْشِفْ أَحَدٌ ثَوْبًا وَلَا طَعَامًا إِلَّا وجد فيه الضفادع قد غلب عَلَيْهِ فَلَمَّا جَهَدَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يفوا بشئ مِمَّا قَالُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَصَارَتْ مِيَاهُ آلِ فِرْعَوْنَ دَمًا لَا يَسْتَقُونَ مِنْ بئر ولا نهر يَغْتَرِفُونَ مِنْ إِنَاءٍ إِلَّا عَادَ دَمًا عَبِيطًا وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ الْمُرَادُ بِالدَّمِ الرُّعَافُ رواه ابن أبي حاتم.
قال الله تعلى (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ.
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عنها غافلين) [الْأَعْرَافِ: 134 - 136] .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ على الضلال والجهل والاستكبار عن إتباع
__________
(1) في نسخة: فاه.
(2) قال القرطبي: قال مفصلات لانه كان بين الآية والآية ثمانية أيام، وقيل: أربعون يوما.
وقيل: شهر.
(3) أي العذاب، وقال ابن جبير: كان العذاب بالطاعون.
والسياق يقتضي أن الرجز قد يكون ما تقدم من إظهار الآيات.
[*]
(1/308)
آيَاتِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ مَعَ مَا أَيَّدَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْبَلِيغَةِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي أَرَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا عِيَانًا وَجَعَلَهَا عَلَيْهِمْ دَلِيلًا وَبُرْهَانًا * وَكُلَّمَا شَاهَدُوا آيَةً وَعَايَنُوهَا وجهدهم وأضنكهم حَلَفُوا وَعَاهَدُوا مُوسَى لَئِنْ كَشَفَ عَنْهُمْ هَذِهِ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيُرْسِلُنَّ مَعَهُ مَنْ هُوَ مِنْ حِزْبِهِ فَكُلَّمَا رُفِعَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْآيَةُ عَادُوا إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَأَعْرَضُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ آيَةً أُخْرَى هِيَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَهَا وَأَقْوَى فَيَقُولُونَ فَيَكْذِبُونَ.
وَيَعِدُونَ وَلَا يَفُونَ لَئِنْ
كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسرائيل فَيُكْشَفُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْوَبِيلُ.
ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى جَهْلِهِمُ الْعَرِيضِ الطَّوِيلِ هَذَا وَالْعَظِيمُ الْحَلِيمُ الْقَدِيرُ يُنْظِرُهُمْ، وَلَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ، وَيُؤَخِّرُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ بِالْوَعِيدِ إِلَيْهِمْ * ثُمَّ أَخَذَهُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عليهم والإنذار إِلَيْهِمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ فَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا وَسَلَفًا لِمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلًا لِمَنِ اتعظ بهم مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كما قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ فِي سُورَةِ حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إلى فرعون وملائه فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَلَمَّا جَاءهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ.
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ.
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ.
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ.
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً ومثلا للآخرين) [الزُّخْرُفِ: 46 - 56] .
يَذْكُرُ تَعَالَى إِرْسَالَهُ عَبْدَهُ الْكَلِيمَ الْكَرِيمَ، إِلَى فِرْعَوْنَ الْخَسِيسِ اللَّئِيمِ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَيَّدَ رَسُولَهُ بِآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَاضِحَاتٍ، تَسْتَحِقُّ أَنْ تُقَابَلَ بالتعظيم والتصديق، وَأَنْ يَرْتَدِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ، ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم، فإذا هو مِنْهَا يَضْحَكُونَ، وَبِهَا يَسْتَهْزِئُونَ وَعَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يصدون، وعن الحق، [ينصرفون] (1) فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ تَتْرَى يَتْبَعُ بَعْضُهَا بعضا، وكل آية أكبر من التي تتلوها، لأن التوكيد أَبْلَغُ مِمَّا قَبْلَهُ (وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نَقْصًا وَلَا عَيْبًا لِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُمُ السَّحَرَةُ وَلِهَذَا خَاطَبُوهُ بِهِ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَضَرَاعَتِهِمْ لَدَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَبَجُّحِ فِرْعَوْنَ بِمُلْكِهِ وَعَظْمَةِ بَلَدِهِ وَحُسْنِهَا وَتَخَرُّقِ الْأَنْهَارِ فِيهَا * وَهِيَ الخلجانات الَّتِي يَكْسِرُونَهَا أَمَامَ زِيَادَةِ النِّيلِ ثُمَّ تَبَجَّحَ بِنَفْسِهِ وَحِلْيَتِهِ وَأَخَذَ يَتَنَقَّصُ رَسُولَ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام ويزدريه بكونه
(لا يَكَادُ يُبِينُ) يَعْنِي كَلَامَهُ بِسَبَبِ مَا كَانَ فِي لِسَانِهِ مِنْ بَقِيَّةِ تِلْكَ اللُّثْغَةِ الَّتِي هِيَ شَرَفٌ له وكمال
__________
(1) في النسخ المطبوعة: يصدون.
[*]
(1/309)
وَجَمَالٌ.
وَلَمْ تَكُنْ مَانِعَةً لَهُ أَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْحَى إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِ، وَتَنَقَّصَهُ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِكَوْنِهِ لا أساور في بدنه وَلَا زِينَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةِ النِّسَاءِ، لَا يَلِيقُ بِشَهَامَةِ الرِّجَالِ، فَكَيْفَ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ عَقْلًا وَأَتَمُّ مَعْرِفَةٌ وَأَعْلَى هِمَّةً وَأَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأَعْلَمُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْأُخْرَى وَقَوْلُهُ (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) لَا يَحْتَاجُ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنْ تُعَظِّمَهُ الْمَلَائِكَةُ فَالْمَلَائِكَةُ يُعَظِّمُونَ وَيَتَوَاضَعُونَ لِمَنْ هُوَ دُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَثِيرٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ " (1) فَكَيْفَ يَكُونُ تَوَاضُعُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ لِمُوسَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّكْرِيمُ * وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ بِالرِّسَالَةِ فَقَدْ أُيِّدَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ بِمَا يَدُلُّ قَطْعًا لِذَوِي الْأَلْبَابِ وَلِمَنْ قَصَدَ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَيَعْمَى عَمَّا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ مَنْ نَظَرَ إِلَى الْقُشُورِ وَتَرَكَ لُبَّ اللُّبَابِ وَطَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ رَبُّ الْأَرْبَابِ وَخَتَمِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ كَمَا هُوَ حَالُ فِرْعَوْنَ الْقِبْطِيِّ الْعَمِيِّ الْكَذَّابِ قال الله تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) أَيْ اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ وَدَرَّجَهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ إِلَى أَنْ صَدَّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا أسَفُونَا) أي أغضبونا (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) أَيْ بِالْغَرَقِ وَالْإِهَانَةِ وَسَلْبِ الْعِزِّ وَالتَّبَدُّلِ بِالذُّلِّ وَبِالْعَذَابِ بَعْدَ النِّعْمَةِ وَالْهَوَانِ بَعْدَ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّارِ بَعْدَ طِيبِ الْعَيْشِ عِيَاذًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَسُلْطَانِهِ القديم من ذلك (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً) أَيْ لِمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِي الصِّفَاتِ (وَمَثَلاً) أَيْ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ وَخَافَ مِنْ وَبِيلِ مَصْرَعِهِمْ مِمَّنْ بَلَغَهُ جَلِيَّةُ خَبَرِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ.
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ويوم القيمة لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ويوم القيمة هم من المقبوحين) [الْقَصَصِ: 36 - 42] يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَادَّعَى مِلْكُهُمُ الْبَاطِلَ، وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ، وَأَطَاعُوهُ فِيهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ الْقَدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، وَلَا يُمَانَعُ عَلَيْهِمْ، فَانْتَقَمَ مِنْهُمْ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَأَغْرَقَهُ هُوَ وَجُنُودَهُ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يبق منهم ديار، بل كل قَدْ غَرِقَ فَدَخَلَ النَّارَ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ لَعْنَةً بَيْنَ الْعَالَمِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ التِّرمذي: لا يعرف إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس إسناده عندي بمتصل.
وقد روى عن الاوزاعي عن كثير بن يزيد بن سمرة عنه.
قال البخاري: وهذا أصح (الترغيب والترهيب للمنذري ج 1 / 94) .
[*]
(1/310)
هَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ لَمَّا تَمَادَى قِبْطُ مِصْرَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ، مُتَابَعَةً لِمَلِكِهِمْ فِرْعَوْنَ، وَمُخَالَفَةً لِنَبِيِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقَامَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ الْحُجَجَ الْعَظِيمَةَ الْقَاهِرَةَ، وَأَرَاهُمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا بَهَرَ الْأَبْصَارَ وَحَيَّرَ الْعُقُولَ، وَهُمْ مع ذلك لا يرعون وَلَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْزِعُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ.
قِيلَ ثَلَاثَةٌ وَهُمُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَا عِلْمَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِخَبَرِهَا، ومؤمن آل فرعون، الذي تقدمت حِكَايَةُ مَوْعِظَتِهِ وَمَشُورَتِهِ وَحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَالرَّجُلُ النَّاصِحُ، الَّذِي جَاءَ يَسْعَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: (يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) قَالَهُ ابْنُ عبَّاس فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَمُرَادُهُ غَيْرُ السَّحَرَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا من القبط * وقيل بل آمن طَائِفَةٌ مِنَ الْقِبْطِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَالسَّحَرَةُ كُلُّهُمْ وَجَمِيعُ شَعْبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ
مِنْ فِرْعَوْنَ وملائهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس: 83] فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنَ (1) لِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ عَلَى مُوسَى لِقُرْبِهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي التَّفْسِيرِ وَإِيمَانُهُمْ كَانَ خُفْيَةً لِمَخَافَتِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَسَطْوَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَسُلْطَتِهِ وَمِنْ ملائهم أَنْ يَنِمُّوا عَلَيْهِمْ إِلَيْهِ فَيَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ) أَيْ جَبَّارٌ عَنِيدٌ مُسْتَعْلٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (2) أي في جيمع أُمُورِهِ وَشُئُونِهِ وَأَحْوَالِهِ وَلَكِنَّهُ جُرْثُومَةٌ قَدْ حَانَ انْجِعَافُهَا (3) وَثَمَرَةٌ خَبِيثَةٌ قَدْ آنَ قِطَافُهَا وَمُهْجَةٌ مَلْعُونَةٌ قَدْ حُتِمَ إِتْلَافُهَا.
وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ.
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس: 84 - 86] يأمرهم بالتوكل على الله والاستمالة بِهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ فَأْتَمَرُوا بِذَلِكَ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 87] أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنْ يَتَّخِذُوا لِقَوْمِهِمَا بُيُوتًا مُتَمَيِّزَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ عَنْ بيوت القبط ليكونوا على أهبة في الرَّحِيلِ إِذَا أَمَرُوا بِهِ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بُيُوتَ بعض وقوله (وَاجْعَلُوا
__________
(1) قال القرطبي: عن ابن عباس: من قومه: يعني من قوم فرعون، منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه.
وقيل: هم أقوام أباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية.
قال الفراء: وعلى هذا فالكفاية في قومه: ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الامهات، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط.
(2) قال القرطبي: أي المجاوزين الحد في الكفر، لانه كان عبدا فادعى الربوبية.
(3) انجعافها: استئصالها وإهلاكها.
[*]
(1/311)
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قِيلَ مَسَاجِدَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُمْ.
وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِعَانَةِ
عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ وَالضِّيقِ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [البقرة: 45] وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ يَقْدِرُونَ عَلَى إِظْهَارِ عِبَادَتِهِمْ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ وَمَعَابِدِهِمْ فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ شِعَارِ الدِّينِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي اقتضى حالهم إخفاءه خوفاً من فرعون وملائه.
والمعنى الأول أقوى لقوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي الثَّانِيَ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أَيْ مُتَقَابِلَةً (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ أتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [يُونُسَ: 88 - 89] هَذِهِ دَعْوَةٌ عَظِيمَةٌ دَعَا بِهَا كَلِيمُ اللَّهِ مُوسَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ غَضَبًا عَلَيْهِ لِتَكَبُّرِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَصَدِّهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُعَانَدَتِهِ وَعُتُوِّهِ وَتَمَرُّدِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَمُكَابَرَتِهِ الْحَقَّ الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ الْحِسِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ وَالْبُرْهَانَ الْقَطْعِيَّ فَقَالَ (رَبَّنَا إِنَّكَ أتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) يَعْنِي قَوْمَهُ مِنَ الْقِبْطِ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ وَدَانَ بِدِينِهِ (زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أَيْ وَهَذَا يَغْتَرُّ بِهِ مَنْ يُعَظِّمُ أَمْرَ الدنيا، فيحسب الجاهل أنهم على شئ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ وَهَذِهِ الزِّينَةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْمَرَاكِبِ الْحَسَنَةِ الْهَنِيَّةِ، وَالدُّورِ الْأَنِيقَةِ، وَالْقُصُورِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ، وَالْمَنَاظِرِ الْبَهِيَّةِ، وَالْمُلْكِ الْعَزِيزِ، وَالتَّمْكِينِ وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ فِي الدُّنيا لَا الدِّينِ (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد أي أهلكها [حتى لا ترى] (3) وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكُ اجْعَلْهَا حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَةِ مَا كَانَتْ، وَقَالَ قتادة: بلغنا أن زروعهم [وأموالهم] (1) صَارَتْ حِجَارَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جَعَلَ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً وَقَالَ أَيْضًا صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا حِجَارَةً.
ذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فقال عمر ابن عبد العزيز لغلام له: قم إيتني بكيس، فجاءه بكيس (2) فإذا فيه حمص وبيض قَدْ حُوِّلَ حِجَارَةً * رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس: 88] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ اطْبَعْ عَلَيْهَا (3) ، وَهَذِهِ دَعْوَةُ غَضَبٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِدِينِهِ، وَلِبَرَاهِينِهِ.
فَاسْتَجَابَ اللَّهُ
تَعَالَى لَهَا وَحَقَّقَهَا وَتَقَبَّلَهَا، كَمَا اسْتَجَابَ لِنُوحٍ فِي قَوْمِهِ حَيْثُ قَالَ (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح: 26 - 27]
__________
(1) ما بين معكوفين زيادة من القرطبي.
(2) في الطبري: بخريطة ; والخريطة: كيس.
(3) أطبع عليها حتى لا تنشرح للايمان، وبمعنى آخر أي أمنعهم الايمان.
[*]
(1/312)
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى حِينَ دَعَا على فرعون وملائه وأمَّن (1) أَخُوهُ هَارُونُ عَلَى دُعَائِهِ فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الدَّاعِي أَيْضًا (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [يونس: 89] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اسْتَأْذَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرْعَوْنَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَهُوَ كَارِهٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، وَتَأَهَّبُوا لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مَكِيدَةٌ بِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ لِيَتَخَلَّصُوا مِنْهُمْ وَيَخْرُجُوا عَنْهُمْ وَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ يَسْتَعِيرُوا حُلِيًّا مِنْهُمْ فَأَعَارُوهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا فَخَرَجُوا بِلَيْلٍ فَسَارُوا مُسْتَمِرِّينَ ذَاهِبِينَ مِنْ فَوْرِهِمْ طَالِبِينَ بِلَادَ الشَّامِ فَلَمَّا عَلِمَ بِذَهَابِهِمْ فِرْعَوْنُ حَنِقَ عَلَيْهِمْ كُلَّ الْحَنَقِ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَشَرَعَ فِي اسْتِحْثَاثِ جَيْشِهِ، وَجَمْعِ جُنُودِهِ لِيَلْحَقَهُمْ وَيَمْحَقَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ.
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ.
فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ.
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ.
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ.
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ.
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرحيم) [الشُّعَرَاءِ: 52 - 68] قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا رَكِبَ فِرْعَوْنُ فِي جُنُودِهِ طَالِبًا (2) بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقْفُو أَثَرَهُمْ كَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمْرَمٍ حَتَّى قِيلَ كَانَ فِي خُيُولِهِ مِائَةُ أَلْفِ فَحْلٍ (3) أَدْهَمَ، وَكَانَتْ عِدَّةُ جُنُودِهِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ
وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ غَيْرَ الذُّرِّيَّةِ وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ صُحْبَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدُخُولِهِمْ إِلَيْهَا صُحْبَةَ أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستاً وَعِشْرِينَ سَنَةً شَمْسِيَّةً.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَحِقَهُمْ بِالْجُنُودِ فَأَدْرَكَهُمْ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَلَمْ يَبْقَ ثَم رَيْبٌ وَلَا لَبْسٌ وَعَايَنَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ وَتَحَقَّقَهُ وَرَآهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُقَاتَلَةُ وَالْمُجَاوَلَةُ (4) وَالْمُحَامَاةُ فَعِنْدَهَا قَالَ أصحاب موسى وهم خائفون إنا لمدركون وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اضْطُرُّوا فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الْبَحْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ وَلَا مَحِيدٌ إِلَّا سُلُوكُهُ وَخَوْضُهُ.
وَهَذَا مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْجِبَالُ عَنْ يَسْرَتِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَهِيَ شَاهِقَةٌ مُنِيفَةٌ وَفِرْعَوْنُ قَدْ غَالَقَهُمْ وَوَاجَهَهُمْ وَعَايَنُوهُ فِي جُنُودِهِ وَجُيُوشِهِ وَعَدَدِهِ وَعُدَدِهِ وَهُمْ مِنْهُ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالذُّعْرِ لِمَا قَاسَوْا في سلطانه من الإهانة والمنكر فشكوا إلى نبي
__________
(1) كان الذي دعا موسى، وأمن هارون، والتأمين على الدعاء أن يقول: آمين، فقولك آمين دعاء أي رب استجب لي.
(2) في نسخة: في طلب بني إسرائيل.
(3) هنا: من الخيل، ولم يكن معه من الخيل أنثى بل ذكورها.
(4) وفي النسخ المطبوعة: المجادلة، وما أثبتناه مناسب للسياق.
[*]
(1/313)
اللَّهِ مَا هُمْ فِيهِ مِمَّا قَدْ شَاهَدُوهُ وَعَايَنُوهُ فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) وَكَانَ فِي السَّاقَةِ فَتَقَدَّمَ إِلَى الْمُقَدِّمَةِ وَنَظَرَ إِلَى الْبَحْرِ وَهُوَ يَتَلَاطَمُ بِأَمْوَاجِهِ وَيَتَزَايَدُ زَبَدُ أجاجه وهو يقول: ههنا أمرت ومعه أخوه هرون وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٌ مِنْ سَادَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعُلَمَائِهِمْ، وعبَّادهم الْكِبَارِ، وَقَدْ أَوْحَى الله إليه وجعله نبياً بعد موسى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شاء الله * وَمَعَهُمْ أَيْضًا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُمْ وُقُوفٌ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِكَمَالِهِمْ عَلَيْهِمْ عُكُوفٌ * وَيُقَالُ إِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ جَعَلَ يَقْتَحِمُ بِفَرَسِهِ مِرَارًا فِي الْبَحْرِ هَلْ يُمْكِنُ سُلُوكُهُ، فَلَا يُمْكِنُ وَيَقُولُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أههنا أُمِرْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ.
فَلَمَّا تَفَاقَمَ
الْأَمْرُ، وَضَاقَ الْحَالُ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَاقْتَرَبَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فِي جِدِّهِمْ: وَحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ وَغَضَبِهِمْ وَحَنَقِهِمْ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ إِلَى مُوسَى الكليم (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) فَلَمَّا ضَرَبَهُ يُقَالُ إِنَّهُ قَالَ لَهُ: انْفَلِقْ بإذن الله، ويقال: إنه كناه بأبي خلد فَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء: 63] وَيُقَالُ: إِنَّهُ انفلق اثنتي عَشْرَةَ طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ (1) طَرِيقٌ يَسِيرُونَ فِيهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ صَارَ أَيْضًا شَبَابِيكَ لِيَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ جِرْمٌ شَفَّافٌ إِذَا كَانَ مِنْ وَرَائِهِ ضِيَاءٌ حَكَاهُ.
وَهَكَذَا كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ قَائِمًا مِثْلَ الجبال مكفوفاً بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشئ كن فيكون.
وأمر الله ريح الدبور (2) فلقحت حال (3) البحر فأذهبته حيت صَارَ يَابِسًا لَا يَعْلَقُ فِي سَنَابِكِ الْخُيُولِ وَالدَّوَابِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) [طه: 77 - 79] وَالْمَقْصُودُ أنَّه لمَّا آلَ أَمْرُ الْبَحْرِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِإِذْنِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ، الشَّدِيدِ الْمِحَالِ، أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجُوزَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَانْحَدَرُوا فِيهِ مُسْرِعِينَ، مُسْتَبْشِرِينَ مُبَادِرِينَ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مَا يُحَيِّرُ النَّاظِرِينَ، وَيَهْدِي قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا جَاوَزُوهُ وَجَاوَزَهُ وَخَرَجَ آخِرُهُمْ مِنْهُ، وَانْفَصَلُوا عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِ أَوَّلِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ إِلَيْهِ وَوُفُودِهِمْ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ لِيَرْجِعَ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَكُونَ لِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ وَصُولٌ إِلَيْهِ.
وَلَا سَبِيلٌ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ الْقَدِيرُ ذُو الْجَلَالِ أَنَّ يَتْرُكَ الْبَحْرَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ وَهُوَ الصَّادق فِي الْمَقَالِ (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ.
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ.
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ.
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ.
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ.
فَأَسْرِ بِعِبَادِي
__________
(1) سبط: كان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا.
والجمع أسباط.
(2) ريح الدبور: الريح الغربية.
(3) حال البحر: الطين الاسود الذي يكون في أرضه.
[*]
(1/314)
لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ.
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ.
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ.
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ.
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ.
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ.
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ) [الدخان: 17 - 23] فقوله تعالى (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أَيْ سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِهِ لَا تُغَيِّرْهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبَّاس وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ * فَلَمَّا تَرَكَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ وَحَالَتِهِ وَانْتَهَى فِرْعَوْنُ فَرَأَى مَا رَأَى وَعَايَنَ مَا عَايَنَ.
هَالَهُ هَذَا الْمَنْظَرُ الْعَظِيمُ، وَتَحَقَّقَ مَا كَانَ يَتَحَقَّقُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، مِنْ أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ رَبِّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَأَحْجَمَ (1) وَلَمْ يَتَقَدَّمْ، وَنَدِمَ فِي نَفْسِهِ عَلَى خُرُوجِهِ فِي طَلَبِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ لَكِنَّهُ أَظْهَرَ لِجُنُودِهِ تَجَلُّدًا (2) وَعَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْعِدَا، وَحَمَلَتْهُ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ، وَالسَّجِيَّةُ الْفَاجِرَةُ، عَلَى أَنْ قَالَ لِمَنِ اسْتَخَفَّهُمْ فَأَطَاعُوهُ، وَعَلَى بَاطِلِهِ تَابَعُوهُ، انْظُرُوا كَيْفَ انْحَسَرَ الْبَحْرُ لِي لِأُدْرِكَ عَبِيدِي الْآبِقِينَ مِنْ يَدِي، الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِي، وَبَلَدِي، وَجَعَلَ يُورِي فِي نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ خَلْفَهُمْ، وَيَرْجُو أَنْ يَنْجُوَ، وَهَيْهَاتَ وَيُقْدِمُ تَارَةً وَيُحْجِمُ تَارَاتٍ.
فَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبَدَّى فِي صُورَةِ فَارِسٍ رَاكِبٍ عَلَى رَمَكَةِ (1) حايل فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْ فَحْلِ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَحَمْحَمَ إِلَيْهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَأَسْرَعَ جِبْرِيلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاقْتَحَمَ الْبَحْرَ وَاسْتَبَقَ الْجَوَادَ وَقَدْ أَجَادَ فَبَادَرَ مُسْرِعًا ; هَذَا وَفِرْعَوْنُ لَا يَمْلِكُ مِنْ نفسه ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَلَمَّا رَأَتْهُ الْجُنُودُ قَدْ سَلَكَ الْبَحْرَ، اقْتَحَمُوا وَرَاءَهُ مُسْرِعِينَ، فَحَصَلُوا فِي الْبَحْرِ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ، حَتَّى همَّ أَوَّلُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى كليمه، فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ فَضَرَبَهُ فَارْتَطَمَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا كَانَ، فَلَمْ ينجُ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز
الرحيم) [يونس: 90 - 92] أَيْ فِي إِنْجَائِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَلَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِغْرَاقِهِ أَعْدَاءَهُ، فَلَمْ يَخْلُصْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ، عَلَى قُدْرَتِهِ - تَعَالَى - الْعَظِيمَةِ.
وَصِدْقِ رَسُولِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْمَنَاهِجِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَقَالَ تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البحر فاتبعه فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لغافلون) [الشعراء: 65 - 68] يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَيْفِيَّةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ، زَعِيمِ كَفَرَةِ الْقِبْطِ، وَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَتِ الْأَمْوَاجُ تَخْفِضُهُ تارة، وترفعه أخرى،
__________
(1) في نسخة: فخاف.
(2) قوله تجلدا في نسخة الجلد.
(3) رمكة حايل: الفرس التي لم تلد.
[*]
(1/315)
وَبَنُو إِسْرَائِيلَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَإِلَى جُنُودِهِ، مَاذَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ، وَبِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ الْعَظِيمِ، وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ، لِيَكُونَ أَقَرَّ لِأَعْيُنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَشْفَى لِنُفُوسِهِمْ، فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ الْهَلَكَةَ وَأُحِيطَ بِهِ، وَبَاشَرَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ أَنَابَ حِينَئِذٍ وَتَابَ، وَآمَنَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا كَمَا قال تَعَالَى (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يُونُسَ: 96 - 97] وَقَالَ تَعَالَى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) [غَافِرٍ: 84 - 85] وَهَكَذَا دَعَا مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ أَنْ يُطْمَسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَيُشْدَدَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) أَيْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ وَيَكُونُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُمَا أَيْ لِمُوسَى وهرون حين دعوا بهذا (قد أجيب دَعْوَتُكُمَا) فَهَذَا مِنْ إِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَعْوَةَ كَلِيمِهِ وأخيه هرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حدَّثنا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ (1) عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) قال: " قال لي جبريل لو رأيتنني وَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَدَسَسْتُهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ الرَّحْمَةُ " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيالسيّ: حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ (2) وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ لِي جِبْرِيلُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخِذٌ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ (3) الرَّحْمَةُ ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَقَالَ التِّرمذي حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.
وَأَشَارَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رِوَايَةٍ إِلَى وَقْفِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) قَالَ: فَخَافَ جِبْرِيلُ أَنْ تَسْبِقَ رَحْمَةُ اللَّهِ فِيهِ غَضَبَهُ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْحَالَ بِجَنَاحَيْهِ، فَيَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهُ فَيَرْمُسُهُ (4) * وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حديث أبي خالد
__________
(1) وهو علي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري الضرير.
ضعيف من الرابعة، ليس بالثبت سمع سعيد بن المسيب وجماعة.
قال الدارقطني: لا يزال عندي فيه لين مات سنة 131 تقريب التهذيب 2 / 37 / 342 الكاشف 2 / 248 والحديث أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 345.
(2) هو عدي بن ثابت الانصاري تابعي كوفي في نسبه اختلاف روى عن أبيه والبراء وابن أبي أوفى، ثقة قاضي الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة توفي سنة 116.
الكاشف 2 / 226 ; تقريب التهذيب 2 / 16 / 135 والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده 2 / 54 / 2307.
(3) في النسخ المطبوعة: أن تناله، وأثبتنا ما في مسند الطيالسي: أن تدركه.
(4) يرمسه: يدفنه ; [*]
(1/316)
بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ كثير بن زاذان (1) وليس بمعروف، وعن أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم " قال قَالَ لِي جِبْرِيلُ يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أُغَطُّهُ وَأَدُسُّ مِنَ الْحَالِ فِي فِيهِ
مخافة أن تدركه رحمة الله يغفر لَهُ ".
يَعْنِي فِرْعَوْنَ.
وَقَدْ أَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ كَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَيُقَالُ: إِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ خَطَبَ بِهِ النَّاسَ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوايات: إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: مَا بَغَضْتُ أَحَدًا بُغْضِي لِفِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى وَلَقَدْ جَعَلْتُ أَدُسُّ فِي فِيهِ الطِّينَ حِينَ قَالَ مَا قَالَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَنَصٌّ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ تَعَالَى مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَوْ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كَانَ لَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ إِذَا عَايَنُوا النَّارَ وَشَاهَدُوهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام: 27] قَالَ اللَّهُ (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام: 28] وَقَوْلُهُ (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خلقك آيَةً) [يونس: 92] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: شَكَّ بَعْضُ بَنِي إسْرائِيلَ فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَمُوتُ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَرَفَعَهُ عَلَى مُرْتَفَعٍ.
قِيلَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَقِيلَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا مِنْ مَلَابِسِهِ لِيَتَحَقَّقُوا بِذَلِكَ هَلَاكَهُ وَيَعْلَمُوا قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا قال (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) أَيْ مُصَاحِبًا دِرْعَكَ الْمَعْرُوفَةَ بِكَ (لِتَكُونَ) أَيْ أنت آية (لِمَنْ خَلْفِكَ) أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (2) دَلِيلًا عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الَّذِي أَهْلَكَهُ.
وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المارد ننجيك مصاحباً لتكون دِرْعُكَ عَلَامَةً لِمَنْ وَرَاءَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مَعْرِفَتِكَ وَأَنَّكَ هَلَكْتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ هَلَاكُهُ وَجُنُودِهِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ.
قَالَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا " وَأَصْلُ هَذَا الحديث في الصَّحيحين (3) وغيرهما.
والله أعلم.
__________
(1) كثير بن زاذان النخعي الكوفي، عن عاصم بن ضمرة وعنه عنبسة قاضي الري، لا يثبت حديثه أبو حاتم وأبو زرعة جهلاء.
الكاشف ج 3 / 4 تقريب التهذيب 2 / 131 / 9.
(2) زاد في القرطبي: ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 65 / 10 / 2 / 4680 فتح الباري.
وأخرجه مسلم في صحيحه 13 / 19 / 127 وفيه: " نحن أولى بموسى منكم " فأمر بصومه.
وأخرجه ابن ماجه بنحوه: وفيه " نحن أحق بموسى منكم ".
فصامه، وأمر بصيامه.
[*]
(1/317)
[فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنْ] (1) أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ.
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ.
قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ.
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [الْأَعْرَافِ: 136 - 141] يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ فِي غَرَقِهِمْ وَكَيْفَ سَلَبَهُمْ عِزَّهُمْ وما لهم وَأَنْفُسَهُمْ وَأَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ كَمَا قَالَ (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: 59] وَقَالَ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) وقال ههنا (وأرثنا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137] أَيْ أَهْلَكَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ وَسَلَبَهُمْ عِزَّهُمُ الْعَزِيزَ الْعَرِيضَ فِي الدُّنْيَا وَهَلَكَ الْمَلِكُ وَحَاشِيَتُهُ وَأُمَرَاؤُهُ وَجُنُودُهُ وَلَمْ يَبْقَ بِبَلَدِ مِصْرَ سِوَى الْعَامَّةِ وَالرَّعَايَا.
فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي تَارِيخِ مِصْرَ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَسَلَّطَ نِسَاءُ مِصْرَ عَلَى رِجَالِهَا بِسَبَبِ أَنَّ نِسَاءَ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ تَزَوَّجْنَ بِمَنْ دُونَهُنَّ مِنَ الْعَامَّةِ فَكَانَتْ لَهُنَّ السَّطْوَةُ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَرَّتْ
هَذِهِ سُنَّةَ نساء مصر إلى يومنا هَذَا (2) .
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا أُمِرُوا بِالْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّهْرَ أَوَّلَ سَنَتِهِمْ، وَأُمِرُوا أَنْ يَذْبَحَ كُلُّ أَهْلِ بَيْتٍ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى حَمَلٍ فَلْيَشْتَرِكِ الْجَارُ وَجَارُهُ فِيهِ فَإِذَا ذَبَحُوهُ فَلْيَنْضَحُوا مِنْ دَمِهِ عَلَى أَعْتَابِ أَبْوَابِهِمْ لِيَكُونَ عَلَّامَةً لَهُمْ عَلَى بُيُوتِهِمْ وَلَا يَأْكُلُونَهُ مَطْبُوخًا وَلَكِنْ مَشْوِيًّا بِرَأْسِهِ وَأَكَارِعِهِ وَبَطْنِهِ وَلَا يُبْقُوا مِنْهُ شَيْئًا وَلَا يكثروا لَهُ عَظْمًا وَلَا يُخْرِجُوا مِنْهُ شَيْئًا إِلَى خَارِجِ بُيُوتِهِمْ، وَلْيَكُنْ خُبْزُهُمْ فَطِيرًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ابْتِدَاؤُهَا مِنَ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَتِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ، فإذا أكلوا فتكن أَوْسَاطُهُمْ مَشْدُودَةً، وَخِفَافُهُمْ فِي أَرْجُلِهِمْ، وَعِصِيُّهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَلْيَأْكُلُوا بِسُرْعَةٍ قِيَامًا.
وَمَهْمَا فَضَلَ عَنْ عَشَائِهِمْ فَمَا بَقِيَ إِلَى الْغَدِ فَلْيَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ، وَشَرَعَ لَهُمْ هَذَا عِيدًا لِأَعْقَابِهِمْ مَا دَامَتِ التَّوْرَاةُ مَعْمُولًا بِهَا، فَإِذَا نُسِخَتْ بَطَلَ شَرْعُهَا وقد وقع.
قالوا وقتل الله عزوجل فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَبْكَارَ الْقِبْطِ وَأَبْكَارَ دَوَابِّهِمْ ليشتغلوا
__________
(1) ما بين معكوفين سقط من النسخ المطبوعة.
(2) في النسخ المطبوعة: يومك ; وما أثبتناه الصواب.
[*]
(1/318)
عَنْهُمْ وَخَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ انْتَصَفَ النَّهَارُ وَأَهَّلُ مِصْرَ فِي مَنَاحَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى أَبْكَارِ أَوْلَادِهِمْ، وَأَبْكَارِ أَمْوَالِهِمْ، لَيْسَ مِنْ بَيْتٍ إِلَّا وَفِيهِ عَوِيلٌ.
وَحِينَ جَاءَ الْوَحْيُ إِلَى مُوسَى خَرَجُوا مُسْرِعِينَ، فَحَمَلُوا الْعَجِينَ قَبْلَ اخْتِمَارِهِ، وَحَمَلُوا الْأَزْوَادَ فِي الْأَرْدِيَةِ، وَأَلْقَوْهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ * وَكَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حُلِيًّا كَثِيرًا فَخَرَجُوا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ سِوَى الذَّرَّارِيِّ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَكَانَتْ مُدَّةُ مُقَامِهِمْ بِمِصْرَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمْ.
وَهَذِهِ السَّنَةُ عِنْدَهُمْ تُسَمَّى سَنَةَ الْفَسْخِ وَهَذَا الْعِيدُ عِيدُ الْفَسْخِ.
وَلَهُمْ عِيدُ الْفَطِيرِ وَعِيدُ الْحَمَلِ وَهُوَ أَوَّلُ السَّنَةِ * وَهَذِهِ الْأَعْيَادُ الثَّلَاثَةُ آكَدُ أَعْيَادِهِمْ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِمْ، وَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ أَخْرَجُوا مَعَهُمْ تَابُوتَ يُوسُفَ (1) عَلَيْهِ السَّلَامُ وَخَرَجُوا عَلَى طَرِيقِ بَحْرِ سُوفَ.
وَكَانُوا فِي النَّهَارِ يَسِيرُونَ وَالسَّحَابُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ فِيهِ عَامُودُ نُورٍ وَبِاللَّيْلِ أَمَامَهُمْ عَامُودُ نَارٍ فَانْتَهَى بِهِمُ
الطَّرِيقُ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَنَزَلُوا هُنَالِكَ وَأَدْرَكَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَهُمْ هُنَاكَ حُلُولٌ عَلَى شَاطِئِ الْيَمِّ فَقَلِقَ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: كَانَ بَقَاؤُنَا بِمِصْرَ أحبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الْبَرِّيَّةِ.
وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ: لَا تَخْشَوْا فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى بَلَدِهِمْ بَعْدَ هَذَا.
قَالُوا: وَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ وَأَنْ يَقْسِمَهُ لِيَدْخُلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْبَحْرِ وَالْيَبَسِ.
وَصَارَ الماء من ههنا وههنا كَالْجَبَلَيْنِ وَصَارَ وَسَطُهُ يَبَسًا لِأَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِ رِيحَ الْجَنُوبِ وَالسَّمُومِ فَجَازَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، وَأَتْبَعُهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوهُ أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَرَجَعَ الْمَاءُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ.
لَكِنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ الْبَحْرَ ارْتَطَمَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الصُّبْحِ وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ فِي تَعْرِيبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا ولما أغرق الله فرعون وجنوده حينئذ سح مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ لِلرَّبِّ وَقَالُوا: نُسَبِّحُ الرَّبَّ الْبَهِيَّ، الَّذِي قَهَرَ الْجُنُودَ، وَنَبَذَ فُرْسَانَهَا فِي الْبَحْرِ الْمَنِيعِ الْمَحْمُودِ: وَهُوَ تَسْبِيحٌ طَوِيلٌ.
قَالُوا وَأَخَذَتْ مَرْيَمُ (2) النَّبِيَّةُ - أُخْتُ هَارُونَ - دُفًّا بِيَدِهَا وَخَرَجَ النِّسَاءُ فِي أَثَرِهَا كُلُّهُنَّ بِدُفُوفٍ وَطُبُولٍ وَجَعَلَتْ مَرْيَمُ تُرَتِّلُ لَهُنَّ، وَتَقُولُ سُبْحَانَ الرَّبِّ الْقَهَّارِ، الَّذِي قَهَرَ الْخُيُولَ وَرُكْبَانَهَا إِلْقَاءً فِي الْبَحْرِ.
هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِمْ.
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مِنَ الَّذِي حَمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ مَرْيَمَ بنت عمران أم عيسى هي أخت هرون وموسى مع قوله يا أخت هرون * وَقَدْ بَيَّنَّا غَلَطَهُ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ خَالَفَهُ فِيهِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا مَحْفُوظٌ فَهَذِهِ مَرْيَمُ بِنْتُ عمران أخت موسى وهرون عليها السَّلَامُ وَأُمُّ عِيسَى عَلَيْهَا السَّلَامُ وَافَقَتْهَا فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَاسْمِ الْأَخِ لِأَنَّهُمْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَمَّا سَأَلَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ عن قوله يا أخت هرون فَلَمْ يدرِ مَا يَقُولُ لَهُمْ، حَتَّى سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) روى الطبري عن عروة بن الزبير عن أبيه أن الله أمر موسى أن يحتمل معه يوسف حتى يضعه بالارض، فاستخرج موسى تابوت يوسف - في ناحية من النيل - صندوقا من مرمر.
1 / 216.
(2) وهي مريم بنت عمران أخت موسى، وليست مريم بنت عمران أم عيسى عليهم السلام.
[*]
(1/319)
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) .
وَقَوْلُهُمْ النَّبِيَّةُ كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ مَلِكَةٌ وَمِنْ بَيْتِ الْإِمْرَةِ أَمِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُبَاشِرَةً شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَكَذَا هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لَهَا لَا أَنَّهَا نَبِيَّةٌ حَقِيقَةً يُوحَى إِلَيْهَا وَضَرْبُهَا بِالدُّفِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْيَادِ عِنْدَهُمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ضَرْبَ الدُّفِّ فِي الْعِيدِ * وَهَذَا مَشْرُوعٌ لَنَا أَيْضًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِحَدِيثِ الْجَارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَ عائشة يضربان بِالدُّفِّ فِي أَيَّامِ مِنًى وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلم مضطجع مولي ظَهْرَهُ إِلَيْهِمْ وَوَجْهُهُ إِلَى الْحَائِطِ فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ زَجَرَهُنَّ (2) ، وَقَالَ: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا ".
وَهَكَذَا يُشْرَعُ عِنْدَنَا فِي الْأَعْرَاسِ، وَلِقُدُومِ الْغُيَّابِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمَّا جَاوَزُوا الْبَحْرَ وَذَهَبُوا قَاصِدِينَ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَجِدُونَ مَاءً فَتَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَوَجَدُوا مَاءً زُعَاقًا أُجَاجًا (3) لَمْ يَسْتَطِيعُوا شُرْبَهُ فَأَمَرَ اللَّهُ موسى فَأَخَذَ خَشَبَةً فَوَضَعَهَا فِيهِ فَحَلَا وَسَاغَ شُرْبُهُ وَعَلَّمَهُ الرَّبُّ هُنَالِكَ فَرَائِضَ وَسُنَنًا وَوَصَّاهُ وَصَايَا كَثِيرَةً.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الْمُهَيْمِنِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْكُتُبِ (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 138] .
قَالُوا هَذَا الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ وَقَدْ عَايَنُوا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ (4) يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا قِيلَ كَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُمْ لِمَ يَعْبُدُونَهَا فَزَعَمُوا لَهُمْ أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ وَيَسْتَرْزِقُونَ بِهَا عِنْدَ الضَّرُورَاتِ فَكَأَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنْهُمْ صَدَّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمُ الْكَلِيمَ الْكَرِيمَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً كَمَا لِأُولَئِكَ آلِهَةٌ فَقَالَ لَهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَفْضِيلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى عَالِمِي زَمَانِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالشَّرْعِ وَالرَّسُولِ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَمَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْهِمْ وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ وَإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ وَهُمْ ينظرون وتوريثه إياهم ما كان فرعون وملاؤه يَجْمَعُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّعَادَةِ، وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (4) ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ
إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لِأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْقَهَّارُ، وَلَيْسَ كُلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ هذا السؤال
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 38 كتاب الآداب (1) باب النهي عن التكني بأبي القاسم 9 / 2135 ص 3 / 1685 وفيه: أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.
(2) زجرهن: صرخ بهن وصاح.
(3) زعاقا أجاجا: المر الغليظ، والمالح الذي لا يطاق شربه.
(4) قال قتادة: كانوا قوما من لخم ; وكانوا نزولا بالريف.
(5) يعرشون: قال الزجاج: عرش يعرش إذا بنى.
هنا: يرفعون من الابنية المشيدة في السماء كصرح هامان وفرعون.
[*]
(1/320)
بل هذا الضمير عائذ عَلَى الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 138] أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ (1) كَمَا فِي قَوْلِهِ (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بل زعمتم أن لن نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) [الْكَهْفِ: 47 - 48] فَالَّذِينَ زَعَمُوا هَذَا، بَعْضُ النَّاسِ، لَا كُلُّهُمْ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ (2) اللَّيْثِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حُنَيْنٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ وَكَانَ الْكَفَّارُ ينوطون (3) سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها فقال نبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ " (4) .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحمن الْمَخْزُومِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جرير من حديث محمد بن اسحق وَمَعْمَرٍ وَعَقِيلٍ عَنِ الزُّهري عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر، قَالَ وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا
وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ (5) قَالَ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ قَالَ: " قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ".
وَالْمَقْصُودُ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْفَصَلَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ وَوَاجَهَ بِلَادَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَدَ فِيهَا قَوْمًا مِنَ الْجَبَّارِينَ مِنْ الْحَيْثَانِيِّينَ وَالْفَزَارِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ فَأَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَهُ لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَمُوسَى الْكَلِيمِ الْجَلِيلِ، فَأَبَوْا، وَنَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
__________
(1) قال الرازي في تفسيره: قال بعضهم، لأنه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل ; قال: والاقرب انهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى.
وقولهم كفر لان الانبياء أجمعوا على أن عبادة غير الله تعالى كفر سواء اعتقد في ذلك، الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى.
(2) أبو واقد الليثي المدني صحابي قيل اسمه الحارث بن مالك وقيل ابن عوف وقيل عوف بن الحارث.
روى عنه أبناه وابن المسيب وعروة مات سنة 68 هـ.
الكاشف ج 3 / 343 - تقريب التهذيب 2 / 2 / 486.
(3) ينوطون: يعلقون بها سلاحهم.
(4) مسند أحمد: ج 5 / 218 ورواه الترمذي في 34 / 18 / 2180.
(5) ذات انواط: أي ينوطون بها، يعلقون بها سلاحهم.
[*]
(1/321)
الْخَوْفَ، وَأَلْقَاهُمْ فِي التِّيهِ، يَسِيرُونَ وَيَحِلُّونَ وَيَرْتَحِلُونَ وَيَذْهَبُونَ وَيَجِيئُونَ، فِي مُدَّةٍ مِنَ السِّنِينَ طَوِيلَةٍ هِيَ مِنَ الْعَدَدِ أَرْبَعُونَ.
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ.
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا
قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ.
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ.
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [الْمَائِدَةِ: 20 - 26] يُذَكِّرُهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إِحْسَانَهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُقَاتَلَةِ أَعْدَائِهِ فَقَالَ (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ (1) الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ) أَيْ تَنْكِصُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَتَنْكِلُوا عَلَى قِتَالِ أعدائكم (فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) أَيْ فَتَخْسَرُوا بَعْدَ الرِّبْحِ وَتَنْقُصُوا بَعْدَ الْكَمَالِ (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ) أَيْ عُتَاةً كَفَرَةً مُتَمَرِّدِينَ (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يخرجوا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) خَافُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ وَقَدْ عَايَنُوا هَلَاكَ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ أَجْبَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَشَدُّ بَأْسًا وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَأَعْظَمُ جُنْدًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنهم ملومون في هذه المقالة ومذومون عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الذِّلَّةِ عَنْ مُصَاوَلَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُقَاوَمَةِ الْمَرَدَةِ الْأَشْقِيَاءِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ من المفسرين ههنا آثَارًا فِيهَا مُجَازَفَاتٌ كَثِيرَةٌ بَاطِلَةٌ، يَدُلُّ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ عَلَى خِلَافِهَا، مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشْكَالًا هَائِلَةً ضِخَامًا جِدًّا حَتَّى إِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ رُسُلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ، تَلَقَّاهُمْ رَجُلٌ مِنْ رُسُلِ الْجَبَّارِينَ، فَجَعَلَ يَأْخُذُهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا وَيَلُفُّهُمْ فِي أَكْمَامِهِ وَحُجْزَةِ سَرَاوِيلِهِ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِهِمْ، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الْجَبَّارِينَ، فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ حَتَّى عَرَّفُوهُ وكل هذه هذيانات وخرافات لا حقيقية لَهَا (2) .
وَأَنَّ الْمَلِكَ بَعَثَ مَعَهُمْ عِنَبًا كُلُّ عِنَبَةٍ تَكْفِي الرَّجُلَ، وَشَيْئًا مِنْ ثِمَارِهِمْ لِيَعْلَمُوا ضخامة أشكالهم وهذا ليس بصحيح.
وذكروا ههنا أَنَّ عُوجَ بْنَ عُنُقَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الْجَبَّارِينَ إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ لِيُهْلِكَهُمْ وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلْثَ ذِرَاعٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدم
__________
(1) تظاهرت الاخبار في الأرض المقدسة ; قيل دمشق كانت قاعدة الجبارين ; والمقدسة: المطهرة قال قتادة: هي الشام وقال مجاهد: الطور وقال ابن زيد: اريحياء وقال الزجاج: دمشف وفلسطين وبعض الاردن.
(2) قال الالوسي: هذه الاخبار عندي كأخبار (عوج بن عوق) وهي حديث خرافة.
[*]
(1/322)
طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ ".
قَالُوا فَعَمَدَ عُوجُ إِلَى قِمَّةِ جَبَلٍ فَاقْتَلَعَهَا ثُمَّ أَخَذَهَا بِيَدَيْهِ لِيُلْقِيَهَا عَلَى جَيْشِ مُوسَى فَجَاءَ طَائِرٌ فَنَقَرَ تِلْكَ الصَّخْرَةَ، فَخَرَقَهَا فَصَارَتْ طَوْقًا فِي عُنُقِ عُوجَ بْنِ عُنُقَ (1) .
ثُمَّ عَمَدَ مُوسَى إِلَيْهِ فَوَثَبَ فِي الْهَوَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ وَطُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ وَبِيَدِهِ عَصَاهُ، وَطُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَوَصَلَ إِلَى كعب قدمه فقتله.
يروى هذا عن عوف الْبِكَالِيِّ وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي إِسْنَادِهِ إِلَيْهِ نَظَرٌ * ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَكُلُّ هَذِهِ مِنْ وَضْعِ جُهَّالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْكِذْبَةَ قد كثرت عندهم ولا تميز لهم بين صحتها وَبَاطِلِهَا.
ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَعْذُورِينَ فِي النُّكُولِ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَقَدْ ذمَّهم اللَّهُ عَلَى نُكُولِهِمْ، وَعَاقَبَهُمْ بِالتِّيهِ عَلَى تَرْكِ جِهَادِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ، مِنْهُمْ بِالْإِقْدَامِ وَنَهَيَاهُمْ عَنِ الْإِحْجَامِ * وَيُقَالُ إِنَّهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالِبُ بن يوقنا (2) قَالَهُ ابْنُ عبَّاس وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) أَيْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ يخُافون أَيْ يهابون (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أَيْ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالشَّجَاعَةِ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ.
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِذَا تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتَعَنْتُمْ بِهِ، وَلَجَأْتُمْ إِلَيْهِ، نَصَرَكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَأَيَّدَكُمْ عَلَيْهِمْ وأظفركم بهم.
(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنا ههنا قاعدون) فصمم ملاؤهم على النكول عَنِ الْجِهَادِ، وَوَقَعَ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَوَهَنٌ كَبِيرٌ.
فَيُقَالُ إِنَّ يُوشَعَ وَكَالِبَ لَمَّا سَمِعَا هَذَا الكلام شقا ثيابهما، وإن موسى وهرون سجدا إعظاماً لهذا الكلام وغضباً لله عزوجل، وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ مِنْ وَبِيلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 35] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (اقْضِ
بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) .
(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 30] عُوقِبُوا على نكولهم بالتيهان (3) في الأرض يسيرون إِلَى غَيْرِ مَقْصِدٍ لَيْلًا وَنَهَارًا وَصَبَاحًا وَمَسَاءً وَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ مِمَّنْ دَخَلَهُ بَلْ مَاتُوا كُلُّهُمْ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ذَرَّارِيُّهُمْ سِوَى يُوشَعَ وَكَالِبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
لَكِنَّ أَصْحَابَ محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يقولوا
__________
(1) عوج بن عنق هكذا في الاصول.
قال صاحب القاموس مادة (عوق) : " وعوق كنوح والدعوج الطويل ومن قال: عوج بن عنق فقد أخطأ " وقال في شرحه: هذا الذي خطأه هو المشهور على الالسنة ; قال شيخنا: وزعم قوم من حفاظ التواريخ أن عنق هي أم عوج وعوج أباه فلا خطأ ولا غلط.
(2) كانا من النقباء الاثني عشر الذين أرسلهم موسى - من أسباط بني إسرائيل - إلى أريحياء من بلاد فلسطين يتجسسون الاخبار.
(3) التيهان: من التيه وأصل التيه في اللغة الحيرة فيها.
فكانوا سيارة لا قرار لهم يسيرون في فراسخ قليلة.
[*]
(1/323)
لَهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى، بَلْ لَمَّا اسْتَشَارَهُمْ فِي الذَّهَابِ إِلَى النَّفِيرِ تَكَلَّمَ الصديق فأحسن [وتكلم غيره] (1) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ " حَتَّى قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ، لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ يَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تقرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.
فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَبَسَطَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن مخارق بن عبد الله الأحمسي، عن طارق - وهو ابْنُ شِهَابٍ - أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) وَلَكِنِ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ (2) * وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى.
قَالَ أَحْمَدُ: حدَّثنا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حدَّثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ (3) : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: (اذْهَبْ أَنْتَ وربك فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ) وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ يَسَارِكَ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ.
فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُشْرِقُ لِذَلِكَ وَسُرَّ بِذَلِكَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُخَارِقٍ بِهِ (4) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ (5) إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إِذًا لَا نَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى (اذْهَبْ أَنْتَ وربك فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ) والذي بعثك بالحق إن ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا (6) إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ (7) لَاتَّبَعْنَاكَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ حميد
__________
(1) في النسخ المطبوعة وغيره بحذف تكلم وما أثبتناه الصواب.
(2) مسند أحمد ج 4 / 314.
(3) في النسخ المطبوعة: قال.
(4) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي (4) باب فتح الباري 7 / 287 وأعاد في التفسير مرتين: مرة عن أبي نعيم ومرة عن حمدان بن عمر (تفسير سورة المائدة) .
وأخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 390، 428 - 4 / 184، 314) .
(5) قال العلماء: إنما قصد صلى الله عليه وسلم اختيار الانصار، لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده، فلما عرض الخروج لعير أبى سفيان أراد أن يعلم انهم يوافقون على ذلك.
فأجابوه أحسن جواب.
(6) كناية عن ركضها، فالفارس يركض بركوبه بتحريك رجليه على جانبيه ويضرب على موضع كبده.
(7) برك الغماد: موضع بناحية الساحل من وراء مكة، وقيل موضع بأقاصي حجر.
[*]
(1/324)
الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ (1) .
[فَصْلٌ فِي] (2) دُخُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التِّيهَ وَمَا [جَرَى لَهُمْ] (2) فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ
قَدْ ذَكَرْنَا نُكُولَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وأنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ بِالتِّيهِ، وَحَكَمَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ أَرَ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ قِصَّةَ نُكُولِهِمْ عَنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَلَكِنَّ فِيهَا: أَنَّ يُوشَعَ جَهَّزَهُ مُوسَى لِقِتَالِ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ مُوسَى وهرون وَخُورَ جَلَسُوا عَلَى رَأْسِ أَكَمَةٍ، وَرَفَعَ مُوسَى عَصَاهُ، فَكُلَّمَا رَفَعَهَا انْتَصَرَ يُوشَعُ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّمَا مَالَتْ يَدُهُ بِهَا مِنْ تَعَبٍ أَوْ نَحْوِهِ غلبهم أولئك وجعل هرون وَخُورُ يُدَعِّمَانِ يَدَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَانْتَصَرَ حِزْبُ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ " يَثْرُونَ " كَاهِنَ مَدْيَنَ وَخَتَنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى وَكَيْفَ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِعَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ، فَقَدِمَ عَلَى مُوسَى مُسْلِمًا وَمَعَهُ ابْنَتُهُ صِفُّورَا زَوْجَةُ مُوسَى وَابْنَاهَا مِنْهُ، جَرْشُونُ وَعَازِرُ فَتَلَقَّاهُ مُوسَى وَأَكْرَمَهُ، وَاجْتَمَعَ بِهِ شُيُوخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَظَّمُوهُ وَأَجَلُّوهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ رَأَى كَثْرَةَ اجتمع بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى فِي الْخُصُومَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَهُمْ، فَأَشَارَ عَلَى مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَى النَّاسِ رِجَالًا أُمَنَاءَ أَتْقِيَاءَ أَعِفَّاءَ، يُبْغِضُونَ الرشاء والخيانة، فيجعلهم على الناس رؤس مِئِينَ، وَرُؤْسَ خَمْسِينَ، وَرُؤْسَ عَشَرَةٍ، فَيَقْضُوا بَيْنَ الناس، فإذا أشكل عليهم أمر جاؤك فَفَصَلْتَ بَيْنَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالُوا وَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَرِّيَّةَ عِنْدَ سَيْنَاءَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ وَكَانَ خُرُوجُهُمْ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهُمْ وَهِيَ أَوَّلُ فَصْلِ الرَّبِيعِ فَكَأَنَّهُمْ دَخَلُوا التِّيهَ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الصَّيْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا وَنَزَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ طُورِ سَيْنَاءَ وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ فَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُذَكِّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَكَيْفَ حَمَلَهُمْ عَلَى مِثْلِ جَنَاحَيْ نِسْرٍ مِنْ يَدِهِ، وَقَبْضَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَتَطَهَّرُوا،
وَيَغْتَسِلُوا وَيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ، وَلْيَسْتَعِدُّوا إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَلْيَجْتَمِعُوا حَوْلَ الْجَبَلِ، وَلَا يَقْتَرِبَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ دَنَا مِنْهُ قتل حتى ولا شئ مِنَ الْبَهَائِمِ، مَا دَامُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْقَرْنِ (3) ، فَإِذَا سَكَنَ الْقَرْنُ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ أَنْ ترتقوه فسمع بنو إسرائيل ذلك
__________
(1) وأخرجه مسلم بنحوه في 32 كتاب الجهاد والسير 30 باب غزوة بدر ح 83 / 1403 - 1404 وأخرجه البيهقي في الدلائل بنحوه ج 3 / 47.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) القرن البوق.
[*]
(1/325)
وَأَطَاعُوا وَاغْتَسَلُوا وَتَنَظَّفُوا وَتَطَيَّبُوا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ رَكِبَ (1) الْجَبَلَ غَمَامَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِيهَا أَصْوَاتٌ وَبُرُوقٌ وَصَوْتُ الصُّورِ شَدِيدٌ جِدًّا فَفَزِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَخَرَجُوا فَقَامُوا فِي سَفْحِ الْجَبَلِ، وَغَشِيَ الْجَبَلَ دُخَانٌ عَظِيمٌ، في وسطه عمود [من] (2) نُورٍ، وَتَزَلْزَلَ الْجَبَلُ كُلُّهُ، زَلْزَلَةً شَدِيدَةً وَاسْتَمَرَّ صَوْتُ الصُّورِ وَهُوَ الْبُوقُ وَاشْتَدَّ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوْقَ الْجَبَلِ وَاللَّهِ يُكَلِّمُهُ وَيُنَاجِيهِ، وَأَمَرَ الرب عزوجل موسى أن ينزل، فأمر بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتَرِبُوا مِنَ الْجَبَلِ لِيَسْمَعُوا وصية الله ويأمر الأحبار - وهم علمائهم - أَنْ يَدْنُوا فَيَصْعَدُوا الْجَبَلَ لِيَتَقَدَّمُوا بِالْقُرْبِ وَهَذَا نَصٌّ فِي كِتَابِهِمْ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ لَا مَحَالَةَ فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ إِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصْعَدُوهُ، وَقَدْ نَهَيْتَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَذْهَبَ، فَيَأْتِيَ مَعَهُ بأخيه هرون وَلْيَكُنِ الْكَهَنَةُ - وَهُمُ الْعُلَمَاءُ - وَالشَّعْبُ - وَهُمْ بَقِيَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرَ بَعِيدٍ - فَفَعَلَ مُوسَى وَكَلَّمَهُ ربه عزوجل فَأَمَرَهُ حِينَئِذٍ بِالْعَشْرِ كَلِمَاتٍ.
وَعِنْدَهُمْ إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمُوا حَتَّى فَهَّمَهُمْ مُوسَى وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لِمُوسَى بَلِّغْنَا أنت عن الرب عزوجل فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ نَمُوتَ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذِهِ الْعَشْرُ الْكَلِمَاتِ: وَهِيَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ كَاذِبًا، وَالْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى السَّبْتِ، وَمَعْنَاهُ تَفَرُّغُ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ لِلْعِبَادَةِ * وَهَذَا حَاصِلٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّذِي
نَسَخَ اللَّهُ بِهِ السَّبْتَ.
أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِيَطُولَ عُمْرُكَ فِي الْأَرْضِ، الَّذِي يُعْطِيكَ اللَّهُ رَبُّكَ، لَا تَقْتُلْ.
لَا تَزْنِ.
لَا تَسْرِقْ.
لَا تَشْهَدْ عليَّ صَاحِبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ، لَا تَمُدَّ عَيْنَكَ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِكَ، وَلَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ صَاحِبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي لِصَاحِبِكَ.
وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْحَسَدِ.
وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلف وَغَيْرِهِمْ مَضْمُونُ هَذِهِ الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ فِي آيَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أن لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ الآية) [الْأَنْعَامِ: 151 - 153] وَذَكَرُوا بَعْدَ الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ وَصَايَا كَثِيرَةً، وَأَحْكَامًا مُتَفَرِّقَةً عَزِيزَةً، كَانَتْ فَزَالَتْ، وَعُمِلَ بِهَا حِينًا مِنَ الدَّهر * ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا عِصْيَانٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا ثُمَّ عَمَدُوا إِلَيْهَا فَبَدَّلُوهَا وَحَرَّفُوهَا، وَأَوَّلُوهَا.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ سَلَبُوهَا فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً مُبَدَّلَةً، بَعْدَ مَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً مُكَمِّلَةً، فَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ،
__________
(1) في نسخة: ركبت الجبل.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
وفي نسخة عمود نار.
[*]
(1/326)
وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، أَلَّا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 80 - 82] بذكر تَعَالَى مِنَّتَهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ، بِمَا أَنْجَاهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنَ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ وأنه وعدهم صحبة نبيهم إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، أَيْ مِنْهُمْ لِيُنَزِّلَ عَلَيْهِ أَحْكَامًا
عَظِيمَةً (1) فِيهَا مُصْلِحَةٌ لَهُمْ، فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ شِدَّتِهِمْ (3) وَضَرُورَتِهِمْ فِي سَفَرِهِمْ فِي الْأَرْضِ.
الَّتِي لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ، مِنَّا مِنَ السَّمَاءِ، يُصْبِحُونَ فَيَجِدُونَهُ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْغَدِ، وَمَنِ ادَّخَرَ مِنْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَ.
وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ قَلِيلًا.
كَفَاهُ، أَوْ كَثِيرًا لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ، فَيَصْنَعُونَ مِنْهُ مِثْلَ الْخُبْزِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالْحَلَاوَةِ فَإِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ غَشِيَهُمْ طَيْرُ السَّلْوَى فَيَقْتَنِصُونَ مِنْهُ بِلَا كُلْفَةٍ مَا يحتاجون اليه حسب كفايتهم لعشاهم * وَإِذَا كَانَ فَصْلُ الصَّيْفِ ظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَهُوَ السَّحَابُ الَّذِي يَسْتُرُ عَنْهُمْ حَرَّ الشمس وضوأها الباهر.
كما قال تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [الْبَقَرَةِ: 40 - 41] إِلَى أَنْ قَالَ (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ.
بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ.
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 49 - 57] إِلَى أَنْ قَالَ (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من بقلها وقثائها وفومها
__________
(1) أي التوراة ; وكان موسى قد خرج إلى الطور - طور سيناء - في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل.
(2) أي خلال وقوعهم في التيه ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى.
[*]
(1/327)
وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وباؤا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة: 60 - 61] فذكر تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى طَعَامَيْنِ شَهِيَّيْنِ بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا سَعْيٍ لَهُمْ فِيهِ بَلْ يُنَزِّلُ اللَّهُ الْمَنَّ بَاكِرًا (1) وَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ طَيْرَ السَّلْوَى عَشِيًّا وَأَنْبَعَ الْمَاءَ لَهُمْ بِضَرْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَجَرًا كَانُوا يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ بِالْعَصَا فَتَفَجَّرَ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ منه تنبجس * ثم تتفجر ماءاً زلالاً فيستقون وَيَسْقُونَ دَوَابَّهُمْ وَيَدَّخِرُونَ كِفَايَتَهُمْ.
وَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ مِنَ الْحَرِّ * وَهَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَظِيمَةٌ وَعَطِيَّاتٌ جَسِيمَةٌ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَلَا قَامُوا بِشُكْرِهَا وَحَقِّ عِبَادَتِهَا ثُمَّ ضَجِرَ كَثِيرٌ [منهم] (2) مِنْهَا وَتَبَرَّمُوا بِهَا وَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَبْدِلُوا مِنْهَا بِبَدَلِهَا مِمَّا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا (3) وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا.
فَقَرَّعَهُمُ الْكَلِيمُ وَوَبَّخَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَعَنَّفَهُمْ قَائِلًا (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) [البقرة: 61] أَيْ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَتُرِيدُونَهُ بَدَلَ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا حَاصِلٌ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَوْجُودٌ بِهَا وَإِذَا هَبَطْتُمْ إِلَيْهَا أَيْ وَنَزَلْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُونَ لِمَنْصِبِهَا تَجِدُوا بِهَا مَا تَشْتَهُونَ وَمَا تَرُومُونَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْمَآكِلِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَغْذِيَةِ الرَّدِيَّةِ (4) وَلَكِنِّي لست أجيبكم إلى سؤال ذلك ههنا وَلَا أُبَلِّغُكُمْ مَا تَعَنَّتُّمْ بِهِ مِنَ الْمُنَى وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَنْهُمُ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فقد
__________
(1) قال القرطبي: المن: هو الترنجبين: (وهو طلل يقع من السماء وهو ندى شبيه بالعسل جامد متحبب قاله ابن البيطار) وقيل صمغة حلوة وقيل عسل.
وروي أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
كالثلج.
فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر منه شيئا فسد عليه، إلا في يوم الجمعة، فانهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لان يوم السبت يوم عبادة، وما كان ينزل عليهم يوم السبت شئ.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) فوم: اختلف في الفوم فقيل هو الثوم: وقيل: الفوم الحنطة وقال ابن دريد: السنبلة وقال عطاء وقتادة: الفوم كل حب يختبز.
(4) قال القرطبي في تعليله فضل المن والسلوى على الاشياء التي طلبوها.
قال وجوه خمسة توجب فضلهما: 1 - إن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل ; قاله الزجاج.
2 - لما كان المن والسلوى طعاما منّ الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصال، كان أدنى في هذا الوجه.
3 - لما كان الله ما من به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أذنى من هذا الوجه لا محالة.
4 - لما كان ما أعطوه لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجئ إلا بالحرث والزراعة والتعب، كان أدنى.
5 - لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والارض يتخللها البيوع والغصب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه.
[*]
(1/328)
هَوَى) [طه: 81.
أَيْ فَقَدْ هَلَكَ وَحَقَّ لَهُ وَاللَّهِ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ وَقَدْ حَلَّ عَلَيْهِ غَضَبُ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَزَجَ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالرَّجَاءِ لِمَنْ أَنَابَ وَتَابَ (1) وَلَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ فَقَالَ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82] .
سؤال الرؤية قال تَعَالَى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هرون اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً.
فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شئ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شئ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قومك
يأخذونها بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الْأَعْرَافِ: 142 - 147] .
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ: الثَّلَاثُونَ لَيْلَةً هِيَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ بِكَمَالِهِ، وَأُتِمَّتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ لَهُ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ، وَفِي مِثْلِهِ أَكْمَلَ الله عزوجل لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَهُ وَأَقَامَ حُجَّتَهُ وَبَرَاهِينَهُ.
وَالْمَقْصُودُ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الْمِيقَاتَ.
وَكَانَ فِيهِ صَائِمًا يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطْعِمِ الطَّعَامَ، فَلَمَّا كَمَلَ الشَّهْرُ أَخَذَ لِحَا (2) شَجَرَةٍ فَمَضَغَهُ لِيُطَيِّبَ رِيحَ فَمِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُمْسِكَ عَشْرًا أُخْرَى، فَصَارَتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: " أَنَّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رِيحِ الْمِسْكِ " (3) .
فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ اسْتَخْلَفَ على شعب بني إسرائيل أخاه هرون، الْمُحَبَّبَ الْمُبَجَّلَ الْجَلِيلَ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَوَزِيرُهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مُصْطَفِيهِ، فَوَصَّاهُ، وَأَمَرَهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي نُبُوَّتِهِ مُنَافَاةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا) أي في الوقت الذي أمر بالمجئ فيه (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أَيْ كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ الْخِطَابَ، فَنَادَاهُ وَنَاجَاهُ، وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، وَهَذَا مَقَامٌ رَفِيعٌ وَمَعْقِلٌ مَنِيعٌ، وَمَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَمَنْزِلٌ مُنِيفٌ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَتْرَى، وَسَلَامُهُ عليه في الدنيا
__________
(1) أي تاب من الشرك.
وأقام على إيمانه حتى مات عليه دون شك فيه.
(2) قال القرطبي: بعود خرنوب.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصوم (9) باب: هل يقول إني صائم (ج 2 / 228 دار الفكر) من طريق ابن جريج عن عطاء عن أبي صالح الزيات عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: ولفظه: لخلوف فم الصائم.. [*]
(1/329)
وَالْأُخْرَى * وَلَمَّا أُعْطِيَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعَلِيَّةَ وَالْمَرْتَبَةَ السَّنِيَّةَ، وَسَمِعَ الْخِطَابَ، سَأَلَ رَفْعَ الْحِجَابِ، فَقَالَ لِلْعَظِيمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ الْقَوِّيُّ الْبُرْهَانِ: (رَبِّي أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) .
ثُمَّ
بَيَّنَ تَعَالَى إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ تَجَلِّيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي هُوَ أَقْوَى وَأَكْبَرُ ذَاتًا وَأَشَدُّ ثَبَاتًا مِنَ الْإِنْسَانِ، لَا يَثْبُتُ عِنْدَ التَّجَلِّي مِنَ الرحمان وَلِهَذَا قَالَ (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) .
وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا تَدَهْدَهَ (1) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ (2) عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " حِجَابُهُ النُّورُ.
وَفِي رِوَايَةٍ النَّارُ (3) لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " (4) .
وَقَالَ ابْنُ عبَّاس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ذَاكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى لشئ لا يقوم له شئ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) .
قَالَ مُجَاهِدٌ (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ فَدُكَّ عَلَى أَوَّلِهِ وَرَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ الْجَبَلُ فَخَرَّ صَعِقَا * وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وصحَّحه ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ.
زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَيْثٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ للجبل جَعَلَهُ دَكّاً) قال هكذا بإصبعه ووضع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ، فَسَاخَ الْجَبَلُ لَفْظُ ابْنِ جرير.
وقال السدي عن عكرمة وعن ابْنِ عَبَّاسٍ مَا تَجَلَّى يَعْنِي مِنَ الْعَظَمَةِ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ، فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا قَالَ تراباً (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً) أَيْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ وَقَالَ قَتَادَةُ مَيِّتًا.
وَالصَّحِيحُ الأول لقوله (فَلَمَّا أَفَاقَ) فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ غَشْيٍ قَالَ (سُبْحَانَكَ) تَنْزِيهٌ وَتَعْظِيمٌ وَإِجْلَالٌ أَنْ يَرَاهُ بِعَظَمَتِهِ أحد (تُبْتُ إِلَيْكَ) أَيْ فَلَسْتُ أَسْأَلُ بَعْدَ هَذَا الرُّؤْيَةَ (وَأَنَا أول المؤمنين) أَنَّهُ لَا يَرَاكَ حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا
__________
(1) تَدَهْدَهَ: خسف به وتدحرج.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 1 / 79 / 293 ورواه أحمد في مسنده 4 / 401 - 405 وابن ماجة في سننه المقدمة 13 / 195.
(3) وهي رواية أبي بكر - انظر المرجع السابق.
(4) السبحات جمع سبحة.
قال صاحب العين والهروي معنى سبحات وجهه: نوره وجلاله وبهاؤه.
والحجاب: المنع والستر.
وحقيقة الحجاب إنما تكون للاجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الحد والجسم، والمراد هنا المانع من رؤيته، ولذلك سمي المانع نورا أو نارا لانهما يمنعان من الادراك في العادة لشعاعهما.
والوجه - هنا - الذات.
(5) البخاري في 44 كتاب الخصومات 1 باب ما يذكر في الاشخاص..ومسلم في 43 كتاب الفضائل (ح 163) ص 4 / 1845.
ورواه أحمد في مسنده من طريق أبي هريرة.
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي في الدلائل ج 5 / 493.
[*]
(1/330)
تَدَهْدَهَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ الْمَازِنِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٍ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قبلي أو جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ " لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَفِي أَوَّلِهِ قِصَّةُ الْيَهُودِيِّ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَهُ الْأَنْصَارِيُّ حِينَ قَالَ لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فقال رسول الله: " لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ " (1) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بِنَحْوِهِ وَفِيهِ: " لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى " (2) وَذَكَرَ تَمَامَهُ.
وَهَذَا مِنْ باب الهضم والتواضع أو نهي عن التفصيل بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَوْ لَيْسَ هَذَا إِلَيْكُمْ بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ وَلَيْسَ يُنَالُ هَذَا بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ ثُمَّ نُسِخَ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ، لَأَنَّ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا هَاجَرَ أبو هريرة ألا عام حنين مُتَأَخِّرًا فَيَبْعُدُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا، إِلَّا بَعْدَ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا شكَّ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الْبَشَرِ، بَلِ الخليفة.
قال الله تعالى (وكنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) آل عمران: 110] وَمَا كَمُلُوا إِلَّا بِشَرَفِ نَبِيِّهِمْ.
وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ " (3) ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الأوَّلون وَالْآخَرُونَ، الَّذِي
تَحِيدُ عَنْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، حَتَّى أُولُو الْعَزْمِ الْأَكْمَلُونَ، نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وعيسى بن مَرْيَمَ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ) أَيْ آخِذًا بِهَا، " فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ " (4) دَلِيلٌ عَلَى أنَّ هَذَا الصَّعْقَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْخَلَائِقِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَيُصْعَقُونَ مِنْ شِدَّةِ الْهَيْبَةِ وَالْعَظَمَةِ والجلاء (5) فَيَكُونُ أَوَّلَهُمْ إِفَاقَةً مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُصْطَفَى رَبِّ الْأَرْضِ والسَّماء عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَيَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: " لا أدري أصعق فأفاق قبلي؟ " أي وكانت صَعْقَتُهُ خَفِيفَةً، لِأَنَّهُ قَدْ نَالَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي الدُّنْيَا صَعْقٌ " أَوْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟ " يَعْنِي فَلَمْ يُصْعَقْ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَهَذَا فِيهِ شَرَفٌ كبير لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ.
وَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ بِهَا مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ * وَلِهَذَا نَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شرفه وفضيلته بهذه الصفة،
__________
(1) صحيح البخاري 60 / 13 / 3408 فتح الباري.
(2) في صحيح مسلم (ح 160) والبخاري كتاب الخصومات (44) (1) باب.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 5 / 481 عن ابن عباس مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وهو ضعيف، تقدم التعليق.
(4) تقدم التعليق وتخريج الحديث ; فليراجع.
(5) في نسخة مطبوعة: " والجلال " وهو تحريف.
[*]
(1/331)
لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَمَّا ضَرَبَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، قَدْ يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ الْمُشَاهِدِينَ لِذَلِكَ هَضْمٌ بِجَنَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَتَهُ وَشَرَفَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) [الأعراف: 144] أَيْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَا مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا مَا بَعْدَهُ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أَفْضَلُ مِنْهُمَا، كَمَا ظَهَرَ شَرَفُهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَكَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: " سَأَقُومُ مَقَامًا يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ " وَقَوْلُهُ تَعَالَى (فَخُذْ مَا
آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف: 144] أَيْ فَخُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامِ، وَلَا تَسْأَلْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كل شئ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شئ) [الأعراف: 145] وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ جَوْهَرٍ نَفِيسٍ، فَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وفيها مواعظ من الْآثَامِ، وَتَفْصِيلٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الحلال والحرام.
(فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) أَيْ بِعَزْمٍ وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ قَوِيَّةٍ (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يأخذوا بأحسنها) [الاعراف: 145] أي يضعوهما على أحسن وجوهها وأجمل محاملها (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) أي ستر وعاقبة الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِي، الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِي، الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِي.
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) عَنْ فَهْمِهَا وَتَدَبُّرِهَا، وَتَعْقُّلِ مَعْنَاهَا، الَّذِي أُرِيدَ مِنْهَا وَدَلَّ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهَا (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) [الأعراف: 146] أَيْ وَلَوْ شَاهَدُوا مَهْمَا شَاهَدُوا مِنَ الْخَوَارِقِ وَالْمُعْجِزَاتِ لَا يَنْقَادُوا لِاتِّبَاعِهَا (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي لا يسلكوه ولا يتبعوه (وَإِنْ يرو سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أَيْ صَرَفْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِنَا، وَتَغَافُلِهِمْ عَنْهَا، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعْنَاهَا وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 147] .
قِصَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ في غيبة [كليم الله عنهم] (1) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ.
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العجل سينالهم
__________
(1) في نسخة: موسى.
[*]
(1/332)
غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الاعراف: 148 - 154] .
وقال تَعَالَى (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أفلا يرون أن لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نفعاً * وقد قال لهم هرون مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي.
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى.
قال يا هرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رأيتهم ضلوا أن لا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قال يابن أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ ترقب قولي فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي.
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شئ علما) [طه: 93 - 98] يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ ذَهَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ، فَمَكَثَ عَلَى الطُّورِ يُنَاجِيهِ رَبُّهُ، وَيَسْأَلُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَشْيَاءَ كثيرة، وهو تعالسى يُجِيبُهُ عَنْهَا، فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: هرون السامري (1) فأخذ ما كان استعاره من الحلي فصاغ منه عجلاً، وألقيى فِيهِ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، كَانَ أَخَذَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ حِينَ رَآهُ - يَوْمَ أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيْهِ، فلمَّا أَلْقَاهَا فِيهِ خَارَ كَمَا يَخُورُ الْعِجْلُ الْحَقِيقِيُّ.
وَيُقَالُ إِنَّهُ اسْتَحَالَ عِجْلًا جَسَدًا أَيْ لَحْمًا وَدَمًا حَيًّا يَخُورُ.
قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتِ الرِّيحُ إِذَا دَخَلَتْ مِنْ
دُبُرِهِ خَرَجَتْ مِنْ فَمِهِ فَيَخُورُ كَمَا تَخُورُ الْبَقَرَةُ، فَيَرْقُصُونَ حَوْلَهُ وَيَفْرَحُونَ: (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) أي فنسيي موسى ربه عندنا، وذهب يتطلبه وهو ههنا! تَعَالَى اللَّهُ عمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَقَدَّسَتْ أسماؤه وصفاته، وتصاعفت آلاؤه وهباته (2) .
قال الله تعالى مبينا بُطْلَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَمَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ إِلَهِيَّةِ هَذَا الَّذِي قُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ حيواناً بهيماً وشيطاناً رجيما (أفلا يرون أن لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نفعاً) وَقَالَ (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يهديهم
__________
(1) السامري واسمه موسى بن ظفر، ينسب أل قرية تدعى سامرة، ولد عام قتل الابناء - بعد مجئ موسى مصر - وأخفته أمه في كهف جبل فغذاه جبريل فعرفه لذلك.
انظر القرطبي أحكام القرآن 7 / 284.
(2) في النسخ المطبوعة: عداته.
وهو تحريف.
[*]
(1/333)
سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) [الأعراف: 148] فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَرُدُّ جَوَابًا، وَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَهْدِي إِلَى رُشْدٍ، اتَّخَذُوهُ وَهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، عَالِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الجهل، والضلال.
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أيديهم) أَيْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ، وَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَمَعَهُ الْأَلْوَاحُ الْمُتَضَمِّنَةُ التَّوْرَاةَ أَلْقَاهَا فَيُقَالُ إِنَّهُ كَسَرَهَا.
وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَهُ غَيْرَهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْقُرْآنِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَلْقَاهَا حِينَ عَايَنَ مَا عَايَنَ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُمَا كَانَا لَوْحَيْنِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا أَلْوَاحٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَأَمَرَهُ بِمُعَايَنَةِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ " (1) ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَعَنَّفَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ وَهَجَّنَهُمْ فِي صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحِ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيح قَالُوا إِنَّا (حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) [طه: 87] تَحَرَّجُوا مِنْ تَمَلُّكِ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَخْذِهِ وَأَبَاحَهُ لَهُمْ، وَلَمْ يَتَحَرَّجُوا بِجَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ، وَعَقْلِهِمْ، مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ
الْجَسَدِ الَّذِي لَهُ خُوَارٌ مَعَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ الصَّمَدِ القهار.
ثم أقبل على أخيه هرون عليهما السلام قائلاً له (يا هرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رأيتهم ضلوا أن لا تَتَّبِعَنِ) [طه: 92] أَيْ هَلَّا لَمَّا رَأَيْتَ مَا صَنَعُوا اتَّبَعْتَنِي فَأَعْلَمْتَنِي بِمَا فَعَلُوا فَقَالَ (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ تَرَكْتَهُمْ وَجِئْتَنِي وَأَنْتَ قَدِ اسْتَخْلَفْتَنِي فِيهِمْ (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأعراف: 151] .
وَقَدْ كَانَ هرون عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الْفَظِيعِ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَزَجَرَهُمْ عَنْهُ، أَتَمَّ الزَّجْرِ قَالَ الله تعالى (وَلَقَدْ قَالَ لهم هرون مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ) أَيْ إِنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ أَمَرَ هَذَا الْعِجْلِ، وَجَعَلَهُ يَخُورُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا لَكُمْ (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ) أي لا هذا (فَاتَّبِعُونِي) أَيْ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ (وَأَطِيعُوا أَمْرِي.
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى) [طه: 90 - 91] يشهد الله لهرون عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) أَنَّهُ نَهَاهُمْ وَزَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُطِيعُوهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ ثم أقبل موسى على السامري (قال ما خطبك يا سامري) أَيْ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أَيْ رَأَيْتُ جِبْرَائِيلَ وَهُوَ رَاكِبٌ فَرَسًا (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [طه: 96] أَيْ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رآه وكلما وَطِئَتْ بِحَوَافِرِهَا عَلَى مَوْضِعٍ اخْضَرَّ وَأَعْشَبَ فَأَخَذَ مِنْ أَثَرِ حَافِرِهَا فَلَمَّا أَلْقَاهُ فِي هَذَا الْعِجْلِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الذَّهَبِ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ ما كان ولهذا قال (فنبذتها
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 215 - 271 ورواه الحاكم في مستدركه مطولا 2 / 321 وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
[*]
(1/334)
وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي.
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ) [طه: 96 - 97] وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَمَسَّ أَحَدًا مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى مَسِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسُّهُ.
هَذَا مُعَاقَبَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فِي الْأُخْرَى فَقَالَ (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لن تخلفه) وقرئ لَنْ نخُلفه (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) [طه: 97] قَالَ فَعَمَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْعِجْلِ فَحَرَقَهُ [قِيلَ] (1) بِالنَّارِ كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ.
وَقِيلَ بِالْمَبَارِدِ (2) كَمَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ نَصُّ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْبَحْرِ وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَشَرِبُوا فَمَنْ كَانَ مِنْ عَابِدِيهِ عَلَّقَ عَلَى شِفَاهِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الرَّمَادِ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ بَلِ اصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إلا هو وسع كل شئ عِلْمًا) [طه: 98] وَقَالَ تَعَالَى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) [الأعراف: 152] وَهَكَذَا وَقَعَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) مُسَجَّلَةٌ لِكُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى عَبِيدِهِ فِي قَبُولِهِ تَوْبَةَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ بِتَوْبَتِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف: 153] لَكِنْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَوْبَةَ عَابِدِي الْعِجْلِ إِلَّا بِالْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 154] فَيُقَالُ إِنَّهُمْ أَصْبَحُوا يَوْمًا وَقَدْ أَخَذَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ في أيديهم السيوف وألقى الله عليهم ضَبَابًا (3) حَتَّى لَا يَعْرِفَ الْقَرِيبُ قَرِيبَهُ وَلَا النَّسِيبُ نَسِيبَهُ.
ثُمَّ مَالُوا عَلَى عَابِدِيهِ فَقَتَلُوهُمْ وَحَصَدُوهُمْ فَيُقَالُ أنَّهم قَتَلُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف: 154] استدل بعضهم بقوله وفي نسختها عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ كَانَتْ عَلَى أَثَرِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 138] .
وَهَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ كَانَتْ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ بِلَادَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ أنَّهم لمَّا أُمِرُوا بِقَتْلِ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ قَتَلُوا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ.
ثُمَّ ذَهَبَ مُوسَى يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فَغُفِرَ لَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
(وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) يقال للمبرد: المحرق.
(3) عند القرطبي: ظلاما.
[*]
(1/335)
قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كل شئ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ.
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المفلحون) [الْأَعْرَافِ: 155 - 157] ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ كَانُوا عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَعَهُمْ موسى وهرون ويوشع (1) وناذاب وابيهوا ذَهَبُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْتَذِرُوا عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ فِي عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ.
وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَتَطَيَّبُوا وَيَتَطَهَّرُوا وَيَغْتَسِلُوا، فَلَمَّا ذَهَبُوا مَعَهُ وَاقْتَرَبُوا مِنَ الْجَبَلِ وَعَلَيْهِ الْغَمَامُ وَعَمُودُ النُّورِ سَاطِعٌ وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ.
فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ.
وَهَذَا قَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75] وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) أَيْ مُبَلَّغًا.
وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ سَمِعُوهُ مُبَلَّغًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزَعَمُوا أَيْضًا أَنَّ السَّبْعِينَ رَأَوُا اللَّهَ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الرُّؤْيَةَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 55] وقال ههنا (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإياي الآية) [الاعراف: 155] قال محمد بن اسحق اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ
فَالْخَيِّرَ.
وَقَالَ انْطَلَقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ وَسَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبَّهُ وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ فَطَلَبَ مِنْهُ السَّبْعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ فَقَالَ: أَفْعَلُ فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِي الْغَمَامِ وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُ وَيَنْهَاهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ * فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ وَانْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامَ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فالتقت أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعًا فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)
__________
(1) ذكر الرازي ان موسى اختار من قومه اثني عشر سبطا من كل سبط ستة، فصاروا اثنان وسبعين، فقال ليختلف منكم رجلان فتشاجروا: فقال إن لمن قعد منكم مثل أجر من تخلف ; فقعد كالب ويوشع.
[*]
(1/336)
أَيْ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ (1) الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنَّا فَإِنَّا بُرَآءُ مِمَّا عَمِلُوا.
وَقَالَ ابْنُ عبَّاس وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ إِنَّمَا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْهَوْا قَوْمَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَوْلُهُ (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أَيِ اخْتِبَارُكَ وَابْتِلَاؤُكَ وَامْتِحَانُكَ قَالَهُ ابْنُ عبَّاس وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلف وَالْخَلْفِ.
يَعْنِي أَنْتَ الَّذِي قَدَّرْتَ هَذَا وَخَلَقْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ اخْتِبَارًا تَخْتَبِرُهُمْ بِهِ كما (قال لهم هرون مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ) [طه: 90] أي أختبرتم وَلِهَذَا قَالَ (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) أَيْ مَنْ شِئْتَ أَضْلَلْتَهُ بِاخْتِبَارِكَ إِيَّاهُ وَمَنْ شئت هديته * لك الحكم والمشيئة ولا مَانِعَ وَلَا رَادَّ لِمَا حَكَمْتَ وَقَضَيْتَ (أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) [الأعراف: 155 - 156] أَيْ تُبْنَا إِلَيْكَ وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا قَالَهُ ابْنُ عبَّاس وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي
اللُّغَةِ.
(قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كل شئ) أَيْ أَنَا أُعَذِّبُ مَنْ شِئْتُ بِمَا أَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَخْلُقُهَا وَأُقَدِّرُهَا (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شئ) كَمًّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الله لما فرغ من خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي " (2) (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الاعراف: 156] أي فسأوحيها حَتْمًا لِمَنْ يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية) [الاعراف: 157] وَهَذَا فِيهِ تَنْوِيهٌ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وأمته من الله لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جُمْلَةِ مَا نَاجَاهُ بِهِ وَأَعْلَمَهُ وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ * وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَجِدُّ فِي الألواح أمة خير أمة أخرجت الناس يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ.
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْآخِرُونَ فِي الْخَلْقِ السَّابِقُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي.
قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ.
قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً أَنَاجِيلُهُمْ في صدورهم يقرأونها وكان من قبلهم يقرأون كِتَابَهُمْ نَظَرًا حَتَّى إِذَا رَفَعُوهَا لَمْ يَحْفَظُوا شَيْئًا وَلَمْ يَعْرِفُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ مِنَ الْحِفْظِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا عن الْأُمَمِ قَالَ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَبِالْكِتَابِ الْآخِرِ ويقاتلون فصول الضَّلالة حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الكذَّاب فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي.
قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ.
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً صَدَقَاتُهُمْ يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَقُبِلَتْ مِنْهُ بَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكْلَتْهَا وَإِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ تُرِكَتْ فَتَأْكُلُهَا السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ وَإِنَّ اللَّهَ أَخَذَ صَدَقَاتِكُمْ مِنْ
__________
(1) قال القرطبي: قيل المرد بالسفهاء: السبعون ; والمعنى أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم " أرنا الله جهرة ".
(2) تقدم تخريجه في هذا الجزء فليراجع.
[*]
(1/337)
غَنِيِّكُمْ لِفَقِيرِكُمْ قَالَ رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي.
قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ.
قَالَ رَبِّ فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً
إِذَا همَّ أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ له عشر أمثالها إلى سبعماية ضِعْفٍ قَالَ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ: تِلْكَ أمة أحمد.
قال ربي إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْمُشَفَّعُونَ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ * قال قَتَادَةُ فَذَكَرَ لَنَا أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبَذَ الْأَلْوَاحَ وَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ مُنَاجَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَوْرَدُوا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا أَصْلَ لَهَا وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَحُسْنِ هِدَايَتِهِ وَمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: ذكرُ سُؤَالِ كَلِيمِ اللَّهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَرْفَعِهِمْ مَنْزِلَةً " أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ الطَّائِيُّ ببلخ (1) حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أبجر شيخان صالحان [قالا] : سَمِعْنَا الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ ربه عزوجل: أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يجيئ بعدما يدخل أهل الجنَّة الجنَّة، فيقال [له] ادْخُلِ الْجَنَّةَ.
فَيَقُولُ: كَيْفَ أَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَقَدْ نزل الناس منازلهم وأخذوا أخاذاتهم (2) ؟ فيقال له: [أ] تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْجَنَّةِ مِثْلُ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنيا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ: لَكَ هَذَا وَمِثْلُهُ ومثله فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ رَضِيتُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ.
وَسَأَلَ رَبَّهُ: أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: سَأُحَدِّثُكَ عَنْهُمْ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " * وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الله عزوجل (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةَ) وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ (3) كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ - وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - بِهِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: " فَيُقَالُ لَهُ أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ مُلك مَلك مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ فَيَقُولُ (4) : لَكَ ذلك وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رب فيقال: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ.
وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ رَضِيتُ رَبِّ.
قَالَ: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غرس (5) كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ
__________
(1) في النسخ المطبوعة: بمنبج وهو تحريف.
(2) أخاذاتهم: قال القاضي: هو ما أخذوه من كرامة مولاهم، وحصلوه.
(3) أخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان 84 باب أدنى أهل الجنة ح 312 / 189 ص 1 / 176 والترمذي في 48 كتاب تفسير القرآن باب 33 ومن سورة السجدة ح 3198.
(4) في نسخة: فيقال له، واثبتنا ما جاء عند مسلم.
(5) أردت: اخترت واصطفيت.
غرس: وعند مسلم غرست معناه: اصفطيتهم وتوليتهم فلا يتطرق إلى كرامتهم تغيير.
[*]
(1/338)
وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ (1) " قَالَ وَمِصْدَاقُهُ (2) مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17] وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالْمَرْفُوعُ أَصَحُّ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانِ: " ذِكْرُ سُؤَالِ الْكَلِيمِ رَبَّهُ عَنْ خِصَالٍ سَبْعٍ ": حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن مسلم بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا السَّمْحِ حدَّثه عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " سأل موسى ربه عزوجل عَنْ سِتِّ خِصَالٍ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا لَهُ خَالِصَةٌ، وَالسَّابِعَةُ لَمْ يَكُنْ مُوسَى يُحِبُّهَا: قَالَ: يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَتْقَى؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُ وَلَا يَنْسَى.
قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَهْدَى؟ قَالَ: الَّذِي يَتَّبِعُ الْهُدَى.
قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَحْكَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَحْكُمُ لِلنَّاسِ كَمَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ.
قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: عَالِمٌ لَا يَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ، يَجْمَعُ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ.
قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعَزُّ؟.
قَالَ: الَّذِي إِذَا قَدَرَ غَفَرَ.
قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَغْنَى؟ قَالَ: الَّذِي يَرْضَى بِمَا يُؤْتَى.
قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَفْقَرُ؟ قَالَ: صَاحِبٌ مَنْقُوصٌ ".
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ الْغِنَى عَنْ ظَهْرٍ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفس "، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فِي نَفْسِهِ وَتُقَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ " (3) .
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ قَوْلُهُ " صَاحِبٌ مَنْقُوصٌ " يُرِيدُ بِهِ مَنْقُوصَ حَالَتِهِ يَسْتَقِلُّ مَا أُوتِيَ وَيَطْلُبُ
الْفَضْلَ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ يَعْقُوبَ [الْقُمِّيِّ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ] (4) عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: سأل موسى ربه عزوجل فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ: " قَالَ: أَيْ رَبِّ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إلى علمه عسى أن يجد (5) كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى.
قَالَ: أَيْ رَبِّ فَهَلْ فِي الْأَرْضِ أحد أعلم مني؟ قال: نعم [قال: رب فمن هو؟ قال] : (6) الخضر.
فسأل السبيل إلى لقيه.
فَكَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وبه الثقة.
__________
(1) لم يخطر على قلب بشر: أي لم يخطر على قلب بشر ما أكرمتهم به وأعددته لهم.
(2) مصداقه: دليله وما يصدقه.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 81 / 5 / 6446 فتح الباري من طريق أبي هريرة ولفظه فيه: " ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى عنى النفس " وبلفظه أخرجه مسلم في 12 كتاب الزكاة 40 باب ليس الغنى عن كثرة العرض 120 / 105 ص 2 / 726 عن أبي هريرة وأخرجه أحمد في مسنده ج 2 / 243 - 261.
(4) ما أثبتناه من الطبري 1 / 191 وما في الاصول يعقوب التميمي، وهارون بن عبيرة تحريف.
- ويعقوب القمي: بن عبد الله بن سعد الاشعري، أبو الحسن القمي صدوق من الثامنة مات سنة أربع وسبعين وقيل 172.
تقريب التهذيب 2 / 376 الكاشف 3 / 255.
- وهارون بن عنترة: ابن عبد الرحمن الشيباني، أبو عبد الرحمن ثقة تقريب التهذيب 3 / 312 الكاشف 3 / 6018 / 189.
(5) في الطبري: يصيب.
(6) زيادة من الطبري.
[*]
(1/339)
حَدِيثٍ آخَرَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن اسحق، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّه قَالَ: " إنَّ مُوسَى قَالَ: أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ الْمُؤْمِنُ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ: فَفُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ يَا مُوسَى: هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ.
فَقَالَ
مُوسَى: يَا رب وعزتك وجلالك لو كان مقطع الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ، مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لم ير بوءسا قَطُّ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ الْكَافِرُ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ: فَفُتِحَ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ: يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لَمْ يَرَ خَيْرًا قَطُّ " (1) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: " ذِكْرُ سُؤَالِ كَلِيمِ اللَّهِ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يُعَلِّمَهُ شيئاً يذكره به " حدثنا ابن سلمة، حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ إِنَّ دَرَّاجًا حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ: " قَالَ مُوسَى: " يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ " قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) قَالَ: يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا.
قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ: إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ.
قَالَ: يَا مُوسَى لَوْ أَنَّ أهل السموات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِمْ لَا إله إلا الله " (2) .
ويشهد لهذا الحديث البطاقة.
وأقرب شئ إِلَى مَعْنَاهُ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: " قَالَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أنا والنبييون مِنْ قَبْلِي (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شئ قَدِيرٌ) (3) وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدسكي، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ إسحق، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى: هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ؟ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ؟ فَخُذْ زُجَاجَتَيْنِ فِي يَدَيْكَ فَقُمِ اللَّيْلَ، فَفَعَلَ مُوسَى، فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيل ثُلُثُ نَعَسَ فَوَقَعَ لِرُكْبَتَيْهِ ثُمَّ انْتَعَشَ فَضَبَطَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ نَعَسَ فَسَقَطَتِ الزُّجَاجَتَانِ فَانْكَسَرَتَا.
فَقَالَ: يَا مُوسَى لَوْ كنت أنام لسقطت السموات وَالْأَرْضُ فَهَلَكْنَ كَمَا هَلَكَتِ الزُّجَاجَتَانِ فِي يَدَيْكَ.
قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ.
وقال ابن
__________
(1) مسند الإمام أحمد ج 4 / 322 - 345 - 346.
(2) رواه النسائي والحاكم من طريق دراج عن أبي الهيثم عنه وقال الحاكم صحيح الاسناد.
مالت بهم: رجع ثوابها وزاد أجرها.
الترغيب والترهيب كتاب الدعاء - فضل لا إله إلا الله ج 2 / 415.
(3) أخرجه المنذري في الترهيب كتاب الدعاء - الترغيب في قول لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده رفعه: ورواه التّرمذيّ وقال: حديث حسن غريب.
ج 2 / 419.
[*]
(1/340)
جرير حدثنا اسحق بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ شِبْلٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: " وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هل ينام الله عزوجل؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ.
فِي كُلِّ يَدِ قَارُورَةٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا قَالَ: فَجَعَلَ يَنَامُ وَكَادَتْ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ - فَيَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى حَتَّى نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ، فَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا أَنْ لَوْ كان ينام لم يستمسك السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ".
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَفْعُهُ.
وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا.
وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ إِسْرَائِيلِيًّا.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الخاسرين) [الْبَقَرَةِ: 63 - 64] وَقَالَ تَعَالَى (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأعراف 171] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ لَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ أَمَرَهُمْ بِقَبُولِهَا وَالْأَخْذِ بِهَا بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ فَقَالُوا: انْشُرْهَا عَلَيْنَا، فَإِنْ كَانَتْ أَوَامِرُهَا وَنَوَاهِيهَا سَهْلَةً قَبِلْنَاهَا، فَقَالَ: بَلِ اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا، فَرَاجَعُوهُ مِرَارًا فَأَمْرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَرَفَعُوا الْجَبَلَ على رؤوسهم حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أَيْ غَمَامَةٌ عَلَى رؤوسهم، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا وَإِلَّا سَقَطَ هَذَا الْجَبَلُ عَلَيْكُمْ، فَقَبِلُوا ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ بِشِقِّ وُجُوهِهِمْ، فَصَارَتْ سُنَّةً لِلْيَهُودِ إِلَى الْيَوْمِ، يَقُولُونَ لَا سَجْدَةَ أَعْظَمُ مِنْ سَجْدَةٍ رَفَعَتْ عَنَّا الْعَذَابَ.
وَقَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَلَمَّا نَشَرَهَا لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا اهْتَزَّ، فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ صَغِيرٌ
وَلَا كَبِيرٌ تَقْرَأُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ إِلَّا اهْتَزَّ وَنَفَضَ لَهَا رَأْسَهُ.
قَالَ اللَّهُ تعالى (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أَيْ ثُمَّ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ هَذَا الْمِيثَاقِ الْعَظِيمِ وَالْأَمْرِ الْجَسِيمِ نَكَثْتُمْ عُهُودَكُمْ وَمَوَاثِيقَكُمْ (فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بأن تدارككم بالإرسال إليكم وإنزال الكتب عليكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
قِصَّةُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بقرة.
قالوا أتخذنا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تؤمرون.
قالوا دع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا.
قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ ببعضها كذلك يحي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
(1/341)
تعقلون) [الْبَقَرَةِ: 67 - 73] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: كَانَ رَجُلٌ (1) فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَ الْمَالِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَهُ بَنُو أَخٍ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ لِيَرِثُوهُ، فَعَمَدَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ فِي اللَّيْلِ وَطَرْحَهُ فِي مَجْمَعِ الطُّرُقِ، وَيُقَالُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فلمَّا أَصْبَحَ النَّاس اخْتَصَمُوا فِيهِ، وَجَاءَ ابْنُ أَخِيهِ فَجَعَلَ يَصْرُخُ وَيَتَظَلَّمُ، فَقَالُوا مَا لَكُمْ تَخْتَصِمُونَ وَلَا تَأْتُونَ نَبِيَّ اللَّهِ، فَجَاءَ ابْنُ أَخِيهِ فَشَكَى أَمْرَ عَمِّهِ إِلَى (2) رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْقَتِيلِ إِلَّا أَعْلَمَنَا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عِلْمٌ منه، وَسَأَلُوهُ أَنَّ يَسْأَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ رَبَّهُ عزوجل فسأل ربه عزوجل فِي ذَلِكَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ؟ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) يعنون نحن نسأل عَنْ أَمْرِ هَذَا الْقَتِيلِ، وَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا (قَالَ أَعُوذُ بالله أن أكون مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَقُولَ عَنْهُ غَيْرَ مَا أَوْحَى إِلَيَّ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجَابَنِي حِينَ سَأَلْتُهُ عَمَّا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ أَنْ
أَسْأَلَهُ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ فَلَوْ أنَّهم عَمَدُوا إِلَى أَيِّ بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ منها، ولكنهم شددوا، فشدد عَلَيْهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ.
وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ فَسَأَلُوا عَنْ صِفَتِهَا ثُمَّ عَنْ لَوْنِهَا ثُمَّ عَنْ سِنِّهَا فَأُجِيبُوا بِمَا عَزَّ وُجُودُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ عَوَانٍ وَهِيَ الْوَسَطُ بَيْنَ النِّصْفِ (3) ، الْفَارِضِ وَهِيَ الْكَبِيرَةُ (4) ، وَالْبِكْرُ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ، قَالَهُ ابْنُ عبَّاس وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ.
ثُمَّ شَدَّدُوا وَضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَسَأَلُوا عَنْ لَوْنِهَا فَأُمِرُوا بِصَفْرَاءَ فَاقِعٍ لَوْنُهَا أَيْ مُشْرَبٍ بِحُمْرَةٍ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * وَهَذَا اللَّوْنُ عَزِيزٌ.
ثُمَّ شَدَّدُوا أَيْضًا (فَقَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إن شاء الله لَمُهْتَدُونَ) فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ: " لَوْلَا إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَثْنَوْا لَمَا أُعْطُوا (5) وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاشية فِيهَا.
قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أَضْيَقُ مِمَّا تَقَدَّمَ حَيْثُ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ لَيْسَتْ بِالذَّلُولِ وَهِيَ الْمُذَلَّلَةُ بِالْحِرَاثَةِ وسقى الأرض بالسانية مسلمة وهي
__________
(1) اسمه عاميل كما في أحكام القرآن.
(2) وكان هذا الامر قبل نزول القسامة في التوراة ; والقسامة أن يبدأ المدعون بالايمان فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعي عليهم خمسين يمينا وبرءوا.
(3) عوان: النصف التي ولدت بطنا أو بطنين.
(4) الفارض: أي المسنة، وقيل التي ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك.
(5) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 6 / 314 وقال: رواه البزار وفيه عباد بن منصور وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات.
عباد بن منصور: الناجي، قال النسائي ليس بالقوي / الكاشف ج 2 / 56.
أبو سلمة البصريّ صدوق رمي بالقدر وكان يدلس تغير بآخرة تقريب التهذيب 2 / 107 / 393.
[*]
(1/342)
الصَّحِيحَةُ، الَّتِي لَا عَيْبَ فِيهَا ; قَالَهُ أَبُو العالية وقتادة.
وقوله (لَا شِيَةَ فِيهَا) أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ
يُخَالِفُ لَوْنَهَا بَلْ هِيَ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ وَمِنْ مُخَالَطَةِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ غَيْرِ لَوْنِهَا فَلَمَّا حَدَّدَهَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَحَصَرَهَا بِهَذِهِ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) وَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَانَ بَارًّا بِأَبِيهِ فَطَلَبُوهَا مِنْهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَأَرْغَبُوهُ فِي ثمنها حتى أعطوه فيما ذكره السُّدِّيُّ بِوَزْنِهَا ذَهَبًا فَأَبَى عَلَيْهِمْ حَتَّى أَعْطَوْهُ بِوَزْنِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَبَاعَهَا مِنْهُمْ فَأَمَرَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى بِذَبْحِهَا (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ وَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِهَا.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ أنَّ يَضْرِبُوا ذَلِكَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا.
قِيلَ بِلَحْمِ فَخِذِهَا.
وَقِيلَ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ.
وَقِيلَ بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ فَلَمَّا ضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَامَ وَهُوَ يشخب أَوْدَاجُهُ فَسَأَلَهُ نَبِيُّ اللَّهِ مَنْ قَتَلَكَ قَالَ قَتَلَنِي ابْنُ أَخِي.
ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كان، قال الله تعالى (كذلك يحي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة: 73] أَيْ كَمَا شَاهَدْتُمْ إِحْيَاءَ هَذَا الْقَتِيلِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ كَذَلِكَ أَمْرُهُ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى إِذَا شَاءَ إِحْيَاءَهُمْ أَحْيَاهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالَ (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ الآية) [لقمان: 28] .
قصة موسى والخضر عليهما السلام
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً.
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً.
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا.
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً.
فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً.
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا.
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً.
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً.
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شئ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا.
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا.
قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْرًا.
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً.
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً
نُكْراً.
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عن شئ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عزرا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً.
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُمْ مَلِكٌ يأخذ كل سفينة غضبا.
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً.
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ
(1/343)
رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف: 60 - 82] .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِنَّ مُوسَى هَذَا الَّذِي رَحَلَ إِلَى الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ صُحُفِهِمْ وَيَنْقُلُ عَنْ كُتُبِهِمْ مِنْهُمْ نَوْفُ بْنُ فَضَالَةَ الْحِمْيَرِيُّ الشَّامِيُّ الْبِكَالِيُّ.
وَيُقَالُ إِنَّهُ دِمَشْقِيٌّ وَكَانَتْ أُمُّهُ زَوْجَةَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ * وَالصَّحِيحُ (1) الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ وَنَصُّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ.
حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ.
قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ وَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ تَأْخُذُ معك حوتاً فتجعله بمكتل (2) فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ.
فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ بِمِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وضعا رؤسهما فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتَ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا.
وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ
مِثْلُ الطَّاقِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ.
نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ (قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً) [الكهف: 62] وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ (3) حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ [قَالَ] لَهُ فَتَاهَ: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) [الكهف: 63] قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) قَالَ فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ قَالَ أنا موسى فقال: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أعلمه فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) قَالَ لَهُ الْخَضِرُ (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عن شئ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ منه ذكرا) فانطلقا يمشيان على ساحل البحر [ليس لهما سفينة] فمرت
__________
(1) قال الطبري في معرض تشكيكه: ويزعم أهل التوراة أن الذي طلب الخضر موسى بن ميشا ; ويتابع في رواية أخرى: وكان الخضر في أيام موسى بن عمران.
(2) مكتل: زنبيل يسع خمسة عشر صاعا.
(3) في البخاري: مسا من النصب.
[*]
(1/344)
[بهما] سفينة فكلمهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر [فحملوهما] بِغَيْرِ نَوْلٍ.
فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ (1) عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا (لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً.
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ: " وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا
الْبَحْرِ.
ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ على الساحل إذ بصر الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صبرا) قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى (قَالَ إِنْ سألتك عن شئ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) قَالَ: مَائِلٌ.
فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ (فَأَقَامَهُ) فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا (لو شئت لا تخذت عَلَيْهِ أَجْرًا.
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَدِدْنَا إنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا " (2) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَكَانَ ابْنُ عبَّاس يَقْرَأُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَكَانَ يَقْرَأُ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ.
ثمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
وَفِيهِ فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَمَعَهُمَا الْحُوتُ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَنَزَلَا عِنْدَهَا قَالَ فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ فَنَامَ قَالَ سُفْيَانُ وَفِي حَدِيثِ غَيْرِ عَمْرٍو قَالَ: وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ لَا يصيب من مائها شئ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتُ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ، قَالَ: فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنَ الْمِكْتَلِ، وَدَخَلَ الْبَحْرَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ (قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غداءنا لقد لقينا) وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ.
وغيرهما قد سمعته يحدثه عن
__________
(1) نول: أجر.
(2) في البخاري: أمرهما وفي الطبري: قصصهم.
أخرجه البخاري في (3) كتاب العلم 44 باب ما يستحب للعالم إذا سئل ح: 22 فتح الباري وأخرجه مسلم في صحيحه 43 / 46 / 170 والترمذي في سننه 48 / 19 / 3149 ورواه الطبري بإسناده في تاريخه ج 1 / 189 -
190.
ما بين معكوفين في الحديث زيادة من البخاري.
[*]
(1/345)
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ إِذْ قَالَ: سَلُونِي فَقُلْتُ: أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ نَوْفٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِي: قَالَ: قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَأَمَّا يَعْلَى فَقَالَ لِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي أُبي بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ وَلَّى، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا.
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ * قِيلَ: بَلَى قَالَ: أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ قَالَ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ: أَيْ رَبِّ اجْعَلْ لِي عِلْمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ قَالَ لِي عَمْرٌو قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ وَقَالَ لِي يَعْلَى قَالَ خُذْ حُوتًا مَيِّتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ فَقَالَ لِفَتَاهُ لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ، قَالَ: مَا كَلَّفْتَ كَبِيرًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَإِذْ قال موسى لفتاه) يُوشَعَ بْنِ نُونٍ.
لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ فَقَالَ فَتَاهَ: لَا أُوقِظُهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْبَحْرِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ قَالَ لِي عَمْرٌو، هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ وَحَلَّقَ بين إبهاميه واللتين تليان (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً) قَالَ وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ قَالَ سَعِيدٌ: مُسَجًّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: هَلْ بِأَرْضٍ مِنْ سَلَامٍ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: جئتك (لتعلمني مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) قَالَ أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ؟ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ يَا مُوسَى؟ إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ
عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ) وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الْآخَرِ عَرَفُوهُ فَقَالُوا عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ.
قَالَ فَقُلْنَا لِسَعِيدٍ " خَضِرٌ " قَالَ نَعَمْ.
لَا نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ (فَخَرَقَهَا) وَوَتَّدَ فِيهَا وَتِدًا (قَالَ) مُوسَى (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) قَالَ مُجَاهِدٌ مُنْكَرًا (1) (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) كَانَتِ الْأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً.
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ) قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بالسكين (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) لَمْ تَعْمَلْ بِالْخَبَثِ (2) * ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا زَكِيَّةً زَاكِيَةً مُسْلِمَةً كَقَوْلِكَ غُلَامًا زَكِيًّا (فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ) قال بِيَدِهِ هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ قَالَ يَعْلَى: حسبت أن سيعدا قال:
__________
(1) قال القتبي: إمرا: معناه عجبا، وقال أبو عبيدة: الامر: الداهية العظيمة.
(2) وقيل: بالحنث: لانها لم تبلغ الحلم ; وهو تفسير لقوله نفسا زكية.
[*]
(1/346)
فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ (وَكَانَ وَرَاءهُمْ) وَكَانَ أَمَامَهُمْ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ (1) .
مَلِكٌ يَزْعُمُونَ - عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ - أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ وَالْغُلَامُ الْمَقْتُولُ يَزْعُمُونَ جَيْسُورُ (2) (مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سفينة غَصْباً) فَإِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ يَدَعُهَا بِعَيْبِهَا فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا.
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سدوها بقارورة ومنهم من يقول بالقار (كان أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ) وَكَانَ كَافِرًا (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) أَيْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً) لقوله أقتلت نفسا زكية (وَأَقْرَبَ رُحْماً) هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر * وزعم سعيد بن جبير أنه ابن لا جَارِيَةً وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إِنَّهَا جَارِيَةٌ * وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أبي إسحق عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس قَالَ خَطَبَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ مِنِّي فَأُمِرَ أَنْ يَلْقَى هَذَا الرَّجُلَ.
فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وهكذا رواه محمد بن إسحق عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ
عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عيينة عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا.
وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ مَوْقُوفًا * وَقَالَ الزُّهري عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى فَقَالَ ابْنُ عبَّاس: هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ شَيْئًا قَالَ: نَعَمْ.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَصَّيْنَا طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَلْفَاظَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الكهف ولله الحمد.
وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَهُمَا أَصْرَمُ وَصَرِيمُ ابْنَا كَاشِحَ.
(وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا) قِيلَ كَانَ ذَهَبًا قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقِيلَ عِلْمًا قَالَهُ ابْنُ عبَّاس (3) .
وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبًا
__________
(1) قال الماوردي: اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال: - أحدها: يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الاضداد قال الله تعالى: (من ورائهم جهنم) أي من أمامهم.
- الثاني: أن وراء تستعمل في موضع أمام في المواقيت والازمان.
- الثالث: أنه يجوز في الاجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما.
(2) قال الكلبي: شمعون وقال الضحاك: حيسون، وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى أما السهيلي فقال: اسم أبيه: كازير واسم أمه: سهوى.
واسم الملك: قيل هود بن بدد - كما في البخاري - وقيل الجلندي قاله السهيلي وقيل جيسور راجع أحكام القرآن ج 11 / 36.
(3) قال القرطبي: وعن ابن عباس أيضا: قال: كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
ج 11 / 38.
(1/347)
فِيهِ عِلْمٌ.
قَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا الحرث بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَحْصُبِيُّ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عباس الغساني، عن بن حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ قَالَ إِنَّ الْكَنْزَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لَوْحٌ من الذهب مُصْمَتٍ: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ نَصِبَ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت كيف غَفَلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عن الحسن البصري وعمر مولى عفرة وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ نَحْوُ هَذَا وَقَوْلُهُ (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ الْأَبَ السَّابِعَ وَقِيلَ الْعَاشِرَ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يُحْفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَوْلُهُ (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَأَنَّهُ مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ بِأَمْرِ رَبِّهِ فَهُوَ نَبِيٌّ وَقِيلَ رَسُولٌ وَقِيلَ وَلِيٌّ وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَنْ قَالَ كَانَ مَلَكًا قُلْتُ وَقَدْ أَغْرَبَ جِدًّا مَنْ قَالَ هُوَ ابْنُ فِرْعَوْنَ وَقِيلَ إِنَّهُ ابْنُ ضَحَّاكٍ الَّذِي مَلَكَ الدُّنْيَا أَلْفَ سَنَةٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (1) : وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عَلَى مُقَدَّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ كَانَ أَفْرِيدُونَ، وَذُو الْفَرَسِ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ.
وزعموا أنه شرب من ماء الحيوة فَخَلَدَ وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآنَ.
وَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ وَقِيلَ اسْمُهُ مَلْكَانُ وقيل أرميا بن خلقيا وَقِيلَ كَانَ نَبِيًّا فِي زَمَنِ سَبَاسِبَ بْنِ لَهْرَاسِبَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ كَانَ بَيْنَ أَفْرِيدُونَ وَبَيْنَ سَبَاسِبَ (2) دُهُورٌ طَوِيلَةٌ لَا يَجْهَلُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ وَاسْتَمَرَّ حَيًّا إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ نُبُوَّةُ مُوسَى فِي زَمَنِ مَنُوشِهْرَ الَّذِي هُوَ مِنْ وَلَدِ إِيرَجَ بْنِ أَفْرِيدُونَ أَحَدِ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَكَانَ إِلَيْهِ الْمُلْكُ بَعْدَ جَدِّهِ أَفْرِيدُونَ لِعَهْدِهِ وَكَانَ عَادِلًا (3) وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَنْدَقَ الْخَنَادِقَ وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ دِهْقَانًا (4) وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ قَرِيبًا مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَيُقَالُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ سُلَالَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (5) وَقَدْ ذُكِرَ عنه من الخطب الحسان والكليم الْبَلِيغِ النَّافِعِ الْفَصِيحِ مَا يُبْهِرُ الْعَقْلَ وَيُحَيِّرُ السَّامِعَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْخَلِيلِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جائكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قال أءقررتم الآية) [آل عمران: 84] .
فَأَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ كُلِّ نَبِيٍّ على أن يؤمن بمن يجئ بعده من الأنبياء وينصره [واستلزم ذلك الإيمان وأخذ الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء فحق على كل نبي أدركه أن يؤمن به
__________
(1) تاريخ الطبري: 1 / 188.
(2) في الطبري: يشتاسب في المكانين.
(3) زاد الطبري 1 / 195: وكان منوشهر يوصف بالعدل والاحسان وهو أول من جمع آلة الحرب.
(4) زاد الطبري: وجعل أهلها له خولا وعبيدا والبسهم لباس المذلة وأمرهم بطاعته.
(5) قال الطبري: وقد زعم بعض أهل الاخبار أنه: منوشهر بن منشخرنر بن افريقيس بن إسحاق بن إبراهيم وقد أنكر الفرس هذا النسب، ولم تقر بالملك لغيرهم.
[*]
(1/348)
وَيَنْصُرُهُ] (1) .
فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي زَمَانِهِ، لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُ وَالِاجْتِمَاعُ بِهِ وَالْقِيَامُ بِنَصْرِهِ، وَلَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَحْتَ لِوَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، كَمَا كَانَ تَحْتَهَا جِبْرِيلُ وَسَادَاتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَقُصَارَى الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَهُوَ الْحَقُّ، أَوْ رَسُولًا كَمَا قيل أو ملكاً فيما ذكر وأياما كَانَ فَجِبْرِيلُ رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ، وَمُوسَى أَشْرَفُ مِنَ الْخَضِرِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَنُصْرَتُهُ فَكَيْفَ إِنْ كَانَ الْخَضِرُ وَلِيًّا كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ؟ فَأَوْلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْبَعْثَةِ وَأَحْرَى.
وَلَمْ يُنْقَلْ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ بَلْ وَلَا ضَعِيفٍ يُعْتَمَدُ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا اجْتَمَعَ بِهِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ التَّعْزِيَةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ رَوَاهُ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَسَنُفْرِدُ لِخَضِرٍ تَرْجَمَةً عَلَى حِدَةٍ بَعْدَ هَذَا.
[ذكر الحديث الملقب] (2) بحديث الفنون المتضمن قصة موسى مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ فِي " كِتَابِ التَّفْسِيرِ " مِنْ سُنَنِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) [طه: 40] حَدِيثُ الْفُتُونِ (3) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ
أَبِي أَيُّوبَ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [لموسى] (4) (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: اسْتَأْنِفِ النَّهَارَ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى ابْنِ عبَّاس لِأَنْتَجِزَ مِنْهُ مَا وَعَدَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ، فَقَالَ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ مَا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ وَعْدُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ فرعون: فكيف ترون؟ فأتمروا وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يَجِدُونَ مولوداً ذكراً إلا
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة ومن نسخة مطبعة السعادة واستدركت من النسخة المحفوظة بدار الكتب الوطنية مصر - مصور عن نسخة الاستانة - رقم (تاريخ 1110) .
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) رواه ابن كثير في تفسيره مطولا (ج 3 / 245 - 252 احياء التراث - بيروت) وقال في نهايته معقبا: هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى وأخرجه أبو جعفر بن جرير (الطبري) وابن أبي حاتم في تفسيريهما، كلَّهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه وكأنه تلقاه ابن عبَّاس رضي لله عنهما مما أبيح نقله من الاسرائيليات عن كعب الأحبار، أو غيره، والله أعلم.
وسمعت شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ ذَلِكَ أيضاً.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة واستدركت من النسائي.
[*]
(1/349)
ذَبَحُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَالصِّغَارَ يُذْبَحُونَ قَالُوا: تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَصِيرُوا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي (1) كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ واتركوا (2) بناتهم، وَدَعُوا عَامًا فَلَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَيَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ، فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إياكم، ولن تفتنوا بِمَنْ تَقْتُلُونَ وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى
بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ (3) فِيهِ الْغِلْمَانُ فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً.
فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ، حَمَلَتْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ - يَا ابْنَ جُبَيْرٍ - مَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ أمِّه مِمَّا يُرَادُ [بِهِ] (4) فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَتُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ، فَلَمَّا وَلَدَتْ فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا فَعَلْتُ بِابْنِي لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ إِلَى دَوَابِّ الْبَحْرِ وَحِيتَانِهِ.
فَانْتَهَى الْمَاءُ بِهِ حَتَّى أَوْفَى عِنْدَ فُرْضَةٍ مستقى (5) جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَخَذْنَهُ فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: أنَّ فِي هَذَا مَالًا وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملته كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُخْرِجْنَ مِنْهُ شَيْئًا حتَّى دَفَعْنَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ غُلَامًا، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةٌ لَمْ تُلْقَ مِنْهَا عَلَى أحد قط (أصبح فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً) [مِنْ] (6) ذِكْرِ كُلِّ شئ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى.
فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا بِشِفَارِهِمْ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ لِيَذْبَحُوهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ - يَا ابْنَ جُبَيْرٍ - فَقَالَتْ لَهُمْ أَقِرُّوهُ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى آتِيَ فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبَهُ منه، فإن وهبه مني كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، فَأَمَّا لِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أقر فرعون أن يكون قرة عين له، كَمَا أَقَرَّتِ امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا، ولكن حَرَمَهُ ذَلِكَ " فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا إِلَى كل امرأة لها لأن تَخْتَارُ [لَهُ] (7) ظِئْرًا فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يُقْبِلْ عَلَى ثَدْيِهَا، حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَأَحْزَنَهَا ذَلِكَ فَأَمَرَتْ بِهِ، فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ النَّاسِ تَرْجُو أَنْ تَجِدَ لَهُ ظِئْرًا تَأْخُذُهُ مِنْهَا فَلَمْ يَقْبَلْ.
وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهًا، فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ
__________
(1) في نسخة الذي.
وما أثبتناه المناسب.
(2) في نسخة: فتقل.
(3) في نسخة: لا تقتل.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.
(5) في نسخة: تستقي منها.
(6) سقطت من النسخ المطبوعة.
(7) سقطت من النسخ المطبوعة.
[*]
(1/350)
هَلْ تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا؟ أَحَيٌّ ابْنِي أَمْ قد أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ؟ وَنَسِيَتْ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فيه (فَبَصُرَتْ بِهِ) أخته (عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شئ بَعِيدٍ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ لَا يَشْعُرُ بِهِ.
فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات أَنَا (أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) [فَأَخَذُوهَا] (1) فَقَالُوا مَا يُدْرِيكِ ما نصحهم [له] (2) هل [تعرفينه] (3) حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ.
وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ - يا ابن جبير - فقالت: نصحهم إله وشفقتهم عليه ورغبتهم فِي صِهْرِ الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَلِكِ.
فَأَرْسَلُوهَا فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا فَمَصَّهُ حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ رِيًّا، وَانْطَلَقَ الْبَشِيرُ إلى امرأة فرعون يبشرها أَنَّ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ ظِئْرًا.
فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ بِهَا وَبِهِ.
فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا قَالَتِ: امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا حُبَّهُ قَطُّ، قَالَتْ أُمُّ مُوسَى: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتْرُكَ بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِينِيهِ، فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي فَيَكُونَ مَعِي لَا آلُوهُ خَيْرًا، فَعَلْتُ، فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ مَوْعُودَهُ، فَرَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا وَحَفِظَهُ لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ.
فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ.
مَا كَانَ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فرعون لأم موسى: أزيريني ابني فوعدتها يوماً [تزيرها] (4) إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظئورها وَقَهَارِمَتِهَا، لَا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِيَ الْيَوْمَ بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ لِأَرَى ذَلِكَ فِيهِ، وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينًا يُحْصِي كُلَّ مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ فَلَمْ تَزَلِ الْهَدَايَا وَالْكَرَامَةُ وَالنِّحَلُ (5) تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينَ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنَّ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا
نَحَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ وَنَحَلَتْ أُمَّهُ بِحُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَتْ لَآتِيَنَّ بِهِ فِرْعَوْنَ فَلَيَنْحِلَنَّهُ وَلَيُكْرِمَنَّهُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ جَعَلَهُ فِي حِجْرِهِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ فَمَدَّهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ: أَلَا تَرَى مَا وعد الله إبراهيم نبيه؟ إنه زعم أن يرثك وَيَعْلُوكَ وَيَصْرَعُكَ، فَأَرْسِلْ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيَذْبَحُوهُ.
وَذَلِكَ من الفتون - يا بن جُبَيْرٍ - بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَأُرِيدَ به، فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْعَى إِلَى فِرْعَوْنَ.
فَقَالَتْ مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي وَهَبَتْهُ لِي؟ فَقَالَ: أَلَا تَرَيْنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي؟ فَقَالَتِ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا تَعْرِفُ فِيهِ الْحَقَّ، ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ وَلُؤْلُؤَتَيْنِ فَقَرِّبْهُنَّ إِلَيْهِ! فَإِنْ بَطَشَ بِاللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَاجْتَنَبَ الْجَمْرَتَيْنِ عَرَفْتَ أنه
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) في نسخة: يعرفونه.
(4) في نسخة: أريني ابني فوعدتها يوماً تريها.
(5) النحل: العطايا.
[*]
(1/351)
يَعْقِلُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَهُوَ يَعْقِلُ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ، فَانْتَزَعَهُمَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ المرأة ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعدما كَانَ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ.
فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ، حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ الِامْتِنَاعِ.
فَبَيْنَمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ وَالْآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ.
فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَغَضِبَ مُوسَى غَضَبًا شَدِيدًا لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ [لَا يَعْلَمُ النَّاس إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا أُمُّ مُوسَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى] (1) مَا لَمْ يطَّلع عَلَيْهِ غَيْرَهُ.
فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أحد إلا الله عزوجل وَالْإِسْرَائِيلِيُّ فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) [القصص: 15] ثُمَّ قَالَ (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص: 16] الأخبار فأتى فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال: ابغوني قاتله من يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه، لا ينبغي له أن يقتل بغير بينة، ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم (إنك لغوي مبين) فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ فَخَافَ أن يكون بعدما قَالَ لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ، وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ، إِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ * وَقَالَ: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ، فَتَتَارَكَا وَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ حِينَ يَقُولُ: (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى، فَأَخَذَ رُسُلُ فِرْعَوْنَ الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ يَمْشُونَ عَلَى هِينَتِهِمْ يَطْلُبُونَ مُوسَى، وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرَهُ.
وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ - يَا ابْنَ جُبَيْرٍ - فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ لَمْ يَلْقَ بَلَاءً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ، إِلَّا حسن ظنه بربه عزوجل، فَإِنَّهُ قَالَ (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ.
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ) يَعْنِي بِذَلِكَ حَابِسَتَيْنِ غَنَمَهُمَا فَقَالَ لَهُمَا (مَا خطبكما) معتزلتين
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة، واستدركت من مخطوطه بدار الكتب المصرية رقم 2442 وقورنت على حديث النسائي ورواية ابن كثير في التفسير.
[*]
(1/352)
لَا تَسْقِيَانِ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَتَا: لَيْسَ لَنَا قوة تزاحم الْقَوْمَ وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ فُضُولَ حِيَاضِهِمْ، فَسَقَى لَهُمَا فجعل يغترف (1) مِنَ الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ وَانْصَرَفَتَا بِغَنَمِهِمَا إِلَى أَبِيهِمَا، وَانْصَرَفَ مُوسَى فاستظل بشجرة وَقَالَ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وَاسْتَنْكَرَ أَبُوهُمَا سُرْعَةَ صُدُورِهِمَا بِغَنَمِهِمَا حُفَّلًا (2) بِطَانًا فَقَالَ: إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا، فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا صَنَعَ مُوسَى فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ، فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ (قَالَ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ليس لفرعون ولا قومه علينا من سلطان ولسنا في مملكته فقالت إحداهما: (يا أبت استأجره إن خير من اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص: 27] فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهَا: مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ وَمَا أَمَانَتُهُ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا لَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَيَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ.
ثُمَّ قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيقَ فَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ.
فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا وَصَدَّقَهَا، وَظَنَّ بِهِ الَّذِي قَالَتْ.
فَقَالَ لَهُ هَلْ لَكَ (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص: 27] فَفَعَلَ فَكَانَتْ على نبي الله موسى ثمان سِنِينَ وَاجِبَةً، وَكَانَتِ السَّنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا.
قَالَ سَعِيدُ - هو ابن جُبَيْرٍ - فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا.
وَأَنَا يَوْمَئِذٍ لَا أَدْرِي.
فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمَتْ أَنَّ ثَمَانِيَةً كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَاجِبَةً، لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ لِيُنْقِصَ مِنْهَا شَيْئًا؟ وَتَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدته الَّتِي وَعَدَهُ ; فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ.
فَلَقِيتُ النَّصْرَانِيَّ فَأَخْبَرَتْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: الَّذِي سَأَلْتَهُ فَأَخْبَرَكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَجَلْ وَأَوْلَى.
فَلَمَّا سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ كَانَ من أمر النار والعصي وَيَدِهِ، مَا قصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ.
فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يَتَخَوَّفُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الْقَتِيلِ وَعُقْدَةِ لِسَانِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هرون، يكون له ردأ وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لسانه، فأتاه الله عزوجل [سُؤْلَهُ] (3) وَحَلَّ
عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إلى هرون فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ.
فَانْدَفَعَ مُوسَى بِعَصَاهُ حَتَّى لقى هرون.
فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَأَقَامَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمَا.
ثُمَّ أُذِنَ لَهُمَا بَعْدَ حِجَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَا: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) فَقَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي القِران.
قَالَ: فَمَا تُرِيدَانِ؟ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ، قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُرْسِلَ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ (ائْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ [حَيَّةٌ
__________
(1) في نسخة: يغرف.
(2) حفلا بطانا: درت ضروعها وشبعت بطونها.
(3) سقطت من النسخ المطبوعة.
[*]
(1/353)
تسعى] (1) عَظِيمَةٌ فَاغِرَةً فَاهَا مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَآهَا (2) فِرْعَوْنُ قَاصِدَةً إِلَيْهِ خَافَهَا فَاقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ فَفَعَلَ.
ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ.
ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ.
فَاسْتَشَارَ الْمَلَأَ حَوْلَهُ فِيمَا رَأَى فَقَالُوا لَهُ (هَذَانِ سَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) يَعْنِي مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْعَيْشَ، وَأَبَوْا عَلَى مُوسَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مِمَّا طَلَبَ، وَقَالُوا لَهُ: اجْمَعِ السَّحَرَةَ فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ، حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا.
فأرسل إلى المدائن فحشر به كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ (2) فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ [هَذَا السَّاحِرُ] ؟ (3) قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ، قَالُوا: فَلَا وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ [فِي (4) الْأَرْضِ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ بِالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ الَّذِي نَعْمَلُ، وَمَا أَجْرُنَا إِنْ نَحْنُ غَلَبْنَا؟ قَالَ: لَهُمْ: أَنْتُمْ أَقَارِبِي وَخَاصَّتِي، وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شئ أَحْبَبْتُمْ فَتَوَاعَدُوا (يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) قَالَ سَعِيدٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ الْيَوْمَ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ موسى على فرعون والسحرة، وهو يَوْمُ عَاشُورَاءَ.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ قَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا فَلْنَحْضُرْ هَذَا الْأَمْرَ لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين يعنون موسى وهرون استهزاءً بهما فقالوا يا موسى بعد تريثهم بِسِحْرِهِمْ (إِمَّا أَنْ
تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الملقين) [الاعراف: 115] قَالَ بَلْ أَلْقُوا (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) فَرَأَى مُوسَى مِنْ سِحْرِهِمْ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ (أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) فَلَمَّا أَلْقَاهَا صَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا فَجَعَلَتِ الْعِصِيُّ تَلْتَبِسُ بِالْحِبَالِ حَتَّى صَارَتْ جرزاً على الثعبان أن تَدْخُلُ فِيهِ (5) حَتَّى مَا أَبْقَتْ عَصًا وَلَا حَبْلًا إِلَّا ابْتَلَعَتْهُ.
فَلَمَّا عَرَفَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ، قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ (6) مِنْ سِحْرِنَا كُلَّ هَذَا، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَنَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ.
فَكَسَرَ اللَّهُ ظَهَرَ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَأَشْيَاعِهِ وَظَهَرَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَارِزَةٌ مبتذلة تدعو الله بِالنَّصْرِ لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَمَنْ رَآهَا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ظَنَّ أَنَّهَا إِنَّمَا ابْتُذِلَتْ لِلشَّفَقَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ حُزْنُهَا وَهَمُّهَا لِمُوسَى فَلَمَّا طَالَ مُكْثُ مُوسَى بِمَوَاعِيدِ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةِ، كُلَّمَا جَاءَ بِآيَةٍ وَعَدَهُ عِنْدَهَا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا مَضَتْ أخلف من غده، وَقَالَ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يَصْنَعَ غَيْرَ هَذَا؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
__________
(1) في نسخة: ثعبان.
(2) في نسخة: رأى.
(3) في نسخة: السحر.
(4) في نسخة: من.
(5) في نسخة: صارت حرزا للثعابين تدخل فيه.
(6) في النسخ المطبوعة: يبلع.
[*]
(1/354)
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ.
كُلُّ ذَلِكَ يَشْكُو إِلَى مُوسَى وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ، وَيُوَافِقَهُ (1) عَلَى أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده وَنَكَثَ عَهْدَهُ حَتَّى أَمَرَ مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى البحر إذا ضربك موسى عبدي بِعَصَاهُ فَانْفَلِقِ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى يَجُوزَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ * ثُمَّ الْتَقِ عَلَى مَنْ بَقِيَ بَعْدُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ.
فَنَسِيَ مُوسَى أن يضرب البحر بالعصي وَانْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ وَلَهُ قَصِيفٌ (2) مَخَافَةَ أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَصِيرُ عَاصِيًا لله عزوجل فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: (إنا لمدركون) افْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ تَكْذِبْ قَالَ: وَعَدَنِي رَبِّي إِذَا أَتَيْتُ الْبَحْرَ انْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصى فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ حِينَ دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَاخِرِ جُنْدِ مُوسَى، فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَكَمَا وَعَدَ مُوسَى فَلَمَّا [أَنْ] (3) جَاوَزَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، الْتَقَى عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَ، فلما جاوز موسى [البحر] (4) قَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرِقَ وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ، فَدَعَا رَبَّهُ فَأَخْرَجَهُ لَهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ.
ثُمَّ مَرُّوا بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وباطل مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الْأَعْرَافِ: 138] قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ الْعِبَرِ وَسَمِعْتُمْ مَا يَكْفِيكُمْ.
وَمَضَى فَأَنْزَلَهُمْ مُوسَى مَنْزِلًا وَقَالَ: أَطِيعُوا هارون فإن الله قد استخلفه عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي، وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فِيهَا.
فَلَمَّا أَتَى ربه عزوجل وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ صَامَهُنَّ لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ، وَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فِيهِ رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ (5) الْأَرْضِ فَمَضَغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ: لمَ أَفْطَرْتَ؟ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ - قَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ.
قَالَ: أَوَمَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ رِيحَ فَمِ الصائم أطيب [عندي] مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؟ ارْجِعْ فَصُمْ عَشْرًا ثُمَّ ائْتِنِي، فَفَعَلَ مُوسَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ.
فَلَمَّا رَأَى قَوْمُ مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ فِي الْأَجَلِ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَكَانَ هَارُونُ قد خطبهم فقال: إِنَّكُمْ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عِنْدَكُمْ عَوَارِيُّ وَوَدَائِعُ (6) وَلَكُمْ فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنَا
__________
(1) في نسخة: ليوافقه، وعند النسائي: ويواثقه.
(2) قصيف: هشيم الشجر، هنا: صليل البحر وهديره.
(3) سقطت من النسخ المطبوعة واثبتت من النسائي وتفسير ابن كثير.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.
واستدركت من النسائي وتفسير ابن كثير.
(5) عود من خرنوب.
(6) كان بنو إسرائيل قد استعاروا حلى وزينة من آل فرعون ليلة خروجهم من مصر بحجة التزين بها في عيد لهم - عيد الزينة.
[*]
(1/355)
أرى أن تحتسبوا مالكم عِنْدَهُمْ، وَلَا أُحِلُّ لَكُمْ وَدِيعَةً اسْتَوْدَعْتُمُوهَا وَلَا عَارِيَّةً، وَلَسْنَا بِرَادِّينَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُمْسَكِيهِ لِأَنْفُسِنَا، فَحَفَرَ حَفِيرًا وَأَمَرَ كُلَّ قوم عندهم من ذلك مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَنْ يَقْذِفُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَفِيرِ.
ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهِ النَّارَ فَأَحْرَقَهُ، فَقَالَ: لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا لَهُمْ.
وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، جِيرَانٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاحْتَمَلَ مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ احْتَمَلُوا فَقُضِيَ لَهُ أَنْ رَأَى أَثَرًا فَقَبَضَ مِنْهُ قَبْضَةً فَمَرَّ بِهَارُونَ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: يَا سَامِرِيُّ أَلَا تلقي ما في يديك (1) ؟ وَهُوَ قَابِضٌ عَلَيْهِ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ طَوَالَ ذَلِكَ، فَقَالَ هَذِهِ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشئ، إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ إِذَا أَلْقَيْتُهَا أَنْ يَكُونَ مَا أُرِيدُ، فَأَلْقَاهَا وَدَعَا لَهُ هَارُونُ.
فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عِجْلًا فَاجْتَمَعَ مَا كَانَ فِي الْحُفْرَةِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، فَصَارَ عِجْلًا أَجْوَفَ، لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ لَهُ خُوَارٌ.
قَالَ ابْنُ عباس لا والله ما كان فيه صَوْتٌ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَفَرَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَا سَامِرِيُّ مَا هَذَا وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ؟ قَالَ: هَذَا رَبُّكُمْ، وَلَكِنَّ مُوسَى أَضَلَّ الطَّرِيقَ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا نُكَذِّبُ بِهَذَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فَإِنْ كَانَ رَبُّنَا لَمْ نكن ضيعناه وعجزنا (2) فيه حتى رَأَيْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبَّنَا فَإِنَّا نَتَّبِعُ قَوْلَ مُوسَى، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشيطان، وليسر بِرَبِّنَا وَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُصَدِّقُ، وَأُشْرِبُ فِرْقَةٌ فِي قُلُوبِهِمُ الصِّدْقَ: بِمَا قَالَ السَّامِرِيُّ في العجل وأعلنوا التكديب به.
فقال لهم هارون عليه السلام (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ) [طه: 90] لَيْسَ هَذَا.
قَالُوا فَمَا بَالُ موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا.
هده أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَدْ مَضَتْ، قَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: أَخْطَأَ رَبَّهُ فَهُوَ
يَطْلُبُهُ وَيَبْتَغِيهِ.
فَلَمَّا كلَّم اللَّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ، (فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً) فَقَالَ لَهُمْ: مَا سَمِعْتُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ؟ (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَانْصَرَفَ إِلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول، وَفَطِنْتُ لَهَا وَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فَقَذَفْتُهَا (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثم لنننسفنه فِي الْيَمِّ نَسْفاً) [طه: 96 - 97] ولو كان إلهاً لم يخلص إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ، وَاغْتَبَطَ الَّذِينَ كَانَ رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هرون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا [ربك] أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فتكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى [من] قومه سبعين رجلاً لذلك، لا يألوا الْخَيْرَ خِيَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ في الحق، فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ فَرَجَفَتْ بِهِمُ الارض.
__________
(1) في سنن النسائي وتفسير ابن كثير: يدك.
(2) في نسخة: وعكفنا ; وفي النسائي وتفسير ابن كثير فكالاصل.
[*]
(1/356)
فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ وَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ فقال: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ لاهلكتهم مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ اللَّهُ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به.
فلذلك رجفت بهم الأرض فقال (رحمتي وسعت كل شئ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ.
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) فَقَالَ يَا رَبِّ سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي، فَقُلْتَ: إن رحمتي كَتَبْتَهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي فَلَيْتَكَ أَخَّرْتَنِي حَتَّى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم (1) فَقَالَ لَهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رجل [منهم] مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ، فَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ ولا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ.
وَتَابَ أولئك الذين كان خفي على موسى وهرون [أمرهم] وَاطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِهَا، وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا وَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ.
ثُمَّ سَارَ
بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بها وفتق (2) اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَدَنَا مِنْهُمْ حتى خافوا أن يقع عليهم، وأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ، خَلْقُهُمْ خَلْقٌ مُنْكَرٌ، وَذَكَرَ من ثمارهم أمراً عجباً (3) مِنْ عِظَمِهَا، فَقَالُوا: (يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ) لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) .
(قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) قِيلَ لِيَزِيدَ: هَكَذَا قَرَأَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، مِنَ الجبارين، آمنا بموسى وخرجنا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِقَوْمِنَا إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ويقول أناس: إنهم من قوم موسى.
فقال الذين يخافون من بني إِسْرَائِيلَ (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ) فَأَغْضَبُوا مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ، حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ فَاسْتَجَابَ الله له، وسماهم كما سماهم [موسى] فَاسِقِينَ فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَيَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا، وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يشربون منها، فلا يرتحلون من محله - إلا وجدوا
__________
(1) في تفسير ابن كثير: المرحومة.
(2) في نسخة: ونتق.
(3) في تفسير ابن كثير: عجيبا.
[*]
(1/357)
ذلك الحجر [بينهم] بالمكان الذي كان فيه [بالمنزل الأول] (1) بِالْأَمْسِ * رَفَعَ ابْنُ عبَّاس هَذَا
الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَ ذَلِكَ عندي أن معاوية سمع ابن عبَّاس [يحدث] هَذَا الْحَدِيثَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِرْعَوْنِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَى مُوسَى أَمْرَ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَ.
فَقَالَ: كَيْفَ يُفْشِي عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي حَضَرَ ذَلِكَ؟ فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَخَذَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مالك الزهري فقال له: يا أبا اسحق، هَلْ تَذْكُرُ يَوْمَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتِيلِ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ؟ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَيْهِ أَمِ الْفِرْعَوْنِيُّ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَفْشَى عَلَيْهِ الفرعوني بما سمع [من] الْإِسْرَائِيلِيَّ الَّذِي شَهِدَ ذَلِكَ وَحَضَرَهُ.
هَكَذَا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ يزيد بن هرون وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أنَّه مَوْقُوفٌ وَكَوْنُهُ مَرْفُوعًا فِيهِ نَظَرٌ.
وَغَالِبُهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَفِيهِ شئ يَسِيرٌ مُصَرَّحٌ بِرَفْعِهِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ.
وَفِي بَعْضِ مَا فِيهِ نَظَرٌ وَنَكَارَةٌ، وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ [مِنْ] كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يقول ذلك [أيضاً] ، والله أَعْلَمُ (2) .
[ذِكْرُ] (3) بِنَاءِ قُبَّةِ الزَّمَانِ
قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بعمل قبة من خشب الشمشاز وَجُلُودِ الْأَنْعَامِ وَشَعْرِ الْأَغْنَامِ وَأَمَرَ بِزِينَتِهَا بِالْحَرِيرِ الْمُصَبَّغِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُفَصَّلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَهَا عَشْرُ سُرَادِقَاتٍ، طُولُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ وَأَطْنَابٌ مِنْ حَرِيرٍ وَدِمَقْسٍ مُصَبَّغٍ، وَفِيهَا رُفُوفٌ وَصَفَائِحُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَلِكُلِّ زَاوِيَةٍ بَابَانِ وَأَبْوَابٌ أُخَرُ كَبِيرَةٌ، وَسُتُورٌ مِنْ حَرِيرٍ مُصَبَّغٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذكره.
وبعمل تابوت من خشب الشمشاز يَكُونُ طُولُهُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا، وَعَرْضُهُ ذِرَاعَيْنِ وَارْتِفَاعُهُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، وَيَكُونُ مُضَبَّبًا بِذَهَبٍ خَالِصٍ مِنْ دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ، وَلَهُ أَرْبَعُ حِلَقٍ فِي أَرْبَعِ زَوَايَاهُ، وَيَكُونُ عَلَى حَافَّتَيْهِ كَرُوبِيَّانِ مِنْ ذَهَبٍ - يَعْنُونَ صِفَةَ مَلِكَيْنِ بِأَجْنِحَةٍ، وَهُمَا مُتَقَابِلَانِ صَنَعَهُ (4) رجل اسمه بصليال.
وأمراه أن يعمل مائدة من خشب الشمشاز طولها ذراعان وعرضها ذراعان وَنَصِفٌ لَهَا ضِبَابُ ذَهَبٍ وَإِكْلِيلُ ذَهَبٍ، بِشَفَةٍ مُرْتَفِعَةٍ بِإِكْلِيلٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَرْبَعِ حِلَقٍ مِنْ نواحيها من ذهب، مغرزة في مثل الرمان من خشب ملبس ذهباً [وأن يعمل] صحافاً ومصافي وقصاعا على المائدة، [وأن
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) ما ذكر بين معكوفين في حديث الفنون سقط مجمله من نسخ البداية والنهاية المطبوعة واستدرك بمقارنته بنص النسائي وتفسير ابن كثير.
(3) سقطت من النسخ المطبوعة.
(4) في نسخة: صفة وهو تحريف.
[*]
(1/358)
يصنع] (1) منارة من الذهب دُلِيَّ فِيهَا سِتُّ قَصَبَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مِنْ كل جانب ثلاثة.
عَلَى كُلِّ قَصَبَةٍ ثَلَاثُ سُرُجٍ، وَلْيَكُنْ فِي الْمَنَارَةِ أَرْبَعُ قَنَادِيلَ، وَلْتَكُنْ هِيَ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْآنِيَةِ مِنْ قِنْطَارٍ مِنْ ذَهَبٍ صَنَعَ ذَلِكَ بَصْلِيَالُ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي عَمِلَ الْمَذْبَحَ أَيْضًا.
وَنَصَبَ هَذِهِ الْقُبَّةَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ سَنَتِهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الرَّبِيعِ وَنَصَبَ تَابُوتَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الْبَقَرَةِ: 248] وَقَدْ بُسِطَ هَذَا الْفَصْلُ فِي كِتَابِهِمْ مُطَوَّلًا جِدًّا (2) ، وَفِيهِ شَرَائِعُ لَهُمْ وَأَحْكَامٌ وَصِفَةُ قُرْبَانِهِمْ، وَكَيْفِيَّتُهُ وَفِيهِ أَنَّ قُبَّةَ الزَّمَانِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ الَّذِي هُوَ مُتَقَدِّمٌ على مجئ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ كَالْكَعْبَةِ يُصَلُّونَ فِيهَا وَإِلَيْهَا، وَيَتَقَرَّبُونَ عِنْدَهَا، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا دَخَلَهَا يَقِفُونَ عِنْدَهَا، وَيُنْزِلُ عَمُودَ الْغَمَامِ عَلَى بَابِهَا، فَيَخِرُّونَ عِنْدَ ذَلِكَ سجداً لله عزوجل.
وَيُكَلِّمُ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمُودِ الْغَمَامِ الَّذِي هُوَ نُورٌ وَيُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ التَّابُوتِ صَامِدٌ إِلَى مَا بَيْنَ الْكَرُوبِيِّيْنِ فَإِذَا فُصِلَ الْخِطَابُ يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عزوجل، إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ في شئ ليس عنده من الله فيه شئ يجئ إِلَى قُبَّةِ الزَّمَانِ، وَيَقِفُ عِنْدَ التَّابُوتِ وَيَصْمُدُ لِمَا بَيْنَ ذَيْنِكَ الْكَرُوبِيِّيْنِ فَيَأْتِيهِ الْخِطَابُ بِمَا فِيهِ فَصْلُ تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَقَدْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَهُمْ فِي زَمَانِهِمْ أَعْنِي اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ والحرير المصبغ واللآلئ فِي مَعْبَدِهِمْ وَعِنْدَ مُصَلَّاهُمْ فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَلَا بَلْ قَدْ نُهِينَا عَنْ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَزْيِينِهَا لِئَلَّا تَشْغَلَ الْمُصَلِّينَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَسَّعَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي وَكَّلَهُ عَلَى عِمَارَتِهِ: ابْنِ لِلنَّاسِ مَا يُكِنُّهُمْ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ الناس * وقال ابن عبَّاس لنزخرفنها كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَنَائِسَهُمْ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ غَيْرُ مُشَابِهَةٍ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، إِذْ جَمَعَ اللَّهُ هَمَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَصَانَ أَبْصَارَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ وَالتَّفَكُّرِ فِي غَيْرِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ، مِنَ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ كَانَتْ قُبَّةُ الزَّمَانِ هَذِهِ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ فِي التِّيهِ، يُصَلُّونَ إِلَيْهَا وَهِيَ قِبْلَتُهُمْ وَكَعْبَتُهُمْ وَإِمَامُهُمْ كَلِيمُ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُقَدِّمُ الْقُرْبَانِ أَخُوهُ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ * فَلَمَّا مَاتَ هارون ثم موسى عليهما السلام استمر بَنُو هَارُونَ فِي الَّذِي كَانَ يَلِيهِ أَبُوهُمْ، مِنْ أَمْرِ الْقُرْبَانِ وَهُوَ فِيهِمْ إِلَى الْآنَ.
وأقام بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ مُوسَى وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ فَتَاهَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ نَصَبَ هَذِهِ الْقُبَّةَ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَادَتْ صَلَّوْا إِلَى مَحِلَّتِهَا وَهِيَ الصَّخْرَةُ، فَلِهَذَا كَانَتْ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَلَّى إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) في نسخة: واعمل صحافا ; واصنع منارة.
(2) التوراة المتداولة - سفر التثنية الذي تذكر فيه شرائعهم وأحكامهم.
[*]
(1/359)
قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ * فَلَمَّا هَاجَرَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى إِلَيْهَا سِتَّةَ عَشَرَ - وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ - شَهْرًا * ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقِيلَ الظُّهْرِ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا - إِلَى قَوْلِهِ - قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآيات [البقرة 142 - 143 وما بعدها] .
قِصَّةُ قَارُونَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنْ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أو لم يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ - فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ.
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الْقَصَصِ: 76 - 83] قَالَ الْأَعْمَشُ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَارُونُ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَكَذَا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحرث بْنِ نَوْفَلٍ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَقَتَادَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَزَادَ فَقَالَ: هُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنَ قَاهَثَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهَثَ (1) : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ (2) وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى.
وَرَدَّ قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ إِنَّهُ كَانَ عَمَّ مُوسَى، قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوِّرَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ الْبَغْيُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ.
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا تَرَفُّعًا عَلَى قَوْمِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَثْرَةَ كُنُوزِهِ، حَتَّى إِنَّ مفاتيحه كان يثقل حملها
__________
(1) في نسخة: هافت وهو تحريف والصواب ما أثبتناه.
(2) هكذا في الاصول: ابن جريج وهو تحريف والصواب ابن جرير، ولعل هناك سهوا في النسخ والعبارة كما في الطبري، وأما أهل العلم من سلف أمتنا ومن أهل الكتابين فعلى ما قال ابن جريج.
[*]
(1/360)
عَلَى الْفِئَامِ (1) مِنَ الرِّجَالِ الشِّدَادِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْجُلُودِ وَإِنَّهَا كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى سِتِّينَ (2) بَغْلًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ وَعَظَهُ النصحاء من قومه قائلين " لا تفرح " أَيْ لَا تَبْطَرْ بِمَا أُعْطِيتَ وَتَفْخَرْ عَلَى غيرك (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) يَقُولُونَ لِتَكُنْ هِمَّتُكَ مَصْرُوفَةً لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَمَعَ هذا (لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أَيْ وَتَنَاوَلْ مِنْهَا بِمَالِكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، فَتَمَتَّعْ لِنَفْسِكَ بِالْمَلَاذِّ الطَّيِّبَةِ الْحَلَالِ (وَأَحْسِنْ كما أحسن الله إِلَيْكَ) أَيْ وَأَحْسِنْ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ خَالِقُهُمْ، وَبَارِئُهُمْ إِلَيْكَ (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ وَلَا تُسِئْ إِلَيْهِمْ، وَلَا تُفْسِدْ فِيهِمْ، فَتُقَابِلَهُمْ ضِدَّ مَا أُمِرْتَ فِيهِمْ فَيُعَاقِبَكَ وَيَسْلُبَكَ مَا وَهَبَكَ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فما كان جواب قَوْمَهُ.
لِهَذِهِ النَّصِيحَةِ الصَّحِيحَةِ الْفَصِيحَةِ إِلَّا أَنَّ (قال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) يَعْنِي أَنَا لَا أَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا ذَكَرْتُمْ وَلَا إِلَى مَا إِلَيْهِ أَشَرْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا لِعِلْمِهِ أَنِّي أَسْتَحِقُّهُ وَأَنِّي أَهْلٌ لَهُ وَلَوْلَا أَنِّي حَبِيبٌ إِلَيْهِ وَحَظِيٌّ عِنْدَهُ لَمَا أَعْطَانِي مَا أَعْطَانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ (أو لم يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جمعا ولا يسئل عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أَيْ قَدْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ قَارُونَ قُوَّةً وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَلَوْ كَانَ مَا قَالَ صَحِيحًا لَمْ نُعَاقِبْ أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ أَكْثَرَ مَالًا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مَالُهُ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِنَا لَهُ وَاعْتِنَائِنَا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبأ: 56] وَقَالَ تَعَالَى (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ.
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يشعرون) [الْمُؤْمِنُونَ: 55 - 56] وَهَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ صَنْعَةَ الْكِيمْيَاءِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَاسْتَعْمَلَهُ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْكِيمْيَاءَ تَخْيِيلٌ وَصِبْغَةٌ لَا تُحِيلُ الْحَقَائِقَ وَلَا تُشَابِهُ صَنْعَةَ الْخَالِقِ وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ لَا يَصْعَدُ الدُّعَاءُ بِهِ مِنْ كافر به، وقارون وكان كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقًا فِي الظَّاهر.
ثُمَّ لَا يَصِحُّ جَوَابُهُ لَهُمْ بِهَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَلَا يَبْقَى بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَلَازُمٌ وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي
زينته) ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ مِنْ مَلَابِسَ (3) وَمَرَاكِبَ وَخَدَمٍ وَحَشَمٍ فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُعَظِّمُ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُ وَغَبَطُوهُ بِمَا عَلَيْهِ وَلَهُ فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمُ الْعُلَمَاءُ ذَوُو الْفَهْمِ الصَّحِيحِ الزُّهَّادُ الْأَلِبَّاءُ قَالُوا لَهُمْ: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً) أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأَجَلُّ وَأَعْلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ، أي وما
__________
(1) الفئام: جمع فئة وهي الجماعة.
(2) في رواية للطبري: أربعين بغلا.
وذكر القشيري: سبعين بغلا.
(3) قال الغزنوي: خرج يوم السبت، وكان أول من صبغ له الثياب المعصفرة.
وقال مجاهد: كان ذلك أول يوم رؤى فيه المعصفر.
[*]
(1/361)
يُلْقَى هَذِهِ النَّصِيحَةَ وَهَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهَذِهِ الْهِمَّةَ السَّامِيَةَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ الْعَلِيَّةِ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى زَهْرَةِ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ إِلَّا مَنْ هَدَى اللَّهُ قَلْبَهُ، وَثَبَّتَ فُؤَادَهُ، وَأَيَّدَ لُبَّهُ، وَحَقَّقَ مُرَادَهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَالْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خُرُوجَهُ فِي زِينَتِهِ وَاخْتِيَالَهُ فِيهَا، وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ بِهَا، قَالَ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ كَمَّا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ (1) فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (2) ".
ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نحوه.
وقد ذكر ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ قَارُونَ أَعْطَى امْرَأَةً بَغِيًّا مَالًا عَلَى أَنْ تَقُولَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السلام وهو في ملاء مِنَ النَّاسِ إِنَّكَ فَعَلْتَ بِي كَذَا وَكَذَا فَيُقَالُ إِنَّهَا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَرْعَدَ مِنَ الْفَرَقِ (3) وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا فَاسْتَحْلَفَهَا من ذلك عَلَى ذَلِكَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّ قَارُونَ هُوَ الَّذِي حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَغْفَرَتِ اللَّهَ وَتَابَتْ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَّ مُوسَى لِلَّهِ سَاجِدًا وَدَعَا اللَّهَ عَلَى قَارُونَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي قَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ فِيهِ فَأَمَرَ مُوسَى الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ وَدَارَهُ فَكَانَ ذَلِكَ فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ مَرَّ بِجَحْفَلِهِ وَبِغَالِهِ وَمَلَابِسِهِ عَلَى مَجْلِسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يُذَكِّرُ قَوْمَهُ بِأَيَّامِ اللَّهِ فلمَّا رَآهُ النَّاسُ، انْصَرَفَتْ وُجُوهُ كَثِيرٍ من الناس ينظرون إليه فدعا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا فَقَالَ: يَا مُوسَى أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فضِّلت عليَّ بِالنُّبُوَّةِ فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ، وَلَئِنْ شِئْتَ لَتَخْرُجَنَّ فَلَتَدْعُوَنَّ عَلَيَّ وَلَأَدْعُوَنَّ عَلَيْكَ فَخَرَجَ وَخَرَجَ قَارُونُ فِي قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: تَدْعُو أَوْ أَدْعُو؟ قَالَ: أَدْعُو أنا، فدعى قَارُونُ، فَلَمْ يُجَبْ فِي مُوسَى، فَقَالَ مُوسَى أَدْعُو؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ مُرِ الأرض فلتطغى الْيَوْمَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ فَقَالَ مُوسَى: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ قَالَ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ ثُمَّ إِلَى مَنَاكِبِهِمْ ثُمَّ قَالَ أَقْبِلِي بِكُنُوزِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَأَقْبَلَتْ بِهَا حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا ثُمَّ أَشَارَ مُوسَى بِيَدِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بَنِي لَاوِي فَاسْتَوَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ خُسِفَ بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.
وَقَدْ ذكر كثير من المفسرين ههنا إِسْرَائِيلِيَّاتٍ كَثِيرَةً أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا وَتَرَكْنَاهَا قَصْدًا.
وقوله تعالى (فما
__________
(1) يتجلجل: أي يغوص في الارض حين يخسف به.
والجلجلة: حركة مع الصوت.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 77 / 5 / 5790 فتح الباري وأخرجه مسلم في 37 كتاب اللباس 10 باب تحريم التبختر في المشي 49 / 2088 بنحوه عن أبي هريرة.
ورواه النسائي في سننه 48 / 101 والدارمي في سننه المقدمة 40 / 443 وأحمد في مسنده 2 / 66 - 267 - 315 - 390 - 456.
(3) الفرق: بالفتح: الخوف والفزع.
[*]
(1/362)
كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاصِرٌ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [الطارق: 10] وَلَمَّا حَلَّ بِهِ مَا حَلَّ مِنَ الْخَسْفِ وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَخَرَابِ الدار وإهلاك النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْعَقَارِ نَدِمَ مَنْ كَانَ تَمَنَّى مِثْلَ مَا أُوتِيَ، وَشَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى الَّذِي يُدَبِّرُ عِبَادَهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ الْمَخْزُونِ وَلِهَذَا قَالُوا (لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ
بنا وبك إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى لَفْظِ وَيْكَ فِي التَّفسير وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ وَيْكَأَنَّ بِمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى والله أعلم.
ثم أخبر تعالى (أن الدار الآخرة) وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي يُغْبَطُ مَنْ أُعْطِيَهَا وَيُعَزَّى مَنْ حُرِمَهَا إِنَّمَا هِيَ سعدة لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا.
فَالْعُلُوُّ هُوَ التَّكَبُّرُ وَالْفَخْرُ وَالْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالْفَسَادُ هُوَ عَمَلُ الْمَعَاصِي اللَّازِمَةِ (1) ، وَالْمُتَعَدِّيَةِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِفْسَادِ مَعَايِشِهِمْ وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ وَعَدَمِ النُّصْحِ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وَقِصَّةُ قَارُونَ هَذِهِ قَدْ تَكُونُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ لِقَوْلِهِ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَإِنَّ الدَّارَ ظَاهِرَةٌ فِي الْبُنْيَانِ وَقَدْ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ وَتَكُونُ الدَّارُ عِبَارَةً عَنِ الْمَحِلَّةِ الَّتِي تُضْرَبُ فِيهَا الْخِيَامُ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ.
يَا دَارَ عَبْلَةَ بِالْجِوَاءِ تَكَلَّمِي * وَعِمِي صَبَاحًا دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلِمِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَذَمَّةَ قَارُونَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
قَالَ اللَّهُ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [غافر: 23 - 24] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بَعْدَ ذِكْرِ عاد وثمود.
وقارون وفرعون وهامان (ولقد جاءتهم رسلنا بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 30 - 40] (2) فَالَّذِي خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ قَارُونُ كَمَا تَقَدَّمَ وَالَّذِي أُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَجُنُودُهُمَا إِنَّهُمْ كَانُوا خَاطِئِينَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحمن، حدَّثنا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: " مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وأُبي بْنِ خَلَفٍ " (3) .
انْفَرَدَ به أحمد رحمه الله.
__________
(1) في نسخة القاصرة.
واللازمة هي المعاصي التي يقتصر ضررها على فاعلها دون تعديه للغير.
(2) وفيها: وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُوسَى بالبينات.
(3) مسند أحمد 2 / 169.
[*]
(1/363)
باب [ذِكْرُ] (1) فَضَائِلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ ووفائه
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطور الأيمن وقربنا نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نبيا) [مَرْيَمَ: 51 - 53] وَقَالَ تَعَالَى (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) [الأعراف: 144] .
وَتَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَصُعِقُ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جوزي بصعقة الطور " (2) وقدمنا أَنَّهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ وَإِلَّا فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَطْعًا جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ.
وَقَالَ تَعَالَى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ واسحق وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) [النساء: 163] إِلَى أَنْ قَالَ (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 164] وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) [الأحزاب: 69] .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إسحق بن إبراهيم بن رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ.
وَمُحَمَّدٍ وَخِلَاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " إن مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يَرَى جلده شئ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة (3) وإما آفة، وأن الله عزوجل أراد أن يبرأه مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجْرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ، أَقْبَلَ عَلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلْقَ اللَّهُ، وَبَرَّأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ
فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا قال فذلك قوله عزوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) [الأحزاب: 69] (4) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
واستدركت من قصص الأنبياء لابن كثير.
(2) تقدم تخريجه قريبا في هذا الجزء فليراجع.
(3) أدرة: فتق في إحدى الخصيتين (قاموس) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه 5 / 20، 60 / 28 وأخرجه مسلم في صحيحه 43 / 155 / 156 والترمذي في سننه 44 / 33 وأحمد في مسنده 2 / 315 - 324 - 392 - 535.
[*]
(1/364)
شَقِيقٍ وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْهُ بِهِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ عَنْهُ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كَانَ مِنْ وَجَاهَتِهِ أَنَّهُ شَفَعَ فِي أَخِيهِ عِنْدَ اللَّهِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَزِيرًا فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَأَعْطَاهُ طَلِبَتَهُ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا كَمَا قَالَ (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أخاه هرون نَبِيّاً) ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ.
سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: قسَّم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إن هذه قسمة مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَتَيْتُ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم فَغَضِبَ، حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثمَّ قَالَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " (1) وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَجَّاجٍ، سَمِعْتُ إِسْرَائِيلَ بْنَ يُونُسَ، عَنِ الْوَلِيدِ بن أبي هاشم - مولى لهمدان بن عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي زَائِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " لَا يبلِّغني أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أحبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ " (2) .
قَالَ وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالٌ فَقَسَمَهُ قَالَ: فَمَرَرْتُ بِرَجُلَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ; وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِقِسْمَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَلَا الدَّارَ الْآخِرَةَ فَثَبَتُّ حَتَّى سَمِعْتُ مَا قَالَا.
ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ لَنَا: " لَا يبلِّغني أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا " وَإِنِّي مَرَرْتُ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَهُمَا يَقُولَانِ كَذَا وَكَذَا فَاحْمَرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَقَّ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: " دَعْنَا مِنْكَ فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابن عبد عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ ثبت في الصحيحين فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِمُوسَى فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا مُوسَى، فسلِّم عَلَيْهِ، قَالَ: " فسلَّمت عَلَيْهِ " فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ.
" فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ " بَكَى.
قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجنَّة مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي (3) .
وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ شَرِيكِ ابن أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ أن الذي عليه
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 80 / 19 / 6336 فتح الباري وأخرجه مسلم في صحيحه 12 / 46 / 140.
(2) مسند أحمد ج 1 / 396.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في رواية طويلة في 18 / 1 / 349 فتح الباري.
وأخرجه مسلم في صحيحه 1 كتاب الايمان / 259 والنسائي في سننه في (5) كتاب الصلاة (1) باب فرض الصلاة في رواية طويلة.
[*]
(1/365)
الْجَادَّةُ أَنَّ مُوسَى فِي السَّادِسَةِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ وَأَنَّهُ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ.
وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ عَلَى محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَمَرَّ بِمُوسَى قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فسله التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَإِنِّي قَدْ عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَكَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ وَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى وبين الله عزوجل وَيُخَفِّفُ عَنْهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى
صَارَتْ إلى خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ (1) أَيْ بِالْمُضَاعَفَةِ فَجَزَى اللَّهُ عَنَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَجَزَى اللَّهُ عَنَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيْرًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عبَّاس قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمًا فَقَالَ: " عُرِضْتَ عَلَيَّ الْأُمَمُ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ ".
هَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ هذا الحديث ههنا مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُطَوَّلًا فَقَالَ: حدثنا شريح، حدثنا هشام، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ قُلْتُ: أنا ثم قلت: إنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنْ لُدِغْتُ.
قَالَ وَكَيْفَ فَعَلْتَ قُلْتُ اسْتَرْقَيْتُ.
قَالَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ فَقَالَ سَعِيدٌ - يَعْنِي ابْنَ جُبَيْرٍ - قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ ثمَّ قَالَ: حدَّثنا ابْنِ عبَّاس عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ومعه الرهط والنبي معه الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقُلْتُ: هَذِهِ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ * ثُمَّ قِيلَ انْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَانِبِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ: هَذِهِ أُمَتُّكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الجنَّة بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا عَذَابٍ ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَدَخَلَ فَخَاضَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجنَّة بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا قَطُّ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَقَالَ: " مَا هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ تَخُوضُونَ فِيهِ؟ " فَأَخْبَرُوهُ بِمَقَالَتِهِمْ فَقَالَ: " هُمُ الَّذِينَ لَا يكنوون وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " فقام عكاشة بن محيصن الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَنْتَ مِنْهُمْ " * ثمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: أنَّا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ " (2) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهُوَ فِي الصِّحاح وَالْحِسَانِ وَغَيْرِهَا وَسَنُورِدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَوْرَدَ قِصَّتَهُ فِي كتابه
__________
(1) قال السيوطي في شرح سنن النسائي 1 / 221: المراد خمس عددا باعتبار الفعل وخمسون اعتداد باعتبار الثواب.
(2) مسند الإمام أحمد ج 1 / 271 - 401 - 403 - 420 - 454، 2 / 302 - 351 - 456، 4 / 436.
[*]
(1/366)
الْعَزِيزِ مِرَارًا وَكَرَّرَهَا كَثِيرًا، مُطَوَّلَةً وَمَبْسُوطَةً وَمُخْتَصَرَةً، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بَلِيغًا.
وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُهُ اللَّهُ وَيَذْكُرُهُ وَيَذْكُرُ كِتَابَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابِهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ البقرة (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [البقرة: 101] وَقَالَ تَعَالَى (أَلَمْ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) [آلِ عِمْرَانَ: 1 - 4] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شئ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ ولا آباءكم قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يحافظون) [الْأَنْعَامِ: 91 - 92] فَأَثْنَى تَعَالَى عَلَى التَّوْرَاةِ، ثُمَّ مَدَحَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مَدْحًا عَظِيمًا وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِهَا (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شي وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ.
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الْأَنْعَامِ: 154] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44] إِلَى أَنْ قَالَ: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
الآية) [المائدة: 47 - 48] فَجُعِلَ الْقُرْآنُ حَاكِمًا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لَهَا وَمُبَيِّنًا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اسْتُحْفِظُوا عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حِفْظِهَا، وَلَا عَلَى ضَبْطِهَا، وَصَوْنِهَا، فَلِهَذَا دَخَلَهَا مَا دَخَلَهَا مِنْ تَغْيِيرِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ لِسُوءِ فهو مهم وقصورهم في علومهم وردائة قُصُودِهِمْ، وَخِيَانَتِهِمْ لِمَعْبُودِهِمْ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ من الخطأ البين على الله وعلى رسوله مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ وَمَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ وَلَا يُعْرَفُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سورة الأنبياء (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وهرون الفرقان وضياء وذكرى لِلْمُتَّقِينَ.
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ.
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ منكرون) [الْأَنْبِيَاءِ: 48 - 50] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
(فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أو لم يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ.
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الْقَصَصِ: 48 - 49] فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْكِتَابَيْنِ وَعَلَى الرَّسُولَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَتِ الْجِنُّ
(1/367)
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى.
وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى مِنْ أَوَّلِ الْوَحْيِ وَتَلَا عَلَيْهِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ.
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1 - 5] قَالَ سبُّوح سبُّوح هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنزل عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَشَرِيعَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ عَظِيمَةً وَأُمَّتُهُ كَانَتْ أُمَّةً كَثِيرَةً وَوُجِدَ فِيهَا أَنْبِيَاءُ، وَعُلَمَاءُ، وَعُبَّادٌ، وَزُهَّادٌ، وَأَلِبَّاءُ، وَمُلُوكٌ، وَأُمَرَاءُ، وَسَادَاتٌ، وَكُبَرَاءُ.
لَكِنَّهُمْ كَانُوا فَبَادُوا، وَتَبَدَّلُوا، كَمَا بُدِّلَتْ شَرِيعَتُهُمْ وَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ مِلَّتُهُمْ، وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ خُطُوبٌ، وَأُمُورٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلَكِنْ سَنُورِدُ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يبلغه خبرها إِنْ شَاءَ اللَّهُ * وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
[ذكر حجه] (1) عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [وَصِفَتِهِ] (1)
قَالَ الإمام أحمد: حدثنا هشام (2) ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ فَقَالَ: أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ ".
قَالُوا وَادِي الْأَزْرَقِ.
قَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى وَهُوَ هَابِطٌ من الثنية وله جؤار إلى الله عزوجل بِالتَّلْبِيَةِ " حَتَّى أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَاءَ.
فَقَالَ: " أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ " قَالُوا هَذِهِ ثَنِيَّةُ هَرْشَاءَ.
قَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ خِطَامُ نَاقَتُهُ خُلْبَةٌ " (3) .
قَالَ هُشَيْمٌ يَعْنِي لِيفًا وهو يلبي.
أخرجه مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِنَّ مُوسَى حَجَّ عَلَى ثَوْرٍ أَحْمَرَ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (ك ف ر) قال ما يقولون قَالَ يَقُولُونَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (ك ف ر) فَقَالَ ابْنُ عبَّاس لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَلِكَ وَلَكِنْ.
قَالَ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صاحبكم، وأما موسى: فرجل آدم جعد الشعر عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَقَدِ انْحَدَرَ مِنَ الْوَادِي يُلَبِّي " (4) قَالَ هُشَيْمٌ الْخُلْبَةُ اللِّيفُ * ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ أَسْوَدَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
وفي نسخة: حجته بدل حجة.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 215 - 216 وفيه: عن هشيم وقد ورد صحيحا في نهاية الحديث، وأخرجه مسلم في صحيحه (1) كتاب الايمان 74 / 268 وابن ماجة في سننه 25 / 4 / 2891.
(3) في الحديث: - وادي الازرق: خلف أمج إلى مكة بميل.
وقد يجمع فيقال الازارق معجم ما استعجم 1 / 146.
- جؤار: قال ابن الأثير في النهاية: الجؤار رفع الصوت والاستغاثة.
- ثنية هرشاء: جبل على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة.
- خطام: حبل يجعل على خطم البعير، ويقاد به.
(4) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 215 - 216 والبخاري في صحيحه 60 / 8 / 3355 فتح الباري.
[*]
(1/368)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ عيسى بن مريم وموسى بن إبراهيم، فَأَمَّا عِيسَى: فَأَبْيَضُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ.
وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ ".
قَالُوا فَإِبْرَاهِيمُ؟ قَالَ: " انْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ " (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حدَّثنا يُونُسُ، حدَّثنا شَيْبَانُ، قَالَ: حَدَّثَ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِي بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شنؤة، ورأيت عيسى بن مَرْيَمَ مَرْبُوعُ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ " (1) وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ الزُّهري وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حِينَ أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى فَنَعَتَهُ.
فَقَالَ رَجُلٌ: قَالَ: حَسِبْتُهُ - قَالَ: مُضْطَرِبٌ رجل الرأس، كأنه من رجال شنؤة، [قال] : وَلَقِيتُ عِيسَى.
فَنَعَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي حَمَّامًا قَالَ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وأنا أشبه [ولده] به الحديث (3) وقد تقدم غالب هذه الأحاديث في ترجمة الخليل.
ذِكْرُ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: " وَفَاةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ": حَدَّثَنَا يَحْيَى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ (4) فَرَجَعَ إلى ربه عزوجل.
فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ.
قَالَ: فسأل الله عزوجل أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ " (5) قَالَ: (6) وَأَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ من حديث
__________
(1) أحمد المصدر السابق وأخرجه البخاري في 60 / 48 / 3438.
(2) أخرجه مسلم في 1 / كتاب الايمان 74 باب الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح 267 ص 1 / 151 والبخاري في أحاديث
الأنبياء، ومسلم في كتاب الايمان ح 272 كلاهما من حديث شعبة عن قتادة مختصرا.
وأخرجاه عن أبي هريرة بنحوه.
وأخرجه الترمذي في أول تفسير سورة الاسراء عن محمود بن غيلان.
(3) تقدم تخريجه - راجع الحاشية رقم 6 القسم الاخير منها.
(4) صكه: لطمه.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب (60) 31 باب / 3407 فتح الباري.
وأخرجه مسلم في صحيحه في 43 كتاب الفضائل 42 / 157 والنسائي في سننه 21 / 120، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 2 / 269 - 315 - 351 - 522.
(6) قال: أي البخاري.
[*]
(1/369)
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَسَيَأْتِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ - يَعْنِي سُلَيْمَ بْنَ جُبَيْرٍ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَرْفَعْهُ.
قَالَ جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: أَجِبْ رَبَّكَ فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ.
فَفَقَأَهَا.
فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ إِنَّكَ بَعَثْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ.
قَالَ: وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي قَالَ: فردَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ الْحَيَاةَ تُرِيدُ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَمَا وَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرِهِ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً.
قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ: فَالْآنَ يَا رَبِّ مِنْ قَرِيبٍ ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَوْقُوفٌ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طريق مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الحسن عن رسول الله فَذَكَرَهُ.
ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا قَالَ لَهُ هَذَا لَمْ يَعْرِفْهُ لِمَجِيئِهِ لَهُ عَلَى غَيْرِ صُورَةٍ يَعْرِفُهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا جاء جبريل فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَكَمَا وَرَدَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إبراهيم ولوط فِي صُورَةِ شَبَابٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَلَا لُوطٌ أَوَّلًا، وَكَذَلِكَ مُوسَى لَعَلَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، لِذَلِكَ وَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِشَرِيعَتِنَا فِي جَوَازِ فَقْءِ عَيْنِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْكَ فِي دَارِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ * ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، قَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى أنَّه لمَّا رَفَعَ يَدَهُ لِيَلْطِمَهُ، قَالَ لَهُ أَجِبْ رَبَّكَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ اللَّفْظُ مِنْ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ أَجِبْ رَبَّكَ بِلَطْمِهِ وَلَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ لَتَمَشَّى لَهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، وَلَمْ يَحْمِلْ قوله هذا على أنه مطابق، إذ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي السَّاعة الرَّاهنة أَنَّهُ مَلَكٌ كَرِيمٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو أُمُورًا كَثِيرَةً، كَانَ يُحِبُّ وُقُوعَهَا فِي حَيَاتِهِ مِنْ خُرُوجِهِ مِنَ التِّيهِ، وَدُخُولِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَكَانَ قَدْ سَبَقَ في قدره اللَّهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمُوتُ فِي التِّيهِ بعد هرون أَخِيهِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيه وَدَخَلَ بِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ.
وممَّا يدلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لَمَّا اخْتَارَ الْمَوْتَ: رَبِّ أَدْنِنِي إلى الأرض المقدسة رمية حجر.
وَلَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَهَا لَمْ يَسْأَلْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعَ قَوْمِهِ بِالتِّيهِ، وَحَانَتْ وَفَاتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَبَّ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا، وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ رَمْيَةً بِحَجَرٍ.
وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدُ الْبَشَرِ، وَرَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ: " فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ " (1) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ وَقَالَ السدي، عن
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 148 - 248 وأخرجه مسلم في 43 كتاب الفضائل حديث / 164، والنسائي في قيام الليل.
[*]
(1/370)
أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هرون فَائِتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَانْطَلَقَ مُوسَى وهرون نَحْوَ ذَلِكَ الْجَبَلِ فَإِذَا هُمْ بِشَجَرَةٍ.
لَمْ تُرَ شَجَرَةٌ مِثْلُهَا، وَإِذَا هُمْ بِبَيْتٍ مَبْنِيٍّ وَإِذَا هُمْ بِسَرِيرٍ عَلَيْهِ فُرُشٌ، وَإِذَا فِيهِ ريح طيبة، فلما نظر هرون إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ وَالْبَيْتِ وَمَا فِيهِ أَعْجَبَهُ، قَالَ: يَا مُوسَى
إِنِّي أُحِبُّ أَنَّ أَنَامَ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ قَالَ لَهُ مُوسَى: فَنَمْ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَغْضَبَ عَلَيَّ قَالَ: لَهُ: لَا تَرْهَبْ أَنَا أَكْفِيكَ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ فَنَمْ.
قال: يا موسى نَمْ مَعِي، فَإِنْ جَاءَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ غَضِبَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ جَمِيعًا.
فَلَمَّا نَامَا أَخَذَ هرون الْمَوْتُ فَلَمَّا وَجَدَ حِسَّهُ قَالَ: يَا مُوسَى خَدَعَتْنِي فَلَمَّا قُبِضَ رُفِعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ، وَذَهَبَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ، وَرُفِعَ السَّرِيرُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ وَلَيْسَ مَعَهُ هرون قالوا: فإنَّ موسى قتل هرون وحسده حب بني إسرائيل له، وكان هرون أَكَفَّ عَنْهُمْ وَأَلْيَنَ لَهُمْ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ فِي مُوسَى بَعْضُ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، فلمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: وَيْحَكُمْ كَانَ أَخِي أَفَتَرُونِي أَقْتُلُهُ.
فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَنَزَلَ السَّرِيرُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
ثمَّ إنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي وَيُوشَعُ فَتَاهُ إِذْ أَقْبَلَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا يُوشَعُ ظَنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ فَالْتَزَمَ مُوسَى وَقَالَ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَأَنَا مُلْتَزِمٌ مُوسَى نَبِيَّ اللَّهِ فَاسْتَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ وَتَرَكَ الْقَمِيصَ فِي يَدَيْ يُوشَعَ.
فَلَمَّا جَاءَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ أَخَذَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَالُوا: قَتَلْتَ نَبِيَّ اللَّهِ.
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَلَّ مِنِّي فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ.
قَالَ: فَإِذَا لَمْ تُصَدِّقُونِي فَأَخِّرُونِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَدَعَا اللَّهَ فَأَتَى كُلُّ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ يَحْرُسُهُ فِي الْمَنَامِ فَأَخْبَرَ أَنَّ يُوشَعَ لَمْ يَقْتُلْ مُوسَى وَإِنَّا قَدْ رَفَعْنَاهُ إِلَيْنَا فَتَرَكُوهُ، وَلَمْ يبقَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ مَعَ مُوسَى إِلَّا مَاتَ، وَلَمْ يَشْهَدِ الْفَتْحَ وَفِي بَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ نَكَارَةٌ وَغَرَابَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ ممَّن كَانَ مَعَ مُوسَى سِوَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَكَالِبَ بْنِ يوقنا وهو زوج مريم أخت موسى وهرون وَهُمَا الرَّجُلَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ، اللَّذَانِ أَشَارَا عَلَى مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفِرُونَ قَبْرًا فَلَمْ يَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَنْضَرَ، وَلَا أَبْهَجَ، فَقَالَ: يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ لِمَنْ تَحْفِرُونَ هَذَا الْقَبْرَ، فَقَالُوا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَرِيمٍ، فَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ هَذَا الْعَبْدَ فَادْخُلْ هَذَا الْقَبْرَ، وَتَمَدَّدْ فِيهِ وَتَوَجَّهْ إِلَى رَبِّكَ، وَتَنَفَّسْ أَسْهَلَ تَنَفُّسٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَمَاتَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَصَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَدَفَنُوهُ * وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ إنَّه مَاتَ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ وَيُونُسُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ عمَّار بْنِ أَبِي عَمَّارٍ (1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يُونُسُ رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا قَالَ فَأَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَطَمَهُ ففقأ عينه
__________
= وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة ج 2 / 387.
(1) عمار هذا مولى بني هاشم.
[*]
(1/371)
فَأَتَى رَبَّهُ فَقَالَ يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى فقأ عيني ولولا كرامته عليك لعتبت عليه.
وَقَالَ يُونُسُ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ.
قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى عَبْدِي.
فَقُلْ لَهُ: فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ (أَوْ) مَسْك ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ فَقَالَ مَا بَعْدَ هَذَا قَالَ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ قَالَ فَشَمَّهُ شَمَّةً فَقَبَضَ رُوحَهُ.
قَالَ يُونُسُ فردَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ خُفْيَةً * وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ حَمَّادِ بن سلمة به فرفعه أيضاً (1) .
[ذِكْرُ] (2) نُبُوَّةِ يُوشَعَ وَقِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد موسى وهرون [عليهما السلام] (2)
هو يوشع بن نون بن أفرائيم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبرهيم الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ يُوشَعُ ابن عَمِّ هُودٍ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِاسْمِهِ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ كما تقدَّم من قَوْلِهِ (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) [الكهف: 60] * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ) [الكهف: 62] وَقَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ وَهُمُ السَّامِرَةُ لَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ بَعْدَ مُوسَى إِلَّا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَيَكْفُرُونَ بما وراءه وهو الحق [مصدقاً لما معهم] (4) مِنْ رَبِّهِمْ فَعَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغيره من المفسرين عن محمد بن اسحق مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ حُوِّلَتْ (3) مِنْ مُوسَى إِلَى يُوشَعَ فِي آخِرِ عُمْرِ مُوسَى فَكَانَ مُوسَى يَلْقَى يُوشَعَ فَيَسْأَلُهُ مَا أَحْدَثَ اللَّهُ [إِلَيْهِ] (4) مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَتَّى قَالَ لَهُ يَا كَلِيمَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لَا أَسْأَلُكَ عَمَّا يُوحِي اللَّهُ إِلَيْكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي أَنْتَ
ابْتِدَاءً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَرِهَ مُوسَى الْحَيَاةَ وَأَحَبَّ الْمَوْتَ، فَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ وَالْوَحْيُ والتشريع والكلام من الله إليه من جميع أحواله حتى توفاه الله عزوجل وَلَمْ يَزَلْ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا مُدَلَّلًا وَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِصَّةِ فَقْئِهِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ يَعِيشُهَا، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ.
قَالَ: فَالْآنَ يَا رَبِّ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ.
وَقَدْ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه فهذا الذي ذكره محمد بن اسحق إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَقُولُهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِي كِتَابِهِمُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ: أَنَّ الوحي لم يزل ينزل على
__________
(1) تاريخ الطبري ج 1 / 224.
(2) ما بين معكوفين سقط من النسخ المطبوعة.
(3) في نسخة: تحولت، وفي الطبري: فحولت.
(4) ما بين معكوفين سقط من نسخ البداية والنهاية المطبوعة ; واستدرك من نسخة قصص الانبياء لابن كثير المطبوعة.
[*]
(1/372)
موسى في كل حين يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ مُوسَى كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ سِيَاقِ كِتَابِهِمْ عِنْدَ تَابُوتِ الشَّهَادَةِ فِي قُبَّةِ الزَّمَانِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي السَّفَرِ الثَّالِثِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يَعُدَّا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَسْبَاطِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلَا عَلَى كُلِّ سِبْطٍ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَمِيرًا، وَهُوَ النَّقِيبُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ وَكَانَ هَذَا عِنْدَ اقْتِرَابِ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا فَقَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي صُورَتِهِ تِلْكَ، وَلِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِأَمْرٍ كَانَ يَرْتَجِي وُقُوعَهُ فِي زَمَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قَدَرِ اللَّهِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ، بَلْ فِي زَمَانِ فَتَاهَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم كَانَ قَدْ أَرَادَ غَزْوَ الرُّومِ بِالشَّامِ فَوَصَلَ إِلَى تَبُوكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ.
ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ إِلَى الشَّامِ، طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَانَ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حَتَّى يعطو الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29] وَلَمَّا جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ جَيْشَ أُسَامَةَ تُوُفِّيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأُسَامَةُ مُخَيِّمٌ بِالْجَرْفِ (1) ، فَنَفَّذَهُ صَدِيقُهُ وَخَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثما لَمَّا لمَّ شَعَثَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا كَانَ دهى مِنْ أَمْرِ أَهْلِهَا، وَعَادَ الحقُّ إِلَى نِصَابِهِ، جَهَّزَ الْجُيُوشَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً إِلَى الْعِرَاقِ أَصْحَابِ كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، وَإِلَى الشَّامِ أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّوم، فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ وَمَكَّنَ لَهُمْ وبهم، وملكهم نواصي أعدائهم كما سنورده عليك فِي مَوْضِعِهِ.
إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَحُسْنِ إِرْشَادِهِ * وَهَكَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُجَنِّدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ نُقَبَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ برسلي وعززتموهم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سيأتكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [المائدة: 12] يَقُولُ لَهُمْ: لَئِنْ قُمْتُمْ بِمَا أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ تَنْكِلُوا عَنِ الْقِتَالِ كَمَا نكلتم أول مرة، لأجعلن ثواب هذه مكفراً لِمَا وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِ تِلْكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم في غزوة الْحُدَيْبِيَةِ (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيمًا) [الفتح: 16] .
وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ - فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) ثم ذمهم تَعَالَى عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَنَقْضِهِمْ مَوَاثِيقَهُمْ كَمَا ذَمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ النَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مُسْتَقْصًى وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكْتُبَ أسماء المقاتلة من بني إسرائيل ممن
__________
(1) الجرف: موضع عن ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام، وبه كانت أموال لعمر بن الخطاب ولاهل المدينة وفيه بئر جشم وبئر جمل ياقوت 2 / 128.
[*]
(1/373)
يَحْمِلُ السِّلَاحَ وَيُقَاتِلُ مِمَّنْ بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا مِنْهُمْ.
السِّبْطُ
الْأَوَّلُ سِبْطُ رُوبِيلَ لِأَنَّهُ بِكْرُ يَعْقُوبَ كَانَ عِدَّةُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ.
وَنَقِيبُهُمْ مِنْهُمْ وَهُوَ أَلِيصُورُ بْنُ شَدَيْئُورَا.
السِّبْطُ الثَّانِي سِبْطُ شَمْعُونَ وَكَانُوا تِسْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ.
وَنَقِيبُهُمْ شَلُومِيئِيلُ بْنُ هُورِيشَدَّاي.
السِّبْطُ الثَّالِثُ سِبْطُ يَهُوذَا وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ.
وَنَقِيبُهُمْ نَحْشُوَنُ بْنُ عَمِّينَادَابَ.
السِّبْطُ الرَّابِعُ سِبْطُ إِيسَّاخَرَ وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ نَشَائِيلُ بْنُ صُوغَرَ.
السِّبْطُ الْخَامِسُ سِبْطُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ.
السِّبْطُ السَّادِسُ سِبْطُ مِيشَا وَكَانُوا أَحَدًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ (1) وَنَقِيبَهُمْ جَمْلِيئِيلُ بْنُ فَدَهْصُورَ.
السِّبْطُ السَّابِعُ سِبْطُ بِنْيَامِينَ وَكَانُوا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ أبيدن بن جد عون.
السبط الثامن سبط حاد وكانوا خمسة وأربعة أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا وَنَقِيبُهُمْ الْيَاسَافُ بْنُ رَعُوئِيلَ.
السِّبْطُ التَّاسِعُ سِبْطُ أَشِيرَ وَكَانُوا أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ فَجْعِيئِيلُ بْنُ عُكْرَنَ.
السِّبْطُ الْعَاشِرُ سِبْطُ دَانَ وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ ألفاً وسبعمائة ونقيبهم أخيعزر بن عمشداي.
السِّبْطُ الْحَادِي عَشَرَ سِبْطُ نِفْتَالِي وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ.
وَنَقِيبُهُمْ أَخِيرَعُ بْنُ عِينَ السِّبْطُ الثَّانِي عَشَرَ سَبْطُ زَبُولُونَ وَكَانُوا سَبْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ أَلْبَابُ بْنُ حِيلُونَ.
هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَيْسَ مِنْهُمْ بَنُو لَاوِي فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ لَا يَعُدَّهُمْ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمْ مُوَكَّلُونَ بِحَمْلِ قبة الشهادة وضربها [وخزنها] (2) ونصبها وحملها إذا ارتحلوا وهم سبط موسى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفًا مِنِ ابْنِ شَهْرٍ فَمَا فَوْقُ ذَلِكَ * وَهُمْ فِي أنفسهم قبائل من كُلِّ قَبِيلَةٍ طَائِفَةٌ مِنْ قُبَّةِ الزَّمَانِ يَحْرُسُونَهَا وَيَحْفَظُونَهَا وَيَقُومُونَ بِمَصَالِحِهَا وَنَصْبِهَا وَحَمْلِهَا، وَهُمْ كُلُّهُمْ حولها، ينزلون ويرتحلون أمامها ويمنتها وَشِمَالَهَا وَوَرَاءَهَا.
وَجُمْلَةُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ غَيْرَ بَنِي لَاوِي خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ وَأَحَدٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ.
لَكِنْ قَالُوا: فَكَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ عُمْرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، مِمَّنْ حَمَلَ السِّلَاحَ سِتَّمِائَةِ ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وَخَمْسِينَ رَجُلًا سِوَى بَنِي لَاوِي وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
فَإِنَّ جَمِيعَ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنْ كَانَتْ كَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِهِمْ لَا تُطَابِقُ الْجُمْلَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَكَانَ بَنُو لَاوِي الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ قُبَّةِ الزَّمَانِ يَسِيرُونَ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمُ
الْقَلْبُ، وَرَأْسُ الْمَيْمَنَةِ بَنُو روبيل، ورأس الميسرة بنودان (3) وَبَنُو نِفْتَالِي يَكُونُونَ سَاقَةً * وَقَرَّرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ - الْكِهَانَةَ فِي بني هرون كَمَا كَانَتْ لِأَبِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَهُمْ نَادَابُ وَهُوَ بِكْرُهُ، وَأَبِيهُو، وَالْعَازَرُ، وَيَثْمَرُ.
وَالْمَقْصُودُ إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ كان نكل
__________
(1) في نسخة: ومائة، وفي نسخة وأربعمائة.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) في نسخة ران.
[*]
(1/374)
عَنْ دُخُولِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ قَالُوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24] قَالَهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقال قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ.
وَرَوَاهُ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحابة، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلف وَالْخَلَفِ ومات موسى وهرون قَبْلَهُ كِلَاهُمَا فِي التِّيهِ جَمِيعًا (1) .
وَقَدْ زَعَمَ ابن اسحق أَنَّ الَّذِي فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ مُوسَى وَإِنَّمَا كَانَ يُوشَعُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ وَذَكَرَ فِي مروره (2) إليها قصة بلعام بن باعور الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ.
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) [الْأَعْرَافِ: 175 - 177] وَقَدْ ذَكَرْنَا قصَّته فِي التَّفْسِيرِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عبَّاس وَغَيْرُهُ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ على موسى وقومه، فامتنع عليهم ولما أَلَحُّوا عَلَيْهِ رَكِبَ حِمَارَةً لَهُ ; ثُمَّ سَارَ نَحْوَ مُعَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ رَبَضَتْ بِهِ حِمَارَتُهُ فَضَرَبَهَا حَتَّى قَامَتْ، فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَرَبَضَتْ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَقَامَتْ ثُمَّ رَبَضَتْ، فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ لَهُ يَا بِلْعَامُ أَيْنَ تَذْهَبُ، أَمَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي تَرُدُّنِي عَنْ وَجْهِي هَذَا أَتَذْهَبُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَنْزِعْ عَنْهَا فَضَرَبَهَا حَتَّى سَارَتْ بِهِ، حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ رَأْسِ جَبَلِ
حُسْبَانَ.
وَنَظَرَ إِلَى معسكر موسى وبني إسرائيل فأخذ يدعو علبهم فَجَعَلَ لِسَانُهُ لَا يُطِيعُهُ إِلَّا أَنْ يَدْعُوَ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ، وَيَدْعُو عَلَى قَوْمِ نَفْسِهِ فَلَامُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ إِلَّا هَذَا، وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنيا وَالْآخِرَةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةِ.
ثُمَّ أَمَرَ قَوْمَهُ أَنْ يُزَيِّنُوا النِّسَاءَ وَيَبْعَثُوهُنَّ بِالْأَمْتِعَةِ يَبِعْنَ عَلَيْهِمْ وَيَتَعَرَّضْنَ لَهُمْ حَتَّى لعلهم يقعون في الزنا، فَإِنَّهُ مَتَى زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ كُفِيتُمُوهُمْ، فَفَعَلُوا وَزَيَّنُوا نِسَاءَهُمْ، وَبَعَثُوهُنَّ إِلَى الْمُعَسْكَرِ فَمَرَّتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمُ (3) اسْمُهَا كَسْتَى بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ زِمْرِيُّ بْنُ شَلُومَ.
يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ رَأْسَ سِبْطِ بَنِي شَمْعُونَ بْنِ يَعْقُوبَ فَدَخَلَ بِهَا قُبَّتَهُ، فَلَمَّا خَلَا بِهَا أَرْسَلَ الله الطاعون على بني إسرائيل، فجعل يحوس فِيهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى فِنْحَاصَ بْنِ العزار بن هرون (4) أخذ حربته، وكانت من حديد، فدخل عليها الْقُبَّةَ فَانْتَظَمَهُمَا جَمِيعًا فِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا عَلَى النَّاسِ وَالْحَرْبَةِ فِي يَدِهِ، وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى خَاصِرَتِهِ وَأَسْنَدَهَا إِلَى لِحْيَتِهِ وَرَفْعَهُمَا نَحْوَ السماء وجعل يقول: اللهم هكذا
__________
(1) انظر الطبري ج 1 / 225.
(2) نقل الخبر الطبري ج 1 / 322 وفيه: ان موسى نزل أرض بني كنعان من أرض الشام وكان بلعم ببالعة قرية من قرى البلقاء.
(3) في الطبري: من الكنعانيين واسمها: كسبى ابنة صور.
(4) في الطبري: فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى.
[*]
(1/375)
تفعل بِمَنْ يَعْصِيكَ، وَرَفَعَ الطَّاعُونَ فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَاتَ فِي تِلْكَ السَّاعة سَبْعِينَ أَلْفًا وَالْمُقَلِّلُ يَقُولُ عِشْرِينَ أَلْفًا وَكَانَ فِنْحَاصُ بِكْرَ أَبِيهِ العزار بن هرون فَلِهَذَا يَجْعَلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِوَلَدِ فِنْحَاصَ مِنَ الذبيحة اللية (1) وَالذِّرَاعَ وَاللَّحْيَ وَلَهُمُ الْبِكْرُ مِنْ كُلِّ أَمْوَالِهِمْ وأنفسهم.
وهذا الذي ذكره ابن اسحق مِنْ قِصَّةِ بِلْعَامَ صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلف لَكِنْ لَعَلَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُوسَى دُخُولَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ من الديار المصرية ولعله مراد بن إِسْحَاقَ، وَلَكِنَّهُ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ النَّاقِلِينَ عَنْهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ نَصِّ التَّوْرَاةِ مَا يَشْهَدُ لِبَعْضِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَعَلَّ هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى
كَانَتْ فِي خِلَالِ سَيْرِهِمْ فِي التِّيهِ فَإِنَّ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذِكْرَ حُسْبَانَ وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ هَذَا لِجَيْشِ مُوسَى الَّذِينَ عَلَيْهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حِينَ خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ قَاصِدًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّدِّيَّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالَّذِي عَلَيْهِ الجمهور أن هرون تُوُفِّيَ بِالتِّيهِ قَبِلَ مُوسَى أَخِيهِ بِنَحْوٍ مَنْ سَنَتَيْنِ.
وَبَعْدَهُ مُوسَى فِي التِّيهِ أَيْضًا كَمَا قَدَّمْنَا وَأَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُقَرَّبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ فَكَانَ الَّذِي خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ وَقَصَدَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّاريخ أنَّه قطع بني إِسْرَائِيلَ نَهْرَ الْأُرْدُنِّ وَانْتَهَى إِلَى أَرِيحَا وَكَانَتْ مَنْ أَحْصَنِ الْمَدَائِنَ سُورًا وَأَعْلَاهَا قُصُورًا وَأَكْثَرِهَا أَهْلًا فَحَاصَرَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ أَحَاطُوا بِهَا يَوْمًا وَضَرَبُوا بِالْقُرُونِ يَعْنِي الْأَبْوَاقَ وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَتَفَسَّخَ سُورُهَا وَسَقَطَ وَجْبَةً وَاحِدَةً فَدَخَلُوهَا وَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا فِيهَا مِنَ الْغَنَائِمِ، وَقَتَلُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَحَارَبُوا مُلُوكًا كَثِيرَةً.
وَيُقَالُ إِنَّ يُوشَعَ ظَهَرَ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ انْتَهَى مُحَاصَرَتُهُ لَهَا إِلَى يَوْمِ جُمُعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ.
فلمَّا غَرَبَتِ الشَّمس أَوْ كَادَتْ تَغْرُبُ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ السَّبْتُ الَّذِي جُعِلَ عَلَيْهِمْ وَشُرِعَ لَهُمْ ذَلِكَ الزَّمَانَ قَالَ لَهَا إنَّك مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهم احْبِسْهَا عَلَيَّ فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ فَتْحِ الْبَلَدِ، وَأَمَرَ الْقَمَرَ فَوَقَفَ عِنْدَ الطُّلُوعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ كَانَتِ اللَّيْلَةَ الرابعة عشرة من الشهر الأول، وَهُوَ قِصَّةُ الشَّمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا قِصَّةُ الْقَمَرِ فَمِنْ عِنْدِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ بَلْ فِيهِ زِيَادَةٌ تُسْتَفَادُ فَلَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ أَنَّ هَذَا فِي فَتْحِ أَرِيحَا فِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَفَتْحُ أَرِيحَا كَانَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حدَّثنا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ لِبَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ " (2) .
انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا مُوسَى، وَأَنَّ حَبْسَ الشَّمْسِ كَانَ فِي فَتْحِ بيت
__________
(1) في الطبري: القبة.
(2) مسند أحمد ج 2 / 325.
[*]
(1/376)
الْمَقْدِسِ لَا أَرِيحَا (1) كَمَا قُلْنَا.
وَفِيهِ أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ أنَّ الشَّمس رَجَعَتْ حَتَّى صَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَلَاةَ الْعَصْرِ بَعْدَ مَا فَاتَتْهُ بِسَبَبِ نَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ حتى يصلي العصر فرجعت.
وقد صححه علي بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ وَلَكِنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِي شئ مِنَ الصِّحَاحِ وَلَا الْحِسَانِ وَهُوَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّواعي عَلَى نَقْلِهِ وَتَفَرَّدَتْ بِنَقْلِهِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مَجْهُولَةٌ لَا يُعْرَفُ حَالُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعُنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ.
وَلَا آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا، وَلَمْ يَرْفَعْ سَقْفَهَا، وَلَا آخَرِ قَدِ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خُلُفَاتٍ (2) وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلَادَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ حِينَ صُلي الْعَصْرَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ للشَّمس: أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهم احْبِسْهَا عليَّ شَيْئًا (3) ، فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا، فأتت النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ، فَقَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَبَايَعُوهُ فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ وَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَبَايَعَتْهُ قَبِيلَتُهُ، فَلَصِقَ بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ.
فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ فَوَضَعُوهُ بِالْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ، فَأَقْبَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ، فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا " (4) .
انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى البزَّار مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
قَالَ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَقْصُودُ أنَّه لمَّا دَخَلَ بِهِمْ بَابَ الْمَدِينَةِ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا سُجَّدًا أَيْ رُكَّعًا مُتَوَاضِعِينَ شَاكِرِينَ لله عزوجل عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعْدَهُمْ
إِيَّاهُ وَأَنْ يَقُولُوا حَالَ دُخُولِهِمْ " حِطَّةٌ أَيْ حُطَّ عَنَّا خطيانا الَّتِي سَلَفَتْ مِنْ نُكُولِنَا الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَّا.
وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا دَخَلَهَا وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ، وَهُوَ مُتَوَاضِعٌ حَامِدٌ شَاكِرٌ، حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ - وَهُوَ طَرَفُ لِحْيَتِهِ - لَيَمَسُّ مَوْرِكَ رحله، مما يطأطئ رأسه خضعاناً لله عزوجل وَمَعَهُ الْجُنُودُ وَالْجُيُوشُ مِمَّنْ لَا يُرَى مِنْهُ إلا الحدق، ولا سِيَّمَا الْكَتِيبَةُ الْخَضْرَاءُ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) روى الطبري الخبر وفيه أن يوشع مات [وهو يقاتل سائر ملوك الشام] ودفن في جبل افراييم وقام بعده سبط يهوذا وسبط شمعون بحرب الكنعانيين ودخلوا أورشليم وحارب بنو يهوذا سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم ج 1 / 229.
(2) خلفات: جمع خلفة ; وهي الحامل من الابل.
(3) قال القاضي: اختلف في حبس الشمس المذكور هنا.
فقيل ردت على أدراجها.
وقيل وقفت ولم ترد.
وقيل أبطئ بحركتها.
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2 / 318 وأخرجه مسلم في صحيحه في 32 كتاب الجهاد (11) باب تحليل الغنائم لهذه الامة 32 / 1747 وأخرجه البخاري في صحيحه 67 / 58 / 5157 فتح الباري - مختصرا.
[*]
(1/377)
ثُمَّ لَمَّا دَخَلَهَا اغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وهي صلاة الشكر على النصر، على المشهور مِنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.
وَقِيلَ إِنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى، وَمَا حَمَلَ هَذَا الْقَائِلَ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ وَقْتَ الضُّحَى.
وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ قَوْلًا وفعلاً دخلوا الباب يزحفون على أستاههم يَقُولُونَ: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: حِنْطَةٌ فِي شَعْرَةٍ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا مَا أُمِرُوا به، واستهزؤا بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ فِي سورة الأعراف وهي مكية (وإذا قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 161 - 162] وقال في سورة البقرة وهي مدينة مُخَاطِبًا لَهُمْ (وَإِذْ
قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [البقرة: 58 - 59] .
وقال الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً) قَالَ: رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ.
رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا رَوَى الثَّوْرِيُّ عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ والباب هو باب حطة من بيت إيلياء ببيت الْمَقْدِسِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَدَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ ضِدَّ مَا أُمِرُوا بِهِ وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ ابْنِ عبَّاس: أَنَّهُمْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ.
وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بَعْدُ فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعوا رؤوسهم.
وقوله: وَقُولُوا: " حِطَّةٌ " الْوَاوُ هُنَا حَالِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ أَيِ ادْخُلُوا سُجَّدًا فِي حَالِ قَوْلِكُمْ حِطَّةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا * قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ " (1) .
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِبَعْضِهِ، وَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ بِهِ مَوْقُوفًا.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نغفر لكم خطاياكم فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَقَالُوا: حبة في شعرة " (2) .
ورواه البخاري
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 6 / 2 / 3، 8 / 125 / 228 فتح الباري.
وأخرجه أحمد في مسنده ج 2 / 318.
(2) أخرجه مسلم في 54 كتاب التفسير 1 / 3015 والبخاري حديث رقم 1602.
وأخرجه التِّرمذي في 48 كتاب تفسير القرآن 3 باب من سورة البقرة حديث 2956 وفيه قال: " دخلوا متزحفين على أوراكهم ".
[*]
(1/378)
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ تَبْدِيلُهُمْ كَمَا حدَّثني صَالِحُ بْنُ كِيسَانَ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمَّنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " دَخَلُوا الْبَابَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سُجَّدًا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِي شُعَيْرَةٍ ".
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) قال قالوا: " هطى سقانا أزمة مزيا " فهي في العربية: " حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَمْرَاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيهَا شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ ".
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ، بِإِرْسَالِ الرِّجْزِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الطَّاعُونُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ (أَوِ) السَّقَمَ رِجْزٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأمم قبلكم " (1) .
ورى النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَهَذَا لَفْظُهُ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطَّاعُونُ رِجْزُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ " وَقَالَ الضحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرِّجْزُ الْعَذَابُ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ; هُوَ الْغَضَبُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الرِّجْزُ إِمَّا الطَّاعُونُ وَإِمَّا الْبَرْدُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ الطَّاعُونُ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَمَرُّوا فِيهِ، وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ يُوشَعُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ (2) سَنَةً فَكَانَ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ بَعْدَ موسى سبعا وعشرين سنة (3) .
[ذكر قصتي] (4) الخضر وإلياس عليهما السلام
أَمَّا الْخَضِرُ:
فَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحَلَ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَقَصَّ اللَّهُ مِنْ خَبَرِهِمَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ هُنَالِكَ، وَأَوْرَدْنَا هُنَا ذِكْرَ الْحَدِيثِ الْمُصَرِّحِ بِذِكْرِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ الَّذِي رَحَلَ إِلَيْهِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْخَضِرِ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، إِلَى الْآنَ - عَلَى أقوال - سأذكرها لك
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 193 والبخاري في صحيحه 90 / 13 / 6974 فتح الباري.
(2) في الطبري: مائة وست وعشرون سنة، وفيه: انها مات قبل فتح بيت المقدس، مات وهو يقاتل ملوك الشام ; وأما من فتح بيت المقدس.
وذكر المسعودي: كان عمره مائة وعشرون سنة.
(3) ذكر المسعودي 1 / 48: بقي بعد موسى تسعاً وعشرين سنة، وأما الطبري فكالاصل.
(4) في النسخ المطبوعة: قصتا.
[*]
(1/379)
ههنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: يُقَالُ إِنَّهُ الْخَضِرُ بْنُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصُلْبِهِ، ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَتْحِ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا العباس بن عبد الله الرومي، حَدَّثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضحَّاك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الخضر بن آدَمَ لِصُلْبِهِ وَنُسِئَ لَهُ فِي أَجَلِهِ حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ.
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَغَرِيبٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ السِّجِسْتَانِيُّ: سَمِعْتُ مَشْيَخَتَنَا مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ قَالُوا: إِنَّ أَطْوَلَ بَنِي آدَمَ عُمْرًا الْخَضِرُ، وَاسْمَهُ خَضْرُونُ بْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ.
قَالَ: وَذَكَرَ ابن إسحق: إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَخْبَرَ بَنِيهِ أَنَّ الطُّوفَانَ سَيَقَعُ بِالنَّاسِ، وَأَوْصَاهُمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلُوا جَسَدَهُ مَعَهُمْ في السفينة، وأن يدفنوه [معهم] (1) فِي مَكَانٍ عَيَّنَهُ لَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ الطُّوفَانُ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ، فَلَمَّا هَبَطُوا إِلَى الْأَرْضِ أَمَرَ نُوحٌ بَنِيهِ أَنْ يَذْهَبُوا بِبَدَنِهِ فَيَدْفِنُوهُ حَيْثُ أَوْصَى.
فَقَالُوا إِنَّ الْأَرْضَ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ وَعَلَيْهَا وَحْشَةٌ فَحَرَّضَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ إِنَّ آدَمَ دَعَا لِمَنْ يَلِي دَفْنَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ، فَهَابُوا الْمَسِيرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَزَلْ جَسَدُهُ عِنْدَهُمْ حَتَّى كَانَ الْخَضِرُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى دَفْنَهُ، وَأَنْجَزَ اللَّهُ مَا وَعَدَهُ فَهُوَ يَحْيَى إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنَّ يَحْيَى.
وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ (2) عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ اسْمَ الْخَضِرِ " بَلْيَا " * وَيُقَالُ إِيلِيَا بْنُ مَلْكَانَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابَرَ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
أُوَيْسٍ اسْمُ الْخَضِرِ فِيمَا بَلَغْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ: الْمُعَمَّرُ بْنُ مالك بن عبد لله بن نصر بن لازد.
وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ خَضْرُونُ بْنُ عَمْيَايِيلَ بْنِ اليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
ويقال هو أرميا (3) بن خلقيا فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ ابْنَ فِرْعَوْنَ صَاحِبِ مُوسَى مَلِكِ مِصْرَ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ.
وَقِيلَ إِنَّهُ ابْنُ مَالِكٍ.
وَهُوَ أَخُو إِلْيَاسَ قَالَهُ السُّدِّيُّ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
وَقِيلَ كَانَ ابْنَ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَهَاجَرَ مَعَهُ وَقِيلَ كَانَ نَبِيًّا فِي زَمَنِ بَشْتَاسَبَ بْنِ لَهْرَاسَبَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ ابْنِ أَثْفِيَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ الْخَضِرُ أُمُّهُ رُومِيَّةٌ وَأَبُوهُ فَارِسِيٌّ.
وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ أَيْضًا.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ فِي
__________
(1) سقطت من نسخ البداية والنهاية المطبوعة.
(2) المعارف ص 19 وزاد وكان أبوه ملكا.
(3) علق الطبري ج 1 / 194 قال: ويدل على خطأ قول من قال انه أو رميا بن خلقيا (قال بنو إسرائيل انه أو رميا - الكامل في التاريخ) لان أو رميا كان في أيام بختنصر وبين عهد موسى وبختنصر من المدة لا يشكل قدرها على أهل العلم ; أكثر من ألف عام كما في الكامل لابن الاثير.
ج 1 / 160 - 163.
[*]
(1/380)
" دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ": حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمشقيّ، حدَّثنا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عبَّاس، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْلُهُ أُسَرِيَ بِهِ وَجَدَ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَقَالَ: " يَا جِبْرِيلُ مَا هذه الرائحة الطيبة؟ " قال: هذه ريح قبل الماشطة وابنتها وَزَوْجِهَا.
وَقَالَ وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مَمَرُّهُ بِرَاهِبٍ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَطَّلَعَ عَلَيْهِ الرَّاهِبُ فَعَلَّمَهُ الْإِسْلَامَ فَلَمَّا بَلَغَ الْخَضِرُ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً فَعَلَّمَهَا الْإِسْلَامَ، وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَ أَحَدًا، وَكَانَ لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَهُ أَبُوهُ بِأُخْرَى فَعَلَّمَهَا
الْإِسْلَامَ، وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَ أَحَدًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَكَتَمَتْ إِحْدَاهُمَا وَأَفْشَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى أَتَى جَزِيرَةً فِي الْبَحْرِ فَأَقْبَلَ رَجُلَانِ يَحْتَطِبَانِ، فَرَأَيَاهُ فَكَتَمَ أَحَدُهُمَا وَأَفْشَى عَلَيْهِ الْآخَرُ، قال: قد رأيت العزقيل وَمَنْ رَآهُ مَعَكَ قَالَ: فُلَانٌ، فَسُئِلَ فَكَتَمَ، وَكَانَ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّهُ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ، فَقُتِلَ وَكَانَ قَدْ تزوَّج الْكَاتِمُ الْمَرْأَةَ الْكَاتِمَةَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هِيَ تُمَشِّطُ بِنْتَ فِرْعَوْنَ إِذْ سقط المشط من يدها فقالت نعس فِرْعَوْنُ فَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا وَكَانَ لِلْمَرْأَةِ ابْنَانِ وَزَوْجٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَرَاوَدَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا أَنْ يَرْجِعَا عَنْ دِينِهِمَا فَأَبَيَا فَقَالَ: إِنِّي قَاتِلُكُمَا، فَقَالَا: إِحْسَانٌ مِنْكَ إِلَيْنَا إِنْ أَنْتَ قَتَلَتْنَا أَنْ تَجْعَلَنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَجَعَلَهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: وَمَا وَجَدْتُ رِيحًا أَطْيَبَ مِنْهُمَا، وَقَدْ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ مَائِلَةَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَهَذَا الْمُشْطُ فِي أَمْرِ الْخَضِرِ قَدْ يَكُونُ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبَّاس وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُنْيَتُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْخَضِرَ لَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ، خَضْرَاءُ " (1) تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْفَرْوَةُ: الْحَشِيشُ الْأَبْيَضُ وَمَا أَشْبَهَهُ يَعْنِي: الْهَشِيمَ الْيَابِسَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الْفَرْوَةُ: الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ الْهَشِيمُ الْيَابِسُ شَبَّهَهُ بِالْفَرْوَةِ وَمِنْهُ قِيلُ فَرْوَةُ الرَّأْسِ وَهِيَ جِلْدَتُهُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ كَمَا قَالَ الرَّاعِي: وَلَقَدْ تَرَى الْحَبَشِيَّ حَوْلَ بيوتنا * جذلاً إذا ما نال يوما ما كلا صعلا أصك كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ * بُذِرَتْ فَأَنْبَتَ جَانِبَاهُ فُلْفُلًا (2) قال الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ.
قُلْتُ: هَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْلِيلِ بِأَحَدِهِمَا فَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَوْلَى، وأقوى بل لا يلتفت
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 60 كتاب المناقب 27 / 3402 فتح الباري، وأحمد في مسنده ج 2 / 312 - 318.
والترمذي في سننه.
(2) في نسخة: جعدا أصك.
والصعل: الصغير الرأس، والاصك: المعوج الركبتين والعقبين.
[*]
(1/381)
إِلَى مَا عَدَاهُ وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عساكر هذا الحديث أيضاً من طريق إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْأَيْلِيِّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ وَأَبُو جَزِيٍّ وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ ابْنِ عبَّاس عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا لِأَنَّهُ صَلَّى عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ خَضْرَاءَ ".
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ قَبِيصَةُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ وَتَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى ويوشع عليهما السلام رَجَعَا يَقُصَّانِ الْأَثَرَ وَجَدَاهُ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ، وَهُوَ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، قَدْ جُعِلَ طَرَفَاهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَقَدَمَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ فَرَدَّ وَقَالَ: أَنَّى بِأَرْضِكِ السَّلَامُ؟ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا موسى.
قال: موسى [نبيّ] (1) بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ: نَعَمْ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْهُمَا.
وَقَدْ دَلَّ سِيَاقُ الْقِصَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف: 65] .
الثَّانِي: قَوْلُ مُوسَى لَهُ (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا.
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً.
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً.
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شئ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ منه ذكرا) [الْكَهْفِ: 66 - 70] فَلَوْ كَانَ وَلِيًّا وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ لَمْ يُخَاطِبْهُ مُوسَى بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى مُوسَى هَذَا الرَّدَّ، بَلْ مُوسَى إِنَّمَا سَأَلَ صُحْبَتَهُ لِيَنَالَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اختصَّه اللَّهُ بِهِ دُونَهُ، فَلَوْ كَانَ غَيْرَ نَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا، وَلَمْ تَكُنْ لِمُوسَى، وهو نبي عظيم ورسوله كَرِيمٌ، وَاجِبُ الْعِصْمَةِ، كَبِيرُ رَغْبَةٍ وَلَا عَظِيمُ طَلِبَةٍ، فِي عِلْمِ وَلِيٍّ غَيْرِ وَاجِبِ الْعِصْمَةِ، وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّهُ يَمْضِي حُقُبًا مِنَ الزَّمَانِ قِيلَ ثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ تَوَاضَعَ لَهُ وَعَظَّمَهُ وَاتَّبَعَهُ فِي صُورَةِ مُسْتَفِيدٍ مِنْهُ،
دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ خُصَّ مِنَ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، وَالْأَسْرَارِ النَّبَوِيَّةِ، بِمَا لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى الْكَلِيمَ نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكَرِيمَ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْمَسْلَكِ بِعَيْنِهِ الرُّمَّانِيُّ (2) عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَضِرَ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى نُبُوَّتِهِ.
وَبُرْهَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى عِصْمَتِهِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ النُّفُوسِ، بِمُجَرَّدِ مَا يُلْقَى فِي خَلَدِهِ، لِأَنَّ خَاطِرَهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْعِصْمَةِ إِذْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَلَمَّا أَقْدَمَ الْخَضِرُ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ يَكْفُرُ.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في نسخة البلقاني.
[*]
(1/382)
وَيَحْمِلُ أَبَوَيْهِ عَنِ الْكُفْرِ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمَا لَهُ فَيُتَابِعَانِهِ عَلَيْهِ، فَفِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ تَرْبُو عل بَقَاءِ مُهْجَتِهِ، صِيَانَةً لِأَبَوَيْهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ وَعُقُوبَتِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ.
وَقَدْ رَأَيْتُ الشَّيخ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ طَرَقَ هَذَا الْمَسْلَكَ بِعَيْنِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ وَصَحَّحَهُ.
وَحَكَى الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِ الرُّمَّانِيُّ أَيْضًا.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الْخَضِرُ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْأَفَاعِيلِ لِمُوسَى، وَوَضَّحَ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَجَلَّى، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فعلته من أَمْرِي) [الكهف: 82] يَعْنِي مَا فَعَلَتْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نفسي، بل [أمر] (1) بَلْ أُمِرْتُ بِهِ وَأُوحِيَ إِلَيَّ فِيهِ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ.
وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حصول ولايته، بل ولا رسالته كما قاله آخرون، وأما كونه ملكاً من الملائكة [فقول] (2) غريب جِدًّا، وَإِذَا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَبْقَ لِمَنْ قَالَ بِوِلَايَتِهِ وَإِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأُمُورِ دُونَ أَرْبَابِ الشَّرْعِ الظَّاهِرِ، مُسْتَنَدٌ يَسْتَنِدُونَ إِلَيْهِ، وَلَا مُعْتَمَدٌ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي وُجُودِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ.
قِيلَ لِأَنَّهُ دَفَنَ آدَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الطُّوفَانِ فَنَالَتْهُ دَعْوَةُ أَبِيهِ آدَمَ بِطُولِ الْحَيَاةِ.
وَقِيلَ لِأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ
فَحَيِيَ (3) .
وَذَكَرُوا أَخْبَارًا اسْتَشْهَدُوا بِهَا عَلَى بَقَائِهِ إِلَى الْآنَ وَسَنُورِدُهَا [مَعَ غَيْرِهَا] (4) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَهَذِهِ وَصِيَّتُهُ لِمُوسَى حِينَ (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بيني وبينك سأنبئكم بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف: 78] رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ مُنْقَطِعَةٌ كَثِيرَةٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، وحدثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بن أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، حدَّثني أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَلْطِيُّ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يُفَارِقَ الْخَضِرَ، قَالَ لَهُ مُوسَى: أَوْصِنِي قَالَ: كُنْ نَفَّاعًا وَلَا تَكُنْ ضَرَّارًا.
كُنْ بَشَّاشًا وَلَا تَكُنْ غَضْبَانَ.
ارْجِعْ عَنِ اللَّجَاجَةِ وَلَا تَمْشِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى زِيَادَةُ: (وَلَا تَضْحَكْ إِلَّا مِنْ عَجَبٍ) .
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى إِنَّ النَّاسَ مُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ هُمُومِهِمْ بِهَا، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي: قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْكَ طَاعَتَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ يحيى الوقاد إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْكَذَّابِينَ الْكِبَارِ.
قَالَ قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ الثَّوْرِيُّ: قَالَ مُجَالِدٌ: قَالَ أَبُو الْوَدَّاكِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " قال أخي موسى يا
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) سقطت من نسخ المطبوعة.
(3) تناول الرازي في التفسير موضوعة الخضر بتفاصيل واسعة ومسائل كثيرة.
انظر ج 21 / 158 وما بعدها.
(4) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
[*]
(1/383)
رب - وذكر كلمته - فَأَتَاهُ الْخَضِرُ وَهُوَ فَتًى طَيِّبُ الرِّيحِ حَسَنُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، مُشَمِّرُهَا فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلام.
قَالَ مُوسَى: هُوَ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا أُحْصِي نِعَمَهُ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ مُوسَى: أُرِيدُ أَنْ تُوصِيَنِي بِوَصِيَّةٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا بَعْدَكَ.
فَقَالَ الْخُضَرُ: يَا
طَالِبَ الْعِلْمِ إِنَّ الْقَائِلَ أَقَلُّ مَلَالَةً (1) مِنَ الْمُسْتَمِعِ، فَلَا تُمِلَّ جُلَسَاءَكَ إِذَا حَدَّثَتْهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَكَ وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَاذَا تَحْشُو بِهِ وِعَاءَكَ.
وَاعْزِفْ (2) عَنِ الدُّنْيَا وَأَنْبِذْهَا وَرَاءَكَ.
فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ بِدَارٍ وَلَا لَكَ فِيهَا مَحَلُّ قَرَارٍ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ بُلْغَةً لِلْعِبَادِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهَا لِيَوْمِ الْمَعَادِ، وَرُضْ نَفْسَكَ عَلَى الصَّبْرِ تَخْلُصْ مِنَ الْإِثْمِ.
يَا مُوسَى تَفَرَّغْ لِلْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ، فَإِنَّمَا الْعِلْمُ لمن تفرغ له.
ولا تكن مكثاراً للعلم مهذاراً فإن كثرة المنطق تشين العلماء وتبدي مساوي السُّخَفَاءِ.
وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالِاقْتِصَادِ فإنَّ ذَلِكَ مِنَ التوفيق والسداد.
وأعرض عن الجهال وماطلهم، وَاحْلُمْ عَنِ السُّفَهَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْحُكَمَاءِ وزين العلماء، وإذ شَتَمَكَ الْجَاهِلُ فَاسْكُتْ عَنْهُ حِلْمًا.
وَجَانِبْهُ حَزْمًا، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ جَهْلِهِ عَلَيْكَ وَسَبِّهِ إِيَّاكَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ.
يَا ابْنَ عِمْرَانَ وَلَا ترى أَنَّكَ أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
فَإِنَّ الِانْدِلَاثَ وَالتَّعَسُّفَ مِنَ الِاقْتِحَامِ وَالتَّكَلُّفِ.
يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَا تَفْتَحَنَّ بَابًا لَا تَدْرِي مَا غَلْقُهُ، وَلَا تُغْلِقَنَّ بَابًا لَا تَدْرِي مَا فتحه.
يا ابن عمران من لا ينتهي مِنَ الدُّنْيَا نَهْمَتُهُ، وَلَا تَنْقَضِي مِنْهَا رَغْبَتُهُ وَمَنْ يُحَقِّرُ حَالَهُ، وَيَتَّهِمُ اللَّهَ فِيمَا قَضَى لَهُ كَيْفَ يَكُونُ زَاهِدًا (3) .
هَلْ يَكُفُّ عَنِ الشَّهَوَاتِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ؟ أَوْ يَنْفَعُهُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْجَهْلُ قَدْ حَوَاهُ؟ لِأَنَّ سَعْيَهُ إِلَى آخِرَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى دُنْيَاهُ.
يَا مُوسَى تَعَلَّمْ مَا تَعَلَّمْتَ لِتَعْمَلَ بِهِ، وَلَا تَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ، فَيَكُونَ عَلَيْكَ بَوَارُهُ، وَلِغَيْرِكَ نُورُهُ، يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، اجْعَلِ الزُّهْدَ وَالتَّقْوَى لِبَاسَكَ، وَالْعِلْمَ وَالذِّكْرَ كَلَامَكَ، وَاسْتَكْثِرْ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّكَ مُصِيبٌ السَّيِّئَاتِ، وَزَعْزِعْ بِالْخَوْفِ قَلْبَكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُرْضِي رَبَّكَ وَاعْمَلْ خَيْرًا فَإِنَّكَ لا بد عامل سوء.
قد وعظت إن حفظت * قال فتولى وَبَقِيَ مُوسَى مَحْزُونًا مَكْرُوبًا يَبْكِي.
لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ وَأَظُنُّهُ مِنْ صَنْعَةِ زَكَرِيَّا بْنِ يحيى الوقاد الْمِصْرِيِّ كَذَّبَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْعَجَبُ أن الحافظ بن عَسَاكِرَ سَكَتَ عَنْهُ * وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطبراني، ثنا عَمْرُو بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عِمْرَانَ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ (4) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " أَلَّا أحدِّثكم عَنِ الْخَضِرِ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رسول الله قال:
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: ملامة: وهو تحريف.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: واغرق من الدنيا وهو تحريف.
(3) في نسخة: عابدا.
(4) بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي ; أبو يحمد صدوق كثير التدليس عن الضعفاء من الثامنة مات سنة سبع وتسعين وله سبع وثمانون.
تقريب التهذيب 1 / 105.
[*]
(1/384)
" بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ يَمْشِي فِي سُوقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْصَرَهُ رَجُلٌ مَكَاتَبٌ فَقَالَ: تَصَدَّقْ عَلَيَّ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ فَقَالَ الْخَضِرُ: آمَنْتُ بالله ما شاء من أمر يكون ما عندي من شئ أُعْطِيكَهُ فَقَالَ الْمِسْكِينُ أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ لَمَا تصدقت علي فإني نظرت إلى السماء فِي وَجْهِكَ وَرَجَوْتُ الْبَرَكَةَ عِنْدَكَ فَقَالَ الْخَضِرُ: آمنت بالله ما عندي من شئ أُعْطِيكَهُ إِلَّا أَنْ تَأْخُذَنِي فَتَبِيعَنِي فَقَالَ الْمِسْكِينُ: وهي يستقيم هذا؟ قال: نعم الحق لَكَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَا إِنِّي لَا أُخَيِّبُكَ بِوَجْهِ رَبِّي بِعْنِي قَالَ: فَقَدَّمَهُ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَكَثَ عِنْدَ المشتري زماناً لا يستعمله في شئ.
فقال له: إنك ابْتَعْتَنِي الْتِمَاسَ خَيْرٍ عِنْدِي فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ إِنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضعيف.
قال ليس يشق عَلَيَّ.
قَالَ فَانْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ وَكَانَ لَا يَنْقُلُهَا دُونَ سِتَّةِ نَفَرٍ فِي يَوْمٍ فَخَرَجَ الرجل لبعض حاجاته ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ نَقَلَ الْحِجَارَةَ فِي سَاعَةٍ.
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ وَأَطَقْتَ مَا لَمْ أَرَكَ تُطِيقُهُ.
ثُمَّ عُرِضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ فَقَالَ إِنِّي أَحْسَبُكَ أَمِينًا فاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي خِلَافَةً حَسَنَةً قَالَ: فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ قَالَ: إنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ قَالَ: لَيْسَ تَشُقُّ عَلَيَّ قَالَ: فَاضْرِبْ مِنَ اللَّبِنِ لِبَيْتِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ، فمضى الرجل لسفره فرجع وقد شيد بناؤه فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ مَا سَبِيلُكَ؟ وَمَا أَمْرُكَ؟ فَقَالَ: سَأَلْتَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ وَالسُّؤَالُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ سَأُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا، أَنَا الْخَضِرُ الَّذِي سَمِعْتَ بِهِ سَأَلَنِي مِسْكِينٌ صدقة فلم يكن عندي من شئ أُعْطِيهِ، فَسَأَلَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ فَأَمْكَنْتُهُ مِنْ رَقَبَتِي، فَبَاعَنِي وَأُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللَّهِ فرد سائله وهو بقدر، وَقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِلْدُهُ لَا لَحْمَ لَهُ، وَلَا عَظْمَ يَتَقَعْقَعُ.
فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ بِاللَّهِ، شَقَقْتُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَلَمْ أَعْلَمْ، فَقَالَ لَا بَأْسَ أَحْسَنْتَ وَأَبْقَيْتَ.
فَقَالَ الرَّجُلُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ احْكُمْ فِي أَهْلِي وَمَالِي بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ أَوْ
أُخَيِّرُكَ فَأُخَلِّي سَبِيلَكَ فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلِي فَأَعْبُدُ رَبِّي فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
فَقَالَ الْخَضِرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ ثُمَّ نَجَّانِي مِنْهَا ".
وَهَذَا حَدِيثٌ رَفْعُهُ خَطَأٌ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا وَفِي رِجَالِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " عُجَالَةِ الْمُنْتَظِرِ فِي شَرْحِ حَالِ الْخَضِرِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضَّحَّاكِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ بَقِيَّةَ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى السُّدِّيُّ: أَنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ كَانَا أَخَوَيْنِ وَكَانَ أَبُوهُمَا مَلِكًا فَقَالَ إِلْيَاسُ لِأَبِيهِ: إِنَّ أَخِي الْخَضِرَ لَا رَغْبَةَ لَهُ في الملك، فلو أنك زوجته لعله يجئ مِنْهُ وَلَدٌ يَكُونُ الْمُلْكُ لَهُ فَزَوَّجَهُ أَبُوهُ بِامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ بِكْرٍ، فَقَالَ لَهَا الْخَضِرُ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ فَإِنْ شِئْتِ أَطْلَقْتُ سَرَاحَكِ وَإِنْ شِئْتِ أَقَمْتِ مَعِي تَعْبُدِينَ الله عزوجل وتكتمين علي سري؟ فقال: نَعَمْ وَأَقَامَتْ مَعَهُ سَنَةً.
فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ دَعَاهَا الْمَلِكُ فَقَالَ إِنَّكِ شَابَّةٌ وَابْنِي شَابٌّ فَأَيْنَ الْوَلَدُ فَقَالَتْ: إِنَّمَا الْوَلَدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لم يكن.
فأمره أبوه فطلقها وزوجه بأخرى ثَيِّبًا قَدْ وُلِدَ لَهَا فَلَمَّا زُفَّتْ إِلَيْهِ قَالَ لَهَا كَمَا قَالَ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَأَجَابَتْ إِلَى الْإِقَامَةِ عِنْدَهُ.
فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ سَأَلَهَا الملك عن الولد فقال إن ابنك لا حاجة له بالنساء فَتَطَلَّبَهُ أَبُوهُ فَهَرَبَ، فَأَرْسَلَ وَرَاءَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ.
فَيُقَالُ إِنَّهُ قَتَلَ الْمَرْأَةَ الثَّانِيَةَ لِكَوْنِهَا
(1/385)
أَفْشَتْ سِرَّهُ فَهَرَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَ سَرَاحَ الْأُخْرَى، فَأَقَامَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ يَوْمًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَهُ: أَنَّى لَكِ هَذَا الِاسْمُ فَقَالَ إِنِّي مِنْ أَصْحَابِ الْخَضِرِ فَتَزَوَّجَتْهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا.
ثُمَّ صَارَ من أمرها ماشطة بنت فرعون فبينما هي تُمَشِّطُهَا إِذْ وَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ فَقَالَتْ: لَا رَبِّي وَرَبُّكِ وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ فَأَعْلَمَتْ أباها فأمر بنقرة مِنْ نُحَاسٍ، فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أُمِرَ بِهَا فَأُلْقِيَتْ فِيهِ، فَلَمَّا عَايَنَتْ ذَلِكَ تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا ابْنٌ مَعَهَا صَغِيرٌ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ فَمَاتَتْ رَحِمَهَا اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْأَعْمَى نُفَيْعٍ وَهُوَ كَذَّابٌ وَضَّاعٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَمِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ كَذَّابٌ أَيْضًا عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ الْخَضِرَ جَاءَ لَيْلَةً فسمع النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى مَا يُنَجِّينِي مِمَّا خَوَّفْتَنِي وَارْزُقْنِي شَوْقَ الصَّالِحِينَ إِلَى مَا شَوَّقَتْهُمْ إِلَيْهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فسلَّم عَلَيْهِ فردَّ عَلَيْهِ السلام وقال: قُلْ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَمَا فَضَّلَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ وَفَضَّلَ أُمَّتَكَ عَلَى الْأُمَمِ كَمَا فَضَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ.
الْحَدِيثَ (1) وَهُوَ مَكْذُوبٌ لَا يَصِحُّ سَنَدًا وَلَا مَتْنًا كَيْفَ لَا يَتَمَثَّلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ويجئ بِنَفْسِهِ مُسَلِّمًا وَمُتَعَلِّمًا وَهُمْ يَذْكُرُونَ فِي حِكَايَاتِهِمْ وَمَا يُسْنِدُونَهُ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ أَنَّ الْخَضِرَ يَأْتِي إِلَيْهِمْ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ وَمَحَالَّهُمْ وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يَعْرِفُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَلِيمَ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ حَتَّى يَتَعَرَّفَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادَى بَعْدَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا وَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرُ الْإِسْنَادِ، سَقِيمُ الْمَتْنِ يَتَبَيَّنُ فِيهِ أَثَرُ الصَّنْعَةِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ (2) قَائِلًا: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 423 وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في المسجد فسمع كلاما من زاوية وإذا هو بقائل يقول: اللَّهم أَعِنِّي عَلَى مَا يُنَجِّينِي مِمَّا خَوَّفْتَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع ذلك: ألا تضم إليها أختها؟ فقال: اللهم ارزقني شوق الصادقين إلى ما شوقتهم إليه.
قال رسول الله لأنس بن مالك وكان معه: اذهب يا أنس فقل له: يقول لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفر لي ; فجاء أنس فبلغه فقال له الرجل: يا أنس أنت رسول الله إلى؟ فقال كما أنت فرجع فاستثبته، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل له: نعم فقال: نعم فقال له: اذهب فقل له فضلك الله..الحديث.
وتمامه على سائر الايام فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر عليه السلام.
رواه ابن عدي عن كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف، عن أبيه عن جده، ورواه الطبراني في الاوسط واورده جلال الدين السيوطي في اللالئ المصنوعة 1 / 164 وختمه بقوله: عبد الله بن نافع ليس بشئ متروك.
وفي المجروحين 2 / 221 كثير هذا: منكر الحديث جداً.
وقال الشافعي عنه: ركن من أركان الكذب.
(2) دلائل النبوة ج 7 / 269 وفيه عباد بن عبد الصمد ابن معمر البصري.
[*]
(1/386)
الحافظ، [قال] أخبرنا أبو بكر بن بالويه، [قال] حدثنا محمد بن بشر بن مطر، [قال] حدثنا كامل بن طلحة، [قال] حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَبَكَوْا حَوْلَهُ، وَاجْتَمَعُوا فَدَخَلَ رَجُلٌ أَشْهَبُ اللِّحْيَةِ، جَسِيمٌ صَبِيحٌ، فَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ، فَبَكَى ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَعِوَضًا مَنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ، فَإِلَى اللَّهِ فَأَنِيبُوا وَإِلَيْهِ فَارْغُبُوا، ونظر إِلَيْكُمْ فِي الْبَلَاءِ فَانْظُرُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ لَمْ يُجْبَرْ وَانْصَرَفَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، تَعْرِفُونَ الرَّجُلَ؟ فَقَالَ أَبُو بكر وعلي نعم هو أَخُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ كَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ بن وَفِي مَتْنِهِ مُخَالَفَةٌ لِسِيَاقِ الْبَيْهَقِيِّ ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ ضَعِيفٌ، وَهَذَا مُنْكَرٌ بِمَرَّةٍ.
قُلْتُ: عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ هَذَا هُوَ ابْنِ مَعْمَرٍ الْبَصْرِيِّ.
رَوَى عَنْ أَنَسٍ نُسْخَةً قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْعُقَيْلِيُّ أَكْثَرُهَا مَوْضُوعٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا مُنْكَرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ فِي فَضَائِلِ عَلِيٍّ وَهُوَ ضَعِيفٌ غَالٍ فِي التَّشَيُّعِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: لمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وجاءت التَّعْزِيَةُ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ وَدَرْكًا مَنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَتُدْرُونَ مَنْ هَذَا.
هَذَا الْخَضِرُ.
شَيْخُ الشَّافِعِيِّ الْقَاسِمُ الْعُمَرِيُّ مَتْرُوكٌ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَكْذِبُ.
زَادَ أَحْمَدُ وَيَضَعُ الْحَدِيثَ ثُمَّ هُوَ مرسل ومثله لا يعتمد عليه ههنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ.
وَلَا يَصِحُّ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عمَّن حدَّثه، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى جَنَازَةٍ إِذْ سَمِعَ هَاتِفًا وَهُوَ يَقُولُ لَا تَسْبِقْنَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَانْتَظَرَهُ حَتَّى لَحِقَ بِالصَّفِّ، فَذَكَرَ دُعَاءَهُ لِلْمَيِّتِ إِنْ تُعَذِّبْهُ فَكَثِيرًا عَصَاكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُ فَفَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ.
وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ
طُوبَى لَكَ يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ عَرِيفًا أَوْ جَابِيًا أَوْ خَازِنًا أَوْ كَاتِبًا أَوْ شُرْطِيًّا فَقَالَ عُمَرُ خُذُوا الرَّجُلَ نَسْأَلْهُ عَنْ صَلَاتِهِ وَكَلَامِهِ عَمَّنْ هُوَ.
قَالَ فَتَوَارَى عَنْهُمْ فَنَظَرُوا فَإِذَا أَثَرُ قَدَمِهِ ذِرَاعٌ.
فَقَالَ عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ الْخَضِرُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا الأثر مُبْهَمٌ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ وَلَا يَصِحُّ مَثَلُهُ.
وَرَوَى الْحَافِظَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله بن محرز (1) عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: دَخَلْتُ الطَّوَافَ فِي بَعْضِ اللَّيل فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ مُتَعَلِّقٍ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وهو
__________
(1) في قصص الأنبياء: ابن المحرر، قال في الهامش: " في المطبوعة ابن محرز وقد صححه محقق الاولى (من قصص الأنبياء) من ميزان الاعتدال 2 / 500 وانظر الكنى والاسماء للدولابي 258 " قلت: ولم أجد فيما لدي من مراجع عبد الله بن المحرز.
[*]
(1/387)
يقول: يا من لا يمنعه سمع من سمع ويامن لا تغلطه المسائل، ويامن لَا يُبْرِمُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ، وَلَا مَسْأَلَةُ السَّائِلِينَ ارْزُقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ، وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ أعد على ما قلت: فقال لي: أو سمعته؟ قلت: نعم فقال لي: الذي نَفْسُ الْخَضِرِ بِيَدِهِ، قَالَ: وَكَانَ هُوَ الْخَضِرَ.
لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ خَلْفَ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَعَدَدِ النُّجُومِ لَغَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الله بن المحرز فَإِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا ; وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حدَّثنا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ مَحْفُوظِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ: بَيْنَمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إِذَا هُوَ برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: يا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَا مَنْ لَا يُغْلِطُهُ السَّائِلُونَ، وَيَا مَنْ لَا يتبرم بإلحاح الملحين، ارزقني بَرْدَ عَفْوِكَ، وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعِدْ دُعَاءَكَ هَذَا قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَادْعُ بِهِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ فَوَالَّذِي نَفْسُ الخضر بيده، لو كان عَلَيْكَ مِنَ الذُّنُوبِ عَدَدُ نُجُومِ السَّماء وَمَطَرِهَا، وَحَصْبَاءِ الْأَرْضِ وَتُرَابِهَا لَغَفَرَ لَكَ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ
عَيْنٍ.
وَهَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقد أورد ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
ثُمَّ قَالَ وَهَذَا إِسْنَادٌ مَجْهُولٌ مُنْقَطِعٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْخَضِرُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ محمد، أنبأنا أبو إسحق المزكي، حدثنا محمد بن إسحق بْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يزيد، أملاه عَلَيْنَا بِعَبَّادَانَ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ رَزِينٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَلْتَقِي الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ كُلَّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ (1) ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ، وَيَتَفَرَّقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا يَصْرِفُ الشَّرَّ إِلَّا اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عبَّاس: مَنَّ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أمَّنه اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالسَّرَقِ.
قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرُ هَذَا الشَّيْخِ يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ رَزِينٍ هَذَا.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ أَيْضًا وَمَعَ هذا قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي ليس بمعروف.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ مَجْهُولٌ وَحَدِيثُهُ غير
__________
(1) ذكر الخبر الطبري في تاريخه دون تعليق قال: عن محمد بن المتوكل عن ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب قال: الخضر من ولد فارس والياس من بني إسرائيل يلتقيان في كل عام بالموسم.
1 / 188.
[*]
(1/388)
محفوظ.
وقال أبو الحسن بن الْمُنَادِي هُوَ حَدِيثٌ وَاهٍ بِالْحَسَنِ بْنِ رَزِينٍ (1) .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْجَهْضَمِيِّ وَهُوَ كَذَّابٌ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ الْمَقْدِسِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا قَالَ: يَجْتَمِعُ كُلَّ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ * وَالْخَضِرُ وَذَكَرَ حَدِيثًا
طَوِيلًا مَوْضُوعًا تَرَكْنَا إِيرَادَهُ قَصْدًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طريق هشام ابن خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى الْخُشَنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، قَالَ إِلْيَاسُ وَالْخَضِرُ يَصُومَانِ شهر رمضان ببيت الْمَقْدِسِ، وَيَحُجَّانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيَشْرَبَانِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً وَاحِدَةً تَكْفِيهُمَا إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، بَانِيَ جَامِعِ دِمَشْقَ، أَحَبَّ أَنْ يَتَعَبَّدَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ الْقَوَمَةَ أَنْ يُخْلُوهُ لَهُ فَفَعَلُوا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ جَاءَ مِنْ بَابِ السَّاعَاتِ فَدَخَلَ الْجَامِعَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ الْخَضْرَاءِ.
فَقَالَ لِلْقَوَمَةِ: أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُخْلُوهُ؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هذا الخضر يجئ كل ليلة يصلي ههنا.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بن إسماعيل بن أحمد، أنبانا أبو بكر بن الطَّبَرِيِّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - هُوَ ابْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدَّثنا ضَمْرَةُ (2) ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، عَنْ رَبَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يُمَاشِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعْتَمَدًا عَلَى يَدَيْهِ، فَقُلْتُ في نفسي: أن هذا الرجل حاف، قَالَ فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ - قُلْتُ: مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدِكَ آنِفًا؟ قال: وهل رأيته يا رباح؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: مَا أَحْسَبُكَ إِلَّا رَجُلًا صَالِحًا ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ بَشَّرَنِي أَنِّي سَأَلِي وأعدل.
قال الشيخ أبو الفرج بن الْجَوْزِيِّ: الرَّمْلِيُّ مَجْرُوحٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ * وَقَدْ قَدَحَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي فِي ضَمْرَةَ وَالسَّرِيِّ ورباح.
ثمَّ أورد من طرق آخر عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالْخَضِرِ، وَضَعَّفَهَا كُلَّهَا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَبِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَجَمَاعَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَالْحِكَايَاتُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى حَيَاتِهِ إِلَى الْيَوْمِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، لَا يَقُومُ بِمِثْلِهَا حجَّة فِي الدِّين، وَالْحِكَايَاتُ لَا يَخْلُو أَكْثَرُهَا عَنْ ضَعْفٍ فِي الْإِسْنَادِ، وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [يَوْمًا] حديثاً طويلاً عن الدجال.
وقال فِيمَا يُحَدِّثُنَا: " يَأْتِي - الدَّجَّالُ - وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ -[فَيَنْتَهِي إِلَى بَعْضِ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةِ]
فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاس، أو من خيرهم، فيقول [له] : أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِهِ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أحييته،
__________
(1) في النسخ المطبوعة: زريق، والصواب ما أثبتناه من ميزان الاعتدال.
(2) في النسخ المطبوعة: جمرة وفي نسخة حمزة وهو تحريف.
والصواب ما أثبتناه.
[*]
(1/389)
أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا.
فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيَى وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَشَدَّ بَصِيرَةً فِيكَ مِنِّي الْآنَ قَالَ: فَيُرِيدُ قَتْلَهُ الثَّانِيَةَ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ (1) قَالَ مَعْمَرٌ بلغني أنه يجعل على حلقه صحيفة مِنْ نُحَاسٍ وَبَلَغَنِي أَنَّهُ الْخَضِرُ الَّذِي يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ ثُمَّ يُحْيِيهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو اسحق إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ الرَّاوِي عَنْ مُسْلِمٍ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْخَضِرُ.
وَقَوْلُ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ بَلَغَنِي لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَيَأْتِي بِشَابٍّ مُمْتَلِئٍ شَبَابًا فَيَقْتُلُهُ وَقَوْلُهُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ بَلْ يَكْفِي التواتر.
وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: " عُجَالَةُ الْمُنْتَظَرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ " لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعة، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بَعْدَهُمْ فَبَيَّنَ ضَعْفَ أَسَانِيدِهَا بِبَيَانِ أَحْوَالِهَا، وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا، وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ومنهم البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسين بن الْمُنَادِي وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدِ انْتَصَرَ لِذَلِكَ وَأَلَّفَ فِيهِ كِتَابًا سَمَّاهُ " عُجَالَةَ الْمُنْتَظَرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ " فَيَحْتَجُّ لَهُمْ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ * مِنْهَا قَوْلُهُ [تَعَالَى] (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء: 34] فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ بَشَرًا فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مِنْهُ إِلَّا بدليل صحيح انتهى.
وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ حَتَّى يَثْبُتَ.
وَلَمْ يُذْكَرْ مَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ عَنْ مَعْصُومٍ يَجِبُ قَبُولُهُ.
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رسول اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أقررتم
وأخذتم على ذلك إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران: 81] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ ليؤمننَّ بِهِ ولينصرنَّه.
وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ، لَئِنْ بُعِثَ محمَّد وَهْمُ أَحْيَاءٌ لِيُؤْمِنُنَّ به وينصرنه.
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ.
فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا، فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَشْرَفُ أَحْوَالِهِ، أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَنْصُرُهُ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالصَّدِيقُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَمُوسَى أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا هَشِيمٌ، أَنْبَأَنَا مجالد،
__________
(1) صحيح البخاري 29 / 9، 76 / 30، 97 / 31 ومسلم في 15 / 485 و 52 كتاب الفتن 21 باب في صفة الدجال 112 (2938) ص 4 / 2256 ورواه مالك في الموطأ، وأخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 183، 2 / 237 - 330 - 483، 3 / 202 - 277 - 393، 5 / 81 - 207.
(نقاب المدينة: أي طرقها وفجاجها، وهو جمع نقب، وهو الطريق بين الجبلين.
- ما بين معكوفين في الحديث زيادة اقتضاها السياق من صحيح مسلم.
- أبو سعيد يعني الخدري.
[*]
(1/390)
عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ إنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي " (1) .
وَهَذَا الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَيَعْلَمُ مِنَ الدِّينِ عِلْمَ الضَّرُورَةِ.
وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُكَلَّفُونَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانُوا كُلُّهُمْ أَتْبَاعًا لَهُ، وَتَحْتَ أَوَامِرِهِ، وَفِي عُمُومِ شَرْعِهِ.
كَمَا أَنَّهُ صلوات وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمَّا اجْتَمَعَ مَعَهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، رُفِعَ فَوْقَهُمْ كُلِّهِمْ، وَلَمَّا هَبَطُوا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحَانَتِ الصَّلَاةُ، أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ وَدَارِ إِقَامَتِهِمْ فدلَّ عَلَى أَنَّهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْمُبَجَّلُ الْمُقَدَّمُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
فَإِذَا عُلِمَ هَذَا - وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مُؤْمِنٍ - عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِمَّنْ
يَقْتَدِي بِشَرْعِهِ لَا يَسَعُهُ إِلَّا ذَلِكَ * هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نزل في آخر الزمان بحكم بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَا يَحِيدُ عَنْهَا، وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ (2) الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يُنْقَلْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ، أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالًا فِي مَشْهَدٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ.
وَهَذَا يَوْمُ بَدْرٍ يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فيما دعا به لربه عزوجل، وَاسْتَنْصَرَهُ وَاسْتَفْتَحَهُ عَلَى مَنْ كَفَرَهُ: " اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ " (3) وَتِلْكَ الْعِصَابَةُ كَانَ تَحْتَهَا سَادَةُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَسَادَةُ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي بَيْتٍ يُقَالُ إِنَّهُ أَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ: وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ * جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ (4) فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ وُقُوفُهُ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ أَشْرَفَ مَقَامَاتِهِ وَأَعْظَمَ غَزَوَاتِهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ: سُئِلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْخَضِرِ هَلْ مَاتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: وَبَلَغَنِي مِثْلُ هَذَا عَنْ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْغُبَارِيِّ قَالَ: وَكَانَ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ في العجالة.
فإن قيل: فهل يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي يلزم منه تخصيص العموميات بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمَاتِ.
ثُمَّ مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِفَاءِ وَظُهُورُهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ وَأَعْلَى فِي مرتبته وأظهر بمعجزته، ثُمَّ لَوْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَهُ لَكَانَ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ وَإِنْكَارُهُ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ وَالرِّوَايَاتِ الْمَقْلُوبَةِ وَالْآرَاءِ الْبِدْعِيَّةِ
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 387.
(2) وهم - صلوات الله عليهم - نُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ - وَمُوسَى، وعيسى ومحمد عليهم السلام.
(3) أخرجه ابن جرير الطبري، في تفسيره سورة الانفال، وابن المنذر، وابن مردويه ونقله عنهم السيوطي في الدر المنثور 3 / 169.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: وتبير بدل " وبئر " وهو تحريف.
[*]
(1/391)
وَالْأَهْوَاءِ الْعَصَبِيَّةِ وَقِتَالُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ وَشُهُودُهُ جُمُعَهُمْ، وَجَمَاعَاتِهِمْ، وَنَفْعُهُ إِيَّاهُمْ، وَدَفْعُهُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ مِمَّنْ سِوَاهُمْ وَتَسْدِيدُهُ الْعُلَمَاءَ، وَالْحُكَّامَ وَتَقْرِيرُهُ الأدلة، والأحكام أفضل ما يُقَالُ عَنْهُ مِنْ كُنُونِهِ (1) فِي الْأَمْصَارِ.
وَجَوْبِهِ الْفَيَافِيَ وَالْأَقْطَارَ.
وَاجْتِمَاعِهِ بِعُبَّادٍ لَا يُعْرَفُ أَحْوَالُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَجَعْلِهِ لَهُمْ كَالنَّقِيبِ الْمُتَرْجِمِ عَنْهُمْ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَوَقَّفُ أَحَدٌ فِيهِ بعد التفهيم وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين (2) وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لَيْلَةً الْعِشَاءَ ثُمَّ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ إِلَى مِائَةٍ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ أَحَدٌ ".
وَفِي رِوَايَةٍ " عَيْنٌ تَطْرِفُ ".
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ذَاتَ لَيْلَةٍ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فلمَّا سلَّم قَامَ فَقَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فإنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ " (3) .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ * وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ أَوْ بِشَهْرٍ: " مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ أَوْ مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ الْيَوْمَ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَيَّةٌ " (4) وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بشهر: " يسألوني عَنِ السَّاعة وإنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ أُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ " (5) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ وَأَبِي الزُّبَيْرِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ نحوه.
وقال الترمذي: حدَّثنا عبَّاد، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ ".
وَهَذَا أَيْضًا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ * قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ تَقْطَعُ دَابِرَ
دَعْوَى حَيَاةِ الْخَضِرِ.
قَالُوا: فَالْخَضِرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدْرَكَ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ الْمَظْنُونُ الَّذِي يَتَرَقَّى فِي الْقُوَّةِ إِلَى الْقَطْعِ فَلَا إِشْكَالَ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ فَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أنه لم يعش بعد مِائَةَ سَنَةٍ فَيَكُونُ الْآنَ مَفْقُودًا لَا مَوْجُودًا لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ المخصص له
__________
(1) كنون من كن، كن الشئ إذا ستره.
وكنونه: تستره وتخفيه.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 3 / 41 / 116 فتح الباري ومسلم في صحيحه 44 / 53 / 217.
(3) أخرجه أحمد في مسنده ج 2 / 88.
(4) مسند الإمام أحمد 3 / 305 - 306 ومسلم في صحيحه 44 / 53 / 218.
(5) مسند الإمام أحمد ج 3 / 345.
[*]
(1/392)
حَتَّى يَثْبُتَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ يَجِبُ قَبُولُهُ وَاللَّهُ أعلم.
وقد حكى الحافظ والقاسم السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ " التَّعْرِيفُ وَالْإِعْلَامُ " عَنِ الْبُخَارِيِّ وشيخه أبي بكر بن الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَكِنْ مَاتَ بَعْدَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَفِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِهَذَا وَأَنَّهُ بَقِيَ إِلَى زَمَانِ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرٌ * وَرَجَّحَ السُّهَيْلِيُّ بَقَاءَهُ وَحَكَاهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَتُهُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ بَعْدَهُ فَمَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ ثمَّ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا ضَعَّفْنَاهُ وَلَمْ يُورِدْ أَسَانِيدَهَا والله أعلم.
وأما (1) إِلْيَاسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قصة موسى وهرون مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ.
أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ.
اللَّهَ ربكم ورب آباءكم الْأَوَّلِينَ.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ.
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.
سَلَامٌ عَلَى الياسين.
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين) [الصافات: 123 - 132]
قال علماء النسب هو إلياس التشبي * ويقال ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون * وقيل إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران.
قالوا وكان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق (1) فدعاهم إلى الله عزوجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا.
وقيل كانت امرأة اسمها بعل والأول أصح.
ولهذا قال لهم (أَلَا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ ورب آباءكم الاولين) [الصافات: 124 - 126] فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَيُقَالُ إِنَّهُ هَرَبَ مِنْهُمْ وَاخْتَفَى عَنْهُمْ * قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْأَذْرَعِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أنَّه قَالَ: إنَّ إِلْيَاسَ اختفى مَنْ مَلِكِ قَوْمِهِ فِي الْغَارِ الَّذِي تَحْتَ الدَّمِ عَشْرَ سِنِينَ، حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ الْمَلِكَ وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَأَتَاهُ إِلْيَاسُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ، وَأَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ غَيْرَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَةِ دِمَشْقَ قَالَ: أَقَامَ إِلْيَاسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَارِبًا مِنْ قَوْمِهِ فِي كَهْفِ جَبَلٍ عِشْرِينَ لَيْلَةً.
أَوْ قَالَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً - تَأْتِيهِ الْغِرْبَانُ بِرِزْقِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ نَبِيٍّ
__________
(1) قال الطبري ج 1 / 239: كان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له بعل.
وقال ابن قتيبة في المعارف: إلياس من سبط يوشع بن نون بعثه الله في أهل بعلبك وكانوا يعبدون صنماً يقال له بعل وملكهم اسمه احب وامرأته أزبيل.
أما الطبري فيقول أن أحاب أحد ملوك بني إسرائيل واسم امرأته ازبل فقد كان يسمع منه ويصدقه - دون سائر ملوك بني إسرائيل الذين عبدوا بعل.
[*]
(1/393)
بُعِثَ إِدْرِيسُ، ثُمَّ نُوحٌ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إسماعيل وإسحق ثُمَّ يَعْقُوبُ ثُمَّ يُوسُفُ ثُمَّ لُوطٌ ثُمَّ هُودٌ ثُمَّ صَالِحٌ ثُمَّ شُعَيْبٌ، ثُمَّ مُوسَى وهارون ابنا عمران، ثم إلياس التشبي بْنِ الْعَازِرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ هَكَذَا قَالَ وَفِي هذا الترتيب.
وَقَالَ مَكْحُولٌ عَنْ كَعْبٍ أَرْبَعَةُ أَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ اثْنَانِ فِي الْأَرْضِ إِلْيَاسُ وَالْخَضِرُ، وَاثْنَانِ فِي السماء إدريس وعيسى [عليهم السَّلام] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرَ يَجْتَمِعَانِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُمَا يَحُجَّانِ كُلَّ سَنَةٍ وَيَشْرَبَانِ مِنْ زَمْزَمَ شَرْبَةً تَكْفِيهُمَا إِلَى
مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ * وَأَوْرَدْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ بِعَرَفَاتٍ كُلَّ سَنَةٍ.
وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لم يصح شئ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ: أَنَّ الْخَضِرَ مَاتَ، وَكَذَلِكَ إِلْيَاسُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَمَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَغَيْرُهُ: أنَّه لما دعا ربه عزوجل أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ لَمَّا كذَّبُوهُ وَآذَوْهُ، فَجَاءَتْهُ دَابَّةٌ لَوْنُهَا لَوْنُ النَّارِ فَرَكِبَهَا وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ رِيشًا وَأَلْبَسَهُ النُّورَ وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَصَارَ مَلَكِيًّا بَشَرِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا وَأَوْصَى إِلَى الْيَسَعِ بْنِ أَخْطُوبَ (1) فَفِي هَذَا نظر وهو من الاسرائيلات الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ صِحَّتَهَا بَعِيدَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ (2) : أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حدَّثني أَبُو الْعَبَّاسِ أحمد بن سعيد المعداني (3) ببخارا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْبَلَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْوَادِي يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْحُومَةِ الْمَغْفُورَةِ الْمُثَابِ لَهَا قَالَ: فَأَشْرَفْتُ عَلَى الْوَادِي فَإِذَا رَجُلٌ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ فَقَالَ لِي: مَنْ أنت؟ فقلت: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قُلْتُ: هوذا يسمع كلامك قال فأته فأقرته السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ أَخُوكَ إِلْيَاسُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ.
قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فجاء حتى لقيه فعانقه وسلم [عليه] * ثم قعدا يتحادثان فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَا آكل في [السنة] إِلَّا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمُ فِطْرِي فَآكُلُ أَنَا وَأَنْتَ قَالَ: فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا خُبْزٌ وَحُوتٌ وَكَرَفْسٌ فَأَكَلَا وَأَطْعَمَانِي وَصَلَّيْنَا العصر، ثم ودعه [ثم رأيته] مَرَّ فِي السَّحَابِ نَحْوَ السَّمَاءِ.
فَقَدْ كَفَانَا البيهقي (4)
__________
(1) روى الخبر ابن الأثير في الكامل ج 1 / 214.
(2) دلائل النبوة ج 5 / 421.
(3) كذا في الأصول: وفي دلائل البيهقي: البغدادي.
البرقي - في الدلائل الرقي.
يزيد بن يزيد البلوي: في الدلائل: يزيد العلوي.
(4) ما بين معكوفين في الحديث من دلائل البيهقي.
عقب البيهقي بعد تمام الحديث قال: قلت: هذا الذي روي في هذا الحديث في قدرة الله تعالى جائز وبما خص الله [*]
(1/394)
أَمْرَهُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيَّ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدْرَكُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَدْرَكِ (1) فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مِنْ وُجُوهٍ.
وَمَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا فَقَدْ تقدَّم فِي الصَّحيحين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ إِلَى أَنْ قَالَ - " ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ " وَفِيهِ إنَّه لَمْ يَأْتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِالسَّعْي إِلَى بَيْنِ يَدَيْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَفِيهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ سَلَبَهُ اللَّهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَشْرَبُ مِنْ زَمْزَمَ كُلَّ سَنَةٍ شَرْبَةً تَكْفِيهِ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْحَوْلِ الْآخَرِ.
وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُتَعَارِضَةٌ وَكُلُّهَا باطلة لا يصح شئ مِنْهَا.
وَقَدْ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَاعْتَرَفَ بِضَعْفِهَا وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ كَيْفَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ مِنْ طريق حسين بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ وَاثِلَةَ، عن ابن الْأَسْقَعِ فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا مُطَوَّلًا وَفِيهِ أنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَالَا: فإذا هو أعلى جسماً بذراعين أو ثلاثة واعتذر بعدم قدرته لِئَلَّا تَنْفِرَ الْإِبِلُ وَفِيهِ أنَّه لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَا مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَقَالَ: إِنَّ لِي فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَكْلَةً وَفِي الْمَائِدَةِ خُبْزٌ وَرُمَّانٌ وَعِنَبٌ وَمَوْزٌ وَرُطَبٌ وَبَقْلٌ مَا عَدَّا الْكُرَّاثَ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ: عَنِ الْخَضِرِ فَقَالَ: عَهْدِي بِهِ عَامَ أَوَّلَ وَقَالَ لِي إِنَّكَ سَتَلْقَاهُ قَبْلِي فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِمَا وَصِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَجْتَمِعَا بِهِ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهَذَا لَا يَسُوغُ شَرْعًا وَهَذَا مَوْضُوعٌ أَيْضًا.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ طرقاً فيمن اجْتَمَعَ بِإِلْيَاسَ مِنَ الْعُبَّادِ وَكُلُّهَا لَا يُفْرَحُ بها لضعف إسنادها أو لحهالة الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا * وَمِنْ أَحْسَنِهَا مَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حدَّثني بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا
مَعَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبير بِسَوَادِ الْكُوفَةِ فَدَخَلْتُ حَائِطًا أُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ فَافْتَتَحْتُ (حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ) [غافر: 1 - 2] .
فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء، عليه مقطعات يمنية، فقال لي إذا قلت غافر الذنب فَقُلْ: يَا غَافِرَ الذَّنْبِ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي.
وَإِذَا قُلْتَ قَابِلِ التَّوْبِ فَقُلْ: يَا قَابِلَ التَّوْبِ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي.
وَإِذَا قُلْتَ شَدِيدِ الْعِقَابِ فَقُلْ: يَا شَدِيدَ الْعِقَابِ لَا تُعَاقِبْنِي.
وَإِذَا قلت ذي الطول فَقُلْ: يَا ذَا الطَّوْلِ تَطَوَّلْ عَلَيَّ بِرَحْمَةٍ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا لَا أَحَدَ وَخَرَجْتُ فَسَأَلْتُ: مَرَّ بكم رجل على بغلة شهباء عليه
__________
= عزوجل به رسوله من المعجزات يشبه، إلا أن إسناد هذا الحديث ضعيف بمرة.
(1) قال الذهبي في الميزان 4 / 441 عن يزيد بن يزيد عن أبي إسحاق الفزاري بحديث باطل أخرجه الحاكم في مستدركه..فما استحي الحاكم من الله يصحح مثل هذا ثم قال الذهبي في تلخيص المستدرك: هذا موضوع، قبح الله من وضعه، وما كنت أحسب أنَّ الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا.
ورواه ابن الجوزي في الموضوعات 1 / 200 وقال: حديث موضوع لا أصل له.
[*]
(1/395)
مُقَطِّعَاتٌ يَمَنِيَّةٌ؟ فَقَالُوا مَا مَرَّ بِنَا أَحَدٌ فَكَانُوا لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُ إِلْيَاسُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى.
(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات: 127] أَيْ لِلْعَذَابِ إما في الدنيا والآخرة أو فِي الْآخِرَةِ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ المفسرون والمؤرخون.
(وقوله إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات: 128] أَيْ إِلَّا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) [الصافات: 129] أَيْ أَبْقَيْنَا بَعْدَهُ ذِكْرًا حَسَنًا لَهُ فِي الْعَالَمِينَ فَلَا يُذْكَرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلِهَذَا قَالَ (سَلَامٌ عَلَى الياسين) [الصافات: 130] أي سلام على إلياس.
العرب تُلْحِقُ النُّونَ فِي أَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ وَتُبَدِّلُهَا مِنْ غَيْرِهَا كَمَا قَالُوا إِسْمَاعِيلُ وَإِسْمَاعِينُ وَإِسْرَائِيلُ وإِسْرَائِينُ وَإِلْيَاسُ وَإِلْيَاسِينُ.
وَمَنْ قَرَأَ سَلَامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ أَيْ عَلَى آلِ محمَّد وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ.
وَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَحَكَاهُ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ كما تقدم والله أعلم
(1/396)
البداية والنهاية - ابن كثير ج 2
البداية والنهاية
ابن كثير ج 2
(2/)
البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 هـ.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الثاني دار إحياء التراث العربي
(2/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
[ذِكْرِ] (1) جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ موسى عليه السلام ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ (2) : لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ وَأُمُورِ السَّالِفِينِ من أمتنا وغيرهم أن القائم بأمور بنيّ إسرائيل بعد يوشع [كان] كَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا (3) يَعْنِي أَحَدَ أَصْحَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ مَرْيَمَ، وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ مِمَّنْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَهُمَا يُوشَعُ وَكَالِبُ وَهُمَا الْقَائِلَانِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ نَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة: 23] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ثمَّ مِنْ بَعْدِهِ كَانَ الْقَائِمُ بِأُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِزِقْيلَ بْنَ بُوذَى (4) وَهُوَ الَّذِي دَعَا اللَّهَ فَأَحْيَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ.
قِصَّةُ حِزْقِيلَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ
مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [البقرة: 243] .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: إِنَّ كَالِبَ بْنَ يُوفَنَّا لَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ يُوشَعَ خَلَفَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِزْقِيلَ بْنَ بُوذَى وَهُوَ ابْنُ الْعَجُوزِ (5) وَهُوَ الَّذِي دَعَا لِلْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الله في كتابه
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) تاريخ الطبري: ج 1 / 226 و 237 دار القاموس الحديث.
(3) قال صاحب مروج الذهب 1 / 49: ووجدت في نسخة أن القائم في بني إسرائيل بعد وفاة يوشع بن نون كوشان الكفري، وأنه أقام فيهم ثمانين سنة.
(4) في المسعودي: مروج الذهب: فنحاص بن العازر بن هارون.
(5) سمي بابن العجوز: لان أمه سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله لها.
[*]
(2/3)
فِيمَا بَلَغَنَا: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَرُّوا مِنَ الْوَبَاءِ فَنَزَلُوا بِصَعِيدٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فَمَاتُوا جَمِيعًا فَحَظَرُوا عَلَيْهِمْ حَظِيرَةً دُونَ السِّبَاعِ فَمَضَتْ عَلَيْهِمْ دُهُورٌ طَوِيلَةٌ فَمَرَّ بِهِمْ حِزْقِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ مُتَفَكِّرًا فَقِيلَ لَهُ أَتُحِبُّ أَنْ يَبْعَثَهُمُ اللَّهُ وَأَنْتَ تَنْظُرُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَأُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ تِلْكَ الْعِظَامَ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا وَأَنْ يَتَّصِلَ الْعَصَبُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَنَادَاهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ فَقَامَ الْقَوْمُ أَجْمَعُونَ وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس وَعَنْ مُرَّةَ [الهمدانيّ] عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) قَالُوا: كَانَتْ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا دَاوَرْدَانُ قِبَلَ وَاسِطَ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فنزلوا ناحية منها فهلك [أكثر] مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الْآخَرُونَ فَلَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ كَثِيرٌ فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا سَالِمِينَ فَقَالَ الَّذِينَ بَقُوا أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا بَقِينَا وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً لَنَخْرُجَنَّ مَعَهُمْ فَوَقَعَ فِي قَابِلٍ فَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا حَتَّى نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ وَهُوَ وَادٍ أَفْيَحُ فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ أَنْ
مُوتُوا فَمَاتُوا حَتَّى إِذَا هَلَكُوا وَبَقِيَتْ أَجْسَادُهُمْ مَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حِزْقِيلُ فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِيهِمْ وَيَلْوِي شِدْقَيْهِ وَأَصَابِعَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ [يا حزقيل] تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ قَالَ: نَعَمْ وَإِنَّمَا كَانَ تَفَكُّرُهُ أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ: نَادِ فَنَادَى: يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى كَانَتْ أَجْسَادًا مِنْ عِظَامٍ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ نادِ يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا فَاكْتَسَتْ لَحْمًا وَدَمًا وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا.
ثُمَّ قِيلَ لَهُ نَادِ فَنَادَى: أَيَّتُهَا الْأَجْسَادُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي فَقَامُوا.
قَالَ أَسْبَاطٌ: فَزَعَمَ منصور [بن المعتمر] عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ أُحْيُوْا: (سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَحْيَاءً يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْتَى سَحْنَةَ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عاد رسماً حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمُ الَّتِى كُتِبَتْ لَهُمْ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّهم كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَعَنْهُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ تِسْعَةَ آلَافٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ أَذَرِعَاتٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ هَذَا مَثَلٌ يَعْنِي أَنَّهُ سِيقَ مَثَلًا مُبَيِّنًا " أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ " وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَقْوَى أَنَّ هَذَا وَقَعَ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَاحِبَا الصَّحيح مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ [عَبْدِ اللَّهِ بْنِ] الْحَارِثِ بْنِ نوفل، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
__________
(1) روى الطبري الخبر في تاريخه ج 1 / 237 - 238.
وما بين معكوفين في الخبر زيادة من الطبري.
[*]
(2/4)
الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ (1) لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ (2) أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ (3) وَقَعَ بِالشَّامِ.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ يَعْنِي فِي مُشَاوَرَتِهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا بِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلماً سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ " (4) .
فَحَمِدَ الله عمر ثم انصرف.
وقال الإمام: حدثنا حجاج ويزيد
المفتي (5) قالا: حدثنا ابن أبي ذؤيب عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَخْبَرَ عُمَرُ وَهُوَ فِي الشَّامِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ هَذَا السَّقَمَ عُذِّبَ بِهِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ فَرَجَعَ عُمَرُ مِنَ الشَّامِ " (6) .
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا مُدَّةَ لُبْثِ حِزِقْيلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَهُ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا قُبِضَ نَسِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ بَعْلٌ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ بْنَ يَاسِيَنَ بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ.
قُلْتُ وَقَدْ قَدَّمْنَا قِصَّةَ إِلْيَاسَ تَبَعًا لِقِصَّةِ الْخَضِرِ لِأَنَّهُمَا يُقْرَنَانِ فِي الذِّكْرِ غَالِبًا وَلِأَجْلِ أَنَّهَا بَعْدَ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فَتَعَجَّلْنَا قِصَّتَهُ لِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ ثُمَّ تَنَبَّأَ فِيهِمْ بَعْدَ إِلْيَاسَ وَصِّيُهُ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذِهِ:
قِصَّةُ الْيَسَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) [الْأَنْعَامِ: 86] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ) [ص: 48] قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَبُو حُذَيْفَةَ أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ بَعْدَ إِلْيَاسَ الْيَسَعُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَمَكَثَ ما شاء الله أن يمكث يدعوهم
__________
(1) سرغ: هي قرية في طرف الشام مما يلي الحجاز.
(2) المراد بالاجناد هنا: مدن الشمس الخمس - وهي فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين قال الامام النووي: هكذا فسروه واتفقوا عليه.
(3) الوباء: قال الخليل وغيره: الطاعون.
قالوا: وكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعون والوباء الذي وقع بالشام زمن عمر كان طاعونا وهو طاعون عمواس وهي قرية معروفة بالشام.
(4) أخرجه مسلم في 39 كتاب السلام 32 باب الطاعون 98 / 2219 وأخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 194 والبخاري
حديث رقم 2259.
(5) هو يزيد بن أبي حبيب، سمي بالمفتي لانه كان مفتي أهل مصر كما قال ابن سعد.
(6) مسند أحمد ج 1 / 193 ومسلم 39 / 32 / 100 / 2219.
[*]
(2/5)
إِلَى اللَّهِ مُسْتَمْسِكًا بِمِنْهَاجِ إِلْيَاسَ وَشَرِيعَتِهِ حَتَّى قبضه الله عزوجل إليه ثم خلف فيهم الخلوء؟ ؟ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْخَطَايَا وَكَثُرَتِ الْجَبَابِرَةُ وَقَتَلُوا الأنبياء وكان فيهم ملك عَنِيدٌ طَاغٍ.
وَيُقَالُ إِنَّهُ الَّذِي تَكَفَّلَ لَهُ ذو الكفل إن هو تاب ورجع دَخَلَ الْجَنَّةَ فَسُمِّى ذَا الْكِفْلِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ.
وَقَالَ الحافظ أبو القسم بْنُ عَسَاكِرَ فِي حَرْفِ الْيَاءِ مِنْ تَارِيخِهِ: الْيَسَعُ وَهُوَ الْأَسْبَاطُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ شُوتَلْمَ بْنِ أَفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ.
وَيُقَالُ هُوَ ابْنُ عَمِّ إِلْيَاسَ النَّبِيِّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَيُقَالُ كَانَ مُسْتَخْفِيًا مَعَهُ بِجَبَلِ قَاسِيُونَ مِنْ مَلِكِ بَعْلَبَكَّ ثُمَّ ذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهَا فَلَمَّا رُفِعَ إِلْيَاسُ خَلَفَهُ الْيَسَعُ فَى قَوْمِهِ وَنَبَّأَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ.
ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ.
قَالَ وقال غيره وكان بِبَانْيَاسَ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ قِرَاءَةَ مَنْ قرأ اليسع بالتخفيف وبالتشديد ومن قرأ والليسع وَهُوَ اسْمٌ وَاحِدٌ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
قُلْتُ قد قدمنا قصة ذا الْكِفْلِ بَعْدَ قِصَّةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (1) وَغَيْرُهُ ثُمَّ مَرَجَ أمر بني إسرائيل وعظمت منهم الخطوب وَالْخَطَايَا وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَدَلَ الْأَنْبِيَاءِ مُلُوكًا جَبَّارِينَ يَظْلِمُونَهُمْ وَيَسْفِكُونَ دِمَاءَهُمْ وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَيْضًا وَكَانُوا إِذَا قَاتَلُوا أَحَدًا مِنَ الْأَعْدَاءِ يَكُونُ مَعَهُمْ تَابُوتُ الْمِيثَاقِ الَّذِي كَانَ فِي قُبَّةِ الزَّمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَكَانُوا يُنْصَرُونَ بِبَرَكَتِهِ وَبِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ السِّكِّينَةِ وَالْبَقِيَّةِ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِمْ مَعَ أهل غزة وعسقلان غلبوهم وَقَهَرُوهُمْ عَلَى أَخْذِهِ فَانْتَزَعُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ مَلِكُ بَنِي إسْرائِيلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَالَتْ عُنُقُهُ فَمَاتَ
كَمَدًا وَبَقِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَالْغَنَمِ بِلَا راعٍ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُقَالُ لَهُ شَمْوِيلُ فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَلِكًا لِيُقَاتِلُوا مَعَهُ الْأَعْدَاءَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ مِمَّا قصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
قَالَ ابْنُ جرير فكان من وَفَاةِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ إِلَى أَنَّ بَعْثَ الله عزوجل شَمْوِيلَ بْنَ بَالَى أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً.
ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَهَا بِمُدَدِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مُلِّكُوا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا تَرَكْنَا ذِكْرَهُمْ قَصْدًا.
قصة شمويل عليه السلام وفيها بدأ أمر داود عليه السلام هو شمويل ويقال له أَشْمَوِيلُ بْنُ بَالَى بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ يَرْخَامَ بْنِ أَلْيَهْوَ بْنِ تَهْوِ بْنِ صُوفَ بْنِ
__________
(1) تاريخ الطبري 1 / 243 روى الخبر مطولا.
[*]
(2/6)
عَلْقَمَةَ بْنِ مَاحِثَ بْنِ عَمُوصَا بْنِ عِزْرِيَا.
قال مقاتل وهو من ورثة هَارُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ أَشْمَوِيلُ بْنُ هَلْفَاقَا (1) وَلَمْ يَرْفَعْ فِي نَسَبِهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَكَى السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالثَّعْلَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ أنَّه لمَّا غَلَبَتِ الْعَمَالِقَةُ مِنْ أَرْضِ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَوْا مِنْ أَبْنَائِهِمْ جَمْعًا كَثِيرًا وَانْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ سِبْطِ لَاوِي وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى فَجَعَلَتْ تَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهَا وَلَدًا ذَكَرًا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ أَشْمَوِيلَ وَمَعْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ (2) إِسْمَاعِيلُ أَيْ سَمْعِ اللَّهُ دُعَائِي فَلَمَّا تَرَعْرَعَ بَعَثَتْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَسْلَمَتْهُ عِنْدَ رَجُلٍ صَالِحٍ فِيهِ يَكُونُ عِنْدَهُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْ خَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ فَكَانَ عِنْدَهُ فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ إِذَا صَوْتٌ يَأْتِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَانْتَبَهَ مَذْعُورًا، فَظَنَّهُ الشَّيْخُ يَدْعُوهُ فَسَأَلَهُ: أَدَعَوْتَنِي؟ فَكَرِهَ أَنْ يُفْزِعَهُ فَقَالَ: نَعَمْ.
نَمْ، فَنَامَ.
ثُمَّ نَادَاهُ الثَّانِيَةَ فَكَذَلِكَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَإِذَا جِبْرِيلُ يَدْعُوهُ فَجَاءَهُ فَقَالَ إنَّ ربَّك قَدْ بَعَثَكَ إِلَى قَوْمِكَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ مَا قصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنهم ملاقوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 246 - 251) .
قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ نَبِيُّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ شَمْوِيلَ.
وَقِيلَ شَمْعُونُ وَقِيلَ هُمَا وَاحِدٌ وَقِيلَ يُوشَعُ وَهَذَا بَعِيدٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أن بين
__________
(1) وقال المسعودي في مروج الذهب: شمويل بن بروحان بن ناحور.
(2) قال ابن قتيبة في المعارف: ص 20 اشماويل بن هلقانا وهو اسماعيل بالعربية واسم أمه حنة لم يكن بينه وبين يوشع بن نون نبي وهو الذي ذكره الله عزوجل في القرآن حين قال: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) .
[*]
(2/7)
مَوْتِ يُوشَعَ وَبَعْثَةِ شَمْوِيلَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَمَّا أَنْهَكَتْهُمُ الْحُرُوبُ وَقَهْرَهُمُ الْأَعْدَاءُ سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُنَصِّبَ لَهُمْ مَلِكًا يَكُونُونَ تَحْتَ طَاعَتِهِ لِيُقَاتِلُوا مِنْ وَرَائِهِ وَمَعَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَعْدَاءَ.
فَقَالَ لَهُمْ: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سبيل الله) [البقرة: 246] أي وأي شي يَمْنَعُنَا مِنَ الْقِتَالِ (وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) يَقُولُونَ نَحْنُ مَحْرُوبُونَ مَوْتُورُونَ، فَحَقِيقٌ لَنَا أَنْ نقاتل عن أبنائنا المنهورين الْمُسْتَضْعَفِينَ فِيهِمْ الْمَأْسُورِينَ فِي قَبْضَتِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة: 246] كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ النَّهْرَ مَعَ الْمَلِكِ إِلَّا الْقَلِيلُ وَالْبَاقُونَ رَجَعُوا وَنَكَلُوا عَنِ الْقِتَالِ (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً) قال الثعلبي وهو طالوت بن قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بْنِ أَفِيحَ بْنِ أَنِيسَ بْنِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ (1) .
قَالَ عكرمة والسدي كان سقاءاً وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ دَبَّاغًا.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ (2) فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلِهَذَا: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ فِي سِبْطِ لَاوِي وَأَنَّ الْمُلْكَ كَانَ فِي سِبْطِ يَهُوذَا فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ نَفَرُوا مِنْهُ وَطَعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا نَحْنُ أحق بالملك منه و [قد] (3) ذكروا أَنَّهُ فَقِيرٌ لَا سِعَةَ مِنَ الْمَالِ مَعَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مَلِكًا؟ (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) .
قِيلَ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْحَى إِلَى شَمْوِيلَ أَنَّ أَيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ طُولُهُ عَلَى طُولِ هَذِهِ الْعَصَا وَإِذَا حَضَرَ عِنْدَكَ يَفُورُ هَذَا الْقَرْنُ (4) الَّذِي فِيهِ مِنْ دُهْنِ الْقُدْسِ فَهُوَ مِلْكُهُمْ فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ وَيَقِيسُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتِلْكَ الْعَصَا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى طُولِهَا سِوَى طَالُوتَ وَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ شَمْوِيلَ فَارَ ذلك القرن فدهنه منه وعينه للملك (5) عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً في العلم) قِيلَ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ وَقِيلَ بَلْ مُطْلَقًا (وَالْجِسْمِ) قِيلَ الطُّولُ وَقِيلَ الْجَمَالُ وَالظَّاهِرُ مِنَ
__________
(1) في مروج الذهب 1 / 51: طالوت وهو ساود بن بشر بن أنيال بن طرون بن بحرون بن أفيح بن سميداح بن فالح بْنِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبراهيم عليهم السلام.
وفي كامل ابن الأثير: وهو بالسريانية: شاول بن قيس بن انمار بن ضرار بن يحرف بن يفتح بن ايش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق.
(2) جاء في القرطبي - أحكام القرآن: وقيل كان مكاريا.
وكان عالما.
(3) سقطت قد - من نسخ البداية المطبوعة.
(4) القرن: بالتحريك: الجعبة من جلود تكون مشقوقة ثم تخرز.
(5) في نسخة: الملك.
[*]
(2/8)
السِّيَاقِ أَنَّهُ كَانَ أَجْمَلَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) فَلَهُ الْحُكْمُ وَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 248] وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَرَكَةِ وِلَايَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ عَلَيْهِمْ وَيُمْنِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّابُوتَ الَّذِي كَانَ سُلِبَ مِنْهُمْ وَقَهْرَهُمُ الْأَعْدَاءُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانُوا يُنْصَرُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ بِسَبَبِهِ (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قيل طشت مِنْ ذَهَبٍ كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ صُدُورُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقِيلَ السِّكِّينَةُ مِثْلُ الرِّيحِ الْخَجُوجِ، وَقِيلَ صُورَتُهَا مِثْلُ الْهِرَّةِ إِذَا صَرَخَتْ فِي حَالِ الْحَرْبِ أَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنَّصْرِ (1) (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) قيل كان فيه رضاض (2) الالواح وشئ من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ تَأْتِيكُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ يَحْمِلُونَهُ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ عِيَانًا لِيَكُونَ آيَةً لِلَّهِ عَلَيْكُمْ وَحُجَّةً بَاهِرَةً عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُهُ لَكُمْ وَعَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ هَذَا الْمَلِكِ الصَّالِحِ عَلَيْكُمْ وَلِهَذَا قَالَ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ الْعَمَالِقَةُ عَلَى هَذَا التَّابُوتِ وَكَانَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنَ السِّكِّينَةِ وَالْبَقِيَّةِ الْمُبَارَكَةِ.
وَقِيلَ كَانَ فِيهِ التَّوْرَاةُ أَيْضًا فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي أَيْدِيهِمْ وَضَعُوهُ تَحْتَ صَنَمٍ لَهُمْ بِأَرْضِهِمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا التَّابُوتُ عَلَى رَأْسِ الصَّنَمِ فَوَضَعُوهُ تَحْتَهُ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي إِذَا التَّابُوتُ فَوْقَ الصَّنَمِ فَلَمَّا تَكَرَّرَ هَذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِمْ وَجَعَلُوهُ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَأَخَذَهُمْ دَاءٌ فِي رِقَابِهِمْ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ هَذَا جَعَلُوهُ فِي عَجَلَةٍ وَرَبَطُوهَا فِي بَقَرَتَيْنِ وَأَرْسَلُوهُمَا فَيُقَالُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ سَاقَتْهُمَا حتى جاؤوا بِهِمَا مَلَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ كَمَا أَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ
عَلَى أَيِّ صِفَةٍ جَاءَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كانت تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم بالجنود مِنَ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) [البقرة: 249] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا النَّهْرُ هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنِّ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالشَّرِيعَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ بِجُنُودِهِ عِنْدَ هَذَا النَّهْرِ عَنْ أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ لَهُ عَنْ أمر الله له اختباراً وامتحاناً أن
__________
(1) قال القرطبي: 3 / 249: قال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الانبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى.
(2) رضاض الشئ فتاته.
وفي بقية: أقوال: - قال ابن عباس: عصا موسى وعصا هارون ورضاض الالواح.
- قال الثوري: قفيز من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون.
- الضحاك: البقية: الجهاد وقتال الاعداء.
[*]
(2/9)
من شرب من هذا النهر فَلَا يَصْحَبُنِي فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَلَا يَصْحَبُنِي إِلَّا مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ إِلَّا غُرْفَةً (1) فِي يَدِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) .
قَالَ السُّدِّيُّ كَانَ الْجَيْشُ ثَمَانِينَ أَلْفًا فَشَرِبَ منه ستة وسبعون ألفاً فبقي معه أَرْبَعَةُ آلَافٍ كَذَا قَالَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ وَزُهَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلثمائة مُؤْمِنٍ (2) .
وَقَوْلُ السُّدِّيِّ أَنَّ عِدَّةَ الْجَيْشِ كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَرْضَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا جَيْشُ مُقَاتِلَةٍ يَبْلُغُونَ ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) [البقرة: 249] أَيِ اسْتَقَلُّوا أَنْفُسَهُمْ وَاسْتَضْعَفُوهَا عَنْ مُقَاوَمَةِ
أَعْدَائِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِ عدوهم: (قَالَ الَّذِينَ يظنون أنهم ملاقوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249] يعني بها الفرسان مِنْهُمْ.
وَالْفُرْسَانُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ الصَّابِرُونَ عَلَى الْجِلَادِ وَالْجِدَالِ وَالطِّعَانِ.
(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 250] طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ إِنْ يُفْرِغَ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ أَيْ يَغْمُرَهُمْ بِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ فَتَسْتَقِرَّ قُلُوبُهُمْ وَلَا تَقْلَقَ وَأَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ فِي مَجَالِ الْحَرْبِ وَمُعْتَرَكِ الْأَبْطَالِ وَحَوْمَةِ الْوَغَى وَالدُّعَاءِ إِلَى النِّزَالِ فَسَأَلُوا التَّثَبُّتَ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ بِآيَاتِهِ وَآلَائِهِ فَأَجَابَهُمُ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِلَى مَا سَأَلُوا وَأَنَالَهُمْ مَا إِلَيْهِ فِيهِ رَغِبُوا وَلِهَذَا قَالَ: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) أَيْ بِحَوْلِ اللَّهِ لَا بِحَوْلِهِمْ وَبِقُوَّةِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ لَا بِقُوَّتِهِمْ وَعَدَدِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ وَكَمَالِ عَدَدِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 133] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) [البقرة: 251] فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَجَاعَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ قَتَلَهُ قَتْلًا أَذَلَّ (3) بِهِ جنده وكسره وَلَا أَعْظَمَ مِنْ غَزْوَةٍ يَقْتُلُ فِيهَا مَلِكٌ عَدُوَّهُ فَيَغْنَمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ وَيَأْسِرُ الْأَبْطَالَ وَالشُّجْعَانَ وَالْأَقْرَانَ وَتَعْلُو كَلِمَةُ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَوْثَانِ وَيُدَالُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ عَلَى أَعْدَائِهِ.
وَيَظْهَرُ
__________
(1) بين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية ; والمغترف بيده غرفة: الآخذ منها قدر الحاجة وقال بعض المفسرين الغرفة بالكف الواحد، والغرفة: بالكفين.
(2) قال الطبري 1 / 243: عبر معه منهم أربعة آلاف ورجع ستة وسبعون ألفاً ولما نظروا إلى جالوت رجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون وخلص في ثلثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر - وفي رواية وثلاثة عشر - وما جاز معه إلا مؤمن.
(3) قال القرطبي: كان داود رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده.
[*]
(2/10)
الدِّينُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَوْلِيَائِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ فِيمَا يَرْوِيهِ إنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَصْغَرَ أَوْلَادِ أَبِيهِ وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذَكَرًا كَانَ سَمِعَ طَالُوتُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يُحَرِّضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَتْلِ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ وَهُوَ يَقُولُ مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ زَوَّجْتُهُ بِابْنَتِي وَأَشْرَكْتُهُ فِي مُلْكِي وَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْمِي بِالْقَذَّافَةِ وَهُوَ الْمِقْلَاعُ رَمْيًا عَظِيمًا فينا هُوَ سَائِرٌ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ نَادَاهُ حَجَرٌ: أَنْ خُذْنِي فَإِنَّ بِي تَقْتُلُ جَالُوتَ فَأَخَذَهُ ثُمَّ حَجَرٌ آخَرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ آخَرُ كَذَلِكَ، فَأَخَذَ الثَّلَاثَةَ فِي مِخْلَاتِهِ فلمَّا تَوَاجَهَ الصفَّان بَرَزَ جَالُوتُ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ دَاوُدُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَإِنِّي أَكْرَهُ قَتْلَكَ، فَقَالَ: لَكِنِّي أُحِبُّ قَتْلَكَ، وَأَخَذَ تِلْكَ الأحجار الثلاثة فَوَضَعَهَا فِي الْقَذَّافَةِ ثُمَّ أَدَارَهَا فَصَارَتِ الثَّلَاثَةُ حَجَرًا وَاحِدًا.
ثُمَّ رَمَى بِهَا جَالُوتَ فَفَلَقَ (1) رَأَسَهُ وَفَرَّ جَيْشُهُ مُنْهَزِمًا فَوَفَّى (2) لَهُ طَالُوتُ بِمَا وَعَدَهُ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَأَجْرَى حُكْمَهُ فِي مُلْكِهِ، وَعَظُمَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحَبُّوهُ، وَمَالُوا إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ طَالُوتَ، فَذَكَرُوا أَنَّ طَالُوتَ حَسَدَهُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ وَاحْتَالَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْعُلَمَاءُ يَنْهَوْنَ طَالُوتَ عَنْ قَتْلِ دَاوُدَ فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ.
ثُمَّ حَصَلَ لَهُ تَوْبَةٌ وَنَدَمٌ وَإِقْلَاعٌ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُ وَجَعَلَ يُكْثِرُ مِنَ الْبُكَاءِ وَيَخْرُجُ إِلَى الْجَبَّانَةِ فَيَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ الثَّرَى بِدُمُوعِهِ فَنُودِيَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْجَبَّانَةِ: أَنْ يَا طَالُوتُ قَتَلْتَنَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ وَآذَيْتَنَا وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ فَازْدَادَ لِذَلِكَ بُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ وَاشْتَدَّ وَجَلُهُ ثُمَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ عَالِمٍ يَسْأَلُهُ عَنْ أَمْرِهِ، وَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: وَهَلْ أَبْقَيْتَ عَالِمًا؟ حَتَّى دُلَّ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْعَابِدَاتِ فَأَخَذَتْهُ فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى قَبْرِ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا: فَدَعَتِ اللَّهَ فَقَامَ يُوشَعُ مِنْ قَبْرِهِ فَقَالَ: أَقَامَتِ الْقِيَامَةُ؟ فَقَالَتْ: لَا وَلَكِنَّ هَذَا طَالُوتُ يَسْأَلُكَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَنْخَلِعُ مِنَ الْمُلْكِ وَيَذْهَبُ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ، ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا.
فَتَرَكَ الْمُلْكَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَهَبَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ فَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلُوا (3) قَالُوا فَذَلِكَ قوله: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) [البقرة: 251] هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ (4) مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ بِإِسْنَادِهِ.
وَفِي بَعْضِ هَذَا نَظَرٌ وَنَكَارَةٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحق: النَّبيّ الَّذِي بُعِثَ فَأَخْبَرَ طَالُوتَ بِتَوْبَتِهِ هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ حَكَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ: أَنَّهَا أَتَتْ بِهِ إِلَى قَبْرِ أَشْمَوِيلَ فَعَاتَبَهُ عَلَى مَا صَنَعَ بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ وَهَذَا أَنْسَبُ.
وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا رَآهُ فِي النَّوْمِ لَا أَنَّهُ قَامَ مِنَ الْقَبْرِ حَيًّا فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ وَتِلْكَ
__________
(1) في الطبري: فنقبت رأسه.
(2) ذكر المسعودي: أن طالوت أبى أن يفي لداود بما تقدم من شرطه.
فلما رأى ميل الناس إليه زوجه ابنته، وسلم إليه ثلت الجباية، وثلث الحكم وثلث الناس مروج الذهب 1 / 52.
(3) ذكر المسعودي أنه مات على سرير ملكه ليلة كمدا.
(4) تاريخ الطبري ج 1 / 245 - 246.
[*]
(2/11)
المرأة لم تكن نبية والله أعلم.
وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُدَّةَ مُلْكِ طَالُوتَ إلى أن قتل مع أولاده أربعون (1) سنة فالله أعلم.
قصة داود وَمَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ [وَذِكْرُ] (2) فَضَائِلِهِ وَشَمَائِلِهِ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِهِ هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا بن عويد بن عابر بْنِ سَلَمُونَ بْنِ نَحْشُوَنَ بْنِ عَوِينَاذَبَ بْنِ إرم (3) بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَبْدُ اللَّهِ وَنَبِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحق عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصِيرًا أَزْرَقَ العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه.
تُقُدِّمَ أنَّه لَمَّا قَتَلَ جَالُوتَ وَكَانَ قَتْلُهُ له فيما ذكره ابْنُ عَسَاكِرَ عِنْدَ قَصْرِ أُمِّ حَكِيمٍ بِقُرْبِ مَرْجِ الصُّفَّرِ (4) فَأَحَبَّتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَمَالُوا إِلَيْهِ وَإِلَى مُلْكِهِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ مَا كَانَ وَصَارَ الْمُلْكُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ بين خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ الْمُلْكُ يَكُونُ فِي سِبْطٍ والنبوة في آخَرَ فَاجْتَمَعَ فِي دَاوُدَ هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ.
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251] أَيْ لَوْلَا إِقَامَةُ الْمُلُوكِ حُكَّامًا عَلَى النَّاسِ لَأَكَلَ قَوِيُّ النَّاسِ ضَعِيفَهُمْ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي
بَعْضِ الْآثَارِ (السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ) .
وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: (إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ) .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ جَالُوتَ لَمَّا بَارَزَ طَالُوتَ فَقَالَ لَهُ اخْرُجْ إِلَيَّ وأخرج إِلَيْكَ فَنَدَبَ طَالُوتُ النَّاسَ فَانْتَدَبَ دَاوُدُ فَقَتَلَ جَالُوتَ.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فَمَالَ النَّاسُ إِلَى دَاوُدَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِطَالُوتَ ذِكْرٌ وَخَلَعُوا طَالُوتَ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ دَاوُدَ.
وَقِيلَ إِنَّ ذلك [كان] (5) عَنْ أَمْرِ شَمْوِيلَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ وَلَّاهُ قَبْلَ الْوَقْعَةِ (6) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (7) وَالَّذِي عليه
__________
(1) في مروج الذهب: عشرين سنة.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: ثم، وسقطت كلمة ذكر.
وقد ورد اسم داود في القرآن الكريم في ستة عشر موضعا: سورة البقرة: 251، سورة النساء: 163، سورة المائدة: 78، سورة الانعام: 84، سورة الاسراء: 55، سورة الانبياء: 78 - 79، سورة النمل: 15 - 16، سورة سبأ: 10 - 12، سورة ص: 20 - 22 - 24 - 26.
(3) في الطبري: باعز بدل عابر وعمي نادب بدل عويناذب ; ورام بدل إرم.
وفي الانجيل: إنجيل متى: هو داود بن يسى، بن عوبيد، بن بوعز، بن سلمون، بن نحشون، بن عمينا داب، بن ارام، بْنِ حَصَرُونَ بْنِ فَارَصَ بْنِ يَهُوذَا، بْنِ إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
(4) قال في مروج الذهب: كان ببيسان من أرض الغور من بلاد الأردن.
(5) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(6) وذكر ذلك أيضا ابن عساكر في تاريخه 5 / 190 تهذيب.
(7) انظر تاريخ الطبري 1 / 246.
وقال المسعودي: إن داود أبى أن تنافس طالوت في حكمه.
[*]
(2/12)
الجمهور: أنَّه إنما ولي ذلك بَعْدَ قَتْلِ جَالُوتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ قَتْلَهُ جَالُوتَ كَانَ عِنْدَ قَصْرِ أَمِّ حَكِيمٍ وَأَنَّ النَّهْرَ الَّذِي هُنَاكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سَبَأٍ: 11] وَقَالَ تَعَالَى:
(وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الانبياء: 79] .
أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال: (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي لا تدق المسمار فيفلق وَلَا تُغَلِّظْهُ فَيَفْصِمَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ وعكرمة.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ يَفْتِلُهُ بِيَدِهِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَارٍ وَلَا مِطْرَقَةٍ.
قَالَ قَتَادَةُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ الدُّرُوعَ مِنْ زَرَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ صَفَائِحَ، قَالَ ابْنُ شَوْذَبٍ: كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعًا يَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَدْ ثبت في الحديث: " أَنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وإنَّ نبيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ " (1) وَقَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخطاب) [ص: 17] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ الْأَيْدُ الْقُوَّةُ فِي الطَّاعَةِ، يَعْنِي: ذَا قُوَّةٍ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَالَ قَتَادَةُ: أُعطي قُوَّةً فِي العبادة وفقهاً في الإسلام، قال: وقد ذكرنا لَنَا: أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى " (2) .
وَقَوْلُهُ: " إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) [ص: 18 - 19] كَمَا قَالَ: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ: 10] أَيْ سَبِّحِي مَعَهُ.
قَالَهُ ابْنُ عبَّاس وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) أَيْ عِنْدَ آخَرِ النَّهَارِ وَأَوَّلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَهَبَهُ مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيمِ مَا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ إِذَا تَرَنَّمَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِ يَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ يُرجع بِتَرْجِيعِهِ وَيُسَبَّحُ بِتَسْبِيحِهِ وَكَذَلِكَ الْجِبَالُ تُجِيبُهُ وتسبِّح مَعَهُ كُلَّمَا سَبَّحَ بُكْرَةً وعشياً
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب البيوع باب 15 كسب الرجل وعمل بيده وأحمد في مسنده 2 / 466 و 4 / 141 والدارمي في سننه كتاب البيوع.
وابن ماجة في تجارات 1 / 25.
بألفاظ ومن عدة طرق.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (13 / 181، 182 وما بعدها - 196) وأحمد في مسنده 1 / 314، 2 / 160، 164، 187، 190، 194، 195 - 5 / 296 والبخاري في صحيحه: 30 / 54، 56 - 60 / 37 - 66 / 34 - 79 - 38.
ورواه أبو داود وابن ماجه والدارمي والنسائي في سننهم.
وابن عساكر في تاريخه 5 / 192 - 193 تهذيب.
[*]
(2/13)
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: أُعْطِيَ دَاوُدُ مِنْ حُسن الصَّوْتِ مَا لَمْ يعطِ أَحَدٌ قط حتَّى أن كان الطير والوحش ينعكف حَوْلَهُ حَتَّى يَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا، وَحَتَّى إِنَّ الْأَنْهَارَ لَتَقِفُ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا حَجَلَ كَهَيْئَةِ الرَّقْصِ، وَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِصَوْتٍ لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ فَيَعْكُفُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالدَّوَابُّ عَلَى صَوْتِهِ حَتَّى يَهْلَكَ بَعْضُهَا جُوعًا.
وَقَالَ أَبُو عوانة الإسفراييني: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، سمعت صبيحاً أبا تراب (1) رحمه الله قال أبو عوانة: وحدثني أبو العباس المدني حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعَدَوِيُّ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ هُوَ ابْنُ حَاتِمٍ عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الزَّبُورِ تَفَتَّقَتِ الْعَذَارَى.
وَهَذَا غَرِيبٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْغِنَاءِ فَقَالَ: وَمَا بأس بذلك؟ سمعت عبيد بن عمر يَقُولُ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْخُذُ الْمِعْزَفَةَ فَيَضْرِبُ بِهَا فَيَقْرَأُ عَلَيْهَا فَتَرُدُّ عَلَيْهِ صَوْتَهُ يريد بذلك أن يبكي وتبكي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَقَالَ: " لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ " (2) .
وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرِّجاه مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: " لَقَدْ أُعْطِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ " (3) عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ (4) أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ الْبَرْبَطَ وَالْمِزْمَارَ، فَمَا سَمِعْتُ صَوْتًا أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
وَقَدْ كَانَ مَعَ هَذَا الصَّوْتِ الرَّخِيمِ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ لِكِتَابِهِ
الزَّبُورِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ فَتُسْرَجُ فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْرَجَ دَابَّتُهُ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، وَلَفْظُهُ: " خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عمل يديه " (5) .
ثم قال البخاري:
__________
(1) عبارة محرفة.
وفي نسخة البداية المطبوعة: انبئنا برادح وهي محرفة وصححت في قصص الأنبياء لابن كثير ; كما أثبتناه من نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية رقم تاريخ 3609 مصورة عن نسخة الاستانة.
(2) مسند أحمد ج 2 / 369 وابن ماجة في سننه.
ورواه الهيثمي في الزوائد وفيه: قلت أصله في الصحيحين من حديث أبي موسى ; في صحيح البخاري 66 / 30 / 5048 فتح الباري وفي مسلم من حديث بريدة 6 / 34 / 235 ورواه النسائي من حديث عائشة.
ورواه الدارمي في سننه من حديث أبي موسى.
(3) مسند أحمد ج 2 / 354.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: الترمذي وهو تحريف.
(5) مسند أحمد ج: 2 / 314، وصحيح البخاري 60 / 37 / 3417 فتح الباري.
[*]
(2/14)
وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ هُوَ ابْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طُرُقٍ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ السَّبْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ بِهِ.
والمراد بالقرآن ههنا الزبور الذي أنزله عليه، وأوحاه إليه، وذكر رواية أشبه أن يكون محفوظاً فإن كَانَ مَلِكًا لَهُ أَتْبَاعٌ، فَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبور بمقدار ما تسرج الدواب وهذ أَمْرٌ سَرِيعٌ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّرَنُّمِ وَالتَّغَنِّي بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخَشُّعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) [الاسراء: 55] وَالزَّبُورُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ وَذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ (1) مَا هو معروف لمن نظر فيه.
وقوله: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) أَيْ أَعْطَيْنَاهُ مُلْكًا عَظِيمًا وَحُكْمًا نَافِذًا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَقَرٍ.
ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ اغْتَصَبَهَا مِنْهُ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَرْجَأَ أَمْرَهُمَا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الْمُدَّعِيَ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ دَاوُدُ: إِنِ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَأَنَا قَاتِلُكَ لَا مَحَالَةَ فَمَا خَبَرُكَ فِيمَا ادَّعَيْتَهُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي لَمُحِقٌّ فِيمَا ادَّعَيْتُ عَلَيْهِ وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ أَبَاهُ قَبْلَ هذا فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ فَعَظُمَ أَمْرُ دَاوُدَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ جِدًّا وَخَضَعُوا لَهُ خُضُوعًا عظيماً.
قال ابن عباس وهو قوله تعالى: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ) وقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوة (2) (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قَالَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي وغيرهم فصل الخطاب الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (3) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ هُوَ إِصَابَةُ الْقَضَاءِ وَفَهْمُهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ الْفَصْلُ فِي الْكَلَامِ وَفِي الْحُكْمِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَوْلُ " أَمَّا بَعْدُ ".
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لَمَّا كَثُرَ الشَّرُّ وَشَهَادَاتُ الزُّورِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُعْطِيَ دَاوُدُ سِلْسِلَةٌ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ فَكَانَتْ مَمْدُودَةً مِنَ السَّماء إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِذَا تَشَاجَرَ الرَّجُلَانِ فِي حَقٍّ فَأَيُّهُمَا كَانَ مُحِقًّا نَالَهَا وَالْآخَرُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا لُؤْلُؤَةً فَجَحَدَهَا منه واتخذ عكازا
__________
(1) الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود.
وإنما هو دعاء تحميد وتمجيد.
(2) وقال مجاهد: أي العدل ; وأبو العالية: أي العلم بكتاب الله، وقال قتادة: السنة.
(3) رواه ابن عساكر في تاريخه 5 / 196 تهذيب وفي صحيح البخاري بنحوه 48 / 6 / 2514.
وفي رواية ابن عباس: (..أن اليمين على المدعى علية) ورواه مسلم في 30 كتاب الاقضية (1) باب اليمين على المدعى علية.
عن ابن عباس وفيه: ولكن اليمين على المدعى عليه.
حديث 1 - 2 ص 3 / 1336 / ورواه الترمذي في 13 / 12 / 1342.
[*]
(2/15)
وأودعها فيه فلما حضرا عند الصخرة تَنَاوَلَهَا الْمُدَّعِي فَلَمَّا قِيلَ لِلْآخَرِ خُذْهَا بِيَدِكَ عَمَدَ إِلَى الْعُكَّازِ فَأَعْطَاهُ الْمُدَّعِي وَفِيهِ تِلْكَ اللُّؤْلُؤَةُ وَقَالَ اللَّهم: إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّلْسِلَةَ فَنَالَهَا فَأَشْكَلَ أَمْرُهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
ثُمَّ رُفِعَتْ سَرِيعًا مِنْ بَيْنِهِمْ.
ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وقد رواه إسحق بْنُ بِشْرٍ عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ وهب به بمعناه.
(وَهَلْ أتاك نبؤ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ.
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص 21 - 25] .
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ والخلف ههنا قِصَصًا وَأَخْبَارًا أَكْثَرُهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ لَا مَحَالَةَ تَرَكْنَا إِيرَادَهَا فِي كِتَابِنَا قَصْدًا اكْتِفَاءً وَاقْتِصَارًا عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَةِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي سَجْدَةِ ص هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَوْ إِنَّمَا هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ، قَالَ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عبَّاس من أين سجدت قال أو ما تقرأ: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ) (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا اسمعيل هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ فِي السُّجُودِ فِي ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ.
وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا.
وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ
عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي ص وَقَالَ: " سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ السجدة تشزَّن الناس للسجود قفال [النبي صلى الله عليه وسلم] : " إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنْ رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ
(2/16)
للسجود] " فَنَزَلَ وَسَجَدَ (1) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ هُوَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو الصِّدِّيقِ النَّاجِي أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَأَى رُؤْيَا أَنَّهُ يَكْتُبُ ص فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى الَّتِي يَسْجُدُ بِهَا رَأَى الدَّوَاةَ وَالْقَلَمَ وكل شئ بِحَضْرَتِهِ انْقَلَبَ سَاجِدًا قَالَ فَقَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزَلْ يَسْجُدُ بِهَا بَعْدُ.
تفرَّد بِهِ أَحْمَدُ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي جَدُّكَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يارسول اللَّهِ إنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: وَهِيَ سَاجِدَةٌ: " اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتَ مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ " وَقَالَ ابْنُ عبَّاس فَرَأَيْتُ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَهُوَ سَاجِدٌ كَمَا حَكَى الرَّجُلُ عَنْ كَلَامِ الشَّجَرَةِ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا من هذ الوجه.
وقد ذكر بعض المفسرين أن عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَثَ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الرِّوَايَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص: 25] .
أي إن لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِزُلْفَى وَهِيَ الْقُرْبَةُ الَّتِي يُقَرِّبُهُ اللَّهُ بِهَا وَيُدْنِيهِ مِنْ حَظِيرَةِ قُدُسِهِ بسببها كما ثبت في حديث:
" الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ.
عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يُقْسِطُونَ فِي أَهْلِيهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمَا وَلُوا " (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاس إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ " (3) وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْأَغَرِّ بِهِ وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ فِي قَوْلِهِ: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) قال: يقوم دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا دَاوُدُ مَجِّدْنِي الْيَوْمَ بذلك الصوت
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة - باب السجود في ص حديث رقم 1410 ج 2 / 59.
- ما بين معكوفين في الحديث سقطت من نسخ البداية المطبوعة واستدركت من أبي داود.
- التشزن: قال في النهاية: التأهب والتهيؤ للشئ، والاستعداد له، مأخوذ من عرض الشئ وجانبه.
وقد وردت في نسخ البداية، تشرف وتشرفتم وهو تحريف.
واستدركت من أبي داود.
(2) أخرجه مسلم في 33 كتاب الامارة (5) باب فضيلة الامام العادل 18 / 1827 والنسائي في آداب القضاة وأحمد في مسنده ج 2 / 160.
(3) مسند أحمد ج 3 / 22، والترمذي في سننه 12 / 4 / 1329.
[*]
(2/17)
الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُ: وَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبْتُهُ؟ فَيَقُولُ إِنِّي أَرُدُّهُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، قَالَ: فَيَرْفَعُ دَاوُدُ بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.
[قال تَعَالَى] : (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26] هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ دَاوُدَ وَالْمُرَادُ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَحُكَّامُ النَّاسِ وَأَمْرُهُمْ بِالْعَدْلِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ لَا مَا سِوَاهُ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ وَتَوَعُّدُ مَنْ سَلَكَ غَيْرَ ذَلِكَ وَحَكَمَ
بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السلام هو المقتدى به في ذلك الوقت فِي الْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، حَتَّى إنه كان لا يمضي سَاعَةٌ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ، وَأَطْرَافِ النَّهَارِ إِلَّا وَأَهْلُ بَيْتِهِ فِي عِبَادَةٍ لَيْلًا وَنَهَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13] قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بسام، حدثنا صالح المزي (1) ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَبِي الْجَلْدِ قَالَ: قَرَأْتُ فِي مَسْأَلَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ لِي أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَنَا لَا أَصِلُ إِلَى شُكْرِكَ إِلَّا بِنِعْمَتِكَ؟ قَالَ فَأَتَاهُ الْوَحْيُ " أَنْ يَا دَاوُدُ ألست تَعَلَمُ أَنَّ الَّذِي بِكَ مِنَ النِّعَمِ مِنِّي قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَإِنِّي أَرْضَى بِذَلِكَ مِنْكَ ".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَاحِقٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ دَاوُدُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ، وَعِزِّ جَلَالِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّكَ أَتْعَبْتَ الْحَفَظَةَ يَا داود " وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنِ الثَّوْرِيِّ مِثْلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيَصْدُقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ عَلَى هَذِهِ السَّاعَاتِ وَإِجْمَامٌ لِلْقُلُوبِ، وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ زَمَانَهُ وَيَحْفَظَ لِسَانَهُ وَيُقْبِلَ عَلَى شَأْنِهِ، وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَظْعَنَ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: زَادٌ لِمَعَادِهِ، وَمَرَمَّةٌ لِمَعَاشِهِ، وَلَذَّةٌ فِي غير محرم.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنيا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْأَغَرِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَهُ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْهَيْثَمِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَغَرِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَهُ.
وَأَبُو الْأَغَرِّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَبْهَمَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رِوَايَتِهِ.
قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ ; وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَلِيحَةً مِنْهَا قَوْلُهُ كُنْ لليتيم كالاب
__________
(1) في نسخ البداية والنهاية: المزي وهو تحريف.
وما أثبتناه المري وهو: صالح بن بشير المري البصري.
[*]
(2/18)
الرَّحِيمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ.
وَرَوَى بِسَنَدٍ غَرِيبٍ مَرْفُوعًا قَالَ دَاوُدُ يَا زَارِعَ السَّيِّئَاتِ أَنْتَ تَحْصُدُ شَوْكَهَا وَحَسَكَهَا وَعَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ الْخَطِيبِ الْأَحْمَقِ فِي نَادِي الْقَوْمِ كَمَثَلِ الْمُغَنِّي عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَقْبَحَ الْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ الضَّلالة بَعْدَ الْهُدَى.
وَقَالَ انْظُرْ مَا تَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ عَنْكَ فِي نَادِي الْقَوْمِ فَلَا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ.
وَقَالَ لَا تَعِدَنَّ أَخَاكَ بِمَا لَا تُنْجِزُهُ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَدَاوَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عن عمر مولى عفرة قَالَ: قَالَتْ يَهُودُ لَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي لَا يَشْبَعُ مِنَ الطَّعَامِ وَلَا وَاللَّهِ مَا لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا إِلَى النِّسَاءِ حَسَدُوهُ لِكَثْرَةِ نِسَائِهِ وَعَابُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا رَغِبَ فِي النِّسَاءِ وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَسِعَتِهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَقَالَ: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء: 54] يَعْنِي بِالنَّاسِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [النساء: 54] يَعْنِي مَا آتَى اللَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَتْ له ألف امرأة سبعمائة مهرية (1) وثلثمائة سُرِّيَّةٌ، وَكَانَتْ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ (2) امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ امْرَأَةُ أُورْيَا أَمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْفِتْنَةِ، هَذَا أَكْثَرُ مِمَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ نَحْوَ هَذَا وَأَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ وَلِسُلَيْمَانَ أَلْفُ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ ثلثمائة سُرِّيَّةٌ.
وَرَوَى (3) الْحَافِظُ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي يَرْوِيِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ من طريق الفرج بن فضالة الْحِمْصِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحِمْصِيِّ، عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عبَّاس عَنِ الصِّيَامِ فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ بِحَدِيثٍ كَانَ عِنْدِي فِي البحث (4) مَخْزُونًا إِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ دَاوُدَ فَإِنَّهُ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، وَكَانَ شُجَاعًا لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بسبعين صوتا يكون فِيهَا وَكَانَتْ
لَهُ رَكْعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ يُبْكِي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شئ ويصرف بصوته الهموم وَالْمَحْمُومُ " (5) .
وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمِنْ وَسَطِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمِنْ آخِرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَسْتَفْتِحُ الشَّهْرَ بِصِيَامٍ وَوَسَطَهُ بِصِيَامٍ وَيَخْتِمُهُ بِصِيَامٍ.
وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ ابْنِ العذراء البتول عيسى بن مَرْيَمَ: فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ وَيَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا فَقَدَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يَمُوتُ، وَلَا بيت يخرب، وكان أينما أدركه الليل
__________
(1) مهرية: الزوجة ذات المهر.
(2) في رواية للطبري عن السدي: تسع وتسعون امرأة.
1 / 249.
(3) الحافظ ابن عساكر في تاريخه: 6 / 418 - 419 تهذيب.
(4) البحث: المعدن (قاموس) .
(5) أخرجه أحمد في مسنده ج 2 / 164 - 190.
[*]
(2/19)
صفَّ (1) بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَقَامَ يُصَلِّي حتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ رَامِيًا لَا يَفُوتُهُ صَيْدٌ يُرِيدُهُ وَكَانَ يَمُرُّ بِمَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقْضِي لَهُمْ حَوَائِجَهُمْ.
وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ أُمِّهِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمًا وَتُفْطِرُ يَوْمَيْنِ.
وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَقُولُ إِنَّ ذلك صوم الدهر.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي النصر عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي هَرِمٍ عَنْ صَدَقَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فِي صَوْمِ دَاوُدَ.
[ذِكْرُ] (2) كَمِّيَّةِ حَيَّاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ تقدَّم فِي ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ ظَهْرِهِ فَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يُزْهِرُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ عَامًا قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ.
قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ، وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ، فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ
الْمَوْتِ، فَقَالَ: بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَنَسِيَ آدَمُ مَا كَانَ وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ دَاوُدَ، فَأَتَمَّهَا اللَّهُ لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ وَلِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ.
رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي قِصَّةِ آدَمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ عُمُرَ دَاوُدَ كَانَ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً قُلْتُ هَذَا غَلَطٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ قَالُوا وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَذَا قَدْ يُقْبَلُ نَقْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا يُنَافِيهِ وَلَا مَا يَقْتَضِيهِ.
وَأَمَّا وَفَاتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا قبيصة، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بن عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَطَّلِبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: " كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتِ (3) الْأَبْوَابُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ قَالَ: فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتِ الدَّارُ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرجل والدار مغلقة، والله لنفتضحن بداود فجاء داود فإذا الرجل قائم في وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أَنْتَ؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب.
فقال داود أنت والله إذن ملك الموت مرحباً بأمر الله.
ثم مكث حتى قبضت روحه فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عَلَيْهِ الشَّمْسُ.
فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ: أَظِلِّي عَلَى داود.
فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير اقبضي
__________
(1) في نسخة صفن، وكلاهما بمعنى.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: أغلق وما أثبتناه من مسند أحمد.
[*]
(2/20)
جناحاً.
قال: قال أبو هريرة: " فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرينا كَيْفَ فَعَلَتِ الطَّيْرُ، وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ " (1) .
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ: أَيْ وَغَلَبَتْ عَلَى التَّظْلِيلِ عَلَيْهِ
الصُّقُورُ الطِّوَالُ الْأَجْنِحَةِ، وَاحِدُهَا مَضْرَحِيٌّ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ الصَّقْرُ الطَّوِيلُ الْجَنَاحِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَ داود عليه السلام فجأة وكان بسبت وَكَانَتِ الطَّيْرُ تُظِلُّهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ (2) عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَمَاتَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَجْأَةً (3) .
وَقَالَ أَبُو السَّكَنِ الْهَجَرِيُّ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ فَجْأَةً وَدَاوُدُ فَجْأَةً وَابْنُهُ سُلَيْمَانُ فَجْأَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَرَوَى عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَهُ وَهُوَ نَازِلٌ مِنْ مِحْرَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: دَعْنِي أَنْزِلُ أَوْ أصعد فقال: يا نبي الله قد نفدت السُّنُونُ وَالشُّهُورُ وَالْآثَارُ وَالْأَرْزَاقُ.
قَالَ: فَخَرَّ سَاجِدًا عَلَى مَرْقَاةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاقِي فَقَبَضَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا وَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْفِلَسْطِينِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنِ النَّاسَ حَضَرُوا جِنَازَةَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَلَسُوا فِي الشَّمْسِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ قَالَ: وَكَانَ قَدْ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَاهِبٍ عَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ سِوَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَمُتْ فِي بني إسرائيل بعد موسى وهرون أَحَدٌ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ جَزَعًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى دَاوُدَ، قَالَ: فَآذَاهُمُ الْحَرُّ فَنَادَوْا سليمان عليه السلام إن يعمل لهم وقاية لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحَرِّ فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَنَادَى الطير فأجابت، فأمرها أن تظل الناس فتراص بعضها إِلَى بَعْضٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى اسْتَمْسَكَتِ الرِّيحُ، فَكَادَ النَّاسُ أَنْ يَهْلِكُوا غَمًّا فَصَاحُوا إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْغَمِّ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَنَادَى الطَّيْرَ: أَنْ أَظِلِّي النَّاسَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمْسِ وَتَنَحِّي عَنْ نَاحِيَةِ الرِّيحِ فَفَعَلَتْ، فَكَانَ النَّاسُ فِي ظِلٍّ، وَتَهُبُّ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ فَكَانَ ذَلِكَ أوَّل مَا رَأَوْهُ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حدَّثني الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ مَا فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا وَلَقَدْ مَكَثَ أَصْحَابُ المسيح على سننه وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 419.
(2) وهو غير إسحاق بن يسار ; إسحاق بن بشر بن حذيفة البخاري صاحب " المبتدأ والفتوح ".
متروك.
كذبه علي بن المديني.
(3) قال الطبري: عمر داود فيما وردت به الاخبار عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة سنة.
وفي رواية للطبري: عن بعض أهل الكتب فإنه زعم أن عمره كان سبعاً وسبعين سنة وأن مدة ملكه كانت أربعين سنة.
[*]
(2/21)
رَفْعِهِ نَظَرٌ وَالْوَضِينُ بْنُ عَطَاءٍ كَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ سُلَيْمَانَ (1) بْنِ داود عليهما السلام
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ داود بن ايشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عمينا داب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (2) أبي الرَّبِيعِ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ.
جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ (3) .
قَالَ ابْنُ مَاكُولَا فَارْصُ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ وَذَكَرَ نَسَبَهُ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شئ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل: 16] أَيْ ورثه في النبوة والملك، وليس المراد ورثه في الْمَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ بَنُونَ غَيْرُهُ، فما كان ليخص بالمال دونهم، وأنه قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ " (4) وفي لفظ: " نحن مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " (5) .
فَأَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُورَثُ أَمْوَالُهُمْ عَنْهُمْ كَمَا يُورَثُ غَيْرُهُمْ بَلْ تَكُونُ أَمْوَالُهُمْ صَدَقَةً مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ لَا يَخُصُّونَ بِهَا أقرباؤهم لِأَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ وَأَحْقَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا هِيَ عِنْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) الآية يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْرِفُ مَا يتخاطب بِهِ الطُّيُورُ بِلُغَاتِهَا وَيُعَبِّرُ لِلنَّاسِ عَنْ مَقَاصِدِهَا وإرادتها.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ حمشاد (6) حدثنا اسمعيل بْنُ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ قُدَامَةَ، حدَّثنا أبو جعفر
الاستوائي (7) يعني محمد بن عبد الرحمن عن أبي يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ (8) ، حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ قَالَ: مرَّ
__________
(1) ذكر سليمان في القرآن ست عشرة مرة في: البقرة - النساء - الانعام - الانبياء - النمل - سبأ - ص.
(2) راجع التعليق على نسب داود، وقد تقدَّم قريباً.
(3) راجع تاريخ ابن عساكر ج 6 / 352 - 253 تهذيب.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه 85 / 3 / 6727 فتح الباري، وأخرجه مسلم في صحيحه 32 / 16 / 49 ومالك في الموطأ 56 / 12 / 27 والترمذي في سننه 22 / 44 / 1610 والنسائي في سننه وأحمد في مسنده 1 / 4، 6، 9، 25 - 2 / 463 - 6 / 145، 262.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الخمس، وفضائل أصحاب النبي (12) وفي المغازي (14، 38) وفي النفقات (3) وفي الفرائض (3) وفي كتاب الجهاد (49، 52، 54، 56) .
(6) في الاصول حشاد، وهو تحريف.
(7) في الاصول الاسواني وهو تحريف والصواب الاستوائي نسبة إلى اتسوا وهي كورة بنواحي نيسابور ذكره صاحب معجم البلدان وفيه: محمد بن بسطام بن الحسن الاستوائي وقد ولى قضاء نيسابور ودام له القضاء ولاولاده.
معجم البلدان ج 1 / 175.
(8) في الاصول: العمي، وهو أبو الحسن يعقوب بن عبد الله بن سعد بن مالك الاشعري القمي روى عن = [*]
(2/22)
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بِعُصْفُورٍ يَدُورُ حَوْلَ عُصْفُورَةٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ قَالُوا وَمَا يَقُولُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ يَخْطُبُهَا إِلَى نَفْسِهِ وَيَقُولُ زَوِّجِينِي أُسْكِنْكِ أَيَّ غُرَفِ دِمَشْقَ شِئْتِ.
قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ غُرَفَ دِمَشْقَ مَبْنِيَّةٌ بِالصَّخْرِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْكُنَهَا أَحَدٌ وَلَكِنْ كَلُّ خَاطِبٍ كَذَّابٌ.
رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ (1) : عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ زَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ بِهِ وَكَذَلِكَ مَا عَدَاهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شئ) أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ الْمَلِكُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِدَدِ وَالْآلَاتِ وَالْجُنُودِ وَالْجُيُوشِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنَ الجنِّ وَالْإِنْسِ وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ وَالشَّيَاطِينِ السَّارِحَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ ضَمَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ
النَّاطِقَاتِ وَالصَّامِتَاتِ ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي من بارئ البريات وخالق الأرض والسموات كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النَّمْلِ: 17 - 19] .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ وَابْنِ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فِي جَيْشِهِ جَمِيعِهِ مِنَ الجنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، فَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَسِيرُونَ مَعَهُ، وَالطَّيْرُ سَائِرَةٌ مَعَهُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا مِنَ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْجُيُوشِ الثَّلَاثَةِ وَزَعَةٌ أَيْ نُقَبَاءُ يَرُدُّونَ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ (2) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18] فَأَمَرَتْ وَحَذَّرَتْ وَاعْتَذَرَتْ عَنْ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ بِعَدَمِ الشُّعُورِ.
وَقَدْ ذَكَرَ وَهْبٌ أَنَّهُ مَرَّ وَهُوَ عَلَى الْبِسَاطِ بِوَادٍ (3) بِالطَّائِفِ وَأَنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ كان اسمها جرسا (4) وَكَانَتْ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الشَّيْصَبَانِ وَكَانَتْ عَرْجَاءَ وَكَانَتْ بِقَدْرِ الذِّئْبِ.
وَفِي هَذَا كُلِّهِ نَظَرٌ بَلْ فِي هَذَا السِّيَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْكِبِهِ رَاكِبًا فِي خُيُولِهِ وَفُرْسَانِهِ لَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ عَلَى الْبِسَاطِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنَلِ النَّمْلَ مِنْهُ شئ ولا وطئ لأن البساط كان عليه جميع ما
__________
= عيسى بن جابر وروى عنه أبو الربيع الزهراني وغيره توفي بقزوين سنة 74 معجم البلدان 4 / 398.
(1) تاريخ ابن عساكر 6 / 253 تهذيب.
(2) قال القرطبي في أحكام القرآن ج 13 / 168 وفي الآية دليل على اتخاذ الامام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ; إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
(3) وادي السرير.
(4) قال في أحكام القرآن: قيل كان اسمها: طاخية.
وقال السهيلي: " قالوا اسمها حرميا.
ولا أدري كيف
يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا.
[*]
(2/23)
يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْجُيُوشِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ وَالْأَثْقَالِ وَالْخِيَامِ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرُ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ أنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ مَا خَاطَبَتْ بِهِ تِلْكَ النَّمْلَةُ لِأُمَّتِهَا مِنَ الرَّأْيِ السَّدِيدِ، وَالْأَمْرِ الْحَمِيدِ، وَتَبَسَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْشَارِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ، مِنْ أَنَّ الدَّوَابَّ كَانَتْ تَنْطِقُ قَبْلَ سُلَيْمَانَ، وَتُخَاطِبُ النَّاسَ حَتَّى أَخَذَ عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَهْدَ وَأَلْجَمَهَا، فَلَمْ تَتَكَلَّمْ مَعَ النَّاس بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَلَوْ كَانَ هَذَا هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِسُلَيْمَانَ فِي فَهْمِ لُغَاتِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ قَدْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَفْهَمُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهَا الْعَهْدَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ مَعَ غَيْرِهِ وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُهَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا أَيْضًا فَائِدَةٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا قَالَ: (رَبِّ أَوْزِعْنِي) أَيْ أَلْهِمْنِي وَأَرْشِدْنِي: (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ إِنْ يُقَيِّضَهُ لِلشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَأَنْ يَحْشُرَهُ إِذَا تَوَفَّاهُ مَعَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ.
وَالْمُرَادُ بِوَالِدَيْهِ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمُّهُ وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَتْ أَمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ: يَا بَنِيَّ لَا تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَدَعُ الْعَبْدَ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (1) عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ عَنْهُ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَسْقُونَ فَرَأَى نَمْلَةً قَائِمَةً رَافِعَةً إِحْدَى قَوَائِمِهَا تَسْتَسْقِي فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ إِنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ اسْتَسْقَتْ فَاسْتُجِيبَ لَهَا.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ (2) : وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سُلَيْمَانُ ثمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَزِيزٍ، عَنْ سَلَامَةَ بْنِ
رَوْحِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حدَّثني أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " خَرَجَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقُونَ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ بِنَمْلَةٍ رَافِعَةٍ بَعْضَ قَوَائِمِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ: " ارْجِعُوا فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النَّمْلَةِ ".
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَرَ النَّاسَ فَخَرَجُوا فَإِذَا بِنَمْلَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى رِجْلَيْهَا بَاسِطَةٍ يَدَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ وَلَا غَنَاءَ بِنَا عَنْ فَضْلِكَ " قَالَ فَصَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ.
قال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطير فقال مالي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً
__________
(1) رواه ابن ماجه في اقامة ح 174 وفيه:..تترك الرجل فقيرا.
(2) رواه ابن عساكر في تاريخه 6 / 271 تهذيب.
[*]
(2/24)
شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شئ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ.
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما يخفون وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نحن أولوا قوة وأولوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ.
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فناظرة بما يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النَّمْلِ: 20 - 37] .
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ وَالْهُدْهُدِ وَذَلِكَ أَنَّ الطُّيُورَ كَانَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مُقَدَّمُونَ (1) يَقُومُونَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ، وَيَحْضُرُونَ عِنْدَهُ بِالنَّوْبَةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْجُنُودِ مَعَ الْمُلُوكِ.
وَكَانَتْ وَظِيفَةُ الْهُدْهُدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَعْوَزُوا الْمَاءَ فِي الْقِفَارِ فِي حَالِ الاسفار يجئ فَيَنْظُرُ لَهُمْ هَلْ بِهَذِهِ الْبِقَاعِ مِنْ مَاءٍ وَفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَاءِ تَحْتَ تُخُومِ الْأَرْضِ فَإِذَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ حَفَرُوا عَنْهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ وَأَخْرَجُوهُ وَاسْتَعْمَلُوهُ لِحَاجَتِهِمْ.
فَلَمَّا تَطَلَّبَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَدَهُ وَلَمْ يَجِدْهُ فِي موضعه من محل خدمته (فَقَالَ مالي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) أي ماله مفقود من ههنا أَوْ قَدْ غَابَ عَنْ بَصَرِي فَلَا أَرَاهُ بحضرتي (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً) تَوَعَّدَهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ.
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أَيْ بِحُجَّةٍ تُنْجِيهِ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ.
قَالَ الله تعالى: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أَيْ فَغَابَ الْهُدْهُدُ غَيْبَةً لَيْسَتْ بِطَوِيلَةٍ ثُمَّ قَدِمَ مِنْهَا: (فَقَالَ) لِسُلَيْمَانَ: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) أَيِ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أَيْ بِخَبَرٍ صَادِقٍ (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كل شئ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) يَذْكُرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُلُوكُ سَبَأٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ مِنَ الْمَمْلَكَةِ الْعَظِيمَةِ وَالتَّبَابِعَةِ الْمُتَوَّجِينَ، وَكَانَ الْمُلْكُ قَدْ آلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْهُمُ ابْنَةُ مَلِكِهِمْ لَمْ يُخْلِفْ غَيْرَهَا فملَّكوها عَلَيْهِمْ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْمَهَا مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَبِيهَا رَجُلًا فَعَمَّ به الفساد، فأرسلت إليه
__________
(1) في الطبري: اختار سليمان من كل طير طيرا فجعله رأس تلك الطير، فإذا أراد أن يسأل شيئاً من تلك الطير سأل رأسها.
[*]
(2/25)
تَخْطُبُهُ فَتَزَوَّجَهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَقَتْهُ خَمْرًا ثُمَّ حَزَّتْ رَأْسَهُ وَنَصَبَتْهُ عَلَى بَابِهَا (1) ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَمَلَّكُوهَا عَلَيْهِمْ وَهِيَ بَلْقِيسُ بِنْتُ السيرح وهو الهدهاد وقيل شراحيل بن ذي جدن بن السيرح (2) بن الحرث بْنِ قَيْسِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ.
وَكَانَ أَبُوهَا من أكابر الملوك وكان يأبى أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَيُقَالُ إِنَّهُ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنَ الْجِنِّ اسْمُهَا رَيْحَانَةُ بِنْتُ
السكن (3) ، فولدت له هذه المرأة واسمها تلقمة (4) وَيُقَالُ لَهَا بَلْقِيسُ.
وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " كَانَ أَحَدَ أَبَوَيْ بَلْقِيسَ جِنِّيًّا ".
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ قَبْحُونَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ جُرْجَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: ذُكِرَتْ بَلْقِيسُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم، فَقَالَ: " لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً ".
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ هَذَا هُوَ الْمَكِّيُّ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَّغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ ملَّكوا عَلَيْهِمُ ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ: " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً " (5) .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم [بِمِثْلِهِ] وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شئ) أَيْ مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُؤْتَاهُ الْمُلُوكُ (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) يَعْنِي سَرِيرَ مَمْلَكَتِهَا كَانَ مُزَخْرَفًا بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالذَّهَبِ وَالْحُلِيِّ الْبَاهِرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ وَعِبَادَتَهُمُ الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِضْلَالَ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَصَدَّهُ إِيَّاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ويعلم ما يخفون وما يعلنون أَيْ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالظَّوَاهِرَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أَيْ لَهُ الْعَرْشُ الْعَظِيمُ، الَّذِي لَا أَعْظَمَ منه في المخلوقات.
فعند ذلك بعثه مَعَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابَهُ يَتَضَمَّنُ دَعْوَتَهُ لَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ إِلَى الدُّخول فِي الْخُضُوعِ لِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ ولهذا قال لهم: (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) أَيْ لَا تَسْتَكْبِرُوا عَنْ طَاعَتِي وَامْتِثَالِ أَوَامِرِي (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أَيْ وَأَقْدِمُوا عَلَيَّ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ بِلَا مُعَاوَدَةٍ ولا مراودة.
فلما
__________
(1) راجع الكامل لابن الاثير 1 / 233.
(2) ذكر الطبري في نسبها: ابنة ذي شرح بن ذي جدن بن ايلي شرح.
(3) في أحكام القرطبي: بلعمة بنت شيصان.
وفي الكامل: رواحة بنت السكر ; وقيل يلقمه بنت عمرو بن عمير الجني.
(4) في الطبري: بلمقة وفي الكامل: بلقمة.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه 92 / 18، والترمذي في سننه 31 / 75 وأحمد في مسنده: 5 / 38، 43، 45، 47، 50، 51 والنسائي في سننه وأبو داود الطيالسي في مسنده.
قال القاضي ابن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه ونقل عن الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه.
[*]
(2/26)
جَاءَهَا الْكِتَابُ مَعَ الطَّيْرِ وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَ النَّاسُ الْبَطَائِقَ، وَلَكِنْ أَيْنَ الثُّرَيَّا مِنَ الثَّرَى، تِلْكَ الْبِطَاقَةُ كَانَتْ مَعَ طَائِرٍ سَامِعٍ مُطِيعٍ فَاهِمٍ عَالِمٍ بِمَا يَقُولُ وَيُقَالُ لَهُ، فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْهُدْهُدَ حَمَلَ الْكِتَابَ وَجَاءَ إِلَى قَصْرِهَا فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي خَلْوَةٍ لَهَا ثُمَّ وَقَفَ نَاحِيَةً يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْ جَوَابِهَا عَنْ كِتَابِهَا، فجمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دولتها إلى مَشُورَتِهَا (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) ثُمَّ قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ عُنْوَانَهُ أَوَّلًا (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ) ثُمَّ قَرَأَتْهُ: (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ثُمَّ شَاوَرَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا وَمَا قَدْ حَلَّ بِهَا وَتَأَدَّبَتْ مَعَهُمْ، وَخَاطَبَتْهُمْ، وَهُمْ يَسْمَعُونَ (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) [النمل: 32] تَعْنِي مَا كُنْتُ لِأَبُتَّ أَمْرًا إِلَّا وَأَنْتُمْ حَاضِرُونَ (قَالُوا نحن أولوا قوة وأولوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) يَعْنُونَ لَنَا قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى الْجِلَادِ وَالْقِتَالِ وَمُقَاوَمَةِ الْأَبْطَالِ فَإِنْ أَرَدْتِ مِنَّا ذَلِكَ فَإِنَّا عليه من القادرين (وَ) مع هَذَا (اَلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) [النمل: 33] فَبَذَلُوا لَهَا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَأَخْبَرُوهَا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَفَوَّضُوا إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْأَمْرَ، لِتَرَى فِيهِ مَا هُوَ الْأَرْشَدُ لَهَا وَلَهُمْ، فَكَانَ رَأْيُهَا أَتَمَّ وَأَسَدَّ مِنْ رَأْيِهِمْ، وَعَلِمَتْ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ وَلَا يُخَادَعُ (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34] تَقُولُ بِرَأْيِهَا السَّدِيدِ إنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَوْ قَدْ غَلَبَ عَلَى هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ لَمْ يَخْلُصِ الْأَمْرُ مِنْ بينكم إلا إلي ولم تكن الحدة والشدة وَالسَّطْوَةُ الْبَلِيغَةُ إِلَّا عَلَيَّ (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل: 35] أَرَادَتْ أَنْ تُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهَا، وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهَا
بِهَدِيَّةٍ تُرْسِلُهَا، وَتُحَفٍ تَبْعَثُهَا وَلَمْ تَعْلَمْ أنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا لِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ وَهُوَ وَجُنُودُهُ عليهم قادرون ولهذا (لما جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) [النمل: 36] هَذَا وَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْهَدَايَا مُشْتَمِلَةً عَلَى أُمُورٍ عَظِيمَةٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ (1) .
ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهَا إِلَيْهِ وَوَافِدِهَا الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَاضِرُونَ يَسْمَعُونَ (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النمل: 37] يَقُولُ ارْجِعْ بِهَدِيَّتِكَ الَّتِي قَدِمْتَ بِهَا إِلَى مَنْ قَدْ مَنَّ بِهَا، فَإِنَّ عِنْدِي مِمَّا قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ وَأَسْدَاهُ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالتُّحَفِ، وَالرِّجَالِ مَا هُوَ أَضْعَافُ هَذَا وَخَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ بِسَبَبِهِ (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا) [النمل: 37] أَيْ فَلْأَبْعَثَنَّ إِلَيْهِمْ بِجُنُودٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ دِفَاعَهُمْ وَلَا نِزَالَهُمْ وَلَا مُمَانَعَتَهُمْ وَلَا قِتَالَهُمْ وَلَأُخْرِجَنَّهُمْ مِنْ بَلَدِهِمْ وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم أَذِلَّةً (وَهُمْ صَاغِرُونَ) عليهم الصغار والعار
__________
(1) عن ابن عباس: بعث باثنتي عشرة وصيفة، واثني عشر غلاما، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير ; وبخرزتين احداهما مثقوبة ثقبا معوجا والاخرى غير مثقوبة.
وبقدح لا شئ فيه.
(من ذهب) .
[قيل بعثت الهدية مع رجل من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو] .
أحكام القرآن 13 / 196.
[*]
(2/27)
وَالدَّمَارُ.
فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَبَادَرُوا إِلَى إِجَابَتِهِ فِي تِلْكَ السَّاعة، وَأَقْبَلُوا صُحْبَةَ الْمَلِكَةِ أَجْمَعِينَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ خَاضِعِينَ.
فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ، وَوُفُودِهِمْ إِلَيْهِ، قَالَ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِمَّنْ هُوَ مُسَخَّرٌ لَهُ مِنَ الْجَانِّ مَا قصَّه اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ.
(قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ.
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا
يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل: 38 - 43]- لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها، قبل قدومها عليه (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ) يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ حُكْمِكَ وَكَانَ فِيمَا يُقَالُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ يَتَصَدَّى لِمُهِمَّاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا لَهُمْ مِنْ الأشغال (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي وإني لذو قدرة عَلَى إِحْضَارِهِ إِلَيْكَ وَأَمَانَةٍ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ لَدَيْكَ (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) الْمَشْهُورُ أَنَّهُ آصِفُ بْنُ بَرَخْيَا وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ سُلَيْمَانَ.
وَقِيلَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ مُؤْمِنِي الْجَانِّ كَانَ فِيمَا يُقَالُ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ.
وَقِيلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَقِيلَ إِنَّهُ سُلَيْمَانُ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَضَعَّفَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ قال وقد قيل فيه قول رابع وهو جِبْرِيلُ (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) قِيلَ مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَبْعَثَ رَسُولًا إِلَى أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ طَرْفُكَ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ يَعُودَ إِلَيْكَ.
وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ أَبْعَدُ مَنْ تَرَاهُ مِنَ النَّاسِ وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَكِلَّ طَرْفُكَ إِذَا أَدَمْتَ النَّظَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُطْبِقَ جَفْنَكَ.
وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْكَ طَرْفُكَ إِذَا نَظَرْتَ بِهِ إِلَى أَبْعَدِ غَايَةٍ مِنْكَ ثُمَّ أَغْمَضْتَهُ وَهَذَا أَقْرَبُ مَا قِيلَ.
(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ) أَيْ فَلَمَّا رَأَى عَرْشَ بَلْقِيسَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) أَيْ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيَّ وَفَضْلِهِ عَلَى عَبِيدِهِ لِيَخْتَبِرَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ أَوْ خِلَافِهِ (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أَيْ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ.
ثُمَّ أَمَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يُغَيَّرَ حَلْيُ هَذَا الْعَرْشِ وَيُنَكَّرَ لَهَا لِيَخْتَبِرَ فَهْمَهَا وَعَقْلَهَا وَلِهَذَا قَالَ: (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) وَهَذَا مِنْ فِطْنَتِهَا وَغَزَارَةِ فَهْمِهَا لِأَنَّهَا
اسْتَبْعَدَتْ أَنْ يَكُونَ عَرْشُهَا لِأَنَّهَا خَلَّفَتْهُ وَرَاءَهَا بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَلَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا يَقْدِرُ على هذا
(2/28)
الصُّنْعِ الْعَجِيبِ الْغَرِيبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سُلَيْمَانَ وَقَوْمِهِ: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) أَيْ وَمَنَعَهَا عِبَادَةُ الشَّمْسِ الَّتِي كَانَتْ تَسْجُدُ لها هي قومها مِنْ دُونِ اللَّهِ اتِّبَاعًا لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ لَا لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلَا حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَمَرَ بِبِنَاءِ صَرْحٍ مِنْ زُجَاجٍ، وَعَمِلَ فِي مَمَرِّهِ مَاءً، وَجَعَلَ عَلَيْهِ سَقْفًا مِنْ زُجَاجٍ، وَجَعَلَ فِيهِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ، وَأُمِرَتْ بِدُخُولِ الصَّرْحِ وَسُلَيْمَانُ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ فِيهِ (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ ربي إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل: 44] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْجِنَّ أَرَادُوا أَنْ يُبَشِّعُوا مَنْظَرَهَا عِنْدَ سُلَيْمَانَ وَأَنْ تُبْدِيَ عَنْ سَاقَيْهَا لِيَرَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ فَيُنَفِّرَهُ ذَلِكَ مِنْهَا، وَخَشُوا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّ أُمَّهَا مِنَ الْجَانِّ فَتَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَعَهُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ حَافِرَهَا كَانَ كَحَافِرِ الدَّابَّةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ.
وَفِي الْأَوَّلِ أَيْضًا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ قِيلَ إِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ إِزَالَتَهُ حِينَ عَزَمَ عَلَى تَزَوُّجِهَا سَأَلَ الْإِنْسَ عَنْ زَوَالِهِ فَذَكَرُوا لَهُ الْمُوسَى فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ.
فَسَأَلَ الْجَانَّ فَصَنَعُوا لَهُ النُّورَةَ، ووضعوا لها الْحَمَّامَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَلَمَّا وجد مسه قال أوه من عذاب أَوْهِ أَوْهِ قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَوْهِ.
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَرَّهَا عَلَى مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ (1) وَرَدَّهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ يَزُورُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثَةَ أيَّام ثمَّ يَعُودُ عَلَى الْبِسَاطِ وَأَمَرَ الْجَانَّ فَبَنَوْا لَهُ ثَلَاثَةَ قُصُورٍ بِالْيَمَنِ غُمْدَانَ وَسَالِحِينَ وبيتون فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَلْ زَوَّجَهَا بِمَلِكِ هَمْدَانَ (2) وَأَقَرَّهَا عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ وَسَخَّرَ زَوْبَعَةَ مَلِكَ جِنِّ الْيَمَنِ فَبَنَى لَهَا الْقُصُورَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْيَمَنِ.
وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ.
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ.
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص: 30 - 39] يذكر تعالى أنه وهب
__________
(1) هذا قول ابن الأثير في الكامل.
وفي أحكام القرآن عن الضحاك: أنه تزوجها وأسكنها الشام.
(2) وفي رواية أخرى في الكامل: أنه زوجها ذا تبع ملك همدان ثم ردها إلى اليمن.
ونقل الخبر الطبري في تاريخه 1 / 257.
وفيه أمر زوبعة أمير جن اليمن فصنع لذي تبع الصنائع باليمن..سلحين وصرواح ومرواح.
وبينون وهند وهنيدة وتلثوم (وهي حصون) .
[*]
(2/29)
لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ عليه تعالى فقال: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أَيْ رَجَّاعٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْخَيْلِ الصَّافِنَاتِ وَهِيَ الَّتِي تَقِفُ عَلَى ثَلَاثٍ وَطَرَفِ حَافِرِ الرَّابِعَةِ.
الْجِيَادِ وَهِيَ الْمُضَمَّرَةُ السِّرَاعُ (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى توارت بالحجاب) يَعْنِي الشَّمْسَ.
وَقِيلَ الْخَيْلُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
(رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) قِيلَ مَسَحَ عَرَاقِيبَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسُّيُوفِ.
وَقِيلَ مَسَحَ عَنْهَا الْعَرَقَ لَمَّا أَجْرَاهَا وَسَابَقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ الْأَوَّلُ فَقَالُوا: اشْتَغَلَ بِعَرْضِ تِلْكَ الْخُيُولِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الصَّلَاةَ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يقال إنه كان سائغاً في شريعتهم فأخر الصَّلَاةِ لِأَجْلِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ وَعَرْضُ الْخَيْلِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدِ ادَّعَى طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تأخير النبي صلى الله عليه وسلَّم صلاة الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْرُوعًا إِذْ ذَاكَ حَتَّى نُسِخَ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُحْكَمٌ إِلَى الْيَوْمِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا بعذر الْقِتَالِ الشَّدِيدِ (1) كَمَا ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ صَلَاةِ الْخَوْفِ.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ
تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ نِسْيَانًا وَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ فِعْلُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ الضَّمِيرُ في قوله حتى توارت بالحجاب عائد على الخيل وأنه لم تفته وَقْتُ صَلَاةٍ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) يَعْنِي مَسَحَ الْعَرَقَ عَنْ عَرَاقِيبِهَا وَأَعْنَاقِهَا، فَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرَوَاهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَسْحِ الْعَرَقِ.
وَوَجَّهَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ مَا كَانَ لِيُعَذِّبَ الْحَيَوَانَ بِالْعَرْقَبَةِ وَيُهْلِكَ مَالًا بِلَا سَبَبٍ وَلَا ذَنْبٍ لَهَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هَذَا سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِلَى أَنَّهُ إِذَا خاف المسلمون أن يظفر الكفار على شئ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَغْنَامٍ وَنَحْوِهَا جَازَ ذَبْحُهَا وَإِهْلَاكُهَا لِئَلَّا يَتَقَوَّوْا بِهَا، وَعَلَيْهِ حُمِلَ صَنِيعُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ عَقَرَ فَرَسَهُ بِمَوْتِهِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا عَظِيمَةً.
قِيلَ كَانَتْ عَشَرَةَ آلَافِ فَرَسٍ.
وَقِيلَ عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ (2) .
وَقِيلَ كَانَ فِيهَا عِشْرُونَ فَرَسًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أيوب، حدَّثني عمارة بن عزية ": أن محمد بن إبراهيم حدثه 4)
__________
(1) الخبر في تاريخ ابن عساكر ج 6 / 258 و 259 تهذيب وقال القرطبي في أحكامه: ومن قال إن الهاء في ردوها ترجع للشمس فذلك من معجزاته.
والاكثر أن التي توارت بالحجاب هي الشمس، ولما فاتته الصلاة فأمر الله الملائكة الموكلين بالشمس ردوها فردوها حتى صلَّى العصر في وقتها وأن أنبياء الله لا يظلمون لانهم معصومون.
ج 15 / 196.
(2) وعن الحسن والكلبي ومقاتل: كانت ألف فرس ورثها سليمان عن أبيه، عرض عليه تسعمائة فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت.
[*]
(2/30)
عَنْ مُحَمَّدِ (1) بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا (2) سِتْرٌ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب، فَقَالَ: " مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ فَقَالَتْ: بَنَاتِي، وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ.
فَقَالَ: " مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ.
قَالَ: وَمَا الَّذِي عَلَيْهِ هَذَا؟ قَالَتْ: جَنَاحَانِ.
قَالَ: فَرَسٌ لَهُ
جَنَاحَانِ؟ قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (3) .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَمَّا تَرَكَ الْخَيْلَ لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا هُوَ خَيْرٌ له منها وهو الريح التي كانت غدوَّها شَهْرًا وَرَوَاحُهَا شَهْرًا كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عليها، كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسمعيل، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي الدَّهْمَاءِ، وَكَانَا يُكْثِرَانِ السَّفَرَ نَحْوَ الْبَيْتِ قَالَا: أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ الْبَدَوِيُّ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يعلمني مما علمه الله عزوجل وَقَالَ: " إِنَّكَ لَا تَدَعُ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عزوجل إِلَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ " (4) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) .
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا من المفسرين ههنا آثَارًا كَثِيرَةً عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَكْثَرُهَا أَوْ كُلُّهَا مُتَلَقَّاةٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ (5) وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ في كتابنا التفسير واقتصرنا ههنا عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ وَمَضْمُونُ مَا ذَكَرُوهُ أنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَابَ عَنْ سَرِيرِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ وَلَمَّا عَادَ أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَنَاهُ بِنَاءً مُحْكَمًا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ جَدَّدَهُ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَهُ مَسْجِدًا إِسْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ قَالَ: " الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ " قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: مَسْجِدُ بَيْتِ المقدس، قلت: كم
__________
(1) في سنن أبي داود: عن أبي سلمة، وسقط اسم محمد ابنه.
(2) السهوة.
قال في النهاية: السهوة بيت صغير، منحدر في الارض قليلا وقيل هو كالصفة، وقيل شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيه الشئ.
(3) سنن أبي داود - كتاب الادب - باب في اللعب بالبنات ح 4932 ج 4 / 283.
(4) مسند أحمد ج 5 / 79 وفيه: إلا أتاك الله خيراً منه.
(5) هذه الاقوال التي نقلها المفسرون لا تصح قصصا لمنافاتها للعصمة التي هي من أخص صفات الأنبياء عليهم السلام.
ولو صح منها شئ لكان الوحي محل الشك والارتياب.
وقال أبو حيان في تفسيره: نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الانبياء منها، وهي مما لا يحل نقلها وهي إما من أوضاع اليهود أو الزنادقة.
ولم يبين الله الفتنة ما هي ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان..وقال: ويستحيل
عقلا بعض ما ذكروه كتمثل الشيطان بصورة نبي حتى يلتبس أمره عند الناس..نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها.
وقال الالوسي: ومن أقبح ما زعم: تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض.
الله أكبر! هذا بهتان عظيم وخطب جسيم..وقد ضعف القرطبي هذا الزعم.
[*]
(2/31)
بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً " (1) وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَزِيدَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ دَعْ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَكَانَ سُؤَالُهُ الْمُلْكَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ بَعْدَ إكماله اليت الْمُقَدَّسِ.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ ربه عزوجل خِلَالًا ثَلَاثًا فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَنَا الثَّالِثَةُ، سَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَعْطَانَا إِيَّاهَا " (2) .
فَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يُوَافِقُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء: 78 - 79] وَقَدْ ذَكَرَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانَ لَهُمْ كَرْمٌ فَنَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ قَوْمٍ آخَرِينَ، أَيْ رَعَتْهُ بِاللَّيْلِ فَأَكَلَتْ شَجَرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَكَمَ لِأَصْحَابِ الْكَرْمِ بِقِيمَتِهِ فَلَمَّا خَرَجُوا عَلَى سُلَيْمَانَ قَالَ: بِمَا حَكَمَ لَكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ؟ فَقَالُوا: بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ أَما لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمَا حَكَمْتُ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَنَمِ إِلَى أَصْحَابِ الْكَرْمِ فَيَسْتَغِلُّونَهَا نِتَاجًا وَدَرًّا حَتَّى يُصْلِحَ أَصْحَابُ الْغَنَمِ كَرْمَ أُولَئِكَ وَيَرُدُّوهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَسَلَّمُوا غَنَمَهُمْ، فَبَلَغَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا إِذْ عَدَا
الذِّئْبُ فَأَخَذَ ابْنَ إِحْدَاهُمَا فَتَنَازَعَتَا فِي الْآخَرِ فَقَالَتِ الْكُبْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ.
وَقَالَتِ الصغرى: بل إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ.
فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَحَكَمَ بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا نِصْفُهُ، فَقَالَتِ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لَهَا " (3) .
وَلَعَلَّ كُلًّا مِنَ الْحُكْمَيْنِ كَانَ سَائِغًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلَكِنْ مَا قَالَهُ سُلَيْمَانُ أَرْجَحُ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بما ألهمه وإياه وَمَدَحَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَاهُ فَقَالَ: (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء: 79 - 80] .
ثم قال: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً) أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شئ عالمين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الانبياء 10 - 40 ومسلم في المساجد 1، 2 والنسائي في مساجد 3 وابن ماجة في مساجد 7 ومسند أحمد ج 5 / 150، 156، 157، 160، 166، 167.
(2) أخرجه النسائي في مساجد - 6 - وابن ماجه إقامة 196 وأحمد في مسنده ج 2 / 176.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الانبياء 41 / 4 والقضاء 60 / 40 ورواه مسلم في 5 / 33، 30 / 20 والنسائي وأبو داود في سننيهما وابن ماجة في 28 / 14 وأحمد في مسنده 2 / 322 - 340 - 5 / 447 - 448.
[*]
(2/32)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) [الانبياء: 81 - 82] .
وقال في سورة ص: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص: 36 - 40] .
لَمَّا تَرَكَ الْخَيْلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا الرِّيحَ الَّتِي هِيَ أَسْرَعُ سَيْرًا وَأَقْوَى وَأَعْظَمُ وَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ لَهَا تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً (حيث أَصَابَ) أَيْ حَيْثُ أَرَادَ مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ.
كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَخْشَابٍ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَسَعُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدُّورِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْقُصُورِ وَالْخِيَامِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ وَالْأَثْقَالِ وَالرِّجَالِ مِنَ الْأِنْسِ وَالْجَانِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ فَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ مُسْتَنْزَهًا أَوْ قِتَالَ مَلِكٍ أَوْ أَعْدَاءٍ
مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ شَاءَ، فَإِذَا حَمَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْبِسَاطِ أَمَرَ الرِّيحَ فَدَخَلَتْ تَحْتَهُ فَرَفَعَتْهُ فَإِذَا اسْتَقَلَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَرَ الرُّخَاءَ فَسَارَتْ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ الْعَاصِفَةَ فَحَمَلَتْهُ أَسْرَعَ مَا يَكُونُ فَوَضَعَتْهُ فِي أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ يَرْتَحِلُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَغْدُو بِهِ الرِّيحُ فَتَضَعُهُ بِإِصْطَخْرَ (1) مَسِيرَةَ شَهْرٍ فَيُقِيمُ هُنَاكَ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ.
ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ آخِرِهِ فَتَرُدُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سَبَأٍ: 12 - 13] .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ فَيَنْزِلُ بِإِصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِهَا وَيَذْهَبُ رَائِحًا مِنْهَا فَيَبِيتُ بِكَابُلَ (2) وَبَيْنَ دِمَشْقَ وَبَيْنَ إِصْطَخْرَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَبَيْنَ إِصْطَخْرَ وَكَابُلَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ.
قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْعِمْرَانِ وَالْبُلْدَانِ: أَنَّ إِصْطَخْرَ بَنَتْهَا الْجَانُّ لِسُلَيْمَانَ وَكَانَ فِيهَا قَرَارُ مَمْلَكَةِ التُّرْكِ قَدِيمًا وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ بلدان شتى كتدمر وبيت المقدس وباب جبرون وباب البريد اللذان بِدِمَشْقَ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ.
وَأَمَّا الْقِطْرُ فَقَالَ ابْنُ عبَّاس وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ النُّحَاسُ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ أَنَبْعَهَا اللَّهُ لَهُ.
قَالَ السُّدِّيُّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ (3) أَخَذَ مِنْهَا جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْبِنَايَاتِ
__________
(1) إصطخر: بلدة بفارس، من أقدم مدنها وأشهرها، كان عليها قديما سور فتهدم بينها وبين شيراز اثنا عشر فرسخا النسبة إليها اصطخري واصطخرزي بناها اصطخر بن طهمورث ملك الفرس.
معجم البدان 1 / 211.
(2) كابل: كابل في الاقليم الثالث، قال ابن الفقيه: من ثغور طخارستان.
وهي بين الهند ونواحي سجستان في ظهر الغور.
غزاها المسلمون في أيام بني مروان وافتتحوها.
معجم البلدان 4 / 426.
(3) قال القشيري: تخصيص الاسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حده، ولعله وهم من ناقله، إذ في رواية مجاهد: أنها سالت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها، وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة.
[*]
(2/33)
وَغَيْرِهَا وَقَوْلُهُ: (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ) [سبأ: 12] أَيْ وَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْجِنِّ عُمَّالًا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ، لَا يَفْتُرُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ عَنِ الْأَمْرِ عَذَّبَهُ وَنَكَّلَ بِهِ (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) وهي الأماكن الحسنة وصدور المجالس (وَتَمَاثِيلَ) وَهِيَ الصُّوَرُ فِي الْجُدْرَانِ وَكَانَ هَذَا سَائِغًا في شريعتهم وملتهم (1) (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْجَفْنَةُ كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَعَنْهُ كَالْحِيَاضِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ.
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْجَوَابُ جَمْعُ جَابِيَةٍ وَهِيَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الماء كما قال الأعشى: تروح على آل المحلق جفنة * كجابية الشيخ العراقي يفهق (2) وأما القدور الراسيات فقال عكرمة: أثافهيا مِنْهَا.
يَعْنِي أَنَّهُنَّ ثَوَابِتُ لَا يَزُلْنَ عَنْ أَمَاكِنِهِنَّ وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا بِصَدَدِ إِطْعَامِ الطَّعَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الخلق من إنسان وَجَانٍّ قَالَ تَعَالَى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13] وَقَالَ تَعَالَى: (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) يَعْنِي أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ سَخَّرَهُ فِي الْبِنَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُ بِالْغَوْصِ فِي الْمَاءِ لاستخراج ما هنالك من الجواهر واللآلئ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ إِلَّا هُنَالِكَ وقوله: (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) أَيْ قَدْ عَصَوْا فَقُيِّدُوا مُقَرَّنِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي الْأَصْفَادِ: وَهِيَ الْقُيُودُ.
هَذَا كُلُّهُ مِنْ جملة ما هيأه اللَّهُ وَسَخَّرَ لَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَمَامِ الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِمَنْ كَانَ قبله.
وقد قال البخاري: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجنِّ تفلَّت عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] فرددته خاسئاً) " (3) .
وكذا رواه
__________
= وقال القرطبي في أحكامه: والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه دلالة على نبوته.
14 / 270.
(1) نسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، والتوعد لمن عملها أو اتخذها، فنسخ الله عزوجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لانه بعث صلى الله عليه وسلم والصور تعبد، فكان الاصلح إزالتها.
روى مسلم عن عائشة عنه صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بخلق الله عز وجل.
(2) الفهق: الامتلاء.
وخص العراقي لجهله بالمياه لانه حضري، فإذا وجدها ملا جابيته وأعدها ولم يدر متى يجد المياه ; وأما البدوي فهو عالم بالمياه فهو لا يبالي ألا بعدها.
(3) صحيح البخاري 8 / 75، 60 / 40، وأخرجه مسلم في صحيحه (5) كتاب المساجد (28) باب - 309 / 541.
وأحمد في مسنده: 2 / 298.
[*]
(2/34)
مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فصلى فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ ثَلَاثًا وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فلما فرغ من الصلاة قلنا: يارسول اللَّهِ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ، قَالَ: " إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي.
فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " (1) وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حدثنا مرة بن معبد، ثنا أبو عبيد حاجب سُلَيْمَانَ قَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ قَائِمًا يُصَلِّي فَذَهَبْتُ أَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَدَّنِي ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبح وَهُوَ خَلْفَهُ فَقَرَأَ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ.
فلمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: " لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ: الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ فَمَنِ
اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ " (2) .
رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْهُ " فَمَنِ اسْتَطَاعَ " إِلَى آخِرِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُرَيْجٍ عَنْ أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلف أنَّه كَانَتْ لِسُلَيْمَانَ مِنَ النِّسَاءِ ألف امرأة سبعمائة بمهور وثلثمائة سراري وقيل بالعكس ثلثمائة حَرَائِرُ وَسَبْعُمِائَةٍ مِنَ الْإِمَاءِ.
وَقَدْ كَانَ يُطِيقُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " (3) .
وَقَالَ شُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ تِسْعِينَ وَهُوَ أَصَحُّ.
تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ تَلِدُ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ فَلَمْ تَلِدْ منهن
__________
(1) أخرجه مسلم: في 5 كتاب المساجد - 28 باب 40 / 542 ; والنسائي في سننه 17 / 19.
(2) مسند أحمد ج 3 / 82.
(3) صحيح البخاري 83 / 4 / 6639 فتح الباري.
[*]
(2/35)
امْرَأَةٌ إِلَّا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَوَلَدَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الله عزوجل " (1) .
إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يخرِّجوه مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَمَا وَلَدَتْ إِلَّا وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِشِقِّ إِنْسَانٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوِ اسْتَثْنَى لَوُلِدَ لَهُ مِائَةُ غلام كلهم يقاتل في سبيل الله عزوجل " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَطَافَ بِهِنَّ قَالَ: فَلَمْ تَلِدْ منهنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ " (3) وَهَكَذَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ مِثْلَهُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا مُقَاتِلٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَ لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسِتُّمِائَةِ سُرِّيَّةٍ فَقَالَ يَوْمًا: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى أَلْفِ امْرَأَةٍ فَتَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ جَاءَتْ بِشِقِّ إِنْسَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوِ اسْتَثْنَى فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَوُلِدَ لَهُ مَا قال فرسان ولجاهدوا في سبيل الله عزوجل ".
وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ لِحَالِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ فَإِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَ الرِّوَايَاتِ الصِّحَاحَ.
وَقَدْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُمُورِ الْمُلْكِ وَاتِّسَاعِ الدَّوْلَةِ وَكَثْرَةِ الْجُنُودِ وَتَنَوُّعِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَا يُعْطِيهِ اللَّهُ أَحَدًا بَعْدَهُ كَمَا قَالَ: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شئ) [النمل: 16] (وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص: 35] وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِنَصِّ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَأَسْدَاهُ مِنَ النِّعَمِ الْكَامِلَةِ العظيمة إليه قال: (وهذا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ فَلَا حِسَابَ عَلَيْكَ أَيْ تَصَرَّفْ فِي الْمَالِ كَيْفَ شِئْتَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ سَوَّغَ لَكَ كُلَّ مَا تَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُحَاسِبُكَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا شَأْنُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُعْطِيَ أَحَدًا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ خُيِّرَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْداً رَسُولًا (4) .
وَفِي بَعْضِ الرِّوايات أَنَّهُ اسْتَشَارَ جِبْرِيلَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْداً
__________
(1) رواه أحمد في مسنده ج 2 / 506 ورواه ابن عساكر في تاريخه 6 / 266 تهذيب.
(2) مسند الإمام أحمد 2 / 229.
(3) مسند الإمام أحمد 2 / 275.
(4) تقدم تخريج الحديث ورواته فليراجع في محله.
[*]
(2/36)
رَسُولًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْخِلَافَةَ وَالْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ فِي أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا وَهَبَهُ لِنَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا نَبَّهَ عَلَى مَا أَعَدَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْأَجْرِ الْجَمِيلِ وَالْقُرْبَةِ الَّتِي تُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَالْإِكْرَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَلِكَ يوم المعاد والحساب حيث يقول تَعَالَى: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) .
[ذكر] (1) وفاته و [كم كانت] (1) مدة مُلْكِهِ وَحَيَاتِهِ
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) [سبأ: 14] .
رَوَى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عبَّاس عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " كَانَ سُلَيْمَانُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذا صلى رأس شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَهَا مَا اسمك فتقول كذا فيقول لأي شئ أَنْتِ؟ فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ وَإِنْ كَانَتْ لدواء أنبتت فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ قالت الخروب قال لأي شئ أَنْتِ؟ قَالَتْ لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى تَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَنَحَتَهَا عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ، فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ المهين.
قال وكان ابن عباس يقرأها كَذَلِكَ قَالَ فَشَكَرَتِ الْجِنُّ لِلْأَرَضَةِ فَكَانَتْ تَأْتِيهَا بِالْمَاءِ (2) .
لَفَظُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ فِي حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عبَّاس وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، يُدْخِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا، فَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا نَبَتَتْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ فَيَأْتِيهَا فَيَسْأَلُهَا مَا اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا [فيقول لها: لأي شئ نبت؟ فتقول: نبت لكذا وكذا فيأمر بها فقطع] (3) فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ دَوَاءً قَالَتْ نَبَتُّ دَوَاءً لِكَذَا وَكَذَا فَيَجْعَلُهَا كَذَلِكَ، حَتَّى نَبَتَتْ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الْخَرُّوبَةُ فَسَأَلَهَا مَا اسْمُكِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْخَرُّوبَةُ.
فَقَالَ ولاي شئ نبت؟ فقالت نبت
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) روى الخبر الطبري في تاريخه (1 / 266 قاموس حديث) .
(3) ما بين معكوفين، زيادة اقتضاها السياق، من تاريخ الطبري.
[*]
(2/37)
لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ.
فَقَالَ سُلَيْمَانُ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِبَهُ وَأَنَا حَيٌّ أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ.
ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ فَمَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ لَهُ يَخَافُونَ أَنْ يَخْرُجَ فَيُعَاقِبَهُمْ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ الْمِحْرَابِ، وَكَانَ الْمِحْرَابُ لَهُ كُوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ يَقُولُ أَلَسْتُ جَلِيدًا إِنْ دَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، فَيَدْخُلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَدَخَلَ شَيْطَانٌ مِنْ أُولَئِكَ فَمَرَّ وَلَمْ يَكُنْ شَيْطَانٌ يَنْظُرُ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي الْمِحْرَابِ إِلَّا احْتَرَقَ، وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ ثُمَّ رَجَعَ فَوَقَعَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَحْتَرِقْ، وَنَظَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَقَطَ مَيِّتًا فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ، فَفَتَحُوا عَنْهُ فَأَخْرَجُوهُ، وَوَجَدُوا مِنْسَأَتَهُ وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ قَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مُنْذُ كَمْ مَاتَ فَوَضَعُوا الْأَرَضَةَ عَلَى الْعَصَا فَأَكَلَتْ مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً.
ثُمَّ حَسَبُوا عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمَكَثُوا يَدْأَبُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ حَوْلًا كَامِلًا فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ، أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ
يَلْبَثُوا فِي الْعَذَابِ سَنَةً يَعْمَلُونَ لَهُ وذلك قول الله عزوجل: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) [سبأ: 14] يَقُولُ: تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ لَأَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ، وَلَكِنَّا سَنَنْقُلُ إِلَيْكِ الْمَاءَ وَالطِّينَ قَالَ فإنهم يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الطين الذي يكون في حوف الخشب فهو ما يأتيها به الشيطان تشكراً لها (1) .
وهذا فيه من الاسرائيلات الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " كِتَابِ الْقَدَرِ " حدَّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْبِضَ رُوحِي فَأَعْلِمْنِي، قَالَ: مَا أَنَا أعلم بذاك منك إنما هي كتب يلقي إِلَيَّ فِيهَا تَسْمِيَةُ مَنْ يَمُوتُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: إِذَا أُمِرْتَ بِي فَأَعْلِمْنِي.
فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا سُلَيْمَانُ قَدْ أُمِرْتُ بِكَ، قَدْ بَقِيَتْ لَكَ سُوَيْعَةٌ، فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ لَيْسَ لَهُ بَابٌ فَقَامَ يُصَلِّي فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ قَالَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ متوك عَلَى عَصَاهُ وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ قَالَ وَالْجِنُّ تَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ قَالَ فَبَعَثَ اللَّهُ دَابَّةَ الْأَرْضِ - يَعْنِي - إِلَى مِنْسَأَتِهِ فَأَكْلَتْهَا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ جَوْفَ الْعَصَا ضَعُفَتْ وَثَقُلَ عَلَيْهَا فَخَرَّ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ ذَلِكَ انْفَضُّوا
__________
(1) روى الخبر الطبري في تاريخه 1 / 261 - 262 (قاموس حديث) .
[*]
(2/38)
وَذَهَبُوا قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) .
قَالَ أَصْبَغُ وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِهِ: أَنَّهَا مَكَثَتْ سَنَةً تَأْكُلُ فِي مِنْسَأَتِهِ حَتَّى خرَّ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عن محمد ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ أنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَاشَ ثِنْتَيْنِ (1) وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَ مُلْكُهُ أربعين سنة وقال إسحاق أنبأنا أبوروق عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُلْكَهُ كان عشرين سنه والله أَعْلَمُ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَكَانَ جَمِيعُ عُمْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنْ مُلْكِهِ ابْتَدَأَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيمَا ذُكِرَ.
ثُمَّ مَلَكَ بعده ابنه رحبعام (2) مُدَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جرير وقال: ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بَعْدَهُ مَمْلَكَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
[بَابُ ذِكْرِ] (3) جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ داود وسليمان وَقَبْلَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
فَمِنْهُمْ
شِعْيَا بْنُ أَمْصِيَا
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ قَبْلَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، وَهُوَ مِمَّنْ بَشَّرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَكَانَ فِي زَمَانِهِ مَلِكٌ اسمه حزقيا (4) عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ سَامِعًا مُطِيعًا لِشِعْيَا فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيَنْهَاهُ عَنْهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَكَانَتِ الْأَحْدَاثُ قَدْ عَظُمَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرِضَ الْمَلِكُ، وَخَرَجَتْ فِي رِجْلِهِ قُرْحَةٌ.
وَقَصَدَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَلِكُ بَابِلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهُوَ سَنْحَارِيبُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ وَفَزِعَ النَّاسُ فَزَعًا عَظِيمًا شَدِيدًا وَقَالَ الْمَلِكُ لِلنَّبِيِّ شِعْيَا: مَاذَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ فِي أَمْرِ سَنْحَارِيبَ وجنوده فقال لم يوح إليّ فيهم شئ بَعْدُ.
ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِالْأَمْرِ لِلْمَلِكِ حزقيا بِأَنْ يُوصِيَ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ فَإِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ أَقْبَلَ الْمَلِكُ عَلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى وَسَبَّحَ وَدَعَا وَبَكَى فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ عزوجل بِقَلْبٍ مُخْلِصٍ وَتَوَكُّلٍ وَصَبْرٍ: " اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَرْبَابِ وإله الآلهة [القدوس المتقدس] (5) يا رحمن يا رحيم [المترحم
__________
(1) في الكامل لابن الاثير: ثلاث وخمسين سنة.
(2) في المسعودي: أرخبعم.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(4) كذا في رواية الطبري: حزقيا بن أحاز ; وفيه عن ابن إسحاق كان يدعى: صديقة.
(5) من الطبري.
[*]
(2/39)
الرؤوف الذي] (1) لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرني بعملي وَفِعْلِي وَحُسْنِ قَضَائِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ كُلُّهُ كَانَ مِنْكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي سِرِّي وَإِعْلَانِي لَكَ " قَالَ: فَاسْتَجَابَ اللَّهُ له ورحمه، وأوحى الله إلى شعيا يُبَشِّرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَحِمَ بُكَاءَهُ وَقَدْ أَخَّرَ في أجله خمس عشر سنة وأنجاه من عدوه سنحاريب [وجنوده] فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ذَهَبَ مِنْهُ الْوَجَعُ وَانْقَطَعَ عَنْهُ الشَّرُّ وَالْحُزْنُ وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ في سجوده: " [يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت] ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُهُ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَأَنْتَ تَرْحَمُ وَتَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ المضطرين [أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي] " فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَا أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَاءَ التِّينِ فَيَجْعَلَهُ عَلَى قُرْحَتِهِ فَيَشْفَى وَيُصْبِحَ قَدْ بَرِئَ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ فَشُفِيَ وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَيْشِ سَنْحَارِيبَ الْمَوْتَ (2) فَأَصْبَحُوا وَقَدْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ سِوَى سَنْحَارِيبَ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ بُخْتُ نَصَّرَ فَأَرْسَلَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَاءَ بِهِمْ، فَجَعَلَهُمْ فِي الْأَغْلَالِ، وَطَافَ بِهِمْ فِي الْبِلَادِ عَلَى وَجْهِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ وَالْإِهَانَةِ لَهُمْ سَبْعِينَ يَوْمًا وَيُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ، وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى شِعْيَا أَنْ يَأْمُرَ الْمَلِكَ بِإِرْسَالِهِمْ إِلَى بِلَادِهِمْ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ مَا قَدْ حَلَّ بِهِمْ فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخربهم بِمَا قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ لَهُ السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ: إِنَّا أَخْبَرْنَاكَ عَنْ شَأْنِ رَبِّهِمْ وأنبيائهم فلما تُطِعْنَا، وَهِيَ أُمَّةٌ لَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ مِنْ رَبِّهِمْ فَكَانَ أَمْرُ سَنْحَارِيبَ مِمَّا خَوَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ.
ثُمَّ مَاتَ سَنْحَارِيبُ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ.
قال ابن إسحاق ثم لما مات حزقيا مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَجَ أَمَرُهُمْ وَاخْتَلَطَتْ أَحْدَاثُهُمْ وَكَثُرَ شَرُّهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى شِعْيَا فَقَامَ فِيهِمْ فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَنْذَرَهُمْ بَأْسَهُ وَعِقَابَهُ إِنْ خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ عَدَوْا عَلَيْهِ وَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَمَرَّ بِشَجَرَةٍ فَانْفَلَقَتْ لَهُ فَدَخَلَ فِيهَا وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ بهدبة ثوبه فأبرزها فلما رأو ذلك جاؤوا بِالْمِنْشَارِ فَوَضَعُوهُ عَلَى الشَّجَرَةِ فَنَشَرُوهَا وَنَشَرُوهُ مَعَهَا فإنا لله وإنا إليه
راجعون (3) .
وَمِنْهُمْ أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا مِنْ سِبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ الْخَضِرُ.
رَوَاهُ الضحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَهُوَ غَرِيبٌ وَلَيْسَ بصحيح (4) .
قال
__________
(1) من الطبري.
(2) قال ابن قتيبة في المعارف ص 23: سلط عليهم الطاعون فأصبحوا موتى.
(3) نقل الخبر الطبري ج 1 / 280.
ما ورد بين معكوفين في الرواية زيادة - اقتضاها السياق - من تاريخ الطبري.
(4) ضعفه الطبري في نقله للخبر: واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل ارميا بن حلقيا وكان من سبط هارون.
[*]
(2/40)
ابْنُ عَسَاكِرَ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهُوَ يَفُورُ بِدِمَشْقَ فَقَالَ: أَيُّهَا الدَّمُ فَتَنْتَ النَّاسَ فَاسْكُنْ فَسَكَنَ.
وَرَسَبَ حَتَّى غَابَ (1) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حدَّثني عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَبَّابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَرْمِيَا: أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِي ذِكْرًا، الَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِذِكْرِي عَنْ ذِكْرِ الخلائق، الذين لا تعرض لهم وساوس الفناء وَلَا يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْبَقَاءِ.
الَّذِينَ إِذَا عَرَضَ لَهُمْ عَيْشُ الدُّنْيَا قَلَوْهُ.
وَاذَا زُوِيَ عَنْهُمْ سُرُّوا بِذَلِكَ.
أُولَئِكَ أَنْحَلُهُمْ مَحَبَّتِي وَأُعْطِيهِمْ فَوْقَ غَايَاتِهِمْ.
[ذِكْرُ] (2) خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أن لا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً.
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً.
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً.
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة ليسوؤا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً.
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حصيرا) [الْإِسْرَاءِ: 2 - 8] .
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ أَرْمِيَا حِينَ ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْمَعَاصِي: أَنْ قُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا وَلَا يَفْقَهُونَ، وَأَعْيُنًا وَلَا يُبْصِرُونَ، وَآذَانًا وَلَا يَسْمَعُونَ، وَإِنِّي تَذَكَّرْتُ صَلَاحَ آبَائِهِمْ فَعَطَفَنِي ذَلِكَ عَلَى أَبْنَائِهِمْ.
فَسَلْهُمْ كَيْفَ وَجَدُوا غِبَّ طَاعَتِي، وَهَلْ سَعِدَ أَحَدٌ مِمَّنْ عَصَانِي بِمَعْصِيَتِي، وَهَلْ شَقِيَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَطَاعَنِي بِطَاعَتِي؟ إِنِ الدَّوَابَّ تَذْكُرُ أَوْطَانَهَا فَتَنْزِعُ إِلَيْهَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ تَرَكُوا الْأَمْرَ الَّذِي أَكْرَمْتُ عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ وَالْتَمَسُوا الْكَرَامَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا، أَمَّا أَحْبَارُهُمْ فَأَنْكَرُوا حَقِّي وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ فَعَبَدُوا غَيْرِي، وَأَمَّا نُسَّاكُهُمْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا عَلِمُوا، وَأَمَّا وُلَاتُهُمْ فَكَذَبُوا عَلَيَّ وَعَلَى رُسُلِي.
خَزَنُوا الْمَكْرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَعَوَّدُوا الْكَذِبَ أَلْسِنَتَهُمْ.
وَإِنِّي أُقْسِمُ بِجَلَالِي وَعِزَّتِي لَأُهَيِّجَنَّ عَلَيْهِمْ جُيُولًا لَا يَفْقَهُونَ أَلْسِنَتَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ وُجُوهَهُمْ، وَلَا يَرْحَمُونَ بُكَاءَهُمْ، وَلَأَبْعَثَنَّ فِيهِمْ مَلِكًا جَبَّارًا قَاسِيًا لَهُ عَسَاكِرُ كَقِطَعِ السَّحَابِ وَمَوَاكِبُ كَأَمْثَالِ الْفِجَاجِ (3) كَأَنَّ خَفَقَانَ رَايَاتِهِ طيران النسور وكأن حمل فرسانه كر (4)
__________
(1) روى الخبر في تاريخه 2 / 384 تهذيب.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) في الطبري: العجاج.
(4) في الطبري: كرير.
[*]
(2/41)
الْعِقْبَانِ يُعِيدُونَ الْعُمْرَانَ خَرَابًا وَيَتْرُكُونَ الْقُرَى وَحْشَةً، فياويل إيليا وسكانها كيف أذللهم للقتل وأسلط عليهم السبا وَأُعِيدُ بَعْدَ لَجَبِ الْأَعْرَاسِ صُرَاخًا، وَبَعْدَ صَهِيلِ الْخَيْلِ عُوَاءَ الذِّئَابِ، وَبَعْدَ شُرَافَاتِ الْقُصُورِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ وَبَعْدَ ضَوْءِ السُّرُجِ وَهَجَ الْعَجَاجِ وَبِالْعِزِّ ذلاً وَبِالنِّعْمَةِ الْعُبُودِيَّةَ وَأُبَدِّلَنَّ نِسَاءَهُمْ بَعْدَ الطِّيبِ التُّرَابَ.
وَبِالْمَشْيِ عَلَى الزَّرَابِيِّ الْخَبَبَ، وَلَأَجْعَلَنَّ أَجْسَادَهُمْ زِبْلًا
للأرض وعظامهن ضَاحِيَةً لِلشَّمْسِ وَلَأَدُوسَنَّهُمْ بِأَلْوَانِ الْعَذَابِ، ثُمَّ لَآمُرَنَّ السماء فتكون طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ وَالْأَرْضَ سَبِيكَةً مِنْ نُحَاسٍ، فَإِنْ أَمْطَرَتْ لَمْ تَنْبُتِ الْأَرْضُ، وَإِنْ أَنْبَتَتْ شَيْئًا فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَبِرَحْمَتِي لِلْبَهَائِمِ.
ثُمَّ أَحْبِسُهُ فِي زَمَانِ الزَّرْعِ وَأُرْسِلُهُ فِي زَمَانِ الْحَصَادِ، فَإِنْ زَرَعُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ شَيْئًا سلطت عليه الآفة فإن خلص منه شئ نزعت منه البركة، فإن دعوتي لَمْ أُجِبْهُمْ، وَإِنْ سَأَلُوا لَمْ أُعْطِهِمْ وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْهُمْ، وَإِنْ تَضَرَّعُوا صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهُمْ.
رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ (1) .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا إِدْرِيسُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ أَرْمِيَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ وَذَلِكَ حِينَ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِيهِمْ فَعَمِلُوا بِالْمَعَاصِي وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ طَمِعَ بُخْتُ نَصَّرَ فِيهِمْ وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْتَقِمَ بِهِ مِنْهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا أَنِّي مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ فَقُمْ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَأْتِيكَ أَمْرِي وَوَحْيِي فَقَامَ أَرْمِيَا فَشَقَّ ثِيَابَهُ وَجَعَلَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ: يَا رَبِّ وَدِدْتُ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي حِينَ جَعَلْتَنِي آخِرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ خَرَابُ بَيْتِ المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي فقال لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَبَكَى ثُمَّ قال: يا رب من تسلط عليهم فقال عَبَدَةُ النِّيرَانِ لَا يَخَافُونَ عِقَابِي، وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابِي، قُمْ يَا أَرْمِيَا فَاسْتَمِعْ وَحْيِي أُخْبِرْكَ خَبَرَكَ وَخَبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ.
وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي رَحِمِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ طَهَّرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ نَبَّأْتُكَ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ (2) وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اجْتَبَيْتُكَ فَقُمْ مَعَ الْمَلِكِ تسدده وترشده فكان مع الملك يسدده وَيَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ حَتَّى عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ [في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم] وَنَسَوْا مَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَدَوِّهِمْ سنحاريب وجنوده فأوحى الله إلى أرميا [أن ائت قومك من بني إسرائيل] قُمْ فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ فَقَالَ أَرْمِيَا: " يَا رَبِّ إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي عَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي مُخْطِئٌ إِنْ لَمْ تُسَدِّدْنِي مَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي ذَلِيلٌ إِنْ لَمْ تعزني " فقال تعالى: " أو لم تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَصْدُرُ عَنْ مَشِيئَتِي وَأَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ كُلَّهُ لِي وَأَنَّ الْقُلُوبَ والألسنة (3) كلها بيدي فأقلبها
__________
(1) رواه ابن عساكر في تاريخه 2 / 388، 389، 390 تهذيب.
وروى الخبر الطبري في تاريخه مطولاً بنحوه ج
1 / 286 وما بعدها.
(2) في الطبري: اختبرتك.
(3) في الطبري: والالسن.
[*]
(2/42)
كَيْفَ شِئْتُ فَتُطِيعُنِي فَأَنَا اللَّهُ الَّذِي لَيْسَ شئ مثلي.
قامت السموات وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ بِكَلِمَتِي.
وَأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ التَّوْحِيدُ وَلَمْ تَتِمَّ الْقُدْرَةُ إِلَّا لِي، وَلَا يَعْلَمُ مَا عِنْدِي غَيْرِي.
وَأَنَا الَّذِي كَلَّمْتُ الْبِحَارَ فَفَهِمَتْ قَوْلِي، وَأَمَرْتُهَا فَفَعَلَتْ أَمْرِي، وَحَدَّدْتُ عَلَيْهَا حُدُودًا فَلَا تَعْدُو حَدِّي، وَتَأْتِي بِأَمْوَاجٍ كَالْجِبَالِ، فَإِذَا بَلَغَتْ حَدِّي أَلْبَسْتُهَا مَذَلَّةً لِطَاعَتِي وَخَوْفًا وَاعْتِرَافًا لِأَمْرِي وَإِنِّي مَعَكَ، وَلَنْ يَصِلَ إليك شئ مَعِي، وَإِنِّي بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِي لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِي فَتَسْتَوْجِبَ لِذَلِكَ أَجْرَ مَنِ اتَّبَعَكَ وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا.
انْطَلِقْ إِلَى قَوْمِكَ فَقُمْ فِيهِمْ وَقُلْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَكُمْ بِصَلَاحِ آبَائِكُمْ فَلِذَلِكَ استبقاكم يا معشر أبناء الأنبياء.
وكيف وَجَدَ آبَاؤُكُمْ مَغَبَّةَ طَاعَتِي؟ وَكَيْفَ وَجَدْتُمْ مَغَبَّةَ مَعْصِيَتِي؟ وَهَلْ وَجَدُوا أَحَدًا عَصَانِي؟ فَسَعِدَ بِمَعْصِيَتِي؟ أو هل عَلِمُوا أَحَدًا أَطَاعَنِي فَشَقِيَ بِطَاعَتِي؟ إِنَّ الدَّوَابَّ إِذَا ذَكَرَتْ أَوْطَانَهَا الصَّالِحَةَ نَزَعَتْ إِلَيْهَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ رَتَعُوا فِي مُرُوجِ الْهَلَكَةِ وَتَرَكُوا الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ أَكْرَمْتُ آبَاءَهُمْ وَابْتَغَوُا الْكَرَامَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا.
أَمَّا أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ فَاتَّخَذُوا عبادي خولاً يتعبدونهم ويعملون فِيهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِي حَتَّى أَجْهَلُوهُمْ أَمْرِي وَأَنْسَوْهُمْ ذكري وسنتي وعزوهم عَنِّي.
فَدَانَ لَهُمْ عِبَادِي بِالطَّاعَةِ الَّتِي لَا تنبغي إلا ليي فَهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَتِي.
وَأَمَّا مُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ فَبَطَرُوا نِعْمَتِي وَأَمِنُوا مَكْرِي وَغَرَّتْهُمُ الدُّنْيَا حَتَّى نبذوا كتابي ونسوا عهدي، فهم يحترمون كتابي ويفترون على رسلي جرأة منهم وَغِرَّةً بِي فَسُبْحَانَ جَلَالِي وَعُلُوِّ مَكَانِي، وَعَظَمَةِ شَأْنِي هَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِي شَرِيكٌ فِي مُلْكِي؟ وَهَلْ يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَتِي؟ وَهَلْ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْلُقَ عِبَادًا أَجْعَلُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِي؟ أَوْ آذَنَ لِأَحَدٍ بِالطَّاعَةِ لِأَحَدٍ.
وَهِيَ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي.
وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ فَيَدْرُسُونَ مَا يَتَخَيَّرُونَ فَيَنْقَادُونَ لِلْمُلُوكِ فَيُتَابِعُونَهُمْ عَلَى الْبِدَعِ الَّتِي يَبْتَدِعُونَ فِي دِينِي، وَيُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَتِي، وَيُوفُونَ لَهُمْ بالعهود الناقضة لعهدي، فهم جهلة بما يعملون لا ينتفعون بشئ مِمَّا عَلِمُوا مِنْ كِتَابِي.
وَأَمَّا أَوْلَادُ النَّبِيِّينَ، فمقهورون ومفتونون، يخوضون مع الخائضين، يتمون مِثْلَ نَصْرِي آبَاءَهُمْ وَالْكَرَامَةَ الَّتِي أَكْرَمْتُهُمْ بِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ صِدْقٍ مِنْهُمْ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا يَذْكُرُونَ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ آبَائِهِمْ.
وَكَيْفَ كَانَ جُهْدُهُمْ في أمري حين اغتر المغترون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم بصروا وَصَدَقُوا حَتَّى عَزَّ أَمْرِي وَظَهَرَ دِينِي فَتَأَنَّيْتُ هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني.
فَتَطَوَّلْتُ عَلَيْهِمْ وَصَفَحْتُ عَنْهُمْ فَأَكْثَرْتُ وَمَدَدْتُ لَهُمْ فِي الْعُمُرِ، وَأَعْذَرْتُ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
وَكُلُّ ذَلِكَ أُمْطِرُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَأُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضَ وألبسهم
(2/43)
الْعَافِيَةَ وَأُظْهِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ، وَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا طُغْيَانًا وَبُعْدًا مِنِّي، فَحَتَّى مَتَى هَذَا؟ أَبِي يسخرون؟ أم بي يتحرشون؟ أَمْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ؟ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ فَإِنِّي أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحكيم (1) ، وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْيُ ذَوِي الرَّأْيِ وَحِكْمَةُ الْحَكِيمِ، ثم لأسلطن عليهم جباراً قاسياً عاتباً أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ وَأَنْزِعُ مِنْ قَلْبِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل [سواد] اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ.
لَهُ فِيهِ عَسَاكِرُ مِثْلُ قِطَعِ السَّحَابِ وَمُوَاكِبُ مِثْلُ الْعَجَاجِ، وَكَأَنَّ حَفِيفَ (2) رَايَاتِهِ طَيَرَانُ النُّسُورِ وَحَمْلَ فُرْسَانِهِ كَسِرْبِ (3) الْعِقْبَانِ يُعِيدُونَ العمران خراباً والقرى وحشاً ويعثون فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَيُتَبِّرُونَ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون وَلَا يَرْحَمُونَ.
وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ يَجُولُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بِأَصْوَاتٍ مُرْتَفِعَةٍ مِثْلَ زَئِيرِ الْأُسْدِ تَقْشَعِرُّ مِنْ هَيْبَتِهَا الْجُلُودُ وَتَطِيشُ مِنْ سَمْعِهَا الْأَحْلَامُ بِأَلْسِنَةٍ لَا يَفْقَهُونَهَا وَوُجُوهٍ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا المنكر لا يعرفونها.
فوعرتي لاعطلن ببوتهم مِنْ كُتُبِي وَقُدُسِي وَلَأُخْلِيَنَّ مَجَالِسَهُمْ مِنْ حَدِيثِهَا وَدُرُوسِهَا وَلَأُوحِشَنَّ مَسَاجِدَهُمْ مِنْ عُمَّارِهَا وَزُوَّارِهَا الَّذِينَ كَانُوا يَتَزَيَّنُونَ بِعِمَارَتِهَا لِغَيْرِي، وَيَتَهَجَّدُونَ فِيهَا وَيَتَعَبَّدُونَ لِكَسْبِ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَيَتَفَقَّهُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعَمَلِ، لَأُبَدِّلَنَّ مُلُوكَهَا بِالْعِزِّ الذُّلَّ وَبِالْأَمْنِ الْخَوْفَ وَبِالْغِنَى
الْفَقْرَ وَبِالنِّعْمَةِ الْجُوعَ وَبِطُولِ الْعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ وَبِلِبَاسِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ مَدَارِعَ الْوَبَرِ وَالْعَبَاءَ، وَبِالْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَدْهَانِ جيف القتل، وَبِلِبَاسِ التِّيجَانِ أَطْوَاقَ الْحَدِيدِ وَالسَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ.
ثُمَّ لَأُعِيدَنَّ فِيهِمْ بَعْدَ الْقُصُورِ الْوَاسِعَةِ، وَالْحُصُونِ الْحَصِينَةِ الْخَرَابَ، وَبَعْدَ الْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ، وَبَعْدَ صَهِيلِ الْخَيْلِ عُوَاءَ الذِّئَابِ، وَبَعْدَ ضَوْءِ السِّرَاجِ دُخَانَ الْحَرِيقِ، وَبَعْدَ الْأُنْسِ الْوَحْشَةَ وَالْقِفَارَ.
ثُمَّ لَأُبَدِّلَنَّ نِسَاءَهَا بِالْأَسْوِرَةِ الْأَغْلَالَ، وَبِقَلَائِدِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ سَلَاسِلَ الْحَدِيدِ.
وَبِأَلْوَانِ الطِّيبِ وَالْأَدْهَانِ النَّقْعَ وَالْغُبَارَ، وَبِالْمَشْيِ عَلَى الزَّرَابِيِّ عُبُورَ الْأَسْوَاقِ وَالْأَنْهَارِ وَالْخَبَبَ إِلَى اللَّيْلِ فِي بُطُونِ الْأَسْوَاقِ، وَبِالْخُدُورِ وَالسُّتُورِ الْحُسُورَ عَنِ الْوُجُوهِ، وَالسُّوقِ وَالْإِسْفَارَ وَالْأَرْوَاحِ السَّمُومَ.
ثُمَّ لَأَدُوسَنَّهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْكَائِنُ مِنْهُمْ فِي حَالِقٍ (4) لَوَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، إِنِّي إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي، وَإِنَّمَا أُهِينُ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرِي.
ثُمَّ لَآمُرَنَّ السَّمَاءَ خِلَالَ ذَلِكَ فَلَتَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَآمُرَنَّ الْأَرْضَ فَلَتَكُونَنَّ سَبِيكَةً مِنْ نُحَاسٍ فَلَا سَمَاءَ تُمْطِرُ وَلَا أَرْضَ تُنْبِتُ.
فَإِنْ أَمْطَرَتْ خِلَالَ ذَلِكَ شَيْئًا سَلَّطْتُ عَلَيْهِمُ الْآفَةَ فَإِنْ خلص منه شئ نَزَعْتُ مِنْهُ الْبَرَكَةَ، وَإِنْ دَعَوْنِي لَمْ أُجِبْهُمْ وَإِنْ سَأَلُونِي لَمْ أُعْطِهِمْ وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْهُمْ، وَإِنْ تَضَرَّعُوا إِلَيَّ صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهُمْ.
وَإِنْ قَالُوا اللَّهُمَّ أَنْتَ الَّذِي ابْتَدَأْتَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرَامَتِكَ، وَذَلِكَ بِأَنَّكَ اخْتَرْتَنَا لِنَفْسِكَ، وَجَعَلْتَ فِينَا نُبُوَّتَكَ وَكِتَابَكَ وَمَسَاجِدَكَ ثُمَّ مكنت لنا في البلاد،
__________
(1) في الطبري: الحليم.
(2) في الطبري: خفيق.
(3) في الطبري 1 / 287: كرير العقبان.
(4) حالق: المكان المرتفع.
[*]
(2/44)
وَاسْتَخْلَفْتَنَا فِيهَا وَرَبَّيْتَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا بِنِعْمَتِكَ صِغَارًا، وَحَفِظْتَنَا وَإِيَّاهُمْ بِرَحْمَتِكَ كِبَارًا فَأَنْتَ أَوْفَى المنعمين وَإِنْ غَيَّرْنَا.
وَلَا تُبَدِّلْ.
وَإِنْ بَدَّلْنَا، وَأَنْ تُتِمَّ فَضْلَكَ وَمَنَّكَ وَطَوْلَكَ وَإِحْسَانَكَ، فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ قُلْتُ لَهُمْ إِنِّي أَبْتَدِئُ عِبَادِي بِرَحْمَتِي وَنِعْمَتِي.
فَإِنْ قَبِلُوا أَتْمَمْتُ وَإِنِ اسْتَزَادُوا زِدْتُ، وإن
شكروا ضاعفت، وإن غيروا غَيَّرْتُ، وَإِذَا غَيَّرُوا غَضِبْتُ.
وَإِذَا غَضِبْتُ عَذَّبْتُ وليس يقوم شئ بغضبي.
قال كعب: فقال أرميا: برحمتك أصبحت أتعلم بَيْنَ يَدَيْكَ، وَهَلْ يَنْبَغِي ذَلِكَ لِي وَأَنَا أَذَلُّ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَنْبَغِيَ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنْ بِرَحْمَتِكَ أَبْقَيْتَنِي لِهَذَا الْيَوْمِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ أَنْ يَخَافَ هَذَا الْعَذَابَ وَهَذَا الْوَعِيدَ مِنِّي بِمَا رَضِيتَ بِهِ مِنِّي طَوْلًا، وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْخَاطِئِينَ وَهُمْ يعصونك حولي بغير نكر وَلَا تَغْيِيرٍ مِنِّي، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَبِذَنْبِي، وَإِنْ تَرْحَمْنِي فَذَلِكَ ظَنِّي بِكَ.
ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ أَتُهْلِكُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَمَا حَوْلَهَا وَهِيَ مَسَاكِنُ أَنْبِيَائِكَ وَمَنْزِلُ وَحْيِكَ؟ يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ لِمَخْرَبِ هَذَا الْمَسْجِدِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَمِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي رُفِعَتْ لِذِكْرِكَ، يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمقتل هَذِهِ الْأُمَّةَ وَعَذَابِكَ إِيَّاهُمْ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ، وَأُمَّةِ مُوسَى نَجِيِّكَ، وَقَوْمِ دَاوُدَ صَفِيِّكَ، يَا رَبِّ أَيُّ الْقُرَى تَأْمَنُ عُقُوبَتَكَ بعد؟ وَأَيُّ الْعِبَادِ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَكَ بَعْدَ وَلَدِ خَلِيلِكَ إِبْرَاهِيمَ؟ وَأُمَّةِ نَجِيِّكَ مُوسَى؟ وَقَوْمِ خَلِيفَتِكَ دَاوُدَ؟ تُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَبَدَةَ النِّيرَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَرْمِيَا مَنْ عَصَانِي فَلَا يَسْتَنْكِرُ نِقْمَتِي، فَإِنِّي إِنَّمَا أَكْرَمْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى طَاعَتِي، ولو أنهم عصوني لأنزلنهم دَارَ الْعَاصِينَ إِلَّا أَنْ أَتَدَارَكَهُمْ بِرَحْمَتِي ".
قَالَ أَرْمِيَا: يَا رَبِّ اتَّخذت إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَحَفِظْتَنَا بِهِ.
وَمُوسَى قَرَّبْتَهُ نَجَّيًا فَنَسْأَلُكَ أَنْ تَحْفَظَنَا وَلَا تَتَخَطَّفَنَا وَلَا تُسَلِّطَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: " يَا أَرْمِيَا إِنِّي قَدَّسْتُكَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ وَأَخَّرْتُكَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ فَلَوْ أَنَّ قَوْمَكَ حَفِظُوا الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السبيل لمكنت الدَّاعِمَ لَهُمْ وَكَانُوا عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ جَنَّةٍ نَاعِمٍ شَجَرُهَا طَاهِرٍ مَاؤُهَا وَلَا يَغُورُ مَاؤُهَا وَلَا تَبُورُ ثِمَارُهَا وَلَا تَنْقَطِعُ، وَلَكِنْ سَأَشْكُو إِلَيْكَ بني إسرائيل: إني كنت لهم بمنزلة الداعي الشَّفِيقِ أُجَنِّبُهُمْ كُلَّ قَحْطٍ وَكُلَّ عُسْرَةٍ وَأُتْبِعُ بِهِمُ الْخَصْبَ حَتَّى صَارُوا كِبَاشًا يَنْطَحُ بَعْضُهَا بعضا فياويلهم ثُمَّ يَا وَيْلَهُمْ إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي وَأُهِينَ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرِي، إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنَ الْقُرُونِ يَسْتَخْفُونَ بِمَعْصِيَتِي، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَتَبَرَّعُونَ بِمَعْصِيَتِي تَبَرُّعًا فيظهرونها في المساجد والأسواق وعلى رؤوس الْجِبَالِ
وَظِلَالِ الْأَشْجَارِ حَتَّى عَجَّتِ السَّمَاءُ إليَّ مِنْهُمْ وَعَجَّتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَنَفَرَتْ مِنْهَا الْوُحُوشُ بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ وَأَقَاصِيهَا وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَا ينهون وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَلِمُوا مِنَ الْكِتَابِ ".
قَالَ فَلَمَّا بَلَّغَهُمْ أَرْمِيَا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ وَسَمِعُوا مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ عَصَوْهُ وَكَذَّبُوهُ وَاتَّهَمُوهُ وقالوا: " كذبت وأعظمت عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ فَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ مُعَطِّلٌ أَرْضَهُ وَمَسَاجِدَهُ مِنْ كِتَابِهِ وَعِبَادَتِهِ
(2/45)
وَتَوْحِيدِهِ فَمَنْ يَعْبُدُهُ حِينَ لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْأَرْضِ عَابِدٌ وَلَا مَسْجِدٌ وَلَا كِتَابٌ، لَقَدْ أَعْظَمْتَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَاعْتَرَاكَ الْجُنُونُ " فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ وَسَجَنُوهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ فَأَقْبَلَ يَسِيرُ بِجُنُودِهِ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ حَاصَرَهُمْ فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) [الإسراء: 5] قَالَ فَلَمَّا طَالَ بِهِمُ الْحَصْرُ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَفَتَحُوا الأبواب وتخللوا الأزقة وذلك قوله: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) وَحَكَمَ فِيهِمْ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ فَقَتَلَ مِنْهُمُ الثُّلُثَ، وَسَبَى الثُّلُثَ، وَتَرَكَ الزَّمْنَى (1) ، وَالشُّيُوخَ وَالْعَجَائِزَ ثُمَّ وَطِئَهُمْ بِالْخَيْلِ وَهَدَمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وساق الصبيان، وأوقف النساء في الأسواق حاسرات، وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَخَرَّبَ الْحُصُونَ، وَهَدَمَ الْمَسَاجِدَ، وَحَرَقَ التوراة، وسأل عن دانيال الذي كان قد كَتَبَ لَهُ الْكِتَابَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ وَأَخْرَجَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْكِتَابَ إِلَيْهِ وَكَانَ فِيهِمْ دَانْيَالُ بْنُ حِزْقِيلَ الْأَصْغَرُ وَمِيشَائِيلُ وَعِزْرَائِيلُ وَمِيخَائِيلُ فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ وَكَانَ دَانْيَالُ بْنُ حِزْقِيلَ خَلَفًا مِنْ دَانْيَالَ الْأَكْبَرِ.
وَدَخَلَ بُخْتُ نَصَّرَ بِجُنُودِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَوَطِئَ الشَّامَ كُلَّهَا وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا انْصَرَفَ رَاجِعًا وَحَمَلَ الْأَمْوَالَ الَّتِي كَانَتْ بِهَا، وَسَاقَ السَّبَايَا فَبَلَغَ مَعَهُ عِدَّةُ صِبْيَانِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَحْبَارِ وَالْمُلُوكِ تِسْعِينَ أَلْفَ (2) غُلَامٍ وَقَذَفَ الْكُنَاسَاتِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَبَحَ فِيهِ الْخَنَازِيرَ، وَكَانَ الْغِلْمَانُ سَبْعَةَ آلَافِ غُلَامٍ مَنْ بَيْتِ دَاوُدَ، وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ سبط ايشى بْنِ يَعْقُوبَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ زَبَالُونَ وَنِفْتَالِي ابْنَيْ يَعْقُوبَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ دَانِ بْنِ يَعْقُوبَ وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ يَسْتَاخِرَ بْنِ يَعْقُوبَ وَأَلْفَيْنِ مِنْ سبط زيكون (3) بْنِ يَعْقُوبَ وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ وَلَاوِي وَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَانْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ
أَرْضَ بَابِلَ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: فَلَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ قِيلَ لَهُ: كَانَ لَهُمْ صَاحِبٌ يُحَذِّرُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ وَيَصِفُكَ وَخَبَرَكَ لَهُمْ.
وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَتَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ وَتَهْدِمُ مَسَاجِدَهُمْ وَتَحْرِقُ كَنَائِسَهُمْ فَكَذَّبُوهُ وَاتَّهَمُوهُ وَضَرَبُوهُ وَقَيَّدُوهُ وَحَبَسُوهُ.
فَأَمَرَ بُخْتَ نَصَّرَ فَأَخْرَجَ أَرْمِيَا مِنَ السِّجْنِ فَقَالَ لَهُ أَكُنْتَ تُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا أَصَابَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُونِي قَالَ كَذَّبُوكَ وَضَرَبُوكَ وَسَجَنُوكَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ وَكَذَّبُوا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَلْحَقَ بِي فَأُكْرِمُكَ وَأُوَاسِيكَ وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُقِيمَ فِي بِلَادِكَ فَقَدْ أَمَّنْتُكَ " قَالَ لَهُ أَرْمِيَا: إِنِّي لَمْ أَزَلْ فِي أَمَانِ اللَّهِ مُنْذُ كُنْتُ، لَمْ أَخْرُجْ مِنْهُ سَاعَةً قَطُّ، وَلَوْ أَنَّ بَنِي
__________
(1) الزمني: أصحاب العاهات.
(2) في الطبري: سبعين ألف صبي.
أراد أن يقسمهم على جنوده، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: زبالون وهو تحريف وسقطت من الطبري ; وفيه زاد: وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب.
[*]
(2/46)
إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ لَمْ يَخَافُوكَ وَلَا غَيْرَكَ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ فَلَمَّا سَمِعَ بُخْتَ نَصَّرَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ تَرَكَهُ، فأقام أرميا مكانه بأرض إيليا.
وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ.
وَفِيهِ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَأَشْيَاءُ مَلِيحَةٌ وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيبِ غَرَابَةٌ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بُخْتُ نَصَّرَ أُصْفَهْبَذًا لِمَا بَيْنَ الْأَهْوَازِ إِلَى الرُّومِ لِلْمَلِكِ عَلَى الْفُرْسِ وَهُوَ لِهْرَاسْبُ.
وَكَانَ قد بنى مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء (1) ، وَقَاتَلَ التُّرْكَ وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الْأَمَاكِنِ وَبَعَثَ بُخْتُ نَصَّرَ لِقِتَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشَّامِ فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ صَالَحَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي بَعَثَ بُخْتُ نَصَّرَ إِنَّمَا هُوَ بَهْمَنُ مَلِكُ الْفُرْسِ بَعْدَ بَشْتَاسِبُ بْنِ لَهْرَاسِبُ وَذَلِكَ لِتَعَدِّي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ
بُخْتُ نَصَّرَ لَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ وَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا يَعْنِي الْقُمَامَةَ فَسَأَلَهُمْ مَا هَذَا الدَّمُ؟ فَقَالُوا أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْكِبَا ظَهَرَ قَالَ فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فَسَكَنَ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بَعْدَ بُخْتُ نَصَّرَ بِمُدَّةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا دَمُ نَبِيٍّ مُتَقَدِّمٍ أَوْ دَمٌ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ أَوْ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِمَّنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ ثُمَّ قَدِمَ بُخْتُ نَصَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا وَكَانَ مِنْ آلِ دَاوُدَ وَصَانَعَهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَخَذَ مِنْهُ بُخْتُ نَصَّرَ رَهَائِنَ وَرَجَعَ.
فَلَمَّا بَلَغَ طَبَرِيَّةَ بَلَغَهُ إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَارُوا عَلَى مَلِكِهِمْ فَقَتَلُوهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ صَالَحَهُ فَضَرَبَ رِقَابَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الرَّهَائِنِ وَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَخَذَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً.
وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ.
قَالَ وَبَلَغَنَا أَنَّهُ وَجَدَ فِي السِّجْنِ أَرْمِيَا النَّبِيَّ فَأَخْرَجَهُ وقصَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ وَتَحْذِيرِهِ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَكَذَّبُوهُ وَسَجَنُوهُ.
فَقَالَ بُخْتُ نَصَّرَ: بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ عَصَوْا رَسُولَ اللَّهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ ضُعَفَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَسَأْنَا وظلمنا ونحن نتوب إلى الله عزوجل مِمَّا صَنَعْنَا فادعُ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَنَا فَدَعَا رَبَّهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ (2) فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَلْيُقِيمُوا مَعَكَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ فَأَخْبَرَهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَقَالُوا كَيْفَ نُقِيمُ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ وَقَدْ خَرِبَتْ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَى أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُقِيمُوا (3) .
قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْبِلَادِ فَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْحِجَازَ وَطَائِفَةٌ يَثْرِبَ وَطَائِفَةٌ وَادِي الْقُرَى (4) ، وَذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْهُمْ إِلَى مِصْرَ فَكَتَبَ بُخْتُ نَصَّرَ إلى ملكها
__________
(1) في الطبري: الحسناء.
(2) في الطبري: أنهم غير فاعلين.
(3) الخبر في الطبري (ج 1 / 281 قاموس حديث) .
(4) العبارة في الطبري: ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى وغيرها.
[*]
(2/47)
يَطْلُبُ مِنْهُ مَنْ شَرَدَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَأَبَى عَلَيْهِ فَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ فَقَاتَلَهُ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ.
ثُمَّ
رَكِبَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ حَتَّى بَلَغَ أَقْصَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ.
قَالَ ثُمَّ انْصَرَفَ بِسَبْيٍ كَثِيرٍ مِنْ أَرْضِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ وَأَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَرْضِ فِلَسْطِينَ وَالْأُرْدُنِّ وَفِي السبي دانيال [وغيره من الأنبياء] (1) .
قُلْتُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَانْيَالُ بْنُ حَزْقِيلَ الْأَصْغَرُ لَا الْأَكْبَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ منبه والله أعلم.
[ذكر] (2) شئ مِنْ خَبَرِ دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ مِنْ شعيب ابن صَفْوَانَ فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ، عَنِ الْأَجْلَحِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، قال ضرا بُخْتُ نَصَّرَ أَسَدَيْنِ فَأَلْقَاهُمَا فِي جُبٍّ، وَجَاءَ بِدَانْيَالَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يُهَيِّجَاهُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اشْتَهَى مَا يَشْتَهِي الْآدَمِيُّونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا وَهُوَ بِالشَّامِ: أَنْ أَعْدِدْ طَعَامًا وَشَرَابًا لِدَانْيَالَ فَقَالَ يَا رَبِّ أَنَا بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَدَانْيَالُ بِأَرْضِ بَابِلَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَعْدِدْ مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ فَإِنَّا سَنُرْسِلُ مَنْ يَحْمِلُكَ وَيَحْمِلُ مَا أَعْدَدْتَ.
فَفَعَلَ وأرسل إليه من حمله وحمل ما أعده حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْجُبِّ فَقَالَ دَانْيَالُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا أَرْمِيَا.
فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ.
قَالَ وَقَدْ ذَكَرَنِي رَبِّي؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ دَانْيَالُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ.
والحمد لله الذي يجيب مَنْ رَجَاهُ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَكِلْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَجْزِي بِالصَّبْرِ نَجَاةً.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ يَكْشِفُ ضُرَّنَا بَعْدَ كَرْبِنَا.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يقينا حين يسوء ظننا بِأَعْمَالِنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ رَجَاؤُنَا حِينَ ينقطع الْحِيَلُ عَنَّا.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحق، عن أبي خلد بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحْنَا تُسْتَرَ وَجَدْنَا فِي مَالِ بَيْتِ الْهُرْمُزَانِ سَرِيرًا عَلَيْهِ رَجُلٌ مَيِّتٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مُصْحَفٌ فَأَخَذْنَا الْمُصْحَفَ فَحَمَلْنَاهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَعَا لَهُ كَعْبًا فَنَسَخَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ.
فَأَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَرَأَهُ، قَرَأْتُهُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ الْقُرْآنَ هَذَا.
فَقُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: مَا كَانَ فِيهِ؟ قَالَ سِيَرُكُمْ وَأُمُورُكُمْ وَلُحُونُ كَلَامِكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدُ.
قُلْتُ: فَمَا صَنَعْتُمْ بِالرَّجُلِ؟ قَالَ حَفَرْنَا بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا مُتَفَرِّقَةً، فَلَمَّا كَانَ بِاللَّيْلِ دَفَنَّاهُ وَسَوَّيْنَا الْقُبُورَ كُلَّهَا لِنُعَمِّيَهُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يَنْبِشُونَهُ.
قُلْتُ:
فَمَا يَرْجُونَ مِنْهُ، قَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ إِذَا حبست عنهم [المطر] (3) بَرَزُوا بِسَرِيرِهِ فَيُمْطَرُونَ.
قُلْتُ: مَنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ الرَّجُلَ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ دَانْيَالُ قُلْتُ مُنْذُ كَمْ وَجَدْتُمُوهُ قَدْ مَاتَ قَالَ مُنْذُ ثلثمائة سنة قلت: ما تغير منه شئ قَالَ لَا إِلَّا شَعَرَاتٌ مِنْ قَفَاهُ، إِنَّ لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض
__________
(1) من الطبري.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
[*]
(2/48)
وَلَا تَأْكُلُهَا السِّبَاعُ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ وَلَكِنْ إِنْ كَانَ تَارِيخُ وَفَاتِهِ محفوظاً من ثلثمائة سَنَةٍ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ بَلْ هُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ لأن عيسى بن مَرْيَمَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ وَالْفَتْرَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ؟ وَقِيلَ سِتُّمِائَةٍ وَقِيلَ سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَقَدْ يَكُونُ تَارِيخُ وَفَاتِهِ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ وَقْتِ دَانْيَالَ إِنْ كَانَ كَوْنُهُ دَانْيَالَ هُوَ الْمُطَابِقَ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَجُلًا آخَرَ إِمَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الصَّالِحِينَ وَلَكِنْ قَرُبَتِ الظُّنُونُ أَنَّهُ دَانْيَالُ لِأَنَّ دَانْيَالَ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ مَلِكُ الْفُرْسِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ مَسْجُونًا كَمَا تقدَّم.
وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ طُولَ أَنْفِهِ شِبْرٌ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَنَّ طُولَ أَنْفِهِ ذِرَاعٌ فَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُبُورِ: حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الله، عن أبي الاشعت الْأَحْمَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " إن دانيال دعا ربه عزوجل أَنْ تَدْفِنَهُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ تُسْتَرَ وَجَدَهُ فِي تَابُوتٍ تَضْرِبُ عُرُوقُهُ وَوَرِيدَهُ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ دَلَّ عَلَى دَانْيَالَ فَبَشِّرُوهُ بِالْجَنَّةِ.
فَكَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ حُرْقُوصٌ فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بِخَبَرِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنِ ادْفِنْهُ وَابْعَثْ إِلَى حُرْقُوصٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بشَّره بِالْجَنَّةِ وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي كَوْنِهِ مَحْفُوظًا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنيا: حدَّثنا أَبُو بِلَالٍ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ وَكَانَ عَالِمًا، قَالَ: وَجَدَ أَبُو مُوسَى مَعَ دَانْيَالَ مُصْحَفًا وَجَرَّةً فِيهَا وَدَكٌ وَدَرَاهِمُ وَخَاتَمُهُ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا الْمُصْحَفُ فَابْعَثْ بِهِ إِلَيْنَا وَأَمَّا الْوَدَكُ فَابْعَثْ إِلَيْنَا مِنْهُ وَمُرْ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَشْفُونَ بِهِ وَاقْسِمِ الدَّرَاهِمَ بَيْنَهُمْ وَأَمَّا الخاتم فقد نفلناكه.
وروي عن ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا وَجَدَهُ وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُ دَانْيَالُ الْتَزَمَهُ وَعَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ.
وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَهُ وَأَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهُ مَالًا مَوْضُوعًا قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَكَانَ مَنْ جَاءَ اقْتَرَضَ مِنْهَا فَإِنْ رَدَّهَا وَإِلَّا مَرِضَ وَأَنَّ عِنْدَهُ رَبْعَةً (1) فَأَمَرَ عُمَرُ بِأَنْ يُغْسَلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ (2) وَيُكَفَّنَ وَيُدْفَنَ وَيُخْفَى قَبْرُهُ، فَلَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ وَأَمَرَ بِالْمَالِ أَنْ يُرَدَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ وَبِالرَّبْعَةِ فَتُحْمَلُ إِلَيْهِ وَنَفَلَهُ خَاتَمَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّهُ أَمَرَ أَرْبَعَةً مِنَ الْأُسَرَاءِ فَسَكَرُوا نَهْرًا (3) وَحَفَرُوا فِي وَسَطِهِ قَبْرًا فَدَفَنَهُ فِيهِ ثُمَّ قَدَّمَ الْأَرْبَعَةَ الْإُسَرَاءَ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَ (4) قَبْرِهِ غَيْرُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه
__________
(1) ربعة: صندوق تحفظ فيه الاوراق وأجزاء القرآن.
(2) سدر: شجرة النبق.
(3) سكروا نهرا: سدوه.
(4) في نسخة: مكان قبره ; وقال في المعارف: إن قبره كان بناحية السوس، وبقول صاحب أخبار الدول أن أبا = [*]
(2/49)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، حدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ في يد ابن بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ خَاتَمًا نَقْشُ فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَالَ أَبُو بُرْدَةُ هَذَا خَاتَمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَيِّتِ الَّذِي زَعَمَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ أَنَّهُ دَانْيَالُ أَخَذَهُ أَبُو مُوسَى يَوْمَ دَفَنَهُ.
قَالَ أَبُو بُرْدَةَ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عُلَمَاءَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ عَنْ نَقْشِ ذَلِكَ الْخَاتَمِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ دَانْيَالُ فِي سُلْطَانِهِ جَاءَهُ الْمُنَجِّمُونَ وَأَصْحَابُ الْعِلْمِ فَقَالُوا لَهُ إِنَّهُ يُولَدُ لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا غُلَامٌ يَعُورُ (1) مُلْكَكَ وَيُفْسِدُهُ فَقَالَ الْمَلِكُ وَاللَّهِ لَا يَبْقَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ إِلَّا أَنَّهُمْ أَخَذُوا دَانْيَالَ فَأَلْقَوْهُ فِي أَجَمَةِ الْأَسَدِ فَبَاتَ الْأَسَدُ
وَلَبْوَتُهُ يَلْحَسَانِهِ وَلَمْ يَضُرَّاهُ فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَوَجَدَتْهُمَا يَلْحَسَانِهِ فَنَجَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ قَالَ أَبُو مُوسَى قَالَ: عُلَمَاءُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَنَقَشَ دَانْيَالُ صُورَتَهُ وَصُورَةَ الْأَسَدَيْنِ يَلْحَسَانِهِ فِي فَصِّ خَاتَمِهِ لِئَلَّا يَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
[ذِكْرُ] (2) عِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهَا وَاجْتِمَاعِ [الملأ من] (2) بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ [وشعابها] (2)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ على كل شئ قدير) [البقرة: 259] قال هشام بن الكلبي: ثم أوحى الله تعالى إلى أعليه السَّلَامُ فِيمَا بَلَغَنِي: أَنَّى عَامِرٌ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فأخرج إليها فأنزلها، فخرج حتى قدمها خَرَابٌ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَنْزِلَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَامِرُهَا فَمَتَى يَعْمُرُهَا؟ وَمَتَى يُحْيِيهَا اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟ ثمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ وَمَعَهُ حِمَارُهُ وَسَلَّةٌ مِنْ طَعَامٍ (3) فَمَكَثَ فِي نَوْمِهِ سَبْعِينَ (4) سَنَةً حَتَّى هَلَكَ بُخْتُ نَصَّرَ وَالْمَلِكُ الَّذِي فَوْقَهُ وَهُوَ لِهْرَاسْبُ وَكَانَ مُلْكُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بَشْتَاسِبُ بْنُ لِهْرَاسْبَ وَكَانَ مَوْتُ بُخْتُ نَصَّرَ فِي دَوْلَتِهِ فَبَلَغَهُ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ أَنَّهَا خَرَابٌ وَأَنَّ السِّبَاعَ قَدْ كَثُرَتْ فِي أَرْضِ فِلَسْطِينَ فَلَمْ يَبْقَ بِهَا مِنَ الْإِنْسِ أَحَدٌ فَنَادَى فِي أَرْضِ بابل في
__________
= موسى وجده في العراق.
وقال ابن الأثير في كامله: وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان 1 / 268.
(1) يعور ملكه: يهلكه.
(2) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) عصير من عنب في ركوة وسلة تين ; في رواية أخرى للطبري.
(4) فأماته الله مائة عام.
في رواية أخرى عند الطبري.
[*]
(2/50)
بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الشَّامِ فَلْيَرْجِعْ وملَّك عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ آلِ دَاوُدَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمُرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيَبْنِيَ مَسْجِدَهَا فَرَجَعُوا فَعَمَرُوهَا وَفَتَحَ اللَّهُ لِأَرْمِيَا عَيْنَيْهِ فَنَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَيْفَ تُبْنَى وَكَيْفَ تُعَمَّرُ وَمَكَثَ فِي نَوْمِهِ ذَلِكَ حَتَّى تَمَّتْ لَهُ مِائَةُ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ وَهُوَ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ نَامَ أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ وَقَدْ عَهِدَ الْمَدِينَةَ خَرَابًا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا عَامِرَةً آهِلَةً قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كل شئ قَدِيرٌ.
قَالَ فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَا وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ فَمَكَثُوا كَذَلِكَ حَتَّى غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الرُّومُ فِي زَمَنِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ.
ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا سُلْطَانٌ يَعْنِي بَعْدَ ظُهُورِ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ.
هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ لِهْرَاسْبَ كَانَ مَلِكًا عَادِلًا سَائِسًا لِمَمْلَكَتِهِ قَدْ دَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالْمُلُوكُ وَالْقُوَّادُ وَأَنَّهُ كَانَ ذَا رَأْيٍ جَيِّدٍ فِي عِمَارَةِ الْأَمْصَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَعَاقِلِ.
ثُمَّ لَمَّا ضَعُفَ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ وَنَيِّفٍ نَزَلَ عَنِ الْمُلْكِ لِوَلَدِهِ بَشْتَاسِبَ فَكَانَ فِي زَمَانِهِ ظُهُورُ دِينِ الْمَجُوسِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ اسمه زردشت كَانَ قَدْ صَحِبَ أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَغْضَبَهُ فدعا عليه أرميا فبرص زردشت فَذَهَبَ فَلَحِقَ بِأَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ وَصَحِبَ بَشْتَاسِبَ فَلَقَّنَهُ دِينَ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِي اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَقَبِلَهُ مِنْهُ بَشْتَاسِبُ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُمْ وقتل منهم خلقاً كثير ممن أباه منهم.
ثم كان بعد يشتاسب بهمن بْنُ بَشْتَاسِبَ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ الْمَشْهُورِينَ وَالْأَبْطَالِ الْمَذْكُورِينَ وَقَدْ نَابَ بُخْتُ نَصَّرَ لِكُلِّ واحدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وعمَّر دَهْرًا طَوِيلًا قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَارَّ عَلَى هذه القرية هو أرميا عليه السلام.
قال (2) وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ قَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ السباق الْمُتَقَدِّمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن سلام وابن عباس والحسن وقتاة وَالسُّدِّيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عُزَيْرٌ.
وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ السَّلف وَالْخَلَفِ والله أعلم.
وَهَذِهِ قِصَّةُ الْعُزَيْرِ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بن عساكر: هو عزير بن جروة ويقال بن سوريق بن عديا بن أيوب ابن درزنا بن عري بن تقي بن اسبوع بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَازِرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عمران.
ويقال عزير بن
سروخا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ قَبْرَهُ بِدِمَشْقَ.
ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ حِبَّانَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن ابن عبَّاس مرفوعاً لا أدري العين بيع أَمْ لَا وَلَا أَدْرِي أَكَانَ عُزَيْرٌ نَبِيًّا أَمْ لَا ثمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُؤَمَّلِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقِ السِّجْزِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ (3) ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عن أبي
__________
(1) تاريخ الطبري (1 / 281 - 282 قاموس حديث) .
(2) في نسخ البداية المطبوعة: قال وهو تحريف.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: ابن أبي ذؤيب وهو تحريف.
وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، أبو الحارث أحد الاعلام روى عن عكرمة ونافع والزهري وعنه معمر وغيره.
ثقة وكان يفتي بالمدينة.
توفي سنة 159 الكاشف ج 3 / 62.
[*]
(2/51)
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ جُوَيْبِرٍ ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس أن عزيزا كَانَ مِمَّنْ سَبَاهُ بُخْتُ نَصَّرَ وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ قَالَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحْفَظَ وَلَا أَعْلَمَ بِالتَّوْرَاةِ مِنْهُ قَالَ وَكَانَ يُذكر مَعَ الأنبياء حتى محى اللَّهُ اسْمَهُ مِنْ ذَلِكَ حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ عَنِ الْقَدَرِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ وَمُنْقَطِعٌ وَمُنْكِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: عَنْ سَعِيدِ، عن أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن سلام: أن عزيزا هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٌ وَجُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِدْرِيسُ عَنْ جَدِّهِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ إِسْحَاقُ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حَدَّثُونِي عَنْ حَدِيثِ عُزَيْرٍ وَزَادَ بعضهم على بعض قالوا بإسنادهم إن عزيزا كَانَ عَبْدًا صَالِحًا حَكِيمًا خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إلى ضيعة له يتعاهدها فلما انصرف أتى إِلَى خَرِبَةٍ حِينَ قَامَتِ الظَّهِيرَةُ وَأَصَابَهُ الْحَرُّ وَدَخَلَ الْخَرِبَةَ وَهُوَ عَلَى حِمَارِهِ فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ وَمَعَهُ سَلَّةٌ فِيهَا تِينٌ وَسَلَّةٌ فِيهَا عِنَبٌ فَنَزَلَ فِي ظِلِّ تِلْكَ الْخَرِبَةِ وَأَخْرَجَ قَصْعَةً مَعَهُ
فَاعْتَصَرَ مِنَ الْعِنَبِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ ثُمَّ أَخْرَجَ خُبْزًا يَابِسًا مَعَهُ فَأَلْقَاهُ فِي تِلْكَ الْقَصْعَةِ فِي الْعَصِيرِ لِيَبْتَلَّ لِيَأْكُلَهُ ثُمَّ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَأَسْنَدَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْحَائِطِ فَنَظَرَ سَقْفَ تِلْكَ الْبُيُوتِ وَرَأَى مَا فِيهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَقَدْ بَادَ أَهْلُهَا وَرَأَى عِظَامًا بَالِيَةً فَقَالَ: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِيهَا وَلَكِنْ قَالَهَا تَعَجُّبًا فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ.
فَلَمَّا أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، وَكَانَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمُورٌ وَأَحْدَاثٌ قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل قلبه وَعَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ بِهِمَا فَيَعْقِلَ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى.
ثُمَّ ركَّب خَلْقَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ ثُمَّ كَسَى عِظَامَهُ اللَّحْمَ وَالشَّعْرَ وَالْجِلْدَ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ كُلُّ ذَلِكَ وَهُوَ يَرَى وَيَعْقِلُ فَاسْتَوَى جَالِسًا فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ كَمْ لَبِثْتَ قال لبثت يوماً أو بعض يوم وذلك أنه كان لبث صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ وَبُعِثَ فِي آخِرِ النَّهار وَالشَّمْسُ لَمْ تَغِبْ فَقَالَ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَلَمْ يَتِمَّ لِي يَوْمٌ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طعامك وشرابك يَعْنِي الطَّعَامَ الْخُبْزَ الْيَابِسَ وَشَرَابَهُ الْعَصِيرَ الَّذِي كان اعتصره فِي الْقَصْعَةِ فَإِذَا هُمَا عَلَى حَالِهِمَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْعَصِيرُ وَالْخُبْزُ يَابِسٌ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) يَعْنِي لَمْ يَتَغَيَّرْ وَكَذَلِكَ التِّينُ وَالْعِنَبُ غَضٌّ لم يتغير شئ مِنْ حَالِهِمَا فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَنْكَرْتَ مَا قُلْتُ لَكَ انْظُرْ إلى حمارك فنظر إلى حِمَارُهُ قَدْ بَلِيَتْ عِظَامُهُ وَصَارَتْ نَخِرَةً فَنَادَى الْمَلَكُ عِظَامَ الْحِمَارِ فَأَجَابَتْ وَأَقْبَلَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى رَكَّبَهُ الْمَلَكُ وَعُزَيْرٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ثُمَّ أَلْبَسَهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَ ثُمَّ كَسَاهَا اللَّحْمَ ثُمَّ أَنْبَتَ عَلَيْهَا الْجِلْدَ وَالشَّعْرَ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الْمَلَكُ فَقَامَ الْحِمَارُ رَافِعًا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ نَاهِقًا يَظُنُّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ فذلك قوله: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كيف ننشرها ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً) يعني وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بَعْضَهَا بَعْضًا فِي أَوْصَالِهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ عِظَامًا مُصَوَّرًا حِمَارًا بِلَا لَحْمٍ ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا
(2/52)
تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كل شئ قدير مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرِهِ (1) : قَالَ فَرَكِبَ حِمَارَهُ حَتَّى أَتَى مَحِلَّتَهُ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ وَأَنْكَرَ النَّاسَ وأنكر منزله فَانْطَلَقَ عَلَى وَهَمٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ قَدْ أَتَى عَلَيْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، كَانَتْ أَمَةً لَهُمْ فَخَرَجَ عَنْهُمْ عُزَيْرٌ وَهِيَ بِنْتُ عِشْرِينَ
سَنَةً كَانَتْ عَرَفَتْهُ وَعَقَلَتْهُ فَلَمَّا أَصَابَهَا الْكِبَرُ أَصَابَهَا الزَّمَانَةُ (2) .
فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ يَا هَذِهِ أَهَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ قَالَتْ: نَعَمْ هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ فَبَكَتْ وَقَالَتْ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ يَذْكُرُ عُزَيْرًا وَقَدْ نَسِيَهُ النَّاسُ قَالَ فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ كَانَ اللَّهُ أَمَاتَنِي مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَنِي قَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ فَقَدْنَاهُ مُنْذُ مِائَةِ سَنَةٍ فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ قَالَ: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ قَالَتْ: فَإِنَّ عُزَيْرًا رَجُلٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ يَدْعُو لِلْمَرِيضِ وَلِصَاحِبِ الْبَلَاءِ بِالْعَافِيَةِ وَالشِّفَاءِ فادعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي حَتَّى أَرَاكَ فَإِنْ كُنْتَ عُزَيْرًا عَرَفْتُكَ.
قَالَ فَدَعَا رَبَّهُ وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى عَيْنَيْهَا فَصَحَّتَا وَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ: قُومِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَطْلَقَ اللَّهُ رِجْلَيْهَا فَقَامَتْ صَحِيحَةً كَأَنَّمَا نَشِطَتْ مِنْ عِقَالٍ (3) فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أنَّك عُزَيْرٌ وَانْطَلَقَتْ إِلَى مَحِلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَابْنٌ لِعُزَيْرٍ شَيْخٌ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَثَمَانِي عَشْرَ (4) سنة وبني بَنِيهِ شُيُوخٌ فِي الْمَجْلِسِ فَنَادَتْهُمْ فَقَالَتْ: هَذَا عُزَيْرٌ قَدْ جَاءَكُمْ فَكَذَّبُوهَا، فَقَالَتْ: أَنَا فُلَانَةٌ مَوْلَاتُكُمْ دَعَا لِي رَبَّهُ فَرَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وَأَطْلَقَ رِجْلَيَّ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ: فَنَهَضَ النَّاسُ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُهُ كَانَ لِأَبِي شَامَةٌ سَوْدَاءُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُزَيْرٌ فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فإنَّه لَمْ يَكُنْ فِينَا أَحَدٌ حَفِظَ التَّوْرَاةَ فِيمَا حُدِّثْنَا غَيْرُ عُزَيْرٍ وَقَدْ حَرَّقَ بُخْتُ نَصَّرَ التوراة ولم يبق منها شئ إِلَّا مَا حَفِظَتِ الرِّجَالُ فَاكْتُبْهَا لَنَا وَكَانَ أبوه سروخا وقد دَفَنَ التَّوْرَاةَ أَيَّامَ بُخْتُ نَصَّرَ فِي مَوْضِعٍ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ غَيْرُ عُزَيْرٍ فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَحَفَرَهُ فَاسْتَخْرَجَ التَّوْرَاةَ وَكَانَ قَدْ عَفِنَ الْوَرَقُ وَدَرَسَ الْكِتَابُ قَالَ وَجَلَسَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَهُ فَجَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ وَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ شِهَابَانِ (5) حَتَّى دَخَلَا جَوْفَهُ فَتَذَكَّرَ التَّوْرَاةَ فَجَدَّدَهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (6) .
فَمَنْ ثم قالت اليهود عزير ابن الله لِلَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ الشِّهَابَيْنِ وَتَجْدِيدِهِ التَّوْرَاةَ وَقِيَامِهِ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ جَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ بِأَرْضِ السَّوَادِ بِدَيْرِ حَزْقِيلَ.
وَالْقَرْيَةُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا سَايْرَابَاذَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) يعني لبني
__________
(1) الخبر رواه الطبري في تاريخه 1 / 289 وفيه أن الذي أماته الله أرميا وليس عزيرا.
(2) الزمانة: العاهة.
(3) عقال: قيد.
(4) في الكامل لابن الاثير: مائة وثلاث عشرة سنة ; 1 / 270.
(5) في الطبري والكامل: بعث الله ملكاً في صورة إنسان، أتاه بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الاناء فتمثلت التوراة في صدره [عزير] .
(6) زاد الطبري: فصاروا يعرفونها بحلالها وحرامها وسننها وفرائضها وحدودها ; وقامت التوراة بين أظهرهم وصلح بها أمرهم.
[*]
(2/53)
إِسْرَائِيلَ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ مَعَ بَنِيهِ وَهُمْ شُيُوخٌ وَهُوَ شَابٌّ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَبَعَثَهُ اللَّهُ شَابًّا كَهَيْئَةِ يَوْمَ مَاتَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بُعث بَعْدَ بُخْتُ نَصَّرَ وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَدْ أَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عبَّاس: وَأَسْوَدُ رَأْسٍ شَابَ مِنْ قَبْلِهِ ابْنُهُ * وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ ابْنِهِ فَهْوَ أَكْبَرُ يرى ابْنِهِ شَيْخًا يَدِبُّ عَلَى عَصَا * وَلِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ وَالرَّأْسُ أَشْقَرُ وَمَا لِابْنِهِ حَيْلٌ وَلَا فَضْلُ قُوَّةٍ * يَقُومُ كَمَا يَمْشِي الصَّبِيُّ فَيَعْثِرُ يُعَدَّ ابْنُهُ فِي النَّاسِ تِسْعِينَ حِجَّةً * وَعِشْرِينَ لَا يَجْرِي وَلَا يَتَبَخْتَرُ وَعُمْرُ أَبْيهِ أَرْبَعُونَ أَمَرَّهَا * ولان ابْنِهِ تِسْعُونَ فِي النَّاسِ غُبَّرُ فَمَا هُوَ فِي الْمَعْقُولِ إِنْ كُنْتَ دَارِيًا * وَإِنَّ كُنْتَ لا تدري فبالجهل تعذر
فَصْلُ
الْمَشْهُورُ أَنَّ عُزَيْرًا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (1) ، وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا بَيْنَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَبَيْنَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ يَحْفَظُ التَّوْرَاةَ أَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَهَا فَسَرَدَهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَمَرَ اللَّهُ ملكاً فنزل بمعرفة (2) من نور فقذفها فِي عُزَيْرٍ فَنَسَخَ التَّوْرَاةَ حَرْفًا بِحَرْفٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله) [البقرة: 30] لِمَ قَالُوا ذَلِكَ؟ فَذَكَرُ لَهُ ابْنُ سَلَامٍ مَا كَانَ مِنْ كَتْبِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ مِنْ حِفْظِهِ وَقَوْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِالتَّوْرَاةِ إِلَّا فِي
كِتَابٍ وَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ جَاءَنَا بِهَا مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ فَرَمَاهُ طَوَائِفُ مِنْهُمْ وَقَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ.
وَلِهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ تَوَاتُرَ التَّوْرَاةِ انْقَطَعَ فِي زَمَنِ الْعُزَيْرِ.
وَهَذَا متجه جداً إذا كان العزيز غير بني كَمَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ البصري، وفيما رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ وَمُقَاتِلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: كَانَ فِي الْفَتْرَةِ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ بُخْتُ نَصَّرَ وَجَنَّةُ صَنْعَاءَ وَجَنَّةُ سَبَأٍ وَأَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَأَمْرُ حَاصُورَا وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ وَأَصْحَابُ الْفِيلِ وَمَدِينَةُ أَنْطَاكِيَةَ وَأَمْرُ تُبَّعٍ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ أَمْرُ عُزَيْرٍ وَبُخْتُ نَصَّرَ فِي الْفَتْرَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بابن مريم [الأنبياء أولاد علات] (3) لانا إنه ليس بيني وبينه نبي " (4)
__________
(1) ذكره المسعودي بين الانبياء وقال: وقد تنازع الناس في نبوته.
وقال ابن قتيبة في المعارف: أن الله محا أسمه من الانبياء لانه أكثر المناجاة في القدر.
(2) تقدم في الطبري: أن الملك أتى عزير باناء ماء وسقاه منه فتمثلت التوراة في صدره.
(3) ما بين معكوفين سقط من نسخ البداية المخطوطة والمطبوعة.
واستدرك من نص الحديث.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه في 43 / 40 / 143، 144، 145 وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أولى الناس = [*]
(2/54)
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ فِيمَا بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ عُزَيْرًا كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَأَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْذَنْ له يعني لما كان من سوآله عَنِ الْقَدَرِ وَأَنَّهُ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ مِائَةُ مَوْتَةٍ أَهْوَنُ مِنْ ذُلِّ سَاعَةٍ وَفِي مَعْنَى قَوْلِ عُزَيْرٍ مِائَةُ مَوْتَةٍ أَهْوَنُ مِنْ ذُلِّ سَاعَةٍ قَوْلُ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ: قَدْ يَصْبِرُ الْحُرُّ عَلَى السَّيْفِ * وَيَأْنَفُ الصَّبْرَ عَلَى الْحَيْفِ وَيُؤْثِرُ الْمَوْتَ عَلَى حَالَةٍ * يَعْجَزُ فِيهَا عَنْ قِرَى الضَّيْفِ فَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَوْفٍ الْبِكَالِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الْقَدَرِ فَمُحِيَ اسْمُهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ مُنْكَرٌ وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ قَالَ قَالَ عُزَيْرٌ فِيمَا يُنَاجِي رَبَّهُ: " يَا رَبِّ تَخْلُقُ خَلْقًا فَتُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ " فَقِيلَ لَهُ أعرض عن هذا فعاد فقيل له لتعرض عَنْ هَذَا أَوْ لَأَمْحُوَنَّ اسْمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ وهذا لا يَقْتَضِي وُقُوعَ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ لَوْ عَادَ فما محيا اسْمُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ سِوَى التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعَيْبٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ثُمَّ أَمَرَ بها فأحرقت بالنار فأوحى الله إليه مهلاً نَمْلَةً وَاحِدَةً " (1) .
فَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ عُزَيْرٌ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ عُزَيْرٌ فَاللَّهُ أعلم.
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام
قال الله تعالى في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم: (كهيعص.
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً.
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً.
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً.
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً.
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً.
قال
__________
= بعيسى مريم..في الأولى والآخرة؟.
قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: " الأنبياء أخوة من علات..وأمهاتهم شتى..فليس بيننا نبي " حديث رقم 145.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 59 / 16 / 3319 فتح الباري ; ومسلم في صحيحه 39 / 39 / 148، 149، 150 وأحمد في مسنده ج 2 / 312، 449 وأبو داود والنسائي في سننيهما.
[*]
(2/55)
كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً.
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قال ايتك
أن لا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً.
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً.
وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً.
وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً.
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً) [مَرْيَمَ: 1 - 15] .
وَقَالَ تَعَالَى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عليهما زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبُّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ.
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً.
قَالَ آيتك أن لا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [آل عمران: 37 - 41] .
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ.
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الانبياء: 89 - 90] وقال تعالى: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الانعام: 85] .
قال الحافظ أبو القاسم بن عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ التَّارِيخُ الْمَشْهُورِ الْحَافِلِ.
زَكَرِيَّا بن برخيا وَيُقَالُ زَكَرِيَّا بْنُ دَانٍ، وَيُقَالُ زَكَرِيَّا بْنُ لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بْنِ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهناشاط بن اينا من بن رحبعام بن سليمان بن داود أبويحيى النَّبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
دَخَلَ البثينة مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ فِي طَلَبِ ابْنِهِ يَحْيَى.
وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ بِدِمَشْقَ حِينَ قُتِلَ ابْنُهُ يَحْيَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ في نسبه (1) ويقال فيه زكريا بالمد وبالقصر ويقال زكرى أيضاً.
__________
(1) ذكر المسعودي في مروج الذهب: زكريا بن أدق من ولد داود من سبط يهوذا.
وقال ابن قتيبة في المعارف: زكريا بن أزن من ولد داود من سبط يهوذا.
ولم يذكر نسب زكريا في القرآن ولا في كتب الأنبياء عند أهل الكتاب.
قال النجار في قصص الأنبياء مشككا في نسبه المتداول: ويوجد زكريا - آخر - ليس له قصة في القرآن اصلا، وهذا له كتاب من الكتب القانونية عند النصاري.
وهو زكريا بن برخيا وكان في زمن داريوس أي قبل زمن المسيح بما يقرب من ثلاثه قرون.
والنصارى يؤولونه بالمسيح واليهود يؤولونه بمسيحهم المنتظر وهو المسيح الدجال.
أما زكريا أبويحيى فيظهر إنه كان ممن لهم شركة في خدمة الهيكل وعلى ذلك فهو لاوي.
ص 368.
[*]
(2/56)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُصَّ عَلَى النَّاسِ خَبَرَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ وَهَبَهُ اللَّهُ وَلَدًا عَلَى الْكِبَرِ، وكانت امرأته [مع ذلك] (1) عَاقِرًا فِي حَالِ شَبِيبَتِهَا وَقَدْ أَسَنَّتْ أَيْضًا حتى لا ييئس أَحَدٌ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا يَقْنَطَ مَنْ فَضْلِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فَقَالَ تَعَالَى: (ذِكْرُ رحمت رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) .
قَالَ قَتَادَةُ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ النَّقِيَّ وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَنَادَى رَبَّهُ مُنَادَاةً أَسَرَّهَا عَمَّنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ مُخَافَتَةً فَقَالَ: " يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ فَقَالَ اللَّهُ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ".
(قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أَيْ ضَعُفَ وَخَارَ مِنَ الْكِبَرِ (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) اسْتِعَارَةٌ مِنَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْحَطَبِ أَيْ غلب على سواد الشعر شبيه كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ: إِمَّا تَرَى رَأْسِي حَاكَى لَوْنُهُ * طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أذيال الدَجا وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ * مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ في جمر الغضا وآض عود اللَّهْوِ يَبْسًا ذَاوِيًا * مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ مَجَّاجَ الثَّرَى يَذْكُرُ أَنَّ الضَّعْفَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهَكَذَا قَالَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) وقوله: (لم أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً) أي ما دعوتني فيما أسألك إِلَّا الْإِجَابَةَ وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمَّا كَفَلَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ بن ما ثان وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا مِحْرَابَهَا وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهَا وَلَا فِي أَوَانِهَا وَهَذِهِ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَعَلِمَ أَنَّ الرَّازِقَ للشئ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا وَإِنْ كَانَ قَدْ طَعَنَ فِي سِنِّهِ (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبُّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) وَقَوْلُهُ: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً) قِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَوَالِي الْعُصْبَةُ وَكَأَنَّهُ خَافَ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ بَعْدَهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ فَسَأَلَ وُجُودَ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ يَكُونُ بَرًّا تَقِيًّا مَرْضِيًّا وَلِهَذَا قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أَيْ مِنْ عِنْدِكَ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ (وَلِيّاً يَرِثُنِي) أَيْ فِي النُّبُوَّةِ (2) وَالْحُكْمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً) يَعْنِي كَمَا كَانَ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافُهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ (3) يَعْقُوبَ أَنْبِيَاءَ فَاجْعَلْهُ مِثْلَهُمْ فِي الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمْتَهُمْ بِهَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ههنا وراثة
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) قال القرطبي في الآية: سؤال ودعاء ; ولم يصرح بولد لما علم من حاله وبعده عنه بسبب المرأة فقيل كان عمره بضع وسبعين وقيل خمس وتسعين سنة وغلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره.
" يرثني " قيل النبوة: قال القرطبي: فأما قومهم وراثة نبوة فمحال، لان النبوة لا تورث.
(3) كان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران ويرجع نسبها إلى سليمان - داود - يهوذا يعقوب.
وزكريا من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب.
[*]
(2/57)
الْمَالِ كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ مَنْ زَعَمَهُ مِنَ الشيعة ووافقهم ابن جرير ههنا وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مِنَ السَّلَفِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) [النمل: 16] أَيْ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ العلماء المروي في الصحاح والمسانيد والسُّنن وَغَيْرِهَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ " (1) فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُورَثُ وَلِهَذَا مَنَعَ الصِّدِّيقُ أَنْ يُصْرَفُ مَا كَانَ يَخْتَصُّ بِهِ فِي حَيَاتِهِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ وُرَّاثِهِ الَّذِينَ لَوْلَا هَذَا النَّصُّ لَصُرَفَ إِلَيْهِمْ وَهُمُ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ وَأَزْوَاجُهُ التِّسْعُ وَعَمُّهُ العبَّاس
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ فِي مَنْعِهِ إِيَّاهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ والعبَّاس بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ.
الثَّانِي: أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَاهُ بِلَفْظٍ يَعُمُّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ: " نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " (2) وَصَحَّحَهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَنْ يَكْنِزُوا لَهَا أَوْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا أَوْ يُهِمَّهُمْ أَمْرُهَا حَتَّى يَسْأَلُوا الْأَوْلَادَ لِيَحُوزُوهَا بَعْدَهُمْ فَإِنَّ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي الزَّهَادَةِ لَا يَهْتَمُّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ أَنْ يَسْأَلَ وَلَدًا يَكُونُ وَارِثًا لَهُ فِيهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَجَّارًا يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهَا كَمَا كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ وَالْغَالِبُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ مِثْلُ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الْعَمَلِ إِجْهَادًا يَسْتَفْضِلُ مِنْهُ ما لا يكون له ذَخِيرَةً لَهُ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهَذَا أَمْرٌ بين واضح لكل من تأمله وتدبره وَتَفَهُّمٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يزيد يعني ابن هرون، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا " (3) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً) [مريم: 7] .
وهذا مفسر بقوله: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً من الصالحين)
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي وأحمد.
وقد سبق تخريجه فليراجع.
(2) تقدم نص الحديث في الترمذي وفيه: " لا نورث ما تركنا من صدقة " من طريق أنس بن مالك.
22 / 44 / 1610.
وليراجع تخريج الحديث السابق.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 43 / 45 / 165 ومسند أحمد ج 2 / 296، 405، 485.
[*]
(2/58)
[آل عمران: 39] فَلَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَتَحَقَّقَ الْبِشَارَةَ شَرَعَ يَسْتَعْلِمُ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ وُجُودَ الْوَلَدِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَهُ: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم: 8] أَيْ كَيْفَ يُوجَدُ وَلَدٌ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ قِيلَ كَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أنَّه كَانَ أَسَنَّ (1) مِنْ ذَلِكَ (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً) يَعْنِي وَقَدْ كَانَتِ امْرَأَتِي فِي حَالِ شَبِيبَتِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر: 54] وَقَالَتْ سَارَّةُ: (يَا وَيْلَتَى أأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لشئ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود: 72 - 73] وهكذا أجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه (كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هو علي هَيِّنٌ) أَيْ هَذَا سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَيْهِ (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أَيْ قُدْرَتُهُ أَوْجَدَتْكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا أَفَلَا يُوجِدُ مِنْكَ وَلَدًا وَإِنْ كنت شيخا.
وَقَالَ تَعَالَى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90] وَمَعْنَى إِصْلَاحِ زَوْجَتِهِ: أَنَّهَا كَانَتْ لَا تحيض فحاضت.
وقيل كان في لسانها شئ أَيْ بَذَاءَةٌ (2) (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أَيْ عَلَامَةً عَلَى وَقْتَ تَعْلَقُ مِنِّي الْمَرْأَةُ بهذا الولد المبشر به (قَالَ آيَتُكَ أن لا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً) يَقُولُ عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَرِيَكَ سَكْتٌ لَا تَنْطِقُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ سَوِيُّ الْخَلْقِ، صَحِيحُ الْمِزَاجِ، مُعْتَدِلُ الْبِنْيَةِ.
وَأُمِرَ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْقَلْبِ وَاسْتِحْضَارِ ذَلِكَ بِفُؤَادِهِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ فَلَمَّا بُشِّرَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ خَرَجَ مَسْرُورًا بِهَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ محرابه (فَأَوْحَى إليهم أن سبحوه بُكْرَةً وَعَشِيّاً) .
والوحي ههنا هُوَ الْأَمْرُ الْخَفِيُّ إِمَّا بِكِتَابَةٍ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ أَوْ إِشَارَةٍ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَوَهْبٌ وَقَتَادَةُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَوَهُبٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُ كَلَامَ أَحَدٍ.
وَقَوْلُهُ: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) ، يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُجُودِ الْوَلَدِ وَفْقَ الْبِشَارَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَبِيهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وأنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ صَغِيرٌ فِي حَالِ صِبَاهُ (3) .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الصِّبْيَانُ
لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ فَقَالَ مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا قَالَ وذلك قوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) وأما قوله: (وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا) فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا أَدْرِي مَا الْحَنَانُ.
وَعَنِ ابْنِ عبَّاس وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ (وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا)
__________
(1) تقدم أنه كان ابن خمس وتسعين سنة.
(2) قال في أحكام القرآن: قال أكثر المفسرين: وأصلحنا زوجه: إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا، وقال ابن عبَّاس وعطاء: كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخلق.
11 / 336.
(3) قال قتاده: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين ; وقال ابن عبَّاس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا.
[*]
(2/59)
أَيْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا رَحِمْنَا بِهَا زَكَرِيَّا فَوَهَبْنَا لَهُ هَذَا الْوَلَدَ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ (وَحَنَاناً) أَيْ مَحَبَّةً عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِتَحَنُّنِ يَحْيَى عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَبَوَيْهِ وَهُوَ مَحَبَّتُهُمَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَبِرُّهُ بِهِمَا.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهُوَ طَهَارَةُ الْخُلُقِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ.
وَالتَّقْوَى طَاعَةُ اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بِرَّهُ بِوَالِدَيْهِ وَطَاعَتَهُ لَهُمَا أَمْرًا وَنَهْيًا وَتَرْكَ عُقُوقِهِمَا قَوْلًا وَفِعْلًا فَقَالَ: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً) ثُمَّ قَالَ: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً) هَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَشَدُّ مَا تَكُونُ عَلَى الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنْ عَالَمٍ إِلَى عَالَمٍ آخَرَ فَيَفْقِدُ الْأَوَّلَ بَعْدَ مَا كَانَ أَلِفَهُ وَعَرَفَهُ وَيَصِيرُ إِلَى الْآخَرِ وَلَا يَدْرِي مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِهَذَا يَسْتَهِلُّ صَارِخًا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ الْأَحْشَاءِ وَفَارَقَ لِينَهَا وَضَمَّهَا وَيَنْتَقِلُ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ لِيُكَابِدَ همومها وغمها وَكَذَلِكَ إِذَا فَارَقَ هَذِهِ الدَّارَ وَانْتَقَلَ إِلَى عَالَمِ الْبَرْزَخِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَارِ الْقَرَارِ وَصَارَ بَعْدَ الدُّورِ وَالْقُصُورِ إِلَى عَرْصَةِ الْأَمْوَاتِ سُكَّانِ الْقُبُورِ وَانْتَظَرَ هُنَاكَ النَّفْخَةَ فِي الصُّوَرِ لِيَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَمِنْ مَسْرُورٍ وَمَحْبُورٍ وَمِنْ مَحْزُونٍ ومثبور وما بين جبير وكسير وَفَرِيقٍ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٍ فِي السَّعِيرِ.
وَلَقَدْ أحسن بعض الشعراء.
حيث يقول: وَلَدَتْكَ أُمُّكَ بَاكِيًا مُسْتَصْرِخًا * وَالنَّاسُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرَورًا
فَاحْرِصْ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ إِذَا بَكَوْا * فِي يَومِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثَةُ أَشَقَّ مَا تَكُونُ عَلَى ابْنِ آدَمَ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَى يَحْيَى فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مِنْهَا فَقَالَ: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ: إِنْ يَحْيَى وَعِيسَى الْتَقَيَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ فعرف والله فضلهما، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 39] فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَصُورِ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَشْبَهُ لِقَوْلِهِ: (هَبْ لِي مِنَ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران: 38] وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، وَمَا ينبغي لأحد يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " (1) .
عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ بِهِ مُطَوَّلًا ثُمَّ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِنَا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حدَّثني ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمًا وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فضل الانبياء فقال قال: مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ.
وَقَالَ قَائِلٌ: عِيسَى رُوحُ الله وكلمته.
وقال قائل: إبراهيم خليل الله [وهم يذكرون
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 254، 292.
[*]
(2/60)
ذلك] (1) فقال: " أين الشهيد ابن الشَّهِيدُ يَلْبَسُ الْوَبَرَ وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ مَخَافَةَ الذَّنْبِ " قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يُرِيدُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا.
وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ".
فَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ من المدلسين وقد عنعن ههنا.
ثم قال عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
مُرْسَلًا.
ثمَّ رَأَيْتُ ابْنَ عَسَاكِرَ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ يحيى بن سعيد الأنصاري ثمَّ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجُوزْجَانِيِّ خَطِيبِ دِمَشْقَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ مَا أَحَدٌ إِلَّا يَلْقَى اللَّهَ بِذَنْبٍ إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا.
ثُمَّ تَلَا: (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) ثُمَّ رَفَعَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هَذَا، ثُمَّ ذُبِحَ ذَبْحًا وَهَذَا مَوْقُوفٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَكَوْنُهُ موقوفاً صح مِنْ رَفْعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ: عَنْ مَعْمَرٍ مِنْ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ (2) عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عن مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نعيم، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا ابْنَيِ الخالة يحيى وعيسى عليهما السَّلَامُ " (3) .
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يقول خرج عيسى بن مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا يَتَمَاشَيَانِ فَصَدَمَ يَحْيَى امرأة، فقال له عيسى: يا بن خالة قد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يُغْفَرَ لَكَ أَبَدًا.
قَالَ: وَمَا هِيَ يَابْنَ خَالَةِ؟ قَالَ امْرَأَةٌ صَدَمْتَهَا.
قَالَ وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ بِهَا.
قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَدَنُكَ مَعِي فَأَيْنَ رُوحُكَ قَالَ مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ وَلَوْ أَنَّ قَلْبِي اطْمَئَنَّ إِلَى جِبْرِيلَ لَظَنَنْتُ أَنِّي مَا عَرَفْتُ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ ".
فِيهِ غَرَابَةٌ وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ: عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عن خيثمة قال: كان عيسى بن مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَيْ خَالَةٍ وَكَانَ عِيسَى يَلْبَسُ الصُّوفَ، وَكَانَ يَحْيَى يَلْبَسُ الْوَبَرَ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ولا عبد ولا أمةً ولا مأوى يأويان إليه اين ما جَنَّهُمَا اللَّيْلُ أَوَيَا فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَتَفَرَّقَا قَالَ لَهُ يَحْيَى: أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ أَغْضَبَ قَالَ لا تقتن مالاً قال أما هذه فعسى.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: ابن سباح وهو تحريف والصواب ما أثبتناه.
وهو عثمان بن عمرو بن ساج، مولى
بني أمية وقد ينسب إلى جده، فيه ضعف من التاسعة.
تقريب التهذيب 2 / 13.
(3) رواه البيهقي في دلائله ج 7 / 578 من طريق حذيفة بن اليمان.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 381 وقال الذهبي صحيح.
[*]
(2/61)
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ هَلْ مَاتَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْتًا أَوْ قُتِلَ قَتْلًا عَلَى رِوَايَتَيْنِ: فَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ هَرَبَ مِنْ قومه فدخل شجرة فجاؤوا فوضعوا المنشار عليهما فَلَمَّا وَصَلَ الْمِنْشَارُ إِلَى أَضْلَاعِهِ أَنَّ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لَئِنْ لَمْ يَسْكُنْ أَنِينُكَ لَأَقْلِبَنَّ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا فَسَكَنَ أَنِينُهُ حَتَّى قُطِعَ بِاثْنَتَيْنِ (1) .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ سنورده بعد إن شاء الله.
وروى إسحق بْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ الَّذِي انْصَدَعَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ هو شعيا فَأَمَّا زَكَرِيَّا فَمَاتَ مَوْتًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، أنبأنا أَبُو خَلَفٍ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْبُدَلَاءِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ وكان أَنْ يُبْطِئَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ.
فَإِمَّا أَنْ تُبْلِّغَهُنَّ وَإِمَّا أَنَّ أُبَلِّغَهُنَّ؟ فَقَالَ: يَا أَخِي إنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي قَالَ: فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ فَقَعَدَ عَلَى الشَّرَفِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الله عزوجل أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أن تعملوا بهن.
وأولهن أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَلَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا.
وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ
مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.
وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ: هَلْ لَكَمَ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ.
وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عزوجل كَثِيرًا فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي إِثْرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم) : " وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ: اللَّهُ أمرني بهن بالجماعة والسمع
__________
(1) قال ابن قتيبة في المعارف ص 24: قتلوه في جوف شجرة قطعوها وقطعوه معها.
وذكر المسعودي رواية قتله: قال: فنشروا الشجرة وهو فيها، دلهم عليه إبليس لعنه الله عزوجل، فقطعوه وقطعوها.
والسبب في قتله اتهامه بارتكابه الفاحشة مع مريم 1 / 59.
(وذكر ابن الأثير سببا آخر لقتله، ورواية قتله كما سبق إليها المسعودي وابن قتيبة - والسبب أنه لما قتل يحيى فر زكريا هاربا فأرسل الملك في طلبه.
فدخل الشجرة..1 / 306.
[*]
(2/62)
وَالطَّاعَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خلع ربق الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ وَمَنْ دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى قَالَ: " وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ادْعُوَا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عزوجل المسلمين المؤمنين عباد الله عزوجل " (1) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهِ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَمُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبَانِ بْنِ يَزِيدَ الْعَطَّارِ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ سَابُورَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِي سَلَامٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَخِيهِ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَفَرَّدَ بِهِ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ.
قُلْتُ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بن عبده عن أبي نوبة الربيع بن يافع،
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِي سَلَامٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ فَذَكَرَ نَحْوَهُ فَسَقَطَ ذِكْرُ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِي سَلَامٍ عَنِ الحارث الأشعري فذكر نحو هَذِهِ الرِّواية.
ثمَّ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيمَا سَمِعُوا مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا أُرْسِلَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَثِيرَ الِانْفِرَادِ مِنَ النَّاسِ، إِنَّمَا كَانَ يَأْنَسُ إِلَى الْبَرَارِي وَيَأْكُلُ مِنْ وَرَقِ الْأَشْجَارِ، وَيَرِدُ مَاءَ الْأَنْهَارِ، وَيَتَغَذَّى بِالْجَرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَيَقُولُ: مَنْ أَنْعَمُ مِنْكَ يَا يَحْيَى.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أَبَوَيْهِ خَرَجَا فِي تَطَلُّبِهِ فَوَجَدَاهُ عِنْدَ بُحَيْرَةِ الْأُرْدُنِّ فَلَمَّا اجْتَمَعَا بِهِ أَبْكَاهُمَا بُكَاءً شَدِيدًا لِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ العبادة والخوف من الله عزوجل.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كَانَ طَعَامُ يحيى بن زكريا العشب وإنه كَانَ لَيَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى لَوْ كان القار على عينيه لخرقه.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: حدَّثنا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَلَسْتُ يَوْمًا إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَهُوَ يَقُصُّ فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ كَانَ أَطْيَبَ النَّاسِ طَعَامًا فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِ قَالَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا كَانَ أَطْيَبَ النَّاسِ طَعَامًا إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الْوَحْشِ كَرَاهَةَ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ: فَقَدَ زَكَرِيَّا ابْنَهُ يَحْيَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُ فِي الْبَرِّيَّةِ فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَفَرَ قَبْرًا وَأَقَامَ فِيهِ يَبْكِي عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَنَا أَطْلُبُكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَنْتَ فِي قَبْرٍ قَدِ احتفرته قائم تبكي فيه فقال يأبت أَلَسْتَ أَنْتَ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مفازة (2) لا يقطع إِلَّا بِدُمُوعِ الْبَكَّائِينَ فَقَالَ لَهُ ابْكِ يَا بني فبكيا جميعا.
وهكذا حكاه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج 4 / 202 ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1161) .
(2) في كامل ابن الاثير: عقبة.
[*]
(2/63)
وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَمُجَاهِدٌ بِنَحْوِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ لِلَذَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَكَذَا يَنْبَغِي لِلصِّدِّيقِينَ أَنْ لَا يَنَامُوا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ عزوجل.
ثُمَّ قَالَ كَمْ
بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ وَكَمْ بَيْنَهُمَا وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ حَتَّى أَثَّرَ الْبُكَاءُ فِي خَدَّيْهِ مِنْ كَثْرَةِ دُمُوعِهِ.
بَيَانُ سَبَبِ قَتْلِ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَذَكَرُوا فِي قتله أسباباً مِنْ أَشْهَرِهَا: أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِدِمَشْقَ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِبَعْضِ مَحَارِمِهِ (1) ، أَوْ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا فَنَهَاهُ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهَا (2) مِنْهُ.
فَلَمَّا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَلِكِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا اسْتَوْهَبَتْ مِنْهُ دَمَ يَحْيَى فَوَهَبَهُ لَهَا فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ وَجَاءَ برأسه ودمه في طشت إِلَى عِنْدِهَا فَيُقَالُ إِنَّهَا هَلَكَتْ مِنْ فَوْرِهَا وَسَاعَتِهَا.
وَقِيلَ بَلْ أَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ ذَلِكَ الْمَلِكِ وَرَاسَلَتْهُ فَأَبَى عَلَيْهَا فَلَمَّا يَئِسَتْ مِنْهُ تَحَيَّلَتْ فِي أَنِ اسْتَوْهَبَتْهُ مِنَ الْمَلِكِ فَتَمَنَّعَ عَلَيْهَا الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث مَنْ قَتَلَهُ وَأَحْضَرَ إِلَيْهَا رَأْسَهُ وَدَمَهُ فِي طشت.
وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي كِتَابِهِ " الْمُبْتَدَأُ " حَيْثُ قَالَ: أَنْبَأَنَا يَعْقُوبٌ الْكُوفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ رَأَى زَكَرِيَّا فِي السَّمَاءِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا أَبَا يَحْيَى خَبِّرْنِي عَنْ قَتْلِكَ كَيْفَ كَانَ وَلِمَ قَتَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ.
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أُخْبِرُكَ أَنَّ يَحْيَى كَانَ خَيْرَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَكَانَ أَجْمَلَهُمْ وَأَصْبَحَهُمْ وَجْهًا وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (سَيِّدًا وَحَصُوراً) وكان لا يحتاج إلى النساء فهوته امْرَأَةُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَتْ بَغِيَّةً فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَعَصَمَهُ اللَّهُ وَامْتَنَعَ يَحْيَى وَأَبَى عَلَيْهَا فأجمعت عَلَى قَتْلِ يَحْيَى وَلَهُمْ عِيدٌ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ عَامٍ وَكَانَتْ سُنَّةُ الْمَلِكَ أَنْ يُوعِدَ وَلَا يُخْلِفَ وَلَا يَكْذِبَ.
قَالَ فَخَرَجَ الْمَلِكُ إِلَى الْعِيدِ فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ فَشَيَّعَتْهُ وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا وَلَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ فِيمَا مَضَى فَلَمَّا أَنْ شَيَّعَتْهُ قَالَ الْمَلِكُ سَلِينِي فَمَا سَأَلْتِنِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكِ قَالَتْ: أُرِيدُ دَمَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا قَالَ لَهَا: سَلِينِي غَيْرَهُ قَالَتْ: هُوَ ذَاكَ قَالَ هُوَ لَكِ، قَالَ: فَبَعَثَتْ جَلَاوِزَتَهَا إِلَى يَحْيَى وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ أُصَلِّي قَالَ: فَذُبِحَ فِي طشت وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَدَمُهُ إِلَيْهَا.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَمَا بَلَغَ مِنْ صَبْرِكَ قَالَ مَا انْفَتَلْتُ مِنْ صَلَاتِي قَالَ: فَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهَا فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهَا فَلَمَّا أَمْسَوْا خَسَفَ اللَّهُ بِالْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَحَشَمِهِ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قد غضب إله
__________
(1) قال الطبري: عن ابن عباس قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس فكان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الاخ.
وكان لملكهم (واسمه: هيرودس) ابنة أخ يريد أن يتزوجها فنهاه
يحيى.
راجع الكامل لابن الاثير ج 1 / 301 - 302.
(2) كذا في الاصول، والصواب كما يقتضيه السياق: في نفسه.
(3) جاء في الطبري والكامل: عن السدي: أن الملك أراد أن يتزوج ابنة امرأة له فنهاه يحيى عن ذلك وقال له: لا تحل لك.
فحقدت عليه المرأة وطلبت قتله.
وقال ابن قتيبة في المعارف ص 24 - أن أحب ملك بنى إسرائيل قتله بحيلة امرأته ازبيل في قتله.
أما المسعودي فذكر حادثة القتل دون تعليق.
[*]
(2/64)
زَكَرِيَّا لِزَكَرِيَّا فَتَعَالَوْا حَتَّى نَغْضَبَ لِمَلِكِنَا فَنَقْتُلَ زَكَرِيَّا قَالَ فَخَرَجُوا فِي طَلَبِي لِيَقْتُلُونِي وَجَاءَنِي الندير فَهَرَبْتُ مِنْهُمْ وَإِبْلِيسُ أَمَامَهُمْ يَدُلُّهُمْ عَلَيَّ فَلَمَّا تَخَوَّفْتُ أَنْ لَا أُعْجِزَهُمْ عَرَضَتْ لِي شَجَرَةٌ فنادتني وقالت إليّ إليّ وانصدعت لي ودخلت فِيهَا.
قَالَ وَجَاءَ إِبْلِيسُ حَتَّى أَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِي وَالْتَأَمَتِ الشَّجَرَةُ وَبَقِيَ طَرَفُ رِدَائِي خَارِجًا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَجَاءَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَمَا رَأَيْتُمُوهُ دَخَلَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ هَذَا طَرَفُ رِدَائِهِ دَخَلَهَا بِسِحْرِهِ، فَقَالُوا نُحَرِّقُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ، فاق إِبْلِيسُ: شُقُّوهُ بِالْمِنْشَارِ شَقًّا.
قَالَ فَشُقِقْتُ مَعَ الشَّجَرَةِ بِالْمِنْشَارِ قَالَ لَهُ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ وَجَدْتَ لَهُ مَسًّا أَوْ وَجَعًا قَالَ لَا إِنَّمَا وَجَدَتْ ذَلِكَ الشَّجَرَةُ التي جَعَلَ اللَّهُ رُوحِي فِيهَا.
هَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ جداً.
وَحَدِيثٌ عَجِيبٌ وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ وَفِيهِ مَا يُنْكَرُ على كل حال ولم ير في شئ من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فَمَرَرْتُ بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابنا الخالة [فجاء] (1) عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فَإِنَّ أُمَّ يَحْيَى أَشْيَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ.
وَقِيلَ بَلْ أَشْيَاعُ وَهِيَ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا أُمُّ يَحْيَى هِيَ أُخْتُ حَنَّةَ امْرَأَةِ عِمْرَانَ أَمِّ مَرْيَمَ فَيَكُونُ يَحْيَى ابْنَ خَالَةِ مَرْيَمَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي مَقْتَلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا هَلْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؟ أَمْ بِغَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: قُتِلَ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ،
عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَدِمَ بُخْتُ نَصَّرَ دِمَشْقَ فَإِذَا هُوَ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا يَغْلِي فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ فَقَتَلَ عَلَى دَمِهِ سَبْعِينَ أَلْفًا فَسَكَنَ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قُتِلَ بِدِمَشْقَ وَأَنَّ قِصَّةَ بُخْتُ نَصَّرَ كَانَتْ بَعْدَ الْمَسِيحِ (2) كَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا حِينَ أَرَادُوا بِنَاءَ مَسْجِدِ دِمَشْقَ أُخْرِجَ مِنْ تَحْتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْقِبْلَةِ الَّذِي يَلِي الْمِحْرَابَ مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ فَكَانَتِ الْبَشَرَةُ وَالشَّعْرُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَفِي رِوَايَةٍ كَأَنَّمَا قُتِلَ السَّاعَةَ.
وَذُكِرَ فِي بِنَاءِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ أَنَّهُ جُعِلَ تَحْتَ العمود المعروف بعمود السكاسكة فالله أعلم.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) رفض الطبري 2 / 15 والكامل 1 / 303 وقوع قصة بختنصر أيام المسيح قال: وهذا القول الذي روي عمن ذكرت في هذا الاخبار التي رويت وعمن لمن يذكر من ان بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا عند أهل السير والاخبار والعلم بأمور الماضين وعند غيرهم من أهل الملل غلط، وأجمعوا على أن غزوه كان عند قتلهم نبيهم شعيا في عهد أرميا، وبين عهد أرميا ويحيى اربعمائة سنة وإحدى وستون.
[*]
(2/65)
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ الْأَقْصَى مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ سبع؟ ؟.
عَنْ مَرْوَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عن قاسم مَوْلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: كَانَ مَلِكُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ يعني دمشق هداد بن هداد وكان قد زوجه ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْلَاكِهَا سُوقُ الْمُلُوكِ بِدِمَشْقَ وَهُوَ الصَّاغَةُ الْعَتِيقَةُ قَالَ: وَكَانَ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا.
ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَاسْتَفْتَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَقَالَ: لَا تَحِلُّ لَكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ فَحَقَدَتْ عَلَيْهِ وَسَأَلَتْ مِنَ الْمَلِكِ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أُمِّهَا فَأَبَى عَلَيْهَا ثُمَّ أَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِمَسْجِدِ جَيْرُونَ مَنْ أَتَاهُ بِرَأْسِهِ فِي صِينِيَّةٍ فجعل الرأس يقول له لَا تَحِلُّ لَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الطَّبَقَ فَحَمَلَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا وَأَتَتْ بِهِ أُمَّهَا وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ فَلَمَّا تَمَثَّلَتْ بَيْنَ
يَدَيْ أُمِّهَا خُسِفَ بِهَا إِلَى قَدَمَيْهَا ثُمَّ إِلَى حَقْوَيْهَا وَجَعَلَتْ أُمُّهَا تُوَلْوِلُ وَالْجَوَارِي يَصْرُخْنَ وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ ثُمَّ خُسِفَ بِهَا إِلَى مَنْكِبَيْهَا فَأَمَرَتْ أُمُّهَا السَّيَّافَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهَا لِتَتَسَلَّى بِرَأْسِهَا فَفَعَلَ فَلَفَظَتِ الْأَرْضُ جُثَّتَهَا عِنْدَ ذَلِكَ وَوَقَعُوا فِي الذُّلِّ وَالْفَنَاءِ وَلَمْ يَزَلْ دَمُ يَحْيَى يَفُورُ حَتَّى قَدِمَ بُخْتُ نَصَّرَ فَقَتَلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهِيَ دَمُ كُلِّ نَبِيٍّ وَلَمْ يَزَلْ يَفُورُ حَتَّى وَقَفَ عِنْدَهُ أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ أَيُّهَا الدَّمُ أَفْنَيْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاسْكُنْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَسَكَنَ فَرُفِعَ السَّيْفُ وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَبِعَهُمْ إِلَيْهَا فَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَسَبَا مِنْهُمْ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ.
قِصَّةُ عِيسَى بْنِ مريم [عبد الله ورسوله وابن أمته] (1) عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَ صَدْرُهَا وَهُوَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْهَا فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا تَعَالَى اللَّهُ عمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَكَانَ قَدْ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ مِنَ التَّثْلِيثِ فِي الْأَقَانِيمِ وَيَدَّعُونَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهُمُ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ وَعِيسَى وَمَرْيَمُ، عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ، فأنزل الله عزوجل صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فِي الرَّحِمِ كَمَا صَوَّرَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ وَقَالَ لَهُ كن فكان سبحانه وتعالى.
وبين أَصْلَ مِيلَادِ أُمِّهِ مَرْيَمَ وَكَيْفَ كَانَ مِنْ أَمْرِهَا وَكَيْفَ حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا عِيسَى وَكَذَلِكَ بَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ كَمَا سَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
واستدركت من قصص الأنبياء لابن كثير.
[*]
(2/66)
الْعَالَمِينَ.
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يرزق من يشاء بغير حساب) [آلِ عِمْرَانَ: 33 - 37] .
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ اصْطَفَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْخُلَّصَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْمُتَّبِعِينَ شَرْعَهُ الْمُلَازِمِينَ طَاعَتَهُ، ثُمَّ خَصَّصَ فَقَالَ: (وَآلَ إِبْرَاهِيمَ) فَدَخَلَ فِيهِمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ وَبَنُو إِسْحَاقَ.
ثُمَّ ذَكَرَ فَضْلَ هَذَا الْبَيْتِ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ وَهُمْ آلُ عِمْرَانَ وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هَذَا وَالِدُ مَرْيَمَ عليها السلام وقال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ بَاشِمَ بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن احريق بن موثم بن عزازيا بن امصيا بن ياوش بن اخريهو بن يازم بن يهفاشاط بن ايشا بن ايان بْنِ رَحْبَعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ.
وَقَالَ أبو القاسم بن عساكر مريم بنت عمران بن ما ثان (1) بن العازر بن اليود بن اخبر بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن ايبود بن زريابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن امون بن ميشا بن حزقا بن احاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن ايشا بن ايبا بن رحبعام بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَفِيهِ مخالفة كما ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ أَبُوهَا عِمْرَانُ صَاحِبَ صَلَاةِ بَنِي إسْرائِيلَ فِي زَمَانِهِ وَكَانَتْ أُمُّهَا وَهِيَ حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلَ مِنَ الْعَابِدَاتِ وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَوْجَ أُخْتِ مَرْيَمَ أَشْيَاعَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ زَوْجُ خَالَتِهَا أَشْيَاعَ (2) فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ محمَّد بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أنَّ أُمَّ مَرْيَمَ كَانَتْ لَا تَحْبَلُ فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يَزُقُّ فَرْخًا لَهُ فَاشْتَهَتِ الْوَلَدَ فَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ حَمَلَتْ لَتَجْعَلَنَّ وَلَدَهَا مُحَرَّرًا أَيْ حَبِيسًا فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالُوا فَحَاضَتْ مِنْ فَوْرِهَا فَلَمَّا طَهُرَتْ وَاقَعَهَا بَعْلُهَا فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) وقرئ بضم التاء: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) أَيْ فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَنْذِرُونَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ خُدَّامًا مِنْ أولادهم وقولها: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ يُولَدُ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ فِي ذَهَابِهِ بِأَخِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَ أَخَاهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ.
وجاء في حديث الحسن عن سمرة
__________
(1) في الطبري: ابن ما ثان بن اليعازر بن أليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن الياقيم بن أبيوذ بن زر بابل بن شلتيل بن يوحنيا بن يوشيا بْنُ أَمُونَ بْنِ مَنْشَا بْنِ حِزْقِيَا بْنِ أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود.
(2) تبنى الطبري هذا القول.
وقال زوج خالة مريم: الاشباع.
[*]
(2/67)
مَرْفُوعًا " كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ " (1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَجَاءَ فِي بَعْضِ ألفاظه ويدمى بدل ويسمى وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهَا: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) قَدِ اسْتُجِيبَ لَهَا فِي هَذَا كَمَا تُقُبِّلَ مِنْهَا نَذْرُهَا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا " (2) ثمَّ يقول أبو هريرة واقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (3) [آل عمران: 36] أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بن الفرج عن بقية عن عبد الله بن الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: أَيْضًا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذؤيب، عَنْ عَجْلَانَ، مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ بِأُصْبُعِهِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَابْنَهَا عِيسَى " (4) .
تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ (5) عن أبي طاهر عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ [عَمْرِو] بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أبي يونس [مولى أبي هريرة] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد حدثنا هشيم حدَّثنا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَابْنِهَا، أَلَمْ تَرَ إِلَى الصَّبِيِّ حِينَ يَسْقُطُ كَيْفَ يَصْرُخُ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " ذَلِكَ حِينَ يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ بِحِضْنَيْهِ " (6) وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَاهُ قَيْسٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم:
" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَيْنِ إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَمَرْيَمَ " ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْلِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الملك، حدثنا المغيرة هو ابن
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 5 / 7، 12، 17، 22 والترمذي في سننه 17 / 21 ورواه أبو داود والنسائي في سننيهما وأبو داود الطيالسي في مسنده.
(2) هذه فضيلة ظاهرة، وظاهر الحديث اختصاصها بعيسى وأمه.
واختار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يتشاركون فيها.
(3) مسند أحمد ج 2 / 274 وأخرجه البخاري في صحيحه 60 / 44 / 3431 فتح الباري.
وأخرجه مسلم في صحيحه 43 كتاب الفضائل (40 باب) 146 / 2366 وفيه: نخسه الشيطان بدل مسه - في الموضعين - وإلا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ - بدل إلا مريم وابنها.
(4) مسند أحمد ج 2 / 288، 292.
(5) صحيح مسلم 43 / 40 / 147 / 2366 وما بين معكوفين من صحيح مسلم.
(6) مسند أحمد: 2 / 368.
[*]
(2/68)
عَبْدِ اللَّهِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ حِينَ يُولَدُ إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الحجاب " (1) .
وهذا على شرط الصَّحيحين ولم يخرِّجوه مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَوْلُهُ: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ أُمَّهَا حِينَ وَضَعَتْهَا لَفَّتْهَا فِي خُرُوقِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ بِهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَلَّمَتْهَا إِلَى الْعُبَّادِ الَّذِينَ هُمْ مُقِيمُونَ بِهِ وَكَانَتِ ابْنَةَ إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ صَلَاتِهِمْ فَتَنَازَعُوا فِيهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إِنَّمَا سَلَّمَتْهَا إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَضَاعِهَا وَكَفَالَةِ مِثْلِهَا فِي صِغَرِهَا.
ثُمَّ لَمَّا دَفَعَتْهَا إِلَيْهِمْ تَنَازَعُوا فِي أَيِّهِمْ يَكْفُلُهَا وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيَّهُمْ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ زَوْجَتَهُ أُخْتُهَا أَوْ خَالَتُهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
فَشَاحُّوهُ فِي ذَلِكَ وَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعَ مَعَهُمْ فَسَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ فَخَرَجَتْ قُرْعَتُهُ غَالِبَةً لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) أَيْ بِسَبَبِ غَلَبِهِ لَهُمْ فِي الْقُرْعَةِ كَمَا قال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أنبأ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران: 44] .
قَالُوا وَذَلِكَ أنَّ كُلًّا مِنْهُمْ أَلْقَى قَلَمَهُ مَعْرُوفًا بِهِ ثُمَّ حَمَلُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَمَرُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ فَأَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهَا وَظَهَرَ قَلَمُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعُوا مَرَّةً ثَانِيَةً وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُلْقُوا أَقْلَامَهُمْ فِي النَّهْرِ، فَأَيُّهُمْ جَرَى قَلَمُهُ عَلَى خلاف جريه في الْمَاءِ فَهُوَ الْغَالِبُ فَفَعَلُوا فَكَانَ قَلَمُ زَكَرِيَّا هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَى خِلَافِ جَرْيَةِ الْمَاءِ وَسَارَتْ أَقْلَامُهُمْ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَقْتَرِعُوا ثَالِثَةً فَأَيُّهُمْ جَرَى قَلَمُهُ مَعَ الماء ويكون بَقِيَّةُ الْأَقْلَامِ قَدِ انْعَكَسَ سَيْرُهَا صُعُدًا فَهُوَ الْغَالِبُ فَفَعَلُوا فَكَانَ زَكَرِيَّا هُوَ الْغَالِبَ لَهُمْ فَكَفَلَهَا.
إِذْ كَانَ أَحَقَّ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ (2) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 37] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ اتَّخَذَ لَهَا زَكَرِيَّا مَكَانًا شَرِيفًا مِنَ الْمَسْجِدِ لا يدخله سواه، فَكَانَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، وَتَقُومُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ سَدَانَةِ الْبَيْتِ إِذَا جَاءَتْ نَوْبَتُهَا وَتَقُومُ بِالْعِبَادَةِ لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا حَتَّى صَارَتْ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ بِعِبَادَتِهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاشْتَهَرَتْ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْكَرِيمَةِ وَالصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مَوْضِعَ عِبَادَتِهَا يَجِدُ عِنْدَهَا رِزْقًا غَرِيبًا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَكَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ في الصيف فيسألها (أَنَّى لَكِ هَذَا فتقول هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أَيْ رِزْقٌ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حساب فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسَنَّ وَكَبِرَ (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) [آل عمران: 38] قال بعضهم قال يامن يرزق مريم الثمر في
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 523.
(2) قال القرطبي: في الآية دلالتان: - القرعة كانت آية له لانه نبي تجري الآيات على يديه.
ودلت الآية على أن
الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة.
[*]
(2/69)
غير أبانه (1) هَبْ لِي وَلَدًا وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ وَقَضِيَّتِهِ مَا قدَّمنا ذكره في قصته.
[قال الله تعالى:] : (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ.
إِذْ قَالَتِ الملائكة يا مريم إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عيسى بن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ.
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
إِنَّ اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صراط مستقيم) [آلِ عِمْرَانَ: 42 - 51] .
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا (2) بِأَنِ اخْتَارَهَا لِإِيجَادِ وَلَدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَبُشِّرَتْ بِأَنْ يَكُونَ نبياً شريفا (يكلم الناس في الْمَهْدِ) أَيْ فِي صِغَرِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَكَذَلِكَ فِي حَالِ كُهُولَتِهِ فدلَّ عَلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْكُهُولَةَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ فِيهَا وَأُمِرَتْ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالْقُنُوتِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ لِتَكُونَ أَهْلًا لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ وَلِتَقُومَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ فَيُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَحِمَهَا وَرَحِمَ أُمَّهَا وَأَبَاهَا فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: (يا مريم إن اللَّهَ اصْطَفَاكِ) أَيِ اخْتَارَكِ وَاجْتَبَاكِ (وَطَهَّرَكِ) أَيْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَأَعْطَاكِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) .
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَالَمِي زَمَانِهَا كَقَوْلِهِ لِمُوسَى: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)
[الأعراف: 144] وَكَقَوْلِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان: 32] وَمَعْلُومٌ إنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَأَفْضَلُ عِلْمًا وَأَزْكَى عَمَلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) مَحْفُوظَ الْعُمُومِ فَتَكُونَ أَفْضَلَ نِسَاءِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا وَوُجِدَ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَبِيَّةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُبُوَّتِهَا وَنُبُوَّةِ سَارَّةَ أُمِّ إِسْحَاقَ وَنُبُوَّةِ أُمِّ مُوسَى مُحْتَجًّا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ إِلَى أُمِّ مُوسَى كَمَا يزعم ذلك ابن حزم وغيره
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: أوانه، والصواب ما أثبتناه.
(2) قال القرطبي: قال الزجاج وغيره عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أجمع إلى يوم الصور، وهو الصحيح ; حيث أن الله خص مريم بما لم يؤته أحداً من النساء.
[*]
(2/70)
فلا يمتنع على هذا أن يكون مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ سَارَّةَ وَأُمِّ مُوسَى لِعُمُومِ قوله: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) إِذْ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدْ حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالرِّجَالِ (1) وَلَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ فَيَكُونُ أَعْلَى مَقَامَاتِ مَرْيَمَ كَمَا قَالَ الله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ بن مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة: 75] فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ الصِّدِّيقَاتِ الْمَشْهُورَاتِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا وَمِمَّنْ يَكُونُ بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا مَقْرُونًا مَعَ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ " (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِأَرْبَعٍ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ
بِنْتُ مُحَمَّدٍ " (3) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عن أبي بكر بن زانجويه، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَصَحَّحَهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ.
وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ زِيَادٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازيّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " خير نساء الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: " مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ " وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ " (4) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بَعِيرًا قَطُّ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْأَفُهُ بِزَوْجٍ عَلَى قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ " (5) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَةَ عِمْرَانَ لَمْ تَرْكَبِ الإبل، تفرد به.
وهو على شرط
__________
(1) قال الرازي في تفسيره: اعلم أن مريم عليها السلام ما كانَتْ منَ الانبياء لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رجالا نوحي إليهم..) وإرسال جبريل إليها: إمَّا أن يكون كرامة لها أو أرهاصا لعيسى عليه السلام.
(2) مسند أحمد: 1 / 84، 116، 132.
(3) مسند أحمد ج 3 / 135 ورواه الحاكم في مستدركه (3 / 197، 198 حيدر آباد) .
(4) مسند أحمد ج 2 / 275، 449 وأخرجه مسلم في صحيحه 2 / 270.
(5) مسند أحمد ج 2 / 269، 319، 393، 502.
[*]
(2/71)
الصَّحِيحِ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَ خُطُوطٍ فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجنَّة خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ بِنْتُ
عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَاتِمٍ الْعَسْكَرِيُّ، نَبَّأَنَا بِشْرُ بْنُ مِهْرَانَ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَسْبُكَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ سَيِّدَاتُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ".
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ (1) حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ: أَرَأَيْتِ حِينَ أَكْبَبْتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ؟ قَالَتْ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ وَأَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ فَضَحِكْتُ.
وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ (2) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَفِيهِ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَاتِ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدَّثنا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدَّثنا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعم (3) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ " (4) .
إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ وَفَاطِمَةَ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأَرْبَعِ.
ثُمَّ يَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ فَاطِمَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا عَلَى السَّوَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ لَكِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ إِنْ صَحَّ عَيَّنَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ.
فَقَالَ الحافظ أبو القاسم بن عساكر: أنبأنا أبو الحسن بن الفرا وَأَبُو غَالِبٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنَا الْبَنَّا قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ هُوَ ابْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: ابن منبه وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه.
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم - باب منقبة فاطمة عليها السلام (5: 65) ميمنية.
وأخرجه مسلم في 44 / 15 وأخرجه أحمد في مسنده 6 / 77 - 240 وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 7 / 164 وابن سعد في الطبقات 2 / 247.
(3) في نسخ المطبوعة نعيم وهو تحريف وما أثبتناه مناسب لما في الحديث في المسند: نعم.
(4) مسند أحمد ج 3 / 64، 80.
[*]
(2/72)
ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ " فَإِنْ كَانَ هَذَا اللفظ محفوظاً بثم الَّتِي لِلتَّرْتِيبِ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ دل عليهما الاستثناء وتقدم عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا تَنْفِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازيّ، عَنْ دَاوُدَ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عباس مرفوعاً فذكره بواو العطف لا بثم التَّرْتِيبِيَّةِ فَخَالَفَهُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ".
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " (1) .
فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِهِ وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْكَمَالِ فِي النِّسَاءِ فِي مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفَلَتْ نَبِيًّا فِي حَالِ صِغَرِهِ فَآسِيَةُ كَفَلَتْ مُوسَى الْكَلِيمَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَنْفِي كَمَالَ غَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ فَخَدِيجَةُ خَدَمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ البعثة خمس عشرة سَنَةً وَبَعْدَهَا أَزْيَدَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأَرْضَاهَا، وَأَمَّا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا خُصَّتْ بِمَزِيدِ
فَضِيلَةٍ عَلَى أَخَوَاتِهَا لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَّةُ أَخَوَاتِهَا مِتْنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَلَمْ يتزوَّج بِكْرًا غَيْرَهَا وَلَا يُعْرَفُ فِي سَائِرِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَلْ وَلَا فِي غَيْرِهَا أَعْلَمُ مِنْهَا، وَلَا أَفْهَمُ، وَقَدْ غَارَ اللَّهُ لَهَا حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَأَنْزَلَ بَرَاءَتَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سموات وَقَدْ عُمِّرَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً تُبَلِّغُ عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَتُفْتِي الْمُسْلِمِينَ وَتُصْلِحُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ وَهِيَ أَشْرَفُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُمِّ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ فِيهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطعام "
__________
(1) أخرجه مسلم في 44 كتاب الصحابة 12 باب فضائل خديجة 70 / 2431 والبخاري حديث رقم (1606) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد: 9 / 243 وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أنَّ أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه.
قال العلماء في (فضل الثريد على سائر الطعام) معناه: أن فضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الاطعمة، لان الثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه.. [*]
(2/73)
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهِنَّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ما عدى المذكورات والله أعلم.
والمقصود ههنا ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَهَا وَاصْطَفَاهَا عَلَى نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُهَا عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا كَمَا قَدَّمْنَا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ هِيَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَاسْتَأْنَسَ بِقَوْلِهِ: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) [التحريم: 5] قَالَ فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ وَمِنَ الْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن سعد العوفي، حدثنا أبي، أنبأنا عَمِّيَ الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ نُفَيْعٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ، هُوَ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " إن اللَّهَ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَامْرَأَةَ فِرْعَوْنَ وَأُخْتَ مُوسَى " (1) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ النُّورِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى " رَوَاهُ ابْنُ جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ النُّورِ بِهِ وَزَادَ فقلت هنيأ لك يارسول اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ يَعْلَى بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي مَرَضِهَا الَّذِي تُوُفِّيَتْ فِيهِ فَقَالَ لَهَا: " بِالْكُرْهِ مِنِّي مَا أَرَى مِنْكِ يَا خَدِيجَةُ وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِي الْكُرْهِ خَيْرًا كَثِيرًا أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِي مَعَكِ فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ " قَالَتْ وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَتْ بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ " (2) .
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيِّ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بكار، حدثنا أبو بكر الهزلي، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى خديجة وهي في مرض الْمَوْتِ فَقَالَ: " يَا خَدِيجَةُ إِذَا لَقِيتِ ضَرَائِرَكِ فاقرئهن مِنِّي السَّلَامَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ تَزَوَّجْتَ قَبْلِي قَالَ: لَا وَلَكِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى ".
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ سُوِيدِ بْنِ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الضَّحَّاكِ.
وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ نَزَلَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بِمَا أُرْسِلَ بِهِ وَجَلَسَ يُحَدِّثُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّتْ خَدِيجَةُ فَقَالَ جِبْرِيلُ مَنْ هَذِهِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: هَذِهِ صِدِّيقَةُ أُمَّتِي، قَالَ جِبْرِيلُ: مَعِي إِلَيْهَا رِسَالَةٌ مِنَ الرَّبِّ عزوجل يُقْرِئُهَا السَّلَامَ، وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ لَا نَصَبَ فِيهِ
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 218 وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم.
(2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 218 عن أبي رواد.
وقال: رواه الطبراني منقطع الاسناد وفيه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف.
[*]
(2/74)
وَلَا صَخَبَ قَالَتِ: اللَّهُ السَّلَامُ، وَمِنْهُ السَّلَامُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا
ذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي مِنْ قَصَبٍ قَالَ: لُؤْلُؤَةٌ جَوْفَاءُ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَبَيْتِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ وَهُمَا مِنْ أَزْوَاجِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَصْلُ السَّلَامِ عَلَى خَدِيجَةَ مِنَ اللَّهِ وَبِشَارَتِهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فيه ولا وصب فِي الصَّحيح وَلَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ (1) .
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حدَّثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَهُ عَنِ الصَّخْرَةِ يَعْنِي صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: الصَّخْرَةُ عَلَى نَخْلَةٍ وَالنَّخْلَةُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَتَحْتَ النَّخْلَةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ يَنْظِمَانِ سُمُوطَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
ثُمَّ رواه من طريق إسماعيل، عن عَيَّاشٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بِمِثْلِهِ وَهَذَا مُنْكَرٌ (2) مِنْ هذا الوجه.
بل هو موضوع.
قَدْ رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ عبد الرحمان، عن ابن عابد: أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَذَكَرَهُ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَكَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَشْبَهُ.
قُلْتُ وَكَلَامُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ هَذَا إِنَّمَا تَلْقَاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ وَضَعَهُ بَعْضُ زَنَادِقَتِهِمْ أَوْ جُهَّالِهِمْ وَهَذَا مِنْهُ وَاللَّهُ أعلم.
ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم [العذراء] (3) الْبَتُولِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً.
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً.
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً.
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً.
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً.
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أن لا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً.
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فلم أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيّاً.
يَا
__________
(1) نقل الاحاديث الهيثمي في زوائده من عدة طرق بروايات مختلفة وعلق حول أسانيدها ورواتها ; فليراجع ج 9 / 223 - 224 - 225.
(2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 218 وقال: رواه الطبراني وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهذا الحديث من منكراته.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
[*]
(2/75)
أخت هرون مَا كَانَ أَبُوكِ أمرء سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً.
وَجَعَلَنِي مباركا أينما كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أمرت وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً.
ذلك عيسى بن مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ.
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [مريم: 16 - 37] .
ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بَعْدَ قِصَّةِ زَكَرِيَّا الَّتِي هِيَ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهَا وَالتَّوْطِئَةِ قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 89 - 91] .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرْيَمَ لَمَّا جَعَلَتْهَا أُمُّهَا مُحَرَّرَةً تَخْدِمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ كَفَلَهَا زَوْجُ أُخْتِهَا أَوْ خَالَتِهَا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ اتَّخَذَ لَهَا مِحْرَابًا وَهُوَ الْمَكَانُ الشَّرِيفُ مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا سِوَاهُ، وَأَنَّهَا لَمَّا بَلَغَتِ اجْتَهَدَتْ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَظِيرُهَا فِي فُنُونِ الْعِبَادَاتِ، وَظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ
الْأَحْوَالِ مَا غَبَطَهَا بِهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وأنَّها خَاطَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ لَهَا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا وَبِأَنَّهُ سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا زَكِيًّا يَكُونُ نَبِيًّا كَرِيمًا طَاهِرًا مُكَرَّمًا مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ فَتَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ لِأَنَّهَا لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا هِيَ مِمَّنْ تَتَزَوَّجُ فَأَخْبَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ: بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَاسْتَكَانَتْ لِذَلِكَ وَأَنَابَتْ وَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَلِمَتْ أَنَّ هَذَا فِيهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِسَبَبِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ، وَلَا تَعَقُّلٍ، وَكَانَتْ إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ حيضها (1) أو لحاجة ضرورية لابد مِنْهَا مِنَ اسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوْ تَحْصِيلِ غِذَاءٍ فبينما هي يوماً قد خرجت لبعض شؤونها (وَانْتَبَذَتْ) أَيِ انْفَرَدَتْ وَحْدَهَا شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِذْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ جِبْرِيلَ عليه السلام: (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) فَلَمَّا رَأَتْهُ: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً) .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَاسِقٌ مَشْهُورٌ بِالْفِسْقِ اسْمُهُ تَقِيٌّ، فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا دَلِيلٍ وَهُوَ مِنْ أَسْخَفِ الْأَقْوَالِ.
__________
(1) قَالَ الرازي أن مريم طهرت عن الحيض وقال: قالوا كانت مريم لا تحيض.
قال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس وقال غيره: لتعبد الله.
وهذا حسن (راجع الرازي - القرطبي) .
[*]
(2/76)
(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رسول ربك) أَيْ خَاطَبَهَا الْمَلَكُ قَائِلًا: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [أَيْ] (1) لَسْتُ بِبَشَرٍ، وَلَكِنِّي مَلَكٌ بَعَثَنِي الله إليك (ليهب لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً) أَيْ وَلَدًا زَكِيًّا (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ أَوْ يُوجَدُ لِي وَلَدٌ (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً) أَيْ وَلَسْتُ ذَاتَ زَوْجٍ (2) وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أَيْ فَأَجَابَهَا الْمَلَكُ عَنْ تَعَجُّبِهَا مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَائِلًا: (كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ) أَيْ وَعَدَ أَنَّهُ سَيَخْلُقُ مِنْكِ غُلَامًا وَلَسْتِ بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أَيْ وَهَذَا سَهْلٌ عَلَيْهِ وَيَسِيرٌ لَدَيْهِ فَإِنَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ قدير.
وقوله: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أَيْ وَلِنَجْعَلَ خَلْقَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى أَنْوَاعِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ، وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا
أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
وَقَوْلُهُ: (وَرَحْمَةً مِنَّا) أَيْ نَرْحَمُ بِهِ الْعِبَادَ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته، بِأَنْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيُنَزِّهُوهُ عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ.
وَقَوْلُهُ: (وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً) .
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ جِبْرِيلَ مَعَهَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ وَحَتَّمَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون قوله: (وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً) كِنَايَةً عَنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ فِيهَا كَمَا قَالَ تعالى: (وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) [التحريم: 12] .
فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا، فَحَمَلَتْ مِنْ فَوْرِهَا، كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ جِمَاعِ بَعْلِهَا.
وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ نَفَخَ فِي فَمِهَا أَوْ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُهَا هُوَ الرُّوحُ الَّذِي وَلَجَ فِيهَا مِنْ فَمِهَا فَقَوْلُهُ خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
فَإِنَّ هَذَا السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَخَ فِيهَا وَلَمْ يُوَاجِهِ الْمَلَكُ الْفَرْجَ بَلْ نَفَخَ فِي جَيْبِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا فَانْسَلَكَتْ فِيهِ كَمَا قال تعالى: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) فَدَلَّ (3) عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ وَلَجَتْ فِيهِ لَا فِي فَمِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَلَا فِي صَدْرِهَا كَمَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (فَحَمَلَتْهُ) أي حملت ولدها (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً) وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا حَمَلَتْ ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا وَعَلِمَتْ أَنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ مِنْهُمْ كَلَامٌ فِي حَقِّهَا فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهَا لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كان أول من فطن
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) ذكرت مريم ذلك تأكيدا منها أنه لم يمسسها بشر، يحتمل الحلال والحرام، ولم تستبعد قدرة الله إنما تساءلت كيف يكون هذا الولد؟ هل من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟ (3) في نسخ البداية المطبوعة: يدل والصواب ما أثبتناه.
[*]
(2/77)
لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ وَكَانَ ابْنَ خَالِهَا (1) فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ دِيَانَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَعِبَادَتِهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَاهَا حُبْلَى وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ فَعَرَّضَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْكَلَامِ فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ هَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَمَنْ خَلَقَ الزَّرْعَ الْأَوَّلَ؟ ثمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا مَطَرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
فَمَنْ خَلَقَ الشَّجَرَ الْأَوَّلَ؟ ثمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى قَالَ لَهَا: فَأَخْبِرِينِي خَبَرَكِ فَقَالَتْ إِنَّ اللَّهَ بَشَّرَنِي (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) وَيُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَأَلَهَا فَأَجَابَتْهُ بِمِثْلِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَرْيَمَ دَخَلَتْ يَوْمًا عَلَى أُخْتِهَا، فَقَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا: أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى فَقَالَتْ مَرْيَمُ وَشَعَرْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى؟ فَاعْتَنَقَتْهَا وَقَالَتْ لَهَا أُمُّ يَحْيَى: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) ومعنى السجود ههنا الْخُضُوعُ وَالتَّعْظِيمُ كَالسُّجُودِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ لِلسَّلَامِ كَمَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَكَمَا أَمَرَ الله الملائكة بالسجود لآدم.
وقال أبو الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ابْنَا خَالَةٍ وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي وَكَلَّمَنِي وَإِذَا كُنْتُ بَيْنَ النَّاسِ سَبَّحَ فِي بَطْنِي.
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ وَيَضَعْنَ لِمِيقَاتِ حَمْلِهِنَّ وَوَضْعِهِنَّ إِذْ لَوْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ لَذُكِرَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا هُوَ إلا أن حملت به فوضعته [في الحال، وهذا هو الظَّاهر، لأنَّ الله تعالى، ذكر الانتباذ بعد الحمل] (2) قَالَ بَعْضُهُمْ حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَ سَاعَاتٍ وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إلى جذع النخلة) والصحيح أن تعقيب كل شئ بِحَسْبِهِ لِقَوْلِهِ:
(فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج: 63] وَكَقَوْلِهِ: (فخلقنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضعة عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: 14] وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ كُلِّ حَالَيْنِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا ثبت في الحديث المتفق عليه.
قال محمد بن إسحاق شاع وَاشْتَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهَا حَامِلٌ فَمَا دخل عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ ما دخل
__________
(1) في الطبري: ابن عمها.
(2) ما بين معكوفين زيادة من القرطبي، من سياق كلام ابن عباس.
[*]
(2/78)
على آل بيت زَكَرِيَّا.
قَالَ وَاتَّهَمَهَا بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ بِيُوسُفَ الَّذِي كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَارَتْ عَنْهُمْ مَرْيَمُ وَاعْتَزَلَتْهُمْ وَانْتَبَذَتْ مَكَانًا قَصِيًّا (1) وَقَوْلُهُ: (فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أَيْ فَأَلْجَأَهَا وَاضْطَرَّهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ وَهُوَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَالْبَيْهَقِيُّ بإسناد وصححه عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا بِبَيْتِ لَحْمٍ (2) الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ بَعْضُ مُلُوكِ الرُّومِ فِيمَا بَعْدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ هَذَا الْبِنَاءَ الْمُشَاهَدَ الْهَائِلَ (قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتَنِ وَذَلِكَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَهَا وَلَا يُصَدِّقُونَهَا بَلْ يُكَذِّبُونَهَا حِينَ تَأْتِيهِمْ بِغُلَامٍ عَلَى يَدِهَا مَعَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمُجَاوِرَاتِ فِي الْمَسْجِدِ الْمُنْقَطِعَاتِ إِلَيْهِ الْمُعْتَكِفَاتِ فِيهِ وَمِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالدِّيَانَةِ فَحَمَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْهَمِّ مَا تَمَنَّتْ أَنْ لَوْ كَانَتْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الْحَالِ أَوْ كَانَتْ (نَسْياً مَنْسِيّاً) أَيْ لَمْ تُخْلَقْ بالكلية.
وقوله: (فَنَادَاهَا من تحتها) وقرئ من تحتها عَلَى الْخَفْضِ وَفِي الْمُضْمَرِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى إِلَّا بِحَضْرَةِ الْقَوْمِ وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ هُوَ ابنها عيسى وأختاره ابن جرير.
وقوله: (أن لا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً) قِيلَ النَّهْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ ابْنُهَا
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) فَذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَلِهَذَا قَالَ: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) .
ثُمَّ قِيلَ كَانَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يَابِسًا وَقِيلَ كَانَتْ نَخْلَةً مُثْمِرَةً فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ نَخْلَةً لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُثْمِرَةً إِذْ ذَاكَ لِأَنَّ مِيلَادَهُ كَانَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ (2) وَلَيْسَ ذَاكَ وَقْتَ ثَمَرٍ وَقَدْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) قال عمرو بن ميمون ليس شئ أجود لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ ثمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ (3) ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ
__________
(1) قال ابن قتيبة في المعارف: وكان يوسف النجار خطب مريم وتزوجها فيما ذكر في الانجيل فلما صارت إليه وجدها حبلى قبل أن يباشرها وكان رجلاً صالحاً فكره أن يفشي عليها وائتمر أن يسرحها خفية فتراءى له ملك في النوم فقال يا يوسف إن امرأتك مريم سوف تلد ابنا يسمى عيسى وهو ينجي أمته من خطاياهم.
(2) قال المسعودي: ولد بقرية يقال لها بيت لحم على أميال من بيت المقدس، وقد ولدته في يوم الأربعاء لأربع وعشرين ليلة خلت من كانون الاول.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: الانصاري وهو تصحيف.
وعبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الاوزاعي، أبو عمرو الفقيه شيخ الاسلام ثقة جليل.
من السابعة مات سنة 157 تقريب التهذيب 1 / 1064 / 493 الكاشف 1 / 158.
[*]
(2/79)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي خلق منه آدم وليس من الشجرة شئ يُلَقَّحُ غَيْرَهَا " (1) .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الْوُلَّدَ الرُّطَبَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ فَتَمْرٌ وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ".
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ سَعِيدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ مَسْرُورِ بْنِ سَعْدٍ.
وَالصَّحِيحُ مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَسْمَعَ بِذِكْرِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ يَرْوِي عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ
الْمَنَاكِيرَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ يَرْوِيهَا.
وَقَوْلُهُ: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) .
وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تحتها قال: (كلي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أَيْ فَإِنْ رَأَيْتِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ (فَقُولِي) لَهُ أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْإِشَارَةِ (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً) أَيْ صَمْتًا وَكَانَ مِنْ صَوْمِهِمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالطَّعَامِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَسْلَمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ صَمْتُ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيّاً.
يا أخت هرون مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلف مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَمَّا افْتَقَدُوهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا، فَمَرُّوا عَلَى مَحِلَّتِهَا وَالْأَنْوَارُ حَوْلَهَا، فَلَمَّا وَاجَهُوهَا وَجَدُوا مَعَهَا وَلَدَهَا فَقَالُوا لَهَا: (يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيّاً) أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا مُنْكَرًا.
وَفِي هَذَا الَّذِي قَالُوهُ نَظَرٌ مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ يَنْقُضُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يدل على أنها حملت بِنَفْسِهَا وَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا وَهِيَ تَحْمِلُهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَعَالَّتْ (2) مِنْ نِفَاسِهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا (3) .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا تَحْمِلُ مَعَهَا وَلَدَهَا (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيّاً) وَالْفِرْيَةُ هِيَ الْفِعْلَةُ الْمُنْكَرَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْفِعَالِ والمقال ثم قالوا لها: (يَا أخت هرون) قِيلَ شَبَّهُوهَا بِعَابِدٍ مِنْ عُبَّادِ زَمَانِهِمْ كَانَتْ تساميه في العبادة وكان اسمه هرون وَقِيلَ شَبَّهُوهَا بِرَجُلٍ فَاجِرٍ فِي زَمَانِهِمُ اسْمُهُ هرون.
قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقِيلَ أَرَادُوا بِهَارُونَ أَخَا مُوسَى شَبَّهُوهَا بِهِ فِي الْعِبَادَةِ.
وَأَخْطَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهَا أخت موسى وهرون نَسَبًا فَإِنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الدُّهُورِ الطَّوِيلَةِ مَا لا يخفى عليَّ أنى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَرُدُّهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ وَكَأَنَّهُ غَرَّهُ أَنَّ فِي التوراة أن مريم أخت موسى وهرون ضربت بالدف يوم نجا اللَّهُ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ كما قررناه في التفسير مطولاً ولله
__________
(1) رواه ابن عساكر في تاريخه 2 / 342 تهذيب.
ورواه الشوكاني في الفوائد المجموعة (489) .
(2) في نسخ البداية المطبوعة: تعلت والصواب ما أثبتناه.
(3) هذا القول نقله القرطبي عن الكلبي أما ابن عباس فقال: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات.
[*]
(2/80)
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهَا أَخٌ اسْمُهُ هرون وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا وَتَحْرِيرِ أُمِّهَا لَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَخٌ سِوَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُهُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ فقالوا أرأيت ما تقرأون: (يا أخت هرون) وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا قَالَ فَرَجَعْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ " (1) وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: " أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أنهم كانوا يتسمون بِأَسْمَاءِ صَالِحِيهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ " وَذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْثِرُونَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَارُونَ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ حَضَرَ بَعْضَ جَنَائِزِهِمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ يُسَمَّى بِهَارُونَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
والمقصود أنهم قالوا: (يَا أُخْتَ هرون) وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ كَانَ لَهَا أخ نسبي اسمه هرون، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ وَلِهَذَا قَالُوا: (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) أَيْ لَسْتِ مِنْ بَيْتٍ هَذَا شِيمَتُهُمْ وَلَا سَجِيَّتُهُمْ لَا أَخُوكِ وَلَا أُمُّكِ وَلَا أَبُوكِ فَاتَّهَمُوهَا بِالْفَاحِشَةِ الْعُظْمَى وَرَمَوْهَا بِالدَّاهِيَةِ الدَّهْيَاءِ، فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ (2) فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوا بِهَا زَكَرِيَّا وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَفَرَّ مِنْهُمْ فَلَحِقُوهُ وَقَدِ انْشَقَّتْ لَهُ الشَّجَرَةُ فَدَخَلَهَا وَأَمْسَكَ إِبْلِيسُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَنَشَرُوهُ فِيهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنِ اتَّهَمَهَا بِابْنِ خَالِهَا (3) يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ النَّجَّارِ فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ وَانْحَصَرَ الْمَجَالُ وَامْتَنَعَ الْمَقَالُ عَظُمَ التَّوَكُّلُ عَلَى ذِي الْجَلَالِ وَلَمْ يبق إلا الإخلاص والاتكال (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) أَيْ خَاطِبُوهُ وَكَلِّمُوهُ، فَإِنَّ جَوَابَكُمْ عَلَيْهِ وَمَا تبغون من الكلام لديه.
فعندها (قَالُوا) مَنْ كَانَ مِنْهُمْ جَبَّارًا شَقِيًّا (كَيْفَ نُكَلِّمُ من كان في الْمَهْدِ صَبِيّاً) أي كيف تحيلينا فِي الْجَوَابِ عَلَى صَبِيٍّ صَغِيرٍ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَضِيعٌ فِي مَهْدِهِ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَحْضٍ
وَزَبَدِهِ وَمَا هَذَا مِنْكِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِنَا، وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّنَقُّصِ لَنَا وَالِازْدِرَاءِ، إِذْ لَا تَرُدِّينَ عَلَيْنَا قَوْلًا نُطْقِيًّا بَلْ تُحِيلِينَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَعِنْدَهَا (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً.
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أينما كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً.
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) .
هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مَرْيَمَ فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) اعترف لربه تعالى
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 4 / 252 وأخرجه مسلم في صحيحه 38 كتاب الآداب 1 باب ح 9 / 2135 ص 3 / 1685.
(2) الخبر في تاريخ الطبري 2 / 22 عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; في سياق قصة مريم ; والذين اتهموه: بنو اسرائيل.
(3) تقدم أنه ابن عمها.
[*]
(2/81)
بِالْعُبُودِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ فَنَزَّهَ جَنَابَ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ بَلْ هُوَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ ثُمَّ بَرَّأَ أُمَّهُ مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ وَقَذَفُوهَا بِهِ وَرَمَوْهَا بِسَبَبِهِ بِقَوْلِهِ: (آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيمًا) [النساء: 156] وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالُوا إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَنَّهَا صِدِّيقَةٌ وَاتَّخَذَ وَلَدَهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَحَدَ أُولِي الْعَزْمِ الخمسة الكبار ولهذا قال: (وَجَعَلَنِي مباركا أينما كُنْتُ) وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَزَّهَ جَنَابَهُ عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تَعَالَى وَتَقَدَّسَ (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبِيدِ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بِالصَّلَاةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلِيقَةِ بِالزَّكَاةِ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى طَهَارَةِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَتَطْهِيرِ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِالْعَطِيَّةِ لِلْمَحَاوِيجِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَقِرَى الْأَضْيَافِ وَالنَّفَقَاتِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْقَرَابَاتِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) أَيْ وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي وَذَلِكَ أَنَّهُ تَأَكَّدَ حَقُّهَا عَلَيْهِ لِتَمَحُّضِ جِهَتِهَا إِذْ لَا وَالِدَ لَهُ سِوَاهَا فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَبَرَأَهَا وَأَعْطَى كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا.
(وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) أَيْ لَسْتُ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا يَصْدُرُ مِنِّي قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وطاعته.
(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يوم ولدت يوم أموت ويوم أبعث حَيّاً) .
وهذه الأماكن الثَّلَاثَةُ (1) الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّتَهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَبَيَّنَ أَمْرَهُ ووضحه وشرحه (2) .
قال: (ذلك عيسى بن مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ.
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [مريم: 34 - 35] كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عليم بالمفسدين)
__________
(1) يوم ولدت: يعني في الدنيا، وقيل من همز الشيطان.
ويوم أموت: يعني في القبر ; وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً: يعني في الآخرة.
(2) في الآيات دلالات عديدة أبرزها ; - أن عيسى تكلم في طفولته ثم عاد إلى حالة الاطفال فكان نطقه اظهار براءة أمه.
- أن عيسى تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى.
- أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجباً علي الامم السالفة، والقرون الخالية الماضية.
- الاشارة بمنزلة الكلام وتفهم ما يفهم القول.
قال المهلب: وقد تكون الاشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام.
[*]
(2/82)
[آلِ عِمْرَانَ: 58 - 63] .
وَلِهَذَا لمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا يَرْجِعُ أَمْرُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ
مِنْهُمْ وَيَؤُولُ أَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ هُمْ أَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ وَهُمْ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ فَجَعَلُوا يُنَاظِرُونَ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ وَابْتِدَاءَ خَلْقِهِ وَخَلْقِ أُمِّهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُبَاهِلَهُمْ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَيَتَّبِعُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا عَيْنَيْهَا وَأُذُنَيْهَا نَكَصُوا وَامْتَنَعُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ وَعَدَلُوا إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالْمُوَادَعَةِ وَقَالَ قَائِلُهُمْ: وَهُوَ الْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ علمتم أن محمد لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صاحبكم ولقد علمتم أن مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ وَإِنَّهَا لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إلاَّ إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ فَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمْ جِزْيَةً وَأَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَقَدْ بيَّنا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ وَسَيَأْتِي بَسْطُ هذه القضية في السيرة النبوية (1) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَالْمَقْصُودُ إن الله تعالى بَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ قَالَ لِرَسُولِهِ: (ذَلِكَ عِيسَى بن مريم قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ (2) مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَلِهَذَا قَالَ: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي لا يعجزه شئ ولا يكترثه وَلَا يَؤُودُهُ بَلْ هُوَ الْقَدِيرُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله: (إِنَّ اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ عِيسَى لَهُمْ فِي الْمَهْدِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ وَإِلَهُهُ وَإِلَهُهُمْ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [مريم: 37] أَيْ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيهِ فَمِنْ قَائِلٍ مِنَ الْيَهُودِ إِنَّهُ وَلَدُ زَنْيَةٍ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ فِي الْكُفْرِ فَقَالُوا هُوَ اللَّهُ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ.
وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ هُمُ النَّاجُونَ الْمُثَابُونَ المؤيدون المنصورون ومن خالفهم في شئ من هذه القيود فهم الكافرون الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بِقَوْلِهِ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حدَّثني عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ ورسوله وكلمته ألقاها إلى
__________
(1) راجع سيرة ابن كثير 4 / 10 / 108.
(2) اعتقد اليهود أنه ابن يوسف النجار وقالت النصارى أنه الاله أو ابن الاله، وقول الحق هو كلمة الله في نعته لعيسى ; فكلام الله هو القول الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يشكون.
[*]
(2/83)
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ ".
قَالَ الْوَلِيدُ فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عُمَيْرٍ عَنْ جُنَادَةَ وَزَادَ " مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ " (1) .
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ عن الوليد [بن مسلم] (2) عَنِ [ابْنِ] (2) جَابِرٍ بِهِ وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ.
بَابُ بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تعالى منزه عن الولد [تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوا كبير] (3) قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً) أَيْ شَيْئًا عَظِيمًا وَمُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً.
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً.
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً.
إِنْ كلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً.
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً.
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 88 - 95] فَبَيِّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْبَغِي لَهُ الولد لأنه خالق كل شئ ومالكه وكل شئ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لَدَيْهِ وَجَمِيعُ سُكَّانِ السموات وَالْأَرْضِ عَبِيدُهُ وَهُوَ رَبُّهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ.
بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وخلق كل شئ وهو بكل شئ عَلِيمٌ.
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كل شئ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شئ
وَكِيلٌ.
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخبير) [الانعام: 100 - 103] .
فبين أنه خالق كل شئ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَالْوَلَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا عَدِيلَ له فلا صَاحِبَةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
اللَّهُ الصَّمَدُ.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد) [الاخلاص: 1 - 4] يقرر أنه الأحد الذي لا نظير له فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أفعاله (الصَّمَدُ) وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ و [بلغ] (4) رحمته وجميع صفاته (لَمْ يَلِدْ) أَيْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ وَلَدٌ (وَلَمْ يُولَدْ) أي ولم يتولد عن شئ قبله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أَيْ وَلَيْسَ لَهُ عِدْلٌ وَلَا مُكَافِئٌ وَلَا مساو فقطع النظير المداني الأعلى وَالْمُسَاوِيَ فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ إِذْ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مُتَوَلِّدًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ متعادلين أو متقاربين تعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 1 كتاب الايمان 10 باب 46 / 28 / ص 1 / 57.
والبخاري حديث رقم 1604.
(2) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية واستدركت من مسلم.
(3) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(4) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
[*]
(2/84)
دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عيسى بن مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً.
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً) [النِّسَاءِ: 171 - 173] .
يَنْهَى تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ فِي الدِّينِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، فَالنَّصَارَى لَعَنَهُمُ اللَّهُ غَلَوْا وَأَطْرَوُا الْمَسِيحَ حَتَّى جَاوَزُوا الْحَدَّ.
فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَلَكَ جِبْرِيلَ إِلَيْهَا فَنَفَخَ فِيهَا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ نَفْخَةً حَمَلَتْ مِنْهَا بِوَلَدِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالَّذِي اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْمَلَكِ هِيَ الرُّوحُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ وَنَاقَةُ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَكَذَا رُوحُ اللَّهِ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا.
وَسُمِّيَ عِيسَى بِهَا لِأَنَّهُ كَانَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَهِيَ الْكَلِمَةُ أَيْضًا الَّتِي عَنْهَا خُلِقَ وَبِسَبَبِهَا وُجِدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران: 59] .
وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: 116 - 117] .
وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يؤفكون) [التَّوْبَةِ: 30] .
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَوْا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا زَعَمُوهُ وَلَا فِيمَا ائْتَفَكُوهُ، إِلَّا مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَمُشَابَهَةُ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الضَّالَّةِ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ زَعَمُوا أَنَّ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ صَدَرَ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِعِلَّةِ الْعِلَلِ وَالْمَبْدَأِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ صَدَرَ عَنِ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ عَقْلٌ ثَانٍ وَنَفْسٌ وَفَلَكٌ، ثُمَّ صَدَرَ عَنِ الثَّانِي كَذَلِكَ حَتَّى تَنَاهَتِ الْعُقُولُ إِلَى عَشَرَةٍ وَالنُّفُوسُ إِلَى تِسْعَةٍ وَالْأَفْلَاكُ إِلَى تِسْعَةٍ بِاعْتِبَارَاتٍ فَاسِدَةٍ ذَكَرُوهَا وَاخْتِيَارَاتٍ بَارِدَةٍ أَوْرَدُوهَا وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ وَبَيَانِ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَهَكَذَا طَوَائِفُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ زَعَمُوا - لِجَهْلِهِمْ - أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّهُ صَاهَرَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ فَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْمَلَائِكَةُ.
تَعَالَى اللَّهُ عمَّا يَقُولُونَ وَتَنَزَّهَ عَمَّا يُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) [الزخرف: 19] وَقَالَ تَعَالَى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ.
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ
(2/85)
كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات: 149 - 160] .
وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين) [الانبياء: 26 - 29] : وقال تعالى في أول سورة الكهف وهي مكية: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً.
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلا كذبا) [الْكَهْفِ: 1 - 5] .
وَقَالَ تَعَالَى: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) [يُونُسَ: 68 - 70] فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَكِّيَاتُ الْكَرِيمَاتُ تَشْمَلُ الرَّدَّ عَلَى سَائِرِ فِرَقِ الْكَفَرَةِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ ادَّعَوْا وَزَعَمُوا بِلَا علم أن اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ علواً كبيراً.
ولمَّا كانت النصارى عليهم لعنة اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَشْهَرِ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ ذُكروا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِمْ، وَقَدْ تَنَوَّعَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاطِلَ كَثِيرُ التَّشَعُّبِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ.
وَأَمَّا الْحَقُّ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً) [النساء: 82] .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يَتَّحِدُ وَيَتَّفِقُ وَالْبَاطِلَ يَخْتَلِفُ وَيَضْطَرِبُ.
فَطَائِفَةٌ مِنْ ضُلَّالِهِمْ وَجُهَّالِهِمْ زَعَمُوا أَنَّ المسيح هو الله تعالى وَطَائِفَةٌ قَالُوا هُوَ ابْنُ اللَّهِ عَزَّ اللَّهُ وَطَائِفَةٌ قَالُوا هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.
جَلَّ اللَّهُ (1) .
قال الله تعالى في سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هو المسيح بن
مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَنْ أَرَادَ أَنْ يهلك المسيح بن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ على كل شئ قَدِيرٌ) [المائدة: 17] فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وبين أنه الخالق القادر على كل شئ المتصرف في كل شئ وأنه رب كل شئ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ.
وَقَالَ فِي أَوَاخِرِهَا: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المسيح بن مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غفور
__________
(1) النسطورية: قالوا ابن الله، والملكانية قالوا: ثالث ثلاثة، واليعقوبية قالوا: هو الله.
[*]
(2/86)
رَحِيمٌ.
مَا الْمَسِيحُ بن مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يؤفكون) [المائدة: 72 - 75] حكم تعالى بكفرهم شرعاً وقدراً فأخبر أَنَّ هَذَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ إليهم هو عيسى بن مَرْيَمَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ مُصَوَّرٌ فِي الرَّحِمِ دَاعٍ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِالنَّارِ وَعَدَمِ الْفَوْزِ بِدَارِ الْقَرَارِ وَالْخِزْيِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْهَوَانِ وَالْعَارِ وَلِهَذَا قَالَ: (إِنَّهُ مِنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) ثُمَّ قَالَ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ.
أُقْنُومُ الْأَبِ وَأُقْنُومُ الِابْنِ وَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ الْمُنْبَثِقَةِ مِنَ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ كَمَا سَنُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ وَمَجَامِعَهُمُ الثَّلَاثَةَ فِي زَمَنِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قَسْطَسَ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَقَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) أَيْ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كفؤ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ ثُمَّ تَوَعَدَهُمْ وَتَهَدَّدَهُمْ فَقَالَ: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ثُمَّ دَعَاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْكِبَارِ
وَالْعَظَائِمِ الَّتِي تُوجِبُ النَّارَ فَقَالَ: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَأَنَّهُ عَبْدٌ رَسُولٌ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أَيْ لَيْسَتْ بِفَاجِرَةٍ كَمَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ علمائنا وقوله: (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) كِنَايَةٌ عَنْ خُرُوجِهِ مِنْهُمَا كَمَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِمَا أَيْ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَجَهْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة زعمهم في عيسى وأمه أنهما الإلهان مَعَ اللَّهِ يَعْنِي كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى كُفْرَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الكريمة: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عيسى بن مَرْيَمَ أأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شئ شَهِيدٌ.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 116 - 118] .
يخبر تعالى أنه يسأل عيسى بن مَرْيَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لَهُ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِعَابِدِيهِ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَافْتَرَى وَزَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ اللَّهُ أَوْ أَنَّهُ شَرِيكُهُ تَعَالَى اللَّهُ عمَّا يَقُولُونَ فَيَسْأَلُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ وَلَكِنْ لِتَوْبِيخِ مَنْ كَذَبَ عليه فيقول له: (أأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ) أَيْ تَعَالَيْتَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ شَرِيكٌ (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي ليس هذا يستحقه أحد سواك (وإن كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) .
وهذا
(2/87)
تَأَدُّبٌ عَظِيمٌ فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) [أي ما قلت غير ما أمرتني عليه] (1) حِينَ أَرْسَلْتَنِي إِلَيْهِمْ وَأَنْزَلْتَ عَلَيَّ الْكِتَابَ الَّذِي كَانَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ثُمَّ فَسَّرَ مَا قَالَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أَيْ خَالِقِي وَخَالِقُكُمْ وَرَازِقِي وَرَازِقُكُمْ (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أَيْ رَفَعْتَنِي إِلَيْكَ حِينَ أَرَادُوا قَتْلِي وَصَلْبِي فَرَحِمْتَنِي وَخَلَّصْتَنِي مِنْهُمْ وَأَلْقَيْتَ
شَبَهِي عَلَى أَحَدِهِمْ حَتَّى انْتَقَمُوا مِنْهُ فلمَّا كَانَ ذَلِكَ (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شئ شَهِيدٌ) .
ثُمَّ قَالَ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ إِلَى الرَّبِّ عزوجل وَالتَّبَرِّي مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) أَيْ وَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
وَهَذَا التَّفْوِيضُ وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْمَشِيئَةِ بِالشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ: (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وَلَمْ يَقُلْ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَامَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقال: " إني سألت ربي عزوجل الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً " (2) .
وقال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ.
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الانبياء: 16 - 20] وقال تعالى: (لَوْ أراد الله أن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الغفار) [الزُّمَرِ: 4 - 5] .
وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الزُّخْرُفِ: 81 - 82] وَقَالَ تَعَالَى: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء: 111] وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 1 - 4] وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ يَزْعُمُ أَنَّ لِي وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمَّ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ " (3) وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أذى سمعه
__________
(1) ما بين المعكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) مسند أحمد ج 5 / 149 والبخاري في صحيحه 8 / 215 فتح الباري وأبو داود الطيالسي في مسنده.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 59 / 1 / 3193 فتح الباري وفي 65 / 112 / 4975 فتح وأخرجه النسائي في سننه.
[*]
(2/88)
مِنَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ " (1) .
وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ " ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102] وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج: 48] وَقَالَ تَعَالَى: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) [لقمان: 24] وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس: 69 - 70] وقال تعالى: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق: 17]
[ذكر] (2) منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام [ومرباه في صغره وصباه] (2) وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَيْتِ لَحْمٍ قَرِيبًا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَزَعَمَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِمِصْرَ وَأَنَّ مَرْيَمَ سَافَرَتْ هِيَ وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ وَهِيَ رَاكِبَةٌ عَلَى حمار ليس بينهما وبين الاكاف شئ.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَالْحَدِيثُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، كَمَا ذَكَرْنَا وَمَهْمَا عَارَضَهُ فَبَاطِلٌ.
وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ خَرَّتِ الْأَصْنَامُ يَوْمَئِذٍ فِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.
وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ حَارَتْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى كَشَفَ لَهُمْ إِبْلِيسُ الْكَبِيرُ أَمْرَ عِيسَى فَوَجَدُوهُ فِي حِجْرِ أُمِّهِ وَالْمَلَائِكَةُ مُحْدِقَةٌ بِهِ وَأَنَّهُ ظَهَرَ نَجْمٌ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ مَلِكَ الْفُرْسِ أَشْفَقَ مِنْ ظُهُورِهِ، فَسَأَلَ الْكَهَنَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا هَذَا لِمَوْلِدِ عَظِيمٍ فِي الْأَرْضِ، فَبَعَثَ رُسُلَهُ وَمَعَهُمْ ذَهَبٌ وَمُرٌّ وَلِبَانٌ (3) هَدِيَّةً
إِلَى عِيسَى فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ سَأَلَهُمْ مَلِكُهَا (4) عَمَّا أَقْدَمَهُمْ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فإذا قد ولد فيه عيسى بن مَرْيَمَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ كَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ بِمَا مَعَهُمْ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ لَهُ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى قَتْلِهِ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَرْيَمَ بِالْهَدَايَا وَرَجَعُوا قِيلَ لَهَا إِنَّ رُسُلَ مَلِكِ الشام إنما جاؤوا لِيَقْتُلُوا وَلَدَكِ فَاحْتَمَلَتْهُ فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى مِصْرَ (5) فأقامت به حتى
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 45 / 15 / 2583 كما رواه البخاري في التفسير وابن ماجة في الفقه.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) المر: يجبر به الجرح والكسر ; واللبان: ينال دخانه السماء ولا ينالها دخان غيره.
(4) في الطبري: إن رسل ملك فارس صاروا إلى هيرودس غلطا، وكان الرياسة على بيت المقدس لقيصر والملك من قبل قيصر عليها هيرودس الكبير.
(5) قال ابن الأثير في الكامل والطبري في تاريخه: كان سبب قدومها مصر خوفها من ملك بني إسرائيل، وكان من الروم واسمه هيرودس وإن اليهود اغروه بقتله.
[*]
(2/89)
بلغ عمره اثنتي عَشْرَةَ سَنَةً، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ كَرَامَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ فِي حَالِ صِغَرِهِ.
فَذَكَرَ مِنْهَا أَنَّ الدِّهْقَانَ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ افْتَقَدَ مَالًا مِنْ دَارِهِ وَكَانَتْ دَارُهُ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَحَاوِيجُ فَلَمْ يَدْرِ مَنْ أَخَذَهُ وعزَّ ذَلِكَ عَلَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَشَقَّ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ وَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهَا فَلَمَّا رَأَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ أَعْمَى، وَآخَرَ مُقْعَدٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هُوَ مُنْقَطِعٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِلْأَعْمَى: احْمِلْ هَذَا الْمُقْعَدَ وَانْهَضْ بِهِ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَقَالَ بَلَى كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ وَهُوَ حِينَ أَخَذْتُمَا هَذَا الْمَالَ مِنْ تِلْكَ الْكُوَّةِ مِنَ الدَّارِ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ صَدَّقَاهُ فِيمَا قَالَ وَأَتَيَا بِالْمَالِ فَعَظُمَ عِيسَى فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الدِّهْقَانِ عَمِلَ ضِيَافَةً لِلنَّاسِ بِسَبَبِ طُهُورِ أَوْلَادِهِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ وَأَطْعَمَهُمْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ شَرَابًا يَعْنِي خَمْرًا كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَجِدْ فِي جِرَارِهِ شَيْئًا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ قَامَ فَجَعَلَ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الْجِرَارِ وَيَمُرُّ يَدَهُ عَلَى أَفْوَاهِهَا
فَلَا يَفْعَلُ بِجَرَّةٍ مِنْهَا ذَلِكَ إِلَّا امْتَلَأَتْ شَرَابًا مِنْ خِيَارِ الشَّرَابِ.
فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا وَعَظَّمُوهُ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ مَالًا جَزِيلًا فَلَمْ يَقْبَلَاهُ وَارْتَحَلَا قَاصِدِينَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ ساج وَغَيْرُهُ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أبي هريرة قال: إن عيسى بن مَرْيَمَ أَوَّلَ مَا أَطْلَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بَعْدَ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ طِفْلٌ فَمَجَّدَ اللَّهَ تَمْجِيدًا لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَدَعْ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا جَبَلًا وَلَا نَهْرًا وَلَا عَيْنًا إِلَّا ذَكَرَهُ فِي تَمْجِيدِهِ فقال: اللهم أنت القريب في علوك، المتعال في دنوك، الرفيع على كل شئ مِنْ خَلْقِكَ.
أَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَ سَبْعًا فِي الْهَوَاءِ بِكَلِمَاتِكَ مُسْتَوِيَاتٍ طِبَاقًا أَجَبْنَ وَهُنَّ دُخَانٌ مِنْ فَرَقِكَ، فَأَتَيْنَ طَائِعَاتٍ لِأَمْرِكَ فِيهِنَّ مَلَائِكَتُكَ يُسَبِّحُونَ قُدْسَكَ لِتَقْدِيسِكَ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ نُورًا عَلَى سَوَادِ الظَّلَامِ وَضِيَاءً مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد، فبعزتك يجلو ضَوْءَ ظُلْمَتِكَ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ مَصَابِيحَ يَهْتَدِي بِهِنَّ فِي الظُّلُمَاتِ الْحَيْرَانُ، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ فِي مَفْطُورَ سمواتك وَفِيمَا دَحَوْتَ مِنْ أَرْضِكَ دَحَوْتَهَا عَلَى الْمَاءِ فسمكتها على تيار الموج الغامر، فأذللتها إذلال التظاهر، فَذَلَّ لِطَاعَتِكَ صَعْبُهَا وَاسْتَحْيَى لِأَمْرِكَ أَمْرُهَا وَخَضَعَتْ لِعِزَّتِكَ أَمْوَاجُهَا، فَفَجَّرْتَ فِيهَا بَعْدَ الْبُحُورِ الْأَنْهَارَ وَمِنْ بَعْدِ الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ الصِّغَارَ وَمِنْ بَعْدِ الْجَدَاوِلِ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ الْغِزَارَ، ثُمَّ أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْأَنْهَارَ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ ثُمَّ جَعَلْتَ عَلَى ظَهْرِهَا الْجِبَالَ فَوَتَّدْتَهَا أَوْتَادًا عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، فَأَطَاعَتْ أَطْوَادُهَا وَجُلْمُودُهَا، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ فَمَنْ يَبْلُغُ بِنَعْتِهِ نعتك، أم من يَبْلُغُ بِصِفَتِهِ صِفَتَكَ؟ تَنْشُرُ السَّحَابَ وَتَفُكُّ الرِّقَابَ وَتَقْضِي الْحَقَّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ أَمَرْتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ سترت السموات عَنِ النَّاسِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنما يغشاك من عبادك
__________
(1) الخبر رواه الطبري في تاريخه: ج 2 / 21 و 25.
[*]
(2/90)
الأكياس، نشهد أنك لست بإله استحد ثناك، وَلَا رَبٍّ يَبِيدُ ذِكْرُهُ، وَلَا كَانَ مَعَكَ شركاء فَنَدْعُوَهُمْ وَنَذَرَكُ، وَلَا أَعَانَكَ عَلَى خَلْقِنَا أَحَدٌ فَنَشُكَّ فِيكَ، نَشْهَدُ أَنَّكَ أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يلد ولم يولد وَلَمْ يَكُنْ
لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ عن ابن عباس: إن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كَلَّمَهُمْ طِفْلًا حَتَّى بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الْغِلْمَانُ ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة وَالْبَيَانِ فَأَكْثَرَ الْيَهُودُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ مِنَ القول وكانوا يُسَمُّونَهُ ابْنَ الْبَغِيَّةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً) [النساء: 156] قَالَ فَلَمَّا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ فِي الْكُتَّابِ فَجَعَلَ لَا يُعَلِّمُهُ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا إِلَّا بَدَرَهُ إِلَيْهِ فَعَلَّمَهُ أَبَا جَادٍ فَقَالَ عِيسَى: مَا أَبُو جَادٍ؟ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: لَا أَدْرِي فَقَالَ عِيسَى: كَيْفَ تُعَلِّمُنِي مَا لَا تَدْرِي؟ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: إِذًا فعلِّمني.
فَقَالَ لَهُ عِيسَى: فَقُمْ مِنْ مَجْلِسِكَ، فَقَامَ فَجَلَسَ عِيسَى مَجْلِسَهُ فقال سلني: فقال المعلم ما أَبُو جَادٍ فَقَالَ عِيسَى: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ.
والباء بهاء الله والجيم بَهْجَةُ اللَّهِ وَجَمَالُهُ.
فَعَجِبَ الْمُعَلِّمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَسَّرَ أَبَا جَادٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ عَلَى كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل ولا يتمادى.
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بن عياش، عن إسمعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُلَيْكَةَ عمَّن حدَّثه عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ عِيسَى إِلَى الْكُتَّابِ وَتَعْلِيمِهِ الْمُعَلِّمَ مَعْنَى حُرُوفِ أَبِي جَادٍ وَهُوَ مُطَوَّلٌ لَا يُفْرَحُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَهَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لا يرويه غير اسمعيل، وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ قال كان عبد الله بن عمر يقول: كان عيسى بن مَرْيَمَ وَهُوَ غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَكَانَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ مَا خَبَّأَتْ لَكَ أُمُّكَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ: خَبَّأَتْ لَكَ كَذَا وَكَذَا.
فَيَذْهَبُ الْغُلَامُ مِنْهُمْ إِلَى أُمِّهِ فَيَقُولُ لَهَا أَطْعِمِينِي مَا خَبَّأْتِ لِي.
فَتَقُولُ وأي شئ خَبَّأْتُ لَكَ؟ فَيَقُولُ كَذَا وَكَذَا.
فَتَقُولُ لَهُ: من أخبرك؟ فيقول عيسى بن مَرْيَمَ.
فَقَالُوا وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمْ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ مَعَ ابْنِ مَرْيَمَ لَيُفْسِدَنَّهُمْ فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ عِيسَى يَلْتَمِسُهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ فَسَمِعَ ضَوْضَاءَهُمْ فِي بَيْتٍ فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقَالُوا: إِنَّمَا هَؤُلَاءِ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ.
فَقَالَ اللَّهُمَّ كَذَلِكَ فكانوا كذلك رواه ابن عساكر.
وقال إسحق بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، وَمُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَكَانَ عِيسَى يَرَى الْعَجَائِبَ فِي صِبَاهُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ، فَفَشَا ذلك في اليهود وترعرع عيسى، فهمست بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَخَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ أَنْ تَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون: 50] وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا ذَاتُ قَرَارٍ
(2/91)
وَمَعِينٍ، وَهَذِهِ صِفَةٌ غَرِيبَةُ الشَّكْلِ، وَهِيَ أَنَّهَا رَبْوَةٌ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه متسع، ومع علوه فيه عيون الْمَاءِ مَعِينٌ، وَهُوَ الْجَارِي السَّارِحُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَقِيلَ الْمُرَادُ الْمَكَانُ الَّذِي وَلَدَتْ فِيهِ المسيح وهو نخلة بيت المقدس ولهذا (ناداها من تحتها الا تحرني قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً) (1) وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَنَّهَا أَنْهَارُ دِمَشْقَ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَنْهَارِ دِمَشْقَ.
وَقِيلَ ذَلِكَ بِمِصْرَ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ هِيَ الرَّمْلَةُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ لَنَا إِدْرِيسُ عَنْ جَدِّهِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ إِنَّ عِيسَى لَمَّا بَلَغَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى بَيْتِ إِيلِيَا قَالَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ يُوسُفُ ابْنُ خَالِ أُمِّهِ فَحَمَلَهُمَا عَلَى حِمَارٍ حَتَّى جَاءَ بِهِمَا إِلَى إِيلِيَا وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ الْإِنْجِيلَ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَأَعْطَاهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَسْقَامِ وَالْعِلْمَ بِالْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ وَفَزِعُوا لِمَا كَانَ يَأْتِي مِنَ الْعَجَائِبِ، فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَفَشَا فِيهِمْ أَمْرُهُ.
بَيَانُ نُزُولِ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَوَاقِيتِهَا
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حدَّثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: " أُنْزِلَتِ التَّوراة عَلَى مُوسَى فِي سِتِّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رمضان.
ونزل الزبور على داود في انثتي عَشْرَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَذَلِكَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِأَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وأنزل الإنجيل على عيسى بن مريم في ثمانية عشر ليلة خلت من رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّبُورِ بِأَلْفِ عَامٍ
وَخَمْسِينَ عَامًا وَأُنْزِلَ الْفَرْقَانُ عَلَى محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَفِيهَا أَنَّ الْإِنْجِيلَ أُنْزِلَ على عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ (2) أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَمَكَثَ حَتَّى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَأَنْبَأْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مَرْيَمَ: يَا عِيسَى جِدَّ فِي أَمْرِي وَلَا تهن واسمع وأطع يابن الطَّاهِرَةِ الْبِكْرِ الْبَتُولِ: إِنَّكَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَأَنَا خَلَقْتُكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، إِيَّايَ فَاعْبُدْ، وعليَّ فتوكَّل خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، فَسِّرْ لِأَهْلِ السُّرْيَانِيَّةِ بَلِّغْ مَنْ بَيْنِ يَدَيْكَ: أَنِّي أَنَا الْحَقُّ الحي القائم (3) الذي لا أزول صدقوا
__________
(1) سورة مريم الآية 24 بلفظ: فناداها.
(2) تاريخ الطبري 2 / 21.
(3) العبارة في البيهقي: إِنِّي أَنَا اللَّهُ الحي القيوم.
[*]
(2/92)
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الْعَرَبِيَّ صَاحِبَ الْجَمَلِ وَالتَّاجِ (وَهِيَ العمامة) والمدرعة والنعلين والهرواة (وَهِيَ الْقَضِيبُ) الْأَنْجَلَ الْعَيْنَيْنِ، الصَّلْتَ الْجَبِينِ، الْوَاضِحَ الْخَدَّيْنِ، الْجَعْدَ الرَّأْسِ، الْكَثَّ اللِّحْيَةِ، الْمَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، الأقنى الانف، المفلح الثَّنَايَا، الْبَادِيَ الْعَنْفَقَةِ (1) الَّذِي كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ وَكَأَنَّ الذَّهب يَجْرِي فِي تَرَاقِيهِ لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ تَجْرِي كَالْقَضِيبِ لَيْسَ عَلَى بَطْنِهِ وَلَا عَلَى صَدْرِهِ شَعْرٌ غَيْرُهُ، شَثْنَ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ، إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، وَإِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَتَقَلَّعُ مِنْ صَخْرٍ وَيَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ، عَرَقُهُ فِي وَجْهِهِ كَاللُّؤْلُؤِ، وريح المسك تنفح منه ولم يُرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، الْحَسَنَ الْقَامَةِ الطَّيِّبَ الرِّيحِ، نَكَّاحَ النِّسَاءِ ذَا النَّسْلِ الْقَلِيلِ (2) ، إِنَّمَا نَسْلُهُ مِنْ مُبَارَكَةٍ لَهَا بَيْتٌ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ تُكَفِّلُهُ يَا عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا كَفَّلَ زَكَرِيَّا أُمَّكَ لَهُ
مِنْهَا فرخان مستشهدان وله عندي منزلة ليس لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ.
كَلَامُهُ الْقُرْآنُ وَدِينُهُ الْإِسْلَامُ وَأَنَا السَّلَامُ طُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ وَشَهِدَ أيامه وسمع كلامه " (3) .
قَالَ عِيسَى يَا رَبِّ وَمَا طُوبَى؟ قَالَ: غَرْسُ شَجَرَةٍ أَنَا غَرَسْتُهَا بِيَدِي فَهِيَ لِلْجِنَانِ كلها أصلها من رضوان وماؤها من نسيم وَبَرْدُهَا بَرْدُ الْكَافُورِ وَطَعْمُهَا طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا.
قَالَ عِيسَى يَا رَبِّ اسْقِنِي مِنْهَا قَالَ: حَرَامٌ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا حَتَّى يَشْرَبَ ذَلِكَ النَّبِيُّ وَحَرَامٌ على الأمم أن يشربوا منها حتى يشرب مِنْهَا أُمَّةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ.
قَالَ: يَا عِيسَى أرفعك إلي؟ قال رَبِّ وَلِمَ تَرْفَعُنِي قَالَ: أَرْفَعُكَ ثُمَّ أُهْبِطُكَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِتَرَى مِنْ أُمَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْعَجَائِبَ وَلِتُعِينَهُمْ عَلَى قِتَالِ اللَّعِينِ الدَّجَّالِ أُهْبِطُكَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ ثُمَّ لَا تُصَلِّي بهم لأنها مَرْحُومَةٌ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عِيسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَنْبِئْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ قَالَ: أُمَّةُ أَحْمَدَ هَمْ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ يَرْضَوْنَ مِنِّي بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ وَأَرْضَى مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
يَا عِيسَى هُمْ أَكْثَرُ سُكَّانِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تَذِلَّ أَلْسُنُ قَوْمٍ قَطُّ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا ذَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَمْ تَذِلَّ رِقَابُ قَوْمٍ قَطُّ بِالسُّجُودِ كَمَا ذَلَّتْ بِهِ رِقَابُهُمْ.
رَوَاهُ ابن عساكر.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدِيلٍ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْسَجَةَ قال: أوحى الله إلى عيسى بن مَرْيَمَ: أَنْزِلْنِي مِنْ نَفْسِكَ كَهَمِّكَ وَاجْعَلْنِي ذُخْرًا لَكَ فِي مَعَادِكَ وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ أُحِبَّكَ ولا تول غيري فأخذ لك، اصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ وَارْضَ بِالْقَضَاءِ، وَكُنْ لِمَسَرَّتِي فِيكَ فَإِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أُطَاعَ فَلَا أُعْصَى، وكن مني قريبا وأحيي ذِكْرِي بِلِسَانِكَ، وَلْتَكُنْ مَوَدَّتِي فِي صَدْرِكَ، تَيَقَّظْ من
__________
(1) العنفقة: الشعيرات الخفيفة بين الشفة السفلى والذقن.
(2) في البيهقي: زاد: كأنه أراد الذكور من نسله.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل - سوى الجزء الاخير منه - عن مقاتل بن حيان ج 1 / 378 وأورده ابن عساكر تاريخه المختصر 1 / 344.
[*]
(2/93)
ساعات الغفلة واحكم في لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَكُنْ لِي رَاغِبًا رَاهِبًا، وَأَمِتْ قلبك في الْخَشْيَةِ لِي، وَرَاعِ اللَّيْلَ لِحَقِّ مَسَرَّتِي واظمِ نَهَارَكَ لِيَوْمِ الرَّيِّ عِنْدِي، نَافِسْ فِي الْخَيْرَاتِ جهدك واعترف بِالْخَيْرِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ، وَقُمْ فِي الْخَلَائِقِ بِنَصِيحَتِي، وَاحْكُمْ فِي عِبَادِي بِعَدْلِي فَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ شفاء وسواس الصُّدُورِ مِنْ مَرَضِ النِّسْيَانِ وَجِلَاءَ الْأَبْصَارِ مِنْ غِشَاءِ الْكَلَالِ، وَلَا تَكُنْ حَلِسًا كَأَنَّكَ مَقْبُوضٌ وأنت حي تنفس.
يا عيسى بن مَرْيَمَ مَا آمَنَتْ بِي خَلِيقَةٌ إِلَّا خَشَعَتْ، وَلَا خَشَعَتْ لِي إِلَّا رَجَتْ ثَوَابِي، فَأُشْهِدُكَ أَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ عِقَابِي مَا لَمْ تُغَيِّرْ أو تبدل سنتي.
يا عيسى بن مَرْيَمَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ ابْكِ عَلَى نَفْسِكَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الْأَهْلَ وَقَلَا الدُّنْيَا وَتَرَكَ اللَّذَّاتِ لِأَهْلِهَا، وَارْتَفَعَتْ رَغْبَتُهُ فِيمَا عِنْدَ إِلَهِهِ وَكُنْ فِي ذَلِكَ تُلِينُ الْكَلَامَ وَتُفْشِي السَّلَامَ وَكُنْ يَقِظَانَ إِذَا نَامَتْ عُيُونُ الْأَبْرَارِ، حذرا مَا هُوَ آتٍ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَزَلَازِلِ شدايد الْأَهْوَالِ قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَهْلٌ وَلَا مال، وأكحل عينك بملول (1) الْحُزْنِ إِذَا ضَحِكَ الْبَطَّالُونَ وَكُنْ فِي ذَلِكَ صابراً محتسباً، وطوبى لك إن ذلك مَا وَعَدْتُ الصَّابِرِينَ رَجِّ مِنَ الدُّنْيَا بِاللَّهِ يوم بيوم وذق مذاقة ما قد حرب مِنْكَ أَيْنَ طَعْمُهُ وَمَا لَمْ يَأْتِكَ كَيْفَ لذته فرح من الدنيا بالبلغة وليكفك منها الخشن الجئيب (2) ، قد رأيت إلى ما يصير، اعمل على حساب فإنك مسؤول، لو رأت عيناك مَا أَعْدَدْتُ لِأَوْلِيَائِي الصَّالِحِينَ ذَابَ قَلْبُكَ وَزَهَقَتْ نَفْسُكَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " كِتَابِ الْقَدَرِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَقِيَ عِيسَى بن مَرْيَمَ إِبْلِيسَ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَكَ إِلَّا مَا كُتِبَ لَكَ؟ قَالَ إِبْلِيسُ: فارقَ بِذِرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ فَتَرَدَّ (3) مِنْهُ فَانْظُرْ هل تَعِيشُ أَمْ لَا - فَقَالَ ابْنُ طَاوُسٍ - عَنْ أَبِيهِ.
فَقَالَ عِيسَى أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهِ قَالَ: لَا يُجَرِّبُنِي عَبْدِي فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا شِئْتُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَبْتَلِي رَبَّهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: أَتَى الشَّيْطَانُ عيسى بن مَرْيَمَ فَقَالَ: أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ صَادِقٌ فاتِ هوة فَأَلْقِ نَفْسَكَ.
قَالَ: وَيْلَكَ أَلَيْسَ قَالَ يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَسْأَلْنِي هَلَاكَ نَفْسِكَ فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبيع بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ طَلْحَةَ، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: تَعَبَّدَ الشَّيْطَانُ مَعَ عِيسَى عَشْرَ سِنِينَ أَوْ سَنَتَيْنِ أَقَامَ
يَوْمًا عَلَى شَفِيرِ جَبَلٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ أَرَأَيْتَ إِنْ أَلْقَيْتُ نَفْسِي هَلْ يُصِيبُنِي إِلَّا مَا كُتِبَ لِي قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِالَّذِي أَبْتَلِي رَبِّي، ولكن ربي إذا شاء ابتلاني وعرفه أنه الشيطان ففارقه.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا شريح بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ الْخَطَّابِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلِّي عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أن كل
__________
(1) ملول: جمع ملة، وهي الرماد الحار ينضج فيه الخبز.
(2) الجئيب: الغليظ، وفي المطبوعة: الجثيب وهو تحريف.
(3) في نسخ البداية فتروى، وهو خطأ والصواب لغة ما أثبتناه.
[*]
(2/94)
شئ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَلْقِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْجَبَلِ وَقُلْ قَدَرٌ عَلَيَّ فَقَالَ: يالعين اللَّهُ يَخْتَبِرُ الْعِبَادَ وَلَيْسَ الْعِبَادُ يَخْتَبِرُونَ اللَّهَ عزوجل.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: لقي عيسى بن مَرْيَمَ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى بن مريم الذي بلغ من عظيم رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا.
وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ قَالَ بَلْ الرُّبُوبِيَّةُ لِلْإِلَهِ الَّذِي أَنْطَقَنِي ثُمَّ يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِي قَالَ: فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أنَّك تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلَّهِ الذي يحيي [من يشاء] (1) وَيُمِيتُ مَنْ أَحْيَيْتُ ثُمَّ يُحْيِيهِ قَالَ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَإِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ قال: فصكه جبريل صكة بجناحيه فما نباها دون قرون الشمس، ثم صكه أخرى بجناحيه فما نباها دُونَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى فَأَدْخَلَهُ بِحَارَ السَّابِعَةِ فَأَسَاخَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَأَسْلَكَهُ فِيهَا حَتَّى وَجَدَ طَعْمَ الْحَمْأَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: مَا لَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ مَا لقيت منك يا بن مَرْيَمَ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا بِأَبْسَطَ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا أبو بكر أحمد بن سبدي، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَطَّانُ، حدَّثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ سُوَيْدٌ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ صَلَّى عِيسَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الْعَقَبَةِ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَاحْتَبَسَهُ فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكَ
أَنْ تَكُونَ عَبْدًا فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ عِيسَى يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ فَجَعَلَ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ فِيمَا يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لَكَ يَا عِيسَى أَنْ تَكُونَ عَبْدًا قَالَ: فَاسْتَغَاثَ عِيسَى بِرَبِّهِ، فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَلَمَّا رَآهُمَا إبليس كف، فلما استقر مَعَهُ عَلَى الْعَقَبَةِ اكْتَنَفَا عِيسَى وَضَرَبَ جِبْرِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي قَالَ فَعَادَ إِبْلِيسُ مَعَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يُؤْمَرَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ لِعِيسَى: قَدْ أَخْبَرْتُكَ إنَّه لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَبْدًا إِنَّ غَضَبَكَ لَيْسَ بِغَضَبِ عَبْدٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِيتُ منك حين غضبت، ولكن أدعوك لأمر هُوَ لَكَ آمُرُ الشَّيَاطِينَ فَلْيُطِيعُوكَ فَإِذَا رَأَى الْبَشَرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَطَاعُوكَ عَبَدُوكَ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكُونُ إِلَهًا فِي السَّمَاءِ وَتَكُونُ أَنْتَ إِلَهًا فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ، وَصَرَخَ صَرْخَةً شَدِيدَةً، فَإِذَا إِسْرَافِيلُ قَدْ هَبَطَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَكَفَّ إِبْلِيسُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ ضَرَبَ إِسْرَافِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ، فَصَكَّ بِهِ عَيْنَ الشَّمْسِ ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَأَقْبَلَ إِبْلِيسُ يهوي ومر عيسى وَهُوَ بِمَكَانِهِ فَقَالَ يَا عِيسَى لَقَدْ لَقِيتُ فِيكَ الْيَوْمَ تَعَبًا شَدِيدًا فَرَمَى بِهِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ فَوَجَدَ سَبْعَةَ أَمْلَاكٍ عِنْدَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ قَالَ: فَغَطُّوهُ فَجَعَلَ كُلَّمَا خَرَجَ (2) غَطُّوهُ فِي تِلْكَ الْحَمْأَةِ قَالَ وَاللَّهِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ.
قَالَ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْعَطَّارُ، حدَّثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ شَيَاطِينُهُ فَقَالُوا: سيدنا لقد (3)
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: كلما صرخ.
(3) في نسخة قد والصواب ما أثبتناه.
[*]
(2/95)
لَقِيتَ تَعَبًا قَالَ: إِنَّ هَذَا عَبْدٌ مَعْصُومٌ لَيْسَ لِي عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَسَأُضِلُّ بِهِ بَشَرًا كَثِيرًا وَأَبُثُّ فِيهِمْ أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً وَأَجْعَلُهُمْ شِيَعًا وَيَجْعَلُونَهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا أَيَّدَ بِهِ عِيسَى وَعَصَمَهُ مِنْ إِبْلِيسَ قُرْآنًا نَاطِقًا بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ على عيسى فقال: (يا عيسى بن مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [المائدة: 110] يَعْنِي إِذْ قَوَّيْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَعْنِي جِبْرِيلَ (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ
مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة: 110] الآية كلها وَإِذْ جَعَلْتُ الْمَسَاكِينَ لَكَ بِطَانَةً وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا تَرْضَى بِهِمْ وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا يَرْضَوْنَ بِكَ هَادِيًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ فَذَلِكَ فَاعْلَمْ خُلُقَانِ عَظِيمَانِ مَنْ لَقِيَنِي بِهِمَا فَقَدْ لَقِيَنِي بِأَزْكَى الْخَلَائِقِ وَأَرْضَاهَا عِنْدِي، وَسَيَقُولُ لَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ صُمْنَا فَلَمْ يَتَقَبَّلْ صِيَامَنَا، وَصَلَّيْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَلَاتَنَا، وَتَصَدَّقْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَاتِنَا، وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الجمال فلم يرحم بكاؤنا، فَقُلْ لَهُمْ وَلَمَّ ذَلِكَ وَمَا الَّذِي يَمْنَعُنِي إن ذات يدي قلت أو ليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء، وإن البخل يعتريني (1) أو لست أَجْوَدَ مَنْ سُئِلَ (2) وَأَوْسَعَ مَنْ أَعْطَى أَوْ أَنَّ رَحْمَتِي ضَاقَتْ وَإِنَّمَا يَتَرَاحَمُ الْمُتَرَاحِمُونَ بِفَضْلِ رَحْمَتِي.
وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَا عِيسَى بن مريم غروا (3) أَنْفُسَهُمْ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي تُورِثُ.
فِي قُلُوبِهِمْ مَا اسْتَأْثَرُوا بِهِ الدُّنْيَا أَثَرَةً عَلَى الْآخِرَةِ لَعَرَفُوا من أين أوتوا، وَإِذًا لَأَيْقَنُوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لَهُمْ، وَكَيْفَ أَقْبَلُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ الْحَرَامِ، وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَلَاتَهُمْ وَقُلُوبُهُمْ تَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ يُحَارِبُونِي وَيَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمِي وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَدَقَاتِهِمْ وَهُمْ يَغْصِبُونَ النَّاسَ عَلَيْهَا فَيَأْخُذُونَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا.
يَا عِيسَى إِنَّمَا أَجْزِي عَلَيْهَا أَهْلَهَا، وَكَيْفَ أَرْحَمُ بُكَاءَهُمْ وَأَيْدِيهِمْ تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ (4) ، ازْدَدْتُ عَلَيْهِمْ غَضَبًا.
يَا عِيسَى وقضيت يوم خلقت السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ مَنْ عَبَدَنِي وَقَالَ فِيكُمَا بِقَوْلِي أن أجعلهم جيرانك في الدار ورفقائك فِي الْمَنَازِلِ وَشُرَكَاءَكَ فِي الْكَرَامَةِ وَقَضَيْتُ يَوْمَ خلقت السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ مَنِ اتَّخَذَكَ وَأُمَّكَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْ أَجْعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النار.
وقضيت يوم خلقت السموات وَالْأَرْضَ أَنِّي مُثَبِّتٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِي مُحَمَّدٍ وَأَخْتِمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يتزين (5) بِالْفُحْشِ وَلَا قَوَّالٍ بِالْخَنَا أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جميل وأهب له كل خلق كريم، وأجعل التقوى ضميره والحكم مَعْقُولَهُ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ والحقَّ شَرِيعَتَهُ والإسلام ملته.
اسمه أَحْمَدُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَائِلَةِ وَأَرْفَعُ به بعد الضيعة أهدي به وأفتح به بين
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: لا يعتريني.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: من سأل.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: عدوا وهو تحريف.
(4) إشارة إلى إنَّ بني إسرائيل أكثروا من قتل أنبيائهم والفتك بهم.
(5) في نسخ البداية المطبوعة: يزر.
[*]
(2/96)
آذَانٍ صُمٍّ وَقُلُوبٍ غُلْفٍ، وَأَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِخْلَاصًا لِاسْمِي وَتَصْدِيقًا لما جاءت به الرسل ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ يُصَلُّونَ لي قياماً وقعوداً وركعاً وسجوداً ويقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً قرباتهم دِمَاؤُهُمْ وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ وَقُرْبَانُهُمْ فِي بُطُونِهِمْ رهبان بالليل ليوث في النهار ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَسَنَذْكُرُ مَا يُصَدِّقُ كَثِيرًا مِنْ هذا السياق مما سنورده من سورتي المائدة والصف إن شاء الله وبه الثقة.
وقد روى أبو حذيفة إسحق بْنُ بِشْرٍ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالُوا: لَمَّا بُعِثَ عيسى بن مريم وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، فَيَقُولُونَ مَا أَكَلَ فُلَانٌ الْبَارِحَةَ، وَمَا ادَّخَرَ في منزله فيخبرهم فيزداد المؤمنون إيماناً والكافرون والمنافقون شركاً (1) وَكُفْرَانًا.
وَكَانَ عِيسَى مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ يَأْوِي إِلَيْهِ إِنَّمَا يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ قَرَارٌ، وَلَا مَوْضِعٌ يُعْرَفُ بِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا أَحْيَا مِنَ الْمَوْتَى أَنَّهُ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى امْرَأَةٍ قَاعِدَةٍ عِنْدَ قبر وهي تبكي فقال لها مالك أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَتْ: مَاتَتِ ابْنَةٌ لِي لَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ غَيْرُهَا، وَإِنِّي عَاهَدْتُ رَبِّي أَنْ لَا أَبْرَحُ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا حَتَّى أَذُوقَ مَا ذَاقَتْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ يُحْيِيَهَا اللَّهُ لِي، فَأَنْظُرُ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا عِيسَى أَرَأَيْتِ إِنْ نَظَرْتِ إِلَيْهَا أَرَاجِعَةٌ أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالُوا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَنَادَى يَا فُلَانَةُ قُومِي بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ فَاخْرُجِي قَالَ فَتَحَرَّكَ الْقَبْرُ ثُمَّ نَادَى الثَّانِيَةَ فَانْصَدَعَ الْقَبْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ فَخَرَجَتْ وَهِيَ تَنْفُضُ رَأْسَهَا مِنَ التُّرَابِ فقال لها عيسى: ما أبطأ بِكِ عَنِّي؟ فَقَالَتْ لَمَّا جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الْأُولَى بَعَثَ اللَّهُ لِي مَلَكًا فَرَكَّبَ خَلْقِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الثَّانِيَةُ فَرَجَعَ إِلَيَّ
رُوحِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الثَّالِثَةُ فَخِفْتُ أَنَّهَا صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ فَشَابَ رَأْسِي وَحَاجِبَايَ وَأَشْفَارُ عَيْنِي مِنْ مَخَافَةِ القيمة، ثم أقبلت على أمها فقالت يا أماه مَا حَمَلَكِ عَلَى أَنْ أَذُوقَ كَرْبَ الْمَوْتِ مرتين يا أماه اصْبِرِي وَاحْتَسِبِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِي الدُّنْيَا يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ سَلْ رَبِّي أَنْ يَرُدَّنِي إِلَى الْآخِرَةِ وَأَنْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ كَرْبَ الْمَوْتِ فَدَعَا رَبَّهُ فَقَبَضَهَا إِلَيْهِ وَاسْتَوَتْ عَلَيْهَا الْأَرْضُ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَازْدَادُوا عَلَيْهِ غَضَبًا.
وقدمنا في عقيب قِصَّةِ نُوحٍ إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوهُ: أَنْ يُحْيِيَ لَهُمْ سَامَ بْنَ نُوحٍ فَدَعَا اللَّهَ عز وجل وصلى لله فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُمْ فَحَدَّثَهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ وَأَمْرِهَا ثُمَّ دَعَا فَعَادَ تُرَابًا (2) .
وَقَدْ رَوَى السُّدِّيُّ عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عَبَّاسٍ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ وَفِيهِ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَاتَ وَحُمِلَ عَلَى سَرِيرِهِ فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَا اللَّهَ عزوجل فأحياه الله عزوجل فرأى الناس أمراً هائلا
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: شكا.
(2) الكامل في التاريخ لابن الاثير 1 / 315.
[*]
(2/97)
وَمَنْظَرًا عَجِيبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ القائلين: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عيسى بن مريم اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تكلَّم النَّاس فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مسلمون) [الْمَائِدَةِ: 110 - 111] يُذَكِّرُهُ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ فِي خَلْقِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ بَلْ مِنْ أُمٍّ بِلَا ذَكَرٍ وَجَعْلِهِ لَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَدَلَالَةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى ثُمَّ إرساله بعد هذا كله (وَعَلى وَالِدَتِكَ) فِي اصْطِفَائِهَا وَاخْتِيَارِهَا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ ولهذا قال: (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وَهُوَ جِبْرِيلُ بِإِلْقَاءِ رُوحِهِ إِلَى أُمِّهِ وَقَرْنِهِ مَعَهُ فِي حَالِ رِسَالَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ
(تكلَّم النَّاس فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أَيْ تَدْعُو النَّاس إِلَى اللَّهِ فِي حَالِ صِغَرِكَ فِي مَهْدِكَ وَفِي كُهُولَتِكَ (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أَيِ الْخَطَّ وَالْفَهْمَ نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ (1) (وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) وَقَوْلُهُ: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) أَيْ تُصَوِّرُهُ وَتُشَكِّلُهُ مِنَ الطِّينِ عَلَى هَيْئَتِهِ عن أمر الله له بذلك (فَتَنْفُخُ فيه فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) أي بأمري قيؤكد تَعَالَى بِذِكْرِ الْإِذْنِ لَهُ فِي ذَلِكَ لِرَفْعِ التوهم وقوله: (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ إِلَى مُدَاوَاتِهِ (وَالْأَبْرَصَ) هو الَّذِي لَا طِبَّ فِيهِ بَلْ قَدْ مَرِضَ بِالْبَرَصِ وَصَارَ دَاؤُهُ عُضَالًا (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى) أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بِإِذْنِي وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً مِمَّا فِيهِ كِفَايَةٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وَذَلِكَ حِينَ أَرَادُوا صَلْبَهُ فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَنْقَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ صِيَانَةً لِجَنَابِهِ الْكَرِيمِ عَنِ الْأَذَى، وَسَلَامَةً لَهُ مِنَ الرَّدَى وَقَوْلُهُ: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) قِيلَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْوَحْيِ وَحْيُ إِلْهَامٍ أَيْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النَّحْلِ: 68] (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) [القصص: 7] وقيل المراد
__________
(1) قال الرازي في الآية: والاقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة، ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الاخلاق لان كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لاجل العمل به.
ثم بعد أن صار عالما بالخط والكتابة ومحيطا بالعلوم العقلية والشرعية، علمه التوراة ثم بعد أن عظمت درجته في العلم وأحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله تعالى على مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الانبياء، أنزل عليه كتاب آخر وأوقفه على أسرار فذلك هو الغاية القصوى.
[*]
(2/98)
وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ وَتَوْفِيقٌ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَبُولِ الحق (1) ولهذا استجابو قائلين: (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) .
وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ ورسوله عيسى بن مَرْيَمَ أَنْ جَعْلَ لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَنْصُرُونَهُ وَيَدْعُونَ مَعَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حكيم) [الانفال: 62 - 63] وقال تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فاكتبنا مع الشاهدين.
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عِمْرَانَ: 48 - 54] .
كَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَذَكَرُوا أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ أهل زمانه وكانوا سَحَرَةً أَذْكِيَاءَ فَبُعِثَ بِآيَاتٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ وَخَضَعَتْ لَهَا الرِّقَابُ، وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ خَبِيرِينَ بِفُنُونِ السِّحْرِ، وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَعَايَنُوا مَا عَايَنُوا مِنَ الْأَمْرِ الْبَاهِرِ الْهَائِلِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ صدوره إلا عمن أَيَّدَهُ اللَّهُ وَأَجْرَى الْخَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ تَصْدِيقًا لَهُ أَسْلَمُوا سِرَاعًا وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَهَكَذَا عِيسَى بن مَرْيَمَ بُعِثَ فِي زَمَنِ الطَّبَائِعِيَّةِ الْحُكَمَاءِ، فَأُرْسِلَ بِمُعْجِزَاتٍ لَا يَسْتَطِيعُونَهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا وَأَنَّى لِحَكِيمٍ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا من أعمى وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْمَيِّتَ مِنْ قَبْرِهِ، هَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أحد مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَامَتْ بِهِ وعلى قدرة من أرسله وهكذا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بُعِثَ فِي زَمَنِ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تحدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ لَا فِي الحال ولا في الاستقبال فإن لم
__________
(1) قال القرطبي في أحكامه: قال أبو عبيدة: أوحيت بمعنى أمرت: والوحي في كلام العرب معناه الالهام ويكون أقسام: - وحي بمعنى ارسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام.
- وحي بمعنى الالهام كما في هذه الآية، أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم.
- وحي بمعنى الاعلام في اليقظة والمنام.
[*]
(2/99)
يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ كلام الخالق عزوجل، والله تعالى لا يشبهه شئ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، اسْتَمَرَّ (1) أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ فَانْتَدَبَ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ طَائِفَةً صَالِحَةً، فَكَانُوا لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا قَامُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَذَلِكَ حِينَ همَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فَأَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ مَن بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى أَحَدِ أَصْحَابِهِ فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عِيسَى وَهْمُ فِي ذَلِكَ غَالِطُونَ وَلِلْحَقِّ مُكَابِرُونَ وَسَلَّمَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى مَا ادَّعَوْهُ وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ في ذلك مخطئون قَالَ تَعَالَى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عمران: 54] وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ عيسى بن مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يدعى للاسلام وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون) [الصافات: 6 - 8] إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14] فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَبَشَّرَهُمْ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْآتِي بَعْدَهُ وَنَوَّهَ
بِاسْمِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَتَهُ لِيَعْرِفُوهُ وَيُتَابِعُوهُ إِذَا شَاهَدُوهُ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبي الامي الذين يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المفلحون) [الاعراف: 157] .
__________
(1) بعد أن شرح عيسى لهم تلك المعجزات، بعد ادعائه النبوة، أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بالمزيد، فجاء بها وطالبهم بطاعته فيما يأمرهم به عن ربه، وإقرارهم لله بالعبودية فظهر كفرهم وأعلنوه.
قال الرازي: اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه: - قال السدي: أنه تعالى لما بعثه رسولاً إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم..وبعد أن صار امره مشهورا قصدوا قتله واظهروا الطعن فيه وكفروا به.
- إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة، وأنه ينسخ دينهم فكانوا أول الطاعنين فيه..ثم طلبوا قتله.
- أن عيسى ظن مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ دعاهم للايمان لا يؤمنون فأحب امتحانهم، فقال لهم (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله) فما أجابه إلا الحواريون، فأحس أن من سواهم كافرون مصرون على انكار دينه وطلب قتله.
[*]
(2/100)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حدَّثني ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قالوا يارسول اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: " دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ " (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو هذا وَفِيهِ: " دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى " (2) وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ قَالَ: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ الآية) [البقرة: 129] وَلَمَّا انْتَهَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِيسَى قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ، وَأَنَّهَا بَعْدَهُ فِي النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَحْمَدَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف: 6] يُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ عُودُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَرَّضَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قال عيسى بن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهُ) أَيْ مَنْ يُسَاعِدُنِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ (قال الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) وَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا النَّاصِرَةُ فسموا بذلك النصارى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسرائيل وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) يَعْنِي لَمَّا دَعَا عِيسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ من كفر وكان مِمَّنْ آمَنَ بِهِ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بِكَمَالِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَالتَّفْسِيرِ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا ثَلَاثَةً أَحَدُهُمْ شَمْعُونُ الصفا فآمنوا واستجابوا وليس هؤلاء هم المذكورون فِي سُورَةِ يس لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَكَفَرَ آخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهْمُ جُمْهُورُ الْيَهُودِ فَأَيَّدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ فِيمَا بَعْدُ، وَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ عَلَيْهِمْ قَاهِرِينَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الآية) [آل عمران: 55] فَكُلُّ مَنْ كَانَ إِلَيْهِ أَقْرَبَ كَانَ غَالِبًا (3) فمن دُونَهُ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا شكَّ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ كَانُوا ظَاهِرِينَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ، وَأَطْرَوْهُ، وَأَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ النَّصَارَى أَقْرَبَ في الجملة مما ذهب إليه
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 1 / 83 - 84 وسيرة ابن هشام 1 / 170 والخبر في طبقات ابن سعد 1 / 102 والحاكم في المتسدرك 2 / 600 وصححه، وأقره الذهبي.
(2) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 1 / 80 و 83 وأخرجه أحمد في مسنده 4 / 127 - 128 والحاكم في المستدرك.
وقال: هذا حديث صحيح الاسناد.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 223 وقال: رواه أحمد والطبراني والبزار وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: عاليا وهو تحريف.
[*]
(2/101)
الْيَهُودُ [فِيهِ] (1) عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ كَانَ النَّصَارَى قَاهِرِينَ لِلْيَهُودِ فِي أَزْمَانِ الْفَتْرَةِ (2) إِلَى زَمَنِ الإسلام وأهله.
ذِكْرُ خَبَرِ الْمَائِدَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عيسى بن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ.
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ) [الْمَائِدَةِ: 112 - 115] قَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي نُزُولِ الْمَائِدَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، وَمَضْمُونُ ذَلِكَ أنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ الْحَوَارِيِّينَ بِصِيَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا أَتَمُّوهَا سَأَلُوا مِنْ عِيسَى إِنْزَالَ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ لِيَأْكُلُوا مِنْهَا، وَتَطْمَئِنَّ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ صِيَامَهُمْ وَأَجَابَهُمْ إِلَى طَلِبَتِهِمْ، وَتَكُونَ لَهُمْ عِيدًا يُفْطِرُونَ عَلَيْهَا يَوْمَ فِطْرِهِمْ، وَتَكُونَ كَافِيَةً لِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ: فَوَعَظَهُمْ عِيسَى فِي ذَلِكَ وَخَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُومُوا بِشُكْرِهَا وَلَا يُؤَدُّوا حَقَّ شُرُوطِهَا فَأَبَوْا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ عزوجل.
فَلَمَّا لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ وَلَبِسَ مِسْحًا مِنْ شَعْرٍ وَصَفَّ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ وَأَسْبَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ أَنْ يُجَابُوا إِلَى مَا طَلَبُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا تَنْحَدِرُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ وَجَعَلَتْ تَدْنُو قَلِيلًا قَلِيلًا وَكُلَّمَا دَنَتْ سأل عيسى ربه عزوجل أَنْ يَجْعَلَهَا رَحْمَةً لَا نِقْمَةً وَأَنْ يَجْعَلَهَا بَرَكَةً وَسَلَامَةً، فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مُغَطَّاةٌ بِمَنْدِيلٍ فَقَامَ عِيسَى يَكْشِفُ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: (بِسْمِ اللَّهِ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فَإِذَا عَلَيْهَا سَبْعَةٌ مِنَ الْحِيتَانِ وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ (3) .
وَيُقَالُ: وَخَلٌّ.
وَيُقَالُ: وَرُمَّانٌ وَثِمَارٌ وَلَهَا رَائِحَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا قَالَ اللَّهُ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهَا فَقَالُوا: لَا نَأْكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ فَقَالَ: إِنَّكُمُ الَّذِينَ ابْتَدَأْتُمُ
السُّؤَالَ لَهَا فَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ابْتِدَاءً فَأَمَرَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَحَاوِيجَ وَالْمَرْضَى والزمنى وكانوا قريباً من ألف وثلثمائة فَأَكَلُوا مِنْهَا فَبَرَأَ كُلُّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ أَوْ آفَةٌ أَوْ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، فَنَدِمَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْهَا لِمَا رَأَوْا مِنْ إِصْلَاحِ حَالِ أُولَئِكَ.
ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً فَيَأْكُلُ النَّاسُ مِنْهَا يَأْكُلُ آخِرُهُمْ كَمَا يَأْكُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى قِيلَ إِنَّهَا كَانَ يَأْكُلُ مِنْهَا نَحْوُ سَبْعَةِ آلَافٍ.
ثُمَّ كَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ كَمَا كانت
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) الفترة: بين ظهور المسيح وبعث محمد عليهما السلام.
(3) في الرازي: سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسما وخمسة أرغفة على واحد منها زيتون والثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد.
[*]
(2/102)
نَاقَةُ صَالِحٍ يَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ عِيسَى أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَحَاوِيجِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَتَكَلَّمَ مُنَافِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَرُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ وَمُسِخَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ خَنَازِيرَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا: حدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ " (1) ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس [بن عمرو] عَنْ عَمَّارٍ مَوْقُوفًا وَهَذَا أَصَحُّ وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عِجْلٍ عَنْ عَمَّارٍ مَوْقُوفًا وَهُوَ الصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَخِلَاسٌ عَنْ عَمَّارٍ مُنْقَطِعٌ فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا لَكَانَ فَيْصَلًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَائِدَةِ هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ (2) كَمَا دلت عليه هذه الآثار كما هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقِ الْقُرْآنِ وَلَا سيما قوله: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى مُجَاهِدٍ وَإِلَى الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ تَنْزِلْ وَإِنَّهُمْ أَبَوْا نُزُولَهَا حِينَ
قَالَ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ) وَلِهَذَا قِيلَ أنَّ النَّصارى لَا يَعْرِفُونَ خَبَرَ الْمَائِدَةِ وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي كِتَابِهِمْ مَعَ أَنَّ خبرها مما يتوفر الدَّواعي عَلَى نَقْلِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ (3) فَلْيُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ.
وَمَنْ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهُ فَلْيَنْظُرْهُ مِنْ ثمَّ ولله الحمد والمنة.
فصل قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَقَطَ اسْمُهُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: فَقَدَ الْحَوَارِيُّونَ نَبِيَّهُمْ عِيسَى فَقِيلَ لَهُمْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَحْرِ فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ إِذَا هُوَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ يَرْفَعُهُ الْمَوْجُ مَرَّةً وَيَضَعُهُ أُخْرَى، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُرْتَدٍ بِنِصْفِهِ وَمُؤْتَزِرٌ بِنِصْفِهِ، حتَّى انْتَهَى إليهم فقال لهم بَعْضُهُمْ قَالَ أَبُو هِلَالٍ ظَنَنْتُ أَنَّهُ مَنْ أفاضلهم - ألا أجئ إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فوضع إحدى
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره 2 / 130 والترمذي في صحيحه 48 كتاب التفسير القرآن - 6 باب 3061 مرفوعا وقال لا نعرفه مرفوعا من حديث الحسن بن قزعة.
ورواه موقوفا وقال: هذا أصح ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا.
ورواه ابن كثير في تفسيره 2 / 120 دار الفكر.
(2) قال الرازي: نزلت ثم طارت ثم عصوا من بعدها فمسخوا قردة وخنازير ; ولم يذكره أنهم أكلوا منها.
وقال وقال الجمهور الاعظم من المفسرين: أنها نزلت.
(3) رواه ابن كثير في التفسير ج 2 / 120 دار الفكر.
[*]
(2/103)
رِجْلَيْهِ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَضَعَ الْأُخْرَى، فَقَالَ: أَوَّهْ غَرِقْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ.
فَقَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا قَصِيرَ الْإِيمَانِ لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِنَ الْيَقِينِ قَدْرَ شَعِيرَةٍ مَشَى عَلَى الْمَاءِ.
وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ عن إبراهيم بن أَبِي الْجَحِيمِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي هِلَالٍ عَنْ بَكْرٍ بِنَحْوِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنيا: حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ سفيان، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عياض قال: قيل لعيسى بن مريم، يا عيسى بأي شئ تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ؟ قَالَ: بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ.
قَالُوا فَإِنَّا آمَنَّا كَمَا آمَنْتَ وَأَيْقَنَّا كَمَا أَيْقَنْتَ قَالَ: فَامْشُوا إِذًا قَالَ فَمَشَوْا مَعَهُ فِي الموج فغرقوا.
فقال لهم عيسى: مالكم؟ فَقَالُوا: خِفْنَا الْمَوْجَ، قَالَ: أَلَا خِفْتُمْ رَبَّ الْمَوْجِ؟ قَالَ: فَأَخْرَجَهُمْ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَبَضَ بِهَا ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِي إِحْدَى يَدَيْهِ ذَهَبٌ، وَفِي الْأُخْرَى مَدَرٌ، أَوْ حَصًى فَقَالَ: أَيُّهُمَا أَحْلَى فِي قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: هَذَا الذَّهَبُ قَالَ: فَإِنَّهُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ.
وَقَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ وَلَا يَأْوِي إِلَى مَنْزِلٍ وَلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا يدخر شيئا لغد.
قال بَعْضُهُمْ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ صَاحَ وَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِابْنِ مَرْيَمَ أَنْ تُذْكَرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ وَيَسْكُتَ، وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بحر أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ صَرَخَ صُرَاخَ الثَّكْلَى.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، حدثنا جعفر بن بلقان: أَنَّ عِيسَى كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ لَا أَسْتَطِيعُ دَفْعَ مَا أَكْرَهُ وَلَا أَمْلِكُ نَفْعَ مَا أَرْجُو وَأَصْبَحَ الْأَمْرُ بِيَدِ غَيْرِي وَأَصْبَحْتُ مُرْتَهِنًا بِعَمَلِي، فَلَا فَقِيرَ أَفْقَرُ مِنِّي، اللَّهم لَا تُشْمِتْ بِيَ عَدُوِّي وَلَا تَسُؤْ بِي صَدِيقِي، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتِي فِي دِينِي، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لَا يَرْحَمُنِي.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، كَانَ عِيسَى يَقُولُ لَا يُصِيبُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا يُبَالِيَ مِنْ أَكْلِ الدُّنْيَا (1) .
قَالَ الْفُضَيْلُ: وَكَانَ عِيسَى يَقُولُ فَكَّرْتُ فِي الْخَلْقِ فَوَجَدْتُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ أَغْبَطَ عِنْدِي مِمَّنْ خُلِقَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ عِيسَى رَأْسُ الزَّاهِدِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ: وَإِنَّ الْفَرَّارِينَ بِذُنُوبِهِمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى.
قَالَ: وَبَيْنَمَا عِيسَى يَوْمًا نَائِمٌ عَلَى حَجَرٍ قَدْ تَوَسَّدَهُ وَقَدْ وَجَدَ لَذَّةَ النَّوْمِ إِذْ مَرَّ بِهِ إِبْلِيسُ فَقَالَ: يَا عِيسَى أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تُرِيدُ شَيْئًا مِنْ عَرَضِ الدنيا؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا فقال: [فقام عيسى] (2) : فأخذ الحجر ورمى بِهِ إِلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا لَكَ مَعَ الدُّنْيَا.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: خَرَجَ عِيسَى عَلَى أَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ وَكِسَاءٌ وَتُبَّانٌ حَافِيًا بَاكِيًا شَعِثًا مُصْفَرَّ اللَّوْنِ مِنَ الْجُوعِ يَابِسَ الشَّفَتَيْنِ مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَا الَّذِي أَنْزَلْتُ الدُّنْيَا مَنْزِلَتَهَا
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: لا نصيب حقيقة الإيمان حتى لا نبالي من أكل الدنيا.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
[*]
(2/104)
بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا عَجَبَ وَلَا فَخْرَ، أَتَدْرُونَ أَيْنَ بَيْتِي؟ قَالُوا: أَيْنَ بَيْتُكَ يَا رُوحَ اللَّهِ؟ قَالَ بِيتِي الْمَسَاجِدُ، وَطِيبِي الْمَاءُ، وَإِدَامِي الْجُوعُ، وَسِرَاجِي الْقَمَرُ بِاللَّيْلِ، وَصَلَاتِي فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقُ الشَّمْسِ، وَرَيْحَانِي بُقُولُ الْأَرْضِ، وَلِبَاسِي الصُّوفُ (1) وَشِعَارِي خَوْفُ رَبِّ الْعِزَّةِ، وَجُلَسَائِي الزَّمْنَى وَالْمَسَاكِينُ، أصبح وليس لي شئ وأمسي وليس لي شئ، وأنا طيب النفس غير مكترث فَمَنْ أَغْنَى مِنِّي وَأَرْبَحُ.
رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبَانِ بْنِ حِبَّانَ أَبِي الْحَسَنِ الْعُقَيْلِيِّ الْمِصْرِيِّ، حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، حدَّثني الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ (2) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى: أَنْ يَا عِيسَى انْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِئَلَّا تُعْرَفَ فَتُؤْذَى، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُزَوِّجَنَّكَ أَلْفَ حَوْرَاءَ وَلَأُولِمَنَّ عَلَيْكَ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ ".
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ رِوَايَةِ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ (2) عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ: كَمَا تَرَكَ لَكُمُ الْمُلُوكَ الْحِكْمَةَ فَكَذَلِكَ فَاتْرُكُوا لَهُمُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَلُونِي فَإِنِّي لَيِّنُ الْقَلْبِ وَإِنِّي صَغِيرٌ عِنْدَ نَفْسِي.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال: قال عيسى لِلْحِوَارِيَّيْنِ: كُلُوا خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْقَرَاحَ، واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين بحق مَا أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ حَلَاوَةَ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ وَإِنَّ عباد الله ليسوا بالمتنعمين بحق مَا أَقُولُ لَكُمْ، إِنَّ شَرَّكُمْ عَالِمٌ يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى عِلْمِهِ يَوَدُّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِثْلُهُ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ أنَّه بَلَغَهُ أنَّ عِيسَى كَانَ يَقُولُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْكُمْ بالماء القراح والبقل البري وخبز الشَّعِيرِ وَإِيَّاكُمْ وَخُبْزَ الْبُرِّ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقُومُوا بِشُكْرِهِ (11) .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ عِيسَى يَقُولُ
اعْبُرُوا الدُّنْيَا وَلَا تُعَمِّرُوهَا، وَكَانَ يَقُولُ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالنَّظَرُ يَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ.
وَحَكَى وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ مِثْلَهُ وَزَادَ: وَرُبَّ شَهْوَةٍ أَوْرَثَتْ أَهْلَهَا حرنا طويلاً.
وعن عيسى عليه السلام: يا بن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كُنْتَ، وَكُنْ فِي الدُّنْيَا ضَيْفًا، وَاتَّخَذِ الْمَسَاجِدَ بَيْتًا، وَعَلِّمْ عَيْنَكَ الْبُكَاءَ وَجَسَدَكَ الصَّبْرَ وَقَلْبَكَ التَّفَكُّرَ، وَلَا تَهْتَمَّ بِرِزْقِ غَدٍ فَإِنَّهَا خَطِيئَةٌ.
وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا فَلَا يَتَّخِذِ الدُّنْيَا قَرَارًا وَفِي هذا يقول سابق البربري:
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: الصون، وهو تحريف.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: سفي بن نافع وهو تحريف.
شفى بن ماتع الاصبحي ثقة من الثالثة، ذكره بعضهم في الصحابة خطأ، مات في خلافة هشام.
تقريب التهذيب 1 / 93 / 353.
(3) رواه مالك في الموطأ 1688 ص 515.
[*]
(2/105)
لكم بيوت بمستن السيوف وهل * يبنى عَلَى الْمَاءِ بَيْتٌ أُسُّهُ مَدَرُ وَقَالَ سُفْيَانُ الثوري قال عيسى بن مَرْيَمَ: لَا يَسْتَقِيمُ حُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ الْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إِنَاءٍ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيِّ قَالَ قَالَ عِيسَى: طَالِبُ الدُّنْيَا مِثْلُ شَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا حَتَّى يَقْتُلَهُ.
وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الدُّنْيَا وَمَكْرَهُ مَعَ الْمَالِ (1) وتزينه مَعَ الْهَوَى وَاسْتِمْكَانَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عن خيثمة: كان عيسى يضع الطَّعَامَ لِأَصْحَابِهِ وَيَقُومُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: هَكَذَا فَاصْنَعُوا بِالْقِرَى.
وَبِهِ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: طُوبَى لِحِجْرٍ حَمَلَكَ وَلِثَدْيٍ أَرْضَعَكَ.
فَقَالَ: طُوبَى لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعَهُ.
وَعَنْهُ طُوبَى لِمَنْ بَكَى مِنْ ذِكْرِ خَطِيئَتِهِ وَحَفِظَ لِسَانَهُ وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ.
وَعَنْهُ: طُوبَى لِعَيْنٍ نَامَتْ وَلَمْ تُحَدِّثْ نَفْسَهَا بِالْمَعْصِيَةِ وَانْتَبَهَتْ إِلَى غَيْرِ إِثْمٍ.
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: مَرَّ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ بِجِيفَةٍ فَقَالُوا: مَا أَنْتَنَ رِيحَهَا فَقَالَ: مَا أَبْيَضَ
أَسْنَانَهَا.
لِيَنْهَاهُمْ عَنِ الْغِيِبَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ ارْضَوْا بِدَنِيِّ الدُّنْيَا مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ كَمَا رَضِيَ أَهْلُ الدُّنْيَا بَدَنِيِّ الدِّينِ مَعَ سَلَامَةِ الدُّنْيَا.
قَالَ زَكَرِيَّا وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ: أَرَى رِجَالًا بِأَدْنَى الدِّينِ قَدْ قَنَعُوا * وَلَا أَرَاهُمْ رَضُوا فِي الْعَيْشِ بِالدُّونِ فَاسْتَغْنِ بِالدِّينِ عَنْ دُنْيَا الْمُلُوكِ كَمَا * اسْتَغْنَى الْمُلُوكُ بِدُنْيَاهُمْ عَنِ الدِّينِ وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُكْثِرُوا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ الْعِبَادِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِيهَا كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ مُعَافًى وَمُبْتَلًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: قَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ طَلَبَ الْفِرْدَوْسَ فَخُبْزُ الشَّعِيرِ وَالنَّوْمُ فِي الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ كَثِيرٌ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ عِيسَى: إِنَّ أَكْلَ الشَّعِيرِ مَعَ الرَّمَادِ وَالنَّوْمَ عَلَى الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ لَقَلِيلٌ فِي طَلَبِ الْفِرْدَوْسِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ عيسى: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم انظرو إلى هذا الطَّير تَغْدُو وَتَرُوحُ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا، فَإِنْ قُلْتُمْ نَحْنُ أَعْظَمُ بُطُونًا مِنَ الطَّيْرِ فَانْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الْأَبَاقِرِ (2) مِنَ الْوُحُوشِ وَالْحُمُرِ فَإِنَّهَا تَغْدُو وَتَرُوحُ لَا تَحْرُثُ ولا تحصد والله يرزقها [اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز] (3) .
وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو: عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عبد الله، عن يزيد بن ميسرة، قال: قال
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة، وفكره من المال.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: الاباقير وهو تحريف.
(3) ما بين معكوفين سقطت من أصول البداية، واستدركت العبارة من نص الحديث في كتاب الزهد لابن المبارك ; وروى الحديث ابن مالك في الموطأ.
[*]
(2/106)
الْحَوَارِيُّونَ لِلْمَسِيحِ: يَا مَسِيحَ اللَّهِ انْظُرْ إِلَى مَسْجِدِ اللَّهِ مَا أَحْسَنَهُ.
قَالَ: آمِينَ آمِينَ بحق ما أَقُولُ
لَكُمْ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْ هَذَا المسجد حجرا قائما إلى أَهْلَكَهُ بِذُنُوبِ أَهْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْفِضَّةِ وَلَا بِهَذِهِ الْأَحْجَارِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ شَيْئًا إِنَّ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا الْقُلُوبُ الصَّالِحَةُ وَبِهَا يُعَمِّرُ اللَّهُ الْأَرْضَ، وَبِهَا يُخَرِّبُ اللَّهُ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَرْكَانِيَّةُ قَالَتْ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الهشيم إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَرَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَدِينَةٍ خَرِبَةٍ، فَأَعْجَبَهُ الْبُنْيَانُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مُرْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ أَنْ تُجِيبَنِي؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ الْخَرِبَةُ جَاوِبِي عِيسَى.
قَالَ: فَنَادَتِ الْمَدِينَةُ عِيسَى حَبِيبِي وَمَا تُرِيدُ مِنِّي قَالَ: مَا فَعَلَ أَشْجَارُكِ وَمَا فَعَلَ أَنْهَارُكِ وَمَا فَعَلَ قُصُورُكِ وَأَيْنَ سُكَّانُكِ؟ قَالَتْ: حَبِيبِي جَاءَ وَعْدُ رَبِّكَ الْحَقُّ فَيَبِسَتْ أَشْجَارِي، وَنَشَفَتْ أَنْهَارِي وَخَرِبَتْ قُصُورِي وَمَاتَ سُكَّانِي.
قال: فأين أموالهم فقالت جَمَعُوهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَوْضُوعَةٌ فِي بَطْنِي.
لله مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
قال فنادى عيسى عليه السلام: تعجبت (1) مِنْ ثَلَاثِ أُنَاسٍ: طَالِبِ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَبَانِي الْقُصُورِ وَالْقَبْرُ مَنْزِلُهُ، وَمَنْ يَضْحَكُ مِلْءَ فِيهِ وَالنَّارُ أَمَامَهُ! ابْنَ آدَمَ لَا بِالْكَثِيرِ تَشْبَعُ وَلَا بِالْقَلِيلِ تَقْنَعُ تَجْمَعُ مَالَكَ لِمَنْ لَا يَحْمَدُكَ وَتُقْدِمُ عَلَى رَبٍّ لَا يَعْذُرُكَ إِنَّمَا أَنْتَ عَبْدُ بَطْنِكَ وَشَهْوَتِكَ وَإِنَّمَا تَمْلَأُ بطنك إذا دخلت قبرك وأنت يابن آدَمَ تَرَى حَشْدَ مَالِكَ فِي مِيزَانِ غَيْرِكَ.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ فَكَتَبْنَاهُ لِذَلِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ اجْعَلُوا كُنُوزَكُمْ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ حَيْثُ كَنْزُهُ.
وَقَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ ظبيان قال قال عيسى بن مريم: مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ دُعِيَ عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَا خَيْرَ فِي علم لا يعبر معك الوادي ويعبر بِكَ النَّادِيَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عن ابن عباس مرفوعاً أن عيسى قَامَ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الحواريين لا تحدثوا بالحكم غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ وَالْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ، وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ عَلَيْكُمْ فِيهِ فردوا علمه إلى الله عزوجل.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ قَالَ عِيسَى: لَا تَطْرَحُوا اللُّؤْلُؤَ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَصْنَعُ بِاللُّؤْلُؤِ شَيْئًا، وَلَا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ مَنْ لَا يُرِيدُهَا فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَمَنْ لَا يُرِيدُهَا شَرٌّ مِنَ الْخِنْزِيرِ.
وَكَذَا حَكَى وهب وغيره عنه
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: فعجبت وهو تحريف.
[*]
(2/107)
وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ مِلْحُ الْأَرْضِ فَإِذَا فَسَدْتُمْ فَلَا دَوَاءَ لَكُمْ، وَإِنَّ فِيكُمْ خَصْلَتَيْنِ مِنَ الْجَهْلِ: الضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَالصُّبْحَةُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً؟ قَالَ زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنَّ الْعَالِمَ إِذَا زَلَّ يَزِلُّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا عُلَمَاءَ السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم وَالْآخِرَةَ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ قَوْلُكُمْ شِفَاءٌ وَعَمَلُكُمْ دَاءٌ مَثَلُكُمْ مَثَلُ شَجَرَةِ الدِّفْلَى تُعْجِبُ مَنْ رَآهَا وَتَقْتُلُ مَنْ أَكَلَهَا.
وَقَالَ وَهْبٌ قَالَ عِيسَى: يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ جَلَسْتُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فلا تدخلوها وَلَا تَدَعُونَ الْمَسَاكِينَ يَدْخُلُونَهَا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ عَالِمٌ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ التَقَى يَحْيَى وَعِيسَى، فَصَافَحَهُ عِيسَى وَهُوَ يضحك فقال له يحيى: يابن خالة مالي أَرَاكَ ضَاحِكًا كَأَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ؟ فَقَالَ لَهُ عيسى: مالي أَرَاكَ عَابِسًا كَأَنَّكَ قَدْ يَئِسْتَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمَا: إِنَّ أَحَبَّكُمَا إِلَيَّ أَبَشُّكُمَا بِصَاحِبِهِ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَفَ عِيسَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى قَبْرٍ وَصَاحِبُهُ يُدْلَى فِيهِ، فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ الْقَبْرَ وَضِيقَهُ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُمْ فِيمَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْهُ فِي (1) أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ فَإِذَا أَحَبَّ (2) اللَّهُ أَنْ يُوَسِّعَ وَسَّعَ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ يَقْطُرُ جِلْدُهُ دَمًا.
وَالْآثَارُ فِي مِثْلِ هذا كثيرة جداً.
وقد أورده الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا اقْتَصَرْنَا منه على هذا القدر والله الْمُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ.
[ذِكْرُ] (3) رَفْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّمَاءِ فِي حِفْظِ الرَّبِّ وَبَيَانُ كَذِبِ اليهود والنصارى فِي دَعْوَى الصَّلْبِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تختلفون) [آل عمران: 54 - 55] .
وقال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً.
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً.
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عيسى بن مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (4) .
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: من أرحام.
(2) في نسخة: فإذا أراد.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(4) قال القرطبي: رفعه الله إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قاله الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس وقال الضحاك.
[*]
(2/108)
شهيدا) [النِّسَاءِ: 155 - 159] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ بعدما تَوَفَّاهُ بِالنَّوْمِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَخَلَّصَهُ مِمَّنْ كَانَ أَرَادَ أَذِيَّتَهُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْكَفَرَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إسحاق: كان اسمه داود بن نورا (1) فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، فَحَصَرُوهُ فِي دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَمَّا حَانَ وَقْتُ دُخُولِهِمْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ [مِنْ] (2) ذَلِكَ الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَنْظُرُونَ وَدَخَلَ الشُّرَطُ فَوَجَدُوا ذَلِكَ الشَّابَّ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ فَأَخَذُوهُ ظَانِّينَ أَنَّهُ عِيسَى فَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ إِهَانَةً لَهُ، وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ عَامَّةُ النَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يُشَاهِدُوا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى أَنَّهُ صُلِبَ وَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا كَثِيرًا فَاحِشًا بَعِيدًا.
وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أَيْ بَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّليب، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ.
كَمَا بيَّنا ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَكَمَا سَنُورِدُ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي " كِتَابِ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ " عِنْدَ أَخْبَارِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَنَذْكُرُ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْمَسِيحِ الْمَهْدِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذِي الْجَلَالِ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ الْكَذَّابِ الدَّاعِي إِلَى الضَّلَالِ.
وَهَذَا ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ فِي صِفَةِ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ:
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، يَعْنِي فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ وَرَأْسُهُ يقطر ماء فقال [لهم] : إنَّ منكم من يكفر بي اثني عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكَانِي فيكون مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فقام الشاب فقال [أنا: فقال عيسى] (3) اجْلِسْ.
ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ أَنَا.
فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ ذَاكَ.
فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخَذُوا الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ فَكَفَرَ به بعضهم اثني عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ وَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ.
وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيِّةُ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ ثمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ ورسوله مَا شَاءَ ثمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ.
فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
__________
(1) في الطبري: كان الملك اسمه: هيرودس الصغير.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
وروزنة: كوة ; وفي رواية: سقف البيت.
(3) ما بين معكوفين في الحديث زيادة من تفسير القرطبي.
[*]
(2/109)
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14] وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنُ عبَّاس (1) عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ به نحوه.
ورواه ابن جرير عن مسلم بْنِ جُنَادَةَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مطولاً محمد بن إسحق بْنِ يَسَارٍ قَالَ: وَجَعَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يدعو الله عزوجل أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلَهُ يَعْنِي لِيُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ وَيُكْمِلَ الدَّعْوَةَ وَيُكْثِرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللَّهِ قيل وكان عنده من الحواريين اثني عشر رجلاً: بطرس ويعقوب بن زبدا وَيَحْنَسُ أَخُو يَعْقُوبَ وَأَنْدَرَاوِسُ وَفِلِيبُّسُ وَأَبْرَثَلْمَا وَمَتَّى وتوماس ويعقوب بن حلقيا وتداوس وفتاتيا ويودس كريا يَوُطَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ الْيَهُودَ عَلَى عيسى.
قال ابن إسحق: وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ سَرْجَسُ كَتَمَتْهُ النَّصَارَى، وَهُوَ الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ، فَصُلِبَ عَنْهُ (2) قَالَ: وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِي صُلِبَ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ هو يودس بن كريا يَوُطَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَخْلَفَ عِيسَى شَمْعُونَ وَقَتَلَتِ الْيَهُودُ يُودُسُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفَرَّاءَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) قَالَ: إِنَّ عِيسَى غَابَ عَنْ خَالَتِهِ زَمَانًا فأتاهم فَقَامَ رَأْسُ الْجَالُوتِ الْيَهُودِيُّ فَضَرَبَ عَلَى عِيسَى حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِ دَارِهِ فَكَسَرُوا الْبَابَ ودخل رأس جالوت لِيَأْخُذَ عِيسَى فَطَمَسَ اللَّهُ عَيْنَيْهِ عَنْ عِيسَى، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ وَمَعَهُ سَيْفٌ مَسْلُولٌ، فَقَالُوا: أَنْتَ عِيسَى وَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَ عِيسَى عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يعقوب القمي، عن هرون بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحوارين فِي بَيْتٍ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ صَوَّرَهُمُ اللَّهُ كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى فَقَالُوا لهم: سحرتمونا لتبرزن إلينا عِيسَى أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ جَمِيعًا فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْتَرِي مِنْكُمْ نَفْسَهُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنَا عِيسَى، وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ وَظَنُّوا أنهم قد قتلوا عيسى فظنت النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ
عِيسَى وَرَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (3) : وحدثنا المثنى، حدثنا إسحاق [بن الحجاج] ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا يَقُولُ: إن عيسى بن مَرْيَمَ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ وَشَقَّ عَلَيْهِ فَدَعَا الحواريين وصنع لهم طعاماً فقال: أحضروني
__________
(1) روى الحديث القرطبي في تفسيره عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابن عباس ورواها السيوطي 2 / 238.
(2) ذكره الطبري 2 / 24 وفي رواية أخرى عنده: اسمه: ايشوع بن فنديرا.
(3) تاريخ الطبري 2 / 22 - 23.
ما بين معكوفين زيادة استدركت من الطبري.
[*]
(2/110)
اللَّيْلَةَ فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، عَشَّاهُمْ وَقَامَ يَخْدِمُهُمْ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ، أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَحُ أَيْدِيَهُمْ بِثِيَابِهِ، فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ فَقَالَ إِلَّا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا اللَّيْلَةَ مِمَّا أَصْنَعُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ فَأَقَرُّوهُ حتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أَمَّا مَا صَنَعْتُ بِكُمُ اللَّيْلَةَ مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَغَسَلْتُ أَيْدِيَكُمْ بِيَدِي فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ، فَلَا يَتَعَظَّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلْيَبْذُلْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْسَهُ كَمَا بَذَلْتُ نَفْسِي لَكُمْ، وَأَمَّا حَاجَتِي التي استعنتكم عليها فتدعون الله [لي] وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلِي، فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمَّ يَسْتَطِيعُوا دُعَاءً، فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً وَاحِدَةً تُعِينُونِي فِيهَا؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مالنا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَسْمُرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرًا وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ: يُذْهَبُ بِالرَّاعِي وَتَتَفَرَّقُ الْغَنَمُ، وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوَ هَذَا يَنْعَى بِهِ نَفْسَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْحَقُّ لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ وَلَيَأْكُلَنَّ ثَمْنِي، فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ فَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ فَقَالُوا: هَذَا مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَحَدَ، وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ فَتَرَكُوهُ.
ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ دِيكٍ فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ فَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ
فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَخَذُوهُ وَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ، وَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ، وَيَقُولُونَ: أَنْتَ كُنْتَ تُحْيِي الْمَوْتَى، وَتَنْتَهِرُ الشَّيْطَانَ، وَتُبْرِئُ الْمَجْنُونَ، أَفَلَا تُنَجِّي نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْحَبْلِ؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْكَ حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ فَمَكَثَ سَبْعًا.
ثُمَّ إِنْ أُمَّهُ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ كَانَ الْمَصْلُوبُ، فَجَاءَهُمَا عيسى فقال على مَ تَبْكِيَانِ قَالَتَا: عَلَيْكَ.
فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي الله إليه، ولم يصبني إلا خير، ون هذا شئ شُبِّهَ لَهُمْ فَأْمُرَا الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَلَقَوْهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدَ عَشَرَ وَفَقَدَ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا: إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَاخْتَنَقَ؟ وَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ سألهم عن غلام [كان] (1) يتبعهم يقال له يحيى فَقَالَ: هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ سَيُصْبِحُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يُحَدِّثُ بِلُغَةِ قَوْمٍ فَلْيُنْذِرْهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا ذكره النصارى مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ وَهِيَ جَالِسَةٌ تَبْكِي عِنْدَ جِذْعِهِ فَأَرَاهَا مَكَانَ الْمَسَامِيرِ مِنْ جَسَدِهِ وَأَخْبَرَهَا أَنَّ رُوحَهُ رُفِعَتْ وَأَنَّ جَسَدَهُ صُلِبَ وَهَذَا بُهْتٌ وَكَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَزِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى خِلَافِ الحق ومقتضى الدليل (2) .
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في النسخ المطبوعة: ومقتضى النقل.
[*]
(2/111)
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَبِيبٍ، فِيمَا بَلَغَهُ، أَنَّ مَرْيَمَ سَأَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ بَعْدَ مَا صُلِبَ الْمَصْلُوبُ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ وَهِيَ تَحْسَبُ أَنَّهُ ابْنُهَا، أَنْ يُنْزِلَ جَسَدَهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَدُفِنَ هُنَالِكَ فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى: أَلَا تَذْهَبِينَ بِنَا نَزُورُ قَبْرَ الْمَسِيحِ؟ فَذَهَبَتَا فَلَمَّا دَنَتَا مِنَ الْقَبْرِ قَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى: أَلَا تَسْتَتِرِينَ فَقَالَتْ: وَمِمَّنْ أَسْتَتِرُ؟ فَقَالَتْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ الْقَبْرِ.
فَقَالَتْ أُمُّ يَحْيَى: إِنِّي لَا أَرَى أَحَدًا فَرَجَتْ مَرْيَمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلَ، وَكَانَتْ قَدْ بَعُدَ
عَهْدُهَا بِهِ، فَاسْتَوْقَفَتْ أُمَّ يَحْيَى وَذَهَبَتْ نَحْوَ الْقَبْرِ فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ الْقَبْرِ قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ، وَعَرَفَتْهُ: يَا مَرْيَمُ أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ فَقَالَتْ أَزُورُ قَبْرَ المسيح فأسلم عَلَيْهِ وَأَحْدِثُ عَهْدًا بِهِ.
فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ هَذَا لَيْسَ الْمَسِيحَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَ الْمَسِيحَ وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَلَكِنْ هَذَا الْفَتَى الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَيْهِ وَصُلِبَ وَقُتِلَ مَكَانَهُ.
وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَهُ قَدْ فَقَدُوهُ فَلَا يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِهِ فَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ كَذَا وَكَذَا فأت غَيْضَةَ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّكِ تَلْقَيْنَ الْمَسِيحَ.
قَالَ: فَرَجَعَتْ إِلَى أُخْتِهَا وَصَعِدَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَتْهَا عَنْ جِبْرِيلَ وَمَا قَالَ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْغَيْضَةِ.
فلمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ذَهَبَتْ فَوَجَدَتْ عِيسَى في الغيضة فلما رآها أسرع إليها وأكب عَلَيْهَا فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَجَعَلَ يَدْعُو لَهَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، وَقَالَ يَا أمَّه إنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقْتُلُونِي وَلَكِنَّ اللَّهَ رَفَعَنِي إِلَيْهِ وَأَذِنَ لِي فِي لِقَائِكَ وَالْمَوْتُ يَأْتِيكِ قَرِيبًا فَاصْبِرِي واذكري الله كثيراً ثُمَّ صَعِدَ عِيسَى فَلَمْ تَلْقَهُ إِلَّا تِلْكَ الْمَرَّةَ حتَّى مَاتَتْ.
قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ مَرْيَمَ بَقِيَتْ بَعْدَ عِيسَى خَمْسَ سِنِينَ وَمَاتَتْ وَلَهَا ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَانَ عُمَرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ رُفِعَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَفِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَهَا جُرْدًا مُرْدًّا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين " (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " عَلَى مِيلَادِ عِيسَى وَحُسْنِ يُوسُفَ " وَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب أَنَّهُ قَالَ رُفِعَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ أُمَّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ حَدَّثَتْهُ: أنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِلَّا عَاشَ الَّذِي بَعْدَهُ نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَاشَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ فَلَا أَرَانِي إلا ذاهب على رأس ستين.
__________
(1) في الطبري: بقيت بعد رفعه (عيسى) ست سنين وكان جميع عمرها نيفا وخمسين وسنة ; وذكر أنها حملت به وكان عمرها ثلاث عشرة وان عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وبقيت بعده ست سنوات (وإذا حسبنا أشهر الحمل) يصبح عمرها 52 سنة.
(2) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10 / 399 عن أبي هريرة رفعه.
وقال: قلت في الصحيح بعضه، ورواه الطبراني في الصغير والاوسط وإسناده حسن.
[*]
(2/112)
هَذَا لَفْظُ الْفَسَوِيِّ فَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
قَالَ الحافظ ابن عَسَاكِرَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْعُمْرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي أُمَّتِهِ، كَمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، قَالَ: قَالَتْ فَاطِمَةُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عيسى بن مَرْيَمَ مَكَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ جَرِيرٌ وَالثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ أن إِبْرَاهِيمَ مَكَثَ عِيسَى فِي قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ عَامًا وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رُفِعَ لَيْلَةَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ فِي مِثْلِهَا تُوُفِّيَ عَلِيٌّ بَعْدَ طَعْنِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ.
وَقَدْ رَوَى الضحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِيسَى لَمَّا رَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ جَاءَتْهُ سَحَابَةٌ فَدَنَتْ مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَيْهَا وَجَاءَتْهُ مَرْيَمُ فَوَدَّعَتْهُ وَبَكَتْ ثُمَّ رفع وهي تنظر، وَأَلْقَى إِلَيْهَا عِيسَى بُرْدًا لَهُ وَقَالَ هَذَا عَلَامَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَلْقَى عمامته على شَمْعُونَ، وَجَعَلَتْ أُمُّهُ تُوَدِّعُهُ بِأُصْبُعِهَا تُشِيرُ بِهَا إِلَيْهِ حَتَّى غَابَ عَنْهَا، وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا لِأَنَّهُ تَوَفَّرَ عَلَيْهَا حُبُّهُ مِنْ جِهَتَيِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ لَا أَبَ لَهُ وَكَانَتْ لَا تُفَارِقُهُ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا.
قَالَ بَعْضُ الشُّعراء: وَكنتُ أرَى كالموتِ منْ بينِ ساعةٍ * فكيفَ ببينٍ كانَ مَوْعِدَهُ الْحَشْرُ وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بشر، عن مجاهد بن جبير: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ الْمَسِيحَ وَسَلَّمَ لَهُمْ أكثر النصارى بجهلهم ذلك، تسلطوا على أصحاب بِالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ فَبَلَغَ أَمْرُهُمْ إِلَى صَاحِبِ الرُّومِ وَهُوَ مَلِكُ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِ رَجُلٍ كَانَ يَذْكُرُ لَهُمْ أنَّه رَسُولُ اللَّهِ وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيَفْعَلُ الْعَجَائِبَ فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَهَانُوا أَصْحَابَهُ وحبسوهم فبعث فجئ بِهِمْ وَفِيهِمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَشَمْعُونُ وَجَمَاعَةٌ فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه فبايعهم فِي دِينِهِمْ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُمْ وَظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى الْيَهُودِ وَعَلَتْ كَلِمَةُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ وَبَعَثَ إِلَى المصلوب (1) فوضع عن
جذعه وجئ بِالْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَعَظَّمَهُ فَمِنْ ثَمَّ عَظَّمَتِ النَّصَارَى الصَّلِيبَ وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الرُّومِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا نَبِيٌّ لَا يُقِرُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْلُوبَ عِيسَى فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ يَعْلَمُ مَا وَقَعَ عَلَى جِهَةِ الْحَقِّ.
الثَّانِي أَنَّ الرُّومَ لَمْ يَدْخُلُوا في دين المسيح إلا بعد ثلثمائة سنة وذلك في زمان قسطنطين بن قسطن بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
الثَّالِثُ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ ثُمَّ أَلْقَوْهُ بِخَشَبَتِهِ جَعَلُوا مَكَانَهُ مَطْرَحًا لِلْقُمَامَةِ وَالنَّجَاسَةَ وَجِيَفَ الْمَيْتَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ فِي زَمَانِ قُسْطَنْطِينَ الْمَذْكُورِ فَعَمَدَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفِنْدِقَانِيَّةُ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ هُنَالِكَ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ الْمَسِيحُ وَوَجَدُوا الْخَشَبَةَ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا الْمَصْلُوبُ فَذَكَرُوا أَنَّهُ مَا مَسَّهَا ذُو عَاهَةٍ إِلَّا عُوفِيَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ هَذَا أم لا؟ وهل كان
__________
(1) نقل الخبر الطبري عن ابن إسحاق ; وفيه أن المصلوب سرجيس.
ج 2 / 24.
[*]
(2/113)
هَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا أَوْ كَانَ هَذَا مِحْنَةً وَفِتْنَةً لِأُمَّةِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى عَظَّمُوا تِلْكَ الْخَشَبَةَ، وَغَشَّوْهَا بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ، وَمِنْ ثم اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها.
وَأَمَرَتْ أُمُّ الْمَلِكِ هِيلَانَةُ فَأُزِيلَتْ تِلْكَ الْقُمَامَةُ وَبُنِيَ مَكَانَهَا كَنِيسَةٌ هَائِلَةٌ مُزَخْرَفَةٌ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْيَوْمَ بِبَلَدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْقُمَامَةُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عِنْدَهَا، وَيُسَمُّونَهَا الْقِيَامَةَ، يَعْنُونَ الَّتِي يَقُومُ جَسَدُ الْمَسِيحِ مِنْهَا.
ثُمَّ أَمَرَتْ هِيلَانَةُ بِأَنْ تُوضَعَ قُمَامَةُ الْبَلَدِ وَكُنَاسَتُهُ وَقَاذُورَاتُهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي هي قبلة اليهود فلم يزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَكَنَسَ عَنْهَا الْقُمَامَةَ بِرِدَائِهِ وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ، وَلَمْ يَضَعِ الْمَسْجِدَ وَرَاءَهَا وَلَكِنْ أَمَامَهَا حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ [المسجد] (1) الأقصى.
[ذكر] (2) صِفَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرسول وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة: 75] قِيلَ سُمِّيَ الْمَسِيحَ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ وَهُوَ سِيَاحَتُهُ فِيهَا وَفِرَارُهُ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ لِشِدَّةِ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ لَهُ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقِيلَ لأنَّه كَانَ مَمْسُوحَ الْقَدَمَيْنِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَفَّيْنَا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هدى ونور) [الحديد: 27] وقال تعالى: (وَآتَيْنَا عيسى بن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة: 87] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعْنَ فِي الْحِجَابِ " (3) وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادَةَ، عَنْ عُبَادَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَمُسْلِمٌ (4) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا كان له أجران وإذا آمن بعيسى بن مَرْيَمَ ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ إذا اتقى ربه وأطاع مواليه
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
[*] (2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) تقدم تخريجه قريبا فليراجع.
(4) تقدم تخريجه قريبا فليراجع.
[*]
(2/114)
فَلَهُ أَجْرَانِ " (1) هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهري، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حِسْبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شنؤة.
قَالَ وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، يَعْنِي الْحَمَّامَ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشَبَهُ وَلَدِهِ بِهِ.
الْحَدِيثَ " (2) وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي قِصَّتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ثمَّ قَالَ: حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ عِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ.
فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ.
وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سِبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ " (3) .
تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: ذَكَرَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْنَ ظَهَرَانَيِ النَّاس الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ إِلَّا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مَنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعْرِ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا الْمَسِيحُ بن مريم.
ثم رأيت رجلاً وراءه جعد قطط أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ.
وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ ثمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الزهري، عن سالم بن عُمَرَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَبَيَّنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه صفة المسيحين: مسيح المهدي، وَمَسِيحِ الضَّلَالَةِ، لِيُعْرَفَ هَذَا إِذَا نَزَلَ فَيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُعْرَفَ الْآخَرُ فَيَحَذَرَهُ الْمُوَحِّدُونَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رأى عيسى بن مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ كَلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنَيَّ " وَكَذَا رَوَاهُ [مُسْلِمٌ عَنْ] (4) مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (5) .
وقال أحمد: حدثنا عفان،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد 145 والعتق 14، 16 وأحاديث الانبياء 48 وأخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان 241 والترمذي في كتاب النكاح 25 والنسائي في النكاح 65 والامام أحمد في مسنده 4 / 395، 402، 405، 414.
(2) أخرجه البخاري في أحاديث الانبياء وباب 49 والترمذي في أول تفسير سورة الاسراء عن محمود بن غيلان.
ورواه مسلم في الصحيح عن محمد بن رافع في 1 كتاب الايمان (272) وأخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 387.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الانبياء 24، 48 وكتاب بدء الخلق 7.
(4) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(5) أخرجه مسلم في 43 / 40 / 149 / 2368.
[*]
(2/115)
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ يَا فُلَانُ أَسَرَقْتَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ فَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِي " (1) .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَجِيَّةٍ طَاهِرَةٍ حَيْثُ قَدَّمَ حلف ذلك الرجل فظن أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ كَاذِبًا على ما شاهده منه عيانا فقيل عُذْرَهُ وَرَجَعَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ أَيْ صَدَّقْتُكُ وَكَذَّبْتُ بَصَرِي لِأَجْلِ حَلِفِكَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ".
ثُمَّ قَرَأَ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104] فَأَوَّلُ الْخَلْقِ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فأقول: أصحابي فيقال: إنهم لن يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ.
فَأَقُولُ كما قال العبد الصالح عيسى بن مَرْيَمَ: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كل شئ شَهِيدٌ.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ.
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 117 - 118) " (2) تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، حدثنا سفيان، سمعت الزهري يقول: أخبرني عبد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَقُولُ: " لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصارى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ ورسوله " (3) .
وقال البخاري: حدثنا إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي إِذْ جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أصلي فقالت: اللهم لا تمته حَتَّى تُرِيَهِ وُجُوهَ
الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صومعة فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ لَهَا ممن قالت مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وصلَّى ثمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ قَالَ فُلَانٌ الرَّاعِي قَالُوا أَنَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: لَا إِلَّا
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 314.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 81 / 45 ومسلم في صحيحه 51 / 56 / 58 والترمذي في سننه 44 / 17 / 7 ورواه النسائي وابن ماجه والدارمي في سننهم وأحمد في مسنده 1 / 220 - 223 - 229، 3 / 495 ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده حديث 2638.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 10 / 345 - 346 عن جابر وقال: رواه الطبراني في الاوسط بنحوه ورجال أحمد وثقوا.
(3) أخرجه البخاري في أحاديث الانبياء 48 والدارمي في الرقاق 68 وأحمد في مسنده 1 / 22، 24، 47، 55، 60.
[*]
(2/116)
مِنْ طِينٍ.
وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتِ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهم لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ أُصْبُعَهُ ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَتْ: لِمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ وزنت وَلَمْ تَفْعَلْ " (1) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ " (2) تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ " (3) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يخرِّجوه مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بِنَحْوِهِ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ من حديث عبد الرزاق نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حدَّثنا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعَلَّاتٍ.
وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى.
وَأَنَا أَوْلَى الناس بعيسى بن مَرْيَمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَالْبَيَاضِ سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بين مخصرتين فَيَكْسِرُ الصَّليب، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُعَطِّلُ الملل، حتى يهلك في زمانه كُلُّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْإِبِلُ مَعَ الْأُسْدِ جَمِيعًا، وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ يَتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ " (4) .
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ: " فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ يَتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ " (5) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ نَحْوَهُ.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فَيَمْكُثُ فِي الأرض أربعين سنة.
وسيأتي بيان
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 2 / 307 - 308.
(2) تقدم تخريجه قريبا فليراجع.
(3) مسند أحمد ج 2 / 406.
مسند أحمد ج 2 / 437.
مسند أحمد ج 2 / 319، 406، 482.
[*]
(2/117)
نُزُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فِي " كِتَابِ الْمَلَاحِمِ " كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) [النساء: 159] وقوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ للساعة) الآية [الزخرف: 61] وَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ بِدِمَشْقَ (1) وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ.
تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ فَيَقُولُ: لَا بعضكم على بعض أمراء مكرمة اللَّهِ هَذِهِ الأمَّة.
وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ لَهُ عِيسَى: إِنَّمَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَكَ فَيُصَلِّي خَلْفَهُ.
ثُمَّ يَرْكَبُ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي طَلَبِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَيَلْحَقُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ.
وَذَكَرْنَا أَنَّهُ قَوِيَ الرَّجَاءُ حِينَ بُنِيَتْ هَذِهِ الْمَنَارَةُ الشَّرْقِيَّةُ بِدِمَشْقَ الَّتِي هِيَ مِنْ حِجَارَةٍ بِيضٍ وَقَدْ بُنِيَتْ أَيْضًا مِنْ أَمْوَالِ النَّصارى حِينَ حَرَقُوا الَّتِي هُدِمَتْ وَمَا حَوْلَهَا فينزل عليها عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّليب، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَأَنَّهُ يَحُجُّ مِنْ فَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لِثِنْتَيْهِمَا، وَيُقِيمُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ فِيمَا قِيلَ فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ (2) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي آخِرِ تَرْجَمَةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ يُدْفَنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قتيبة مسلم بْنُ قُتَيْبَةَ، حدَّثني أَبُو مَوْدُودٍ الْمَدَنِيُّ، حدَّثنا عُثْمَانُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوراة صِفَةُ محمد وعيسى بن مريم عليهم السَّلَامُ يُدْفَنُ مَعَهُ (3) .
قَالَ أَبُو مَوْدُودٍ: وَقَدْ بقي من الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ كَذَا قَالَ.
وَالصَّوَابُ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَدَنِيُّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ عِنْدِي وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: الْفَتْرَةُ مَا بَيْنَ عِيسَى ومحمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَعَنْ قَتَادَةَ خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً.
وَقِيلَ خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَالْمَشْهُورُ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ (4) .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ستمائة وعشرون سنة بالقمرية لتكون سِتَّمِائَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: " ذِكْرُ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ فِيهَا أمة عيسى على هديه ": حدثنا أبو
__________
(1) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 205 عن أوس بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 1 / 356 من عدة طرق عن الزهري.
(3) ورواه الهيثمي في الزوائد 8 / 206 عن عبد الله بن سلام.
قال: ورواه الطبراني وفيه عثمان بن الضحاك وثقه ابن حبان وضعفه أبو داود.
(4) جاء في مروج الذهب: 2 / 285: بين مولد المسيح إلى مولد النبي صلى الله عليه وسلَّم 521 سنة، وبين أن رفع الله المسيح وهو ابن 33 سنة إلى سنة وفاة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم 546.
وبين مبعث المسيح وهجرة النبي صلى الله عليه وسلَّم 594 سنة.
[*]
(2/118)
يَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَمَا فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا وَلَقَدْ مَكَثَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَى سُنَّتِهِ وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ " (1) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَإِنْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ (2) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وصى الحواريين بأن يدعو النَّاس إليَّ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَعَيَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فِي إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنَ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَصْبَحَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ الْمَسِيحُ إِلَيْهِمْ.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْإِنْجِيلَ نَقَلَهُ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ لُوقَا وَمَتَّى وَمُرْقُسُ وَيُوحَنَّا، وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نُسْخَةٍ وَنُسْخَةٍ وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَنَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُخْرَى وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مِنْهُمُ اثْنَانِ مِمَّنْ أَدْرَكَ الْمَسِيحَ وَرَآهُ وَهُمَا مَتَّى وَيُوحَنَّا ومنهم اثنين من أصحاب أصحابه وَهُمَا مُرْقُسُ وَلُوقَا.
وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَصَدَّقَهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ضِينَا وَكَانَ مُخْتَفِيًا فِي مَغَارَةٍ دَاخِلَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ قَرِيبًا مِنَ الْكَنِيسَةِ الْمُصَلَّبَةِ خَوْفًا مِنْ بولس الْيَهُودِيِّ وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا مُبْغِضًا لِلْمَسِيحِ، وَلَمَّا جَاءَ بِهِ.
وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَ ابْنِ أَخِيهِ حِينَ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ.
ثُمَّ رَجَمَهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَمَّا سَمِعَ بُولِصُ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ دِمَشْقَ جَهَّزَ بِغَالَهُ وَخَرَجَ لِيَقْتُلَهُ فَتَلَقَّاهُ عِنْدَ كَوْكَبَا، فَلَمَّا وَاجَهَ أَصْحَابَ الْمَسِيحِ، جَاءَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَضَرَبَ وَجْهَهُ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ
فَأَعْمَاهُ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ تَصْدِيقُ الْمَسِيحِ، فَجَاءَ إِلَيْهِ وَاعْتَذَرَ مِمَّا صَنَعَ وَآمَنَ بِهِ فَقَبِلَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَيْنَيْهِ لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فَقَالَ اذْهَبْ إِلَى ضِينَا عِنْدَكَ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ السُّوقِ الْمُسْتَطِيلِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَهُوَ يَدْعُو لَكَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فَدَعَا فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ وَحَسُنَ إِيمَانُ بُولِصَ بِالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَبُنِيَتْ لَهُ كَنِيسَةٌ بِاسْمِهِ فَهِيَ كَنِيسَةُ بُولِصَ الْمَشْهُورَةُ بِدِمَشْقَ مِنْ زَمَنِ فَتَحَهَا الصحابة رضي الله عنهم حتى خربت.
فَصْلُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ رفعه إلى السماء عَلَى أَقْوَالٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عبَّاس وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: قَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَرُفِعَ إلى
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 207 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف.
(2) تاريخ الطبري 2 / 24: عين فطرس إلى رومية وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيليبس إلى أرض القيروان وقرطاجنة وهي افريقيا ويحنس إلى دفسوس وابن تلما إلى أرض الحجاز وسيمن إلى أرض البربر دون أفريقيا ويعقوبس إلى أوري شلم.
[*]
(2/119)
السَّمَاءِ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ اللَّهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ (1) .
فَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ كُفْرٌ عَظِيمٌ كَمَا قَالَ: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [مريم: 37] وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ الْأَنَاجِيلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ مَا بَيْنَ زِيَادَةٍ ونقصان وتحريف وتبديل.
ثم بعد المسيح بثلمائة سَنَةٍ حَدَثَتْ فِيهِ الطَّامَّةُ الْعُظْمَى وَالْبَلِيَّةُ الْكُبْرَى.
اختلف البتاركة الْأَرْبَعَةُ وَجَمِيعُ الْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاوِسَةُ وَالشَّمَامِسَةُ وَالرَّهَابِينُ فِي الْمَسِيحِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ.
وَاجْتَمَعُوا وَتَحَاكَمُوا إِلَى الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ بَانِي القسطنطينة وَهُمُ الْمَجْمَعُ الْأَوَّلُ (2) .
فَصَارَ الْمَلِكُ إِلَى قَوْلِ أَكْثَرِ فِرْقَةٍ اتَّفَقَتْ عَلَى قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ المقالات، فسموا الملكية (3) وَدَحَضَ مَنْ عَدَاهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ وَتَفَرَّدَتِ الْفِرْقَةُ التَّابِعَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَدْيُوسَ الَّذِي ثَبَتَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ
وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ فَسَكَنُوا الْبَرَارِيَ وَالْبَوَادِيَ وَبَنَوُا الصَّوَامِعَ وَالدِّيَارَاتِ وَالْقَلَّايَاتِ وَقَنِعُوا بِالْعَيْشِ الزَّهِيدِ وَلَمْ يُخَالِطُوا أولئك الملل والنحل وبنت الملكية الْكَنَائِسَ الْهَائِلَةَ عَمَدُوا إِلَى مَا كَانَ مِنْ بناء اليونان فحولوا محاربيها إِلَى الشَّرْقِ وَقَدْ كَانَتْ إِلَى الشَّمَالِ إِلَى الحدي.
بَيَانُ بِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ وَبَنَى الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ بَيْتَ لَحْمٍ عَلَى مَحَلِّ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ وَبِنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْقُمَامَةَ يَعْنِي عَلَى قَبْرِ
__________
(1) تقدم التعليق حول الفرق الثلاث التي اختلفت في رفعه عليه السلام.
وقال صاحب الملل والنحل: لما رفع إلى السماء اختلف الحواريون وغيرهم فيه.
وإنما اختلافاتهم تعود إلى أمرين: - كيفية نزوله واتصاله بأمه وتجسد الكلمة.
- كيفية صعوده واتصاله بالملائكة وتوحد الكلمة.
ص 100.
(2) حضر المجمع الاول بمدينة نيقية ألفان وثمانية وأربعون أسقفا.
فتم اختيار ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا متفقين ; فوضعوا شرائع النصرانية وكان رئيس هذا المجمع بطرق الاسكندرية.
وحضر الاجتماع البطاركة الثلاثة الآخرون: بطرك انطاكية - بطرك مدينة رومية - بطرك القسطنطينية واتفقوا - على ما قال الشهرستاني وذلك قولهم: " نؤمن بالله الواحد الآب مالك كل شئ، وصانع ما يُرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع الْمَسِيحُ، ابْنُ اللَّهِ الواحد، بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شئ من أجلنا، ومن أجل معشر الناس، وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا، نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَجَسَّدَ من روح القدس وصار إنسانا، وحبل به، وولد من مريم البتول، وقتل وصلب أيام فيلاطوس ودفن، ثم قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجئ تارة أخرى بين الاموات والاحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه، وبعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة أبد الآبدين " الملل والنحل ص 101.
(3) كذا في الاصول، وهم المعروفون في كتب النحل والتفسير بالملكانية.
قال الشهرستاني: وهم أصحاب ملكا
الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها قالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح.
وقالوا: إن المسيح ناسوت كلي لا جزئي (101) .
(2/120)
لمصلوب (1) وَهُمْ يُسَلِّمُونَ لِلْيَهُودِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ.
وَقَدْ كَفَرَتْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَوَضَعُوا الْقَوَانِينَ وَالْأَحْكَامَ.
وَمِنْهَا مُخَالِفٌ لِلْعَتِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّوْرَاةُ وَأَحَلُّوا أَشْيَاءَ هِيَ حَرَامٌ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَصَلَّوْا إِلَى الشَّرْقِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ صَلَّى إِلَّا إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى.
وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى إِلَيْهَا بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ.
وَصَوَّرُوا الْكَنَائِسَ وَلَمْ تَكُنْ مُصَوَّرَةً قَبْلَ ذَلِكَ وَوَضَعُوا الْعَقِيدَةَ الَّتِي يَحْفَظُهَا أَطْفَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالْأَمَانَةِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَكْبَرُ الْكُفْرِ وَالْخِيَانَةِ وَجَمِيعُ الْمَلَكِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ أَصْحَابُ نَسْطُورَسَ أَهْلِ الْمَجْمَعِ الثَّانِي (2) وَالْيَعْقُوبِيَّةِ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ الْبَرَادِعِيِّ أَصْحَابِ الْمَجْمَعِ الثَّالِثِ (3) يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَفْسِيرِهَا وَهَا أَنَا أَحْكِيهَا وَحَاكِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِأَبُثَّ عَلَى مَا فِيهَا رَكَّةَ الْأَلْفَاظِ وَكَثْرَةَ الْكُفْرِ وَالْخَبَالِ الْمُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الشُّوَاظِ فيقولون نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات وَالْأَرْضِ كُلِّ مَا يُرَى وَكُلِّ مَا لَا يُرَى وَبِرَبٍّ وَاحِدٍ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْأَبِ قَبْلَ الدُّهُورِ نُورٍ مِنْ نُورٍ إِلَهٍ حَقٍّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ مَوْلُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ الذي كان به كل شئ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ الْبَشَرَ وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَمِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ وَتَأَنَّسَ وَصُلِبِ عَلَى عَهْدِ مَلَاطِسَ النَّبَطِيِّ وَتَأَلَّمَ وَقُبِرَ وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَمَا فِي الْكُتُبِ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الْأَبِ.
وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي بِجَسَدِهِ ليدبر الأحياء والأموات الذي لا فناء للملكه وَرُوحُ الْقُدُسِ الرَّبُّ الْمُحْيِي الْمُنْبَثِقُ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ وَالِابْنُ مَسْجُودٌ لَهُ وَبِمَجْدِ النَّاطِقِ فِي الْأَنْبِيَاءِ كَنِسْبَةٍ وَاحِدَةٍ جَامِعَةٍ مُقَدَّسَةٍ يَهُولِيَّةٍ وَاعْتَرَفَ بِمَعْمُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا وَأَنَّهُ حَيُّ قِيَامَةَ الْمَوْتَى وَحَيَاةَ الدَّهْرِ الْعَتِيدِ كَوْنُهُ آمِينَ.
كِتَابُ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى آخَرِ زَمَنِ الْفَتْرَةِ سِوَى أَيَّامِ الْعَرَبِ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ فَإِنَّا سَنُورِدُ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) [طه 99] وَقَالَ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين) [يوسف: 3] .
__________
(1) قال ابن الأثير: في الكامل: اخرجت الخشبة التى تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها، وجعلت ذلك اليوم عيداً، وهو عيد الصليب وهو لاربع عشرة تخلو من أيلول وبنت الكنيسة المعروفة بقمامة وتسمى القيامة.
1 / 330 مروج الذهب 1 / 329 (2) عقد بالقسطنطينية على مقدونس وأشياعه، وعدة المجتمعين فيه من الاساقفة مائة وخمسون رجلا.
(3) عقد في ملك تدوس الصغير بن تدوس الكبير لاحدى وعشرين سنة من ملكه، وعقد بمدينة أفسس، وحضره مائتا أسقف وكان سببه ما ظهر من نسطورس بطرك القسطنطينية من مخالفته مذهبهم فلعنوه ونفوه.
[*]
(2/121)
خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً.
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض وآتينا من كل شئ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً.
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً.
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً.
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً.
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً.
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً.
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ
نَقْباً.
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) [الْكَهْفِ: 83 - 98] .
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَا الْقَرْنَيْنِ هَذَا وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالْعَدْلِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَمَلَكَ الْأَقَالِيمَ وَقَهَرَ أَهْلَهَا، وَسَارَ فِيهِمْ بِالْمَعْدَلَةِ التَّامَّةِ وَالسُّلْطَانِ الْمُؤَيَّدِ الْمُظَفَّرِ الْمَنْصُورِ الْقَاهِرِ الْمُقْسِطِ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ وقيل كان نبياً.
وقيل رَسُولًا.
وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: فَإِنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ: مَهْ مَا كَفَاكُمْ أَنْ تَتَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَسَمَّيْتُمْ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ نَبِيًّا.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن أبي ذؤيب، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذؤيب، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ (1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " لا أَدْرِي أَتُبَّعٌ كَانَ لَعِينًا أَمْ لَا وَلَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا وَلَا أَدْرِي ذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا " (2) .
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ السَّاجِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكًا صَالِحًا رَضِيَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَكَانَ مَنْصُورًا، وَكَانَ الْخَضِرُ وَزِيرَهُ.
وَذَكَرَ أَنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى مُقَدَّمَةِ جَيْشِهِ وَكَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاوِرِ، الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَلِكِ بِمَنْزِلَةِ الوزير في إصلاح الناس اليوم، وقد
__________
(1) في أبي داود: عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبي سعيد.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة عن محمد بن المتوكل العسقلاني باب التخيير بين الانبياء ح 4674 وفيه: ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا؟.
[*]
(2/122)
ذكر الأزرقي (1) وغيره أن ذاالقرنين أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَطَافَ مَعَهُ بِالْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِهِ تَلَقَّاهُ وَدَعَا لَهُ وَرَضَّاهُ وَأَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ السَّحَابَ (2) يَحْمِلُهُ
حَيْثُ أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ فَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ.
قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ مِنْ نُحَاسٍ فِي رَأْسِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مَلَكَ فَارِسَ وَالرُّومَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَيِ الشَّمْسِ غَرْبًا وَشَرْقًا.
وَمَلَكَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَهَذَا أَشْبَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كانت له غديرتان من شعر يطافهما فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ، عن عمر بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ قَالَ دَعَا مَلِكًا جَبَّارًا إِلَى اللَّهِ فَضَرَبَهُ عَلَى قَرْنِهِ فَكَسَرَهُ وَرَضَّهُ.
ثُمَّ دَعَاهُ فَدَقَّ قَرْنَهُ الثَّانِيَ فَكَسَرَهُ فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ.
وَرَوَى الثَّوريّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ: كَانَ عَبْدًا نَاصَحَ اللَّهَ فَنَاصَحَهُ، دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الْآخَرِ فَمَاتَ فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ شعبة الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِهِ (3) .
وَفِي بَعْضِ الرِّوايات عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا رَسُولًا وَلَا مَلَكًا وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ اسمه عبد الله بن الضحاك ابن مَعْدٍ وَقِيلَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِنانَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأزد بن عون (4) بن نبت بن
__________
(1) أخبار مكة 1 / 74.
(2) عن علي بن أبي طالب كما في تفسير القرطبي.
(3) في ذي القرنين واسمه تنازع الناس وكثرت الاقوال حتى التناقض ; والخلاف فيه كثير ولا طائل تحته - قال ناس إنه من الملائكة ; ومنهم من قال نبيا ومنه من قال كان عبداً صالحاً.
إلى جانب ما ذكره ابن كثير في تسميته بذي القرنين قيل: - سمي بذي القرنين لانه انقض في وقته قرنان من الناس.
- كان على رأسه ما يشبه القرنين.
- كان لتاجه قرنان.
- عن النبي صلى الله عليه وسلم: لانه طاف قرني الدنيا يعني شرقها وغربها.
- لانه رأى حلما في المنام كأنه تعلق بطرفي الشمس وقرنيها.
- لانه دخل النور والظلمة.
- كان له صفيرتان أي قرنان.
(راجع المسعودي - تفسير الرازي - تفسير القرطبي - المعارف لابن قتيبة) .
(4) في أنساب السمعاني: غوث.
[*]
(2/123)
مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ قَحْطَانَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ كَانَ مِنَ حِمْيَرٍ (1) وَأُمُّهُ رُومِيَّةٌ وأنَّه كَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْفَيْلَسُوفِ لِعَقْلِهِ.
وَقَدْ أَنْشَدَ بعض الحميريين (2) في ذلك شعراً يفتخر بِكَوْنِهِ أَحَدَ أَجْدَادِهِ فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ جَدِّيَ مُسْلِمًا * مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَحْشُدُ (3) بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي * أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدِ (4) فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا * فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ (5) مِنْ بَعْدِهِ بَلْقِيسُ كَانَتْ عَمَّتِي * مَلَكَتْهُمُ حَتَّى أَتَاهَا الْهُدْهُدُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَقِيلَ كَانَ اسْمُهُ مرزبان بن مرزبة.
ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ (6) وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ (7) آخَرَ أن اسمه الصعب بن ذي مرائد وَهُوَ أَوَّلُ التَّبَابِعَةِ وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ لِإِبْرَاهِيمَ فِي بِئْرِ السَّبْعِ (8) .
وَقِيلَ إِنَّهُ أَفْرِيدُونُ بْنُ أَسْفِيَانَ الَّذِي قَتَلَ الضَّحَّاكَ وَفِي خُطْبَةِ قَسٍّ: يا معشر إياد بن الصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، مَلَكَ الْخَافِقَيْنِ، وَأَذَلَّ الثَّقَلَيْنِ، وعمر ألفين.
ثم كان ذلك كَلَحْظَةِ عَيْنٍ.
ثُمَّ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِلْأَعْشَى: والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا * بالجنو في جدث أشم مقيما وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاكُولَا أَنَّ اسْمَهُ هَرْمَسُ ويقال هرويس بن قيطون بن رومى بن لنطى
__________
(1) قال أبو الريحان المنجم الهروي البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: قيل هو أبو كرب شمر بن عبير بن افريقس الحميري ; وقال: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لان الاذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا
تخلوا أساميهم من ذي.
وقال المسعودي في مروج الذهب: قيل ان بعض التبابعة غزا مدينة رومية وأسكنها خلقاً من اليمن، وأن ذا القرنين الذي هو الاسكندر من أولئك العرب المتخلفين بها.
تفسير الرازي 21 / 164.
(2) وهو تبع اليماني.
كما في تفسير القرطبي والمسعودي ولم يذكر الابيات.
(3) في تفسير الرازي والقرطبي: قبلي بدل جدي ; وفي القرطبي تسجد بدل تحشد.
وعجزه في الرازي: ملكا عَلَا فِي الْأَرْضِ غير مفند (4) في تفسير الرازي: عجزه: أسباب ملك من كريم سيد.
(5) الخلب: الطين، الثأط: الحمأة.
الحرمد: الأسود.
(6) قال ابن إسحاق: مرزبان بن مرذبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح ; وذكر ابن هشام: اسمه الاسكندر سيرة ابن هشام.
(7) أي في التيجان.
(8) قال السهيلي: والظاهر من علم الاخبار أنهما اثنان: أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السلام ويقال انه قضى لابراهيم حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام (وقد تقدم عن الازرقي أنه طاف معه ماشيا وأسلم على يديه) - والآخر كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام.
[*]
(2/124)
ابن كشلوخين بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ فَاللَّهُ أعلم.
وقال إسحق بْنُ بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ إِسْكَنْدَرُ هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَأَبُوهُ أَوَّلُ الْقَيَاصِرَةِ وَكَانَ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَأَمَّا ذُو الْقَرْنَيْنِ الثَّانِي فهو اسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن مطيون بْنِ رُومِيِّ بْنِ لَنْطِيِّ بْنِ يُونَانَ بْنِ يافث بن يونة بن شرخون بن رومة بن شرفط بْنِ تَوْفِيلَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ الْأَصْفَرِ بْنِ يقز بن العيص بن إسحق بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ كَذَا نَسَبَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ (1) .
الْمَقْدُونِيُّ الْيُونَانِيُّ الْمِصْرِيُّ بَانِي إِسْكَنْدَرِيَّةَ الَّذِي يُؤَرِّخُ بِأَيَّامِهِ الرُّومُ، وَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْأَوَّلِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ كَانَ هَذَا قَبْلَ المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرطا طاليس الْفَيْلَسُوفُ وَزِيرَهُ وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ دَارَا بْنَ دَارَا وَأَذَلَّ
مُلُوكَ الْفُرْسِ وَأَوْطَأَ أَرْضَهُمْ.
وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ لِأَنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الذي كان أرطا طاليس وَزِيرَهُ فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَطَأٌ كَبِيرٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ كَثِيرٌ (2) ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ كَانَ عَبْدًا مؤمناً صالح وَمَلِكًا عَادِلًا وَكَانَ وَزِيرُهُ الْخَضِرَ، وَقَدْ كَانَ نَبِيًّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا (3) .
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَانَ مُشْرِكًا وَكَانَ وَزِيرُهُ فَيْلَسُوفًا وَقَدْ كَانَ بَيْنَ زَمَانَيْهِمَا أَزْيَدُ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ.
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا لَا يَسْتَوِيَانِ وَلَا يَشْتَبِهَانِ إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الأمور.
فقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا الْيَهُودَ عَنْ شئ يَمْتَحِنُونَ بِهِ عِلْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُمْ سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طوَّاف فِي الْأَرْضِ وَعَنْ فِتْيَةٍ خَرَجُوا لَا يُدْرَى مَا فَعَلُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
وَلِهَذَا قَالَ: (قُلْ سأتلوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) أي من خبره وشأنه (ذِكْراً) أَيْ خَبَرًا نَافِعًا كَافِيًا فِي تَعْرِيفِ أَمَرِهِ، وَشَرْحِ حَالِهِ فَقَالَ: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ من كل شئ سَبَباً) أَيْ وَسَّعْنَا مَمْلَكَتَهُ فِي الْبِلَادِ، وَأَعْطَيْنَاهُ مِنْ آلَاتِ الْمَمْلَكَةِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَقَاصِدِ الْجَسِيمَةِ.
قَالَ قُتَيْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عن حبيب بن حماد قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ كَيْفَ بَلَغَ المشرق والمغرب فقال له: سخر له السحاب ومدت له الأسباب
__________
(1) قال الطبري وابن الاثير: وأما الروم وكثير من أهل الانساب فإنهم يقولون (وفي الكامل: يزعمون) أنه: الاسكندر بن بيلبوس بن مطريوس ويقال مصريم بن هرمس بن هروس بن ميطون بن رُومِيِّ بْنِ لِيطِيِّ بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بن ثوبة بن سرحون بن رومية بن نزمط بن نوقيل بْنِ رُومِيِّ بْنِ الْأَصْفَرِ بْنِ الْيَفَزَ بْنِ العيص بن إسحاق بن إبراهيم.
ويقال: إنه أنه أخو دارا لابيه.
(2) قال الرازي: إن تعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطا طاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه.
(3) قال الرازي في تفسيره: من قال إنه كان نبيا احتج بوجوه: - قوله (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض) والاولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدِّين هو النبوة.
- قوله (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شئ سببا) ومن جملة الاشياء النبوة.
- قوله (قُلْنَا يَا ذَا القرنين..) والذي يتكلم معه الله لا بد وأن يكون نبيا.
وقال الدارقطني في كتاب الاخبار: إن ملكاً يقال له رباقيل (رفائيل) كان ينزل على ذي القرنين.
[*]
(2/125)
وبسط له في النور [فكان الليل والنهار عليه سواء] (1) وَقَالَ أَزِيدُكَ فَسَكَتَ الرَّجُلُ وَسَكَتَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَادِعِيِّ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: مَلَكَ الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ.
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَذُو الْقَرْنَيْنِ وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حُلْوَانَ.
وَرَجُلٌ آخَرُ.
فَقِيلَ لَهُ الْخَضِرُ قَالَ: لَا.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ كُلَّهَا أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ وَذُو الْقَرْنَيْنِ وَنُمْرُودُ وَبُخْتُ نَصَّرَ.
وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ: سَوَاءً.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلَكَ بَعْدَ النَّمْرُودِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا صَالِحًا أَتَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْأَجَلِ وَنَصَرَهُ حَتَّى قَهَرَ الْبِلَادَ، وَاحْتَوَى عَلَى الْأَمْوَالِ، وَفَتَحَ الْمَدَائِنَ، وَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَجَالَ فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) أَيْ خَبَرًا (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ من كل شئ سَبَباً) أَيْ عِلْمًا بِطَلَبِ أَسْبَابِ الْمَنَازِلِ.
قَالَ إِسْحَاقُ، وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُ كَانَ يَفْتَحُ الْمَدَائِنَ وَيَجْمَعُ الْكُنُوزَ فَمَنِ أتَّبعه عَلَى دِينِهِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا قَتَلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عبَّاس وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَعُبَيْدُ بْنُ يَعْلَى وَالسُّدِّيُّ وقتادة والضحاك (وَآتَيْنَاهُ من كل شئ سَبَباً) يَعْنِي عِلْمًا وَقَالَ قَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ مَعَالِمُ الْأَرْضِ وَمَنَازِلُهَا وَأَعْلَامُهَا وَآثَارُهَا وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يَعْنِي: تَعْلِيمَ الْأَلْسِنَةِ كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا حَدَّثَهُمْ بِلُغَتِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ سَبَبٍ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى نَيْلِ مَقْصُودِهِ فِي الْمَمْلَكَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْمَطَاعِمِ وَالزَّادِ مَا يَكْفِيهِ وَيُعِينُهُ عَلَى أَهْلِ الْإِقْلِيمِ الْآخَرِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ مَكَثَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ يَجُوبُ الْأَرْضَ وَيَدْعُو أَهْلَهَا إِلَى عِبَادَةِ
اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ نَظَرٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ حَدِيثًا متعلقاً بقوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كل شئ سَبَباً) مُطَوَّلًا جِدًّا وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا.
وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فَلِهَذَا لَمْ نَكْتُبْهُ لِسُقُوطِهِ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ: (فَأَتْبَعَ سَبَباً) أَيْ طَرِيقًا (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُجَاوِزَهُ وَوَقَفَ عَلَى حَافَّةِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أُوقْيَانُوسُ الَّذِي فِيهِ الْجَزَائِرُ الْمُسَمَّاةُ بِالْخَالِدَاتِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْأَطْوَالِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ، وَالثَّانِي مِنْ سَاحِلِ هَذَا الْبَحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَعِنْدَهُ شَاهَدَ مَغِيبَ الشَّمْسِ فِيمَا رَآهُ بِالنِّسْبَةِ إلى مشاهدته (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وَالْمُرَادُ بِهَا الْبَحْرُ فِي نَظَرِهِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَحْرِ أَوْ عَلَى سَاحِلِهِ، يَرَى الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَطْلُعُ مِنَ الْبَحْرِ وَتَغْرُبُ فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ: (وَجَدَهَا) أَيْ فِي نَظَرِهِ وَلَمْ يَقُلْ: فَإِذَا هِيَ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة.
قال كعب
__________
(1) ما بين معكوفين زيادة استدركت من القرطبي وتفسير الطبرسي.
[*]
(2/126)
الْأَحْبَارِ: وَهُوَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ.
وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ حَامِيَةٍ.
فَقِيلَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ.
وَقِيلَ مِنَ الْحَرَارَةِ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْمُقَابَلَةِ لِوَهَجِ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَشُعَاعِهَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ غَابَتْ فَقَالَ: " فِي نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ لَوْلَا مَا يَزَعُهَا (1) مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَأَحْرَقَتْ مَا عَلَى الْأَرْضِ " (2) فيه غرابة وفيه رجل منهم لَمْ يُسَمَّ وَرَفْعُهُ فِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ زَعَمَ مِنَ القصَّاص أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ جَاوَزَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَصَارَ يَمْشِي بِجُيُوشِهِ فِي ظُلُمَاتٍ مدداً طويلة فقد أخطأوا بعد النُّجْعَةَ وَقَالَ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ.
بَيَانُ طَلَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَيْنَ الْحَيَاةِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ: مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
الْبَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ، زَيْنِ الْعَابِدِينَ خَبَرًا مُطَوَّلًا جِدًّا فِيهِ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ لَهُ صَاحِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُ رَنَاقِيلُ (3) فَسَأَلَهُ ذوالقرنين هَلْ تَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَيْنًا يُقَالُ لَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ فَذَكَرَ لَهُ صِفَةَ مَكَانِهَا فَذَهَبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي طَلَبِهَا، وَجَعَلَ الْخَضِرَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ فَانْتَهَى الْخَضِرُ إِلَيْهَا فِي وَادٍ فِي أَرْضِ الظُّلُمَاتِ فَشَرِبَ مِنْهَا، وَلَمْ يَهْتَدِ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَيْهَا.
وَذَكَرَ اجْتِمَاعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَصْرٍ هُنَاكَ وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ حَجَرًا فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى جَيْشِهِ سَأَلَ الْعُلَمَاءَ عَنْهُ فَوَضَعُوهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَجَعَلُوا فِي مُقَابَلَتِهِ أَلْفَ حَجَرٍ مِثْلَهُ فَوَزَنَهَا حَتَّى سَأَلَ الْخَضِرَ فَوَضَعَ قُبَالَهُ حَجَرًا وَجَعْلَ عَلَيْهِ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَجَحَ بِهِ.
وَقَالَ هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ لَا يَشْبَعُ حَتَّى يُوَارَى بِالتُّرَابِ فَسَجَدَ لَهُ الْعُلَمَاءُ تَكْرِيمًا لَهُ وَإِعْظَامًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ (4) .
ثم ذكر تعالى أنه حكم فِي أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً.
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً)
__________
(1) يزعها: يزجرها ويمنعها.
(2) مسند أحمد 2 / 207.
(3) في قصص الأنبياء للثعلبي: " رفائيل " وفي الدر المنثور " زرفائيل " وهذا الملك على ما ذكره الدارقطني في " الاخبار ": هو الذي يطوي الارض يوم القيامة.
وينقصها فتقع اقدام الخلائق كلها بالساهرة، فيما ذكره بعض أهل العلم، والساهرة: أرض يجددها الله يوم القيامة.
(4) ذكر الطبري وابن الاثير: فلما فرغ من أمر السد، وبعد أن دانت له عامة الارضين وملك التبت والصين، دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الارض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبدا، فلما دخل الظلمات أخذ أربعمائة رجل من أصحابه يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوماً ثم خرج ولم يظفر بها، وكان الخضر على مقدمته فظفر بها وسبح فيها وشرب منها.
ورجع (ذو القرنين) إلى العراق فمات في طريقه بشهرزور.
(تاريخ الطبري 2 / 9، الكامل في التاريخ 1 / 287) .
[*]
(2/127)
[الكهف: 87 - 88] أَيْ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَدَأَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَزْجَرُ عِنْدَ الْكَافِرِ (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)
[الكهف: 89] فَبَدَأَ بِالْأَهَمِّ وَهُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أَيْ سَلَكَ طَرِيقًا رَاجِعًا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ فَيُقَالُ إِنَّهُ رَجَعَ فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بُيُوتٌ وَلَا أَكْنَانٌ يَسْتَتِرُونَ بِهَا مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ.
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ كَانُوا يَأْوُونَ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ إِلَى أَسْرَابٍ قَدِ اتَّخَذُوهَا فِي الْأَرْضِ شِبْهِ الْقُبُورِ (1) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً) أَيْ وَنَحْنُ نَعْلَمُ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَنَحْفَظُهُ وَنَكْلَؤُهُ بِحِرَاسَتِنَا فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ مَغَارِبِ الْأَرْضِ إِلَى مَشَارِقِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا فَلَمَّا سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِقُدُومِهِ تَلَقَّاهُ فَلَمَّا اجْتَمَعَا دَعَا لَهُ الْخَلِيلُ وَوَصَّاهُ بِوَصَايَا وَيُقَالُ إنه جئ بِفَرَسٍ لِيَرْكَبَهَا فَقَالَ: لَا أَرْكَبُ فِي بَلَدٍ فِيهِ الْخَلِيلُ (2) فَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ السَّحَابَ وَبَشَّرَهُ إبراهيم بذلك فكانت تحمله إذا أراد.
وقوله تَعَالَى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يفقهون قولا) [الكهف: 92 - 93] يعني غشماً.
يقال إِنَّهُمْ هُمُ التُّرْكُ أَبْنَاءُ عَمِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ قَدْ تَعَدَّوْا عَلَيْهِمْ وَأَفْسَدُوا فِي بِلَادِهِمْ وَقَطَعُوا السُّبُلَ عَلَيْهِمْ، وَبَذَلُوا لَهُ حِمْلًا، وَهُوَ الْخَرَاجُ، عَلَى أَنْ يُقِيمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ حَاجِزًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إليهم فامتنع من أخذ الخراج اكتفاءا بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ رِجَالًا وَآلَاتٍ لِيَبْنِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًّا وَهُوَ الرَّدْمُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ بَيْنِهِمَا وَبَقِيَّةُ ذَلِكَ بِحَارٌ مُغْرِقَةٌ وَجِبَالٌ شَاهِقَةٌ فَبَنَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنَ الْحَدِيدِ وَالْقِطْرِ وَهُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ.
وَقِيلَ الرَّصَاصُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَجَعَلَ بَدَلَ اللَّبِنِ حَدِيدًا وَبَدَلَ الطِّينِ نُحَاسًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أَيْ يَعْلُوَا عَلَيْهِ بِسَلَالِمَ (3) وَلَا غَيْرِهَا (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) أَيْ بِمَعَاوِلَ وَلَا فُؤُوسٍ وَلَا غَيْرِهَا فَقَابَلَ الْأَسْهَلَ بِالْأَسْهَلِ وَالْأَشَدَّ بِالْأَشَدِّ (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ وُجُودَهُ لِيَكُونَ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ أَنْ يَمْنَعَ بِسَبَبِهِ عُدْوَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَحِلَّةِ (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي الوقت الذي قدر
__________
(1) قال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم.
(القرطبي - تفسير الرازي) .
(2) تقدم الخبر في الازرقي وفيه: قال: ما كنت لاركب وهذا (إبراهيم) يمشي فحج ماشيا.
(3) قال القرطبي في تفسيره: كان ارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا، وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخا (عن وهب بن منبه) .
[*]
(2/128)
خُرُوجَهُمْ عَلَى النَّاس فِي آخِرِ الزَّمَانِ (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أَيْ مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ هَذَا وَلِهَذَا قَالَ: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98] كَمَا قَالَ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ.
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) الآية [الانبياء: 96 - 97] ولذا قال ههنا: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف: 99] يَعْنِي يَوْمَ فَتْحِ السَّدِّ عَلَى الصَّحِيحِ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فِي التَّفْسِيرِ وَسَنُورِدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي " كِتَابِ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ " مِنْ كِتَابِنَا هَذَا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَهِدَايَتِهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: عَنِ الثَّوْرِيِّ: بَلَغَنَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَافَحَ ذُو الْقَرْنَيْنِ.
وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى أُمَّهُ إِذَا هُوَ مَاتَ أَنْ تَصْنَعَ طَعَامًا وَتَجْمَعَ نِسَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَضَعَهُ بين أيديهن، وتأذن له فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَتْ ثَكْلَى فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمْ تَضَعْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ يَدَهَا فِيهِ فَقَالَتْ لَهُنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ كُلُّكُنَّ ثَكْلَى؟ فَقُلْنَ أَيْ وَاللَّهِ مَا مِنَّا إِلَّا مَنْ أُثْكِلَتْ فَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِأُمِّهِ.
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وصية ذي القرنين وموعظة أُمَّهُ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً طَوِيلَةً فِيهَا حِكَمٌ وَأُمُورٌ نَافِعَةٌ وَأَنَّهُ مَاتَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَهَذَا غَرِيبٌ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَبَلَغَنِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ عَاشَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ كَانَ عُمْرُهُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَكَانَ بَعْدَ دَاوُدَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ بَعْدَ آدَمَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَمِائَةٍ
وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَكَانَ مُلْكُهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً (1) .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى إِسْكَنْدَرَ الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ وَقَدْ خَلَطَ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ وَآخِرِهَا بَيْنَهُمَا وَالصَّوَابُ التَّفْرِقَةُ كَمَا ذَكَرْنَا اقْتِدَاءً بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا الْإِمَامُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ رَاوِي السِّيرَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْكَارًا بَلِيغًا وَرَدَّ قَوْلَهُ رَدًّا شَنِيعًا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا جَيِّدًا كَمَا قَدَّمْنَا قَالَ وَلَعَلَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ تَسَمَّوْا بِذِي الْقَرْنَيْنِ تَشَبُّهًا بِالْأَوَّلِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ أُمَّتَيْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصِفَةِ السَّدِّ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ [! فيقول: لبيك وسعديك، والخبر في يديك] : قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وواحد إلى الجنة.
__________
(1) في المسعودي خمس عشرة سنة، وكان عمره لما ملك إحدى وعشرين سنة مات ابن ست وثلاثين.
[*]
(2/129)
فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شديد ".
[قال: فاشتد ذلك عليهم] قالوا يارسول اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُمْ وَاحِدًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا " (1) وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: " أَبْشِرُوا فَإِنَّ فِيكُمْ أُمَّتَيْنِ مَا كَانَتَا في شئ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ ".
أَيْ غَلَبَتَاهُ كَثْرَةً وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَضْعَافُ النَّاسِ مِرَارًا عَدِيدَةً.
ثُمَّ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لِعَبْدِهِ نُوحٍ فِي دُعَائِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) وقال تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) وقال: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) وتقدم في الحديث المروي (2) في المسند والسنن أَنَّ نُوحًا وُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ فَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ وَهُمْ مَغْلُ الْمَغُولِ وَهُمْ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَكْثَرُ
فَسَادًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَنِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِمْ كَنِسْبَةِ هَؤُلَاءِ إِلَى غَيْرِهِمْ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ التُّرْكَ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ حِينَ بَنَى ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ وَأَلْجَأَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كَفَسَادِهِمْ فَتُرِكُوا مِنْ وَرَائِهِ.
فَلِهَذَا قِيلَ لَهُمُ التُّرْكُ.
وَمَنْ زَعَمَ (3) أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ خُلِقُوا مِنْ نُطْفَةِ آدَمَ حِينَ احْتَلَمَ فَاخْتَلَطَتْ بِتُرَابٍ فَخُلِقُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حَوَّاءَ فَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَضَعَّفُوهُ.
وَهُوَ جَدِيرٌ بِذَلِكَ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَهَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ عَلَى أَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَطْوَالٍ مُتَبَايِنَةٍ جِدًّا.
فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ غَايَةٌ فِي الْقِصَرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَرِشُ أُذُنًا مِنْ أُذُنَيْهِ وَيَتَغَطَّى بِالْأُخْرَى فَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ بِلَا دَلِيلٍ وَرَجْمٌ بِالْغَيْبِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَلَى أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ.
وَقَدْ قَالَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا " (4) ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ.
وَهَذَا فَيْصَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَمُوتُ حتَّى يَرَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا (5) فَإِنْ صَحَّ فِي خَبَرٍ قُلْنَا بِهِ وَإِلَّا فَلَا نَرُدُّهُ إِذْ يَحْتَمِلُهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ أَيْضًا قد يرشد إليه
__________
(1) أخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان 96 باب يقول الله لآدم 379 / 222 ص 1 / 201 والبخاري حديث رقم: 1584.
وما بين معكوفين زيادة من مسلم.
وبعث النار: البعث هنا بمعنى المبعوث الموجه إليها، ومعناه ميز أهل النار من غيرهم.
(2) رواه أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالتُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ وَلَا خَيْرَ فِيهِمْ وولد حام القبط والبربر والسودان ".
تقدم تخريجه.
(3) قاله كعب الاحبار.
وفي الخبر أن آدم احتلم ; وفي هذا نظر لان الانبياء لا يحتلمون قاله القرطبي.
(4) أخرجه مسلم في 51 / 11 / 28 / 2841 وأحمد في مسنده ج 2 / 315.
(5) رواه الهيثمي في الزوائد عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ رواه الطبراني في الاوسط وفيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف.
[*]
(2/130)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلْ قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ إِنْ صَحَّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ العبَّاس الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَلَوْ أُرْسِلُوا لَأَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَعَائِشَهُمْ وَلَنْ يَمُوتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا.
وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ ثَلَاثَ أُمَمٍ (تَاوِيلَ وَتَارِيسَ وَمَنْسَكَ) " (1) .
وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَفِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَامْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ وَأَنَّهُ دَعَا تِلْكَ الْأُمَمَ الَّتِي هُنَاكَ (تَارِيسَ وَتَاوِيلَ وَمَنْسَكَ) فَأَجَابُوهُ فَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ اخْتَلَقَهُ أَبُو نعيم عمرو بْنُ الصُّبْحِ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ الْكِبَارِ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِوَضْعِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ دلَّ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ فِدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ يوم القيامة أنهم فِي النَّارِ وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15] فإن كانوا في زمن الَّذِي قَبْلَ بَعْثِ محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَتْهُمْ رُسُلٌ مِنْهُمْ فَقَدْ قَامَتْ عَلَى أُولَئِكَ الْحُجَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا فَهُمْ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ.
وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طُرُقٍ (2) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يُمْتَحَنُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ أَبَى دَخَلَ النَّارَ " وَقَدْ أَوْرَدْنَا الحديث بطرقه وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وَقَدْ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِجْمَاعًا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَامْتِحَانُهُمْ لَا يَقْتَضِي نَجَاتَهُمْ، وَلَا يُنَافِي الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ رَسُولَهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ وَقَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَأَنْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى قَبُولَ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادَ لَهُ فَهُمْ لَا يُجِيبُونَ الدَّاعِيَ إلى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ تَكْذِيبًا لِلْحَقِّ فِي الدُّنْيَا لَوْ بَلَغَهُمْ فِيهَا لِأَنَّ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةَ يَنْقَادُ خَلْقٌ مِمَّنْ كَانَ مُكَذِّبًا فِي الدُّنْيَا فَإِيقَاعُ الْإِيمَانِ هُنَاكَ لِمَا يُشَاهَدُ مِنَ
الْأَهْوَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كَمَا قَالَ تعالى: (وَلَوْ تَرَى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا فعمل صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة: 12] وَقَالَ تَعَالَى: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) [مريم: 38] .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعَاهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَلَمْ يُجِيبُوا " فإنه حديث منكر بل موضوع وضعه عمرو بن الصبح.
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 / 6 وقال رواه الطبراني في الكبير والاوسط ورجاله ثقات.
(2) رواه ابن كثير في تفسير سورة الاسراء - الآية 15 - ج 3 / 48 وما بعدها.
(دار احياء التراث) .
[*]
(2/131)
وَأَمَّا السَّدُّ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ بَنَاهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَسَاوَى بِهِ الْجِبَالَ الصُّمَّ الشَّامِخَاتِ الطِّوَالَ فَلَا يُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَجَلُّ مِنْهُ وَلَا أَنْفَعُ لِلْخَلْقِ مِنْهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ السَّدَّ قَالَ: " وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ " قَالَ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ (1) فَقَالَ: " رَأَيْتَهُ هَكَذَا ".
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ وَلَمْ أَرَهُ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ مُتَّصِلٍ أَرْتَضِيهِ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ مُرْسَلًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حدَّثنا يَزِيدُ، حدَّثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَأَيْتُ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَالَ: " انْعَتْهُ لِي " قَالَ: كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ قَالَ: " قَدْ رَأَيْتَهُ ".
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَاثِقَ بَعَثَ رُسُلًا مِنْ جِهَتِهِ وَكَتَبَ لَهُمْ كُتُبًا إِلَى الْمُلُوكِ يُوصِلُونَهُمْ مِنْ بِلَادٍ إلى بلاد حتى ينهوا إِلَى السَّدِّ فَيَكْشِفُوا عَنْ خَبَرِهِ وَيَنْظُرُوا كَيْفَ بناه ذو القرنين على أَيِّ صِفَةٍ؟ فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا عَنْ صِفَتِهِ وَأَنَّ فِيهِ بَابًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ أَقْفَالٌ وَأَنَّهُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ شَاهِقٌ مُنِيفٌ جِدًّا وَأَنَّ بَقِيَّةَ اللَّبِنِ الْحَدِيدِ وَالْآلَاتِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَزَالُ هُنَاكَ حَرَسٌ لِتِلْكَ الْمُلُوكِ الْمُتَاخِمَةِ لِتِلْكَ الْبِلَادِ وَمَحَلَّتُهُ فِي شَرْقِيِّ الْأَرْضِ فِي جِهَةِ الشَّمَالِ فِي زَاوِيَةِ الْأَرْضِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ بِلَادَهُمْ مُتَّسِعَةٌ جِدًّا وَإِنَّهُمْ يَقْتَاتُونَ بِأَصْنَافٍ مِنَ الْمَعَايِشِ مِنْ حِرَاثَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَاصْطِيَادٍ مِنَ الْبَرِّ وَمِنَ الْبَحْرِ، وَهُمْ أُمَمٌ وَخَلْقٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَا
اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف: 97] وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمٍ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ويلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شرٍ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ " (2) وحلَّق تسعين قلت: يارسول اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالحون؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ (3) .
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ " (4) .
فَالْجَوَابُ أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ أَبْوَابِ الشَّرِّ وَالْفِتَنِ وَأَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ مَحْضَةٌ وَضَرْبُ مَثَلٍ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ
__________
(1) البرد المحبر: الثوب المنمق.
(2) أخرجه مسلم في 52 كتاب الفتن - (1) باب 2 / 2880 ص 4 / 2207 - 2208 والبخاري حديث رقم: 1582.
(3) الخبث: فسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنى خاصة وقيل أولاد الزنى والظاهر أنه المعاصي مطلقا، ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام وإن كان هناك صالحون.
(4) الحديث 3 / 2881 والبخاري رقم 1583 راجع الحاشية رقم (2) .
[*]
(2/132)
نَقْباً) أَيْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِأَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ خَبَرٍ مَاضٍ، فَلَا يَنْفِي وُقُوعَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بإذن الله لهم في ذلك قردا وَتَسْلِيطَهُمْ عَلَيْهِ بِالتَّدْرِيجِ قَلِيلًا قَلِيلًا حتَّى يَتِمَّ الأجل، وينقضي الأمر الْمَقْدُورُ فَيَخْرُجُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [الأنبياء: 96] وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ أَشْكَلُ مِنْ هَذَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَائِلًا: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا
فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وهو كهيئة يوم تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون (1) المياه، وتتحصن الناس فِي حُصُونِهِمْ فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا كَهَيْئَةِ الدَّمِ، فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا (2) فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا " (3) .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لتسمن وتشكر شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عن حسن بن موسى عن سفيان عَنْ قَتَادَةَ بِهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا أَنَّهُ قال حديث أَبُو رَافِعٍ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شُعَاعَ الشَّمْسِ مِنْ وَرَائِهِ لِرِقَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مَحْفُوظًا وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فقد استرحنا من المؤنة وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ صَنِيعَهُمْ (4) هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ اقْتِرَابِ خُرُوجِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) أَيْ نَافِذًا مِنْهُ فَلَا يَنْفِي أَنْ يَلْحَسُوهُ وَلَا يَنْفُذُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عن أبي هريرة فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ أَيْ فُتِحَ فَتْحًا نَافِذًا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وهئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في
__________
(1) في ابن ماجه: ينشفون الماء: أي ينزحونه.
(2) النغف بالتحريك: دود يكون في أنوف الابل والغنم واحدتها: نغفة.
(3) مسند أحمد ج 2 / 510 والترمذي في 48 كتاب تفسير القرآن 19 باب حديث 3153 وقال: هذا حديث حسن غريب.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: ضيعهم وهو تحريف والصواب ما أثبتناه.
(2/133)
الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى.
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً.
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويهئ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً.
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً.
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً.
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً.
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ.
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً.
وَلَا تقولن لشئ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً.
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثلثمائة سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً.
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أحدا) [الْكَهْفِ: 9 - 26] .
كَانَ سَبَبُ نُزُولِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرة
وَغَيْرُهُ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا إِلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ يَمْتَحِنُونَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْهَا لِيَخْتَبِرُوا مَا يُجِيبُ بِهِ فِيهَا فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ أَقْوَامٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهر فَلَا يُدْرَىَ مَا صَنَعُوا، وَعَنْ رَجُلٍ طوَّاف فِي الْأَرْضِ وَعَنِ الرُّوحِ (1) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء: 85] (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) [الكهف: 83] وقال ههنا: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) أَيْ لَيْسُوا بِعَجَبٍ عَظِيمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَطْلَعْنَاكَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْعَظِيمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةِ.
وَالْكَهْفُ: هُوَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ (2) .
قال شعيب
__________
(1) قال ابن إسحاق: إن الذي سأل يهود هو النضر بن الحارث من شياطين قريش وكان يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَادَ ابن إسحاق - فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول.
(2) وفي أقوال: الكهف: النقب (الغار) الواسع في الجبل، فإذا صغر ولم يتسع فهو غار.
[*]
(2/134)
الْجَبَائِيُّ وَاسْمُ كَهْفِهِمْ حَيْزَمُ، وَأَمَّا الرَّقِيمُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْمُرَادُ بِهِ.
وَقِيلَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَرْقُومُ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَمَا جَرَى لَهُمْ كُتِبَ مِنْ بَعْدِهِمُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَقِيلَ هُوَ اسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ كَهْفُهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُعَيْبٌ الْجَبَائِيُّ وَاسْمُهُ بَنَاجْلُوسُ.
وَقِيلَ هُوَ اسْمُ وَادٍ عِنْدَ كَهْفِهِمْ وَقِيلَ اسْمُ قَرْيَةٍ هُنَالِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: وَاسْمُ كَلْبِهِمْ حُمْرَانُ (1) وَاعْتِنَاءُ الْيَهُودِ بِأَمْرِهِمْ وَمَعْرِفَةِ خَبَرِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَمَانَهُمْ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا نَصَارَى.
وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ قَوْمَهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ.
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ وَغَيْرِهِمْ: كَانُوا فِي زَمَنِ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ دِقْيَانُوسُ وَكَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْأَكَابِرِ.
وَقِيلَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي يَوْمِ عِيدٍ لِقَوْمِهِمْ فَرَأَوْا مَا يَتَعَاطَاهُ قَوْمُهُمْ مِنَ السُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْأَوْثَانِ فَنَظَرُوا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ حِجَابَ الْغَفْلَةِ، وَأَلْهَمَهُمْ رُشْدَهُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ لَيْسُوا عَلَى شئ، فَخَرَجُوا عَنْ دِينِهِمْ وَانْتَمَوْا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَيُقَالُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمَّا أَوْقَعَ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ مَا هَدَاهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ انْحَازَ عَنِ النَّاسِ وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ فِي
مَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ: " الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ " فَكُلٌّ مِنْهُمْ سَأَلَ الْآخَرَ عَنْ أمره، وعن شأنه، فأخبره ما هُوَ عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى الِانْحِيَازِ عَنْ قَوْمِهِمْ وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ وَالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنْهُمْ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ حَالَ الْفِتَنِ وَظُهُورِ الشُّرُورِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) [الكهف: 13 - 15] أَيْ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَصَارُوا مِنَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) [الكهف: 15 - 16] أَيْ وَإِذْ فَارَقْتُمُوهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَتَبَرَّأْتُمْ مِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [الزخرف: 27] وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم إذ قد فارقتم قومكم في دينهم، فاعتزلوهم بأبدانكم لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شراً (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويهئ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) أَيْ يُسْبِلْ عَلَيْكُمْ سِتْرَهُ وَتَكُونُوا تَحْتَ حِفْظِهِ وَكَنَفِهِ وَيَجْعَلْ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ إِلَى خَيْرٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ " (2) ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ الْغَارِ الَّذِي آوَوْا إِلَيْهِ وَأَنَّ بَابَهُ مُوَجَّهٌ إِلَى نَحْوِ الشَّمَالِ وَأَعْمَاقَهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ أنفع
__________
(1) اختلف في اسمه قيل: فعن علي: ريان، وابن عباس " قطمير.
وعبد الله بن سلام: بسيط.
وهب: نقيا.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 4 / 181 عن هيثم بن خارجة ثنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس قال سمعت أبي يحدث عن بسر بن أبي أرطأة القرشي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يدعو..وذكر الحديث.
[*]
(2/135)
الْأَمَاكِنِ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ قِبْلِيًّا وَبَابُهُ نَحْوَ الشَّمَالِ فَقَالَ: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ) وَقُرِئَ تَزْوَرُّ: (عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ يَعْنِي فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَأَشْبَاهِهِ تُشْرِقُ أَوَّلَ طُلُوعِهَا فِي الْغَارِ فِي جَانِبِهِ الْغَرْبِيِّ ثُمَّ تَشْرَعُ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ
قليلاً قليلاً وهو ازوارها (1) ذَاتَ الْيَمِينِ فَتَرْتَفِعُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَتَتَقَلَّصُ عَنْ بَابِ الْغَارِ ثُمَّ إِذَا تَضَيَّفَتْ لِلْغُرُوبِ تَشْرَعُ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِ الشَّرْقِيَّةِ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى حِينِ الْغُرُوبِ كَمَا هُوَ المشاهد بمثل هَذَا الْمَكَانِ وَالْحِكْمَةُ فِي دُخُولِ الشَّمْسِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنْ لَا يَفْسُدَ هَوَاؤُهُ (2) (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أَيْ بَقَاؤُهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ دَهْرًا طَوِيلًا مِنَ السِّنِينَ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا تَتَغَذَّى أَجْسَادُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَبُرْهَانِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يظلل فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) [الكهف: 16 - 18] قَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ أَعْيُنَهُمْ مفتوحة لئلا تفسد بطول الغمض (وتقلبهم ذات اليمين وذات الشِّمَالِ) قِيلَ فِي كُلِّ عَامٍ يَتَحَوَّلُونَ مَرَّةً مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ (3) وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فالله أعلم (وَكَلْبُهُمْ باسط ذراعيه بالوصيد) قَالَ شُعَيْبٌ الْجَبَائِيُّ اسْمُ كَلْبِهِمْ حُمْرَانُ، وَقَالَ غَيْرُهُ الْوَصِيدُ أُسْكُفَّةُ الْبَابِ.
وَالْمُرَادُ أَنَّ كَلْبَهُمُ، الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ وَصَحِبَهُمْ حَالَ انْفِرَادِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، لَزِمَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الْكَهْفِ بَلْ رَبَضَ عَلَى بَابِهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْوَصِيدِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ أَدَبِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أُكْرِمُوا بِهِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَمَّا كَانَتِ التَّبَعِيَّةُ مُؤَثِّرَةً حتى كان فِي كَلْبِ هَؤُلَاءِ صَارَ بَاقِيًا مَعَهُمْ بِبَقَائِهِمْ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا سَعِدَ بِهِمْ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ كَلْبٍ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ تَبِعَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْإِكْرَامِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُصَّاصِ وَالْمُفَسِّرِينَ لِهَذَا الْكَلْبِ نَبَأً وَخَبَرًا طَوِيلًا أَكْثَرُهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبٌ وَمِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي اسْمِهِ وَلَوْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلَّةِ هَذَا الْكَهْفِ فَقَالَ كَثِيرُونَ هُوَ بِأَرْضِ أَيْلَةَ.
وَقِيلَ بِأَرْضِ نِينَوَى.
وَقِيلَ بِالْبَلْقَاءِ وَقِيلَ بِبِلَادِ الرُّومِ وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ الْأَنْفَعُ مِنْ خَبَرِهِمْ وَالْأَهَمُّ مِنْ أَمْرِهِمْ وَوَصَفَ حَالَهُمْ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ راءٍ وَالْمُخْبَرَ مُشَاهِدٌ لِصِفَةِ كَهْفِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْكَهْفِ وَتَقَلُّبِهِمْ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ وَأَنَّ كَلْبَهُمْ بَاسِطٌ ذراعيه بالوصيد.
قال:
__________
(1) ازوراها: الزور الميل، تزاور: تتنحى وتميل والازور في العين: المائل النظر إلى ناحية ومن اللفظة قال عنترة: فازور من وقع القنا بلبانه * وشكا إلى بعبرة وتحمحم (2) قال الزجاج: كان ازورار الشمس عن الكهف فعلا خارقا للعادة وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب
الكهف.
قال: ولو كان الامر عاديا مألوفا فلم يكن ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله، علما إن الله تعالى أخبر إِنَّهُمْ كَانُوا فِي متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء ; فالمعنى أنه بقدرته منع وصول ضوء الشمس ; وهو ذلك التزاور والميل.
(انظر القرطبي - تفسير الرازي) .
(3) قال الرازي: " وأقول هذا عجيب لانه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلاثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضاً من غير تقليب؟ ".
[*]
(2/136)
(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أَيْ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ فِي أمرهم الذي صاروا إليه ولعل الخطاب ههنا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله: (فلما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) [التين: 7] أَيْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةِ تَفِرُّ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَهِيبَةِ غَالِبًا وَلِهَذَا قَالَ: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) ودلَّ عَلَى أنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْمُعَايَنَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ حَصَلَ وَلَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ وَلَا الرُّعْبُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ نَوْمِهِمْ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا قَالَ بَعْضُهُمْ (1) لِبَعْضٍ: (كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) [الكهف: 19] أَيْ بِدَرَاهِمِكُمْ هَذِهِ يَعْنِي الَّتِي مَعَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَيُقَالُ كَانَ اسْمُهَا دَفْسُوسَ (2) (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً) أي أطيب (3) مالاً (فليأتكم برزق منه) أَيْ بِطَعَامٍ تَأْكُلُونَهُ وَهَذَا مِنْ زُهْدِهِمْ وَوَرَعِهِمْ (وَلْيَتَلَطَّفْ) أَيْ فِي دُخُولِهِ إِلَيْهَا (وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أَيْ إِنْ عُدْتُمْ فِي مِلَّتِهِمْ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَكُمُ اللَّهُ مِنْهَا وَهَذَا كُلُّهُ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ رَقَدُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ قَدْ رَقَدُوا أزيد من ثلثمائة سنة وقد تبدلت الدول أطورا عَدِيدَةً وَتَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا وَذَهَبَ أُولَئِكَ الْقَرْنُ الَّذِينَ كَانُوا فِيهِمْ وَجَاءَ غَيْرُهُمْ وَذَهَبُوا وَجَاءَ غَيْرُهُمْ وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ تِيذُوسِيسُ (4) فِيمَا قِيلَ وَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُتَنَكِّرًا لِئَلَّا يَعْرِفَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيمَا يَحْسَبُهُ تنكرت له البلاد واستنكره من يراه مِنْ أَهْلِهَا وَاسْتَغْرَبُوا شَكْلَهُ وَصِفَتَهُ وَدَرَاهِمَهُ، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ حَمَلُوهُ
إِلَى مُتَوَلِّيهِمْ، وَخَافُوا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ جَاسُوسًا أَوْ تَكُونُ لَهُ صَوْلَةٌ يَخْشَوْنَ مِنْ مَضَرَّتِهَا، فَيُقَالُ إِنَّهُ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَيُقَالُ بَلْ أَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَانْطَلَقُوا مَعَهُ لِيُرِيَهُمْ مَكَانَهُمْ فَلَمَّا قَرُبُوا مِنَ الْكَهْفِ دَخَلَ إِلَى إِخْوَانِهِ فَأَخْبَرَهُمْ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ وَمِقْدَارَ مَا رَقَدُوا فَعَلِمُوا أن هذا أمر قُدْرَةِ اللَّهِ فَيُقَالُ إِنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا رَاقِدِينَ وَيُقَالُ بَلْ مَاتُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَلْدَةِ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْغَارِ وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ، وَيُقَالُ لَمْ يستطيعوا دخوله حساً (5) ويقال مهابة لهم.
__________
(1) قال الطبري وصاحب بدائع الزهور: القائل هو: يمليخا.
(2) في بدائع الزهور لابن إياس: افسوس من أرض رومية ولما جاء الاسلام غيروا اسمها وسموها ترسوس.
(3) أزكى: أطيب ; والطعام الطيب هنا والمزكى: البعيد عن الغصب ; وقال ابن إياس هو الطعام الذي لا يوضع به شئ من شحم الخنزير.
وقال ابن عبَّاس: أحل ذبيحة.
(4) تقدم التعليق أن اسمه يمليخا ; وفي الطبري أن تيذوسيس هو الملك الذي كان على المدينة حين قيامهم.
وقال المسعودي: اسم الملك: أوالس.
(5) قوله " حسا " كذا بالاصول ولعل المراد: جبنا أو تحسبا.
[*]
(2/137)
وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهِمْ فَقَائِلُونَ يَقُولُونَ (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً) أَيْ سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ لِئَلَّا يَخْرُجُوا أَوْ لِئَلَّا يَصِلَ إِلَيْهِمْ مَا يُؤْذِيهِمْ وَآخَرُونَ وَهُمُ الْغَالِبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ قَالُوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أَيْ مَعْبَدًا يَكُونُ مُبَارَكًا لِمُجَاوَرَتِهِ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ.
وَهَذَا كَانَ شَائِعًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " (1) يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا) [الكهف: 21] فَمَعْنَى أَعْثَرْنَا أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرِهِمُ النَّاسَ.
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الْمَعَادَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا.
إِذَا عَلِمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ رَقَدُوا أَزْيَدَ مِنْ ثلثمائة سَنَةٍ ثُمَّ قَامُوا كَمَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ مَنْ
أَبْقَاهُمْ كَمَا هُمْ، قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ وَإِنْ أَكَلَتْهَا الدِّيدَانُ وَعَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَإِنْ صَارَتْ أَجْسَامُهُمْ وَعِظَامُهُمْ رُفَاتًا وَهَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82] .
هَذَا وَيَحْتَمِلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لِيَعْلَمُوا إِلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ إِذْ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَبْلَغُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَمِيعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فَذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاس فِي كَمِّيَّتِهِمْ فَحَكَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ وَضَعَّفَ الْأَوَّلَيْنِ وَقَرَّرَ الثَّالِثَ فدلَّ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ إِذْ لَوْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ لَحَكَاهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الثَّالِثُ هُوَ الصَّحِيحَ لَوَهَّاهُ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ (2) وَلَمَّا كَانَ النِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا جَدْوَى عِنْدَهُ أَرْشَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَدَبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاس فِيهِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا قَالَ: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بعدتهم) وقوله: (وما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أَيْ مِنَ النَّاسِ (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً) أَيْ سَهْلًا وَلَا تَتَكَلَّفْ إِعْمَالَ الْجِدَالِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ وَلَا تَسْتَفْتِ فِي أَمْرِهِمْ أَحَدًا مِنَ الرِّجَالِ وَلِهَذَا أَبْهَمَ تَعَالَى عِدَّتَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ فَقَالَ: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) ولو كان في تعين عِدَّتِهِمْ كَبِيرُ فَائِدَةٍ لَذَكَرَهَا عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وقوله تعالى: (ولا تقولن لشئ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) [الكهف: 23 - 24] أَدَبٌ عَظِيمٌ أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَحَثَّ خَلْقَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ إِنِّي سَأَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَذَا، فَيُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِعَزْمِهِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غد ولا
__________
(1) أخرجه مسلم في 5 كتاب المساجد - 3 باب 19 / 529 عن عروة بن الزبير عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وأخرجه من عدة طرق عن أبي هريرة وابن عباس، وأخرجه البخاري حديث رقم: 285 و 287.
(2) ذكرهم الطبري قال: قال ابن إسحاق عدد الفتية ثمانية وكلبهم تاسعهم سماهم: مكسملينا - محسملينا - يمليخا - مرطوس - كسوطونس - بيرونس - رسمونس - بطونس - قالوس.
(2 / 40 دار قاموس حديث) .
وقال عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كانوا سبعة واسماؤهم: مكسلمينا - يمليخا - مسليتنا - مرنوس - دبرنوس - ساونوس.
والسابع الراعي / تفسير الرازي.
[*]
(2/138)
يَدْرِي أَهَذَا الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا، وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ تَعْلِيقًا وَإِنَّمَا هُوَ الحقيقي ولهذا قال ابن عباس يَصِحُّ إِلَى سَنَةٍ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ لِهَذَا وَلِهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لَأَطُوفَنَّ الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منه غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُ.
قال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ " (1) .
وَقَوْلُهُ: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَذِكْرُ اللَّهِ يَطْرُدُهُ عَنِ الْقَلْبِ فَيَذْكُرُ مَا كَانَ قَدْ نَسِيَهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) أَيْ إِذَا اشْتَبَهَ أَمْرٌ، وَأَشْكَلَ حَالٌ، وَالْتَبَسَ أقوال الناس في شئ فَارْغَبْ إِلَى اللَّهِ يُيَسِّرْهُ لَكَ وَيُسَهِّلْهُ عَلَيْكَ ثم قال: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثلثمائة سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) .
لَمَّا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِطُولِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ ذَكَرَهَا تَعَالَى وَهَذِهِ التِّسْعُ الْمَزِيدَةُ بالقمرية وهي لتكميل ثلثمائة شَمْسِيَّةٍ فَإِنَّ كُلَّ مِائَةٍ قَمَرِيَّةٍ تَنْقُصُ عَنِ الشمسية ثلاث سنين (قال اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ فَرُدَّ الْأَمْرَ فِي ذلك إلى الله عزوجل (لَهُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِالْغَيْبِ فَلَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) يَعْنِي أَنَّهُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَحَالِّهَا لِعِلْمِهِ التَّامِّ بِخَلْقِهِ وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ ثُمَّ قَالَ: (مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) أي ربك المنفرد بالملك والمنصرف وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قِصَّةُ الرَّجلين الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ بعد قصة أهل الْكَهْفِ: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الجنتين آت أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً.
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً - إلى قوله - هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً)
[الْكَهْفِ: 32 - 44] .
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ وَقَوْلُهُ: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) يَعْنِي لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ فِي عَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ بِالضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَازْدِرَائِهِمْ بِهِمْ وَافْتِخَارِهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) [يس: 13] كَمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّتِهِمْ قَبْلَ قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَيْنِ كَانَا رَجُلَيْنِ مُصْطَحِبَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنًا وَالْآخِرُ كَافِرًا (2) وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ لِكُلٍّ
__________
(1) أخرجه البخاري في كفارات 9 - والايمان 3 وأخرجه مسلم في كتاب الايمان 23، 24 والترمذي في النذور 7 والنسائي في الايمان 43 وابن ماجة في الكفارات 6 ومالك في الموطأ نذور (10) وأحمد في مسنده ج 2 / 275.
(2) قيل من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا.
وقيل هما المذكوران في سورة = [*]
(2/139)
مِنْهُمَا مَالٌ فَأَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ اتخذ له بساتين وَهُمَا الْجَنَّتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الصِّفة والنَّعت المذكور.
فيهما أعناب ونخيل تحف تلك الأعناب والزروع في ذلك والأنهار سارحة ههنا وههنا للسقي والتنزه، وقد استوثقت فِيهِمَا الثِّمَارُ، وَاضْطَرَبَتْ فِيهِمَا الْأَنْهَارُ، وَابْتَهَجَتِ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَافْتَخَرَ مَالِكُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ الْفَقِيرِ قَائِلًا لَهُ: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي أوسع جناناً.
وَمُرَادُهُ: أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ: مَاذَا أَغْنَى عَنْكَ إِنْفَاقُكَ مَا كُنْتَ تَمْلِكُهُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي صَرَفْتَهُ فِيهِ كَانَ الْأَوْلَى بِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا فَعَلْتُ لِتَكَوْنَ مِثْلِي فَافْتَخَرَ عَلَى صاحبه: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) أَيْ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ قَالَ: (ما أظن أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً) وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنِ اتِّسَاعِ أَرْضِهَا، وَكَثْرَةِ مَائِهَا، وَحُسْنِ نَبَاتِ أَشْجَارِهَا وَلَوْ قَدْ بَادَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْجَارِ لَاسْتَخْلَفَ مَكَانَهَا أَحْسَنَ مِنْهَا وَزُرُوعُهَا دَارَّةٌ لِكَثْرَةِ مِيَاهِهَا.
ثُمَّ قال: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) فَوَثِقَ بِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ وَكَذَّبَ بِوُجُودِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الدَّائِمَةِ.
ثُمَّ قَالَ: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً) أَيْ وَلَئِنْ كَانَ ثَمَّ آخِرَةٌ وَمَعَادٌ فَلَأَجِدَنَّ هُنَاكَ خَيْرًا مِنْ هَذَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اغْتَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ فِيهَا.
إِلَّا لِحُبِّهِ لَهُ: وَحَظْوَتِهِ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ خَبَرِهِ وَخَبَرِ خبَّاب بْنِ الْأَرَتِّ
فِي قَوْلِهِ: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا) وَقَالَ: (لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً.
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عهدا) [مريم: 78] وقال تعالى إخباراً عن الإنسان إذا أنعم الله عليه (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) [فُصِّلَتْ: 5] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) [فصلت: 50] وَقَالَ قَارُونُ: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78] أي لعلم الله بي أني أستحقه قال الله تعالى: (أو لم يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78] وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّتِهِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37] .
وَقَالَ تَعَالَى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يشعرون) [المؤمنون: 55] .
ولما اغتر هذا الجاهل بما خول به في الدنيا فجحد الآخرة وادعى أنها إن وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه، وسمعه صاحبه يقول ذلك قال له: (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) أَيْ يُجَادِلُهُ (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) [الكهف: 37] أَيْ أَجَحَدْتَ الْمَعَادَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ.
ثمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ صَوَّرَكَ أَطْوَارًا حَتَّى صِرْتَ رَجُلًا سَوِيًّا سَمِيعًا بَصِيرًا تَعْلَمُ وَتَبْطِشُ وَتَفْهَمُ فَكَيْفَ أَنْكَرْتَ الْمَعَادَ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْبَدَاءَةِ (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) أَيْ لَكِنْ أَنَا أَقُولُ بِخِلَافِ مَا قُلْتَ
__________
= الصافات (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ..) وهما: من أهل مكة: أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ المخزومي المؤمن والأسود بن عبد الأسود، الكافر - (انظر القرطبي - تفسير الرازي) .
[*]
(2/140)
وَأَعْتَقِدُ خِلَافَ مُعْتَقَدِكَ (هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) أَيْ لَا أَعْبُدُ سِوَاهُ.
وَأَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَبْعَثُ الْأَجْسَادَ بَعْدَ فَنَائِهَا، وَيُعِيدُ الْأَمْوَاتَ، وَيَجْمَعُ الْعِظَامَ الرُّفَاتَ، وَأَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي مُلْكِهِ وَلَا إِلَهٍ غَيْرُهُ، ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى مَا كَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَسْلُكَهُ عِنْدَ دُخُولِ جَنَّتِهِ فَقَالَ: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) [الكهف: 39] وَلِهَذَا يستحب لكل من
أعجبه شئ مِنْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ حَالِهِ أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِي صحَّته نَظَرٌ (1) .
قَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حدثنا جراح بن مخلد، حدثنا عمرو بن يوسف، حدَّثنا عِيسَى بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زُرَارَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " (2) فيرى فيه أنه دُونَ الْمَوْتِ وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ عِيسَى بْنُ عَوْنٍ: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَنَسٍ لَا يَصِحُّ.
ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا من السماء) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ أَيْ عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمَطَرُ الْمُزْعِجُ الْبَاهِرُ الَّذِي يَقْتَلِعُ زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) وَهُوَ التُّرَابُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً) وَهُوَ ضِدُّ الْمَعِينِ السَّارِحِ (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) يَعْنِي فَلَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ قَالَ اللَّهُ تعالى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أَيْ جَاءَهُ أَمْرٌ أَحَاطَ بِجَمِيعِ حَوَاصِلِهِ وَخَرَّبَ جَنَّتَهُ وَدَمَّرَهَا (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) [الكهف: 42] أَيْ خَرِبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا عَوْدَةَ لَهَا وَذَلِكَ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمَّلَ حَيْثُ قَالَ: (وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً) وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي كَفَرَ بِسَبَبِهِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ فَهُوَ يَقُولُ: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هناك) [الكهف: 43] أي لم يكن أَحَدٌ يَتَدَارَكُ مَا فَرَطَ مِنْ أَمْرِهِ وَمَا كَانَ لَهُ قدرة في نفسه على شئ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [الطارق: 10] وَقَوْلُهُ: (الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الحق) ومنهم من يبتدئ
__________
(1) عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لابي موسى أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الجنَّة، قلت بلى قال: لا حولا ولا قوة إلا بالله أخرجه مسلم.
وأخرج الترمذي من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من قال باسم الله تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.." قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وأخرجه أبو داود وابن ماجة في سننيهما.
(2) روى الطبراني عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: من أنعم الله عليه نعمة فأراد بقاءها فليكثر مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله.
وروى ابن ماجه عن محمد بن الحسن الخلال عن أنس، قال قال رسول الله: " ما أنعم الله على عبد فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذه " رواه في ثواب التسبيح.
[*]
(2/141)
بقوله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) وهو حسن أيضاً لقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان: 26] فَالْحُكْمُ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ لِلَّهِ الْحَقِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رفع الحق جعله صفة للولاية وَهُمَا مُتَلَازِمَتَانِ وَقَوْلُهُ: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْبًا) [الكهف: 44] أَيْ مُعَامَلَتُهُ خَيْرٌ لِصَاحِبِهَا ثَوَابًا وَهُوَ الْجَزَاءُ وَخَيْرٌ عُقْباً وَهُوَ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَضَمَّنَتْ إنَّه لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْكَنَ إِلَى الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغْتَرَّ بِهَا وَلَا يَثِقَ بِهَا بَلْ يَجْعَلَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ نُصْبَ عَيْنَيْهِ.
وَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ الله أوثق منه بما في يديه.
وَفِيهَا أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا عَلَى طَاعَةِ الله والإنفاق في سبيله عذاب بِهِ، وَرُبَّمَا سُلِبَ مِنْهُ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ.
وَفِيهَا أَنَّ الْوَاجِبَ قَبُولُ نَصِيحَةِ الْأَخِ الْمُشْفِقِ وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ وَبَالٌ وَدَمَارٌ عَلَى مَنْ رَدَّ النَّصِيحَةَ الصَّحِيحَةَ.
وَفِيهَا أَنَّ النَّدَامَةَ لَا تَنْفَعُ إِذَا حَانَ الْقَدَرُ وَنَفَذَ الْأَمْرُ الْحَتْمُ بالله الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ.
وَلَا يَسْتَثْنُونَ.
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ.
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ.
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ.
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ.
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ.
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ.
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ.
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ.
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ.
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ.
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ.
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لو كانوا يعلمون) [القلم: 17 - 33] .
وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم فقابلوه بالتكذيب والمخالفة كما قال تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ.
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار) [إِبْرَاهِيمَ 28 - 29] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَضَرَبَ تَعَالَى لَهُمْ مَثَلًا بِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي قَدِ انْتَهَتْ وَاسْتَحَقَّتْ أَنْ تُجَدَّ وَهُوَ الصِّرَامُ (1) وَلِهَذَا قَالَ: (إِذْ أَقْسَمُوا) فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّهَا) أَيْ لَيَجُدُّنَّهَا وَهُوَ الِاسْتِغْلَالُ (مُصْبِحِينَ) أَيْ وَقْتَ الصُّبْحِ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ فَقِيرٌ وَلَا مُحْتَاجٌ فيعطوه شيئاً فخلفوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا فِي يَمِينِهِمْ، فَعَجَّزَهُمُ اللَّهُ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا الْآفَةَ الَّتِي أَحْرَقَتْهَا وَهِيَ السَّفْعَةُ (2) الَّتِي اجْتَاحَتْهَا وَلَمْ تُبْقِ بِهَا شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ.
فَأَصْبَحَتْ
__________
(1) الصرام: يقال قد صرم العذق عن النخلة، وأصرم النخل إذا حان وقت صرامه، أي قطعه وقطاف ثمره.
(2) السفعة: العين ; المراد بها هنا عذاب، وقيل إن الطائف هو جبريل فاقتلعها فأصبحت الجنة كالصريم ; وقال الكلبي: أنَّ الله أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون.
[*]
(2/142)
كَالصَّرِيمِ) أَيْ كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ الْمُنْصَرِمِ مِنَ الضِّيَاءِ وَهَذِهِ معاملة بنقيض المقصود (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ) أَيْ فَاسْتَيْقَظُوا مِنْ نَوْمِهِمْ فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ: (اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) أَيْ بَاكِرُوا إِلَى بُسْتَانِكُمْ فَاصْرِمُوهُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَفِعَ النَّهَارُ وَيَكْثُرَ السُّؤَالُ (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) أَيْ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خُفْيَةً قَائِلِينَ: (لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أَيْ اتَّفِقُوا عَلَى هَذَا وَاشْتَوِرُوا عَلَيْهِ (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِيْن) أَيْ انْطَلَقُوا مُجِدِّينَ فِي ذَلِكَ قَادِرِينَ عَلَيْهِ، مضمرين عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ) أَيْ غَضَبٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَأَبْعَدَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ أَنَّ اسْمَ حَرْثِهِمْ حَرْدٌ (فَلَمَّا رَأَوْهَا) أَيْ وَصَلُوا إِلَيْهَا، وَنَظَرُوا مَا حَلَّ بِهَا، وَمَا قَدْ صَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ الْمُنْكَرَةِ بَعْدَ تِلْكَ النَّضْرَةِ، وَالْحُسْنِ وَالْبَهْجَةِ فَانْقَلَبَتْ بِسَبَبِ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي قد نهينا عَنْهَا، وَسَلَكْنَا غَيْرَ طَرِيقِهَا ثُمَّ
قَالُوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي بل عوقبنا بسب سُوءِ قَصْدِنَا وَحُرِمْنَا بَرَكَةَ (1) حَرْثِنَا (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ هُوَ أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) قيل يستثنون، قاله مجاهد والسدي وابن جرير وَقِيلَ تَقُولُونَ خَيْرًا بَدَلَ مَا قُلْتُمْ مِنَ الشَّرِّ (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) .
فَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، وَاعْتَرَفُوا بِالذَّنْبِ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ، وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يَنْجَعُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا إِخْوَةً وَقَدْ وَرِثُوا هذه الجنة من أَبِيهِمْ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْهَا كَثِيرًا، فَلَمَّا صَارَ أَمْرُهَا إِلَيْهِمُ اسْتَهْجَنُوا أَمْرَ أَبِيهِمْ، وَأَرَادُوا اسْتِغْلَالَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطُوا الْفُقَرَاءَ شَيْئًا، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ مِنَ الثِّمَارِ، وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْجَدَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [الأنعام: 141] ثُمَّ قِيلَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا ضِرْوَانُ (2) .
وَقِيلَ مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ) أَيْ هَكَذَا نُعَذِّبُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَنَا وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الْمَحَاوِيجِ مِنْ خَلْقِنَا (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أعظم وأحكم من عذاب الدنيا (لَوْ كَانُوا يعلمون) [القلم: 33] .
وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى: (ضَرَبَ (3) اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كل مكان
__________
(1) روى ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيئ له - ثم تلا - (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ من ربك) الآيتين.
(2) ضروان من أرض اليمن على فرسخ من صنعاء.
(3) سورة النحل الآية 112 ونصها: (وضرب الله..) قالوا فيها: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لاهل مكة لما خرجوا إلى بدر حلفوا على أن يقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا.
وقيل هو وعظ لاهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ; (انظر تفسير القرطبي - تفسير الرازي) .
[*]
(2/143)
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [النحل: 112 - 113] قِيلَ هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَقِيلَ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْفُسُهُمْ ضَرَبَهُمْ مَثَلًا لِأَنْفُسِهِمْ ولا ينافي ذلك والله أعلم اه.
قِصَّةُ أَصْحَابِ أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.
فَلَمَّا عتوا عما نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الْأَعْرَافِ: 163 - 166] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قردة خاسئين.
فجعلنا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً للمتقين) [الْبَقَرَةِ: 65 - 66] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) [النساء: 47] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ هُمْ أَهْلُ أَيْلَةَ.
زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ مَدْيَنَ وَالطُّورِ.
قَالُوا وَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ التَّوْرَاةِ فِي تَحْرِيمِ السَّبْتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ قَدْ أَلِفَتْ مِنْهُمُ السَّكِينَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الصَّنَائِعِ، وَالتِّجَارَاتِ، وَالْمَكَاسِبِ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ فِي مِثْلِ يَوْمِ السَّبْتِ يَكْثُرُ غَشَيَانُهَا لِمَحِلَّتِهِمْ مِنَ البحر، فتأتي من ههنا وههنا ظَاهِرَةً آمِنَةً مُسْتَرْسِلَةً، فَلَا يُهَيِّجُونَهَا وَلَا يَذْعَرُونَهَا (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَادُونَهَا فِيمَا عَدَا السَّبْتِ قال الله تعالى: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ) أَيْ نَخْتَبِرُهُمْ بِكَثْرَةِ الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ فلمَّا رَأَوْا ذَلِكَ احْتَالُوا عَلَى اصْطِيَادِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِأَنْ نَصَبُوا الْحِبَالَ وَالشِّبَاكَ وَالشُّصُوصَ وَحَفَرُوا الْحُفَرَ الَّتِي يَجْرِي مَعَهَا الْمَاءُ إِلَى مَصَانِعَ قَدْ أَعَدُّوهَا إِذَا دَخَلَهَا
السَّمَكُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا فَفَعَلُوا ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا جَاءَتِ الْحِيتَانُ مُسْتَرْسِلَةً يَوْمَ السَّبْتِ عَلِقَتْ بِهَذِهِ الْمَصَايِدِ، فَإِذَا خَرَجَ سَبْتُهُمْ أَخَذُوهَا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ لَمَّا احْتَالُوا عَلَى خِلَافِ أَمْرِهِ، وَانْتَهَكُوا مَحَارِمَهُ بِالْحِيَلِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ لِلنَّاظِرِ، وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ مُخَالَفَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ افْتَرَقَ الَّذِينَ لَمْ يَفْعَلُوا فِرْقَتَيْنِ.
فِرْقَةٌ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ صَنِيعَهُمْ هَذَا وَاحْتِيَالَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَفِرْقَةٌ أُخْرَى لَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَنْهَوْا بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى الَّذِينَ نَهَوْا وَقَالُوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً) يقولون مَا الْفَائِدَةُ فِي نَهْيِكُمْ هَؤُلَاءِ وَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ لَا مَحَالَةَ فَأَجَابَتْهُمُ الطَّائِفَةُ الْمُنْكِرَةُ بِأَنْ قالوا: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) أَيْ فِيمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهي عَنِ الْمُنْكَرِ فَنَقُومُ بِهِ خَوْفًا مِنْ عذابه (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لعل هَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ فَيَقِيهِمُ اللَّهُ عَذَابَهُ وَيَعْفُو عَنْهُمْ إِذَا هم رجعوا
(2/144)
وَاسْتَمَعُوا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) أَيْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ الْفَظِيعِ (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْآمِرَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَةُ عَنِ الْمُنْكَرِ (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المرتكبون الفاحشة (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) وَهُوَ الشَّدِيدُ الْمُؤْلِمُ الْمُوجِعُ (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) .
ثم فسر العذاب الذي أصابهم فبقوله: (فلما عتوا عما نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) .
وسنذكر ما ورد من الآيات فِي ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الظَّالِمِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْكِرِينَ وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِمُ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنَ النَّاجِينَ وَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ وذلك عن مُنَاظَرَةِ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ فَكَسَاهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حُلَّةً سَنِيَّةً تَكْرِمَةً.
قُلْتُ وَإِنِمَّا لَمْ يُذْكَرُوا مَعَ النَّاجِينَ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَرِهُوا بِبَوَاطِنِهِمْ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا ظَوَاهِرَهُمْ بِالْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْإِنْكَارِ الْقَوْلِيِّ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ: الَّتِي أَعْلَاهَا الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ ذَاتِ الْبَنَانِ، وَبَعْدَهَا الْإِنْكَارُ الْقَوْلِيِّ بِاللِّسَانِ، وَثَالِثُهَا الْإِنْكَارُ بِالْجَنَانِ.
فَلَمَّا لَمْ يذكروا نجوا مَعَ النَّاجِينَ إِذْ لَمْ يَفْعَلُوا الْفَاحِشَةَ بَلْ
أنكروها.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَى مَالِكٌ: عَنِ ابْنِ رُومَانَ، وَشَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مَا مَضْمُونُهُ: أَنَّ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا هَذَا الصُّنْعَ اعْتَزَلَهُمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَنَهَاهُمْ مَنْ نَهَاهُمْ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا فَكَانُوا يَبِيتُونَ وَحْدَهُمْ، وَيُغْلِقُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ أَبْوَابًا حَاجِزًا لِمَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ مِنْ هَلَاكِهِمْ فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْوَابُ نَاحِيَتِهِمْ مُغْلَقَةٌ لَمْ يَفْتَحُوهَا وَارْتَفَعَ النَّهَارُ وَاشْتَدَّ الضُحَاءُ فَأَمَرَ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ عَلَى سَلَالِمَ، وَيُشْرِفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ إِذَا هُمْ قِرَدَةٌ لَهَا أَذْنَابٌ يَتَعَاوَوْنَ وَيَتَعَادَوْنَ فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الأبواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقولون لَهُمُ النَّاهُونَ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ صَنِيعِكُمْ فَتُشِيرُ القردة برؤوسها أَنْ نَعَمْ.
ثُمَّ بَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: إِنَّا لَنَرَى مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةً.
وَلَا نُنْكِرُهَا وَلَا نَقُولُ فِيهَا شَيْئًا.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَارَ شَبَابُ الْقَرْيَةِ قِرَدَةً وَشُيُوخُهَا خَنَازِيرَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا إِلَّا فُوَاقًا ثُمَّ هَلَكُوا مَا كَانَ لَهُمْ نَسْلٌ وَقَالَ الضحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ لَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَشْرَبُوا وَلَمْ يَنْسِلُوا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْآثَارَ فِي ذَلِكَ فِي تفسير سورة البقرة والأعراف.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضربه الله (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسفارا) [الجمعة: 5] وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَيْهِ وَغَرِيبٌ مِنْهُ جِدًّا وَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ من السَّلف والخلف والله أعلم.
قصة أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ (إِذْ جاءها الْمُرْسَلُونَ) تقدم ذكرها قبل قصَّة موسى عليه السلام.
(2/145)
قصة سبأ سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قصة قارون وقصة بلعام
تقدمتا في قصَّة موسى.
وهكذا (قصة الخضر) و (قصة فرعون والسحرة) كلها في ضمن قصة موسى و (قصة البقرة) تقدمت في قصَّة موسى.
وقصة (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) في قصة حزقيل.
وقصة (الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) في قصة شمويل.
وقصة (الذي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) في قصة عزير.
قِصَّةُ لُقْمَانَ قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بَنِيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تطعمها وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرض يأتي بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مختار فَخُورٍ.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [القمان: 12 - 19] هُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَاءَ بْنِ سَدُونَ (1) .
وَيُقَالَ لُقْمَانُ بْنُ ثَارَانَ (2) حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَالْقُتَيْبِيِّ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَكَانَ نُوبِيًّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ.
قُلْتُ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا ذَا عِبَادَةٍ وَعِبَارَةٍ وَحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ.
وَيُقَالُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا (3) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا انْتَهَى الَيْكُمْ فِي شَأْنِ لُقْمَانَ؟ قَالَ: كَانَ قصيراً أفطس من النوبة.
وقال:
__________
(1) في مروج الذهب: لقمان بن عنقاء بن مربد بن صاوون.
وكان نوبيا مولى للقين بن جسر
(2) قال ابن قتيبة في المعارف: كان اسم ابنه ثاران.
وفي القرطبي: قال السيهلي: اسم ابنه ثاران في قول الطبري والقتبي.
(3) في المعارف: عن سعيد بن المسيب: كان خياطا.
وزاد: كان عبداً حبشياً.
[*]
(2/146)
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ ذو مَشَافِرَ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَمَنَعَهُ النُّبُوَّةَ (1) .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَالَ: جَاءَ أَسْوَدُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَا تَحْزَنَ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ أَسْوَدُ فإنَّه كَانَ مِنْ أَخْيَرِ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ مِنَ السُّودَانِ بِلَالٌ وَمِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ وَلُقْمَانُ الْحَكِيمُ كَانَ أَسْوَدَ نُوبِيًّا ذَا مَشَافِرَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا أَسْوَدَ عَظِيمَ الشَّفَتَيْنِ مُشَقَّقَ الْقَدَمَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ مصفح القدمين.
وقال عمر بْنُ قَيْسٍ: كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ مُصَفَّحَ الْقَدَمَيْنِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ أُنَاسٍ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعِيَ الْغَنَمَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ وَالصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عن الحكم عنه.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حدَّثنا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابن أبي يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ لقمان الحكيم لحكمته، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ ألست عبد ابن فلان الذي كنت ترعى غنمي بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: قَدَرُ اللَّهِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ الفتياني عن عمر مولى عفرة، قَالَ: وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى لُقْمَانَ الْحَكِيمِ فَقَالَ: أنت لقمان أنت عبد بني النحاس؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَنْتَ رَاعِي الْغَنَمِ الْأَسْوَدُ؟ قَالَ: أَمَّا سَوَادِي فَظَاهِرٌ فَمَا الَّذِي يُعْجِبُكَ من أمري قال وطئ النَّاسِ بِسَاطَكَ وَغَشْيُهُمْ بَابَكَ وَرِضَاهُمْ بِقَوْلِكَ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي إِنْ صَنَعْتَ مَا أَقُولُ لَكَ كُنْتَ كَذَلِكَ قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ لقمان: غضي بصري وكفي لساني، وعفة مطمعي، وَحِفْظِي فَرْجِي، وَقِيَامِي بِعُدَّتِي، وَوَفَائِي بِعَهْدِي، وَتَكْرُمَتِي ضَيْفِي، وَحِفْظِي جَارِي، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي، فَذَاكَ الَّذِي صَيَّرَنِي كَمَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا
أَبِي، حَدَّثَنَا ابن فضيل، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا وَذَكَرَ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ فَقَالَ: مَا أُوتِيَ عَنْ أَهْلٍ، وَلَا مَالٍ، وَلَا حَسَبٍ، ولا خصال ولكنه كان رجلاً ضمضامة، سِكِّيتًا طَوِيلَ التَّفَكُّرِ، عَمِيقَ النَّظَرِ، لَمْ يَنَمْ نَهَارًا قَطُّ، وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يَبْزُقُ، وَلَا يتنحنح، وَلَا يَبُولُ، وَلَا يَتَغَوَّطُ، وَلَا يَغْتَسِلُ، وَلَا يَعْبَثُ، وَلَا يَضْحَكُ، وَكَانَ لَا يُعِيدُ مَنْطِقًا نَطَقَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ حِكْمَةً يَسْتَعِيدُهَا إِيَّاهُ أَحَدٌ، وَكَانَ قَدْ تزوَّج وَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ فَمَاتُوا فَلَمْ يَبْكِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ يَغْشَى السُّلْطَانَ وَيَأْتِي الْحُكَّامَ لِيَنْظُرَ وَيَتَفَكَّرَ وَيَعْتَبِرَ فَبِذَلِكَ أُوتِيَ مَا أُوتِيَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عُرِضَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةَ فَخَافَ أَنْ لَا يَقُومُ بِأَعْبَائِهَا فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جرير
__________
(1) وفي المعارف: روى يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب أنه قال: كان لقمان نبيا.
وعلق صاحب المعارف: ولم يكن نبياً في قول أكثر الناس.
وفي بدائع ابن إياس عن وهب بن منبه قال: كان من الانبياء ثلاثة سود الالوان: لقمان وذو القرنين ونبي الله صاحب الاخدود.
ج 1 ص 250.
[*]
(2/147)
مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا وَهَذَا ضَعِيفٌ لِحَالِ الْجُعْفِيِّ.
وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا وَلِيًّا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيّاً، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَحَكَى مِنْ كَلَامِهِ فِيمَا وَعَظَ بِهِ وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْ أَوَّلِ ما وعظ به أن قال: (يَا بَنِيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] .
فَنَهَاهُ عَنْهُ وَحَذَّرَهُ مِنْهُ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ لقمان: (يَا بَنِيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) رواه مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ بِهِ.
ثُمَّ اعْتَرَضَ تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ
بِالْوَالِدَيْنِ وَبَيَانِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ وَتَأَكُّدِهِ، وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا حَتَّى وَلَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلَكِنْ لَا يُطَاعَانِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِمَا إِلَى أَنْ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ لُقْمَانَ فِيمَا وَعَظَ بِهِ وَلَدَهُ (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16] يَنْهَاهُ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ وَلَوْ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ عَنْهَا وَيُحْضِرُهَا حَوْزَةَ الْحِسَابِ وَيَضَعُهَا فِي الْمِيزَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47] وَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا الظُّلْمَ لَوْ كَانَ فِي الْحَقَارَةِ كَالْخَرْدَلَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي جَوْفِ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، لَا بَابَ لَهَا وَلَا كوة، أو لو كانت ساقطة في شئ من ظلمات الأرض أو السموات فِي اتِّسَاعِهِمَا وَامْتِدَادِ أَرْجَائِهِمَا، لَعَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا (إن الله لطيف خبير) أَيْ عِلْمُهُ دَقِيقٌ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ الذَّرُّ مما ترا آي لِلنَّوَاظِرِ، أَوْ تَوَارَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59] وَقَالَ: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [النمل: 75] وَقَالَ: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [سبأ: 3] وَقَدْ زَعَمَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الصَّخْرَةِ، الصَّخْرَةُ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَهَكَذَا حُكِيَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمر وَغَيْرِهِمْ وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَصْلِهِ نظر.
ثم إن في هذا الْمُرَادُ نَظَرٌ آخَرُ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَكِرَةٌ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَا قَالُوهُ لَقَالَ فَتَكُنْ فِي الصَّخْرَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فتكن في صَخْرَةٍ كَانَتْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لخرج عمله
(2/148)
لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ " (1) ثُمَّ قَالَ: (يَا بني أَقِمِ الصَّلَاةَ) أَيْ أَدِّهَا بِجَمِيعِ وَاجِبَاتِهَا مِنْ حُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَطُمَأْنِينَتِهَا وَخُشُوعِهَا وَمَا شُرِعَ فِيهَا واجتنب ما ينهي عَنْهُ فِيهَا.
ثُمَّ
قَالَ: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أَيْ بِجُهْدِكَ وَطَاقَتِكَ أَيْ إِنِ اسْتَطَعْتَ بِالْيَدِ فَبِالْيَدِ، وَإِلَّا فَبِلِسَانِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِكَ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) وَذَلِكَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يُعَادَى وَيُنَالَ مِنْهُ، وَلَكِنَّ لَهُ الْعَاقِبَةُ، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ الْفَرَجُ وَقَوْلُهُ: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان: 18] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مَعْنَاهُ لَا تَتَكَبَّرْ عَلَى النَّاسِ وَتُمِيلُ خَدَّكَ حَالَ كَلَامِكَ لَهُمْ وَكَلَامِهِمْ لَكَ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ وَالِازْدِرَاءِ لَهُمْ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَصْلُ الصَّعَرِ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ في أعناقها فتلتوي رؤوسها فَشَبَّهَ بِهِ الرَّجُلَ الْمُتَكَبِّرَ الَّذِي يَمِيلُ وَجْهُهُ إِذَا كَلَّمَ النَّاسَ أَوْ كَلَّمُوهُ عَلَى وَجْهِ التعظم عَلَيْهِمْ.
قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ: وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً * إِذَا مَا ثَنَوْا صُعر الخدود نقيمها وقال عمرو بن حيي (2) التَّغْلِبِيُّ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ * أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا (3) وَقَوْلُهُ: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) يَنْهَاهُ عَنِ التَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَظَمَةِ وَالْفَخْرِ عَلَى النَّاس كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء: 37] .
يَعْنِي لَسْتَ بِسُرْعَةِ مَشْيِكَ تَقْطَعُ الْبِلَادَ فِي مشيتك هذه، ولست بدقك الأرض برجلك تخرق الْأَرْضَ بِوَطْئِكَ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ بِتَشَامُخِكَ وَتَعَاظُمِكَ وَتَرَفُّعِكَ تَبْلُغُ الْجِبَالَ طُولًا، فَاتَّئِدْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَسْتَ تَعْدُوَ قَدْرَكَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ يَتَبَخْتَرُ فِيهِمَا، إِذْ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة (4)
__________
(1) مسند أحمد 3 / 28.
(2) في القرطبي: حنى التغلبي.
(3) قال ابن عطية: تقوما خطأ لان قافية الشعر مخفوضة وقبله في معجم الشعراء للمرزباني:
تعاطى الملوك الحق ما قصدوا بنا * وليس علينا قتلهم بمجرم وقال المرزباني وهذا البيت - بيت الشاهد ; يروى من قصيدة المتلمس التي أولها: يعيرني أمي رجال ولن ترى * أخا كرم إلا بأن يتكرما (4) أخرجه البخاري في كتاب اللباس (5) وكتاب الانبياء (54) ومسلم في كتاب اللباس 49 - 50 والنسائي في الزينة (101) وابن ماجة في الفتن 22 والدارمي في المقدمة (40) وأحمد في مسنده 2 / 66 - 267 - 315، 390، 413، 456، 467، 531، 3 / 40.
[*]
(2/149)
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " إِيَّاكَ وَإِسْبَالُ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا من المخيلة لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ " (1) كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الِاخْتِيَالِ فِي الْمَشْيِ أَمَرَهُ بالقصد فيه، فإنه لا بد لَهُ أَنْ يَمْشِيَ فَنَهَاهُ عَنِ الشَّرِّ وَأَمَرَهُ بالخير، فقال: (واقصد في مشيك) أَيْ لَا تَتَبَاطَأْ مُفْرِطًا وَلَا تُسْرِعْ إِسْرَاعًا مُفْرِطًا وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) [الفرقان: 63] ثُمَّ قَالَ: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) [لقمان: 19] يَعْنِي إذا تكلمت لا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ صَوْتِكَ، فَإِنَّ أَرْفَعَ الْأَصْوَاتِ وَأَنْكَرَهَا صَوْتُ الْحَمِيرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ الْحَمِيرِ بِاللَّيْلِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا (2) ، وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ حَيْثُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْعُطَاسِ فَيُسْتَحَبُّ خَفْضُ الصَّوْتِ، وَتَخْمِيرُ الْوَجْهِ كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنْ صَنِيعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ إِلَى الْفِئَةِ لِلْقِتَالِ، وَعِنْدَ الإهلاك وَنَحْوِ ذَلِكَ فَذَلِكَ مَشْرُوعٌ فَهَذَا مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي القرآن من الحكم وَالْوَصَايَا النَّافِعَةِ الْجَامِعَةِ لِلْخَيْرِ الْمَانِعَةِ مِنَ الشَّرِّ وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي أَخْبَارِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَقَدْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ يُسَمَّى بِحِكْمَةِ لُقْمَانَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ المبارك، أنبأنا سفيان، أخبرني نهيك ابن يجمع الضَّبِّيُّ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ
كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ " (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حدَّثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قال: " قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ إياك والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بِالنَّهَارِ ".
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بن عمارة، حدَّثنا ضَمْرَةُ، حدَّثنا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: " يَا بُنَيَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ " وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِذَا أتيت نادي قوم فأدمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس بناحيتهم فَلَا تَنْطِقُ حَتَّى تَرَاهُمْ قَدْ نَطَقُوا، فَإِنْ أَفَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَأَجِلْ سَهْمَكَ مَعَهُمْ، وإن
__________
أخرجه أحمد في مسنده 4 / 65، 5 / 63، 64، 378 وأخرجه أبو داود في سننه كتاب اللباس باب 24.
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (15) وأبو داود في كتاب الادب (106) والترمذي في كتاب الدعوات (56) .
أقول في الآية: - دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير لانها عالية.
- هذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة.
(3) مسند أحمد ج 2 / 87.
[*]
(2/150)
أفاضوا في غير ذلك فحول عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ: وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حدَّثنا ضَمْرَةُ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ وَضَعَ لُقْمَانُ جِرَابًا مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى جَانِبِهِ وَجَعَلَ يَعِظُ ابْنَهُ وَعْظَةً وَيُخْرِجُ خَرْدَلَةً حَتَّى نَفِدَ الْخَرْدَلُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر قَالَ فَتَفَطَّرَ ابْنُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ، حدَّثنا عُثْمَانُ بن عبد الرحمن الطرائفي، عن ابن سُفْيَانَ الْمَقْدِسِيُّ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتَّخِذُوا السُّودَانَ فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ مَنْ أهلَّ الْجَنَّةِ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ وَالنَّجَّاشِيُّ وَبِلَالٌ
الْمُؤَذِّنُ " قال الطبراني يعني الحبشي وهذا حديث غريب منكر.
وقد ذكر له الإمام أحمد في كتاب الزاهد ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جَمَّةً فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) قَالَ الْفِقْهَ وَالْإِصَابَةَ فِي غَيْرِ نُبُوَّةٍ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا.
وَحَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يزيد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ خياطاً (1) .
وحدثنا سياد، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ اتَّخِذْ طَاعَةَ اللَّهِ تِجَارَةً تَأْتِكَ الْأَرْبَاحُ مِنْ غَيْرِ بِضَاعَةٍ.
وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، قَالَ كَانَ لُقْمَانُ يَقُولُ لابنه: يا بني اتق الله ولا تُري النَّاسَ أَنَّكَ تَخْشَى اللَّهَ لِيُكْرِمُوكَ بِذَلِكَ وَقَلْبُكَ فاجر.
وحدثنا يزيد بن هرون، وَوَكِيعٌ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، عَنْ خَالِدٍ الرِّبْعِيِّ، قَالَ كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: اذْبَحْ لِي شَاةً، فَذَبَحَ له شاة، فقال ائْتِنِي بِأَطْيَبِ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، فقال [له] (2) : أما كان فيها شئ أَطْيَبَ مِنْ هَذَيْنَ.
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ مَا سَكَتَ ثمَّ قَالَ لَهُ اذْبَحْ لِي شَاةً فَذَبَحَ لَهُ شَاةً فَقَالَ لَهُ: وألق أَخْبَثَهَا مُضْغَتَيْنِ فَرَمَى بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ.
فَقَالَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا مُضْغَتَيْنِ فَأَتَيْتَنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تُلْقِيَ أَخْبَثَهَا مُضْغَتَيْنِ فَأَلْقَيْتَ اللِّسَانَ والقلب، فقال له: إنه ليس شئ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا، وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خَبُثَا (3) .
وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: لَا تَرْغَبْ فِي وُدِّ الْجَاهِلِ فَيَرَى أَنَّكَ تَرْضَى عمله، ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهده فيك.
وحدثنا داود بن أسيد، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زرعة، عن
__________
(1) أنظر كتاب المعارف لابن قتيبة: رواه عن يزيد بن هارون عن حماد به.
ص 25.
(2) زيادة من تفسير القرطبي.
(3) في هذا المعنى رفع أكثر من حديث من ذلك قوله صلَّى الله عليه وسلم: " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صلح الجسد كله وإذا فسدت الجسد كله ألا وهي القلب " وجاء في اللسان قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: " من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ;
ما بين لحييه ورجليه ".
[*]
(2/151)
شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ: أَلَا إِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى أَفْوَاهِ الْحُكَمَاءِ، لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ إِلَّا مَا هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: كُنْتُ أقنّع رأسي بالليل، فقال لي عمر: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ: الْقِنَاعُ بِالنَّهَارِ مَذَلَّةٌ مَعْذِرَةٌ أَوْ قَالَ مَعْجَزَةٌ بِاللَّيْلِ فَلِمَ تُقَنِّعُ رَأْسَكَ بِاللَّيْلِ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ لُقْمَانَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بن الجنيد، حدثنا سفيان قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ مَا نَدِمْتُ على السكوت قَطُّ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ فِضَّةٍ فَالسُّكُوتُ مِنْ ذَهَبٍ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ وَوَكِيعٌ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ لُقْمَانَ قال لابنه: يا بني اعتزل الشر يعتز لك فَإِنَّ الشَّرَّ لِلشَّرِّ خُلِقَ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالرَّغَبَ، فَإِنَّ الرَّغَبَ كُلَّ الرَّغَبِ يُبْعِدُ الْقَرِيبُ مِنَ القريب ويزيل الحكم كَمَا يُزِيلُ الطَّرَبَ، يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَشِدَّةَ الْغَضَبِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْغَضَبِ مَمْحَقَةٌ لِفُؤَادِ الْحَكِيمِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ اخْتَرِ الْمَجَالِسَ عَلَى عَيْنِكَ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْمَجْلِسَ يذكر فيه الله عزوجل فَاجْلِسْ مَعَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ تَكُ عَالِمًا يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ وَإِنْ تَكُ غَبِيًّا يُعَلِّمُوكَ وَإِنْ يَطَّلِعِ الله عليهم برحمة تصيبك مَعَهُمْ.
يَا بَنِيَّ لَا تَجْلِسْ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكُ عَالِمًا لَا يَنْفَعُكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُ غبياً يزيدوك غبياً وَإِنْ يَطَّلِعِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسُخْطٍ يصيبك معهم يَا بَنِيَّ لَا تغبطوا أمراء رَحْبَ الذِّرَاعَيْنِ يَسْفِكُ دِمَاءَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَاتِلًا لَا يَمُوتُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: بُنِيَّ لِتَكُنْ كَلِمَتُكَ طَيِّبَةً، وَلْيَكُنْ وَجْهُكَ بَسْطًا تَكُنْ أَحَبَّ إِلَى النَّاسِ مِمَّنْ يُعْطِيهِمُ الْعَطَاءَ.
وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَوِ فِي التَّوْرَاةِ: " الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَةِ " وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوراة كَمَا تَرحمون تُرحمون وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: " كَمَا تَزْرَعُونَ تَحْصُدُونَ " وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَحِبَّ خَلِيلَكَ وَخَلِيلَ
أَبِيكَ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: قِيلَ لِلُقْمَانَ أَيُّ النَّاسِ أَصْبَرُ؟ قَالَ: صَبْرٌ لَا يَتْبَعُهُ أَذًى.
قِيلَ فَأَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ مَنِ ازْدَادَ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ.
قِيلَ فَأَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ الْغَنِيُّ.
قِيلَ الْغَنِيُّ مِنَ الْمَالِ قَالَ لَا وَلَكِنَّ الْغَنِيَّ الَّذِي إِذَا الْتُمِسَ عِنْدَهُ خَيْرٌ وُجِدَ وَإِلَّا أَغْنَى نَفْسَهُ عَنِ النَّاسِ.
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ قِيلَ لِلُقْمَانَ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَالَ الَّذِي لَا يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مسيئاً.
وحدثنا أبو الصَّمَدِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: وَجَدْتُ فِي بَعْضِ الْحِكْمَةِ يُبَدِّدُ اللَّهُ عِظَامَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَهْوَاءِ النَّاسِ وَوَجَدْتُ فِيهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِي أَنْ تَعْلَمَ مَا لَمْ تَعْلَمْ وَلَمَّا تَعْمَلْ بِمَا قَدْ عَلِمْتَ فَإِنَّ مَثَلَ ذلك رَجُلٍ احْتَطَبَ حَطَبًا فَحَزَمَ حُزْمَةً ثُمَّ ذَهَبَ يحملها فعجز عنها فضم إليه أُخْرَى.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ، وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ
(2/152)
فَضَالَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بَنِيَّ لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا الْأَتْقِيَاءُ وَشَاوِرْ فِي أَمْرِكَ الْعُلَمَاءَ.
وَهَذَا مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْآثَارِ كَثِيرًا لَمْ يَرْوِهَا كَمَا أَنَّهُ ذَكَرَ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا العبَّاس بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: خَيَّرَ اللَّهُ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ.
قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ فذرَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ قَالَ فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا.
قَالَ سعد سمعت قَتَادَةَ يَقُولُ: قِيلَ لِلُقْمَانَ كَيْفَ اخْتَرْتَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ وَقَدْ خَيَّرَكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ أُرْسِلَ إِلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ عَزْمَةً (1) لَرَجَوْتُ فِيهِ الْفَوْزَ مِنْهُ (2) ، وَلَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَقُومَ بِهَا وَلَكِنْ خَيَّرَنِي فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنِ النُّبُوَّةِ فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ أَحَبَّ إِلَيَّ.
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَالَّذِي رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) قال يعني الفقه والإسلام وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ.
وَهَكَذَا نصَّ عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ (3) مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ عبَّاس وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ.
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ.
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ.
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يومئذ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ على كل شئ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [الْبُرُوجِ: 1 - 10] .
قَدْ تكلَّمنا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي تفسيره هَذِهِ السُّورَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ مُكَرَّرٌ فِي الْعَالَمِ مِرَارًا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَبَّارِينَ الْكَافِرِينَ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ قَدْ وَرَدَ فِيهِمْ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَأَثَرٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُمَا مُتَعَارِضَانِ وَهَا نَحْنُ نُورِدُهُمَا لتقف عليهما.
قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبُرَ السَّاحِرُ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي وَحَضَرَ أَجَلِي فَادْفَعْ إلي غلاماً فلاعلمه
__________
(1) عزمة: عزائم الله فرائضه التي أوجبها على عباده.
(2) في تفسير القرطبي: لرجوت فيها العون منه.
(3) قال ابن عطية: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: " لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله تعالى فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق.
فَقَالَ: رَبِّ، إِنَّ خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء ; وان عزمت علي فسمعا وطاعة ".
[*]
(2/153)
السِّحْرَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلَامًا فَكَانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ وَكَانَ بَيْنَ الْمَلِكِ وَبَيْنَ السَّاحِرِ رَاهِبٌ فَأَتَى الْغُلَامُ عَلَى الرَّاهِبِ فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ وَكَلَامُهُ وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، وَقَالَ مَا حَبَسَكَ؟ وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ ضَرَبُوهُ وَقَالُوا: مَا حَبَسَكَ؟ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ أَنْ يَضْرِبَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ، قَالَ فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ
أَتَى عَلَى دَابَّةٍ (1) فَظِيعَةٍ عَظِيمَةٍ قد حبست الناس فلا يستيطعون أَنْ يَجُوزُوا فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرَ السَّاحِرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَمْ أَمْرَ الرَّاهِبِ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ النَّاسُ، وَرَمَاهَا فقتلها، ومضى [الناس] فَأَخْبَرَ الرَّاهِبَ بِذَلِكَ.
فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عليَّ فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وسائر الأدواء ويشفيهم الله على يديه، وَكَانَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ فَعَمِيَ فَسَمِعَ بِهِ فَأَتَاهُ بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ههنا أَجْمَعُ فَقَالَ: مَا أَنَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يشفي الله عزوجل، فَإِنْ آمَنْتَ بِهِ وَدَعَوْتُ اللَّهَ شَفَاكَ فَآمَنَ فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ.
ثُمَّ أَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا فُلَانُ مَنْ ردَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ فَقَالَ: رَبِّي قَالَ: أَنَا.
قَالَ: لَا رَبِّي، وَرَبُّكَ اللَّهُ قَالَ: وَلَكَ رَبُّ غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبْهُ حتى دلَّ على الغلام [فبعث إليه] فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَهَذِهِ الْأَدْوَاءَ، قَالَ: مَا أَشْفِي أَنَا أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي الله عزوجل، قال: أنا قال: لا قال: أو لك رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ.
قَالَ: فَأَخَذَهُ أَيْضًا بِالْعَذَابِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دلَّ على الراهب، فأتى الراهب فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ وَقَالَ لِلْأَعْمَى ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ في مفرق رأسه حتى وقع شقاه [في الأرض] وَقَالَ لِلْغُلَامِ، ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ إِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دينه وإلا فدهدهوه [من فوقه] فَذَهَبُوا بِهِ فَلَمَّا عَلَوُا الْجَبَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ، فَدُهْدِهُوا أَجْمَعُونَ.
وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ فَقَالَ كَفَانِيهِمُ الله، فبعث به مع نفر في قرقرة (2) فَقَالَ: إِذَا لَجَجْتُمُ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَأَغْرِقُوهُ فِي الْبَحْرِ فَلَجَّجُوا بِهِ الْبَحْرَ فَقَالَ الْغُلَامُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ [فانكفأت بهم السفينة] (3) فَغَرِقُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ فَقَالَ كَفَانِيهِمُ الله [عزوجل] ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرَكَ بِهِ فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَتَلْتَنِي، وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَتْلِي قَالَ: وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ الناس في
__________
(1) في الترمذي: أن الدابة كانت أسدا.
(2) قرقرة: وفي المسند وصحيح مسلم قرقور وهو الصواب، والقرقور: السفينة الصغيرة.
(3) من صحيح مسلم.
[*]
(2/154)
صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ وَتَأْخُذُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي (1) .
ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَفَعَلَ وَوَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ رَمَاهُ وَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ وَمَاتَ (2) فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغلام آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ فَقَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَحَفَرَ فِيهَا الْأَخَادِيدَ وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعُوهُ، وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا، وقال: فكانوا يتعادون فيها ويتواقعون (3) فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اصْبِرِي يَا أُمَّاهُ فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ " (4) كَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ زَادَ النَّسَائِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ثابت بإسناده نحوه وجرد إِيرَادَهُ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي التَّفسير.
وَقَدْ أَوْرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَحَدَّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ - وَنَجْرَانُ هِيَ الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي إِلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ - سَاحِرٌ يُعلم غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السحر، فلما نزلها فيمون، وَلَمْ يُسَمُّوهُ لِي بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ ابْنُ مُنَبِّهٍ، قَالُوا رَجُلُ نَزَلَهَا فَابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا السَّاحِرُ، وَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الساحر يعلمهم السحر، فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ، فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ، فَجَعَلَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ، حَتَّى أَسْلَمَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ
شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِذَا فَقُهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَكَانَ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ إياه، وقال له: يابن أَخِي إِنَّكَ لَنْ تَحْمِلَهُ، أَخْشَى ضَعْفَكَ عَنْهُ، والتامر لا يظنَّ إلا أنَّ ابنه عبد الله يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ بِهِ عَنْهُ وَتَخَوَّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ، عَمَدَ إِلَى قِدَاحٍ (5) فَجَمَعَهَا، ثُمَّ لَمْ يَبْقَ لِلَّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إِلَّا كَتَبَهُ فِي قَدَحٍ لِكُلِّ اسْمٍ قَدَحٌ، حَتَّى إِذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ نَارًا، ثُمَّ جعل يقذفها [فيها] قَدَحًا قَدَحًا، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقَدَحِهِ، فَوَثَبَ الْقَدَحُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا، فَأَخَذَهُ ثُمَّ أَتَى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم
__________
(1) الكنانة: بالكسر: جعبة السهام تتخذ من جلود لا خشب فيها، أو من خشب لا جلود فيها.
(2) في الترمذي: أن الغلام دفن، قال: فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل.
(3) في المسند: يتدافعون.
(4) مسند أحمد ج 6 / 16 - 17 - 18.
وما بين معكوفين في الحديث زيادة من المسند.
(5) قداح: بالكسر جمع قدح: السهم قبل أن ينصل ويراش.
[*]
(2/155)
الاسم الأعظم الذي قد كتمه [إياه] فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ.
قَالَ: أَيِ ابْنَ أَخِي قَدْ أَصَبْتَهُ، فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ.
فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بن التامر إِذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضُرٌّ إِلَّا قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتُوَحِّدَ اللَّهَ وَتَدْخُلَ فِي دِينِي، وَأَدْعُو اللَّهَ لَكَ فَيُعَافِيَكَ عَمًّا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ [فَيَقُولُ: نعم، فيوحد الله ويسلم، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه] ؟ وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ، حَتَّى رُفِعَ شَأْنُهُ إِلَى ملك نجران، فدعاه فقال [له] أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي، وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي، لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ.
قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ.
فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إِلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ، فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيَقَعُ إِلَى الْأَرْضِ مَا بِهِ بَأْسٌ.
وَجَعَلَ يُبْعَثُ بِهِ إِلَى مِيَاهٍ بنجران.
بحور لا يلقى فيها شئ إِلَّا هَلَكَ، فَيُلْقَى بِهِ فِيهَا فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ الله بن التامر، وَاللَّهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى
قَتْلِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ فَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْتَ بِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ سُلِّطْتَ عَلَيَّ فَقَتَلْتَنِي، قَالَ: فَوَحَّدَ اللَّهَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ التامر، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصًا فِي يَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ فَقَتَلَهُ.
وَهَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ، وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ التامر وكان على ما جاء به عيسى بن مَرْيَمَ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَحِكَمِهِ.
ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَا أصاب أهل دينهم من الأحزاب (1) فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن التامر فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ: فَسَارَ إليهم ذو نواس بجنده [من حمير] فَدَعَاهُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ أَوِ القتل.
فاختاروا القتل فخذوا الْأُخْدُودَ، وَحَرَّقَ بِالنَّارِ وَقَتَّلَ بِالسَّيْفِ، وَمَثَّلَ بِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا (2) .
فَفِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) الآيات [البروج: 4 - 5] .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ مَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ مُسْلِمٍ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأُخْدُودَ وَقَعَ فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنْبَأَنَا صَفْوَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ فِي الْيَمَنِ زمان تبع وفي القسطنطينة زَمَانَ قُسْطَنْطِينَ حِينَ صَرَفَ النَّصَارَى قِبْلَتَهُمْ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ، وَاتَّخَذَ أَتُّونًا وَأَلْقَى فِيهِ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ وَفِي الْعِرَاقِ فِي أَرْضِ بَابِلَ فِي زَمَانِ بخت نصر حِينَ صَنَعَ الصَّنَمَ، وَأَمَرَ النَّاسَ فَسَجَدُوا لَهُ فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ وَصَاحِبَاهُ عَزْرِيَا وَمَشَايِلُ فَأَوْقَدَ لَهُمْ أتوناً وألقى فيها الحطب والنار ثم ألقاهما فِيهِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا وَأَنْقَذَهُمْ مِنْهَا، وَأَلْقَى فِيهَا الَّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِ وَهُمْ تِسْعَةُ رَهْطٍ فَأَكَلَتْهُمُ النَّارُ وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السدي في قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) قال كان الاخدود
__________
(1) في تفسير القرطبي: الاحداث.
(2) ما بين معكوفين في الخبر من تفسير القرطبي واستدركت لمقتضى السياق.
- في القرطبي وابن إسحاق: الثامر بالثاء.
- ذو نواس: واسمه زرعة بن تبان أسعد الحميري.
[*]
(2/156)
ثَلَاثَةً: خَدٌّ بِالشَّامِ وَخَدٌّ بِالْعِرَاقِ وَخَدٌّ بِالْيَمَنِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ ذِكْرَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَالْكَلَامَ عَلَى تَفْسِيرِهَا فِي سُورَةِ البروج ولله الحمد والمنة.
بيان للاذن فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هُمَامٌ، حَدَّثَنَا زَيْدٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ " حَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عليَّ وَمَنْ كذَّب عليَّ متعمداً فليتبوء مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ".
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هُمَامٌ، أَنْبَأَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ " لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ " وَقَالَ: " حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ حَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ قَالَ: " وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ - قَالَ هَمَّامٌ أَحْسَبُهُ قَالَ - مُتَعَمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار " وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ هُدْبَةَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَخْطَأَ فِيهِ هَمَّامٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ كَذَا قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ التِّرمذي عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِبَعْضِهِ مَرْفُوعًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنْبَأَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ السَّلُولِيُّ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي يَقُولُ: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كذَّب عليَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ".
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبيّل عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ.
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهليّ عن محمد بن يوسف العرياني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ حسان بن عطية وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ (1) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى - أَبُو مُوسَى - حَدَّثَنَا هشام بن معاوية، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا عامة ليلة عن بني إسرائيل حتى نصبح ما نقوم فيها إلا لمعظم صَلَاةٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ مثنى، ثم قال البزار حدثنا محمد بن مثنى، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (2) ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يحدثنا عامة ليلة عن بني
__________
(1) حديث: من كذب علي متعمداً.." متواتر، رواه عن النبي ثمانية وتسعون صحابيا منهم العشرة، ولا يعرف ذلك لغيره فيض القدير 6 / 214.
وقال المنذري في الترغيب: وهذا الحديث قد روى عن غير واحد من الصحابة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها حتى بلغ مبلغ التواتر.
والله أعلم 1 / 111.
روى الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 142 باب: فيمن كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من طرقه المختلفة مطولا وعلل رواته وناقليه.
(2) في نسخ البداية المطبوعة حسين وهو تحريف.
[*]
(2/157)
إسرائيل لا يقوم إلا لمعظم صلات " (1) قَالَ الْبَزَّارُ وَهُشَامٌ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي هِلَالٍ يَعْنِي أَنَّ الصَّوَابَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، هُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ " (2) إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يخرِّجوه.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا رَبِيعُ بْنُ سَعْدٍ الْجُعْفِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمُ الْأَعَاجِيبُ " (3) ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَتَوْا مَقْبَرَةً مِنْ مَقَابِرِهِمْ فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله عزوجل فَيُخْرِجُ لَنَا رَجُلًا قَدْ مَاتَ نُسَائِلُهُ يُحَدِّثُنَا عَنِ الْمَوْتِ فَفَعَلُوا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَطْلَعَ رَجُلٌ رَأَسَهُ مِنْ قَبْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُبُورِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ فَقَالَ يَا هؤلاء ما أردتم إلي فقدمت مُنْذُ مِائَةِ عَامٍ فَمَا سَكَنَتْ عَنِّي حَرَارَةُ الْمَوْتِ حَتَّى الْآنَ فَادْعُوَا اللَّهَ أَنْ يُعِيدَنِي كَمَا كُنْتَ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
إِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ بُطْلَانُهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْحَقَّ الَّذِي بِأَيْدِينَا عَنِ الْمَعْصُومِ، فَذَاكَ مَتْرُوكٌ مَرْدُودٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ رِوَايَتِهِ أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ لِمَا رواه البخاري قائلاً: حدثنا محمد بن يسار، حدَّثنا عُثْمَانُ بْنُ
عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ أهل الكتاب يقرأون التَّوْرَاةَ بِالْعَبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إليكم وإلهنا وإلهكم واحد وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " (3) تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إذا جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ أَعْلَمُ " فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ " (4) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا شريح بن
__________
(1) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 191 عن عمران بن حصين وفيه: لعظم الصلاة.
وقال: رواه البزار وأحمد والطبراني في الكبير وإسناده صحيح.
(2) رواه الهيمثي في مجمع الزوائد 1 / 151 وقال: رواه أحمد وفيه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ ضعيف وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 191 وقال: رواه البزار عن شيخه جعفر بن محمد بن أبي وكيع عن أبيه ولم أعرفهما وبقية رجاله ثقات.
وفي هامشه قال: " إنما قال البزار حدثنا جعفر بن محمد بن أبي وكيع نا عبد الله بن نمير، ما رأيت فيه عن أبيه - فليحرر هذا - كما في هامش الاصل ".
(4) مسند أحمد 4 / 136.
[*]
(2/158)
النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَغَضِبَ وَقَالَ: " أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يابن الخطاب؟ والذي نفسي به لقد جئتكم به بيضاء نقية لا تسألوهم عن شئ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ والذي نفسي به لَوْ إنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا
أَنْ يَتَّبِعَنِي " (1) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَحَرَّفُوهَا، وَأَوَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَا يُبْدُونَهُ مِنَ الْمُعَرَّبَاتِ الَّتِي لَمْ يُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا وَهِيَ بِلُغَتِهِمْ فَكَيْفَ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ خَطَأٌ كَبِيرٌ، وَوَهْمٌ كَثِيرٌ، مَعَ مَا لَهُمْ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْآرَاءِ الْبَارِدَةِ؟ وَهَذَا بتحققه مَنْ نَظَرَ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ، وَتَأَمَّلَ مَا فِيهَا مِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ، وَقَبِيحِ التَّبْدِيلِ والتغيير، وبالله الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
وَهَذِهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ مِنْهَا كَثِيرًا فِيمَا ذَكَرُوهُ فِيهَا تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ وَسُوءُ تَعْبِيرٍ يعلم مَنْ نَظَرَ فِيهَا وَتَأَمَّلَ مَا قَالُوهُ وَمَا أبدوه وما أخفوه وكيف يسوغون عِبَارَةً فَاسِدَةَ الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ بَاطِلَةً مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهَا وَأَلْفَاظُهَا.
وَهَذَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ مِنْ أَجْوَدِ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُمْ وَقَدْ أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عمر، وكان ينقل شيئاً عن أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يستحس بَعْضَ مَا يَنْقُلُهُ لِمَا يُصَدِّقُهُ مِنَ الْحَقِّ وَتَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ فَتَوَسَّعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَخْذِ مَا عِنْدَهُ وَبَالَغَ أَيْضًا هُوَ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَثِيرٌ مِنْهَا مَا يُسَاوِي مِدَادَهُ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا مَحَالَةَ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بِأَيْدِينَا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ.
وَذَكَرَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ فَقَالَ إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ (2) .
يَعْنِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَحْدَثُ الكتب بالله تقرأونه مَحْضًا لَمْ يَشِبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ (3) .
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الكتاب عن
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 387.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد قال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه مجالد بن سعيد ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما 1 / 174.
(2) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب قول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب ص 8 / 160 دار الفكر - بيروت.
(3) انظر المرجع السابق.
- قوله لم يشب: أي لم يخلط بغيره.
- قوله أحدث: أي أقرب نزولا.
[*]
(2/159)
شئ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ (1) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ جُرَيْجٍ أَحَدِ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى بن مَرْيَمَ " (2) قَالَ وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَابِدٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، فَابْتَنَى صَوْمَعَةً وَتَعَبَّدَ فيها، قال: فذكر بنو سرائيل عِبَادَةَ جُرَيْجٍ فَقَالَتْ بَغِيٌّ مِنْهُمْ لَئِنْ شِئْتُمْ لافتتنه فقالوا: قد شئنا ذاك قال فأتته فتمرضت لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْ نَفْسَهَا مِنْ راع كان يؤوي غَنَمَهُ، إِلَى أَصْلِ صَوْمَعَةِ جُرَيْجٍ فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالُوا مِمَّنْ؟ قَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ فَشَتَمُوهُ وَضَرَبُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا إِنَّكَ زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَ وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالُوا هُوَ هَذَا.
قَالَ فَقَامَ فَصَلَّى وَدَعَا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْغُلَامِ فَطَعَنَهُ بِإِصْبَعِهِ فَقَالَ بِاللَّهِ يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ فَقَالَ أَنَا ابْنُ الرَّاعِي فَوَثَبُوا إِلَى جُرَيْجٍ فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَهُ، وَقَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ.
قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ ابْنُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ.
قَالَ وَبَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي حِجْرِهَا ابْنٌ لَهَا تُرْضِعُهُ إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ (3) فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهم لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ.
قَالَ: ثُمَّ عَادَ إِلَى ثَدْيِهَا فَمَصَّهُ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي صنيع الصبي ووضع إصبعه في فيه يمصها.
ثم مرت بِأَمَةٍ تُضْرَبُ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا قَالَ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الْأَمَةِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا قَالَ فَذَاكَ حِينَ تراجعا الحديث (4) .
فقالت:
خلفي (5) مَرَّ الرَّاكِبُ ذُو الشَّارَةِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ.
فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ومررت بِهَذِهِ الْأَمَةِ فَقُلْتُ " اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا (6) فَقَالَ يَا أُمَّتَاهُ إِنَّ الرَّاكِبَ ذُو الشَّارَةِ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ يَقُولُونَ: زَنَتْ وَلَمْ تَزْنِ وَسَرَقَتْ وَلَمْ تَسْرِقْ، وَهِيَ تَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْمَظَالِمِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ ابْرَاهِيمَ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هرون كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِهِ طَرِيقٌ
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 192 عن أبي الزعرا عن عبد الله وفيه: " وقد أضلوا أنفسهم إما أن يحدثوكم بصدق فتكذبونهم أو بباطل فتصدقونهم " رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.
(2) مسند أحمد ج 2 / 307، 308 وأخرجه مسلم في 45 كتاب البر والادب 2 باب تقديم بر الوالدين 8 / 2550.
(3) ذو الشارة: الشارة الهيئة واللباس.
(4) صحيح مسلم في 45 كتاب الأدب 2 / 8 / 2550 والبخاري في أحاديث الأنبياء حديث رقم: 653.
(5) في صحيح مسلم: حلقى: أي أصابه الله بوجع في حلقه.
(6) هنا: إشارة إلى سلامتها من المعاصي ; يعني اللهم اجعلني سالما من المعاصي مثلها كما هي سالمة.
[*]
(2/160)
أُخْرَى وَسِيَاقٌ آخَرُ (1) .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حدَّثنا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ قَالَ: فَأَتَتْهُ أُمُّهُ فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ أنا أمك وكلمني قال وكان أبو هريرة يصف كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وضع يده على حاجبه الأيمن قال وصادفته يُصَلِّي قَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَرَجَعَتْ، ثُمَّ أَتَتْهُ فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَإِنَّهُ ابْنِي وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي اللَّهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ.
وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَتَنَ لَافْتَتَنَ.
قَالَ: وَكَانَ رَاعٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ مِمَّنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْرِ فأقبلوا بفؤوسهم
وَمِسَاحِيهِمْ وَأَقْبَلُوا إِلَى الدَّيْرِ فَنَادَوْهُ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ فَأَقْبَلُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا سَلْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ - قَالَ أُرَاهُ تَبَسَّمَ - قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيَّ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ رَاعِي الضَّأْنِ قَالُوا يَا جُرَيْجُ نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ كَمَا كَانَ فَفَعَلُوا وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ في الاستيذان عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ (2) .
سِيَاقٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (3) حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ فَأَتَتْهُ أُمُّهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَادَتْهُ فَقَالَتْ: أَيْ جُرَيْجُ، أَيْ بُنَيَّ، أَشْرِفْ عليَّ أُكَلِّمْكَ أَنَا أَمُّكَ أَشْرِفْ عَلَيَّ فَقَالَ: أَيْ رَبِّي صَلَاتِي وَأُمِّي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، ثُمَّ عَادَتْ فَنَادَتْهُ مِرَارًا فَقَالَتْ: أَيْ جُرَيْجُ أَيْ بُنَيَّ أَشْرِفْ عَلَيَّ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ صَلَاتِي وَأُمِّي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَةَ وَكَانَتْ رَاعِيَةً تَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِهَا ثُمَّ تَأْوِي إِلَى ظِلِّ صَوْمَعَتِهِ فَأَصَابَتْ فَاحِشَةً فَحَمَلَتْ فَأُخِذَتْ.
وَكَانَ مَنْ زَنَى مِنْهُمْ قُتِلَ، فَقَالُوا مِمَّنْ؟ قَالَتْ من جريج صاحب الصومعة فجاؤوا بالفؤوس والمرور، فقالوا: أي جريج أي مرائي؟ انْزِلْ فَأَبَى وَأَقْبَلَ عَلَى صِلَاتِهِ يُصَلِّي فَأَخَذُوا فِي هَدْمِ صَوْمَعَتِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ، فَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ وَعُنُقِهَا حَبْلًا فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا فِي النَّاسِ فَوَضَعَ أُصْبُعَهُ عَلَى بَطْنِهَا فَقَالَ: أَيْ غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: أَبِي فُلَانٌ رَاعِي الضَّأْنِ، فَقَبَّلُوهُ وَقَالُوا إِنْ شِئْتَ بنينا لك صومعتك من
__________
(1) تراجعا الحديث: معناه أقبلت على الرضيع تحدثه، وكانت، أولا، لا تراه أهلا للحديث، فلما تكرر منه الكلام علمت أنه أهل له فسألته وراجعته.
(2) صحيح مسلم 45 / 2 / 7 / 2550 وأحمد في مسنده 2 / 433.
- المومسات: الزواني البغايا المتجاهرات بذلك، الواحدة: مومسة.
- ديره: الدير الكنيسة المنقطعة عن العمارة، تنقطع فيها رهبان النصارى لتعبدهم، وهو بمعنى الصومعة.
- مساحيهم: المساحي جمع مسحاة وهي كالمجرفة إلا أنها من حديد.
[*]
(2/161)
ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ قَالَ أَعِيدُوهَا كَمَا كَانَتْ وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يخرِّجه أَحَدٌ مِنْ
أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (1) .
فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ تقدَّم الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتِهِ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ ابْنُ الْبَغِيِّ مِنَ الرَّاعِي كما سمعت واسمه يابوس كما ورد مصرحاً به في صحيح البخاري وَالثَّالِثُ ابْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تُرْضِعُهُ فَتَمَنَّتْ لَهُ أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ الشَّارَةِ الْحَسَنَةِ فَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ كَتِلْكَ الْأَمَةِ الْمَتْهُومَةِ بِمَا هِيَ بَرِيئَةٌ مِنْهُ وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هَوْذَةَ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِصَّةِ هَذَا الْغُلَامِ الرَّضِيعِ وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وَهِيَ تُرْضِعُهُ فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لَا تُمِتِ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرُّ وَيُلْعَبُ بِهَا، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا.
فَقَالَ أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كافر.
وأما المرأة فإنهم يقولون إنه تَزْنِي وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَيْضًا شَاهِدُ يُوسُفَ كَمَا تقدَّم وَابْنُ مَاشِطَةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ بَرْصِيصَا وَهِيَ عَكْسُ قَضِيَّةِ جُرَيْجٍ فَإِنَّ جُرَيْجًا عُصم وَذَلِكَ فُتِنَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يحيى بن إبراهيم المسعودي، أنبأنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برئ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالمين) [الْحَشْرِ: 16 - 17] .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ وَكَانَ لَهَا إِخْوَةٌ أَرْبَعَةٌ وَكَانَتْ تَأْوِي بِاللَّيْلِ إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ قَالَ: فَنَزَلَ الرَّاهِبُ فَفَجَرَ بِهَا فَحَمَلَتْ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل تصدق ويسمع قَوْلُكَ فَقَتَلَهَا ثُمَّ دَفَنَهَا قَالَ فَأَتَى الشَّيْطَانُ
إِخْوَتَهَا فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الرَّاهِبَ صَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ فَجَرَ بِأُخْتِكُمْ فَلَمَّا أَحْبَلَهَا قَتَلَهَا ثُمَّ دَفَنَهَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ رُؤْيًا مَا أَدْرِي أَقُصُّهَا عَلَيْكُمْ أَمْ أَتْرُكُ قَالُوا: لَا بَلْ قُصَّهَا عَلَيْنَا قَالَ فَقَصَّهَا فَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ فَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ ذلك قالوا فوالله مَا هَذَا إِلَّا لشئ فانطلقوا فاستعدوا (2) ملكهم على
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 385.
(2) استعدوا ملكهم: أي استعانوا به فأنصفهم منه.
[*]
(2/162)
ذَلِكَ الرَّاهِبِ فَأَتَوْهُ فَأَنْزَلُوهُ.
ثُمَّ انْطَلَقُوا بِهِ فأتاه الشيطان، فقال: إني أنا أَوْقَعْتُكَ فِي هَذَا، وَلَنْ يُنْجِيَكَ مِنْهُ غَيْرِي فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً وَأُنَجِّيَكَ مِمَّا أَوْقَعْتُكَ فِيهِ قَالَ فَسَجَدَ لَهُ فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ مَلِكَهُمْ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَأُخِذَ فَقُتِلَ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابن عباس وطاوس ومقاتل ابن حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسِيَاقٍ آخَرَ.
فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَهِيكٍ، سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: إِنَّ رَاهِبًا تَعَبَّدَ سِتِّينَ سَنَةً، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَهُ فَأَعْيَاهُ فَعَمَدَ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَجَنَّهَا وَلَهَا إِخْوَةٌ فَقَالَ لِإِخْوَتِهَا عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقَسِّ فَيُدَاوِيَهَا قَالَ: فجاؤوا بِهَا إِلَيْهِ فَدَاوَاهَا وَكَانَتْ عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عِنْدَهَا إِذْ أَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا فَحَمَلَتْ فَعَمَدَ إِلَيْهَا فَقَتَلَهَا فَجَاءَ إِخْوَتُهَا فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلرَّاهِبِ أَنَا صَاحِبُكَ إِنَّكَ أَعْيَيْتَنِي أَنَا صَنَعْتُ هَذَا بِكَ فَأَطِعْنِي أُنَجِّكَ مِمَّا صَنَعْتُ بِكَ اسْجُدْ لي سجدة، فسجد له قال: إني برئ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برئ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ الله رب العالمين) .
قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ فَتَوَسَّلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ فَفُرِّجَ عَنْهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحداً مِنْهُمُ: اللَّهم إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ (1) مِنْ أَرُزٍّ فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ اعمد إلى تلك البقرة فَسُقْهَا فَقَالَ لِي إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ فَقُلْتُ لَهُ اعْمَدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ فَسَاقَهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا.
فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ.
فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهم إن كنت تعلم كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ آتِيهُمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي فَأَبْطَأْتُ عَنْهُمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ (2) مِنَ الْجُوعِ وَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حتَّى طَلَعَ الْفَجْرَ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا.
فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ.
فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهم إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دينار
__________
(1) فرق: بفتح الراء واسكانها والفتح أشهر: هو إناء يسع ثلاثة آصع.
(2) يتضاغون: يصيحون ويستغيثون من الجوع.
[*]
(2/163)
فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا (1) قَالَتِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ (2) فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عنا ففرَّج الله عنهم فخرجوا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُوِيْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهِ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عن عمرو بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ (3) .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَفِيهِ زِيَادَاتٌ وَرَوَاهُ البزَّار مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَجِيلَةَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ وَرَوَاهُ البزَّار فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
حَنَشٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
خَبَرُ الثَّلَاثَةِ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْأَقْرَعِ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصُ (4) وَأَعْمَى وَأَقْرَعُ بَدَا لِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ الله إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال له: أي شئ أَحَبُّ إِلَيْكَ فَقَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا.
فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ الَيْكَ قَالَ الْإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ - هُوَ شَكٌّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ الْبَقَرُ - فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ (5) فَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.
قال وأتى الأقرع فقال له: أي المال أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ الَيْكَ قَالَ: الْبَقَرُ فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا وَقَالَ يُبَارَكُ لك فيها قال وأتى الأعمى فقال: أي شئ أَحَبُّ الَيْكَ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاس قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ الَيْكَ قَالَ: الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا (6) فَأَنْتَجَ هَذَانِ وَوَلَدَ هَذَا فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ فَقَالَ له كأني أعرفك ألم تكن أبرص
__________
(1) قعدت بين رجليها: أي جلست مجلس الرجل للوقاع.
(2) لا تفض الخاتم إلا بحقه: الخاتم كناية عن بكارتها، وقولها بحقه: أي بنكاح لا بزني.
(3) مسند الإمام أحمد 2 / 116.
صحيح البخاري كتاب الوكالة - باب إذا زرع بمال قوم بغير اذنهم ص 3 / 69.
(4) أبرص: البرص بياض يظهر في ظاهر البدن، لفساد مزاج.
قاموس.
(5) ناقة عشراء: هي الحامل القريبة الولادة.
(6) شاة والدا: أي وضعت ولدها، وهو معها.
[*]
(2/164)
يقذرك الناس فقيراً فأعطاك الله عزوجل فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَقْرَعُ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ له مثل ما قَالَ لِهَذَا فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا.
فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي ردَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ فوالله لا أجهدك اليوم بشئ أخذته لله عزوجل فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ.
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي أَحَادِيثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (1) .
حَدِيثُ الَّذِي استلف مِنْ صَاحِبِهِ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ: " أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ ائْتِنِي بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا قَالَ: صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يقدم عليه للأجل الذي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، وَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا ثُمَّ زَجَّجَ (2) مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أني استسلفت فلاناً أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أن أجد مركباً أبعث إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركباً وإني أستو دعتكها فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثم انصرف وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مركباً يجيئه بِمَالِهِ فَاذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ قَالَ هل كنت بعثت إلي بشئ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا
قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِأَلْفِكَ رَاشِدًا.
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُسْنَدًا وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ (3) فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ صَحِيحِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَسْنَدَهُ فِي بَعْضِهَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْهُ، وَالْعَجَبُ
__________
(1) أخرجه مسلم في 53 كتاب الزهد 10 / 2964 ص 4 / 2275 - 2276.
والحديث في صحيح البخاري رقم: 1626.
(2) زجج: أي سوى موضع النقر وأصلحه.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب في اللقطة - باب إذا وجد خشبة.
ج 3 / 93 دار الفكر، وفي كتاب الاجارة - باب الكفالة ج 3 / 56.
[*]
(2/165)
مِنَ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ كَيْفَ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عمر بن سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ ثُمَّ قَالَ لَا يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
قصَّة أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا " (1) لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا.
هَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
وَقَدْ كان قبل بني إسرائيل بدهور متطاولة والله أَعْلَمُ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي كِتَابِهِ الْمُبْتَدَأِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ: إِنَّ ذَا
الْقَرْنَيْنِ كَانَ يَتَفَقَّدُ أُمُورَ مُلُوكِهِ وَعُمَّالِهِ بِنَفْسِهِ وَكَانَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ خِيَانَةً إِلَّا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَطَّلِعَ هُوَ بِنَفْسِهِ.
قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مُتَنَكِّرًا فِي بَعْضِ الْمَدَائِنِ، فَجَلَسَ إِلَى قَاضٍ مِنْ قُضَاتِهِمْ أَيَّامًا لَا يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي خُصُومَةٍ فَلَمَّا أَنْ طَالَ ذَلِكَ بِذِي القرنين ولم يطلع على شئ مِنْ أَمْرِ ذَلِكَ الْقَاضِي وهمَّ بِالِانْصِرَافِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ قَدِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا فَقَالَ: أَيُّهَا الْقَاضِي إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْ هَذَا دَارًا عَمَّرْتُهَا وَوَجَدْتُ فِيهَا كَنْزًا وَإِنِّي دَعَوْتُهُ إِلَى أَخْذِهِ فَأَبَى عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: ما تقول؟ قال: ما دفنت وما عملت بِهِ فَلَيْسَ هُوَ لِي وَلَا أَقْبِضُهُ مِنْهُ قَالَ الْمُدَّعِي: أَيُّهَا الْقَاضِي مُرْ مَنْ يَقْبِضُهُ فَتَضَعُهُ حَيْثُ أَحْبَبْتَ فَقَالَ الْقَاضِي تَفِرُّ مِنَ الشَّرِّ، وَتُدْخِلُنِي فِيهِ مَا أَنْصَفْتَنِي وَمَا أَظُنُّ هَذَا فِي قَضَاءِ الْمَلِكِ فَقَالَ الْقَاضِي هَلْ لكما أمراً نصف مِمَّا دَعَوْتُمَانِي إِلَيْهِ قَالَا: نَعَمْ قَالَ: لِلْمُدَّعِي أَلَكَ ابْنٌ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ لِلْآخَرِ أَلَكَ ابْنَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: اذْهَبَا فَزَوِّجِ ابْنَتَكَ من ابن هذا وجهزهما من هذا المال وادفعا فَضْلَ مَا بَقِيَ إِلَيْهِمَا يَعِيشَانِ بِهِ فَتَكُونَا ملياً بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَعَجِبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ لِلْقَاضِي: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ في الأرض أحداً يفعل مثل هذا أو قاض يَقْضِي بِمِثْلِ هَذَا فَقَالَ الْقَاضِي وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ وَهَلْ أَحَدٌ يَفْعَلُ غَيْرَ هَذَا قَالَ
__________
(1) العقار: هو الارض وما يتصل بها، وحقيقة العقار الاصل، سمي بذلك من العقر ومنه: عقر الدار.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 30 كتاب الاقضية 11 باب 21 / 1721 ص 3 / 1345 والحديث في البخاري رقم: 1630.
[*]
(2/166)
ذُو الْقَرْنَيْنِ: نَعَمْ قَالَ الْقَاضِي فَهَلْ يُمْطَرُونَ فِي بِلَادِهِمْ فَعَجِبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ ذَلِكَ وقال بمثل هذا قامت السموات وَالْأَرْضُ.
قِصَّةٌ أُخْرَى قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ
يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ (1) نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إلى هذه أن تقربي وأوحى إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ له هكذا رواه ههنا مُخْتَصَرًا وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ بُنْدَارٍ بِهِ ومن حديث شعبة ومن وجه آخر عن قتادة بن مُطَوَّلًا (2) .
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حدَّثنا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ على الناس فقال بينما رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ فَقَالَ فإني أؤمن بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثم (قال) وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئب هَذَا! اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يتكلم قال فإني أو من بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا " (3) .
ثَمَّ (قَالَ) وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ البخاريّ في المزارعة عن علي بن المديني ومسلم عن محمد بن عباد كلاهما عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ شعبة كلاهما عن مسعر بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وسفيان الثوري كلاهما عن أبي الزناد.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثنا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ سَعْدٍ، عن أبيه، عن
__________
(1) نأى بصدره: أي نهض.
(2) أخرجه مسلم في 49 كتاب التوبة 8 باب ح 46 / 47، 2766 وأخرجه البخاري في كتاب الانبياء ح 54.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل أصحاب النبي (5) وكتاب الانبياء (54) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة 12 وأحمد في مسنده ج 2 / 245، 502.
[*]
(2/167)
أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ وَإِنَّهُ إنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " (1) لَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سعد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ [بن عوف] أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ كَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ فَقَالَ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ: " إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ " (2) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَكَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَيُونُسُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا فأخرج من كمه كبسة (3) شعر وقال ما كنت أرى أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَمَّاهُ الزُّورَ " - يَعْنِي الْوِصَالُ فِي الشَّعْرِ - تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ وَالْعَجَبُ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن غندر عن شعبة وَمِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِهِ (4) .
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، حدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ.
قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ عَنِ ابْنِ وهب به (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (6) والانبياء (54) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (23) والترمذي في المناقب (17) وأحمد في مسنده 6 / 55.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 37 كتاب اللباس 122 / 2127 ورواه عن معمر: وفي روايته: إنما عذب بنو اسرائيل.
والحديث في صحيح البخاري رقم 1627.
(3) كبة: هي شعر مكفوف بعضه على بعض.
(4) صحيح مسلم 37 / 123 - 124.
(5) أخرجه مسلم في 39 كتاب السلام 154 / 155 / 2245.
والبخاري في الانبياء (54) .
- يطيف: أي يدور حولها.
- ركية: بئر.
- موقها: الموق هو الخف، فارسي معرب، والمعنى أنها نزعت له بموقها أي استقت.
[*]
(2/168)
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ".
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ بِهِ (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدَّثنا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ امْرَأَةٌ قَصِيرَةٌ فَصَنَعَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ فَكَانَتْ تَمْشِي بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ قَصِيرَتَيْنِ (2) وَاتَّخَذَتْ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَحَشَتْ تَحْتَ فَصِّهِ أَطْيَبَ الطِّيبِ والمسك فَكَانَتْ إِذَا مَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ حَرَّكَتْهُ فَنَفَحَ رِيحُهُ " (3) .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَمِرِّ وَخُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا قَرِيبًا مِنْهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حراش يحدث عن ابن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى " إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ " (4) تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هاشم بن القسم، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ - يَعْنِي ابْنَ بَهْرَامَ - حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " بَيْنَمَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ لَهُ فِي السَّلَفِ الْخَالِي لا يقدران على شئ فَجَاءَ الرَّجُلُ مِنْ سَفَرِهِ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ جائعاً قد أصابته [مسغبة]
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 39 / كتاب السلام 152 / 2243 والبخاري في آذان 90 وفي كتاب المساقاة (9) والانبياء 54، وابن ماجة في الاقامة 152 وأحمد في مسنده 4 / 251.
(2) عند مسلم: طويلتين.
(3) مسند أحمد ج 3 / 40، ومسلم في صحيحه 40 كتاب الالفاظ من الادب (5) باب استعمال المسك 18 - 19 / 2252.
(4) البخاري في صحيحه كتاب الانبياء 54 والادب 78 ; وأبو داود في كتاب الادب (6) وابن ماجة في الزهد (17) ومالك في الموطأ سفر 46 وأحمد في مسنده ج 4 / 121، 122 - 5 / 273.
[*]
(2/169)
شديدة، فقال لامرأته: عندك شئ قَالَتْ: نَعَمْ أَبْشِرْ أَتَاكَ رِزْقُ اللَّهِ فَاسْتَحَثَّهَا فقال: ويحك ابتغي إن كان عندك شئ قالت: نعم هنيئة نَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيْهِ المطال قَالَ: وَيْحَكِ قُومِي فَابْتَغِي إِنْ كَانَ عِنْدَكِ شئ فأتيني به فإني قد بلغت الجهد وَجَهَدْتُ فَقَالَتْ: نَعَمِ الْآنَ يُنْضِجُ التَّنُّورُ فَلَا تَعْجَلْ، فَلَمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا سَاعَةً، وَتَحَيَّنَتْ أيضاً أن يقول لها قالت مِنْ عِنْدِ نَفْسِهَا لَوْ قُمْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى تَنُّورِي فَقَامَتْ فَوَجَدَتْ تَنُّورَهَا مَلْآنَ مِنْ جُنُوبِ الغنم ورحاها تطحن فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت مَا فِي تَنُّورِهَا مِنْ جُنُوبِ الْغَنَمِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي
الْقَاسِمِ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أخذت ما في رحيبها ولم تنفضها لطحنت إلى يوم القيامة " (1) .
وقال أحمد: حدثنا أبو عَامِرٍ، حدَّثنا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ على أهله فلما رأى ملبهم مِنَ الْحَاجَةِ خَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَلَمَّا رَأَتِ امرأته ما لقي قَامَتْ إِلَى الرَّحَى فَوَضَعَتْهَا وَإِلَى التَّنُّورِ فَسَجَرَتْهُ ثُمَّ قَالَتِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا فَنَظَرَتْ فَإِذَا الْجَفْنَةُ قَدِ امْتَلَأَتْ قَالَ وَذَهَبَتْ إِلَى التَّنُّورِ فَوَجَدَتْهُ ممتلئاً قال: فرجع الزوج قال: أصبتم بعد شيئاً قالت امرأته: نعم من ربنا فرفعتها إلى الرحى ثم قامت فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة " قال شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: " والله لأن يأتي أحدكم بحزمة حطب ثم يحمله فيبيعه فيستعفف مِنْهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ " (2) .
قِصَّةُ الْمَلِكَيْنِ التَّائِبَيْنِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حدَّثنا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ فِي مملكته ففكر فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ وَأَنَّ مَا هُوَ فِيهِ قَدْ شَغَلَهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، [فتسرب] فانساب ذات ليلة من قصره.
وأصبح في مملكة غيره، وأتى ساحل البحر فكان بِهِ يَضْرِبُ اللَّبِنَ بِالْأَجْرِ، فَيَأْكُلُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، ولم يزل كذلك حتى رقي أمره [وعبادته وفضله] إلى ملكهم فأرسل إليه فأبى أن يأتيه، فركب إليه الملك، فلما رآه ولى هارباً فركض في أثره فلم يدركه، فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنِّي بَأْسٌ، فَقَامَ حَتَّى أَدْرَكَهُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بن فلان صاحب مملكة كذا وكذا ففكرت في أمري فعلمت أنما أنا فيه منقطع، وأنه قد شغلني عن عبادة ربي عزوجل.
فتركته وجئت ههنا أعبد ربي فقال له: ما أنت بأحوج لما صنعت مني قال: فنزل عن دابته فسيبها وتبعه فكانا جميعاً يعبدان الله عزوجل فدعوا الله أن يميتهما جميعاً فماتا ".
قال عبد الله
__________
(1) مسند أحمد 2 / 421.
المسغبة: الجوع مع التعب.
(2) مسند أحمد ج 2 / 257 وفيه: والذي نفسي بيده لان يأخذ أحدكم حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب ثم يأتي به
يحمله على ظهره فيبيعه فيأكل خير له من أن يسأل الناس..".
[*]
(2/170)
فلو كنت برملية (1) مِصْرَ لَأَرَيْتُكُمْ قُبُورَهُمَا بِالنَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ.
قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَاذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ اذْرُونِي في يوم عاصف ففعلوا.
فجمعه الله عزوجل فقال: ما حملك؟ فقال: مَخَافَتُكَ.
فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ " (2) .
وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
ثمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَمِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بِنَحْوِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثنا ابْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لعلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا.
قَالَ فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ " (3) .
وَقَدْ رَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثني ملك، عن محمد بن المنكدر، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَاذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ؟ قَالَ أُسَامَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إسرائيل وعلى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَاذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فيها فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ " (4) .
قَالَ أَبُو النَّضْرِ لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا
فِرَارًا مِنْهُ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَمِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عَنْ عامر بن سعد به: حدثنا
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 451 ما بين معكوفين من المسند.
رملية في المسند رميلة ; ولم أجدها، وورد في معجم البلدان رميلة: قال السمعاني رميلة من قرى بيت المقدس.
(2) رواه البخاري في كتاب التوحيد (35) والانبياء (54) وكتاب الرقاق (25) وأخرجه مسلم في كتاب التوبة 25 و 27.
والنسائي في الجنائز 117 وابن ماجة في الزهد 30 والدارمي في الرقاق 92 والموطأ جنائز 52 وأحمد في مسنده 1 / 5، 398، 2 / 269، 304، 3 / 13، 17، 19 - 4 / 118، 447، 5 / 3، 383، 407.
(3) أخرجه البخاري في الانبياء (54) ومسلم في كتاب المساقاة (31) وأحمد في مسنده ج 2 / 263، 332، 339.
(4) أخرجه البخاري في الانبياء (54) وكتاب القدر (15) والطب (31) ومسلم في السلام، 92، 94، 95 وأحمد في مسنده 1 / 182، 5 / 35، 213.
[*]
(2/171)
موسى بن إسماعيل، حدثنا دواد بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطاعون أخبرني: " أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ ".
تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قريشاً أهمهم شأن الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ.
فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ ثُمَّ قَالَ: " إنما هلك الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ.
وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " (2) .
وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ: سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ الْهِلَالِيَّ، عَنِ ابن مسعود قال سمعت رجلاً قرأ، وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ خلافها فجئت بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ: " كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ وَلَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا) (3) تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثنا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبِغُونَ فَخَالِفُوهُمْ " (4) .
تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ وَفِي سُنَنِ أبي داود: " صلوا في
__________
(1) البخاري في صحيحه كتاب الطب (31) وبرواية أخرى عند مسلم في كتاب الامارة (165) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل أصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم 18، الانبياء 54 حدود 12 ومسلم في حدود 8، 9 - وأبو داود في حدود 4 والترمذي حدود 6 والنسائي - سارق 5، 6 وابن ماجه حدود 6 والدارمي حدود 5 وأحمد في مسنده 3 / 286 - 5 / 9، 6 / 329.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في خصومات (1) والانبياء (54) وأحمد في مسنده: 1 / 405، 412 - 5 / 124.
(4) البخاري في الصحيح كتاب الانبياء (50) وأبو داود ترجل 18 والنسائي في الزينة 14 وأحمد في مسنده 2 / 240، 260، 309، 401.
[*]
(2/172)
نِعَالِكُمْ خَالِفُوا الْيَهُودَ " (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سمعت عمر يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا.
فَبَاعُوهَا " (2) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
وَمِنْ حَدِيثِ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ تَابَعَهُ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طرق كثيرة وسيأتي فِي بَابِ الْحِيَلِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حدَّثنا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حدَّثنا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى: " فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوْتِرَ الْإِقَامَةَ " (3) .
وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيِّ بِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي جَمِيعِ شِعَارِهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم لَمَّا قَدِمَ المدينة كان المسلمون يتحينون وقت الصلواة بِغَيْرِ دَعْوَةٍ إِلَيْهَا.
ثُمَّ أَمَرَ مَنْ يُنَادِي فِيهِمْ وَقْتَ الصَّلَاةِ (الصَّلاة جَامِعَةٌ) ثمَّ أَرَادُوا أن يدعوا إليها بشئ يَعْرِفُهُ النَّاسُ فَقَالَ قَائِلُونَ: نَضْرِبُ بِالنَّاقُوسِ وَقَالَ آخَرُ: نُورِي نَارًا، فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمُشَابِهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فأُري عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ فِي مَنَامِهِ الْأَذَانَ فَقَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بلالاً فنادى كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ بَابِ الْأَذَانِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ البخاري: حدثنا بشر بن محمد، أنبأنا عبد الله، أنبأنا معمر ويونس عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ قَالَا: لَمَّا نُزل بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ فَاذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ والنصارى
__________
(1) سنن أبي داود: صلاة (88) .
ح 652 ص 1 / 176 وفيه قال صلَّى الله عليه وسلم: " خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم " عن شداد بن أوس.
(2) صحيح البخاري: أنبياء (50) تفسير سورة رقم 6 / 6.
بيوع: 103، 112.
ومسلم في المساقاة: 72.
والنسائي في البيوع: 93.
وأحمد في مسنده: 1 / 25، 2 / 213 - 3 / 324، 326.
(3) صحيح البخاري الاذان: 1 - 23 أنبياء: (50) ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة: 2 - 3 - 5 وأبو داود في صلاة 29 - والترمذي في سننه كتاب الصلاة 27 والنسائي في سننه: اذان (2) وابن ماجة في سننه: أذان:
6 - والدارمي في سننه صلاة: 6 وأحمد في مسنده 3 / 102 - 1089.
[*]
(2/173)
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " (1) يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا وَهَكَذَا رَوَاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لنتبعن سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه (2) ، فقلنا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَنْ؟ " وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهِ.
والمقصود من هذا الْأَخْبَارِ عَمَّا يَقَعُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا شَرْعًا، مِمَّا يُشَابِهُ أَهْلَ الْكِتَابِ قَبْلَنَا إن اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِ عَنْ مُشَابِهَتِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الْمُؤْمِنِ خَيْرًا لكنه تشبه ففعله في الظاهر فِعْلِهِمْ، وَكَمَا نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشمس وعند غروبها لئلا تشابه الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ المؤمن لا يخطر بباله شئ من ذلك بالكلية وهكذا قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 104] .
فَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كلامهم معه: راعنا أَيِ انْظُرْ إِلَيْنَا بِبَصَرِكَ، وَاسْمَعْ كَلَامَنَا، وَيَقْصِدُونَ بقولهم راعنا من الرعونة فنهى المؤمنين أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَذَا أَبَدًا.
فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ والتِّرمذي مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " بُعِثْتُ بالسَّيف بَيْنَ يَدَيِ السَّاعة حتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلة والصَّغار عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تشبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يتشبه بهم لا في أعيادهم ولا مواسمهم ولا في عباداتهم " (3) .
لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى شرَّف هَذِهِ الْأُمَّةَ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي شَرَعَ لَهُ الدِّين الْعَظِيمَ الْقَوِيمَ الشَّامِلَ الْكَامِلَ الَّذِي لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عمران الذي أنزلت عليه التوراة وعيسى بن مَرْيَمَ الَّذِي
أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ حَيَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَرْعٌ مُتَّبَعٌ بَلْ لَوْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ بَلْ وَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ لَمَا سَاغَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُشَرَّفَةِ الْمُكَرَّمَةِ الْمُعَظَّمَةِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ منَّ عَلَيْنَا بِأَنْ جَعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَتَشَبَّهَ بِقَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السبيل قَدْ بَدَّلُوا دِينَهُمْ وَحَرَّفُوهُ وَأَوَّلُوهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَا شُرِعَ لَهُمْ أَوَّلًا.
ثُمَّ هو
__________
(1) صحيح البخاري: أنبياء (5) ; صلاة (55) مغازي 83.
ومسلم في صحيحه: كتاب المساجد: 22 والنسائي مساجد 13 والدارمي في سننه: صلاة (120) وأحمد في مسنده 6 / 229، 275.
(2) صحيح البخاري أنبياء (50) ، اعتصام (14) ومسلم في كتاب العلم / 6 ; وابن ماجة في سننه في كتاب الفتن 17 وأحمد في مسنده ج 2 / 325.
(3) مسند أحمد ج 2 / 50، 62.
[*]
(2/174)
بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَنْسُوخٌ وَالتَّمَسُّكُ بِالْمَنْسُوخِ حَرَامٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي لَمْ يُشْرَعْ بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنما أجلكم من أجل من خلا من قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمِثْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلَا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ العصر إلى المغرب عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلَا لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، فَغَضِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وأقل عطاء قال الله تعالى: (هل ظلمتكم من حقكم شيئاً فقالوا: لا قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء) (1) وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ
قَصِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ مُدَدِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا لِقَوْلِهِ إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَالْمَاضِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا أَنَّ الْآتِيَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، وَلَكِنَّهُ قَصِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَبَقَ وَلَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَى تحديد ما بقي إلا الله عزوجل كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) [الأعراف: 187] وَقَالَ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيان مرساهم فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) [النازعات: 41 - 43] .
وما تذكره بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ أَنَّهُ: " عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُؤَلَّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ " فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ إِنَّ الدُّنْيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ (2) .
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ بِالْعُمَّالِ تَفَاوُتُ أُجُورِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ ليس منوطا بكثرة العمل وقلته، بَلْ بِأُمُورٍ أُخَرَ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ قَلِيلٍ أَجْدَى مَا لَا يُجْدِيهِ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ، هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الْعَمَلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ سِوَاهَا وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ محمَّد صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَقُوا فِي أَوْقَاتٍ لَوْ أَنْفَقَ غَيْرُهُمْ مِنَ الذهب مثل أحد ما بلغ من أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ مِنْ تَمْرٍ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ وَقَبَضَهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَدْ بَرَزَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ حَتَّى عَلَى نُوحٍ الَّذِي لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، ويعمل بطاعة
__________
(1) صحيح البخاري: أنبياء (50) فضائل القرآن (17) ، والترمذي في كتاب الأدب 92 وأحمد في مسنده 2 / 112، 124.
(2) قال الهروي في " الموضوعات الصغرى " 379 / 200 لا أصل له باطل.
[*]
(2/175)
اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، صَبَاحًا وَمَسَاءً، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِنَّمَا شَرُفَتْ وَتَضَاعَفَ ثَوَابُهَا بِبَرَكَةِ سِيَادَةِ نَبِيِّهَا وَشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أن لا يقدرون على شئ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 28 - 29] .
فَصْلٌ وَأَخْبَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الكتاب والسنة النَّبَوِيَّةِ، وَلَوْ ذَهَبْنَا نَتَقَصَّى ذَلِكَ لَطَالَ الْكِتَابُ وَلَكِنْ ذَكَرْنَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الله البخاري في هذا الكتاب فَفِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ وَهُوَ تَذْكِرَةٌ وَأُنْمُوذَجٌ لِهَذَا الباب والله أعلم.
وأما الأخبار الإسرائيلية فيما يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرَّخَيْنِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِمَا وَقَعَ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا بَلْ أَكْثَرُهَا مِمَّا يَذْكُرُهُ الْقُصَّاصُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى وَضَعَهُ زَنَادِقَتُهُمْ وَضُلَّالُهُمْ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لِمُوَافَقَتِهِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ لِمُخَالَفَتِهِ كِتَابَ اللَّهِ وسنَّة رَسُولِهِ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَهَذَا الَّذِي أُمِرْنَا بِالتَّوَقُّفِ فِيهِ فَلَا نُصَدِّقُهُ ولا نكذبه كما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ الَيْكُمْ " (1) .
وَتَجُوزُ رِوَايَتُهُ مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: " وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ولا حرج " (2) .
تَحْرِيفُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَبْدِيلِهِمْ أَدْيَانَهُمْ أَمَّا الْيَهُودُ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةَ عَلَى يَدَيْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لكل شئ) [الأنعام: 154] وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام: 91] وَقَالَ تعالى: (وَلَقَدْ آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكرى لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء: 48] وَقَالَ تَعَالَى: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم) [الصَّافَّاتِ: 117 - 118] وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا الناس واخشوني وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً.
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44] فَكَانُوا يَحْكُمُونَ بِهَا وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِهَا
__________
(1) تقدم تخريجه فليراجع في مكانه.
(2) تقدم تخريجه فليراجع في مكانه.
[*]
(2/176)
بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ شَرَعُوا فِي تَحْرِيفِهَا وَتَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا وَإِبْدَاءِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يلوون السنتهم ك بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 78] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أنهم يفسرونها ويتأو لونها وَيَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي مَعَانِيهَا وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ، كَمَا بدلوا حكم الرجم بالجلد، وَالتَّحْمِيمِ مَعَ بَقَاءِ لَفْظِ الرَّجْمِ فِيهَا، وَكَمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، مَعَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاقَامَةِ الْحَدِّ وَالْقَطْعِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ.
فَأَمَّا تَبْدِيلُ أَلْفَاظِهَا فَقَالَ قَائِلُونَ: بِأَنَّهَا جَمِيعَهَا بُدِّلَتْ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ تُبَدَّلْ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ) [المائدة: 43] وَقَوْلُهُ: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) الآية [الاعراف: 157] وَبِقَوْلِهِ: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 93] وَبِقِصَّةِ الرَّجْمِ فَإِنَّهُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هريرة وغيره لما تحاكوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فِي قصَّة الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ (1) فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْضَارِ التَّوْرَاةِ فَلَمَّا جاؤوا بها وجعلوا يقرأونها وَيَكْتُمُونَ آيَةَ الرَّجْمِ الَّتِي فِيهَا وَوَضَعَ عَبْدُ الله بن صور بأيده عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَعْ يَدَكَ يَا أَعْوَرُ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَاذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أماتوه "، وعند أبي داود: أنهم لما جاؤوا بِهَا نَزَعَ الْوِسَادَةَ مِنْ تَحْتِهِ فَوَضَعَهَا تَحْتَهَا وَقَالَ آمَنْتُ بِكِ وَبِمَنْ أَنْزَلَكِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَامَ لَهَا
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِسْنَادِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ يُشْكِلُ عَلَى مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ التَّوْرَاةَ انقطع تواترها في زمن بخت نصر ولم يبق من يحفظها إلا العزيز، ثُمَّ الْعُزَيْرُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَهُوَ مَعْصُومٌ وَالتَّوَاتُرُ إِلَى الْمَعْصُومِ يَكْفِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ إِلَيْهِ لَكِنْ بَعْدَهُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَكُلُّهُمْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالتَّوْرَاةِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً مَعْمُولًا بِهَا لَمَا اعتمدوا عليها وهم أنبياء
__________
(1) ما تجدون في التوارة: قال العلماء: هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم، وإنما هو لالزامهم بما يعتقدونه في كتابهم.
(2) الحديث أخرجوه من عدة طرق وبروايات مختلفة، صحيح البخاري توحيد (51) جنائز (60) مناقب 26 تفسير آل عمران / 6 اعتصام 16 ومسلم في كتاب الحدود: 13 - 26 - 27 - 28 والترمذي في سننه حدود (10) وابن ماجة في سننه حدود (10) وأبو داود في سننه حدود (25) والدارمي في سننه: حدود (15) ومالك في الموطأ حدود (1) وأحمد في مسنده ج 2 / 7، 62، 63، 76، 126، 280 - 4 / 255، 5 / 91، 92، 94، 95، 96، 104، 108.
[*]
(2/177)
مَعْصُومُونَ.
ثُمَّ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُودِ فِي قَصْدِهِمُ الْفَاسِدِ إِذْ عَدَلُوا عَمَّا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِهِ حتماً لى التَّحَاكُمِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُعَانِدُونَ مَا جَاءَ بِهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي زَعْمِهِمْ مَا قَدْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ (1) الْمُصَادِمِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ حَتْمًا وَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ لَكُمْ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَاقْبَلُوهُ وَتَكُونُونَ قَدِ اعْتَذَرْتُمْ بِحُكْمِ نَبِيٍّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ لَكُمْ بِهَذَا بَلْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقَصْدِ الْفَاسِدِ الَّذِي إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ الْغَرَضُ الْفَاسِدُ وَمُوَافَقَةُ الْهَوَى لَا الدِّينُ الْحَقُّ فَقَالَ: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) الآية [المائدة: 43 - 44] ولهذا حَكَمَ بِالرَّجْمِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ،
وَسَأَلَهُمْ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا وَلِمَ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّ الزِّنَا قَدْ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، وَلَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نُقِيمَهُ عَلَيْهِمْ، وَكُنَّا نَرْجُمُ مَنْ زَنَى مِنْ ضُعَفَائِنَا.
فَقُلْنَا تَعَالَوْا إِلَى أَمْرٍ نِصْفٍ نَفْعَلُهُ مَعَ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَاصْطَلَحْنَا عَلَى الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ تَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمُ الْبَاطِلِ وَهَذَا إِنَّمَا فَعَلُوهُ فِي الْمَعَانِي مَعَ بَقَاءِ لَفْظِ الرَّجْمِ فِي كِتَابِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: هَذَا مِنَ النَّاسِ إِنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَبْدِيلُهُمْ إِلَّا فِي الْمَعَانِي وَإِنَّ الْأَلْفَاظَ بَاقِيَةٌ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِذْ لَوْ أَقَامُوا مَا فِي كِتَابِهِمْ جَمِيعِهِ لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157] الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مقتصدة) الآية [المائدة: 66] وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لستم على شئ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية [المائدة: 68] وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي مَعَانِيهَا لَا فِي أَلْفَاظِهَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ كِتَابِهِ الصَّحِيحِ وَقَرَّرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ.
وَحَكَاهُ الْعَلَّامَةُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَكْثَرِ المتكلمين.
ليس للجنب لمس التوراة وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، وَحَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى التَّوَسُّطِ فِي هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلى
__________
(1) التحميم: تسويد الوجوه بالحمم وهو الفحم.
[*]
(2/178)
أَنَّهَا كُلَّهَا مُبَدَّلَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا بِدَّلُوهُ فَهَذَا بعيد، وكذا من قال لم يبدل شئ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بَعِيدٌ أَيْضًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ دَخَلَهَا تَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ وَتَصَرَّفُوا فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا بِالزِّيَادَةِ
وَالنَّقْصِ، كَمَا تَصَرَّفُوا فِي مَعَانِيهَا وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كما في قوله فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ: اذْبَحِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ وَفِي نُسْخَةٍ بِكْرَكَ إِسْحَاقُ.
فَلَفْظَةُ إِسْحَاقَ مُقْحَمَةٌ مَزِيدَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ.
لِأَنَّ الْوَحِيدَ وَهُوَ الْبِكْرُ إِسْمَاعِيلُ لِأَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ إِسْحَاقَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَكَيْفَ يَكُونُ الْوَحِيدُ الْبِكْرَ إِسْحَاقُ.
وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ على ذلك حسد العرب أن يكون إسماعيل غير الذَّبِيحُ، فَأَرَادُوا أَنْ يَذْهَبُوا بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ لَهُمْ، فَزَادُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ افْتِرَاءً عَلَى الله وعلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اغْتَرَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَوَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ وَالصَّحِيحُ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ كَمَا قَدَّمْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا فِي تَوْرَاةِ السَّامِرَةِ فِي الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ زِيَادَةُ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الطُّورِ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ نُسَخِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَهَكَذَا يُوجَدُ فِي الزَّبُورِ الْمَأْثُورِ عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخْتَلِفًا كَثِيرًا وَفِيهِ أَشْيَاءُ مَزِيدَةٌ مُلْحَقَةٌ فِيهِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ وَأَمَّا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الْمُعَرَّبَةِ فَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي تَبْدِيلِهَا وَتَحْرِيفِ كَثِيرٍ مِنْ أَلْفَاظِهَا وَتَغْيِيرِ الْقَصَصِ وَالْأَلْفَاظِ وَالزِّيَادَاتِ وَالنَّقْصِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شئ كَثِيرٌ جِدًّا فَأَمَّا مَا يَتْلُونَهُ بِلِسَانِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِأَقْلَامِهِمْ فَلَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ وَالْمَظْنُونُ بِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَبَةُ خَوَنَةٌ يُكْثِرُونَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَأَنَاجِيلُهُمُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ طريق مُرْقُسٍ وَلُوقَا وَمَتَّى وَيُوحَنَّا أَشَدُّ اخْتِلَافًا وَأَكْثَرُ زِيَادَةً وَنَقْصًا وَأَفْحَشُ تَفَاوُتًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَقَدْ خَالَفُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي غَيْرِ مَا شئ قَدْ شَرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَمِنْ ذَلِكَ صَلَاتُهُمْ إِلَى الشَّرْقِ وَلَيْسَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا وَلَا مَأْمُورًا بِهَا في شئ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَهَكَذَا تَصْوِيرُهُمْ كَنَائِسَهُمْ وَتَرْكُهُمُ الْخِتَانَ وَنَقْلُهُمْ صِيَامَهُمْ إِلَى زَمَنِ الرَّبِيعِ وَزِيَادَتُهُ إِلَى خَمْسِينَ يَوْمًا وَأَكَلُهُمُ الْخِنْزِيرَ وَوَضْعُهُمُ الْأَمَانَةَ الكبيرة وإنما هي الخيانة الْحَقِيرَةُ وَالرَّهْبَانِيَّةُ (1) وَهِيَ تَرْكُ التَّزْوِيجِ لِمَنْ أَرَادَ التعبد وتحريمه عليه
__________
(1) قال صلَّى الله عليه وسلم: لا رهبانية في الإسلام.
وقال صلَّى الله عليه وسلم: أن لانفسكم عليكم حقا فصوموا وافطروا وقوموا وناموا ; فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر.
وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم.
) ، في الآية وكلام النبي صلى الله عليه وسلَّم نهى عن
الرهبانية.
قال الرازي في تفسيره: الحكمة في نهي الله تعالى عن الرهبانية فيها وجوه: - أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الاعضاء الرئيسة التي هي القلب والدماغ، فتختل الفكرة وتشوش العقل.
وأن أكمل السعادات إنما هو معرفة الله تعالى: فَإِذَا كانت الرهبانية الشديدة مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها.
[*]
(2/179)
وَكَتْبُهُمُ الْقَوَانِينَ الَّتِي وَضَعَتْهَا لَهُمُ الْأَسَاقِفَةُ الثَّلَاثُمِائَةِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ (1) فَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ابْتَدَعُوهَا وَوَضَعُوهَا في أيام قسطنطين بن قسطن بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَكَانَ زَمَنُهُ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَ أَبُوهُ أَحَدَ مُلُوكِ الرُّومِ وَتَزَوَّجَ أُمَّهُ هِيلَانَةَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ لِلصَّيْدِ مِنْ بِلَادِ حَرَّانَ وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً عَلَى دِينِ الرَّهَابِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَلَمَّا وُلِدَ لَهَا مِنْهُ قُسْطَنْطِينُ الْمَذْكُورُ تعلم الفلسفة وبهر فيها وصار فيه ميل بعض الشئ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي أُمُّهُ عَلَيْهَا، فَعَظَّمَ الْقَائِمِينَ بها بعض الشئ وَهُوَ عَلَى اعْتِقَادِ الْفَلَاسِفَةِ، فَلَمَّا مَاتَ أَبَوْهُ وَاسْتَقَلَّ هُوَ فِي الْمَمْلَكَةِ سَارَ فِي رَعِيَّتِهِ سِيرَةً عَادِلَةً فَأَحَبَّهُ النَّاسُ، وَسَادَ فِيهِمْ وَغَلَبَ عَلَى مَلِكِ الشَّامِ بِأَسْرِهِ مَعَ الْجَزِيرَةِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَكَانَ أَوَّلَ الْقَيَاصِرَةِ.
ثُمَّ اتَّفَقَ اخْتِلَافٌ في زمانه بين النصارى ومنازعة بين بترك الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِكْصَنْدَرُوسَ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ يُقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْيُوسَ فَذَهَبَ إِكْصَنْدَرُوسَ إِلَى أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ وَذَهَبَ ابْنُ أَرْيُوسَ إِلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَاتَّبَعَهُ عَلَى هَذَا طائفة من النصارى، واتفق الأكثرون الأخسرون على قول بتركهم وَمَنْعِ ابْنِ أَرْيُوسَ مِنْ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ هُوَ وأصحابه فهذب يستعدي على اكصندروس وأصحابه، إلى ملك قُسْطَنْطِينَ فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ عَنْ مَقَالَتِهِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْيُوسَ مَا يَقُولُ فِي الْمَسِيحِ مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَاحْتَجَّ على ذلك فحال إِلَيْهِ وَجَنَحَ إِلَى قَوْلِهِ فَقَالَ لَهُ قَائِلُونَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْعَثَ إِلَى خَصْمِهِ فَتَسْمَعُ كَلَامَهُ فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِإِحْضَارِهِ وَطَلَبَ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ كل أسقف وكل من عنده في دين النَّصرانية وجمع البتاركة الْأَرْبَعَةَ مِنَ الْقُدْسِ وَأَنْطَاكِيَةَ وَرُومِيَّةَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةَ فَيُقَالَ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي مُدَّةِ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفَيْ أُسْقُفٍ فَجَمَعَهُمْ فِي مَجْلِسٍ
وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَجْمَعُ الْأَوَّلُ مِنْ مَجَامِعِهِمُ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا مُنْتَشِرًا جِدًّا.
فَمِنْهُمُ الشِّرْذِمَةُ عَلَى الْمَقَالَةِ الَّتِي لَا يُوَافِقُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْبَاقِينَ عَلَيْهَا فَهَؤُلَاءِ خَمْسُونَ عَلَى مَقَالَةٍ.
وَهَؤُلَاءِ ثَمَانُونَ عَلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى.
وَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ وَأَرْبَعُونَ عَلَى أُخْرَى وَمِائَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ وَمِائَتَانِ عَلَى مَقَالَةٍ وَطَائِفَةٌ عَلَى مَقَالَةِ ابْنِ أَرْيُوسَ وَجَمَاعَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى فَلَمَّا تَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ وَانْتَشَرَ اخْتِلَافُهُمْ حَارَ فِيهِمُ الملك قسطنطين مع أنه سئ الظَّنِّ بِمَا عَدَا دِينَ الصَّابِئِينَ مِنْ أَسْلَافِهِ الْيُونَانِيِّينَ فَعَمَدَ إِلَى أَكْثَرِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلَى مقالة من مقالاتهم فوجدهم ثلثمائة وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًا قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَقَالَةِ إِكْصَنْدَرُوسَ وَلَمْ يَجِدْ طَائِفَةً بَلَغَتْ عِدَّتَهُمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِنَصْرِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْفِرَقِ فَاجْتَمَعَ بِهِمْ خُصُوصًا وَوَضْعَ سَيْفَهُ وَخَاتَمَهُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرَ الْفِرَقِ قَدِ اجْتَمَعْتُمْ على مقالتكم هذه
__________
= - إن اشتغال النفس بطلب اللذات، إنما هو مسلم لكن في حق النفوس الضعيفة أما النفوس المستعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الاعمال الحسية مانعا لها من الاستكمال بالسعادات العقلية ; فالرهبانية الخالصة دليل على نوع من الضعف والقصور.
- إن من استوفى اللذات الحسية كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية.
- الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل.
11 / 70 - 71.
(1) في المجمع السكوني الاول.
[*]
(2/180)
فَأَنَا أَنْصُرُهَا وَأَذْهَبُ إِلَيْهَا فَسَجَدُوا لَهُ وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَضَعُوا لَهُ كِتَابًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ إِلَى الشَّرْقِ لِأَنَّهَا مَطْلِعُ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ وَأَنْ يُصَوِّرُوا فِي كَنَائِسِهِمْ صُوَرًا لَهَا جُثَثٌ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي الْحِيطَانِ فَلَمَّا تَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ أَخَذَ فِي نَصْرِهِمْ وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِمْ وَإِقَامَةِ مَقَالَتِهِمْ وَإِبْعَادِ مَنْ خَالَفَهُمْ وَتَضْعِيفِ رَأْيِهِ وَقَوْلِهِ، فَظَهَرَ أَصْحَابُهُ بِجَاهِهِ على مخالفيهم وَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْكَنَائِسِ عَلَى دِينِهِمْ وهم المليكة نِسْبَةً إِلَى دِينِ الْمَلِكِ فَبُنِيَ فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِينَ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا فِي الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى أَزِيدُ من اثنتي عشر أَلْفَ كَنِيسَةٍ، وَاعْتَنَى الْمَلِكُ بِبِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ يَعْنِي عَلَى مَكَانِ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ وَبَنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ قُمَامَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى مَكَانِ الْمَصْلُوبِ الذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم
وقلة علمهم أَنَّهُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ قتل من أعداء أُولَئِكَ وَخَدَّ لَهُمُ الْأَخَادِيدَ فِي الْأَرْضِ، وَأَجَّجَ فِيهَا النَّارَ، وَأَحْرَقَهُمْ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ.
وَعَظُمَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ وَظَهَرَ أَمْرُهُ جِدًّا بِسَبَبِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ وَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْهِمْ فساداً لا إصلاح لَهُ وَلَا نَجَاحَ مَعَهُ وَلَا فَلَاحَ عِنْدِهِ وَكَثُرَتْ أَعْيَادُهُمْ بِسَبَبِ عُظَمَائِهِمْ وَكَثُرَتْ كَنَائِسُهُمْ (1) عَلَى أَسْمَاءِ عُبَّادِهِمْ، وَتَفَاقَمَ كُفْرُهُمْ، وَغَلُظَتْ مُصِيبَتُهُمْ، وَتَخَلَّدَ ضَلَالُهُمْ، وَعَظُمَ وَبَالُهُمْ، وَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَلَا أَصْلَحَ بَالَهُمْ بَلْ صَرَفَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الحق، وأمال عن الاستقامة ثُمَّ اجْتَمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَجْمَعَيْنِ فِي قَضِيَّةِ النُّسْطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى وَتَعْتَقِدُ تَخْلِيدَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَا يرى مُجَامَعَتَهُمْ فِي الْمَعَابِدِ وَالْكَنَائِسِ وَكُلُّهُمْ يَقُولُ بِالْأَقَانِيمِ (2) الثَّلَاثَةِ أُقْنُومُ الْأَبِ وَأُقْنُومُ الِابْنِ وَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ.
وَلَكِنْ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِيمَا بين اللاهوت والناسوت هل تدرعه (3) أوحل فِيهِ أَوِ اتَّحَدَ بِهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ شَدِيدٌ وَكُفْرُهُمْ بِسَبَبِهِ غَلِيظٌ، وَكُلُّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ إِلَّا مَنْ قَالَ مِنَ الْأَرْيُوسِيَّةِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْيُوسَ إِنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَكِنْ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْأَرْيُوسِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْفَرْقُ الثَّلَاثَةُ بِالْإِبْعَادِ وَالطَّرْدِ حَتَّى قَلُّوا فَلَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فيما يعلم.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الْجَامِعِ لِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وآتينا عيسى بن مريم الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس) الآية [البقرة: 253] وقال تعالى:
__________
(1) قَالَ براستد في العصور القديمة: وكان ارتقاء الفنون بين المسيحيين الاولين بطيئا، ولكن الحاجة إلى وجود أماكن للاجتماع أدت إلى نبوغ بنائين من الدرجة الاولى بين المسيحيين الاولى فبنوا في عهد قسطنطين أماكن للاجتماع مهيبة جدا على نمط الباسيليكا التجارية القوية.
ص 662.
(2) الاقانيم الثلاثة: قال الشهرستاني: يعنون بالاقانيم الصفات كالوجود والحياة والعلم وسموها: الاب والابن وروح القدس، وإنما العلم تدرع وتجسد دون سائر الاقانيم.
(3) تدرع: من فعل ادرع أي دخل، يقال: ادرع الليل: دخل في ظلمته، وكل ما أدخلته في جوف الشئ فقد
أدرعته.
[*]
(2/181)
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ يعقوب وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً.
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 163 - 165] .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْرَاهِيمَ بْنِ هِشَامٍ عَنْ يحيى بن محمد الْغَسَّانِيِّ الشَّامِيِّ - وَقَدْ تكلَّموا فِيهِ - حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا ".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ: " آدَمُ " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ " خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ثُمَّ سَوَّاهُ قَبْلًا (1) .
ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ آدَمُ وَشِيثٌ وَنُوحٌ وَخَنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ وَأَوَّلُ نبيٍّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَآخِرُهُمْ عِيسَى وَأَوَّلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ وَآخِرُهُمْ نَبِيُّكَ " (2) .
وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا الحديث أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حدَّثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مَعَانُ بن رفاعة، عن علي بن زيد، عن الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ وأربعة وعشرون ألفاً الرسل من ذلك ثلثمائة وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا " (3) .
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَعِيفٌ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ مُعَانٌ وَشَيْخُهُ وَشَيْخُ شَيْخِهِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْهَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عبيدة اليزيدي (4) ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَعَثَ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ نَبِيٍّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ إِلَى سائر
الناس " (5) موسى وشيخه ضعيفان أيضاً وَقَالَ أَبُو يَعْلَى أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، حدثنا محمد بن
__________
(1) قبلا: أي عيانا ومقابلة.
(2) أخرج قسما منه الهيثمي في زوائده 1 / 160 وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الاوسط بنحوه وعند النسائي طرف منه وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط.
(3) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 159 وفيه: أن أبا ذر سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الهيثمي: ورواه أحمد والطبراني في الكبير.
وفي 8 / 210 عن أبي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ:..قال الهيثمي ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي وهو ثقة وأخرجه أحمد في مسنده 5 / 266.
(4) كذا في الاصل اليزيدي، وهو تحريف والصواب الربذي والرجل معروف ومشهور وهو ضعيف جداً (قاله الهيثمي) .
(5) رواه الهيثمي في زوائده ; وقال رواه أبو يعلى وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف جداً.
8 / 210.
[*]
(2/182)