ذكر ولاية بني إياد بن نزار الكعبة وشيء من خبرهم وخبر مضر ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش:
قال الفاكهي: ذكر ولاية إياد بن نزار البيت وحجابتهم إياه وتفسير ذلك: حدثنا حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا محمد بن حبيب قال: قال عيسى بن بكر الكناني: ثم وليت حجابة البيت إياد؛ فكان أمر البيت إلى رجل منهم يقال له: وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد؛ فبنى صرحا بأسفل مكة -عند سوق الحناطين اليوم- وجعل فيه أمة يقال لها: الحزورة -فبها سميت خزورة مكة- وجعل فيها سلما، وكان يرقاه، ويقول -بزعمه- إنه يناجي الله تبارك وتعالى، وكان ينطق بكثير من الخبر يقوله، وقد أكثر فيه علماء العرب؛ فكان أكثر من قال فيه أن قال: إنه كان صديقا من الصديقين، وكان يتكهن، ويقول: مرضعة وفاطمة، ووادعة وقاطعة، والقطيعة، والفجيعة، وصلة الرحم، وحسن الكلم، يقول ربكم: "ليجزين بالخير ثوبا، وبالشر عقابا"،
وكان يقول: من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم، وأزيلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد.
حتى إذا حضرته الوفاة جمع إيادا؛ فقالوا: اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان، والأمر بعد البيان، من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجليها؛ فكان أول من قالها؛ فأرسلها مثلا. فمات وكيع، فنعي على رؤوس الجبال، فقال بشر بن الحجر:
ونحن إياد عباد الإله ... ورهط مناجية في سلم
ونحن ولاة حجاب العتيق ... مآل النخاع على جرهم
ثم قال: وقامت نائحة وكيع على أبي قبيس فقالت:
ألا هلك الوكيع أخو إياد ... سلام المرسلين على وكيع
مناجي الله مات فلا خلود ... وكل شريف قوم في وضيع1
ثم إن مضر أديلت بعد إياد، وكان أول من ديل منها: عدوان وفهم، وأن رجلا من إياد ورجلا من مضر خرجا يصيدان؛ فمرت بهما أرنب، فاعتنقا بها يرميانها؛ فرماها الإيادي، فنزل سهم فنظم قلب المضري فقتله؛ فبلغ الخبر مضر، فاستغاثت بفهم وعدوان يطلبون لهم قود صاحبهم؛ فقالوا: إنما أخطأه، فأبت فهم وعدوان إلا قتله،
__________
1 في منتخف شفاء الغرام طبع أروبا "ص: 137": "وضوع".(2/33)
فتناوش الناس بينهم بالمدور1 -وهو مكان- قشمت مضر من إياد ظفرا؛ فقالت لهم إياد: أجلونا ثلاثا فلن نساكنكم أرضكم؛ فأجلوهم ثلاثا، فظعنوا قبل المشرق؛ فلما ساروا يوما اتبعتهم فهم وعدوان حتى أدركوهم، فقالوا: ردوا علينا نساء مضر المتزوجات فيكم؛ فقالوا: لا تقطعوا قرابتنا، اعرضوا على النساء، فأية امرأة اختارت قومها رددتموها، وإن أحبت الذهاب مع زوجها أعرضتم لنا عنها، قالوا: نعم، فكان أول من اختار أهله امرأة من خزاعة.
فحدثنا الزبير بن أبي بكر قال: لما هلك وكيع الإيادي واتضعت إياد، وهي إذ ذاك تلي أمر بيت الله الحرام، وقاتلوهم وأخرجوهم وأجلوهم ثلاثا يخرجون عنهم؛ فلما كانت الليلة الثانية حسدوا مضر أن تلي الركن الأسود؛ فحملوه على بعير، فبرك فلم يقم، فغيروه، فلم يحلموه على شيء إلا زرح وسقط، فلما رأوا ذلك فحنوا له تحت شجرة فدفنوه.
ثم ارتحلوا من ليلتهم؛ فلما كان بعد يومين افتقدت مضر الركن، فعظم من أنفسها، وقد كانت شرطت على إياد كل متزوجة فيهم؛ فكانت امرأة من خزاعة -فيما يقولون- يقال لها: قدامة متزوجة في إياد، وخزاعة إذ ذاك -فيما يزعمون، والله أعلم -ينتسبون لبني عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر، فأبصرت إياد حين دفنت الركن.
اجتمع الزبير والكلبي، وحديثهما كل واحد منهم بنحو من حديث صاحبه، فقالت لقومها حين رأت مشقة ذهاب الركن على مضر: خذوا عليهم أن يولوكم حجابة البيت، وأدلكم على الركن، فأخذوا بذلك عليهم، فوليتها خزاعة على العهد والميثاق الذي كان؛ فهذا سبب ولايتهم البيت.
وقال الكلبي في حديثه: فقالوا لهم: إن دللناكم على الركن، أتجعلونا ولاته؟ قالوا: نعم، وقالت مضر جميعا: نعم، فدلتهم عليه. فأعادوه في مكانه، وولوه، فلم يبرح في أيدي خزاعة، حتى قدم قصي؛ فكان من أمره الذي كان2 ... انتهى.
وقال الفاكهي -أيضا- بعد أن ذكر خبر بني نزار السابق متصلا به: وكان العدد والشرف من بني نزار السابق متصلا به: وكان العدد والشرف من بني نزار بن معد في إياد، قال: فلم يزالوا كذلك حتى بغوا على مضر وربيعة؛ فأهلكهم الله تبارك وتعالى؛ فكانوا من أهلكهم البغي بعد ابن آدم، سلط الله
__________
1 لم أجد في معجم البلدان "المدور" إنما الموجود "مدري": جبل بنعمان قرب مكة، ولعله المقصود لقربه من مكة.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 145-147 والعقد الثمين 1/ 137-138.(2/34)
-عز وجل- النخاع، وجعل الشرف والعدد والملك والنبوة في مضر؛ فدخلوا إلى أرض العراق1 ... انتهى.
وذكر المسعودي ما يقتضي أن ولاية البيت بعد جرهم صارت إلى ولد إياد بن نزار؛ لأنه قال: بعد أن ذكر خبر جرهم متصلا به: ثم صارت ولاية البيت في ولد إياد بن نزار، بعد، ثم كان حروب كثيرة بين ولد مضر إياد؛ فكانت لمضر على إياد، فانجلفوا عن مكة إلى العراق2 ... انتهى.
وممن ولي الكعبة من مضر -على ما ذكر الفاكهي- أسد بن خزيمة؛ لأنه قال فلما مات، صار البيت في أسد بن خزيمة، فكان سادن الكعبة؛ فحدثني عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا الوليد بن عطاء المكي، عن أبي صفوان، عن عبد الملك بن عبد العزيز، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أسد بن خزيمة خازن الكعبة في الزمن الأول.
وحدثني هارون بن محمد بن عبد الملك، قال: حدثني موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة قال: حدثني أبي قال: قال لي أبو جعفر المنصور: يا شيخ أين قبر جدك؟ قال: قلت بخرمان3. قال: فقال لي: لا، هو على أبي قبيس، إنه كالن من الفريقين عظيما؛ يعني أسد بن خزيمة ... انتهى.
ذكر ذلك الإمام الفاكهي في ترجمة ترجم عليها بقوله: "ذكر من ولي مكة من مضر بن نزار قديما وتفسير أمورهم".
ولم أر فيما ذكر في هذه الترجمة شيئا يفهم منه ولاية أحد ممن ذكر فيها لما ذكر غير أسد بن خزيمة ونفر قليل غيره، على ما يأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- بل في كلامه ما يشعر بخلاف ما ترجم له، ونذكر كلامه بنصه، قال بعد الترجمة التي سبق ذكرها: حدثنا أحمد بن حميد الأنصاري، قال: حدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا الفضيل بن محمد، قال: كان محلم بن سويد الرئيس الأول -ظننا أول من رأس معدا- وكان معقد قبل ذلك تسترضي رأيه جماعة، رجل رجل؛ فكان أول من قتاد معه ميمنة وميسرة ولواء، وفي ذلك يقول الفرزدق:
زيد الفوارس وابن زيد منهم ... وأبو قبيصة والرئيس الأول
أمأ قوله: ابن زيد؛ فهو حصين بن زيد بن صباح الضبي، وهو الذي قال:
أوصى أبونا ضبة الملقى ... سيف سليمان الذي يبقى
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 147.
2 مروج الذهب 2/ 51.
3 خرمان: بستان بمكة.(2/35)
إن على كل رئيس حقا ... أن يخضب القناة أو تندقا
قال: وكان ضبة ينزل مكة، وكان قد ولي الحجاز واليمن لسليمان بن داود -عليهما السلام، وفي ذلك يقول الشاعر:
ضبة رب خراج الحجاز ... تجبى إليه إتاواتها
من كل ذي إبل ناقة ... ومن كل ذي غنم شاتها
وكان البيت في ضبة عمن مضر؛ فلما أن مات صار البيت من مضر في بن ضبة؛ فلما مات صار البيت في أسد بن خزيمة، فكان سادن الكعبة.
ثم قال بعد أن ذكر ما نقلناه عنه آنفا في شأن أسد بن خزيمة، ثم رجعنا إلى حديث الأنصاري، قال: فلما مات، صار البيت في تميم؛ فلما مات، صارت الرياسة إلى ابنه عمرو بن تميم، ثم صار البيت في أسيد بن عمرو؛ فلما مات أسيد صارت مضر لا رأس لها، حتى نشأ أبو الخفاد الأسدي، وكان من المعمرين، عاش دهرا طويلا، وفيه يقوله ربيعة أبو لبيد الجعفري:
أبو الخفاد إقبال الكبر فالدهر ... صرفان فخذ ومضر
في الدهر إن تجني لك الثمر ... من قيس عيلان وأحياء أخر
وكان الذي يسعى لأبي الخفاد في جيمع صدقاته: الحارث بن عمرو بن تميم؛ فكان إذا نزل بقوم لم يبرح حتى يأكل من طعامهم؛ فأكثر يوما من ذلك، فعظم بطنه، فسموه الحارث الحنط -وهو أو الحنطات- فلما مات أبو الخفاد صار البيت في بني جماد من بني سعد، ثم تحول البيت بعد الجمانيين إلى الأضبط بن قريع، ثم تحول البيت إلى بني حنظلة بن دارم بن حنظلة، وضرب عليهم القبة الحمراء، وهي قبة مضر الحمراء، وبها سميت مضر الحمراء؛ فلما صارت إلى عبد الله بن دارم؛ فلما مات صارت إلى ابنه يزيد بن عبد الله؛ فلما مات، صارت إلى ابنه حدس، فلما مات صارت إلى ابنه زرارة، فلما مات صارت إلى ابنه حاجب بن زرارة.
وكان حاجب والنباش ابنا زرارة من أشراف بني تميم وذوي القدر بمكة.
حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ثور بن يزيد قال: تزوج رجل امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلأمه أخ له، فذكر منها صلاحا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عليك إلا أن تكون تزوجت ابنه حاجب بن زرارة، إن الله -عز وجل- جاء بالإسلام؛ فسوى بين الناس، ولا لوم على مسلم" 1.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 151، 152.(2/36)
وحدثنا الزبير بن أي بكر قال: حدثني حماد بن نافع قال: سمعت سليمان المكي يقول: كان يقول في الجاهلية: والله لأنت أعز من النباش، وأشار بيده إلى دور حول المسجد، فقال: كانت هذه رباعهم.
ثم رجعنا إلى حديث الفضيل قال: ثم صارت إلى ابنه عطارد بن حاجب؛ فلما مات صارت الرياسة في بني تميم في عمير بن عطارد؛ فلما مات صابرت إلى ابنه بجيد بن عمير، وكان أحد الأجواد، وكان صاحب ربع بني تميم وهمدان بالكوفة، وكان على أذربيجان في ولاية معاوية -رضي الله عنه- فمر به ألف رجل من بني بكر بن وائل، كانوا وجهوا في بعث؛ فحملهم على ألف فرس، وكان البيت من ضبة في الكبر: من بني ثعلبة بن بكر، وهم الفرسان، والعدد من بني صباح: في الحصين بن يزيد، ثم تحول البيت -يعني الشرف والرياسة- يوم الفرس أو القريتين -شك أبو العباس- في ضرار بن عمرو؛ فلما مات المنذر، صارت إلى عيلان بن حرشة بن عمرو بن ضرار؛ فلما مات صارت إلى ابنه مكحول بن عيلان1 ... انتهى.
فقوله في هذا الخبر: ثم تحول البيت -يعني الشرف والرياسة- يفهم أن ما في هذا الخبر من قوله: فلما مات؛ صار إلى زيد الفوارس؛ فلما قتل، صار إلى قبيصة بن ضرار، وكان قبيصة على أصحابه يوم الكلاب؛ فلما مات، صارت إلى المنذر بن حسان بن ضرار -وكان المنذر بن حسان هو الذي قتل مهران الملك يوم القادسية -فلما مات المنذر، صارت إلى عيلان بن حرشة بن عهمرو بن ضرار. فلما مات صارت إلى ابنه مكحول بن عيلان1 ... انتهى.
فقوله في الخبر: ثم تحول البيت -يعني الشرف والرياسة- يفهم أن ما في هذا الخبر من قوله: فلما مات؛ صار البيت من هذا المعنى. وذلك يخالف المعنى المقصود بهذه الترجمة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 153، والإصابة 3/ 378 في ترجمة "المنذر بن حسان بن ضرار".(2/37)
الباب التاسع والعشرون:
في ذكر من ولي الإجازة بالناس من عرفة ومزدلفة ومنى من العرب في ولاية جرهم وفي ولاية خزاعة وقريش على مكة:
قال ابن إسحاق: وكان الغوث بن مر بن عباد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، وكان يقال له ولولده: صوفة؛ وإنما ولي الغوث بن مر: أن أمه كانت امرأة من جرهم، كانت لا تلد؛ فنذرت لله تعالى إن هي ولدت رجلا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها؛ فولدت الغوث، وكان يقوم على الكعبة في الدهر الأول مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس من عرفة، لمكانه الذي كان به من الكعبة، وولده من بعده، حتى انقرضوا، فقال مر بن أد لوفاء نذر أمه1:
إني جعلت رب من بنيه ... ربيطة بمكة العلية
فباركن لي بها إليه ... واجعله لي من صالح البرية
وكان الغوث من مر -زعموا- إذ دفع بالناس يقول:
لاهم إني تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعة
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز لهم إذا نفروا من منى؛ إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صوفة يرمي للناس، لا يرمون حتى يرمي؛ فكان ذوو الحاجات المستعجلون يأتونه، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي معك؛ فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل يرمونه بالحجارة
__________
1 هكذا ورد، ولعلها: "لوفاء نذر زوجه"، لأن امرأة مر هي: "أم الغوث"، وهي التي نذرت ووفت كما أشارت إلى ذلك رواية ابن إسحاق.(2/38)
ويستعجلونه بذلك ويقولون له: ويلك قم فارم، فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمي، ورمى الناس معه.
قال ابن إسحاق، فإذا فارغوا من رمي الجمار، وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانب العقبة، فحبسوا الناس وقالوا: أجيزي صوفة؛ فلم يجز أحد من الناس حتى يرموا فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس، فانطلقوا بعدهم؛ فكانوا كذلك حتى انقرضوا، فورثهم من بعدهم بالعقد: بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شحنة.
قال ابن هشام: صفوان هو ابن جناب بن شحنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
قال ابن إسحاق: فكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم هو الذي قام عليه الإسلام: كرب بن صفوان؛ فقال ابن مغراء السعدي:
لا تبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة لأوس بن مغراء، وأما قول ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن عمرو:
وعذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
بغى بعضهم ظلما ... فلمك يرع على ببعض
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ومنهم من يجيز النا ... س بالسنة والفرض
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
وهذه الأبيات في قصيدة له؛ لأن الإفاضة من المزدلفة كانت في عدوان، فيما حدثني زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق، يتوارثون ذلك كابرًا عن كابر، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام: أبو سيارة، عملية بن الأعزل، فقيه يقول شاعر العرب:
نحن دفعنا عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزارة
حتى أجاز سالما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جارة
وكان أبو سيارة يدفع بالناس على أتان؛ فلذلك يقول: سالما حماره ... انتهى.
وذكر الزبير بن بكار خبر الإجازة من المزدلفة، وأفاد في ذلك ما لم يفده ابن إسحاق فاقتضى ذلك ذكرنا له. قال بعد أن ذكر خبر الإجازة من عرفة: قال أبو عبيدة: والثانية الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى؛ فكان ذلك إلى بين زيد بن عدوان بن(2/39)
عمرو بن قيس بن غيلان؛ فكان آخر من ولي ذلك منهم: أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد الحارث، فكان إذا أراد أن يفيض بالناس غداة جمع قال: الجلعد، يا صاحب الحمار الأسود، على ما تحسد، مهلا صاحب الأتون الجلعد، اللهم أكف أبا سيارة الحسد، ثم يفيض بالناس، فقال قائل:
نحن دفعنا عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزارة
حتى أفاض محرما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره
وكان يقال: أصح من حمار أبي سياره.
قال أبو الحسن الأثرم: قال أبو عبيد: أظنه كان سمينا.
وقال: قال محمد بن الحسن: عاش حمار أبي سيارة أربعين سنة، لا يصيبه فيها مرض؛ فيقال: أصح من غير أبي سيارة ... انتهى.
وذكر الزبير بن بكار فيما نقل عنه الفاكهي ما يستغرب في نسب أبي سيارة، وفي انتقال الإجازة من صوفة إلى عدوان؛ لأنه قال: فأما الزبير بن أبي بكر قال: فلم تزل الإجازة إلى عقب صوفة حتى أخذتها عدوان؛ فلم تزل في عدوان حتى أخذتها قريش، ثم كان الحج مختلفا؛ فكانت قريش تدفع بمن معها من المزدلفة، وكان أبو سيارة يدفع بقيس من عرفة، وأبو سيارة من بني عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، وقيس أخواله ... انتهى.
وإنما كان هذا مستغربا لأنه يقتضي أن أبا سيارة من قريش، والمعروف أنه من عدوان كما ذكر الزبير -فيما سبق- وغيره من أهل الأخبار، ولأنه يفهم أن الإجازة صارت من صوفة إلى عدوان، والمعروف أن صوفة لم يزالوا يجيزون بالناس من عرفة حتى جاء الإسلام، وأن آخر من أجاز منهم: كرب بن صفوان، على ما ذكر ابن إسحاق وغيره.
وأما ما في هذا الخبر من أن قريشا أخذت من عدوان الإجازة؛ فكأنه أشار بذلك إلى ما وقع لقضي من أخذ ذلك من عدوان وصوفة، ثم ترك ذلك قصي لأنه كان يراه دنيئا.
وذكر الفاكهي من خبر أبي سيارة، وخبر الإفاضة من عرفة ومزدلفة غير ما سبق، فاقتضي ذلك ذكره؛ لأنه قال: وحدثني أحمد بن سليمان، قال: حدثنا زيد بن مبارك، قال: حدثني أبو ثور، عن ابن جريج، قال: قال مولى ابن عباس -رضي الله عنهما: وكانت الحمس من عدوان، قال: وكانوا يقومون بالمزدلفة حتى يدفعوا هم، ومن يعرف(2/40)
بعرفة من المزدلفة غداة جمع، وكان يدفع بهم أبو سيارة على حمار له عري، وكان يقول: أشرق ثبير لكي نغير وإذا أراد أن يدفع قال:
يا رب البعير الأسود ... على ما يحسد فهل أنت تحسد
على دمول جعلد ... ورثها أبي وجدي
ففي ذلك أنزل: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] .
وقال أيضا: وحدثنا حسن بن الحسين الأزدي، عن أبي عبد الله بن الأعرابي، عن هشام بن الكلبي، عن أبيه نحوا من الأحاديث الأولى، وزاد فيه: فكان كرب بن صفوان بن شحنة بن عطارد يأخذ بالطريق؛ فلا يفيض أحد من عرفات حتى تغيب الشمس، وكان يلي ذلك منهم -يعني الإجازة- كرب بن صفوان، وكانوا يقفون ولا يعرفون الوقوف بها؛ فيقيمون يفتخرون بآبائهم وبأفعالهم، ويسألون لدنياهم، فأنزل الله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200] ؛ فإذا غربت الشمس سارع نحو جمع، ويسيرون خلفه، لكل حي مجيز سوى ذلك، حتى يأتوا الحمس في جوف الليل، فيقضوا معهم، وقد أخذ الطريق، لا يخرج أحد قبل طلوع الشمس؛ فإذا أصبحوا قام أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن الحرث العدواني فقال: أشرق ثبير كيما نغير، اللهم إني سالك طريقة قريش فبين لنا يا رب حقنا، ثم يقول: اللهم أصلح بين نسائنا، وبض بين رعائنا، واجعل أموالنا عند سمحائنا. ثم يفيض من مزدلفة إلى منى على فرس له، وإن حمير عرضت لأبي سيارة ذات عام فقالوا: نحن أولى بهذا منك؛ فقال: كذبتم، أنتم في بلدي ونسكي وديني، هذا أمر نحن شرعناه أولا، وبنا اقتدت العرب فيه، وهذا ميراث لنا عن آبائنا، والحرمة حرمتنا؛ فأبوا عليه، وتعلقوا بلجامه؛ فقال: يا آل قيس؛ فلم يكن بها كثيرا أحد من قيس يقيم، فقال: يا آل مضر، فطار إليه بنو أسد بن خزيمة وبنو كنانة واستنقذوه. ثم قالوا: والله لا يجيز بهم إلا على حمار؛ فإنهم قد استنبطوا من الخيل، فحملوه على حمار، ثم زفرا حوله قليلا قليلا، وهم يقولون:
نحن دفعنا عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزرة
حتى أجاز سالما حماره ... مستقبل الكعبة يدعو جاره
وقد قال ذو الأصبع العدواني: ومنهم من يجيز الحج بالسنة والفرض.
فإذا أتى الناس منى، قام فيهم رجل يقال له: صوفة كان على صدقة الكعبة، وكان الذي يجيز بهم من صوفة: ثور بن أصفر؛ فإذا أجاز الناس في الأبطح اجتمعت كندة إلى بكر بن وائل، فأجازوا بهم حتى يبلغوا البيت، وقد قال الشاعر:
وكندة إذ ترمي الجمار عشية ... يجيز بها حجاج بكر بن وائل(2/41)
قال: فلم يزل أبو سيارة يجيز بالناس حتى أتاهم قصي بن كلاب1 ... انتهى.
قوله في هذا الخبر: "فإذا أجاز الناس في الأبطخ اجتمعت كندة إلى بكر بن وائل؛ فأجازوا بهم حتى يبلغوا البيت" فهذه الإجازة لم أرها مذكورة في غير هذا الخبر، وكذلك ما فيه من أن أنسا العدواني، كان يقول مع أبي سيارة: أشرق ثبير كيما نغير، وكذلك قصة أبي سيارة مع حمير، وغير ذلك من الأمور التي لم أرها في غيره من الأمور التي لا يبعد أن تكون وقعت.
وأما قوله فيه: "فلم يزل أبو سيارة يجيز بالناس حتى أتاهم قضي"؛ ففي صحته نظر؛ لأن أبا سيارة قام الإسلام وهو يجيز بالناس من المزدلفة، على ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل الأخبار: وبين قيام الإسلام وعهد قصي دهر طويل.
وقد ذكر الفاكهي -أيضا- خبرا يخالف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا الحسن بن عثمان، عن الواقدي، قال: وحدثني عمران بن أبي أنس، عن محمد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن حويطب بن عبد العزي قال: رأيت أبا سيارة يدفع بالناس من جمع على أتان له عقوق1 ... انتهى.
وجمع هي المزدلفة، ووجه مخالفة ذلك لما سبق: أن حويطب بن عبد العزي من مسلمة الفتح، ويبلغ عمره مائة وعشرين سنة؛ ستون في الإسلام، وستون في الجاهلية، ورؤيته له كانت قبل إسلامه؛ وذلك يقتضي تأخر أبي سيارة إلى قرب الإسلام.
وقد ذكر السهيلي فيما يتعلق بأبي سيارة ما لم أره لغيره؛ لأنه قال بعد أن ذكر ما ذكره ابن إسحاق في اسم أبي سيارة، وقال غيره: اسمه العاصي، قاله الخطابي، واسم الأعزل: خالد، ذكره الأصبهاني، قال: فكانت له أتان عوراء، خطامها ليف. ثم قال وهو أول من جعل الدية مائة من الإبل، فيما ذكر أبو اليقظان، حكاه عنه حمزة بن الحسن الأصبهاني، قال: وهو الذي يقول:
لاهم إني تابع تباعة2
وفيما ذكره السهيلي من أن أبا سيارة هو القائل:
لاهم إني تابع تباعه
نظر لمخالفته ما ذكره ابن إسحاق؛ فإنه ذكر أن قائل ذلك هو الغوث بن مر، وقد سبق ذلك.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 202.
2 الروض الأنف 1/ 146.(2/42)
ومن الغريب أن السهيلي ذكر ما يقتضي أن القائل ذلك هو الغوث بن مر؛ لأنه قال: "فصل" وذكر قصة الغوث بن مر، ودفعه بالناس من عرفة، وقال بعض نقلة الأخبار: إن ولاية الغوث بن مر كانت من قبل ملوك كندة.
وقوله: إن كان إنما فعلى فضاعة؛ إنما خص قضاعة بهذا؛ لأن منهم محلين يستحلون الأشهر الحرم، كما كانت خثعم وطيء تفعل، وكذلك كانت النسأة1 ذا حرمت صفرا أو غيره من الأشهر، بدلا من الشهر الحرام، يقول قائلهم: قد حرمت عليكم الدماء إلا ماء المحلين2 ... انتهى.
فاستفدنا من ذلك فوائد: منها: موافقة السهيلي على أن القائل:
لاهم إني تابع تباعه
هو الغوث؛ لأن البيت الذي أفاد فيه السهيلي معنى تخصيص قضاعة بالذكر، قائله هو القائل:
لاهم إني تابع تباعة
ومنها: كون ولاية الغوث بن مر للإجازة بالناس كانت من قبل ملوك كندة ... انتهى.
قال السهيلي: قوله:
عن مواليه بني فزارة
يعني بمواليه بني عمه؛ لأنه من عدوان، وعدوان وفزارة من قيس عيلان، وقوله:
مستقبل القبلة يدعو جاره
أي يدعو الله -عز وجل- يقول: اللهم كن لنا جارا ممن نخافه.
وذكر السهيلي أيضا فيما يتعلق بما ذكره ابن إسحاق من خبر عدوان وصوفة فوائد حسن ذكرها.
فمما ذكره فيما يتعلق بعدوان قوله: وأما ذو الإصبع -يعني الذي ذكره ابن إسحاق- فهو حرثان بن عمرو، ويقال: حرثان بن الحارث بن محرث بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب، وظرب: هو والد عامر بن الظرب الذي كان حكم العرب، ثم قال: وكذلك كان ذو الإصبع؛ حكما في زمانه، وعمره ثلاثمائة سنة، وسمي ذو الإصبع لأن حية نهسته في إصبعه، وجدهم ظرب: هو ابن عمرو بن عياد بن يشكر بن بكر بن
__________
1 النسأة: هم الذين يؤخرون شهر إلى شهر آخر، وسيأتي تفصيل ذلك.
2 الروض الأنف 1/ 143.(2/43)
عدوان، واسم عدوان: تيم، وأمه: جديلة بنت أد بن طابخة، وكانوا أهل الطائف، فكثر عددهم فيها، حتى بلغوا بها سبعين ألفا، ثم هلكوا، بغى بعضهم على بعض.
وكان ثقيف، وقيل: هي أخت عامر.
ثم قال: فلما هلكت عدوان وأخرجت بقيتهم ثقيف من الطائف، صارت الطائف بأثرها لثقيف إلى الآن.
وقوله: "حية الأرض؛ يقال: فلان حية الأرض، وحية الوادي، إذا كان مهيبا يذعر1 منه ثم قال: وقوله:
عذير الحي من عدوان
نصب عذيرا على الفعل المتروك إظهاره؛ كأنه يقول: هاتوا عذيره أي من يعذره؛ فيكون العذير بمعنى العاذر، ويكون أيضا بمعنى العذر مصدرا كالحديث ونحوه2.
وقال السهيلي فيما يتعلق بصوفان قال: -يعني الزبير بن بكار-: قال أبو عبيدة: وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي البيت من غير أهله، أو قام بشيء من خدمة البيت، أو بشيء من أمر المناسك يقال لهم: صوفة وصوفان.
قال أبو عبيدة: لأنهم بمنزلة الصوف، فيهم القصير والطويل، والأسود والأحرم، ليسوا من قبيلة، واحدة.
وذكر أبو عبد الله -يعني الزبير- أنه حدثه أبو الحسن الأثرم، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: إنما سمي الغوث بن مر: صوفة؛ لأنه كان لا يعيش لأمه ولد؛ فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة؛ ولتجعلنه ربيطا للكعبة، ففعلت، فقيل له: صوفة، ولولده من بعده؛ وهو الربيط.
وحدث إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران قال: أخبرني عقال بن شبة قال: قالت أم تميم بن مر: وولدت نسوة، فقالت: لله علي نذر، لئن ولدت غلاما لأعبدنه للبيت، وذوي واسترخى؛ فقالت: ما صار ابني إلا صوفة، فسمي صوفة2 ... انتهى.
ورأيت فيما نقله الفاكهي عن الزبير بن بكار ما ذكره الزبير في تسميته صوفة عن أبي عبيدة، وعن إبراهيم بن المنذر.
__________
1 يذعر منه: أي يخاف منه.
2 الروض الأنف 1/ 145، 146.(2/44)
وذكر الأزرقي في خبر صوفة ما يستغرب؛ لأنه قال في باب حج الجاهلية وإنساء الشهور بعد أن ذكر خبرا طويلا، رواه عن جده، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن إسحاق، عن الكلبي قال: قال -يعني الكلبي: وكانت الإفاضة في الجاهلية إلى صوفة؛ وصوفة رجل يقال له: أحزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأسد، وكان أحزم قد تصدق بابن له على الكعبة يخدعها، فجعل عمرو بن مازن بن الأسد، وكان أحزم قد تصدق بابن له على الكعبة يخدمها؛ فجعل إليه حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الخزاعي الإفاضة بالناس على الموقف، وحبشية يومئذ يلي حجابة الكعبة وأمر مكة، يصرف الناس على الموقف، فيقول حبشية: أجيزي صوفة، فيقول الصوفي: أجيزوا أيها الناس، فيجوزوه.
ويقال إن امرأة أحزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأزد1 كانت عاقرا فنذرت إن ولدت غلاما أن تتصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها، ويقوم عليها؛ فولدت ابن2 أخزم الغوث، فتصدقت به عليها، فكان يخدمها في الدهر الأول مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة، وقالت أمه حين أتمت نذرها، وخدم الغوث بن أخزم الكعبة:
إني جعلت من بنيه ... ربيطة بمكة العلية
فاقبل اللهم لا تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعة3
فولي الغوث بن أخزم الإجازة من عرفة وولده من بعده في زمن جرهم وخزاعة حتى انقرضوا، ثم صارت الإفاضة في عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر في زمن قريش في عهد قصي، وكانت من عدوان في آل زيد بن عدوان يتوارثونه، حتى كان الذي قام عليه الإسلام: أبو سيارة العدواني، وهو عمير الأعزل بن خالد بن سعيد بن الحارث بن زيد بن عدوان4 ... انتهى.
__________
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 106: "الأسد" وسيوضح المؤلف الصيغتين بعد قليل.
2 في أخبار مكة للأزرقي: 1/ 186 "من" بدل "ابن".
3 بنيه: أي ابني، ولحق الكلمة هاء السكت، وربيطة مفعول ثان لربيطة العلية: الشريفة. تباعه: أي أتباعه أو تبعة وهو الأصح، ويروي الشطر الأول من البيت الثاني هكذا.
اللهم إني تابع تباعه
وفي أخبار مكة للأزرقي 1/ 187 اختلاف في البيتين فهما:
إني جعلت رب من بنية ... ربيطة بمكة العلية
فباركن لي بها إليه ... واجعله لي من صالح البرية
وراجع سيرة ابن هشام 1/ 19.
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 186، 187.(2/45)
والمستغرب في هذا الخبر أمور: منها ما يقتضي أن صوفة من قحطان؛ لأن مازن المذكور في نسب أخزم المشار إليه، هو جماع غسان الأزد، ويقال فيه الأسد بالسين مهملة، كما وقع في الخبر أيضا.
واسم الأسد: دارن، ويقال: داغر بن الغوي بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان؛ هكذا نسبه الحازمي في "العجالة"، ورأيته هكذا منسوبا في السيرة لابن إسحاق؛ تهذيب ابن هشام1، إلا أني لم أر فيها ذكر أدد بن مالك، وزيد بن كهلان.
والمعروف في صوفة أنه من مضر، كما ذكر ابن إسحاق وغيره، وذكر الفاكهي في ذلك حديثا رواه بسنده إلى عائشة -رضي الله عنها- لأنه قال: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمر الفهري، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الإيامي، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: وقد كان في بعض ولد مضر بن نزار من ولد إسماعيل، خلال أربع لا ينكرها العرب، ولا يدفعونهم عنها، يعدون فيها في ولاية جرهم، الإجازة للناس بالحج مضر بن نزار وولده من بعده.
ويقال للغوث وولده من بعده: إن لهم صوفا؛ فقالت: أجيزوا صوفة ليجيز بإرادتها ... انتهى.
وقال الفاكهي: حدثنا الحسن بن عثمان، عن الواقدي، قال: حدثني ربيعة بن عثمان قال: سألت الزهري: هل كان الإجازة من عرفة أو من جمع عند جمرة العقبة في أحد من اليمن في الجاهلية؟ فقال: لا، هذا لا يعرف، إن الصبيان ليعلمون أنه إنما كان في مضر.
قال الواقدي: وسألت عبد الله بن جعفر الزهري، هل سمعت أن الإجازة في شيء من المشاعر في الجاهلية كانت في كنانة؟ فقال: لا2 ... انتهى.
ومنها: أنه يفهم أن ابتداء أمر إجازة صوفة بالناس كانت في زمن ولاية خزانة خبر صوفة3، وهو مقتضى ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل الأخبار.
__________
1 تهذيب سيرة ابن هشام "ص: 18".
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 204.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 186.(2/46)
ومنها: أنه يفهم أن القائل:
لاهم إني تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعه
أم الغوث، والمعروف أن قائل ذلك الغوث، كما سبق بيانه.
ومنها: أنه يفهم أن الإجازة انتقلت من صوفة بعد انقراضهم إلى عدوان، وفي ذلك نظر سبق بيانه؛ ومما يدل لعدم صحة ذلك ما ذكره الفاكهي عن الواقدي.
قال الواقدي: وسألت ربيعة بن عثمان التيمي، وعبد الله بن جعفر، عن آخر المشركين دفع بالناس من عرفة والمزدلفة، وأنسا بمنى؛ فقال ربيعة: آخرهم كرب، وقال عبد الله بن جعفر: دفع بهم سنة ثمان، وأنسا أبو ثماثمة بمنى ... انتهى.
وكرب المشار إليه هو: كرب بن صفوان، على ما ذكر ابن إسحاق في السيرة، وهو من آل صفوان بن الحارث، ويقال: ابن الحباب بن شحنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، الذين ورثوا الإجازة بالناس من عرفة من بني الغوث بن مر، بالعقد على ما ذكر ابن إسحاق، وقد بين السهيلي وجه ذلك؛ لأنه قال: وذلك أن سعدا هو ابن زيد مناة بن تميم بن مر، وكان سعد أقعد بالغوث بن مر من غيره من العرب1 ... انتهى.
__________
1 الروض الأنف 1/ 144.(2/47)
الباب الثلاثون
في ذكر من ولي إنساء الشهور من العرب بمكة
...
الباب الثلاثون:
في ذكره من ولي إنساء الشهور من العرب بمكة:
قال الأزرقي: فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن إسحاق، عن الكلبي، فيما رواه عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس -رضي الله عنه- فذكر شيئا من خبر الحلة والحمس، ثم قال ابن إسحاق: قال الكلبي: فكان أول من أنسا الشهور من مضر: مالك بن كنانة؛ وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كندة، وكانت النساءة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف، المقاول فنسا ثعلبة بن مالك، ثم نسأ بعده الحارث بن مالك بن كنانة، وهو القلمس، ثم نسأ بعد القلمس ابنه مرة بن القلمس، ثم كانت النساءة في بني فقيم من بني ثعلبة، حتى جاء الإسلام.
وكان آخر من نسأ منهم: أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن عبد بن فقيم، وهو الذي جاء في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الركن الأسود؛ فلما رأى الناس يزدحمون عليه، قال: أيها الناس أنا له جار فأخروا، فخفقه عمر -رضي الله عنه- بالدرة، ثم قال: أيها الجلف الجافي قد أذهب الله تعالى عزك بالإسلام. فكل هؤلاء قد نسأ في الجاهلية1 ... انتهى.
وكلام ابن إسحاق في سيرته، تهذيب ابن هشام، يقتضي أن أول من أنسأ الشهور غير مالك بن كنانة؛ لأنه قال: كان أول من أنسأ الشهور على العرب فأحل منها ما أحل، وحرم منها ما حرم: القلمس؛ وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة، ثم قام بعده على ذلك: ابنه عباد بن
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 182، 183.(2/48)
حذيفة، ثم قام بعد عباد قلع بن عباد، ثم قام من بعد قلع: أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية: عوف بن أمية، ثم قام بعد عوف بن أمية: أبو ثمامة؛ جنادة بن عوف، وكان آخرهم وعليه قام الإسلام1 ... انتهى.
وذكر الفاكهي ما يقتضي: أن أول من أنسأ غير مالك بن كنانة وغير القلمس؛ لأنه قال: بعد أن روي خبرا في المعنى عن محمد بن السائب الكلبي -ويقال: إن أول من أنسا الشهور: عدي بن زيد بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، ثم كان بعد عدي: حذيفة بن عبد فقيم، ثم كان بعده عباد بن حذيفة، كان قلع بن عباد، ثم كان أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن عوف، وقد أدركه الإسلام فيما يقال، وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمدا، يقال: إنه أنسا أربعين سنة -والله أعلم- أكان ذلك- أم لا، أم أقل، أم أكثر؟ ... انتهى.
فهذه ثلاثة أقوال في أول من أنسأ الشهور2 والله أعلم بالصواب.
__________
1 سيرة ابن هشام 1/ 63.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 205، 206.(2/49)
ذكر صفة الإنساء
...
ذكره صفة الإنساء:
روينا عن الأزرقي بسنده إلى ابن إسحاق عن الكلبي في الخبر الذي فيه ما سبق ذكره في أول من أنسأ الشهور، قال: والذي ينسأ لهم إذا أرادوا ألا يحلوا المحرم، قاموا بفناء الكعبة يوم الصدر؛ فقال: أيها الناس، لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب1 لقول قلته؛ فهنالك يحرمون المحرم ذلك العام.
وكان أهل الجاهلية يسمون المحرم: صفرا الأول، وصفرا: صفرا2 الآخر، ويقولون: صفران، وشهرا ربيع، وجمالديان، ورجب وشعبان ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
فكان ينسأ الإنسان سنة، ويترك سنة، ليحلوا الشهور المحرمة، ويحرموا الشهور التي ليست بمحرمة، وكان ذلك من فعل إبليس، ألقاه على ألسنتهم، فرأوه حسنا.
فإذا كانت السنة التي ينسأ فيها، يقوم ليخطب بفناء الكعبة، ويجتمع الناس إليه يوم الصدر؛ فيقول: أيها الناس قد أنسأت العام صفر الأول -يعني المحرم- فيطرحونه من الشهور، ولا يعتدون به، ويبتدئون العدة فيقولون: لصفر وشهر ربيع الأول: صفران، ويقولون لشهر ربيع الآخر ولجمادى الأولى: شهرا ربيع، ويقولون لجمادى الآخر
__________
1 عند الأزرقي في أخبار مكة 1/ 183: "ولا يعاب".
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 183: "وشهرا ربيع".(2/49)
ورجب: جمادين. ويقولن لشعبان: رجب، ولشهر رمضان: شعبان، ويقولون لشوال: رمضان، ولذي القعدة شوال، ولذي الحجة: ذو القعدة، ولصفر الأول -وهو المحرم الشهر الذي أنسأه- ذو الحجة، فيحجون تلك السنة في المحرم، ويبطل من هذه السنة شهرا ينسئه.
ثم يخطبهم في السنة الثانية في وجه الكعبة أيضا، فيقول: أيها الناس لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاد لي قول قلته1. اللهم إني قد أحللت دماء المحلين: طيء وخثعم في الأشهر الحرم.
وإنما أحل دماءهم لأنهم كانوا يعدون على الناس في الأشهر الحرم من بين العرب، فيعزونهم ويطلبون بثأرهم ولا يعفون عن حرمات الأشهر الحرم كما يفعل غيرهم من العرب، وكان سائر العرب من الحلة والحمس لا يعدون في الأشهر الحرم على أحد، ولو لقي أحدهم قاتل أبيه أو أخيه، ولا يستاقون مالا إعظاما للشهور الحرم، إلا خثعم وطيء فإنهم كانوا يغزون في الأشهر الحرم، فهنالك يحرمون من تلك السنة الشهر المحرم، وهو: صفر الأول، ثم يعدون الشهور على عدتهم التي عدوها في العام الأول، فيحجون في كل شهر حجتين.
ثم ينسأ في السنة الثانية، فينسأ صفر الأول في عدتهم هذه، وهو: الصفر الآخر في العدة المستقيمة؛ حتى تكون حجتهم في صفر أيضا2، وكذلك الشهور كلها، حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الذي ابتدأوا منه الإنساء، ويحجون في الشهور كلها في كل شهر حجتين؛ فلما جاء الله -عز وجل- بالإسلام أنزل الله -عز وجل- في كتابه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الآية ... انتهى باختصار3.
وقال السهيلي: وأما نسأهم الشهر الحرام؛ فكان على ضربين، أحدهما: ما ذكره ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر، لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات.
والثاني: تأخيرهم الحج عن وقته تحريا منهم للسنة الشمسية؛ فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوما، أو أكثر قليلا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" 4.
وكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة التي تسمي حجة الوداع؛ وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة، والله أعلم؛ إذ كانت مكة بحكمهم حتى فتحها الله على نبيه ... انتهى5.
__________
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 183: "ولا يعاب لقول قلته".
2 عند الأزرقي 1/ 185: إضافة "حجتين".
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 183-185.
4 أخرجه البخاري "4662"، مسلم "القسامة بباب تغليظ تحريم الدماء والأموال 5/ 107".
5 الروض الأنف 1/ 64.(2/50)
ذكر الحمس والحلة
...
ذكر الحمس 1 والحلة 2:
قد ذكر خبرهم غير واحد من أهل الأخبار، منهم الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وحدثني إبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران قال: الحمس: قريش، وكنانة، وكلاب وعامر، ولدتهم مجد بنت تيم بن غالب، وكانوا حمسا؛ وإنما سمي الحمس بالكعبة، لأنها حمساء، حجرها أبيض يضرب إلى السواد.
قال: وكانت لهم سيرة، وكانوا لا يأتقطون إقطا، ولا يسلون سمنا3، ولا يبيعون جرارا، ولا يقفون إلا بالمزدلفة، ولا يطوفون بالبيت عراة، ولا يسكنون في بيوت الشعر.
وقال غيره: كانوا يعظمون الشهور الحرم، ويتعاطون الحقوق، ويزعون عن المظالم، وينصفون المظلوم.
وحدثني محمد بن فضالة، عن مبشر بن حفص، عن مجاهد قال: الحمس: قريش، وبنو عامر بن صعصعة، وثقيف، وخزاعة، ومدلج، وعدوان، والحارث بن عبد مناة، وعضل أتباع قريش، وسائر العرب الحلة.
وحدثني محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد، عن أبيه، قال: لم يكن التحمس بحلف؛ ولكنه دين شرعته قريش واجتمعوا عليه.
وكانت الحلة لا تطوف في حجها إلا في ثياب جدد، أو ثياب أهل الله، سكان الحرم، ويكرهون أن يطوفون في ثياب عملت فيها المعاصي؛ فمن لم يجد طاف عريانا، ومن طاف من الحلة في ثيابه ألقاها إذا فرغ، فلم ينتفع بهغا ولا غيره حتى تبلى.
قال: وكانت الحمس تطوف في ثيابها، وكانت الحلة تخرج إلى عرفات وتراها موقفا ومنسكا، وكان موقفها بالعشي دون الأنصاب، ومن آخر الليل مع الناس يقزح،
__________
1 عرف السهيلي الحمس بقوله: التحمس، التشدد. "الروض الأنف 1/ 229".
2 الحلة هم ما عدا الحمس. "الروض الأنف 1/ 23".
3 في الروض 1/ 229: لا يسلئون السمن، وسلأ السمن أن يطبخ حتى يصير سمنا.(2/51)
وكان بعض أهل الحلة لا يرى الصفا والمروة1، وبعضهم يراها، وكان الذين يرونها: خندف، وكان سائر الحلة لا يرونها.
فلما جاء الله بالإسلام أمر الحمس أن يقفوا مع الحلة بعرفة، وأن يفيضوا من حيث أفاض الناس منها مع الحلة، وأمر الحلة أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ؛ وذلك أن ناسا قالوا: ما كان أهل الجاهلية ممن يطوف بهما، لا يطاف إلا لإساف ونائلة -وكان إساف على الصفا، ونائلة على المروة- فأعلمهم الله -عز وجل- أنهما مشعران ... انتهى.
وقد ذكر من العرب في الحمس غير من لم يذكره عبد العزيز بن عمران ومجاهد؛ لأن الأزرقي قال: حدثنا جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن إسحاق عن الكلبي، عن أبي صالح -مولى أم هانئ- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت العرب على ديني: حلة وحمس؛ فالحمس قريش وكل من ولدت من العرب، وكنانة، وخزاعة، والأوس، والخزرج، وخثعم، وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأزد شنوءة، وجذم، وزبيد، وبنو ذكوان من بين سليم، وعمرو اللات، وثقيف، وغطفان، والغوث، وعدوان، وعلاف قضاعة2 ... انتهى.
وغالب المذكورين، في هذا الخير لم يذكروا في الخبرين اللذين ذكرهما الزبير عن عبد العزيز بن عمران، ومجاهدا؛ في بيان الحمس، وهم: الأوس، والخزرج، وجشم، وأزد شنوءة، وجذم، وزبيد، وبنو ذكوان، وغطفان، والغوث، وعلاف قضاعة -وما عرفت علاف قضاعة- وعمرو اللات ومكا عرفته أيضا.
وجشم المشار إليهم في هذا الخير: المنسوبون إلى جشم بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان، أو إلى جشم بن سعد بن زيد إلى جشم بن الخزرج من الأنصار؛ لكون جشم بن الخزرج يدخلون في الخزرج المذكورين في هذا الخبر، والله أعلم.
وليس كل من ذكر فيه ممن لم يذكر في الخبر الذي ذكره عبد العزيز بن عمران ومجاهد في بيان الحمس، يدخل فيمن عد في قريش، ممن ولدته قريش؛ لأن قريشا لم تلد هذه القبائل كلها، والله أعلم.
__________
1 أي لا يرى وجوب الطواف والسعي بينهما.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 179.(2/52)
وفي الخبر الذي ذكره الأزرقي في بيان الحمس، ما يقتضي أن سبب تسميتهم الحمس لشدتهم في دجينهم؛ لأن فيه: وإنما سميت الحمس حمسا للتشديد في دينهم، والأحمسي في لغتهم: المشدد في دينه1 ... انتهى.
وهذا يخالف ما ذكره عبد العزيز بن عمران في تسمية الحمس؛ لأنه قال في الخبر السابق عنه من كتاب الزبير: وإنما سموا الحمس بالكعبة؛ لأنها حمساء، حجرها أبيض يضرب إلى السواد ... انتهى.
وذكره الأزرقي في خبر عن ابن جريج فيه ما يوافق الخبر السابق في سبب تسمية الحمس؛ لأن فيه: والأحمسي: المشدد فيدينه، وهذا الخبر ذكره الأزرقي في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في فتح الكعبة، ومن كانوا يفتحونها"، وهي قبل الترجمة2 التي فيها الخبر السابق في بيان الحمس، وسبب تسميتهم.
وقيل في سبب تسميتهم بالحمس غير ما سبق، وهو: أنهم سموا حمسا لشجاعتهم والحماسة الشجاعة. وذكر هذا الخبر المحب الطبري في "القرى" مع القولين السابقين في سبب تسميتهم في الباب الثامن عشر، من "القرى لقاصد أم القرى"3، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وفي الخبر الذي فيه بيان الحمس من حالهم غير ما ذكره الزبير من حالهم.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 181.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 175.
3 القرى لقاصد أم القرى "ص: 381".(2/53)
ذكر الطلس:
هم طائفة من العرب تطوف بالبيت على صفة تختص بها، ذكرهم السهيلي بعد أن ذكر شيئا من خبر الحمس والحلة؛ لأنه قال: ولم يذكر -يعني ابن إسحاق- الطلس من العرب، وهم صنف ثالث غير الحلة والحمس، وكانوا يأتون من أقصى اليمن طلسا من الغبار؛ فيطوفون بالبيت في تلك الثياب الطلس، فسموا بذلك. ذكره محمد بن حبيب1 ... انتهى.
والطلس: لقب لجماعة من أعيان السلف؛ لكونهم لا شعر في وجوههم، منهم: أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير الأسدي -رضي الله عنهما- وشريح بن الحارث القاضي، قاضي الكوفة ستين سنة أو أزيد.
__________
1 المحبر ص: 179-181.(2/53)
الباب الحادي والثلاثون:
ذكر نسبهم:
أما نسبهم فاختلف فيه؛ فقيل: إنهم من عدنان، من ولد قمعة بن إلياس بن كنانة، وذكر هذا القول ابن قتيبة فيما نقله عنه القطب الحلبي. ونص كلامه: قال ابن قتيبة: وأما النضر بن مالك، فهو: أبو مالك بن النضر، فهو أبوها كلها1 ... انتهى.
وليس كل خزاعة -على هذه المقالة- من ولد الصلت؛ وإنما بعضهم من ولده؛ لأن ابن إسحاق قال في "سيرته": والذين يعزون إلى الصلت بن النضر بن خزاعة: فبنو مليح بن عمرو، رهط كثير عزة. وأنشد ابن إسحاق في ذلك شعرا، وقيل: أنهم من قحطان. والقول الأول ينسب لنساب مضر؛ لأن ابن إسحاق قال في سيرته: وأما قمعة فيزعم نساب مضر أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس ... انتهى.
ونقل ابن عبد البر عن ابن إسحاق قال: وخزاعة قال: نحن بنو عمرو بن عامر من اليمن.
قال ابن هشام: وتقول خزاعة: نحن بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث، وخندف أمنا،
__________
1 المعارف لابن قتيبة "ص: 67".(2/54)
وإنما سميت خزاعة؛ لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر، حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمر1 الظهران، فأقاموا بها ... انتهى.
وممن ذكر أن خزاعة من قحطان: أبو عبيدة -معمر بن المثنى-؛ لأنه قال فيما نقله عن الزبير بن بكار: فلما لم تتناه جرهم عن بغيهم، وتفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، لانخزع بنو حارثة بن عمرو بن عهامر، فأوطنوا تهامة2. وسميت خزاعة، خزاعة كعب، وفتح، وسعد، وعوف وعدي، بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وأسلم وملكان ابنا قصي بن حارثة بنعمرو بن عامر ... انتهى.
وقال ابن الكلبي: عمرو بن لحي هو أبو خزاعة كلها، منه تفرقت، وذكر أن لحيا هو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وقال ابن الكلبي: فولد عمرو بن ربيعة -يعني عمرو بن لحي- كعبا بطن، وملحا بطن وعهديان بطن، وعوفا، وسعدا، وكل من ولد ربيعة بن حارثة فهم خزاعة؛ وإنما قيل لهم: خزاعة؛ لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر، تخلفوا عنهم وفارقوهم، وكذلك يقال أيضا لبني أقصى بن حارثة؛ لأنهم تخزعوا من ولد مازن بن الأزد في إقبالهم من اليمن، ثم تفرقوا في البلدان، وفي خزاعة بطون كثيرة.
وقال محمد بن عبدة بن سليمان -النسابة-: افترقت خزاعة على أربعة شعوب:
فالشعب الأول: ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الأشتر بن ربيعة بن حارثة، وهم بنو جفنة، ويقال: جفينة؛ الذين بالشام من غسان.
والشعب الثاني: أسلم بن أقصى.
والشعب الثالث: ملكان.
والشعب الرابع: مالك بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر.
وقال: وإنما قيل لهم خزاعة: لأنها تخزعت عن عظم الأزد، والانخزاع: التقاعس والتخلف -فأقامت بمر الظهران، بجنبان الحرم، وولوا حجابة البيت دهرا.
وما نقلناه عن أبي عبيدة وابن الكلبي، نقله عنهما ابن عبد البر في كتاب له في الأنساب.
__________
1 هو وادي فاطمة كما يسميه الحجازيون اليوم.
2 تهامة كل ما كان منخفضا من الأرض، ويطلق هذا الاسم على كل البلاد الحجازيون الواقعة على سيف البحر، وتمتد إلى سفوح جبال السراة، وهي بكسر التاء.(2/55)
وقد ظهر بذلك، ومما ذكرناه عن أبي عبيدة وابن هشام: أن حزاعة -على القول بأنهم من قحطان- من ولد حارثة بن عمرو بن عامر؛ وذلك يرد ما ذكره السهيلي في "الروض الأنف"1؛ لأنه ذكر في غير موضع من كتابه هذا ما يقتضي أن خزاعة من ولد حارثة بن عامر، لأنه قال: وأسلم إخوة خزاعة، وهو بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ذكر ذلك لما تكلم على الحديث الذي احتج به على أن قحطان من ذلك لقوم من عدنان. وهو قوله عليه السلام: "ارموا يا بنى إسماعيل، فإن أباكم كان راميا"، حين قال ذلك لقوم من أسلم بن أقصى، رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يرمون.
قال السهيلي أيضا: لما تكلم عن حديث عمرو بن لحي: وقد تقدم في نسب خزاعة وأسلم أنهما ابنا حارثة بن ثعلبة1 ... انتهى.
وقد وافق السهيلي على ما ذكره في خزاعة صاحب "الاكتفاء" الحافظ أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي.
وقد ذكر ابن حزم في "الجمهرة" ما يخالف ما ذكره السهيلي في ثعلبة؛ لأنه قال لما ذكر أولاد عمرو بن عامر: وثعلبة العيفاء بن عمرو من ولده الأوس والخزرج2 ... انتهى.
وابن حزم أقعد من السهيلي بالأنساب؛ لأنه ممن يعول عليه فيها، كيف وفي كلام غيره من أئمة النسب ما يقتضي أن جد خزاعة -على القول بأنهم من قحطان- حارثة بن عمرو لا ثعلبة بن عمرو؟
وذكر السهيلي -رحمه الله- وجها في الجمع بين قول من قال: إن خزاعة من مضر، وبين قول من قال: إنهم من قحطان؛ لأنه قال: وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسلم: "ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا" وهو معارض بحديث أكثم بن أبي الجون في الظاهر؛ إلا أن بعض النسب ذكر أن عمرو بن لحي كان حارثة قد خلف على أمهم بعد أن تأيمت من قمعة، ولحي صغير، ولحي هو: ربيعة، فتبناه حارثة، وانتسب إليه، فيكون النسب صحيحا بالوجهين جميعا، إلى حارثة بالتبني، وإلى قمعة بالولادة.
وكذلك أسلم بن أقصى بن حارثة، فإنه أخو خزاعة، والقول فيه كالقول في خزاعة، وقيل في أسلم بن أقصى بن حارثة: إنه من بني أبي حارثة بن عامر، لا من بني حارثة ... انتهى.
وهذا الجمع يتجه إن كان المتزوج لأم لحي: حارثة بن عمرو بن عامر، لا حارثة بن ثعلبة بن عمرو، لما سبق في ذلك.
__________
1 الروض الأنف 1/ 19.
2 جمهرة أنساب العرب "ص: 332".(2/56)
وقد بين ابن حزم نسب خزاعة على القول بأنهم من مضر، وبين الحجة على ذلك؛ فنذكر ما ذكره لما في ذلك من الفائدة.
فأما ما احتج به ابن حزم على أن خزاعة من مضر فهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيتب السوائب" 1.
وحديث أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عمرو بن لحي بن فمعة بن خندف أبو خزاعة"، وقال ابن حزم: ليس هذا مخالفا لما قبله؛ إذ قد ينسبه إلى والده جده نسبة إضافة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" 2، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار".
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت على النار؛ فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام، أشبه من رأيت به أكثم بن أبي الجون"، فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم "لا لأنه كافر، وأنت مسلم".
وحديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: "ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا".
وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين, وأخرج ابن حزم منها الأول والثاني والخامس من صحيح البخاري، وأخرج الثالث من "صحيح مسلم" بسنده، وأخرج الرابع من طريق الدارقطني عن المحاملي.
وقال ابن حزم: وأما الحديث الأول، والثالث، والرابع؛ ففي غاية الصحة والثبات، وأما الثاني ففيه إسرائيل، ولكن في الأحاديث حجة قاطعة وكفاية، ولا يجوز تعدي القول بما فيها، فخزاعة من ولد قمعة بن إلياس بن مضر بلا شك، وليس لأحد مع مثل هذا الكلام القول بما فيه؛ فخزاعة من ولد قمعة بن إلياس بن مضر؟ وأسلم إخوة خزاعة بلا شك عند أحد من النسابين، وقال: فولد قمعة بن إلياس: عامر بن قمعة، فولد عامر بن قمعة: أقصى وربيعة، وهو: لحي بن3 عامر بن قمعة، فولد لحي بن عامر بن قمعة: عامر بن لحي، فولد عامر بن لحي: عمرو بن لحي. وهو:
__________
1 جمهرة أنساب العرب "ص: 233".
2 الحديث أخرجه: البخاري 4/ 37، مسلم "الجهاد: 78، وأبو داود: 478، والترمذي: 1688، وأحمد: 1/ 264".
3 في جمهرة أنساب العرب "ص: 233": "ابنا".(2/57)
عمرو بن لحي، نسب إلى جده، وهو أول من غير دين إبراهيم1 وإسماعيل -عليهما السلام، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، وولد عمرو بن عامر بن لحي كعبا بطن، ومليحا بطن. وعوفا بطن. وأمهم أسدية. وعديا بطن، أمه أيضا أسدية، وسعدا أمه خارجة البلخية، التي يقال لها: أسرع من نكاح أم خارجة2 ... انتهى.
وإذا تقرر أن خزاعة من مضر؛ فلا يظهر تسميتها بخزاعة معنى، وإذا كانوا من قحطان فذلك لانخزاعهم عن قومهم بمكة. والانخزاع: هو المفارقة، وفي ذلك يقول عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في حلول كراكر
حمت كل واغد من تهامة واحتمت ... بصم القنا والمرهفان البواتر
هكذا ذكر ابن هشام في السيرة هذين البيتين لعون بن أيوب الأنصاري، وقال: هذان البيتان، له في قصيدة3.
وأنشدهما الأزرقي لحسان بن ثابت الأنصاري؛ وذلك في خبر طويل رواه عن أبي صالح، ذكر فيه خبر جرهم وخزاعة، وفيه قال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر انخزاع خزاعة بمكة، ومسير الأوس والخزرج إلى المدينة، وغسان إلى الشام:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في حلول كراكر4
حموا كل واد في5 تهامة واحتموا ... بصم القنا والمرهفات البواتر6
فكان لها المرباع في كل غارة ... بنجد وفي كل الفجاج الغوابر
ونحن ظللنا أهل7 اجتهاد وهجرة ... وأنصارنا جند النبي المهاجر
وذكر بقيتها، وهي تسعة أبيات، تتضمن مدح الأنصار، وغسان.
__________
1 "إبراهيم" ليس في جمهرة أنساب العرب "ص: 233".
2 جمهرة أنساب العرب "ص: 234، 235".
3 سيرة ابن هشام 1/ 92.
4 كراكر: جماعات. وقيل: هي جماعات الخيل خاصة.
5 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: "من" بدل "في".
6 البواتر: القواطع.
7 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: "خزاعتنا أهل اجتهاد".(2/58)
ذكر سبب ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية:
سبق في أخبار جرهم ابتداء ولاية خزاعة لمكة، واختلاف ما ذكره ابن إسحاق والكلبي في سبب ولايتهم لمكة، فأغنى ذلك عن إعادته، ونذكر هاهنا غير ما سبق، ما يقتضي ذلك.(2/58)
قال الفاكهي بعد أن روى في هذا المعنى أخبارا: قال ابن أبي سلمة، وابن إسحاق في حديثهما: فلم يزل الأمر لجرهم، وغبشان، وبكر، حتى اقتتلوا؛ فغلبتهم بكر وغبشان, وظهروا عليهم، ووطئوهم، ونفوهم من مكة إلى ما حولها، وولوا عليهم البيت، زاد ابن أبي سلمة والمخزومي في حديثهما: وولوا عليهم البيت وما كانوا يلون بمكة من الحكم وغيره1 ... انتهى.
وذكر الزبير وغيره من أهل الأخبار ما يقتضي أن سبب ولاية خزاعة للبيت غير ما ذكره ابن إسحاق؛ وذلك أن امرأة من خزاعة يقال لها: قدامة كانت متزوجة في بني إياد بن نزار، نظرت إلى بني إياد لما دفنوا الحجر الأسود حين خرجوا إلى العراق، بعد أن تعذر عليهم حمله؛ فإنهم لم يحملوه على شيء إلا عجزوا، وافتقدت مضر الركن؛ فعظم ذلك في نفوسها، ورأت المرأة الخزاعية عظم مشقة ذكل عليهم، فأمرت قومها أن يأخذوا على مضر أن يولوهم حجابة البيت، وتدلهم المرأة على الركن، ففعلوا ذلك ووافقتهم عليه مضر، ودلتهم المرأة على الحجر الأسود، فابتحثوه من تحت الشجرة، وأعيد إلى مكانه، ووليت خزاعة عند ذلك البيت؛ فلم يبرح في أيديهم حتى قدم قصي؛ هذا معنى ما ذكره الزبير والكلبي في هذا الخبر، وقد سبق قريبا.
وبان بذلك أن سبب ولاية خزاعة للبيت غير ما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم بالصواب.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 152.(2/59)
ذكر مدة ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية:
قال الأزرقي فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: قال: حدثني جدي، قال: حدثنا سعد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن جريج، وعن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على الآخر- قالا: قامت خزاعة على ما كانت عليه من ولاية البيت والحكم بمكة ثلاثمائة سنة، وكان بعض التباعية قد سار إليه وأراد هدمه وتخريبه؛ فقامت دونه خزاعة، فقاتلت عليه أشد القتال حتى رجع، ثم آخر فكذلك؟.
وقال الأزرقي -أيضا- فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح، فذكر خبرا طويلا في خبر جرهم وخزاعة، قال فيه: فكان عمرو بن لحي يلي البيت وولده من بعده خمسمائة سنة، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو، فزوج إليه قصي ابنته حبي ابنة حليل، وكانوا هم حجابه وخزانة، والقوام به، وولاة الحكم بمكة دهر(2/59)
عامر، لم يخرب فيه خراب، ولم تبن خزاعة فيه شيئا بعد جرهم، ولم يسرق منه شيء علمناه ولا سمعنا به، ترادفوا على تعظيمه والذب عنه.
وقال في ذلك عمرو بن الحارث بن عمرو الغبشاني:
نحن وليناه فلم تغشه ... وابن مضاض قائم يهشه
يأخذ ما يهدى له بعشه1 ... نترك مال الله ما نمسه2
... انتهى.
__________
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 102: "بغشه".
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 102: "نمشه" بالشين المعجمة.(2/60)
ذكر أول من ولي البيت من خزاعة وغير ذلك من خبر جزهم
...
ذكر أول من ولي البيت من خزاعة وغير ذلك من خبر جرهم:
اختلف في أول ملوك خزاعة بمكة؛ فقيل: عمرو بن لحي، ولحي هو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، على القول بأنهم من قحطان، ويدل لذلك خبر رواه الزبير بن بكار، عن أبي عبيدة، فيه ذكر شيء من خبر جرهم وخزاعة، لأن فيه: فاجتمعت خزاعة ليجعلوا من بقي، ورأس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وأمه فهيرة بنت عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي -وليس بابن مضاض الأكبر- فاقتلوا.
ثم قال فيه بعد ذكره لخروج من بقي من جرهم إلى جشم من أرض جهينة: وولي البيت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر ... انتهى.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن عمرو بن لحي أول ملوك خزاعة، وفيه ذكر شيء منخبره وخبر جرهم؛ لأنه قال: ويقال في روايته أبي عمرو الشيباني: إن حجابة البيت صارت إلى خزاعة، لأن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن تزوج فهيرة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي؛ فولدت له عمرو بن ربيعة؛ فلما شب عمرو، وساد وشرف، طلب حجابه البيت؛ فعند ذلك نشبت الحرب بينهم وبين جرهم.
وذكروا: أن عمرو بن ربيعة عاش ثلاثمائة وخمسا وأربعين سنة، وبلغ ولده في حياته ألف مقاتل، من ولد كعب، وعدي، وسعد ومليح، وعوف بن عمرو، وكانت بينهم حروب طويلة وقتال شديد، ثم إن خزاعة غلبوا جرهما على البيت، وخرجت جرهم حتى نزلت وادي إضم1، فهلكوا فيه.
__________
1 إضم بالكسر في أوله: واد في الشمال من مكة يصب في البحر.(2/60)
وكان عمرو بن ربيعة أول من غير دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وأنه خرج إلى الشام، واستخلف على البيت رجلا من بني عبد بن ضخم، يقال له: آكل المروة1، وعمرو يومئذ وأهل مكة على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فلما تقدم الشام نزل البلقاء2؛ فوجد قوما يعبدون أوثانا، فقال: ما هذه الأنصاب التي أراكم تبعدون؟ فقالوا: أربابا نتخذها، ونستنصر بها على عدونا فننصر، ونستشفي بها من المرض فنشفي، فوقع قولهم في نفسهم. فقال: هبوا لي منها واحد نتخذه ببلدي؛ فإني صاحب بيت الله الحرام، وإلى وفد العرب من كل صوب، فأعطوه صنما يقال له: هبل؛ فحمله حتى نصبه للناس بمكة، فتابعته العرب على ذلك.
وذكر بقية الخبر، وقد سبق في القول الرابع في سبب خروج جرهم.
وذكر الأزرقي شيئا من خبر عمرو بن لحي، وأبان فيه غير ما سبق؛ لأنه روي خبرا طويلا في ولاية خزاعة بعد جرهم؛ وفي الخبر: فتزوج لحي -وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر- فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم؛ فولدت له عمرا، وهو عمرو بن لحي، وبلغ -بمكة وفي العرب- من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية، وهو الذي قسم بين العرب في حطمة حطموها عشرة آلاف ناقة، وقد كان أعور عشرين فحلا، وكان الرجل في الجاهلية إذا ملك آلأف ناقة فقا عين فحل إبله؛ فكان قد فقا عشرين فحلا، وكان أول من أطعم الحاج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد، وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من يرود اليمن.
وكان قد ذهب شرفه في العرب كل مذهب، وكان قوله فيهم دينا متبعا لا يخالف، وهو الذي بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، وسيب السوائب، ونصب الأصنام حلو الكعبة، وجاء بهبل من "هيت" من أرض الجزيرة؛ فنصبه في بطن الكعبة، فكانت قريشا والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو من غير الحنيفية دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وكان أمره بمكة في العرب مطاعا لا يعصى.
وكان بمكة رجل3 من جرهم على دين إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وكان شاعرا، فقا لعمرو بن لحي حين غير دينه الحنيفية:
يا عمرو لا تظلم بمكة ... إنها بلد حرام
سائل بعاد أين هم ... وكذلك تخترم الأنام
__________
1 كذا بالأصل: وصوابها آكل المرار "المحبر 368".
2 البلقاء: هي ما تسمى اليوم بالأردن.
3 هو الحارث بن مضاض.(2/61)
وبني1 العماليق الذيـ ... ـن لهم بها كان السوام
فزعموا أن عمرو بن لحي أخرج ذلك الجرهمي من مكة؛ فنزل بإطم من أعراض مدين النبي صلى الله عليه وسلم نحو الشام؛ فقال الجرهمي وتشوق إلى مكة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وأهلي معا بالمأزمين حلول
وهل رأيت العيس2 تنفخ في الثرى ... لها بمنى والمأزمين زميل3
منازل كنا أهلها له يحل بنا ... زمان بها فيما أراه يحول
مضى أولونا راضيين بشأنهم ... جميعا وغالتنا بمكة غول4
... انتهى.
وقيل: أن أول ملوك مكة من خزاعة: لحي؛ وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عارم والد عمرو بن لحي السابق ذكره، وهذا القول ذكره الأزرقي؛ لأنه روي بسنده خبرا روي بسنده خبرا طويلا في خروج جرهم من مكة، وولاية خزاعة لها بعدهم، وفيه بعد أن ذكر تفرق أولاد عمرو بن عامر في البلاد: وانخزعت خزاعة بمكة؛ فأقام بها ربيعة من حارثة بن عمرو بن عامر، وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة البيت5 ... انتهى.
وقيل: إن أول ملوك خزاعة بمكة: عمرو بن الحارث الغبشاني، ويدل بهذا القول ما ذكره الزبير بن بكار عن أبي عبيدة؛ لأن في الخبر الذي ذكره في إخراج خزاعة لجرهم من مكة بعد قوله: وولي البيت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وقال بنو قصي: بل وليه عمرو بن الحارث بن عمرو، أحد بني غبشان بن سليم من بني ملكان بن أقصى، وولي البيت، وهو الذي يقول:
ونحن ولينا البيت من بعد جرهم ... لنعمره من كل باغ وملحد
وقال أيضا:
واد حرام طيره ووحشه ... نحن ولاته فلا نغشه
ويروى:
نحن وليناه فلا نغشه
وزاد غير أبي عبيدة:
وابن مضاض قائم يهشه
__________
1 وفي أخبار مكة للأزرقي 1/ 101: "وبنى". وكذا عند المسعودي 2/ 56.
2 العيس: الإبل.
3 الزميل: صوت الإبل في حدائها.
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 1000-101.
5 أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: وفيه "الكعبة" بدل "البيت".(2/62)
ونقل الفاكهي ما يقتضي: أن عمرو بن الحارث أول من ولي البيت؛ لأنه قال: قال الواقدي: وحدثني حرام بن هشام، عن أبيه قال: أول من وليه من غبشان من خزاعة، وكان الذي وليه منهم: عمرو بن الحارث بن لؤي بن ملكان بن أقصى؛ فنصب هبل صنما بمكة، فقال الحارث بن مضاض، وهو يعظ عمرا:
يا عمرو لا تفجر بمكـ ... ـة إنها بلد حرام1
فتحصل من هذه الأخبار ثلاثة أقوال في أول من ولي بمكة من خزاعة، هل هو عمرو بن لحي، كما ذكر أبو عبيدة والفاكهي، أو أبوه لحي، كما ذكر الأزرقي؟ أو ابن الحارث الغبشاني، كما ذكر أبو عبيدة وابن الكلبي؟ والله أعلم.
وتحصل منه فيمن نصب هبل هؤلاء: أحدهما: أنه عمرو بن لحي، وهو القول المشهور.
والآخر: عمرو بن الحارث الغبشاني، كما نقل الواقدي عن ابن الكلبي.
ورأيت في "المورد العذب الهني في شرح سيرة عبد الغني" للحافظ قطب الدين الحلبي في ذلك قولا ثالثا؛ لأنه قال لما ذكره خزيمة جد النبي صلى الله عليه وسلم: وخزيمة هو الذي نصب هبل على الكعبة، وكان يقال: هبل خزيمة، هكذا ذكر ابن الأثير2 ... انتهى.
وذكر ابن إسحاق ما يقتضي أن غبشان من خزاعة انفردت بالكعبة دون بني بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ لأنه بعد أن ذكر إخراج بني بكر وغبشان لجرهم من مكة: ثم إن غبشان من خزاعة، وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة، وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة؛ فوليت خزاعة البيت، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي3 ... انتهى؟.
وذكر الفاكهي عن ابن إسحاق ما يقتضي أن بني بكر لم تل مع غبشان البيت؛ وإنما كلامه: حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، قال: قال عثمان -يعني ابن ساج: أخبرني محمد بن إسحاق، وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه في اللفظ- قال: ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت من بعد جرهم دون بكر بن كنانة؛ فكانت بكر لهم
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 155.
2 الكامل لابن الأثير 2/ 28.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 155، 156.(2/63)
عضدا وناصرا ممن بغي عليهم، وقريش إذ ذاك حلول في أصرام، وهم بيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة، وكان الذي يلي البيت من عبشان عمروبن الحارث بن لؤي بن ملكان بن أقصى، وهو الذي يقول:
نحن وليناه فلم نغشه ... وابن مضاض قائم يهشه
يأخذ ما يهدي له يعسه ... نترك مال الله لا تمسه
وقال أيضا:
نحن ولينا من بعد جرهم ... لنمنعه من كل باغ وظالم
ونمنعه من كل باغ يريده ... فيرجع منا عند غير سالم
ونحفظ حق الله فيه وعهدنا ... ونمنعه من كل باغ وآثم
ونترك ما يهدي له نمسه ... نخاف عقاب الله عند المحارم
وكيف نريد الظلم فيه وربنا ... بصير بأمر الظلم من كل غاشم
فوالله لا ينفك بحفظ أمره ... ويعمره ما حج هل المواسم
ونحن نفينا جرهما عن بلادها ... إلى بلدة فيها صنوف المآثم
قال: فوليت خزاعة البيت زمانا طويلا، وهم أخرجوا إسافا ونائلة من الكعبة، فوضعوها على زمزم1.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي بأن قيس بن عيلان، من مضر، أرادوا إخراج خزاعة من لحي ولي البيت من بعده كبع بن عامر، فاجتمعت قيس على عامر بن الظرب العدواني، فسار بهم إلى مكة ليخرج خزاعة، فقاتلهم خزاعة، فانهزمت قيس ووليت خزاعة البيت، لا ينازعهم أحدا2 ... انتهى.
واستفدنا من هذا الخبر ولاية كعب بن عمرو بن لحي البيت بعد أبيه عمرو.
وذكر الفاكهي لبعض عدوان شعرا، نال فيه من خزاعة؛ لأن بعض خزاعة قال شعرا، تعرض فيه لعدوان فيما يظهر، والله أعلم.
ونص ما ذكره الفاكهي: وقال حليل:
نحن بنو عمرو ولاة المشعر ... نذب بالمعروف أهل المنكر
حمسا ولسنا نهزه للمحصر
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 1555، 156.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 156.(2/64)
وقال: فأجابه نصر بن الأحت العدواني:
إن الخنا منكم وقول المنكر ... جئناكم بالزحف في المسور
بكل ماض في اللقاء مسعر
وذكر الفاكهي: عن حليل بن حبشية -هذا- شعرا آخر؛ لأنه قال: وقال حليل بن حبشية:
واد حرام طيره ووحشه ... وابن مضاض قائم يهشه
... انتهى.
وقد سبق فيما ذكره الفاكهي عن ابن إسحاق أن عمرو بن الحارث الغبشاني هو الذي يقول:
نحن وليناه فلم نغشه ... وابن مضاض قائم يهشه
ولعل حليلا قال ذلك استشهادا؛ فينتفي التعارض، والله أعلم.
وحليل هذا آخر من ولي البيت وأمر مكة من خزاعة، على ما ذكره الفاكهي، فيما رواه بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- وابن إسحاق وغير من أهل الأخبار.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن أبا غبشان الخزاعي كان شريك حليل في الكعبة، وأبو غبشان هو على ما ذكره الزبير، عن الأثرم، عن أبي عبيدة: سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، ونص الخبر الذي ذكره الفاكهي: قال الواقدي: وسمعت ابن جريج يقول: كان حليل يفتح البيت؛ فإذا اعتل أعطى ابنته المفتاح حتى تفتحه، فإذا اعتلت أعطت زوجها قصيا يفتحه. وكان قصي يعمل في أخذ البيت وحيازته إليه. وذكر قطع خزاعة منه، وكان شريك حليل فيه: أبو غبشان، وكان حليل يتنزه عن أشياء يفعلها أبو غبشان.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن حليلا أوصى بولاية البيت لأبي غبشان؛ لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: قال عيسى بن بكر الكناني المدني، قال: قال ابن الكلبي أو غيره. يقال: إن قصيا دعا أبا غبشان الملكاني؛ فقال: هل لك أن تدع الأمر الذي أوصى لك به حليل إلى حبي وعبد المدان فتخلى بينهما وبينه، وتصيب عرضا من الدنيا؟ فطابت نفسي أبي غبشان وأجابهم إلى ذلك؛ فأعطاهم قصي أثوابا وأبعرة. ولم يكن أبو غبشان وارثا لحليل، ولا وليا؛ وإنما كان وصيا فحاز وصيته، وصيرت حبي إلى ابنها حجابة البيت، ودفعت المفاتيح إليه1 ... انتهى.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 157-159.(2/65)
وذكر الزبير بن بكار خبرا يقتضي أن حليل بن حبشية جعل لأبي غبشان فتح البيت وإغلاقه، وأن قصيا اشترى ولاية البيت من أبي غبشان بزق خمر أو قعود. وسيأتي -إن شاء الله تعالى- هذا الخبر في أخبار قصي، وهذا الخبر نقله الزبير عن الأثرم عن أبي عبيدة.
وقال الزبير: قال محمد بن الضحاك: اشترى قصي مفتاح بيت الله الحرام من أبي غبشان الخزاعي، بكبش وزق خمر. فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان، فذهبت مثلا1 ... انتهى.
فتحصل من هذه الأخبار، فيما اشترى به قصي من أبي غبشان منا كان له في الكعبة ثلاثة أقوال: هل ذلك أثواب وأبعرة؟ أو هو زق خمر وقعود؟ أو هو كبش وزق خمر؟
وفي ذلك قول آخر رابع، وهو: زق خمر فقط، وذكر الزبير في خبر يأتي ذكره -إن شاء الله تعالى- فيما بعد في أخبار قصي، وفيه: أن أبا غبشان كان يلي البيت.
وأفاد الفاكهي سببا في بيع أبي غبشان ما كان له في البيت؛ لأن في الخبر الذي نقله الفاكهي، عن الواقدي، عن ابن جريج بعد قوله: "وكان حليل يتنزه عن أشياء يفعلها أبو غبشان": وكانت البحائر تنحر عند البيت، عند إساف ونائلة؛ فكان أبو غبشان قد سن له من كل بحيرة رأسها والعنق، ثم إنه استقل ذلك؛ فأبى أن يرضي بذلك؛ فقال: يزيدون الأكتاف، ففعلوا، ثم أدب لهم، فقال: يزيدون العجز، فأبى الناس ذلك عليه، فأتى رجل من بني عقيل يقال له: مرة بن كثير -أو كبير- ببدنه له، وكانت سمينة، فما بقي إذا لمن سيقت إليه؟! قال: الأكارع، قال: فرفضه الناس ومن حضر من قريش وغيرهم، وقالوا: عبث، كنت أولا تقول: الرأس والعنق؛ فكان هذا أخف من غيره، ثم تعديت إل الأكارع، فقال: لا أقيم في هذا البلد أبدا إلا على ذلك؛ فلما أبوا عليه، قال: من يشتري نصيبي من البيت بإدواة تبلغني إلى اليمن، أو بزق من خمر؟ فاشترى نصيبه في ذلك قصي، وارتحل أبو غبشان إلى اليمن؛ فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان.
قال الواقدي: وقد رأيت مشيخة خزاعة تنكر هذا2.
ونقل الفاكهي عن الزبير بن بكار ما يقتضي أن قصيا اشترى مفتاح البيت من أبي غبشان بالطائف3، وهذا يخالف ما في الخبر الذي قبله؛ فإنه يقتضي أن شراء قصي
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 159، 160.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 160.
3 السابق(2/66)
لذلك كان بمكة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- هذا الخبر في أخبار قصي، ويأتي في أخباره -أيضا- ما كان بينه وبين خزاعة من القتال، وتوليه لما كانت خزاعة يليه من ولاية مكة وحجابة البيت، وسكنى خزاعة معه بمكة في منازلهم التي جاء الإسلام وهم عليها.
وقد ذكر ابن عبد البر في كتاب له في الأنساب شيئا من فضل خزاعة يحسن ذكره هنا؛ وذلك أنه قال بعد أن ذكر نسبهم ونزول حزاعة الحرم ومجاورتهم قريشا: قال ابن عباس -رضي الله عنهما: نزل القرآن بلغة الكعبيين: كعب بن لؤي، وكعب بن عمرو بن لحي؛ وذلك أن دراهم كانت واحدة، ويقال لخزاعة: حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حلفاء بني حزاعة وبني بكر، فأعان مشركو قريش حلفاءهم بني بكر، ونقضوا بذلك العهد؛ فكان ذلك سبب فتح مكة لنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة، حلفاءه1. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يومئذ لسحابة رآها: "هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب"، وأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة لم يعطها أحد من الناس، أن جعلهم مهاجرين بأرضهم، وكتب لهم بذلك كتابا ... انتهى.
ووقع فيما ذكرناه من خبر عمرو بن لحي ذكر البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، من غير بيان ذلك.
وقد بين ذلك ابن إسحاق وابن هشام في السيرة؛ لأن فيها قال ابن إسحاق: أما البحيرة فهي بنت السائبة: الناقة إذا تابعت من بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، سيبت؛ فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما أنتجت بعد لك من أنثى شقت أذنها، ثم خلي سبيلها مع أمها، فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما ضيف، كما فعل بأمها، فهي البحيرة بنت السائبة.
والوصيلة: الشاة إذا أنتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكر، جعلت وصيلة. قالوا: قد وصلت؛ فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلى أنه منها شيء، فيشركون في أكله، ذكورهم وإناثهم.
قال ابن هشام: ويروي: فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم.
قال ابن إسحاق: والحام: الفحل إذا أنتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر، حمى ظهره؛ فلم يركب، ولم يجز وبره، وخلي في إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك.
__________
1 تهذيب سيرة ابن هشام "ص 243، 244".(2/67)
قال ابن هشام: هذا كله عند العرب على غير هذا إلا الحام؛ فإنه عندهم على ما قال ابن إسحاق: فالبحيرة عندهم: الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها، ولا يشرب لبنها إلا ضعيف، أو يتصدق به، وتهمل لآلهتهم.
والسائبة: التي ينذر الرجل أن يسيبها إن برأ من مرضه، أو أصاب أمرا يطلبه؛ فإذا كان كذلك ساب من إبلعه ناقة أو جملا لبعض آلهتهم، فساب فصارت لا ينتفع بها.
والوصيلة: التي تلد أمها اثنين في كل بطن؛ فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها، ولنفسه الذكور، فتلدها أمها ومعها ذرك في بطنها، فيقولون: وصلت أخاها، فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به، حدثني به يونس غيره، وروي بعض ما لم يرو بعض.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله -تبارك وتعالى- رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] ، وأنزل عليه: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] وأنزل عليه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] وأنزل عليه: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143، 144] ... انتهى.
وقال السهيلي: فصل: وذكر البحيرة والسائبة، وفسر ذلك، وفسره ابن هشام تفسير آخر، وللمفسرين في تفسيرهما أقوال، منها ما يقرب، ومنها ما يبعد عن قولهما، وحسبك ما وقع في الكتاب؛ لأنها أمور كانت في الجاهلية أبطلها الإسلام، فلا تمس الحاجة إلى علمها ... انتهى1.
__________
1 الروض الإنف 1/ 121.(2/68)
ذكر شيء من خبر عمرو بن عامر الذي تنسب إليه خزاعة وشيء من خبر بنيه:
أما عمرو بن عامر -المشار إليه- فهو: عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن(2/68)
سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الأزدي المازني؛ هكذا نسبه ابن هشام، وابن حزم، وابن الكلبي، فيما ذكر ابن عبد البر، ونسبه ابن الكلبي على ما وجدت في تاريخ الأزرقي على خلاف ذلك، وهو أنه جعل ثعلبة بين حارثة وامرئ القيس1، ونسبه هكذا المسعودي في تاريخه2.
وذكر غير واحد أنه يقال لعمرو هذا: مزيقيا، ولابنه عامر: ماء السماء، ولجده: حارثة الغطريف؛ وإنما قيل له: مزيقيا -على ما ذكر بعضهم- لأنه كان يلبس في كل يوم حلة ثم يمزقها لئلا يلبسها أحد بعده3؛ وإنما قيل لابنه ماء السماء -على ما ذكر السهيلي: لجوده، وقيامه عندهم مقام الغيث.
وكان عمرو بن عامر مالك مأرب -بهمزة ساكنة- وهي بلاد سبأ باليمن التي مزق الله أهلها وباعد بين أسفارهم، وأخربها سيل العرم، كما ذكر الله -عز وجل- في كتابه العزيز، حيث قال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 15، 16] .
واختلف في معنى العرم، فقيل: هو صفة السيل، وهو اسم للوادي، وقيل: اسم لسد عارم كان يقيها من السيل، ويحبس الماء على أهلها، فيصرفونه حيث شاؤوا من بلادهم.
وهذا السد بناه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وساق إليه سبعين واديا -على ما قيل، ومات قبل أن يكلمه، وأكمله بعده ملوك حمير، وقيل: بناه لقمان بن عاد الأكبر على ما ذكره المسعودي4، وذكر أنه كان فرسخا في فرسخ، وأن طول البلد أكثر من شهرين للراكب المجد، وكذلك عرضها5 والخصب، طيبة الفضاء، وكان أهلها في غاية الكثرة؛ حتى قيل إنهم كانوا يقتبسون النار من بعضهم بعضا مسيرة ستة أشهر، مع اجتماع الكلمة والقوة، ثم مزقهم الله تعالى، وباعد بين أسفارهم، وأخرب بلادهم بسيل العرم، كما ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز6.
وكان سبب تمزقهم: تخوفهم من خراب بلادهم بالسيل، فإن طريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر -على ما قيل- رأت في كهانتها أن سيل العرم يخرب سد مأرب،
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 92.
2 مروج الذهب للمسعودي 2/ 190.
3 الروض الأنف 1/ 21.
4 مروج الذهب 2/ 180.
5 هذه الروايات فيها مبالغة ظاهرة؛ لأن الآثار الباقية في شبه الجزيرة العربية تدل على أن مملكة سبأ كانت جزءا محدودا من بلاد اليمن، كما تشير إلى ذلك الروايات التاريخية، في مختلف المراجع.
6 مروج الذهب 2/ 181، 182.(2/69)
فذكرت ذلك لملكهم عمرو بن عامر، وأرته لذلك علامات، ومنها: جزر يحفر في السد؛ فلما تحقق لك كتمه عن قومه، وعزم على الانتقال من بلاده بمكيدة دبرها، وهو أنه قال لأصغر ولده: إذا تحدثت بحضرة الناس رد على حديثي؛ فأظهر الغضب عليك وألطمك، فافعل بي مثل ذلك، ثم عمل عمرو وليمه عظيمة، ودعا أهل مآرب؛ فلما اجتمعوا عنده تحدث، فجاراه ولده الحديث؛ ورد عليه، فغضب أبوه ولطمه، ففعل به الولد مثل ذلك. فأظهر عمرو أنه يريد قتله، فلم يزل الناس به حتى كفوه عنه؛ فقال: لا أقيم ببلد يلطم فيه وجهي أصغر ولدي -وقيل: إن الذي فعل به ذلك، يتيم كان في حجره -وعرض عمرو أمواله للبيع؛ فقال بعض أشراف قومه: اغتنموا غضبه عمرو واشتروا منه قبل أن يرضى، ففعلوا؛ فلما صار الثمن إليه أخبر الناس بشأن سيل العرم وخرج من بلاده1.
وذكر ابن هشام أنه انتقل في ولده، وولد ولده، قال: قالت الأسد -يعني الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر؛ فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك2 مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم سجالا؛ ففي ذلك قال عباس بن مرداس البيت الذي كتبناه، يعني قوله:
وعك بن عدنان الذين بغوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد
ثم ارتحلوا عنه فتفرقوا في البلدان، فنزل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت ثم ارتحلوا عنه فتفرقوا في البلدان، فنزل جفنه بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرا، ونزلت أسد السراة، ونزلت أزد عمان3 ... انتهى.
وقال شارح القصيدة العبدونية: ولما خرج عمرو بن عامر بن اليمن، خرج لخروجه منها بشر كثير، فنزلوا أرض عك، فحاربتهم عك، ثم اصطلحوا، وتفرقوا فيها حتى مات عمرو بن عامر، فتفرقوا في البلاد ... انتهى.
وإنما ذكرنا هذا الكلام لإفادته حال قبائل عمرو ببلاد عك، ما لم يفده كلام ابن هشام، وليس ما ذكره من إقامتهم ببلاد عك، حتى مات عمرو بمقتضى لطول إقامتهم يستلزم قصر المدة؛ لأنه يمكن أن يكون عمرو مات في زمن الارتياد، والله أعلم.
نعم في كلام الأزرقي ما يقتضي أنه لم يقهرهم أحد، وذلك يخالف ما ذكره ابن هشام والشارح، وقد رأيت أن أذكر كلامه لهذا المعنى، ولإفادته أمورا أخر، من حال
__________
1 مروج الذهب 2/ 188، 189.
2 "عك" بلاد بين اليمن والحجاز.
3 سيرة ابن هشام 1/ 29.(2/70)
قبائل عمرو بن عامر بمكة وغيرها، وخصوصا حال خزاعة، وما آل إليه أمرهم بمكة؛ وذلك في خبر طويل، وفيه أيضا شيء من حال جرهم.
وهذا الخبر رواه الأزرقي في تاريخه، عن الكلبي، عن أبي صالح، قال فيه: "فباع عمرو أمواله، وسار هو وقومه من بلد إلى بلد لا يطئون بلدا إلا غلبوا عليه وقهروا أهله، حتى يخرجوا منه -ولذلك حديث طويل اختصرناه- ثم قال: فلما قاربوا مكة ساروا ومعهم طريفة الكاهنة، فقالت لهم: سيروا فلن تجتمعوا أنتم ومن خلفتهم أبدا، فهم لكم أصل وأنتم لهم فرع، ثم قالت: مه مه وحق ما أقول، ما علمني ما أقول إلا الحكيم العليم المحكم، رب جميع الناس من عرب وعجم، فقالوا لها: ما شأنك يا طريفة؟ قالت: خذوا البعير الشدقم فخضبوه بالدم، تلون أرض جرهم جيران بيته المحرم، قال: فلما انتهوا إلى مكة، وأهلها جرهم قد قهروا الناس، وحازوا ولاية البيت على بين إسماعيل وغيرهم، أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر: يا قوم إنا قد خرجنا من بلادنا؛ فلم ننزل ببلد إلا فسح أهلها لنا، وتزحزحوا عنا، فنقيم معهم حتى نرسل روادنا فيروتادون لنا بلدا يحملنا، فافسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قد ما نستريح، ونرسل روادنا إلى الشام وإلى المشرق؛ فحيث ما بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرا، فأبت جرهم ذلك إباء شديدا، واستنكروا في أنفسهم، وقالوا: لا والله، ما نحب أن تنزلوا معنا فتضيقون علينا مرابعنا وموادرنا، فارحلوا عنا بحيث أحببتم، فلا حاجة لنا بجوارحكم؛ فأرسل إليه ثعلبة أنه لا بد لي من القمام بهذا البلد حولا حتى ترجع إلي رسلي التي أرسلت، فإن تركتموني نزلت طوعا وحمدتكم وواسيتكم في الماء والمرعى، وإن أبيتم أقمت على كرهكم، ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا، ولا تشربوا إلا نتنا.
قال أبو الوليد الأزرقي يعني: الكدر من الماء، وأنشد على ذلك بيتين:
فإن قتلتموني قاتلتكم ... ثم إن ظهرت عليكم سبيت النسا
وقتلت الرجال ولم أترك منكم ... أحدًا ينزل الحرم أبدا
فأبت جرهم أن تتركه طوعا، وتعبت لقتاله، فاقتتلوا ثلاثة أيام، وأفرغ عليهم الصبر ومنعوا النصر، ثم انهزمت جرهم، فلم ينفلت منهم إلا الشريد.
ثم قال: وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا، فأصابتهم الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحيى؛ فدعوا طريفة، فشكوا إليها الذي أصابتهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون، وهو مفرق ما بيننا. قالوا: فماذا تأمرين؟ قالت: عليكم الإجابة وعلى التبيين. وقالوا: فما تقولين؟ قالت: من كان منكم ذا هم بعيد، وحمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بقصر عمان المشيد؛ فكان أزد عمان. ثم قالت: من كان(2/71)
منكم ذا جلد وقصر، وصبر على أزمات الدهر؛ فعليه بالأراك1 من بطن مر، فكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في المنجل2، المطعمات من الحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، ويلبس الديباج والحرير، فليلحق ببضرى والغوير3 يريد الثياب الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق، فليلحق بأهل4 العراق؛ فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة من غسان وآل محرق، حتى جاءهم روادهم، فافترقوا من مكة فرقتين فرقة توجهت إلى عمان وهم: أزد عمان، وسار ثعلبة بن عمرو بن عامر نحو الشام؛ فنزلت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وهم الأنصار بالمدينة، ومضت غسان فنزلوا الشام، وانخزعت خزاعة بمكة، فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمروبن عامر -وهو: لحي، فولي أمر مكة، وحجاجة الكعبة5 ... انتهى باختصار.
وقد بأن بما ذكرناه شيء من حال عمرو بن عامر وقومه، وفيه كفاية إن شاء الله تعالى.
__________
1 الأراك: وادي الأراك متصل بغيفة، وقال نصر: أراك فرغ من دون نافل قرب مكة.
2 عند الأزرقي: "الوحل".
3 الغوير: وهي ماء لكلب بأرض السماوة وأرض السماوة المسماة ببادية الشام. "معجم البلدان 2/ 94".
4 عند الأزرقي: "أرض".
5 أخبار مكة 1/ 92-95.(2/72)
الباب الثاني والثلاثون:
في ذكر شيء من أخبار قريش بمكة في الجاهلية وشيء من فضلهم وما وصفوا به وبيان نسبهم، وسبب تسميتهم بقريش وابتداء ولايتهم للكعبة، وأمر مكة
ذكر شيء من فضلهم وما جاء في أنهم خير العرب:
روينا في صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار من خيار" 1.
ما جاء في أن الخلافة لا تزال في قريش:
رينا عن البخاري في صحيحه قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا عاصم بن محمد، قال سمعت أبي يحدث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان".
وروينا ذلك في صحيح البخاري، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم2.
ما جاء في عقوبة من عادي قريشا 3:
روينا عن البخاري في صحيحه من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين".
__________
1 أخرجه: الترمذي "3607"، ومناهل الصفة 53 رقم 125.
2 صحيح البخاري.
3 ورد في الأصل قبل ذلك عبارة: "ما جاء في الأمر بتقديم قريش على عيرهم" ثم أضاف: "روينا" وبعد ذلك يوجد بياض في الأصل في جميع النسخ.(2/73)
ولذكر معاوية -رضي الله عنه- هذا الخبر قصة مذكورة في "صحيح البخاري".
والأخبار الواردة في فضل قريش كثيرة، وفيما أوردناه من ذلك كفاية، ولم نورده إلا للتبرك به.
ذكر ما وصفت به بطون قريش:
قال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثنا إسحاق بن البهلول، قال حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عبد مناف عز قريش، وأسد ركنها وعضدها، وعبد الدار رئتها وأوائلها، وعدي جناحاها، ومخزوم ريحانتها في نظرتها، وجمح وسهم عديدها، وعامر ليوثها، وفرسانها والناس تبع لقريش، وقريش مع لولد قصي" 1.
وحدثنا عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الملك بن عبد العزى، عن عبد الملك بن عبد العزى، عن عمر بن عبد العزيز، قال: عبد مناف عز قريش، وأسد بن عبد العزى عضدها، وزهرة الكبد، وتيم وعدي رئتها، ومخزوم فيها كالأراكة في بطونها، وجمح وسهم جناحاها، وعامر ليوثها وفرسانها، وكل تبع لولد قصي، والناس تبع لقريش".
وحدثني حسن بن حسين قال: حدثنا محمد بن أبي السري قال: حدثنا هشام بن الكلبي، وعن سفيان بن عيينة، عن محمد بن قيس -الأسدي قال غير ابن الكلبي؛ عن علي بن ربيعة ولم يقله ابن الكلبي؛ أوقفه على محمد بن قيس، قال: سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن بني أمية، فقال: أشدنا حجرا، وأدركنا للأمور إذا طلبوا، وسئل عن بني المغيرة من بني مخزوم، فقال: أولئك ريحانة قريش التي تشمونها. وسئل عن بطن آخر كنى عنهم سفيان بن عيينة -قال عثمان: وهم بنو تيم- فذكر شيئا.
قال الحسن بن حسين: وأخبرني محمد بن سهل الأزدي، قال: سمعت هشام بن الكلبي يذكر عن أبيه، قال: سئل علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه- عن قريش، فقال: أما بنو هاشم فأفصح وأسمح وأصبح، وأما إخوتها من بني عبد شمس فأنكر وأمكر، وأغدر وأفجر.
وسئل مرة أخرى فقال: أما بنو هاشم فأصدق قريش في النوم واليقظة، وأكرمها أحلامها، وأضربها بالسيف، وأما بنو عبد شمس فأبعدنا همما، وأمنعنا لما وراء ظهورها،
__________
1 سمط النجوم العوالي 1/ 211.(2/74)
وأما بنو مخزوم فريحانة من ريحانة قريش، يحب حديث رجالهم، ويشتهي تزوج نسائهم1، وسئل عن قوم من أقوام قريش، فقال: زعائفة.
وأخبرني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن الحسين الشامي، قال: حدثنا النضر بن عمرو، قال: حدثني بكر بن عامر المري، عن عامر بن عبد الله المسمعي قال: دخل دغفل الشيباني2 على معاوية، فقال له معاوية -رضي الله عنه: أخبرنا عن بني هاشم، فقال: في الواسطة من القلادة، في الجاهلية سادة، وفي الإسلام ملوك وقادة، قال: فأخبرنا عن بني عبد المطلب، قال: بيت مقشعرة، أصابتها قرة، لا يسمع لها حرة، ولا يرى لها درة. قال: فأخبرنا عن بني نوفل، قال: اسم ولا حسيس، قال: فأخبرنا عن بني أسد. قال: ذو سؤم ونكد، وبغي وحسد. قال: فأخبرنا عن بني أسد. قال: ذو شؤم ونكد، وبغي وحسد. قال: فأخبرنا عن بني زهرة، قال: جهل فاش، وحلم الفراش، قال: فأخبرنا عن آل تيم بن مرة، قال: كثير أوغادهم، عبيد من سادهم، ولا يرى منهم قائد يقودهم، قال: فأخبرنا عن بني مخزوم، قال: معزى مطيره، أصابتها قشعريرة، إلا بني المغيرة؛ فإنهم أهل التشدق في الكلام، ومصاهرة الكرام. قال: فأخبرنا عن بني جمح، قال: كلهم طلف، إلا بني خلف. قال: فأخبرنا عن بني عدي بن كعب، قال: قساة الأخلاق، ولؤم أعراق، إن استغنوا شجوا، وإن انفردوا لجوا.
ذكر أهل البطاح، والظواهر، والعارية، والعائدة من قريش:
قال الفاكهي: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثنا محمد بن الحسن المخزومي، عن العلاء بن الحسن، عن عمه أفلح بن عبد الله بن المعلي، عن أبيه وغيره من أهل العلم، قال: إن قريش البطاح: لأن قرشا حين اقتسموا بلادهم احتلت كعب بن لؤي الأباطح؛ فكعب وبنوه مالك، وقدد بن رجا، والحارث ومحارب ابنا فهر، وعوف بن فهر ودرج، والأدرم؛ وهم بنو تيم بن غالب بن فهر، وعوف بن فهر، وقيس بن فهر، وقدد، وعامر بن لؤي؛ وإنما سموا الظواهر لأن قريشا حين اقتسموا دارهم أخذوا منهم ظواهر مكة؛ بحيث سكنوا بالظواهرة3 أو بالبطحاء، فهم قريش الظواهر بالظاهرة أو بالبطحاء.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 166، 168.
2 هو دغفل بن حنظلة بن يزيد، يعرف بدغفل النسابة، كان يحكم بجهة الموصل. "جمهرة أنساب العرب -ص319".
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 167.(2/75)
وحدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: كانت قريش الظواهر: محارب، والحارث ابنا فهر، ومن هناك من جيرانهم عامر بن لؤي، والأدرم1 بن غالب يغيرون على بني كنانة، يغير بهم عمرو بن عبد ود؛ إلا أن الحارث بن فهر دخلت بعد ذلك مكة، فهي من البطاح، وهم يد مع المطيبين ... انتهى.
وأما قريش العاربة؛ فإنهم ولد سامة بن لؤي بن غالب بن فهر بنمالك بن النصر بن كنانة خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وقد ذكر الفاكهي سبب تسميتهم بذلك؛ لأنه قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: وأما ولد سامة بن لؤي وهم قريش العاربة؛ وإنما سموا العاربة لأنهم عربوا عن قومهم، فنسبوا إلى أمهم ناجية بنت حزم بن ربان، وهو علاف، وكان أول من اتخذ من الرجال العلافية فنسب إليها، فقيل: علاف. واسم ناجية: ليلي؛ وإنما سميت ناجية؛ لأنها سارت في مفازة فعطشت، فاستقت سامة بن لؤي، فقال لها: بين يديك، وهو يريها السراب، حتى جاءت الماء فنجت فسميت: ناجية2.
قريش العائدة:
وأما قريش العائدة: فهم بنو خزيمة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
وقد ذكر الفاكهي عن الزبير سبب تسميتهم بذلك؛ لأنه قال: وإنما قيل لخزيمة بن لؤي: عائدة؛ لأن عبيدة3 بن خزيمة تزوج عائدة بنت الحمس بن قحافة بن خثعم؛ فولدت له مالكا وتيما فسموا عائدة بأمهم.
قال لنا الزبير: قال علي بن المغيرة، عن حسن بن علي العقيلي قال: وإنما قيل: عائدة قريش؛ لأن عدادهم في بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان في الجاهلية والإسلام فقيل: عائدة قريش، لئلا يضلوا.
حدثني الزبير بن أبي بكر قال: كان أهل الظواهر من قريش في الجاهلية يفخرون على أهل الحرم، فيعقد لواء فخارهم للناس. قال الزبير: وكانت العرب تنفس قريشا، وتعير أهل الحرم منها بالمقام بالحرم، فأسموهم: الصب ... انتهى.
وفي قريش رهط يقال لهم: الأحربان، ذكرهم الزبير بن بكار؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن أبي قدامة العمري قال: كان بنو معيص بن عامر بن لؤي وبنو محارب بن فهر
__________
1 "الأدرم": المنقوص الذقن "الروض الأنف 1/ 119".
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 168.
3 في نسب قريش "ص441": "عبيدة".(2/76)
متحافين، وكانا يدعيان الأحربين -لما بينهما- فهما الأحربان من أهل تهامة، والأحربان من أهل نجد: بنو عبس، وذبيان ... انتهى.
ذكر بيان نسب قريش:
اختلف في نسبهم؛ فقيل: إنهم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقيل: إنهم ولد النضر بن كنانة، والقول الأول ذكره الزبير بن بكار عن غير واحد من أهل العلم؛ لأنه قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا أبو البختري وهب بن وهب، قال: حدثني ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: إن اسم فهر بن مالك الذي أسمته أمه قريشا، كما يسمي الصبي غدارة، وشمله، وأشباه ذلك، قال: قال: وقد اجتمع النساب من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر، والذي عليه من أدركت من نساب، وذكر الزبير هذا القول عن هشام بن الكلبي؛ لأنه قال: قال: ولد مالك بن النضر فهرا، وهو جماع قريش.
وقال الزبير فيما نقله عنه القطب الحلبي، قال عمي: فهر هو قريش1، وقريش اسمه وفهر لقب له؛ فمن لم يلده فهر فليس من قريش.
ونقل الزبير هذا القول أيضا عن هشام بن الكلبي؛ لأنه ذكر أن أبا الحسن الأثرم حدثه عن الكلبي أن النضر بن كنانة هو قريش.
ونقل ذلك الزبير، عن أبي عبيدة بن المثنى؛ لأنه ذكر أن أبا الحسن الأثرم حدثه عن أبي عبيدة؛ قال: منتهى من وقع عليه اسم قريش: النضر بن كنانة؛ فولده قريش دون سائر بني كنانهة بن خزيمة بن مدركة، وهو عارم بن إلياس بن مضر، فأما من كان من ولد كنانة سوى النضر فلا يقال لهم: قريش، قال: وإنما سموا بنو النضر قريشا2؛ لأ، التقرش هو التجمع، قال: وقال بعضهم للتجار، يتقارشون، أي يتجرون.
__________
1 قارن بجمهرة أنساب لابن حزم "ص12"، والروض الأنف 1/ 16.
2 في الروض: 1/ 17 "قريشا لتجمعهم".(2/77)
والدليل على اضطراب هذا القول: إن قريشًا لم يجتمعوا حتى جمعهم قصي بن كلاب؛ فلم يجتمع إلا ولد فهر بن مالك، لا مرية عند أحد في ذلك، وبعد هذا فنحن أعلم بأمورنا، وأرعى لمآثرنا، وأحفظ لأسمائنا، ولم ندع قريشا، ولم تهمهم1 إلا ولد فهر بن مالك2 ... انتهى.
وذكر هذين القولين في نسب قريش: ابن هشام في "السيرة"؛ لأن فيها: وقال ابن هشام: النضر، قريش؛ فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي3، ثم قال: ويقال فهر بن مالك قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي ... انتهى.
وليس في كلام ابن هشام ما يقتضي ترجيح أحد القولين. وفي كلام الزبير ما يقتضي ترجيح القول بأن قريشا ولد فهر بن مالك. وكلام النووي يقتضي ترجيح القول بأنهم ولد النضر.
ويقال: إن أول من قيل له القرشي: قصي بن كلاب؛ لأن الفاكهي روي بسنده: أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير بن مطعم عن سبب تسميته قريش؛ فذكر له محمد بن جبير أن ذلك لتجمعها في الحرم، وأن عبد الملك قال له: ما سمعت بهذا، ولكني سمعت: أن قصيا كان يقال له: القرشي، ولم يسم قرشي قبله.
ونقل الفاكهي ذلك عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف من طريقين، ونقل الفاكهي ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: قال أبو بكر: وحدثني أبو بكر بن عبد الله، وابن أبي جهم، عن أبيه قال: النضر بن كنانة كان يسمى القرشي ... انتهى.
وذكر السهيلي ما يقتضي أن قريشا كانت تسمى قريشا قبل مولد قصي؛ لأنه ذكر أن كعب بن لؤي قال:
إذا قريش تبغي الحق خذلانا4
... انتهى.
وقال أبو الخطاب بن دحية في تسمية قريش، ومن أول من سمي به عشرون قولا، نقل ذلك عن ابن دحية هكذا القطب الحلبي.
وقال القطب الحلبي: ثم النسب إلى قريش: قرشي، وقريشي؛ فمن قال: قريشي، أجراه في النسب على أصله وتوفيته حروفه، فهو القياس؛ لأن الياء لا يطرد حذفها إلا ما كانت فيه هاء التأنيث. نحو: مرتبة ... انتهى.
__________
1 في الروض 1/ 17: "نهمم".
2 الروض الأنف 1/ 117.
3 قارن بجمهرة أنساب العرب "ص: 12"، وسيرة ابن هشام 1/ 91، 94.
4 الروض الأنف 1/ 117.(2/78)
ذكر سبب تسمية قريش بقريش موما قيل في ذلك:
اختلف في تسمية قريش بقريش؛ فقال ابن هشام في "السيرة": وإنما سميت قريش قريشا من التقرش، والتقرش: التجارة والاكتساب، وأنشد في ذلك شعرا لرؤبة بن العجاج.
وقال ابن إسحاق: قال: إنما سميت قريش قريشا لتجمعها من بعد تفرقها، يقال للتجمع: التقرش1 ... انتهى.
وقيل: إنما سميت بذلك، لتفتيشها عن حاجة الناس وسدها لها؛ وهذا يروي عن الشعبي كما سبق.
وقيل: سميت بذلك: لأن قريش بن بدر يخلد بن النضر بن كنانة كان دليل بني كنانة في تجارتهم؛ فكان يقال: "قدمت عير قريش" فسميت قريش به، ذكر ذلك مصعب الزبيري2. قال: وأبوه بدر بن مخلد، صاحب بدر، الموضع الذي لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا. ذكر ذلك الزبير عن عمه.
وقيل: إنما سموا قريشا لأنهم يتقرشون البضاعات فيشترونها.
قيل: جاء النضر بن كنانة في ثوب له؛ فقالوا: قد تقرش في ثوبه كأنه جمل قريش: أي شديد مجتمع.
وقال ابن الأنباري: وقيل: قريش من التقريش وهو التحريش3. قال أبو القاسم الزجاجي: هذا الوجه ليس بمعروف؛ لأن المعروف في اللغة أن تقديم الراء على القاف هو التحريش لا التقريش، والتقريش: تزيين الكلام وتحسينه.
قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: قريش مأخوذ من القرش، وهو وقع الأسنة بعضها على بعض؛ لأن قريشا أحرب الناس بالطعان ... انتهى.
وقيل: سميت قريش قيرشا بدابة في البحر تسمى القرش، وهذا يروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال لعمرو بن العاص -رضي الله عنه- حين سأله عن ذلك بحضرة معاوية -رضي الله عنه- استعجازا له عن معرفته، وأنشد ابن عباس -رضي الله عنه- على ذلك قول المسرح بن عمرو الحميري:
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا
__________
1 سيرة بن هشام 1/ 94.
2 نسب قريش "ص: 12"، جمهرة أنساب العرب "ص: 11".
3 الزاهر لابن الأنباري 2/ 121.(2/79)
تأكل الغث والسمين ولا تترك ... منه لذي جناحين ريشا
ذكر هذا الخبر الفاكهي وغيره، وذكره القطب الحلبي، وكلامه يوهم أن ابن عباس -رضي الله عنهما- سأل عمرو بن العاص؛ وذلك يخالف ما ذكره الأزرقي، ثم قال القطب: وقال المطرزي: هي ملكة الدواب وسيدة الدواب وأشدها؛ فلذلك قريش سادة الناس1 ... انتهى.
وذكر هذا القول السهيلي؛ لأنه قال: ورأيت لغيره -يعني الزبير بن بكار- أن قريشا تصغير القرش: وهو حوت في البحر يأكل حيتان البحر، سميت به القبيلة، أو سمي به أبو القبيلة، والله أعلم2 ... انتهى.
هذا ما رأيته من الأقوال في تسمية قريش، وفي ذلك أقوال أخر على مايقتضيه كلام ابن دحية3، والله أعلم بالصواب.
ذكر ابتداء ولاية قريش الكعبة المعظمة ومكة:
أول من ولي ذلك منهم: قصي بن كلاب، وقد ذكر خبره في ذلك جماعة من أهل الأخبار، منهم: الأزرقي وذلك فيما رويناه عنه بالسند المتقدم، قال: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن جريج، وعن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه- قالا -بعد ذكر شيء من خبر خزاعة-: فلبثت خزاعة على ما هي عليه، وقريش -إذ ذاك- في بني كنانة متفرقة، وقد قدم في بعض الزمان حاج قضاعة، فيهم: ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبد كثير بن عذرة بن سعيد4 بن زيد، وقد هلك كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وترك زهرة وقصيا ابني كلاب مع فاطمة بنت عمرو بن سعد بن شبل، وسعد بن شبل الذي يقول فيه الشاعر -وكان أشجع أهل زمانه:
لا أرى في الناس شخصا واحدا ... فاعلموا ذاك لسعد بن شبل
فارس أضبط فيه عسرة ... فإذا ما عاين القرن نزل
فارس يستدرج الخيل كما ... يدرج الحر القطامي الحجل
وزهرة أكبرهما، فتزوج ربيعة بن حزام أمهما. وزهرة رجل بالغ، وقصي فطيم أو في سن الفطيم، فاحتملها ربيعة إلى بلاده من أرض عذرة إلى أطراف الشام، فاحتملت
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 170.
2 الروض الأنف 1/ 117.
3 يراجع في هذا لسان العرب "مادة قرش"، وقلائد الجمعان في التعريف بقبائل عرب الزمان للقلقشندي، تحقيق إبراهيم الإبياري "ص: 137"، ونهاية الأرب في معرفة أنساب العرب "ص: 398".
4 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 104: "سعد".(2/80)
معها قصيا لصغره، وتخلف زهرة في قومه؛ فولدت فاطمة ابنه عمرو بن سعد لربيعة: رزاح بن ربيعة؛ فكان أخا قصي بن كلاب لأمه، ولربيعة بن حزام من امرأة أخرى، ثلاثة نفر: حسن، ومحمود، وطهيمة1، بنو ربيعة.
فبينا قصي بن كلاب في أرض قضاعة لا ينتهي2 إلا إلى ربيعة بن حزام؛ إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء، وقصي قد بلغ، فقال له القضاعي: ألا تلحق بنسبك وقومك، فإنك لست منا؟ فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له، فقالت له: أنت والله يا بني خير منه وأكرم، أنت كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقومك عند البيت الحرام وما حوله؛ فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحاق بهم، وكره الغربة في أرض قضاعة؛ فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب؛ فإني أخشى عليك. فأقام قصي حتى دخل الشهر الحرام، وخرج في حاج قضاعة حتى قدم مكة؛ فلما فرغ من الحج أقام بها، وكان قصي رجلا جليدا حازما بارعا، فخطب إلى حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي ابنته حبي ابنة حليل؛ فعرف حليل النسب ورغب في الرجل، فزوجه حليل، وحليل يومئذ يلي الكعبة وأمر مكة، فأقام قصي معه حتى ولدت حبي لقصي عبد الدار -وهو أكبر ولده- وعبد مناف، وعبد العزي، وعبد بن قصي؛ فكان حليل يفتح البيت، فإذا اعتل أعطى ابنته حبي المفتحا، ففتحته، فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصيا، أو بعض ولدها، فيفتحه، وكان قصي يعمل في حيازته إليه، وقطع ذكر خزاعة عنه؛ فلما حضرت حليل الوقاة نظر إلى قصي فجعل له ولاية البيت، وأسلم إليه المفتاح، وكان يكون عند حبي؛ فلما هلك حليل، أبت خزاعة أن تدعه وذلك، وأخذوا المفتاح من حبي، فمشي قصي إلى رجل من قومه من قريش وبني كنانة، فدعاهم إلى أن يقوموا معه في ذلك، وأن ينصروه ويعضدوه؛ فأجابوه إلى نصره، ويعلمه ما حالت خزاعة بينه من ولاية البيت، ويسأله الخروج إليه بمن أجابه من قومه؛ فقام رزاح في قومه، فأجابوا إلى ذلك، فخرج الخروج إليه بمن أجابه من قومه، فقام رزاح في قومه، فأجابوا إلى ذلك، فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته من أبيه: حسن، ومحمود، وطهيمة3، بنو ربيعة بن حزام، فيمن معهم من قضاعة، وفيمن ومعهم من حاج العرب مجتمعين لنصر قصي، والقيام معه؛ فلما اجتمع الناس بمكة، خرجوا إلى الحج، فوقفوا بعرفة، وبجمع، ونزلوا منى.
__________
1 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة للأزرقي 1/ 104، والروض الأنف: "جهلمة".
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 104: "ينتمي".
3 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة: "جهلمة".(2/81)
وقصي مجمع على ما أجمع عليه، من قتالهم بمن معه من قريش وبني كنانة، ومن قدم عليه مع أخيه رزاح من قضاعة؛ فلما كانت آخر أيام منى، أرسلت قضاعة إلى خزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قضي ما جعل له حليل، وعظموا عليهم القتال في الحرم، وحذروهم الظلم والبغي بمكة، وذكروهم ما كانت فيه جرهم، وما صارت إليه حين ألحدوا1 فيه بالظلم؛ فأبت خزاعة أن تسلم ذلك، فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى -قال: فسمى ذلك المكان المفجر2، لما فجر فيه وسفك فيه من الدم، وانتهك من حرمته- فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا، وكثرت فيهم الجراحات، وحاج العرب جمعيا من مضر واليمن مستنكفون، ينظرون سفك الدماء والفجور في الحرم؛ فاصطلحوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا عمر بن عوف بن كعب بن عامر بن الليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكان رجلا شريفا؛ فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدا، فاجتمع الناس، وعدوا القتلى؛ فكانت في خزاعة أكثر منها في قريش وقضاعة وكنانة، وليس كل بني كنانة قاتل مع قصي خزاعة؛ إنما كانت مع قريش من كنانة فلال يسيرة، واعتزلت عنها بنو بكر بن عبد مناة قاطبة.
فلما اجتمع الناس بفناء الكعبة قام يعمر بن عوف؛ فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين، ولا تباعة لأحد على أحد في دم، وإني قد حكمت لقصي بحجابة البيت، وولاية أمر مكة دون خزاعة لما جعل له حليل، وأن يخلي بينه وبين ذلك، وأن لا تخرج خزاعة من مساكنها من مكة.
قال: فسمي يعمر ذلك اليوم: الشداخ.
فسلمت ذلك خزاعة لقصي، وأعظموا سفك الدماء في الحرام، وافترق الناس.
فولي قصي بن كلاب حجابة البيت وأمر مكة، وجمع قومه قريشا من منازلهم إلى مكة يستعز بهم ويملك على قومه، فملكوه، وخزاعة مقيمة بمكة على رباعهم وسكانهم لم يحركوا ولم يخرجوا منها؛ فلم يزالوا على ذلك حتى الآن، وقال قصي في ذلك وهو يشكر لأخيه رزاح بن ربيعة:
أنا ابن العاصمين بني لؤي ... بمكة مولدي وبها ربيت
لي البطحاء قد علمت معد ... ومروتها رضيت بها رضيت
__________
1 من الإلحاد وهو الميل.
2 ما زال اسم هذا المكان "المفجر" معروفا حتى اليوم وهو قريب من منى خلف الجبل المقابل لثبير.(2/82)
وفيها كانت الآباء قبلي ... فيما سويت أخي وما سويت
رزاح ناصري وبه أسامي ... فلست أخاف ضيما ما حييت1
فكان قصي أول رجل من كنانة أصاب ملكا، وأطاع له به قومه؛ فكانت إليه الحجامة، والرفادة، والسقاية، والندوة2، والقيادة؛ فلما جمع قصي قريشا بمكة سمي مجمعا، وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجمحي يمدحه:
أبوهم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
همو نزلوها والمياه قليلة ... وليس بها إلا كهول بني عمرو
يعني هم خزاعة:
قال إسحاق بن أحمد: أبو جعفر محمد بن الوليد بن كعب الخزاعي:
أقمنا بها والناس فيها قلائل ... وليس بها إلا كهول بني عمرو
هم ملكوا البطحاء مجدا وسوددا ... وهم طردوا عنها غواة بني بكر
هم حفروها والمياه قليلة ... ولم يستقوا إلا بنكد من الحفر
حليل الذي عادى كنانة كلها ... ورابط بيت الله بالعسر واليسر
أحازم إما أهلكن3 فلا تزل ... لهم شاكرا حتى توسد في القبر
ويقال: من أجل تجمع قريش سميت قريش: قريشا4.
وذكر ابن إسحاق خبر ولاية قصي بن كلاب، وفيه زيادة على ما في هذا الخبر؛ لأنه قال: ثم إن قصي بن كلاب خطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبي؛ فرغب فيه حليل فزوجه، فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزي، وعبدا؛ فلما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل؛ فرأى قصي أنه قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشا فرعة إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- وصريح ولده؛ فكلم رجالا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه، وكان ربيعة بن حزام بن عزرة بن سعد بن زيد بن مناة قد قدم مكة بعد هلك كلاب. فتزوج فاطمة بنت سعد بن شبل5، وهو يومئذ رجل، وقصي فطيم. فاحتملها إلى بلاده، فحملت قصيا معها، وأقام زهرة، فولدت لربيعة: رزاحا، فلما بلغ قصي.
__________
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 107 بيتان زيادة على ما هنا.
2 في أخبار مكة للأزرقي يضيف بعد الندوة: "اللواء".
3 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 108: "أحازم إما أهلكنا".
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 103، 108.
5 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 109: "سيل".(2/83)
وصار رجلا، أتى مكة فأقام بها؛ فلما أجابه قومه إلى ما دعاهم إليه، كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة يدعوه إلى نصرته والقيام معه.
فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته: حسن بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وطهيمة وهم لغير فاطمة، فيمن تبعهم من قضاعةت في حاج العرب، وهم مجمعون لنصر قصي، وخزاعة تزعم أن حليل بن حبشية أوصى بذلك قصيا وأمره به؛ حتى انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة، والقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة؛ فعند ذلك طلب قصي ما طلب. ولم يسمع ذلك من غيرهم؛ فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم قال بعد أن ذكر شيئا من خبر صوفة وإجازتها بالناس من عرفة ومنى؛ فلما1 كان ذلك العام فعلت صوفة كما كانت تفعل، وقد عرفت لها ذلك العرب، وهو دين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم، فأتهاهم قصي بن كلاب لمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة؛ فقال: لا، نحن بهذا أولى منكم.
فقاتلوه؛ فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم، من ذلك. وانحازت عند ذلك خزاعة، وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة، وأمر مكة؛ فلما انجازوا عنه باداهم2 وأجمع لحربهم. وخرجت له خزاعة وبنو بكر، فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا، ثم إنهم تداعوا إلى الصلح، وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب؛ فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلي بين قصي وبين الكعبة ومكة، فسمي يعمر بن عوف يومئذ: الشداخ، بما شدخ من الدماء، ووضع منها.
قال ابن هشام: ويقال: الشداج.
قال ابن اسحاق: وولي قصي البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه؛ إلا أنه قال: قد أقر العرب ما كانوا عليه؛ وذلك أنه كان يراه دينا في نفسه لا ينبغي تغييره؛ فأقر آل صفوان، وعدوان، والنساء، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام فهدم الله ذلك كله؛ فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة3
__________
1 من هنا يبدأ النص في سيرة ابن هشام 1/ 147.
2 باداهم: ظاهر وجاهر لهم بالعداوة.
3 الحجابة: سدانة الكعبة، وفتح بابها للحجاج.(2/84)
والسقاية1، والرفادة2، والندرة3، واللواء4؛ فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة رباعا بين قومه؛ فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي اصطلح عليها. ويزعم بعض الناس أن قريشا هابوا قطع شجرا الحرام في منازلهم، فقطعها قصي بيده وأعوانه فسمته قريش مجمعا، لما جمع من أمرها، وتيمنت قريش بأمره؛ فما تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقده لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره، تشق عليها فيها درعها، ثم تدرعه، ثم ينطلق إلى أهلها؛ فكان أمره في قومه من قريش بها في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع. لا يعمل بغيره، واتخذ لنفسه دار الندرة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة؛ ففيها كانت قريش تقضي أمورها.
قال ابن هشام: قال الشاعر:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من قهر
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن راشد عن أبيه، قال: سمعت السائب بن حباب صاحب المقصورة يحدث أنه سمع رجلا يحدث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وهو خليفة- حديث قصي بن كلاب، وما جمع من أمر قومه، إخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة؛ فلم يرد ذلك عليه ولم ينكره5 ... انتهى.
وفي هذا الخبر من الفائدة في خبر قصي غير ما في الخبر الأول، ببيان ما كان من خبر قصي وصوفة وغير ذلك، وهو يقتضي أن منازعة قصي خزاعة، لما كان في نفسه، من أنه أولى بالكعبة
وأمر مكة خزاعة، أو لكون حليل جعل ذلك إليه -كما تزعم خزاعة- من غير أن تكون خزاعة عارضت قصيا في ذلك، والخبر الأول يقتضي أن منازعة قصي خزاعة لمنعهم له؛ مما جعله إليه حليل من أمر البيت، والله أعلم بالصواب.
__________
1 السقاية: سقيا الحجيج في الحرم.
2 الرفادة: ضيافة الحجاج ومدهم بالطعام.
3 الندرة: التشاور في الأمر، وبنى لها دارا سميت دار الندرة، وهو المكان الذي أقيمت عليه مقام الحنفي -الآن- بالمسجد الحرام.
4 اللواء: الراية التي تنشر لقيادة الجيوش، أو لقيادة الحجيج في مناسكهم، وتلك هي أهم وأعظم شخصية من الشخصيات الفذة الجيوش، أو لقيادة الحجيج في مناسكهم -وتلك هي أهم وأعظم شخصية من الشخصيات الفذة الخالدة في تاريخ العروبة؛ فهو أول من حكم، وأول من أشرك شعبه في الحكم بتأسيس دار الندرة للتشاور فيها؛ بحيث لا بيت في أمر إلا بعد أخذ رأيي أهل الندرة.
5 سيرة ابن هشام 1/ 115-117.(2/85)
وقد ذكر الزبير بن بكار خبرًا يدل على أن حليلا حين حضرته الوفاة، جعل إلى قصي أمر البيت ومكة؛ وذلك يوافق ما زعمته خزاعة، كما في الخبر الذي ذكره ابن إسحاق، ونص ما ذكره الزبير: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن عمر الواقدي، عن عبد الله بن عمر بن زهير، عن عبد الله بن خراش بن أمية الكعبي، عن أبيه، قال لما تزوج قصي إلى حليل بن حبشية حبي، ابنته، وولدت له، أوصى حليل عند موته بولاية البيت وأمر مكة إلى قصي.
قال الزبير: وحدثني إبراهيم، عن الواقدي، عن فاطمة الأسلمية، عن فاطمة الخزاعية -وكانت أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: وقال حليل: إنما ولد قصي ولدي، وهم بنو ابنتي؛ فأوصى إلي قصي بالبيت والقيام بأمر مكة، وقال: أنت أحق الناس بها ... انتهى.
وقد قيل في سبب ولاية قصي غير ما سبق، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في خبر خزاعة ونذكره فيما هنا لما فيه من زيادة في إيضاح ذلك؛ ورويناه عن الزبير بن بكار، قال: قال محمد بن الضحاك: اشترى قصي مفتاح بيت الله الحرام من أبي غبشان الخزاعي بكبش، وزق خمر؛ فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان، فذهبت مثلا.
وقال أيضا: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال: زعم الناس من خزاعة أن قصيا تزوج حبي ابنة خليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر؛ فولدت له عبد مناف، وعدب العزى، وعبد الدار، وعبد بن قصي، وكان حليل آخر من ولي البيت من خزاعة؛ فلما ثقل1، جعل ولاية البيت إلى ابنته حبي؛ فقالت له: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه. قال: إني أجعل لؤي بن ملكان بن أقصي بن حارثة بن عمرو بن عامر، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وقعود؛ فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي، فاستنصر أخاه رزاحا، فقدم بمن معه من قضاعة، فقاتل خزاعة حتى نفوا خزاعة.
قالوا: فأما الخلفي -قال: قال أبو عبيدة: وهو رجل من بني خلف- فزعم أن خزاعة أخذتها العدسة حتى كادت تفنيها؛ فلما رأت ذلك جلت عن مكة؟ فمنهم من وهب مسكنه، ومنهم من باع، ومنهم من أسكن. قال: قال أبو عبيدة: وهذا باطل ليس كما قال الخلفي.
__________
1 أي حضرته الوفاة.(2/86)
وقال الزبير: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن عبد الحكم بن سفيان بن أبي نمر، قال: كان أبو غبشان الخزاعي يلي البيت، وكان هو وقصي بمكة، فتحالفا على أن لا يبغي أحدهما على صاحبه، ثم ابتاع قصي المفتاح؛ فقدم مكة؛ فقال لقومه: هذا مفتاح بيت أبيكم إسماعيل، قد رده الله تعالى عليكم من غير ولا ظلم؛ فلما أفاق أبو غبشان ندمه قومه، وعابوا عليه ما صنع، فجحد البيع؛ فقال: إنما رهبته عنده رهنا بحقه. فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان. فذهبت مثلا.
ووقعت الحرب بين قصي وبين غبشان، وقومهما قريش وخزاعة، فذلك قول الشاعر:
أبو غبشان أظلم من قصي ... وأظلم من بني فهر خزاعة
فلا تلحوا قصيا في شراه ... ولوموا شيخكم إن كان باعه1
وذكر الفاكهي الخبر الذي رواه الزبير عن الموصلي، ووقع في الخبر الذي ذكره الفاكهي عن الزبير فائدتان لا يفهمان من الخبر الذي نقلناه عن الزبير من كتابه.
إحداهما: أن اشتراء قصي من أبي غبشان لمفتاح البيت كان بالطائف.
والأخرى: أنه اشترى ذلك بزق خمر.
وذكر الفاكهي أن الذين قدم بهم رزاح لنصر أخيه قصي كانوا ثلاثمائة رجل، روى ذلك الفاكهي بسنده عن كرامة بنت المقداد بن عمرو الكندي، المعروف بالمقداد الأسود، عن أبيها.
وذكر الفاكهي أيضا ما يقتضي أن قدوم رزاح على أخيه قصي، كان بعد أن نفى خزاعة، والمعروف أن قصي لم يقاتل خزاعة إلا بعد أن قدم عليه أخوه رزاح.
وفي الخبر الذي فيه ما ذكرناه من قدوم رزاح على أخيه بعد نفي خزاعة شيئًا من خبر قصي لم يسبق له ذكر، فحسن ذكره لما في ذلك من الفائدة. ونصه على ما في كتاب الفاكهي.
حدثنا الزبير بن أبي بكر، قال: قال أبو الحسن الأثرم، قال أبو عبيدة: قال محمد بن حفص: قدم رزاح وقد نفي قصي خزاعة، وقال بعض مشيخة قريش: إن مكة لم يكن بها بيت في الحرم؛ إنما كانوا يكونون بها حتى إذا أمسوا خرجوا، لا يستحلون أإن يصيبوا فيها جناية، ولم يكن بها بيت قائم؛ فلما جمع قصي قريشا- وكان أدهى من رؤي في العرب- قال لهم: أرى أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت، فوالله لا
__________
1 مروج الذهب 2/ 58.(2/87)
يستحل العرب قتالكم، ولا يستطيعون إخراجكم منه، وتسكنوه فتسودون العرب أبدا1.
فقالوا: أنت سيدنا، رأينا لرأيك تبع.
فجمعهم، ثم أصبح بهم في الحرم حول البيت؛ فمشت إليه أشراف كنانة، وقالوا: إن هذا عند العرب عظيم، ولو تركناك ما تركتك العرب؛ فقال: والله لا أخرج منه، فثبت، وحضر الحج؛ فقال لقريش: قد حضر الحج، وقد سمعت العرب بما قد صنعتم، وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجا، ففعلوا، فجمع من ذلك شيئا كثيرا.
فلما جاء أوائل الحاج نحر على كل طريق من طرق مكة جزورا، ونحر بمكة، وجعل حظيرة؛ فجعل فيها الطعام من الخبر والثريد واللحم، فمن مر باللحم والثريد أكل، ومن قدم دخل الحظيرة فأكل، وسقى الماء واللبن المحض، ثم صدروا على مثل ذلك، فصدر روادهم وهم يقولون:
إن الحجيج طاعمين دسما ... عن الحسا مستحقين ... 2
أشبعهم زيد قصي لحما ... ولبنا محضا وخبزوا هشما
ولم يكن بنو عامر بن لؤي ترفد مع قريش شيئا ... انتهى.
وزيد: اسم قصي على ما ذكر الزبير؛ لأنه قال: كان اسم قصي: زيدا؛ وإنما سمي قصيا لأنه يقصي عن مكة، وخرجت به أمه منها إلى غيرها.
وذكر الزبير عن قصي أخبارا غير ما سبق، وذكر أنه قال فيما رويناه عنه: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن عبيدة، قال: كان قصي يلي الرفادة، ويسقي الحاج اللبن والزبيب.
وقال الزبير: قال أبو الحسن الأثرم: قال أبو عبيدة: حدثنا خالد بن أبي عثمان، قال: كان قصي أول من ثرد الثريد؛ فأطعم بمكة، وسقى اللبن بعد نابت بن إسماعيل فقال قائل: ولم يسموه هاشما:
أشبعهم زيد قصي لحما ... ولبنا محضا وخبزا هشما
وقال الزبير: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن عبد الحكيم بن سفيان بن أبي نمر قال: لما ولد لقصي أول ولد سماه عبد مناة، ثم نظر؛ فإذا هو موافق لاسم عبد مناة بن كنانة؛ فأحاله إلى عبد مناف3 بن كنانة؛ وإنما سمي عبد الدار لأنه حين هدم
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 170، والعقد الثمين 1/ 13.
2 هكذا في الأصل.
3 كان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب شرفه كل مذهب ولم يبلغ أحد من أولاد قصي ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف والعز.(2/88)
الكعبة وأراد بناءها حضر الحج قبل بنيانها، وهي مهدومة؛ فأحاط عليها دارا من خشب، وربطها بالحبال ليدور الناس منوراء الدار؛ فولد له عبد الدار، فسماه بها: عبد الدار.
وأما عبد بني قصي؛ فإنه سماه عبد قصي فكان بذلك يدعى، ثم أحال اسمه، فقيل له: عبد بن قصي.
قال الزبير: وقال غير الموصلي: قال قصي: ولد لي، فسميت اثنين بآلهة -يعني: عبد مناف وعبد العزى- وسميت الثالث بداري، يعني: عبد الدار، وسميت الرابع بنفسي -يعني: عبدا- فكان يقال لعبد بن قصي: عبد قصي الصنم.
وقال الزبير: حدثني محمد بن حسن قال: إنما سمي عبد مناف لأن أمه أخدمته صنما يقال له: مناف، ويقال: إن أباه أخدمه ذلك الصنم.
وقال الزبير: وروي أن قصيا قال للأكابر من ولده: من عظم لئيما شركه في لؤمه. ومن استحسن مستقبحا شرك فيه، ومن لم تصلحه كرامة كبر فدعوه بهوانه فأداء يحسن الداء.
وروى الزبير بسنده عن محمد بن جبير بن مطعم قال: إن قصي بن كلاب كان يعشر1 من دخل مكة من غير أهلها.
وقال الزبير: وحدثني إبراهيم بن المنذر عن الواقدي قال: مات قصي بمكة فدفن بالحجون، فتدافن الناس بعده بالحجون ... انتهى.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن قصي بن كلاب أظهر الناس الحجر الأسود بعد دفن جرهم له؛ لأنه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود، قال: إن يعقوب بن عبد الله بن وهب حدثنه، وعن أبيه أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -وهي جدته- قالت: قدم قصي بن كلاب -يعني مكة- فقطع غيضة كانت، ثم ابتنى حول البيت دارا، ونكح حبي بنت حليل الخزاعي؛ فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى بن قصي.
ثم قال: فقال قصي لامرأته: قولي لأمك تدل بنيك على الحجر الأسود؛ فإنما هم يلون البيت؛ فلم يزل بها: يا أمه دليني عليه فإنما هم بنوك، ولم يزل، بها حتى قالت: فإني أفعل، إنهم حين خرجوا إلى اليمن سرقوه، فنزلوا منزلا -وهم معهم- فبرك الجمل الذي عليه الحجر فضربوه؛ فقام، ثم ساروا فبرك، فضربوه، ثم ساروا الثالثة، فقالوا:
__________
1 أي يجبي منه العشر.(2/89)
ما يبرك إلا من أجل الحجر، فدفنوه؛ وذلك في أسفل مكة، وإني لأعرف حيث برك. فخرجوا بالحديد، وخرجوا بها، فأرتهم حيث برك أول الشأن؛ فلا شيء. ثم المكان الثاني، فلا شيء. ثم الثالث، فقالت: احفروا هاهنا، فحفروا حتى أيسوا منه، ثم ضربوا فأصابوا، فأخرجوه؛ فأتى به قصي فوضعه موضعه في الأرض، فكانوا يتمسحون به وهو في الأرض، حتى بنت قريش الكعبة.
ثم روى الفاكهي بسنده عن أم سلمة -رضي الله عنهما- أنها قالت: منزل الجعل الأول عند الجزارين، ثم دلتهم على المنزل الثاني عند سوق البقر1.
وذكر هذا الخبر محمد بن عائذ في "مغازيه" وفيه نظر؛ لما فيه أن الحجر الأسود لم يزل مدفونا على عهد قصي، وقد بينا ذلك في أخبار الحجر الأسود؛ فأغنى ذلك عن إعادته.
وقصي بن كلاب أحدث وقود الناس بالمزدلفة ليراها من دفع من عرفة، على ما ذكر القطب الحلبي. وكلامه يوهم أن أبا محمد عبد الله بن محمد العلاطي صاحب "الاشتمال" نقل ذلك عن أبي عبيدة، والله أعلم.
وفي "العقد" لابن عبد ربه أن قصي بن كلاب، بني قزح: موضع الوقوف بالمزدلفة2، والله أعلم.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 174.
2 لم أجد في كتاب العقد الفريد هذه المعلومة التي ذكرها الفاسي أعلاه.(2/90)
الباب الثالث والثلاثون:
في ذكر شيء من خبر بني قصي بن كلاب:
وتوليتهم لما كان بيده من الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، والقيادة، وتفسير ذلك.
قال ابن إسحاق1: فلما كبر قصي ورق عظمه، وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب كل مذهب، وعبد العزي، وعبد قصي، قال قصي لعبد الدار: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تقوم أنت بفتحها لهم، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك.
فأعطاه دار الندوة التي لا تقضي قريش أمرا إلا فيها، وأعطاه أيضا الحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة.
وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاج، فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد؛ وذلك أن قصيا فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله -تعالى- وأهل بيته، وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم؛ ففعلوا، وكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا، فيدفعونه إليه، فيصنع به طعاما للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلا يومنا هذا؛ فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس، حتى ينقضي الحج.
__________
1 السيرة لابن هشام 1/ 119.(2/91)
قال ابن أسحاق، حدثني بهذا من أمر قصي بن كلاب، وما قال لعبد الدار فيما دفعه إليه مما كان بيده أبو إسحاق بن يسار عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بني عبد الدار يقال له: نبيه بن وهب بن عارم بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
قال الحسن: فجعل إليه قصي كل ما كان بيده من أمر قومه، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه.
قال ابن إسحاق: ثم إن قصي بن كلاب هلك؛ فأقام أمره في قومه من بعده بنوه، فاختطوا مكة رابعا بعد الذي كان قطع لقومه بها؛ فكانوا يقطعونها في قومهم وفي غيرهم من حلفائهم، ويبيعونها، فأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع، ثم إن بني عبد مناف بن قصي، وبني عبد شمس وهاشما، والمطلب، ونوفلا، أجمعوا على أن يأخذوا ما في أيدي عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار من الحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم؛ فترفقت عند ذلك قريش؛ فكانت طائفة من بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم، وكانت طائفة مع بني عبد الدار يرون أن لا ينزع منهم ما كان قصي جعل إليهم.
فكان صاحب أمر بني عبد مناف: عبد شمس بن عبد مناف؛ وذلك أنه كان أسن بني عبد مناف، وكان صاحب أمر بني عبد الدار: عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان بنو أسد بن العزي بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو الحرث بن فهر بن مالك بن النضر، مع بني عبد مناف.
وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب وبنو كعب بن عمرو بن هصيص، وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار.
وخرجت عامر بن لؤي، ومحارب بن فهر؛ فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.
فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة1؛ فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فيزعمون أن نساء بني عبد مناف أخرجنها لهم؛ فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسم، فسموا المطيبين.
__________
1 من عادة قريش إذا أرادت عقد عهد بينها أن تقول: "ما أقام ثبير، وما بل بحر صوفه" وهذا من الأبدايات.(2/92)
وتعاقد بنو عبدج لدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا؛ على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف.
ثم سوند1 بين القبائل ولز2 بعضها ببعض، فعبأت بنو عبد مناف لبني سهم، وعبأت بنو أسد لبني عبد الدار، وعبأت زهرة لبني جمح، وعبأت بنو تيم لبني لمخزوم، وعبأت بنوا الحارث بن فهر لبني عدي بن كعب، ثم قالوا: لتعن كل قبيلة فيما أسند إليها.
فبينا للناس على ذلك قد أجمعوا للحرب؛ إذ تدعو للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة، واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت؛ ففعلوا، ورضي كل واحد من الفريقين بذلك، وتحاجز الناس علن الحرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة" 3.
ثم قال ابن إسحاق، فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف؛ وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا، قل ما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد، وكان هاشم موسرا، وكان -فيما يزعمون- إذا حضر الحج قام في قريش، فقال: يا معشر قريش؛ إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته، وهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه؛ فأجمعوا له ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها؛ فإنه والله لو كان مالي يسع ذلك ما كلفتموه؛ فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم، كل امرئ بقدر ما عنده، فيصنع به للحاج طعاما حتى يصدروا منها.
وكان هاشم -فيما يزعمون- أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف، وأول من أطعم الثريد بمكة؛ وإنما كان اسمه عمرا فما سمي هاشما إلا لهشمه الخبز بمكة لقومه.
وقال شاعر من قريش، أو من بعض العرب:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز قوله:
قوم بمكة مسنتين عجاف
__________
1 السيرة لابن هشام 1/ 154.
2 لز: أي شدة وألصقه.
3 السيرة لابن هشام 1/ 111-122، والحديث أخرجه الترمذي 1585، وأبو داود 5925، والدارمي 2526.(2/93)
قال ابن إسحاق، ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرا؛ فولي السقاية والرفادة من بعد المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم، وكان ذا شرف في القوم وفضل، وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته وفضله1.
ثم قال ابن إسحاق: ثم هلك المطلب بردمان2 من أرض اليمن؛ فقال رجل من العرب يبكيه:
قد طمئ3 الحجيج بعد المطلب ... بعد الجفان والشراب المنثغب
ليت قريشا بعده على نصب
وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي المطلب وبني عبد مناف جميعا حين أتاه نعي نوفل بن عبد مناف، وكان نوفل آخرهم هلكا، فذكر أبياتا4.
ثم قال ابن إسحاق: وكان أول بني عبد مناف هلكا هاشما بغزة من أرض الشام، ثم عبد شمس بمكة، ثم المطلب بردمان من أرض اليمن، ثم نوفلا بسلمان من ناحية العراق؛ فقيل لمطرود -فيما يزعمون: لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل ما هو لكان أحسن، فقال: أنظروني ليالي، فمكث أياما. قم قال:
عصيت ربي باختيار ... أم بحكم الإله فينا
فبسط اليدين إلى القفا ... خير فخر السابقينا
وهذا قول السابق ذكره:
يا عين جودي وادرالدمع وانهمري ... وأبكي على السر من كعب المغيرات
وأبكي على كل فياض أخي ثقة ... ضخم الدسيعة وهام الجزيلات
صعب الدسيعة لا نكس ولا ... وكل ماض العزيمة متلاف الكريمات
__________
1 سيرة ابن هشام 1/ 142، 125.
2 ردمان: مكان باليمن كما في معجم البلدان، ولم يزد مؤلف المعجم شيئا على ذلك؛ غير أنه أورد أبياتا تدل على أن موت المطلب بن عبد مناف كان بها "معجم البلدان 3/ 40".
3 في سيرة ابن هشام 1/ 162: "ظمئ".
4 بياض في الأصل، وهذه الأبيات هي:
أخلصهم عبد مناف فهم ... من لوم من لام بمنجاة
قبر بردمان وقبر بسل ... مان وقبر عند غزاة
وميت مات قريبا بمن الـ ... حجون من شرق البنيات
ثم قال ياقوت الحموي: فالذي بردمان: المطلب بن مناف، والذي بسلمان: نوفل بن عبد مناف، والقبر الذي عند غزة لهاشم بن عبد مناف، والذي يقرب الحجون: عبد شمس بن عبد مناف "معجم البلدان 3/ 40".(2/94)
صقر توسط من كعب إذا نسبوا ... بحبوبة المجد والشيم الرفيعات
ثم اندبني الفيض الفياض مطلبا ... واستحرصي عبد فيضات بحمسات1
أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا ... يا لهف نفسي عليه بين أموات
وأبكي لك الويل ما كنت باكية ... لعبد شمس سرفي الثنيات
وهاشم في ضريح وسط بلقعة ... تسفي الرياح عليه بين غزات
ونوفل كان دون القوم خالصتي ... أمسى بسلمان في رمس بموماة
لم ألق مثلهم عجما ولا عربا ... إذا استقلت بهم أدم المطيات
أمست ديارهم منهم معطلة ... وقد يكونون نورا في الملمات2
ثم قال:
يا عين وابكي أبا الشعث الشجيات ... تبيكه حسرا مثل البليات
تبكين أكرم من يمشي على قدم ... بغولنه بدموع بعد عبرات
ومنها:
تبكين عمرو العلا إذا حان مصرعه ... سمح السجية بسام العشيات
ومنها:
ما في القروم لهم عدل ولا خطر ... ولا لمن تركوا سروا بقيعات
ومنها:
أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم ... خير النفوس لذي جهد الأليات
ومنها:
زين البيوت التي حلوا مساكنها ... فأصبحت منهم وحشا خليات
أقول والعين لا ترقا مدامعها ... لا يبعد الله أصحاب الرزيات3
ثم قال ابن إسحاق: ثم ولي عبد المطملب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباءه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وعظم خطر فيهم4 ... انتهى.
__________
1 في السيرة لابن هشام 1/ 126: "واستخرطي بعد فيضات بجمات".
2 في السيرة لابن هشام 1/ 136: "زينا في السريات".
3 السيرة لابن هشام 1/ 126-128.
4 السيرة لابن هشام 1/ 126-129.(2/95)
وذكر الفاكهي أخبارا تتلعق ببني قصي بن كلاب، وبني عبد مناف بن قصي، وبني عبد الدار بن قصي، وأفاد في ذلك غير ما سبق، فاقتضى ذلك ذكر ما ذكره من ذلك، لما فيه من الفائدة.
قال الفاكهي: حدثنا عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق، قال: ثم إن بني عبد مناف، وعيد شمس، وهاشم، والمطلب ... " ثم قال بعد أن ذكر أمهم وأم نوفل فبن عبد مناف: أجمعوا على أن يأخذوا منا بأيدي بني عبد الدار بن قصي من الحجاجة، والسقاية، والرفادة، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف في رأيهم، يرون أنهم أحق بذلك من بنيعبد الدار، وكانت طائفة مع بني عبد الدار، لا يرون أن يغير عنهم ما كان قصي جعل إليهم.
وذكر نحو ما سبق؛ إلا أنه قال بعد أن ذكر تعاقد كل من الفريقين: فأخرجت عاتكة بنت عبد المطلب طيبا، فوضعته لأحلافهم، ثم غمس القوم أيديهم فيه حين تعاقدوا وتهاهدوا، ثم مسحوا بها الكعبة، فسموا: حلف المطيبين1.
وفي هذا الخبر من الفائدة غير ما سبق: كون عاتكة بنت عبد المطلب هي المخرجة لقومها جفنة الطيب، وفي ذلك نظر لتأخرت زمنها عن زمن عم أبيها عبد شمس القائم بأمر بني عبد مناف في هذه القصة، وكذلك في كون عامر بن هاشم، بن عبد مناف بن عبد الدار القائم بأمر بني عبد الدار حين نازعهم بنو عبد مناف نظر؛ لتأخر زمن عامر بن هاشم بن زمن عبد شمس ... انتهى، والله أعلم.
وقال الفاكهي: وحدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني محمد بن فضالة، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، قال: حدثني ابن شهاب، قال: كانت السقاية في بني المطلب، وكانت الرئاسة فيبني عبد مناف كلهم، وكانت الرفادة في بني أسد بن عبد العزى، واللواء والحجابة في بني عبد الدار؛ فمشوا إلى سهم فحالفوهم، وقالوا لهم: امنعونا من بني عبد مناف؛ فلما رأت ذلك البيضاء التي يقال لها: أم حكيم بنت عبد المطلب، أخذت جفنة فملأتها خلوقا، ثم وضعتها في الحجر؛ فقالت: من تطيب بهذا الطيب فهو منا. فتطيب بنو عبد مناف، وأسد وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحرث بن فهر؛ فسموا: المطيبين؛ فلما سمعت بذلك بنو سهم نحروا جزورا، وقالوا: من تطيب بهذا الطيب فهو منا. فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحرث بن فهر، فسموا: المطيبين؛ فلما سمعت بذلك بنو سهم نحروا جزورا، وقالوا: من أدخل يده فيدمها فلعق منها فهو منها. فأدخلت أيديها: بنو سهم، وبنو عدب الدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم؛ فلما فعلوا ذلك وقع الشر بينهم، فتزاجعوا وقالوا: والله لئن اقتتلنا لتدخلن العرب علينا، فأقروهم على حالهم، فسمى هؤلاء. المطيبين
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 76.(2/96)
وهؤلاء: الأحلاق؛ فقال أبو طلحة عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار:
أتاني أن عمرو بن هصيص ... أقام وأنني بهم حليف
وأنهم إذا حدثوا لأمر ... فلا إلف أكون ولا ضعيف1
... انتهى.
وفي هذا الخبر من الفائدة على ما سبق بيان ما جاء بالجفنة التي فيها الطيب، وهي أنها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب. وفيه من النظر ما سبق في أخيها، والله أعلم.
وفي هذا الخبر ما يشعر بأن القائم بأمر بني عبد الدار حين نازعهم بنو عبد مناف: أبو طلحة عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار. ويتأيد ذلك بما في الخبر الآتي ذكره، إن شاء الله تعالى.
قال الفاكهي: حدثنا حسن بن الحسن الأزدي، حدثنا محمد بن حبيب، عن ابن الكلبي قال: وإن بني عبد مناف لما زاد شرفهم وكثرتهم، أراداوا أخذ البيت من بني عبد الدار؛ فأرسلوا إلى أبي طلحة وهو عبد الله بنعبد العزى بن عثمان بن عبد الدار أن أرسل إلينا بمفتاح عبد الدار بن قصي، فعادتهم من بني عبد مناف ... وذكر نحو حديث ابن شهاب؛ إلا أنه قال: لما غمسوا أيديهم قالوا: والله لا يسلم أحدا منا أحدا، وخلطوا نعالهم بفناء الكعبة، فسموا: الأحلاف لخلطهم نعالهم، وتحالفهم في البيت ... انتهى,.
ثم قال: وقال أبو طلحة عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار شعرا ذكره، وهما البيتان في حديث ابن شهاب، قال:
بنو سهم نحن نكفيكموهم ... إن قاتلوا قاتلنا
وإن رفدوا رفدنا ... وإن فعلوا فعلنا1
... انتهى.
فصرح في هذا الخبر بما يقتضي أن القائم بأمر عبد الدار: أبو طلحة؛ وذلك يخالف الخبر الذي ذكره الفاكهي عن ابن إسحاق؛ فإنه يقتضي إن القائم بأمر بني عبد الدار: حينئذ: عارم بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، والله أعلم.
وقال الفاكهي: وحدثنا عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا عمر بن أبي بكر الموصلي، عن بني عدي بن كعب، قال: حدثني
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 177.(2/97)
الضحاك بن عثمان الحرامي، قال: حدثني ابن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن عروة، عن حكيم بن حزام، قال: لما حضر عبد الدار الموت جعل الندوة، واللواء، والرفادة، إلى ابنه عثمان بن عبد الدار؛ فقال أمية بن عبد شمس لعثمان بن عبد الدار: طب لي نفسا عن واحدة من هذه الثلاث، فأبى، فقال: إذا، لا أدعيك، فأستخرج عثمان بن عبد الدار قريشا؛ فقالت له بنو مخزوم، وجمح، وسهم، وعدي: نحن معك، وتقع لك هذه الخصال، ونحالفك. قال: نعم، فتحالفوا، فمنعوها له ... انتهى.
وفي هذا الخبر من الفائدة أن القائم بأمر بني عبد الدار حينئذ: عثمان بن عبد الدار وأن القائم بأمر بني عبد مناف حينئذ: أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
وقال الفاكهي: وحدثني عبد الله بن سلمة قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثني ابن لهيعة، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الأسود، قال: يذكر أنه لما توفي عبد بن قصي، وكان اللواء بيده، أخذه عبد الدار؛ لأنه أكبر إخواته، فحسده إخواته، فذهب فخالف بني مخزوم، وعدي1 ... انتهى.
وهذا يقتضي أن التنازع وقع بين عبد الدار وإخوته، وهذا لا يفهم مما سبق، والله أعلم.
ويتحصل من مجموع هذه الأخبار في القائم بأمر بني عبد الدار، حين نازعهم بنو عبد مناف، ثلاثة أقوال:
أولها: أنه عامر بن هاشم عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
وثانيها: أنه أبو طلحة بن عبد العزى بن عدب الدار بن قصي.
وثالثها: أنه عثمان بن عبد الدار ... والله أعلم.
ويتحصل في القائم بالأمر حين نازعه عبد الدار قولان: أحدهما: أنه عبد شمس بن عبد مناف. والآخر: أنه أمية بن عبد شمس.
ويتحصل في القائم بالأمر حين نازعه عبد الدار قولان: أحدهما: أحدهما: أنه عبد شمس بن عبد مناف. والآخر: أنه أمية بن عبد شمس.
ويتحصل في التي أخرجت الجفنة التي فيها الطيب لقومها وحلفائهم قولان:
أحدهما: أنها عاتكة بنت عبد المطلب.
والآخر: أنها أم حكيم؛ البيضاء بنت عبد المطلب، والله أعلم.
قال الفاكهي: وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: ثم هلكت أعيان بني عبد مناف، فأقام عبد شمس بن عبد مناف على ما
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 178 قال محقق أخبار مكة: وفي سنده اضطراب شديد.(2/98)
كان بيد عبد مناف، وكان أكبر ولده؛ فأقام أمر بني عبد مناف؛ فلما انتشرت قريش -سكان مكة، قلت عليهم المياه، واشتدت عليهم المؤونة1 ... انتهى.
وهذا يفهم أن عبد شمس بن عبد مناف ولي شيئا من مآثر قصي. وفيما سبق ذكره عن ابن إسحاق في سيرته ما يشعر بأنه لم يل شيئا، والله أعلم.
ولعل الصواب: فأقام هاشم بن عبد مناف، فتصفحت في كتاب الفاكهي بعبد شمس، وبذلك يتفق ما نقله الفاكهي عن ابن إسحاق مع ما نقلناه عن ابن إسحاق من سيرته، والله أعلم.
وقال الفاكهي: وحدثنا الزبير بن أبي بكر، قال: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن زكريا بن عيسى، عن ابن شهاب أنهما كانا حلفين اثنين: فأما حلف قريش الأول فإن بني كلاب تكثروا على بطون بني كعب بن لؤي، فتحالف عليهم تلك الأحلاف: مخزوم، وعدي، وسهم، وجمح؛ فانطلق المطيبون، وكان حلفهم أن جعلوا جفنه من طيب، فتطيبوا بها، فسموا المطيبين بذلك الطيب في الجفنة، وسميت الأحلاف بتحالفهم عليه، أن جعلوا جفنه دم، فغمسوا أيديهم فيها2.
زاد الزبير بن أبي بكر في حديثه: وأن الأحلاف عبوا لكل قبيلة قبيلة، وأنكروا شأن بني عبد الدار وولايتهم الكعبة، واللواء، والندوة: فقالوا: ما شأن هؤلاء إخواننا يلون علينا هذا وهم قليل؟ لننزعنه من أيديهم. وأنهم عمدوا إلى مفتاح الكعبة؛ فأخذوه من عثمان بن عبد الدار وبنيه، وأن بني بعد الدار أطافوا إلى الأحلاف لكل قبيلة، فعبت بنو سهم لبني عبد مناف3 ... انتهى باختصار.
وفي هذا الخبر من الفائدة غير ما سبق، أن الحلف الذي يقال له حلف المطيبين كان قبل منازعة بني عبد مناف لبني عبد الدار فيما كان بيد الدار، والله أعلم.
قال الفاكهي: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي، قال: حدثني محمد بن فضالة الثمري، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: كانت الرفادة إلى عبد العزى بن قصي، وكانت الحجابة، واللواء والندوة إلى إلى عبد الدار بن قصي، وولد عبد مناف بن قصي خمسة نفر: عمرا، وهاشما، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل4 ... انتهى.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 178.
2 الروض الأنف 1/ 153، أخبار مكة للفاكهي 5/ 179.؟
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 179.
4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 183.(2/99)
وهذا الخبر يقتضي أن عبد العزى بن قصي ولي الرفادة، وما ذكرناه عن ابن إسحاق في سيرته يقتضي خلاف ذلك، والله أعلم.
وقال الفاكهي: وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: فلما هلك قصي أقام عبد مناف أمر قريش، وهو أقام أمرهم بعده، واختط بمكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه؛ فكان يعطيها في قريش وفي غيرهم، وهو عقد حلق الأحابيش، والأحابيش: عضل، والقارة، ودوس، ورعل رهط سفيان بن عوف، والحليس بن زيد، وخالد بن عبد بن أبي فايض بن خالد1 ... انتهى.
وقال الفاكهي: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد الله بن زيد، قال حدثني ابن لهيعة، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الأسود، قال: يذكر أنه لما توفي عبد بن قصي، وكان اللواء بيده، بأخذه عبد الدار؛ لأنه أكبر إخوته، فحسده إخوته، فذهب فحالف بني مخزوم، وعدي، وتوفي عبد مناف، فأخذ السقاية هاشم؛ لأنه كان أكبر ولده. وتوفي أسد، فأخذ الندوة المطلب؛ لأنه أكبر ولده، فلم يزل بأيديهم حتى باعها زمعة بن الأسود لمعاوية، فلذلك يقول الشاعر:
بعتم سناكم ومجدكم ... ولم تبقوا بمكة دارا2
وهذا الخبر يشعر بأن عبد بن قصي كان إليه الندوة، وأن عبد مناف بن قصي كانت إليه السقاية؛ وذلك يخالف ما ذكرناه عن ابن إسحاق من سيرته، والله أعلم.
وقال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن الأسود، أن يعقوب بن عبد الله بن وهب حدثه، عن أبيه قال: إن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -وهي جدته- حدثته فقالت: قدم قصي بن كلاب -يعني مكة- فقطع غيضة كانت، ثم ابتنى حول البيت دارا، ونكح حبي بنت حليل الخزاعي؛ فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى بن قصي، بفأول ما ولد لهخ سماه عدب الدار بداره تلك، ثم سمي عبد مناف بمناف، ثم سمي عبد العزى، وكانت أم حبي الخزاعية جرهمية عجوزا قديمة؛ فقال لها: إنما يلي سمي عبد العزى، وكانت أم حبي الخزاعية جرهمية عجوزا قديمة، فقال لها: إنما يلي البيت بنوك، وجعل الحجابة إلى عبد الدار؛ لأنه أكبرهم، والسقاية لعبد مناف، واللواء لعبد بن قصي، والرفادة -وهي دار الندوة- لعبد العزى ... انتهى باختصار.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 182.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 183.(2/100)
وهذا صريح في أن قصي بن كلاب قسم مآثره بين بنيه الأربعة؛ وذلك يخالف ما ذكره ابن إسحاق في سيرته، والله أعلم.
وقال الفاكهي: وحدثنا حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: كانت الرياسة أيام بني عبد مناف بن قصي، وكان القائم بأمور قريش والمنظور إليه فيها، ثم أفضى ذلك بعده إلى هاشم؛ ابنه، فرب ذلك بحسن القيام؛ فلم يكن له نظير من قريش ولا مساو، ثم صارت الرياسة لعبد المطلب، وفي كل قريش رؤساء؛ غير أنهم كانوا يعرفون لعبد المطلب فضله وتقدمه وشرفه؛ فلما مات عبد المطلب، صارت الرياسة لحرب بن أمية؛ فلما مات حرب بن أمية، تفرقت الرياسة والشرف ببني عبد مناف وغيرهم من قريش.
وقال الفاكهي: قال: حدثنا الزبير، قال محمد بن الحسن: كان هؤلاء الأربعة من بني عبد مناف: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل، أول من رفع الله تعالى بهم قريشا، إنما كانت تتجر بمكة، وتبضع مع من يخرج من الأعاجم، فركب هاشم فأخذ له خيلا من قيصر، فتجروا إلى الشام، وركب المطلب فأخذ له خيلا من ملوك اليمن، فتجروا إلى اليمن بذلك الخيل، وركب نوفل فأخذ لهم خيلا من النجاشي، فتجروا بذلك الخيل إلى أرض الحبشة.
وقال الفاكهي: قال: حدثنا الزبير، وحدثنا محمد بن الحسن، عن العلاء بن حسين، عن أفلح بن عبد الله بن المعلي عن أبيه وغيره من أهل العلم قالوا: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل، هم: الزنبور، وبنو هاشم يدان، وبنو المطلب يد، فإن دهمهم غيرهم صاروا يدا واحدة. على ذلك كانوا في الجاهلية دون بني عبد مناف، وبنو عبد مناف يدان: هاشم والمطلب، وهم البدران، وعبد شمس ونوفل يد، وهم الأبهران.
قال: وكانت العرب تسمي هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا: أقداح النظار، فإن دهمهم غيرهم اجتمعوا فصاروا يدا واحدة1.
وقال الفاكهي: وحدثني الزبير بن أبي بكر قال: حدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبيدة، قال: كان يقال لهاشم وعبد شمس والمطلب بني عبد مناف: المحيزون.
وقال الفاكهي: وحدثني الزبير بن أبي بكر، قال: حدثني محمد بن الحسن قال: كان هاشم رئيس بني عبد مناف: وعبد شمس رئيس بني أمية.
قال الزبير: وذلك الثبت عندنا. قال أخبرني عبد العزى:
اللهم إني قائل قو ... ل ذي دين وبر وحسب
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 179 وسمط النجوم العوالي 1/ 214.(2/101)
عبد شمس لا تهنها إنما ... عبد شمس عم عبد المطلب
عبد شمس كان يتلو هاشما ... وهما بعد لأم وأب
وقال الفاكهي: وحدثنا حسن بن حسين، قال: حدثنا أبو جعفر بن حبيب، عن أبي الكلبي، قال: فلما مات هاشم بخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن؛ فأخذ من ملوكهم عهدا لمن نفر قبلهم من قريش قبل أن يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب؛ حتى على مثل ما كان هاشم أخذ، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف1 ... انتهى.
وهذا الخبر يخالف الذي قبل؛ إلا أن يكون قوله في حق المطلب، وكان المطلب أكبر، والله أعلم.
وقد طال الكلام في أخبار بني عبد مناف، وأخبار عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، مما له تعلق فيما ذكره ابن إسحاق من خبر المشار إليهم، ومما ليس له تعلق بذلك، وفيما ذكرناه منه كفاية، ونتبع ذلك بفوائد، ذكرها هو وغيره، تتعلق بما ذكرناه من خبر المشار إليهم.
منها: أن الفاكهي لما ذكر أخبار بني قصي بن كلاب، ترجم عليها بما نصه: "ذكر تولية قصي بن كلاب بنيه أمر مكة بعده، وقسمته إياها بينهم، وقيامهم بذلك بعده".
ومنها: أنه قال لما ذكر أخبار بني عبد مناف: ذكر ولاية المطلب بن عبد مناف أمر مكة بعد أخيه وتفسير ذلك؛ وذلك إشارة إلى أن المشار إليهم كانوا ولاة مكة.
ومنها: أنه قال لما ذكر ولاية عبد المطلب: حدثنا عبد الملك بن محمد عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق، قال: ولي السقاية والرفادة بعد المطلب بن عبد مناف: عبد المطلب بن هاشم، وتزعم بنو أسد أن الحويرث بن أسد قد ولي الرفادة في بعض الزمان، وقد كانت بنو أسد تقول ذلك، ولم يسمع ذلك بتاتا2 ... انتهى.
وفي هذا ما يشعر بأن الحويرث بن أسد ولي الرفادة في زمن عبد المطلب، على ما قيل؛ وذلك لا يفهم من الأخبار السابقة عن ابن إسحاق، والله أعلم بصحة ذلك.
ومنها: أن صاحب "المورد العذب الهني" نقل عن الرشاطي خبرا في خروج هاشم بن عبد مناف إلى الشام، وأخذه من قيصر الإيلام لقريش، ثم قال: وخرج عبد شمس إلى النجاشي بالحبشة، وأخذ كذلك وخرج نوفل إلى الأكاسرة بالعراق، وأخذ كذلك. وخرج المطلب إلى حمير وأخذ لهم كذلك ... انتهى.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 181.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 182.(2/102)
وفي هذا الخبر من الفائدة على ماسبق، كون عبد شمس خرج إلى النجاشي بالحبشة، وأخذ منه لقومه الإيلاف؛ وذلك يخالف ما سبق من أن نوفل بن عبد مناف هو الذي أخذ لقومه الإيلام من النجاشي، والله أعلم.
ومنها: أن هاشم وعبد شمس توأمان على ما قيل؛ ذكر ذلك صاحب "المورد العذب الهني"؛ لأنه قال: وقيل: إن هاشما وعبد شمس توأمان، وأن أحدهما ولد قبل الآخر. قيل: إن الأول هاشم، وأن إصبع أحدهما ملتصقة بجبهة، فنحيت، فسال دم، فقيل: يكون بينهما دم.
ومنها: أنه اختلف في سن هاشم حين مات، فقيل: عشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة، ذكر هذه الفائدة صاحب "المورد".
ومنها: أنه اختلف في سن عبد المطلب حين مات؛ فقال ابن حبيب في كتابه "المحبر"، إن عمر عبد المطلب خمسة وتسعون سنة، وأنه توفي سنة تسع من عام الفيل، وقال السهيلي: إن عبد المطلب مات وعمره مائة وعشرون سنة1 ... انتهى.
وقيل: مائة وعشر سنين: وقيل: مائة وأربعون سنة، وقيل: اثنتان وثمانون سنة. ذكره هذه الأقوال الثلاثة: الحافظ مغلطاي في سريته. ودفن عبد المطلب على ما ذكره ابن عساكر بالحجون2.
قال السهيلي: وظاهر حديث أبي طالب فثي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها"؛ فكان آخر كلامه: على ملة عبد المطلب، يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك.
ووجدت في بعض كتب المسعودي اختلافا في عبد المطلب، وأنه قد قيل فيه: مات مسلما لما رأى من الدلالات على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم أنه لا يبعث إلا بالتوحيد3 والله أعلم.
غير أنه في "مسند البزار"، وفي كتاب النسائي من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة وقد عزت قوما من الأنصار: "لعلك بلغت معهم الكدي" -قال: ويروي الكرى بالراء يعني القبور- فقالت: لا؛ فقال: "لو بلغت معهم ذلك ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك" 4.
__________
1 في الروض الأنف 1/ 7: "وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة".
2 هذا القول هو القول الذي يتلاءم مع المعروف عند أهل مكة حتى عصرنا الحاضر.
3 مروج الذهب 2/ 131.
4 أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب النعي -4/ 26-28.(2/103)
وقال السهيلي: إنه أول من خضب بالسواد من العرب1 ... انتهى.
وقال ابن الأثير: وهو أول من تحنت بحراء، وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين2.
وقال ابن قتيبة: وكان يرفع من مائدة عبد المطلب للطير والوحوش في رؤوس الجبال، فيقال له: الفياض لجوده، ومطعم طير السماء ... انتهى.
وكان مجاب الدعوة، يقال: أصاب الناس شدة؛ فاستسقى عبد المطلب على جبل أبي قبيس، فسقي، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام بين يدي عبد المطلب، وببركته صلى الله عليه وسلم سقوا. ذكر هذا الخير هشام بن الكلبي وأبو عبيدة معمر بن المثنى وغيرهما. وذكر ابن قتيبة أن عبد المطلب عمي قبل موته.
وقيل: إن قصي بن كلاب قسم هذه الأمور بين أولاده كلهم، ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن المرواني قال: قسم قصي مكارمه بين ولده؛ فأعطى عبد مناف واسمه المغيرة: السقاية، والندوة، وفيه النبوة والثروة، وأعطى عبد الدار واسمه عبد الرحمن: الحجابة واللواء، وأعطى عبد العزى: الرفادة وأيام منى. قال: والرفادة الضيافة. وأيام منى كان الناس لا يجوزون إلا بأمره، ولم أسمع أيام منى إلا منه. قال: وأعطى عبد قصي جهتي الوادي، ولم أسمع في جهتي الوادي شيئا ... انتهى.
وقيل: إن قصيا أعطى عبد مناف السقاية، والرفادة، والقيادة، وأعطى عبد الدار السدانة وهي الحجابة، ودار الندوة واللواء. ذكر ذلك الأزرقي في الخبر الطويل الذي رواه عن ابن جريج وابن إسحاق في ولاية قصي الكعبة وأمر مكة، وفيه شيء من خبر هذه الأمور، ولنذكر ذلك للفائدة.
روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمنا بن ساج عن أبيه جريج، وابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه- قالا بعد ذكر ما سبق من خبر قصي بن كلاب: فحاز قصي شرف مكة، وابتنى دار الندوة، وفيها كانت قريش تقضي بعض أمورها. ولم يكن يدخلها من قريش من غير قصي إلا أبن أربعين سنة للمشورة، وكان يداخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفائهم؛ فلما كبر قصي ورق، وكان عبد الدار أكبر ولده وبكره، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب شرفه كل مذهب، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد بن قصي بها، لم
__________
1 الروض الأنف 7/ 1، الكامل لابن الأثير 2/ 14، المعارف لابن قتيبة "ص: 553".
2 الكامل لابن الأثير 2/ 15.(2/104)
يبلغوا ولا أحد من قومهم من قريش، ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف والعز، وكان قصي وحبي ابنه حليل يحبان عبد الدار ويرأفان عليه، لما يريان عليه من شرف عبد مناف عليه، وهو أصغر منه، وقالت حبي: والله لا أرضي حتى يخص عهبد الدار بشيء يحلقه بأخيه. فقال قصي: والله لالحقنه به ولأحبونه بذروة الشرف، حتى لا يدخل أحد من قريش ولا غيرها الكعبة إلا بإذنه، ولا يقضون أمرا ولا يعقدون لواء إلا عنده، وكان ينظر في العواقب، فأجمع قصي على أن يقسم أمور مكة الست التي فيها الذكر والشرف والعز بين بنيه، فأعطى عبد الدار: السدانة وهي الحجابة، ودار الندوة، واللواء، وأعطى عبد مناف: السقاية، والرفادة، والقيادة.
فأما السقاية: فهي حياض من أدم، كانت على عهد قصي توضع بفناء الكعبة، ويستقي فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقي الحاج.
وأما الرفادة: فخرج كانت قريش تخرجه من أقواتها في كل موسم فتدفعه إلى قصي يصنع به طعاما للحاج، يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد؛ فلما هلك قصي أقيم أمره في قومه بعد وفاته على ما كان عليه في حياته، وولى عبد الدار حجابة البيت، وولاية دار الندوة، واللواء؛ فلم يزل يليه حتى هلك، وجعل عبد الدار الجابة بعده إلى ابنه عثمان بن عبد الدار، وجعل دار الندوة إلى ابنه عبد مناف بن عبد الدار؛ فلم يزل بنو عبد مناف بن عبد الدار يلون دار الندوة، دون ولد عبد الدار؛ فكانت قريش إذا أرادات أن تتشاور في أمر فتحها لهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، أو بعض ولده أو ولد أخيه، وكانت الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار درعها ثم درعها إياه. وانقلب بها أهلها فحجبوها، فكان عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار يسمى محيضا.
وإنما سميت دار الندوة لاجتماع النداة فيها بندوتها فيجلسون فيها لإبرام أمرهم وتشاورهم.
ولم يزل بنو عثمان بن عبد الدار يلون الحجابة دون ولد عبد الدار، ثم وليها عبد العزي بن عثمان
بن عبد الدار، ثم وليها ولده أبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده من بعده، حتى كان فتح مكة؛ فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أيديهم، وفتح الكعبة ودخلها، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة مشتملا على المفتاح؛ فقال له العباس بن عبد المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أعطنا الحجابة مع السقاية؛ فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: فما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتلك الساعة، فتلاها. ثم دعي عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال:(2/105)
"غيبوه"، ثم قال: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه وتعالى؛ فأعلموا فيها بالمعروف خالدة تالدة، ولا ينزعها منكم أو من أيديكم إلا ظالم".
فخرج عثمان بن أبي طلحة إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة مقامه؛ فلم يزل يحجب هو وولده وولد أخيه وهب بن عثمان، حتى قدم وفد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وولده مسافع بن طلحة بن أبي طلحة من المدينة، وكانوا بها دهرا طويلا؛ فلما قدموا حجبوا مع بني عمهم، فولد أبي طلحة جميعا يحجبون.
وأما اللواء: فكان في أيدي بني عبد الدار كلهم، يليه منهم ذو السن والشرف في الجاهلية، حتى كان يوم أحد فقتل عليه من قتل منهم.
وأما السقاية والرفادة والقيادة: فلم تزل لعبد مناف بن قصي يقوم بها حتى توفي؛ فولي بعده ابنه هاشم بن عبد مناف السقاية، والرفادة وولي عبد شمس بن عبد مناف القيادة؛ فكان هاشم بن عبد مناف يطعم الناس في كل موسم ما يجتمع عنده من ترافد قريش، كان يشتري بما يجتمع عنده دقيقا، ويأخذ من ذبيحة من دينه أو بقرة شيئا -فخذه أو غيره- فيجتمع ذلك كله، ثم تحرز به الدقيق ويطعمه الحاج؛ فلم يزل على ذلك من أمره حتى أصاب الناس في سنة جدب شديد، فخرج هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فاشترى بما اجتمع عنده من ماله دقيقا وكعكا، فقدم به مكة في الموسم، فهشم ذلك الكعك، ونحر الجزور وطبخها، وجعله ثريدا، وأطعم الناس -وكانوا في مجاعة شديدة- حتى أشبعهم؛ فسمي بذلك: هاشما، وكان اسمه عمرو، وفي ذلك يقول ابن الزبعرى السهمي:
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصها لعبد مناف
الرائسين وليس يوجد رائس ... والقائلين هلم للأضياف
والخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي
والضاربين الكبش يبرق بيضه ... واللازمين1 البيض بالأسياف
عمرو العلا هشم الثريد لمعشر ... كانوا بمكة مسنتين عجاف
يعني بعمرو العلا: هاشما.
فلم يزل هاشم على ذلك حتى توفي؛ فكان عبد المطلب يفعل ذلك؛ فلما توفي عبد المطلب قام بذلك أبو طالب في كل موسم، حتى جاء الإسلام وهو على ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل بمال يعمل به الطعام مع أبي بكر -رضي الله عنه- حين حج
__________
1 في أخبار للأزرقي 1/ 112 "والمانعين".(2/106)
أبو بكر بالناس سنة تسع، ثم عمل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. ثم أقامه أبو بكر -رضي الله عنه- في خلافته، ثم عمر -رضي الله عنه- في خلافته، ثم الخلفاء هلم جرا، إلى الآن. وهو طعام الموسم الي يطعمه الخلفاء اليوم في أيام الحج بمكة ومنى، حتى تنقضي أيام الموسم.
وأما السقاية: فلم تزل بيد عبد مناف؛ فكان يسقي الناس الماء من بئر رم، وبئر خم1 على الإبل في المزاد2 والقرب، ثم يسكب ذلك الماء في حياض من أدم بفناء الكعبة، فيرده الحاج حتى يتفرقوا؛ فكان يستعذب ذلك الماء. وقد كان قصي حفر بمكة آبارا، وكان الماء بمكة غزيرا؛ إنما يشرب الناس من آبار خارجة من الحرم، فأول ما حفر قصي بمكة حفر بئرا يقال لها: العجول وكان موضعها في رام أم هانئ ابنة أبي طالب بالحزورة، وكانت العرب إذا قدمت مكة يردونها فيسقون منها ويتزاحخمون عليها، فقال قائل فيها:
أروى من العجول ثمت انطلق ... إن قصبا قد وفى وقد صدق
بالسمع واللحي ورى المعتبق3
وحفر قصي أيضا بئرا عند الردم الأعلى، عند دار أبان بن عثمان التي كانت لآل جحش، بن رياب، ثم دثرت، فنثلها جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وأحياها، ثم حفر هاشم بن عبد مناف بئر بذر4، وقال: حين حفرها: لأجعلنها للناس زبيدة5 بالبطحاء في أصل المستندر، وهي التي يقول فيها بعض ولد هاشم:
نحن حفرنا بذر بجانب المستندر
نسقي بمائها الحجيج الأكبر6
وحفر قصي أيضا هاشم سجلة، وهي البئر التي يقال لها بئر جبير بن مطعم، دخلت في دار القوارير فكانت سجلة لهاشم بن عبد مناف؛ فلم يزل لولده حتى وهبها أسد ابن هاشم لمطعم بن عدي، حين حفر عبد المطلب زمزم، واستغنوا عنها، ويقال: وهبها له عبد المطلب حين حفر زمزم واستغنى عنها، وسأله المطعم بن عدي، أن يضع
__________
1 خم: بئر في ضواحي مكة، وكذلك رم: بئران حفرهما عبد شمس بن عبد مناف "معجم البلدان 2/ 389، 3/ 70".
2 اسم جنس مفرده مزاده، وهي: الجلود التي يضم بعضها إلى البعض ويوضع فيها الماء.
3 راجع أخبار مكة للأزرقي 1/ 112 ومعجم البلدان 4/ 87، وفتوح البلدان للبلاذري 1/ 65.
4 معجم البلدان 1/ 361.
5 زبيدة بنت المنصورة وزوج الرشيد. توفيت سنة 216هـ.
6 هكذا ورد البيت في جميع النسخ، وهو غير مستقيم الوزن، وفي أخبار مكة للأزرقي: "نسقي الحجيج الأكبر".(2/107)
حوضا من أدم إلى جنب زمزم يسقي فيه من ماء بئره؛ فأذن له في ذلك, فكان يفعل؛ فلم يزل هاشم بن عبد مناف يسقي الحاج حتى توفي، فقام بأمر السقاية بعده عبد المطلب بن هاشم، فلم يزل على ذلك حتى حفر زمزم، فعفت على آبار مكة، فكان منها مشرب الحاج, قال: وكانت لعبد المطلب إبل كثيرة؛ فإذا كان الموسم جمعها، ثم يسقى لبنها بالعسل في حوض من أدم عند زمزم: ويشتي الزبيب في نبذه بماء زمزم ويسقيه الحاج؛ لأنه يكسر غلظ ماء زمزم. وكانت -إذ ذاك- غليظة جدا، وكان الناس -إذ ذاك- لهم في بيوتهم أسقية فيها الماء منهذه الآبار، ثم ينبذون فيها القبضان من الزبيب والتمر؛ لأنه يكسر عنهم من غلظ ماء آبار مكة. وكان الماء العذب بمكة عزيزا لا يوجد إلا لأناس يستعذب له من بئر ميمون في خارج مكة، فلبث عبد المطلب يسقي النماس حتى توفي. فقام بأمر السقاية بعده العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فلم يزل في يده، وكان للعباس كرم بالطائف، وكان يحمل زبيبه إليها، وكان يداين أهل الطائف، ويقتضي منهم الزبيب، فينبذ ذلك كله ويسقيه الحاج في أيام الموسم حتى تنقضي، في الجاهلية، وصدر الإسلام، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، فقبض السقاية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما ترزون فيه ولا يرزون منه"؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم بين عضادتي الباب -أي باب الكعبة- فقال: "ألا إن كل دم أومال أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين، إلا سقاية الحاج وسدانة الكعبة فإني قد أمضيتها لأهلها على ما كانت عليه في الجاهلية"؛ فقبضها العباس -رضي الله عنهما، وكان يفعل فيها كفعله دون بني عبد المطلب، وكان محمد ابن الحنفية -رضي الله عنه- قد كلم فيها ابن عباس؛ فقال له ابن عباس -رضي الله عنه: ما لك ولها، نحن أولى بها في الجاهلية والإسلام. قد كان أبوك تكلم فيها فأقمت البينة، وشهد لي طلحة بن عبد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عوف ومخرمة بن نوفل، وأن العباس بن عبد المطلب كطان يليها في الجاهلية بعد عبد المطلب، وجدك أبو طالب في إبله في باديته بعرفة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها العباس يوم الفتح0 دون بني عبد المطلب؛ فعرف ذل من حضر؛ فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه لا ينازعه فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم حتى توفي. فكانت في يد علي بن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- يفعل فيها كفعل أبيه وحفيده، يأتيه الزبيب من ماله بالطائف وينبذه، حتى توفي؛ فكانت بيد ولده حتى الآن.
__________
1 يعني السقاية، لأن سدانة الكعبة أعادها صلى الله عليه وسلم لبني عبد الدار.(2/108)
وأما القيادة: فوليها من بني عبد مناف: عبد شمس بن عبد مناف، ثم وليها من بعده أمية بن عبد شمس، ثم من بعده حرب بن أمية؛ فقاد بالناس يوم عكاظ في حرب قريش وقيس بن عيلان. وفي الفجارين: الفجار الأول، والفجار الثاني، وقاد الناس قبل ذلك في حرب قريش، وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة، والأحابيش يومئذ مع بني بكر تحالفوا على جبل يقال له: الحبش، على قريش فسموا: الأحابيش، بذلك، ثم كان أبو سفيان بن حرب يقود قريشا بعد أبيه حتى كان يوم بدر؛ فقاد الناس عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. وكان أبو سفيان بن حرب في العير يقود الناس؛ فلما أن كان يوم أحد، قاد الناس أبو سفيان بن حرب، وقاد الناس يوم الأحزاب، وكانت آخر وقعة لقريش، حتى جاء الله تعالى بالإسلام وفتح مكة1 ... انتهى، والله أعلم.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 109- 115.(2/109)
الباب الرابع والثلاثون
في ذكر شيء من خبر الفجار والأحابيش
...
الباب الرابع والثلاثون:
في ذكر شيء من خبر الفجار 1 والأحابيش:
ينا في السيرة لابن إسحاق تهذيب ابن هشام، وروايته عن البكائي عنه، قال ابن هشام: "فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة2 أو خمس عشرة سنة فيما حدثني أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء قال: هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة، وبين قيس عيلان، وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان، أجار لطيمة3 للنعمان بن المنذر؛ فقال له البراض بن قيس أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم، وعلى الخلق؛ فخرج عروة الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته؛ حتى إذا كان بتيمن4 ذي طلال بالعالية، غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام؛ فلذلك سمي "الفجار"، وقال البراض في ذلك:
وداهية5 تهم الناس قبلي ... شددت لها بني بكر ضلوعي
هدمت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضروع
__________
1 المقصود هنا "انفجار الرابع" الذي حضره الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبله أيام فجارا ثلاثا، أولها: بين كنانة وهوزان، والثاني بين قريش وهوزان، والثالث بين كنانة وهوزان "راجع العقد الفريد 5/ 251-253، الأغاني 22، 54 وما بعدها".
2 العقد الفريد 5/ 253، تهذيب سيرة ابن هشام "ص: 43".
3 اللطيمة: عير تحمل الحب والبر وغيرهما للتجارة.
4 تيمن ذي طلال: ماء أو موضع ببلاد بني مرة، ورويت: ظلال، وهي سوان على يسار طنفة وأنت مصعد إلى مكة وهي لبني جعفر بن كذب "معجم البلدان 4/ 61".
5 داهية: الأمر المنكر العظيم.(2/110)
رفعت له بذي طلال كفي ... فخر يميد كالجذع الصريع1
وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب:
فأبلغ إن عرضت، بني كلاب ... وعامر، والخطوب لها موالي
وبلغ، إن عرضت، بني نمير ... وأخوال القتيل بني هلال
بأن الوافد الرحال أمسى ... مقيما عند تيم ذي طلال2
وهذه الأبيات في أبيات له فيما ذكر ابن هشام.
فأتى آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا، وهوزان لا تشعر، ثم بلغهم الخبر؛ فأتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل؛ فأمسكت عنهم هوزان، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما والقوم يتناشدون، على كل قبيلة من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.
وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم؛ أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم3: "كنت أنبل على أعمامي" أي أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.
قال ابن إسحاق: هاجت الحرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة؛ وإنما سمي "حرب الفجار" لما استحل هذان الحيان -كنانة وقيس عيلان- فيه من المحارم بينهم.
وكان قائد قريش كنانة حرب أمية بن عبد شمس؛ فكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة؛ حتى إذا كان وسط النهار كان لظفر لكنانة على قيس4 ... انتهى.
وذكر الفاكهي خبر الفجار، وذكر فيه غير ما ذكره ابن إسحاق وابن هشام، فنذكر شيئا من ذلك لما فيه من الفائدة لأنه قال: وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق، قال5: كان الفجار الآخر بعد الفيل بعشرين سنة؛ فلم يكن في العرب يوم أعظم ولا أذهب ذكرا في الناس منه بين قريش ومن حالفها من كنانة بين قيس بني عيلان، فالتقوا فيها بعكاظ؛ وإنما سمي يوم الفجار بما استحل هذا الحيان -كنانة وقيس- فيه من المحارم.
__________
1 راجع العقد الفريد 5/ 254، والأغاني 22/ 58، ففيها اختلاف في الأبيات عما هنا.
2 في الأغاني 22/ 58، بيتان فقط.
3 سيرة ابن هشام 1/ 164.
4 سيرة ابن هشام 1/ 163-165.
5 في أخبار مكة للفاكهي 5/ 185: قال "ثم كان".(2/111)
وقد كان قبله يوم بني جبلة وتميم، وكان يوما مذكورا من أيام العرب، ولم يكن كيوم عكاظ، وذكر حديثا طويلا وروي أشعار كثيرة اختصرناها مخافة التطويل؛ ولذلك موضع غير هذا.
وحدثني حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة: أن فجار البراض بين كنانة يوم وقيس أربعة أيام، في كل سنة يوم، وكان أوله يوم شطيمة1 من عكاظ، وعلى الفريقين الرؤساء من قريش؛ غير أبي براء، وكانت هوزان من وراء المسيل، وقريش دون المسيل، وبنو كنانة في بطن الواديط. وقال لهم حرب بن أمية: إن أبيحت2 قريش فلا تبرحوا مكانكم، وعبأت هوازن، وأخذوا مصافهم، وعبأت قريش؛ فكان على إحدى المجنبتين ابن جدعان، وعلى الآخر كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وحرب بن أمية في القلب؛ فكانت الدائرة أول النهار لكنانة على هوزان، حتى إذا كان آخر النهار وصبرت، فاستحر3 القتل في قريش؛ فلما رأى ذلك الذين في الوادي من كنانة مالوا إلى قريش وتركوا مكانهم؛ فلما فعلوا ذلك استحر القتل بهم فقتل تحت رايتهم ثمانون رجلا.
وقال آخرون: لما رأت ذلك بنو بكر بن عبد مناة نجا بهم رئيسهم استبقاء لقومه؛ فاعتزل بهم إلى جبل يقال له: رخم وقال: دعوهم، ولوددت أنه لم يفلت منهم أحد، فكان يوم شيطمة لهوزان على كنانة، ولم يقتل من قريش أحد يذكر. وزالت آخر النهار في بني بكر4.
__________
1 في العقد الفريد 5/ 256، والأغاني 22/ 64، ومعجم البلدان 3/ 36، ورواه الأزهري بالظاء المعجمة "شمظة" "معجم ما استعجم 3/ 809"، وفي إتحاف الورى 1/ 124: "شيظمة".
2 أبيحت: هزمت.
3 في الأصول: "فاشتحر" وما أثبتناه هو الصواب، ومعناه: حمى واشتد.
4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 185- 186.(2/112)
ذكر يوم العبلاء:
حدثني الأزدي قال: حدثني محمد، عن أبي عبيدة قال: وجمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا بالعبلاء -وهو الجبل الذي إلى جنب عكاظ- ورؤساؤهم الذين كانوا يوم شيطمة بأعيانهم؛ فكانت الدائرة أيضا في لهوزان على كنانة1
__________
1 العقد الفريد 5/ 257، الأغاني 22/ 65، أخبار مكة للفكاهي 5/ 186.(2/112)
ذكر يوم شرب:
حدثني الأزدي قال: حدثني محمد عن أبي عبيدة قال: ثم جمع الفريقان على قرن الحول1 في اليوم الثاني من عكاظ، فالتقوا فيه بشرب من عكاظ، وعليهم رؤساءهم
__________
1 أي على رأس الحول "معجم ما استعجم 3/ 961".(2/112)
ذكر يوم الحريرة:
حدثني الأزدي حسن بن حسين قال: حدثني محمد بن حبيب الهاشمي عن أبي عبيدة، قال: كانت فيه الدائرة لهوزان على كنانة، وهو آخر أيامهم، وحريرة إلى جنب عكاظ؛ مما يلي مهب جنوبها لمن يقبل يريد مكة من مهب شمالها حتى تقطع دوين قرن؛ فكان رؤساؤهم الذين كانوا قبلا إلا قيسا فإنه مات، وكان بعده الرئيس عليهم جثامة بن قيس، وقتل يومئذ أبو سفيان بن أمية. ومن كنانة ثلاث رهط، قتلهم عثمان بن أسد بن مالك بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقتل ورقاء بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن عمرو بن عامر أبا كتف وابني إياس وعمرو وابن أيوب، وقد ذكرهم خداش بن زهير في شعره1.
فهذه أيام الفجار الخمسة التي تراجفوا فيها. في أربع سنين: أولهن يوم نخلة حين تبعتهم هوزان؛ فكان كفافا لا على هؤلاء ولا على هؤلاء. ثم يوم شيطمة فكان لهوزان على كنانة، ثم يوم عكاظ الأول -وهو يوم العبلاء- فكان لهوزان على كنانة، ويوم عكاظ الثاني -وهو يوم شرب- كان لبني كنانة على هوزان. ولم يكن بينهم يوم أعظم منه، ثم يوم الحريرة وهو آخر أيامهم.
__________
1 راجع الشعر في العقد 2/ 259، والأغاني 22/ 75، ومعجم البلدان 2/ 250.(2/113)
قال: ثم كان الرجل يلقي الرج أو الرجلين أو أكثر من ذلك أو أقل فيقتتلون؛ فربما قتل بعضهم بعضا. فلقي ابن محمية أخو بني الديل بن بكر أبا خداش بن زهير بالصفاح1؛ فقال أخو زهير بن خداش: جئت معتمرا، فقال: لا يلقي الدين إلا أن قلت معتمرا، فقتله ثم ندم، فقال:
اللهم إن العامري المعتمر ... لم آت فيه عذر المعتذر
ثم إن الناس تداعوا إلى السلم على أن يدي الفضل من القتلى التي فيهم؛ أي الفريقين أفضل على الآخر، فتواعدوا عكاظا ليتعادوا القتلى، وتعاقدوا وتواثقوا أن يتموا على ذلك وجعلوا بينهما مواعدا يلتقون فيه لذلك؛ فأبي ذلك وهب بن معتب، وخالف قومه، وجعل لا يرضي بذلك، حتى يدركوا ثأرهم، فقال في ذلك أمية بن جدعان بن الأشكر:
المرء وهب وهب آل معتب ... مل الغواة وأنت لما تملل
يسعى يعوذها بحر وقودها ... وإذا تعابى صلح قومك فأعمل
وهي في شعره، واندس وهي حتى مكرت هوزان بكنانة وهم على رأس الصلح؛ فبعثت خيلا عليها سلمة بن مشعل البكائي، وخالد بن هوذة، فيهم ناس من بني هلال، ورئيسهم ربيعة بن أبي ظبيان، وناس من بني نصر، عليهم مالك بن عوف، فأغاروا على بني ليث بصحراء الغميم وهم غارون فقاتلوهم، وجعل مالك يقاتل ويرتجز، وهو أمرد يومئذ، يقول:
أمر يبدي حمله شيب اللحا ... وهو أول يوم ذكر فيه مالك بن عوف
فقتلت بنو مدلج يومئذ عبيد بن عوف البكائي، وسبيع بن أبي المؤمل من بني محارب، ثم انهزمت بنو ليث، فاستحر القتل ببني الملوح بن يعمر، فقتلوا منهم ثلاثين رجلا، وساقوا نعما، ثم أقبلوا، فعرضت لهم خزاعة وطمعوا فيهم فقاتلوهم؛ فلما رأوا أنه لا بد لهم منهم، وقالوا: عرضونا من غنيمتكم عراضة، فأبوا، فخلوا سبيلهم.
فقال مالك بن عوف:
نحن حمينا الخيل من بطن لية ... وخلدان فينا جافينات ووقعا
تواعد ضبطا ذو خزاعة حزبنا ... وما حزت ضبطا يغلب مضجعا
__________
1 "الصفاح" موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسار الداخل إلى مكة من مشاش، جبل في وسط عرفة متصل بجبال تصل إلى مكة "معجم البلدان 3/ 412 و5/ 131".(2/114)
ثم إن الناس تداعوا إلى الصلح، ورهنوا رهنا بوفاء بديات من كان له الفضل في القتلى وتم الصلح، ووضعت الحرب أوزارها ... انتهى.
وكان آخر أمر الفجار ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وحدثني محمد بن حسن عن حماد بن موسى عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: حدثني حكيم بن حزام قال: لما توافت كنانة، وقيس، من العام القابل، بعكاظ، بعد العام الأول الذي كانوا التقوا فيه، ورأس الناس حرب، خرج معه عتبة بن ربيعة، وهو يومئذ في حجر حرب فمنعه أن يخرج، وقال يا بني أنا بك، فاقتاد راحلته، وتقدم في أول الناس فلم يدر به حرب إلا وهوفي العسكر، قال حكيم بن حزام: فنزلنا عكاظ، ونزلت هوزان بجمع كثير؛ فلما أصبحنا ركب عتبة جملا ثم صاح في الناس: يا معشر مضر، علام تفانون بينكم؟ هلم إلى الصلح قالت هوزان، وماذا تعرض. قال أعرض أن أعطي دية من أصيب، قالوا: ومن أنت؛ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، قالوا: قد قبلنا، فاصطلحج الناس، ورضوا بما قال عتبة: وأعطوهم أربعين رجلا من فتيان قريش، وكنت فيهم؛ فلما رأت بنو عامر أن الرهن قد صار في أيديهم رغبوا في العفو، فأطلقوهم.
قال الزبير: وسمعت عبد الرحمن بن عبد الله يقول: لم يسد مملتق من قريش إلا عتبة بن ربيعة، وأبو طالب بن عبد المطلب، فإنهما سادا بغير مال ... انتهى.
وكلام مغلطاي يقتضي أن أيام هذه الفجار ستة؛ لأنه في "سيرته" -على ما أخبرت به عنه: وأيام الفجار أربعة، قال السهيلي2، والصواب أنها ستة ... انتهى.
ووقع في كلام الفاكهي ما يقتضي أنه كان قبل الفجار الذي أثاره البراض فجار آخر، وذكر الفاكهي شيئا من خبره، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكره الفاكهي.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 188، 189.
2 الروض الأنف 1/ 209.(2/115)
ذكر الفجار الأول وما كان فيه بين قريش وقيس عيلان وسبب ذلك:
حدثنا عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم هاج يوم الفجار الأول بين قريش، ومن كان إلفها من كنانة كلها، وبين قيس عيلان؛ وسببه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نضر بن معاوية بن بكر بن هوزان، فواعده به الكناني، فوافاه النصري بسوق عكاظ بقرد معه، فوقفه بالسوق، فقال: من يبيعني مثل هذا بمال لي على فلان بن فلان الكناني؛ وإنما أراد ذلك النضري الكناني وقومه، فمر به رجل من كنانة؛ فضربه القرد بالسيف أنفا مما يقول النضري، فصرخ(2/115)
النضري في قيس، والكناني في بني كنانة؛ فتجاوز الناس حتى كادوا أن يكون بينهم قتال ثم تداعوا بمنى للصلح، وسرى الخطب من أنفسهم، فتراجع الناس وكف بعضهم عن بعض، ولم يكن بينهم إلا ذلك.
ويقال: بل قعد قتيبة من العرب من قريش غدية إلى امرأة من بني عامر ذات هيبة، عليها برفع وهي في درع فضل -وكذلك نساء العرب يفعلن- فأعجبهم ما رأوه من حسن هيئتها؛ فقالوا لها: يا أمة الله أسفري لنا عن وجهك ننظر إليك، فأبت عليهم، فقام غلام منهم فشبك درعها إلى ظهرها بشوكة -والمرأة لا تدري- فلما قامت انكشف الدرع عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا أن ننظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك!! فصاحت المرأة في بني عامر: فضحت فتحاور الناس ثم ترادوا، ورأوا أن الأمر دون1.
ويقال: بل قعد رجل من بني غفار بني خليل بن حمزة يقال له: أبو معشر، كان عارفا متصنعا في نفسه بسوق عكاظ، ومد رجله وقال:
أنا ابن مدركة بن خندف ... من تضعفوا في عينه لا تطرف
ومن تكونوا قومه يغطرف
أنا والله أعز العرب، فمن زعم أنه أكرم مني فليضربها بالسيف. فضربها رجل من قيس فخدشها خدشا غير كبير، فتحاور الناس عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهم قتال.
قال: ثم تراجع الناس ورأوا أنه لم يكن بينهم شيء كبير، فكل هذا الحديث يقال في يوم الفجار2، والله أعلم أي ذلك كان؟
قال عبد الملك: قال زياد: قال ابن إسحاق: وقد قال بعض الشعراء شعرا، قد ذكر فيه عكاظ وما أصابوا من بني كنانة وضرب رجل أبي معشر فقال:
عمرك الله سائلي أي قوم ... معشري في سوالف الأعصار
نحن كنا الملوك من أهل نجد ... زمن جزناه بميل الدمار
ومنعنا الحجاز من كل حي ... وقمعنا الفجار يوم الفجار
وضربنا به كنانة ضربا ... حالفوا بعده سني العسار
وتركنا سراة خثعم محا ... كذا تتويج أهل الدثار
فاستغاثوا إلى العريف فقلنا ... أخرجوهم من العريف بثار
__________
1 الأغاني 22/ 6.
2 الوفا بأحوال المصطفى 1/ 135، السيرة الحلبية 1/ 128، إتحاف الورى 1/ 103، تاريخ الخميس 1/ 255، الأغاني 22/ 59.(2/116)
قال زياد في حديثه هذا: وقال ابن إسحاق، فأجابه أمية بن الأشكر بشعر1، فقال:
أبلغا حمة الغريب أنا ... قد قتلنا ميراثكم في الفجار
وسقيناكم المنية صرفا ... ودهشنا بالنهب والإذكار
وطحنا مضر فدارت رحانا ... فاستدلوا الباء والأعشار
خرجوا من ديارهم سراعا ... إلينا فرددته للديار
وضربوا هوازن بعكاز ... مثل ضرب الصحيفة
وطلعنا بعد تعود إليها ... سحب الخيل ضم للمغمار
فتركناهم هنالك صرعى ... وحلت عن قلوبهم للفرار
رفعت عن خجولها كل أثنى ... فصلاها هاربا بغير إزار
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 183-185، سمط النجوم العوالي 1/ 193.(2/117)
ذكر شيء من خبر الأحابيش ومحالفتهم لقريش:
ذكر الزبير بن بكار في كتاب "النسب" شيئا من خبر الأحابيش ومحالفتهم مع قريش لأنه قال: وحدثني محمد بن الحسن قال: تحالفت قريش والأحابيش الأحلاف؛ فصاروا حلفاء لقريش دون بني كنانة، والحيا والمصطلق من خزاعة كلها إلا الحيا والمصطلق مع بني مدلج. قال: وكان تحالف قريش والأحابيش على الركن يقوم رجلان أحدهما من قريش والآخر من الأحابيش فيضعفان أيديهما على الركن فيحلفان بالله القائل بحرمة هذا البيت، والمقام، والركن، والشهر الحرام، على النصر على الخلق جميعا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقل التعاون وعلى من عاداهم من الناس جميعا ما بل بحر صوفه، وما قام حراء وثبير، وما طلعت الشمس من مشرقها، وما غربت من مغربها، إلى يوم القيامة؛ فسموا عند ذلك الأحابيش لاجتماعهم ... انتهى، والله أعلم.(2/117)
الباب الخامس والثلاثون:
ذكر شيء من خبر حلف الفضول:
روينا في "السيرة لابن إسحاق تهذيب ابن هشام"، وروايته عن زياد البكائي شيئا من خبره، ونص ذلك على ما في السيرة، قال ابن هشام: "وأما حلف الفضول، فحدثني زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف الفضول؛ فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي لشرفه وسنة؛ فكان حلفهم عنده: بنو هاشم وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلم حتى ترد عنه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول".
قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن زيد، عن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" 1 ... انتهى.
وقد ذكر الزبير بن بكار أشياء من خبر حلف الفضول، وأفاد في ذلك غير ما سبق؛ لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبدية، قال: كان سبب حلف الفضول أن رجلا من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة، فاشتراها رجل من بني
__________
1 سيرة ابن هشام 1/ 123، إتحاف الورى 1/ 121.(2/118)
سهم؛ فلوى الرجل بحقه؛ فسأله ماله، فأبى عليه، فسأله متاعه فأبى عليه، فقام على الحجر وقال:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض حرمته1 ... بين الإله وبين الحجر والحجر
أقائم من بني سهم بذمتهم ... أم ذاهب في ضلال مال معتمر
إن الحرام لو تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
ثم ذكر الزبير خبرا يقتضي أن الرجل الذي باع سلعته من السهمي كان من زبيد، ولا منافاة بين كونه من اليمن، وكونه من زبيد، لجواز كون نسبته إلى اليمن، باعتبار يكناه به، والله أعلم.
وفي الخبر الذي فيه أن البائع من زبيد فوائد ليست في الخبر الذي فيه أن البائع من اليمن، فاقتضى ذلك ذكرنا له، ونص ذلك على ما في كتاب الزبير: حدثني محمد بن فضالة عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن ابن شهاب قال: كان شأن حلف الفضول أنه بدأ ذلك أن رجلا من بني زبيد قدم مكة معتمرا في الجاهلية، ومعه تجارة له فاشتراها منه رجل من بني سهم؛ فأواها إلى بيته، ثم تغيب، فابتغى متاعه الزبيدي، فلم يقدر عليه، فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا عليه، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه؛ فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها، ثم قال بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الأهل والوطر
ومحرم شعث لم يقض عمرته ... يا آل فهر وبين الحجر والحجر
هل محضر من بني سهم بحضرتهم ... فعادل، أم حلال مال معتمر
فما نزل من الجبل أعظمت ذلك قريش؛ فتكلموا فيه. فقال المطيبون: والله لئن قمنا في هذا لنقضين على الأحلاف، وقال الأحلاف: والله لئن تظلمنا في هذا لنقضين على المطيبين؛ فقال ناس من قريش: تعالوا فلنكن حلفاء فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم يومئذ طعاما كثيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فاجتمعت بنو هاشم، وأسد، وزهرة، وتيم، وكان الذي تعاقد عليه القوم وتحالفوا أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد؛ إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه، ويردوا2 إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثم عمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا
__________
1 في الروض الأنف 1/ 156: "عمره".
2 هكذا في الأصل.(2/119)
به إلى البيت؛ فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه، فحدث هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان، من حلف الفضول ما لو دعيت إليه اليوم لأحببت، وما أحب أن لي به حمر النعم". قال الزبير: حدثني عبد العزيز بن عمرو العنبسي أن الذي اشترى من الزبيدي المتاع: العاص بن وائل السهمي، وقال: حلف الفضول بنو هاشم وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، تحالفوا بينهم بالله، لا يظلم أحد بمكة إلا كنا جميعا مع المظلوم على الظالم، حتى نأخذ له مظلمته ممن ظلمه، شريفا أو وضيعا، منا أو غيرنا. ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل؛ فقالوا: والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه، فأعطى الرجل حقه، فمكثوا كذلك لا يظلمن أحد حقه بمكة إلإ أخذوه له؛ فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول، وليست عبد شمس في حلف الفضول1.
وحدثني محمد بن حسن بن محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن فضالة، عن هشام بن عروة، وعن إبراهيم بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي قال إن بني هاشم وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزي، وبني تيم بن مرة، تحالفوا على أن لا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا إليه مظلمته، أو يبلغوا في ذلك عذرا، وعلى أن لا يتركوا لأحد فضلا إلا فخذوه، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك سمي حلف الفضول: بالله على الظالم حتى نأخذ للمظلوم حقه ما بل بحر صوفة، وما رسا حراء وثبير في مكانهما، وعلى الناس في المعاش.
وذكر الزبير ما يوهم أن سبب حلف الفضول بغير ما سبق؛ لأنه قال: وقال بعض العلماء إن قيسا السلمي باع متاعا من أبي بن حلف، فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جمح، فلم يقم بجواره؛ فقال قيس:
يال قصي كيف هذا في الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم2
وبلغ الخبر عباس بن مرداس فقال:
إن كان جارك لم تنفعك ذمته ... وقد شربت بكأس الذل أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صددا ... ولا تبد باديهم فحشا ولا باسا
__________
1 الاكتفاء 1/ 91، إتحاف الورى 1/ 121.
2 الروض الأنف 1/ 157.(2/120)
وثم كن بفناء البيت معتصما ... تلقي ابن حرب وتلقي المرء عباسا
ساقي الحجيج وهذا ياسر فلح ... والمجد يورث أسداسا وأخماسا
وقام العباس وأبو سفيان حتى ردا عليه متاعه. واجتمعت بطون قريش فتحالفوا على رد الظلم بمكة، وأن لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا له بحقه، وكان حلفهم في دار ابن جدعان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلفا في دار ابن جدعان 1، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به لأحببت" فقال قوم من قريش: هذا والله أفضل من الحلف؛ فسمي: حلف الفضول.
قال: وقال الآخرون: تحالفوا على مثال حلف تحالف عليه قوم من جرهم في هذا الأمر؛ ألا يقروا ظلما ببطن مكة إلا غيروه، وأسماهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن وداعة، والفضي بن قضاعة. والله أعلم أي ذلك كان؟
وذكر الزبير خبرا يقتضي أن البائع من أبي بن خلف رجل من ثمالة؛ لأنه قال: حدثني علي بن صالح، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه، فذكر قصته، ثم قال: فبلغ ذلك معاوية، وعنده جبير بن مطعم، فقال له معاوية: يا أبا محمد كنا في حلف الفضول؟ قاله جبير بن مطعم: لا، وقد مر رجل من ثمالة؛ فباع سلعة له من أبي بن خلف ووهب بن حذافة بن جمح، فظلمه، وكان سيء المخالطة؛ فأتى الثمالى أهل حلف الفضول فأخبرهم؛ فقالوا: اذهب فأخبره بأنك قد آتيتنا، فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا. فأتاه فأخبره ما قال له أهل حلف الفضول، وقال له: فما تقول؟ فأخرج إليه حقه، فأعطاه إياه، فقال:
أتعجزني ببطن مكة ظالما ... وإني ولا قومي لدي ولا صحبي
وناديت قومي بارقا لتجيبني ... وكم دون قومي من فياف ومن شهب؟
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي ... بني جمحخ والحق يؤخذ بالغصب
وذكر الزبير حبرا يوهم أن سبب حلف الفضول غير ما سبق؛ لأنه قال: حدثني غير واحد من قريش، منهم عبد العزيز بن عمر العنبسي، عن معن بن عبد الله بن عنبسة قال: إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا2، ومعه ابنه له يقال له يقال لها القتول، أوضأ نساء العالمين: فعلقهما نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، فلم يبرح حتى
__________
1 كان عبد الله بن جدعان من أشراف قريش وساداتها وأثريائها، وهو الذي مدحه أمية بن أبي الصلت في شعره وفيه يقول قصيدته المشهورة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
2 في الروض الأنف 1/ 157: "معتمرا أو حاجا".(2/121)
نقلها إليه، وغلب أباها عليها، فقيل لأبيها: عليك بحلف الفضول، فأتاهم وشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن الحجاج، وقالوا: أخرج ابنة هذا الرجل -وهو يومئذ بناحية مكة وهي معه- وإلا فإنا من قد عرفت؛ فقال: يا قوم متعوني بها الليلة، فقالوا: قبحك الله ما أجهلك، لا والله ولا شخب لقحه1. قال: وهي أوسع أحاليل من الشاة فأخرجها إليهم، فأعطوها أباها، وركب معهم الخثعمي؛ فذلك يقول نبيه بن الحجاج:
راح صحبي ولم أحي القتولا ... لم أودعهم وداعا جميلا
وذكر بقية الأبيات، وقال نبيه في ذلك أبياتا أخر2.
وذكر الفاكهي من خبر حلف الفضول عن الزبير بن بكار جميع ما ذكرناه عن الزبير3.
وذكر الفاكهي في ذلك غير ما سبق، فاقتضى ذلك ذكرنا له لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكر الفاكهي::ذكر حلف الفضول، وسببه، وتفسيره، وغيره من الحلف".
ثم إن قريشا تداعت إلى الفضول؛ وذلك بعد رجوعهم من عكاظ، ويقال: بعد فراغهم من بنيان الكعبة، وكان حلفا جميلا على قريش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالف فيه، فاجتمعوا في ذلك في دار ابن جدعان لشرفه وموضعه في قومه، وكانت له أسباب سأذكرها إن شاء الله تعالى.
حدثني عبد الله بن شبيب الربعي مولى بني قيس بن ثعلبة قال: حدثني أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الخزاعي، قال: حدثني عمرو بن أبي بكر العدوي، قال: حدثنا عثمان بن الضحاك، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت جدي حكيم بن حزام يقول: انصرفت قريش من الفجار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة؛ وكان حلف الفضول في شوال، وكان أشرف حلف وأعظم بركة؛ وذلك أن الرج لمن العرب أو غيرها من العجم، كان يقدم مكة بسلعته، فربما ظلم ثمنها، وكان آخر من ظلم بها رجل من زبيد4، فقدم مكة بسلعةله؛ فباعها من العاص بن وائل، فظلمه ثمانها، فطاف في الأحلاف: عبد الدار، وجمح، وسهم، ومخزوم، فسألهم أن يعينوه على العاص بن وائل، فزجروه وتجهموه، وأبوا أن يغلبوه
__________
1 "الشخب": ما خرج من الضرع من لبن، واللقحة: الناقة القريبة العهد بالنتاج وتكون عادة غزيرة اللبن.
2 الروض الأنف 1/ 157.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 190-195.
4 في الأصول: "من بن يزبيد: والمثيب عن سيرة ابن هشام 1/ 259، والسيرة الشامية 2/ 208، "زبيد".(2/122)
على العاص؛ فلما نظر إلى سلعته قد حيل دونها، رقي على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتها، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة، نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يال الرجال وبين الحجر والحجر
هل محضر من بني سهم بخفرته ... وعادل أم ضلال مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاخر الغدر
فقال الزبير بن عبد المطلب: إن هذا الأمر ما ينبغي لنا أن نسمك عنه؛ فطاف في بني هاشم، وزهرة، وأسد، وتيم، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وتحالفوا بالله القائل، لنكون يدا للمظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة، ومارسا حراء وثبير في مكانهما، وعلى التأسي في المعاش: ثم نهضوا إلى العاص بن وائل فنزعوا سلعة الزبيدي، ودفعوها إليه، فقالت قريش: إنه قد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، فسمي: حلف الفضول، فقال الزبير بن عبد المطلب:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا ... مقربة الغريب لذي الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا ... أباة الضيم نمنع كل عار1
إذا لام الغدار لنا حراما ... أقمنا بالسيوف ذا الازورار
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثني عمرو بن أبي بكر قال: كان يقال: كان في جرهم مثل هذا الحلف؛ فمشى فيه رجال، منهم فضل، وفضال، وفضالة، فسموه حلف الفضول، وقال: الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... أن لا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا2 وتواثقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم3
وقد بان بما ذكرناه من هذه الأخبار المتعلقة بحلف الفضول فوائد كثيرة تتعلق بذلك؛ وإنما سبب تسميته بحلف الفضول، كون الذين تحالفوا عليه تحالفوا على حلف مثله، سبق إليه جماعة من جرهم، يقال لكم منهم: الفضل، أو ما يقرب من معناه.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 195، إتحاف الورى 1/ 121، الروض الأنف 1/ 156، السيرة لابن كثير 1/ 259.
2 في الروض الأنف 1/ 157، وإتحاف الورى 1/ 121: "تعاهدوا".
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 194-195.(2/123)
وأشار السهيلي إلى أن تسميته بحلف الفضول؛ لكون الذين تحالفوا عليه تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها؛ لأنه قال، بعد أن حكي عن ابن قتيبة: إن سبب تسميته أن جماعة من جرهم يقال لأحدهم الفضل بن فضالة، والثاني الفضل بن وداعة، والثالث فضيل بن الحارث، ومن تبعهم سبقوا قريشا إلى مثل هذا الحلف. والذي قاله ابن قتيبة حسن؛ ولكن في الحديث ما هو أقوى منه وأولى.
روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وأن لا يعين ظالم مظلوما".
ورواه في مسنده الحارث بن عبد الله بن أبي أسامة التميمي.
وقد بين هذا الحديث: لم سمي حلف الفضول. وكان حلف الفضول بعد الفجار؛ وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب1، والفضول جمع فضل ... انتهى.
__________
1 الروض الأنف 1/ 155-156.(2/124)
ذكر شيء من خبر ابن جدعان الذي كان في داره حلف الفضول:
هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي التيمي المكي، يكنى أبا زهير، من رهط أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وكان من رؤساء قريش وأجوادهم، وله في الجود أخبار مشهورة؛ منها: أنه كانت له جفنة للأضياف يستظل بظلها في الهاجرة؛ لأن في "غريب الحديث" لابن قتيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أستظل فيها بظل جفنة عبد الله بن جدعان بمة في الهاجرة".
قال ابن قتيبة: كانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير، وسقط فيها صبي فغرق، أي مات فيها1.
ومنها على ما قال هشام بن الكلبي: كان له مناديان يناديان؛ أحدهما بأسفل مكة، والآخر بأعلى مكة، وكان المناديان سفيان بن عبد الأسد، وأبو قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم فليأت دار ابن جدعان. وينادي الآخر: ألا من أراد الفالوذج فليأت دار ابن جدعان وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة؛ ذكر هذا الخبر عن ابن الكلبي الفاكهي في "أخبار مكة"2.
__________
1 الروض الأنف 1/ 158.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 169.(2/124)
ومنها: أن أمية بن أبي الصلت1 قبل أن يمدح ابن جدعان: كان قد أتى بني الديان من بني الحارث بن كعب، فرأى طعام بني عبد الديان2 منهم لباب البر والشهد والسمن، وكان ابن جدعان التمر والسويق ويسقي اللبن، فقال، أمية:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان
فبلغ شعره عبد الله بن جدعان؛ فأرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن، وأمر مناديا ينادي على الكعبة: ألا هلموا إلى جفنه عبد الله بن جدعان، فقال أمية عند ذلك:
له داع بمكة مشمعل3 ... وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد4
وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك سريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشريته، ونفاه أبو وحلف أن لا يأويه أبدا، لما أثقل به من الغرم. وحمله من الديات، فخرج في شعاب مكة حائرا يتمنى الموت ينزل به، فرأى شقا في الجبل، فظن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح؛ فلم ير شيئا، فدخل فيه، فإذا فيه ثعبان عظيم، له عينان تقدان كالسراجين، فحمل عليه الثعبان. فأخرج له فانسابت عيناه مستديرتان ينظران نحو بيت، فخطا خطوة، فصفر به الثعبان، وأقبل عليه كالسهم، فأخرج له، فانساب عنه قدما لا ينظر إليه، فوقع في نفسه أن مصنوع، فأمسكه بيده، فإذا هو مصنوع من ذهب، وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه، ودخل البيت، فإذا جثث على سرر طوال لم ير مثله طويلا وعظما، وعند رؤوسهم لوح من فضة، فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم، وآخرهم موتا الحارث بن مضاض صاحب الغربة الطويلة، وإذا عليهم ثياب لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طوال الزمن، وشعر مكتوب في اللوح، فيه عظات، آخر بيت منه:
صاح هل رأيت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب
__________
1 شاعر جاهلي، طلب النبوة، وكان يحدث في شعره بأحاديث خلق الكون وقصص الأنبياء، ورثى قتلى بدر، وتوفي عام 9هـ.
2 في الروض الأنف 1/ 158: "المدان".
3 مشمعل: بعيد الصوت أو سريع.
4 الروح: جمع رواح، وهي الجفان الكبيرة، الشيزى: نوع من الخشب تتخذ منه القصاع، اللباب: خالص الشيء يلبك: يخلط أو يعجن، الشهاد: نوع من العسل.(2/125)
وقال ابن هشام: كان اللوح من رخام، وكان فيه: أنا ثعلبة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد يا ليل بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله، عشت خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك؛ فلم يكن ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب:
قد قطعت البلاد في طلب الثر ... وة والمجد قالص1 الأثواب
وسريت البلاد قفرا لقفر ... بضماني2 وقوتي واكتسابي
فأًصاب الردى بنات فؤادي ... بسهام من المنايا صباب
فانقضت شدلي وأقصر جهلي ... واسترحت عواذلي عن عتاب
ودفعت السعادة بالحكم لما ... نزل الشيب في محل الشباب
صاح هل رأيت أو سمعت براع ... در في الضرع ما قرى في الحلاب
وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ، ثم علم على الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف.
وذكر حديث كنز ابن جدعان موصلا بحديث الحارث بن مضاض: ابن هشام في غير هذا الكتاب: ووقع لنا في كتاب "ري العاطش وأنس الواحش" لأحمد بن عمار، أن ابن جدعان حرم في الجاهلية، بعد أن كان مغرى بها؛ وذلك أنه سكر فتناول القمر ليأخذه، فأخبر بذلك حين صحا، فحلف لا يشربها أبدا، ولما كبر وهرم أراد بنو تيم أن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه لطمه لطمة خفيفة ثم قال: قم فانشد لطمتك، واطلب ديتها؛ فإذا فعل ذلك أعطته بنو تيم من مال ابن جدعان حتى يرضى ... انتهى من كتاب السهيلي3.
وذلك جميع ما ذكرناه من خبر ابن جدعان خلا ما ذكرناه من خبره عن ابن الكلبي.
وفي مسلم أن عائشة -رضي الله عنها- قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف؛ فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، إنه لا يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" 4 ... انتهى.
__________
1 قالص الأثواب: القصير منها.
2 كاذ في الأصل، وفي الروض الأنف 1/ 159: "بقائي".
3 الروض الأنف 1/ 158-160.
4 أخرجه مسلم "الإيمان، 365".(2/126)
وذكر الفاكهي في وفاة ابن جدعان هذا خبرا غريبا؛ لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بما نصه: "ذكر موت أهل الشرف من قريش، بمكة ومراثيهم"، ثم هلك عبد الله بن جدعان بن عمرو التيمي، فبكته الجن والإنس، فأما بكاء الجن: فحدثني إبراهيم بن يوسف المكي، قال: حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج قال: إن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- كان يحدث أن النباش بن زرارة التميمي -وكان حليفا لقريش- قال: خرجنا إلى الشام تجارا في الجاهلية وعبد الله بن جدعان صبي حين خرجنا؛ فلما سرنا نحوا من خمس عشرة ليلة، نزلنا ذات ليلة واشتهينا أن نصبح بذلك المكان. قال: فقام أصحابي، وأصابني أرق شديد، فإذا هاتف يهتف يقول:
ألا هلك الهلوك غيث بن فهر ... وذو العز والمج التليد وذو الفخر
قال:
فأجبته فقلت:
ألا أيها الناعي أخا المجد والذكر ... من المرء تنعاه لنا من بني فهر؟
فأجابه الهاتف فقال:
نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى ... وذا الحسب المعدود والمنصب الفخر
قال: فأجبته فقلت:
لعمري لقد نوهت بالسيد الذي ... له الفضل معلوم على ولد النضر
فأخبرنا أنا علمت وفاته ... فإنك قد أخبرت جلا من الأمر
فأجابه الهاتف فقال:
مررت بنسوان يخمشن أوجها ... عليه صياحا بين زمزم والحجر
قال فأجبته فقلت:
متى إنما عهدي به منذ جمعة ... وستة أيام لغرة ذا الشهر
قال: فأجابه الهاتف فقال:
ثوى منذ أيام ثلاث كوامل ... مع الصبح أو في الصبح في وضح الفجر
قال: فاستيقظ الرفقة وهي تتراجع بنعي ابن جدعان، وقالوا: إن كان أحد نعي لعز وشرف فقد نعي ابن جدعان؛ فقال الجني:
أرى الأيام لا تبقي عزيزا ... لعزته ولا تبقي ذليلا
فأجبته فقلت:
ولا تبقي من الثقلين حيا ... ولا تبقي الجبال ولا السهولا(2/127)
فقال الجني: صدقت ... انتهى1.
وذكر الهاتف شيئا من رثاء الإنس لابن جدعان2.
__________
1 هذه الرواية من أحاديث الأدب الموضوعة.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 196-198.(2/128)
ذكر شيء من خبر أجواد قريش في الجاهلية:
كان في قريش في الجاهلية، أجواد مع ابن جدعان، لهم في الجود أخبار مشهورة؛ ويقال لبعضهم: أزواد الركب؛ لكفايتهم من معهم المؤنة، على ما ذكر ابن الكلبي وغيره. وفيما نقل الفاكهي وغيره. ونص ما ذكر الفاكهي: "ذكر أزواد الركب من قريش".
حدثنا حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن الكلبي، قال: وكانوا إذا سافروا لم يختبز معهم أحدا، ولم يطبخ إلا الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ومسافر بن أبي عمرو، وابن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وأبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وزمعة بن عبد المطلب بن أسد ... انتهى1.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198.(2/128)
ذكر الحكام من قريش بمكة في الجاهلية:
هؤلاء الحكام ذكرهم الفاكهي؛ لأنه قال: "ذكرالحكام من قريش بمكة".
حدثنا محمد بن علي النجار الصنعاني قال: حدثنا عبد الرزاق -هو1 ابن جريج- قال: أخبرني بشير بن تميم، أن الحارث2 بن عبيد بن عمرو بن مخزوم كان حكم قريش في الجاهلية، وكان أول من حكم قريشا في الجاهلية بالقسامة والدية؛ حكم بالقسامة في رجل، وبمائة من الإبل في رجل، وكان عقل أهل الجاهلية الغنم.
وحدثني الحسن بن الأزدي قال: حدثنا محمد أبو جعفر، عن الكلبي في الحكام من قريش قال: فمن بني هاشم: عبد المطلب بن هاشم، والزبير، وأبو طالب ابنا عبد المطلب، ومن بني أمية: حرب بن أمية، أبو سفيان بن حرب، ومن بني زهرة: العلاء بن الحارثة الثقفي، حليف بني زهرة، ومن بني مخزوم، العدل، وهو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. ومن بني سهم: قيس بن عدي بن سعد بن
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198: "عن ابن جريج".
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198: "ابن الحارث".(2/128)
ذكر تملك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن كلاب القرشي الأسدي على قريش بمكة وشيء من خبره:
قال الزبير بن بكار فيما رويناه عنه: حدثنا علي بن صالح، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة، عن عروة بن الزبير، قال: خرج عثمان بن الحويرث، وكان يطمع أن يملك قريشا، وكان بمن أظرف قريش وأعقلها، حتى قدم على قيصر، وقد رأى موضع حاجتهم إليه ومتجرهم من بلاده، فذكر له مكة ورغبة فيها. وقال: تكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء؛ فملكه عليهم وكتب له إليهم، فلما قدم عليهم قال: يا قوم إن قيصر من قد علمتم، أموالكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه. وقد ملكني عليكم؛ وإنما أنا ابن عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والإهاب، فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك؟ أن يمنع منكم الشام، فلا تتجروا به، ويقطع مرفقكم منه؛ فلما قال لهم ذلك خافوا قيصر، وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فأجمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج عشية، وفارقوه على ذلك: فلما طافوا عشية، بعث الله تعالى عليهم ابن عمه أبا زمعة الأسود بن المطلب نب أسد، فصاح على أحفل ما كانت قريش في الطواف، وقال: عباد الله ملك بتهامة، فانحاشوا انحياش حمر الوحش، ثم قالوا: صدقت، واللات والعزى ما كان بتهامة ملك قط؛ فأسقطت قريش عما كانت قالت له، ولحق بقيصر ليعلمه. وقال الزبير: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحزامي عن أبيه قال: قال الأسود بن عبد المطلب حين أرادت قريش أن تملك عثمان بن الحويرث عليها: إن قريشا لقاح لا تملك ... انتهى باختصار.
ثم روى الزبير بسنده: أن قيصر حمل عثمان على بغلة، عليها سرج عليه الذهب، حين ملكه، قال الزبير: قال عمي: وكان عثمان بن الحويرث حين قدم مكة بكتاب قيصر مختوم في أسفله بالذهب ... انتهى.
وذكر الزبير خبرا فيما انتهى إليه أمر عثمان بن الحويرث، وملخص ذلك: أنه خرج إلى قيصر بالشام، فسأل تجار قريش بالشام عمرو بن جفنة الغساني أن يفسد على عثمان عند قيصر، فسأل عمرو في ذلك ترجمان قيصر فأخبر الترجمان قيصر عن عثمان حتى حضر عثمان، وترجم عنه بأن عثمان يشتم الملك، فأمر قيصر بإخراج عثمان، ثم تحيل(2/129)
عليه عثمان حتى عرف من أين أتى ودخل على قيصر وعرفه ما يقتضي أن الترجمان كذب عليه؛ فكتب قيصر إلى عمرو بن جفنة يأمره أن يحبس لعثمان من أراد حبسه من تجار قريش بالشام، ففعل ذلك عمرو، ثم سم عثمان فمات بالشام، وذكرنا هذا الخبر بنصه في أصل هذا الكتاب، والله أعلم.(2/130)
الباب السادس والثلاثون:
ذكر شيء من خبر فتح مكة:
قال ابن إسحاق في سيرته "تهذيب ابن هشام": ورأيته عن زياد البكائي عنه في أخبار سنة ثمان من الهجرة قال: "ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثة إلى مؤتة جمادى الآخر ورجبا، ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدث على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير1، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة، أن رجلا من بني الحضرمي واسمه مالك بن عباد، وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن- خرج تاجرا؛ فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه؛ فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي -وهم منخر بن كنانة- وأشرافهم: سلمى، وكلثوم، وذؤيب، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين ونودي دية لفضلهم فينا2.
قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به؛ فلما كان صلح الحدييبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وغيرهم من علمائنا: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده
__________
1 الوتير ماء بأسفل مكة لخزاعة.
2 معجم البلدان 5/ 360، ومعجم ما استعجم 4/ 1368.(2/131)
فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش، وعهدها فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
قال ابن إسحاق: فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرا بأولئك النفر الذين أصابوا منهم من بني الأسود بن رزن؛ فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم، وليس كل بني بكر تابعه حتى أتى خزاعة وهم على الوتير -ماء لهم- فأصابوا رجلا منهم، وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم؛ فلما انتهوا إلى الحرم، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم؛ إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم؛ فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلا يقال له منبه، وكان منبه رجلا معوزا2 خرج هو ورجل من قومه يقال له تميم بن أسد؛ فقال منبه: يا تميم انج بنفسك، فأما أنا هوالله إني لميت، قتلوني أو تركوني. لقد أنبت فؤادي3. فانطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه، فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له: رافع، فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره عن منبه، فذكر أبياتا له أولها:
لما رأيت بني نقاثة أقبلوا ... يغشون كل وتيرة وحجاب
الأبيات.
وذكر أيضا أبياتا للأخزر بن لعط الديلي، وأبياتا لبديل بن عباد، ويقال له: بديل بن حزم، وبيتين لحسان بن ثابت.
ثم قال ابن إسحاق: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان في ذلك مما هاج فتح مكة؛ فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكما والدا ... ثم أسلمنا فلم ننزع يدا
__________
1 السيرة لابن هشام 4/ 24، وتاريخ الطبري 4/ 152.
2 كذا في الأصل، وفي السيرة هشام 4/ 25: "مفؤودا" أي ضعيف الفؤاد.
3 "أنبت فؤادي" أي انقطع. والبيت: القطع.(2/132)
وانصر -هداك الله- نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول قد تجردا ... إن كان شر وجهه تربدا1
في فيلق كالبحر يجري سرمدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
يقول: قتلنا وقد أسلمنا
قال ابن هشام: ويروى:
فانصر هداك الله نصرا أبدا
قال ابن هشام ويروي:
نحن ولدناك فكنت ولدا
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم"، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان في السماء فقال: "إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب".
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فأخبروه بما أصيب منهم، ومظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأنكم بأبي سفيان وقد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة"، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه، حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء قال: "من أين أقبلت يا بديل؟ "، وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي، قال: "أو ما جئت محمدا؟ " قال: لا؛ فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى؛ فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها قفته؛ فرأى فيه النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا،
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه. فقال: يا بنية ما أرى؟ يا بنية أرغبت في هذا الفراش، أم رغبت به عني؟
__________
1 تربدا: تعيرا.(2/133)
قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس؛ فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: والله يا بنية لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا. ثم ذهب إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكلمه؛ فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها حسن بن علي -رضي الله عنه، غلام يدب بين يديها؛ فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة -رضي الله عنها- فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا أن يجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟. قالت: والله ما بلغ بني ذلك وأن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا على شيئا؟ قال: لا، والله ما أظنه؛ ولكني لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، وقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق؛ فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد على شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة -رضي الله عنه- فلم أجد فيه حدا، ثم جئت أبن الخطاب -رضي الله عنه- فوجدته أدنى العدو.
ثم قال ابن هشام: أعدى العدو.
قال ابن إسحاق: قال: ثم أتيت عليا -رضي الله عنه- فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني شيئا، أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت. قالوا: فهل أجاز ذلك لك محمد؟ قال: لا، قالوا: يلك، والله أن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت: قال: لا والله لا وجدت غير ذلك.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، فأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر -رضي الله عنه- على ابنته عائشة -رضي الله عنها- وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. قال -رضي الله عنه: فأين ترينه يريد؟ قالت -رضي الله عنها: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالتهيؤ والجد: وقال: "اللهم خذ العيون(2/134)
والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها"، فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت -رضي الله عنه- بحرض الناس ويذكر مصاب رجال خزاعة:
عناني ولم أشهد ببطحاء مكة ... رجال بين كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ... وقتلى كثير لم تجن ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ... سهيل بن عمرو حرها1 وعقابها
وصفوان عودا خر من شعر إسته ... فهذا أوان الحرب شد عصانها
ولا ناسيا يا ابن أم مجالد ... إذا اختلفت صرفا وأعضل نابها
ولا تجزعوا منا فإن سيوفنا ... لها وقعة بالموت يفتح بابها
قال ابن هشام: قول حسان:
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم
يعين قريشا، وابن أم مجالد عكرمة بن أبي جهل2.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة -يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره: أنها سارة، مولاة لبني عبد المطلب- وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا؛ فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم، فخرجا حتى أدركاها بالخليفة -خليفة بني أحمد فاستنزلاها بالخليفة، فالتمساه في رحلها؛ فلم يجدا شيئا، فقال لها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض عني، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: "يا حاطب ما حملك علي هذا؟ " فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ماغيرت ولا بدلت، ولكني كنت أمرا ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد أهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: يا رسول الله دعني فلأضربن عنقه، فإن الرجل قد نافق. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع
__________
1 في السيرة لابن هشام 4/ 87: "وخزها".
2 السيرة لابن هشام 4/ 84-88.(2/135)
إلى أصحاب بدر يوم بدر؛ فقال: "اعلموا ما شئتم، فقد غفرت لكم"؛ فأنزل الله تعالى في حاطب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 1-4] إلى آخر القصة1.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف علي المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري -رضي الله عنه. وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه؛ حتى إذا كانوا بالكديد -بين عسفان وأمج- أفطر. ثم مضى حتى نزل مر الظهران، في عشرة آلاف من المسلمي؛ فصحت معهم، وبعضهم يقول: ألفت سليم وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار؛ فلم يتخلف عنه صلى الله عليه وسلم، منهم أحد؛ فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرون ما هو فاعل؟ وخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به، وقد كان العباس بنعبد المطلب -رضي الله عنه- لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق- قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكره ابن شهاب الزهري.
ثم قال ابن إسحاق بعد أن ذكر خبر إسلام أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أمية بن المغيرة المخزومي، وشعرا لأبي سفيان في إسلامه: ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فقلت: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها، حتى جئت الأراك فقلت لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فخرجهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه، قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له؛ إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان. وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، قال: يقول أبو سفيان
__________
1 أخرجه البخاري "4274".(2/136)
-رضي الله عنه: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: ويحك أبا سفيان! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله! قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمنه لك؛ فركب خلفي ورجع صاحباه. فقال: فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسبقته بما تبسق الدابة البطيئة الرجل البطيء، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: فقلت يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دوني. قال: فلما أكثر عمر -رضي الله عنه- في شأنه قلت: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت له هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب وأسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس إلى رحلك؛ فإذا أصبحت فأتني به" فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي. فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ " قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد، قال صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن أن تعلم أني رسول الله؟ " قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس -رضي الله عنه: ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق وأسلم.
قال العباس -رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا. قال صلى الله عليه وسلم: "نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"؛ فلما ذهب لينصرف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله تعالى،(2/137)
فيراها"، قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي؛ حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه، قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم. فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم ترم القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفذت القبائل، ما ترم قبيلة إلا سألني عنها؛ فإذا أخبرته بهم قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء.
قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها، قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار. لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قل: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذا. قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس1، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله؛ وما يغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوي2 وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة3 حمراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله -عز وجل- بحين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرجل.
ثم قال بعد أن ذكر شيئا من خبر أبي قحافة -رضي الله عنه- وإسلامه: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير شيبة، ومناشدة أبي بكر -رضي الله عنه- الناس في طوق أخته.
وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى أمر الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن يدخل بفي الناس من كذا، وكان الزبير -رضي الله
__________
1 في الأصل: "زق السمن"، والدسم: الكثير والودك. والأحمس: الذي لا خير عنده: من قولهم: عام أحمس إذا لم يكن منه مطرا.
2 ذي طوى بئر بأسفل مكة من ناحية الشمال، وهو بمحلة جرول معروف إلى الآن يغسل عنده حاج المغرب، وبعض الحجاج الذين على مذهب مالك عند دخولهم مكة.
3 الاعتجاز: التعميم بغير ذؤابة. والحبرة: ضرب من ثياب اليمن.(2/138)
عنه -على المجنبة اليسرى. وأمر سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أن يدخل في بعض الناس من كذا.
قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل المعلم أن سعدا -رضي الله عنه- حين وجه داخلا، قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين، قال ابن هشام: هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. فقال: يا رسول الله، اسمع ما قال لسعد بن عبادة، ما نأمن أن تكون له في قريش صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "أدركه، فخذ الراية، فكن أنت الذي تدخل بها".
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح في حديثه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم، وسليم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل من العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- بالصف من المسلمين، ينصب وضربت له هناك قبة.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، كانوا قد جمعوا ناسا بالخندقة2 ليقاتلوا؛ وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلح منه؛ فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: بمحمد وأصحابه. قالت: والله ما أراه يقوم بمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلون اليوم فما لي عله ... هذا سلاح كامل وآلة3
وذو غرارين سريع السلة
ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة؛ فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر -أحد بني محارب بن فهر- وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بن منقذ، وكانا في خيل خلاد بن الوليد -رضي الله عنه، فشذا عنه، فسلكا طريقا غير طريقه، فقتلا جميعا، قتل خنيس بن خالد قبل كرز بن جابر، فجعله كرز بن جابر بين رجليه، ثم قاتل
__________
1 جبل أذاخر: هو الجبل المشرف على المعابدة من ناحية الشمال.
2 جبل الخندمة: هو الجبل المشرف على سوق الليل، والمتصل بجبل أبي قبيس.
3 الآلة: جمع أداة الحرب.(2/139)
عنه حتى قتل، وهو يرتجز ويقول:
لقد علمت صفراء من بني فهر ... نقية الوجه نقية الصدر
لأضربن اليوم عن أبي صخر
قال ابن هشام: وكان خنيس بن خالد من خزاعة.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر قالا: وكان خنيس يكنى بأبي صخر.
وأصيب من جهينة، سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثنى عشر، أو ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا، فخرج حماس منهزما، حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته، أغلقي علي بابي قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة1 ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة ... ضربا فلا يسمع إلا غمغمة
لهم نهيت2 حولنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر قوله: كالمؤتمة: وتروي للرعاش الهذلي هذه الأبيات.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وحنين، والطائف شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى امرأته من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم، أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم ابن سعد أخو بني عامر بن لؤي: وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فارتد مشركا راجعا إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة، فاستأمن له؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صمت طويلا، ثم قال: "نعم" فلما انصرف عنه عثمان -رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حول من أصحابه: "لقد صمت ليقوم بعضكم
__________
1 "المؤتمة": الثكلى.
2 النهيت: زئير الأسد.(2/140)
فيضرب عنقه"؛ فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا، إن النبي، لا يقتل بالإشارة".
قال ابن هشام: ثم أسلم بعد؛ فولاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعض أعماله، ثم ولاه عثمان -رضي الله عنه- بعد عمر -رضي الله عنهم.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن خطل من بني تيم بن غالب؛ وإنما أمر بقتله إنه كان مسلما، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعص معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه، وكان مسلما، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا فيصنع له طعاما، فنام فاستيقظ، ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله. ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان: فرتني وصاحبتها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه.
والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، وكان ممن يؤذيه بمكة.
قال ابن هشام: وكان العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- حمل فاطمة، وأم كلثوم، بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بهما المدينة؛ فنخس بهما الحويرث بن نقيذ، فرمي بهما إلى الأرض.
قال ابن إسحاق: ومقيس بن صبابة؛ وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركا.
وسارة مولاة لبني عبد المطلب، وعكرمة بن أبي جهل، وكانت سارة ممن يؤذيه بمكة.
وأما عكرمة؛ فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، فخرجت في طلبه، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن حريث المخزومي، وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله -رجل من قومه- فقالت ابنه مقيس في قتله:
لعمري قد أخزي نميله رهطه ... وفجع أضياف الشقا بمقيس
فلله عينا من رأى مثل مقيس ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس
وأما قينتا ابن خطل، فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأمنها. وأما سارة فاستؤمن لها فأمنها. ثم بقيت حتى أوطأها رجل من(2/141)
الناس فرسا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالأبطح، فقتلها. وأما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي هند عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب أن أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها- قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم -وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي- قالت: فدخل علي علي بن أبي طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة، وإن فيها لأثرا لعجن، وفاطمة ابنته تستره بثوبه؛ فلما اغتسل صلى الله عليه وسلم أخذ ثوبه فتوشح به. ثم صلى ثمان ركعات في الضحى، ثم انصرف إلي، فقال: "مرحبا وأهلا بأم هانئ، ما جاء بك؟ " فأخبرته خبر الرجلين، وخبر علي -رضي الله عنه- فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أجزنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما".
قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به وسعى على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده؛ فلما قضي طوافة، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده، ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة، وقد استكف له الناس في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على باب الكعبة، فقال: "لاإله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة، أو دم، أو مال، يدعى به؛ فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا؛ ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب". ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] الآية كلها. ثم قال صلى الله عليه وسلم "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ " قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فقام إليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجمع لنا الحجابة مع السقاية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين عثمان بن أبي طلحة؟ " فدعي له، فقال صلى الله عليه وسلم "هاك مفتاحك يا عثمان، إن اليوم يوم بر ووفاء".(2/142)
قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي -رضي الله عنه- فلا أعطيكم ما ترزون، لا ما تزرون.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: "قاتلهم الله قد جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم، بالأزلام؟ " {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران] .
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بتلك الصورة كلها فطمست، قال ابن هشام: وحدثني أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال رضي الله عنه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف بلال؛ فدخل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على بلال فسأله: أين صلى الله عليه وسلم ولم يسأله كم صلى.
فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا دخل البيت مشي قبل وجهه وجعل الباب قبل ظهره حتى يكون بينه وبين الجدار ثلاث أذرع، ثم يصلي بنواحي الموضع الذي قال له بلال -رضي الله عنه.
وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال رضي الله عنه فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد بن الحارث بن هشام -رضي الله عنهم- جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد: لقدج أكرم أسيد ألا يكون سمع هذا فسمع منه مايغيظه. وقال الحارث بن هشام: أما والله لو علم أنه محق لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصاة.
فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد علمت الذي قلتم"، ثم ذكر ذلك لهم. فقال الحارث وعتاب رضي الله عنهما: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سندر الأسلمي عن رجل من قومه قال: كان معنا رجل يقال له أحمرا، وكان رجلا شجاعا، وكان إذا نام غط غطيطا منكرا لا يخفي مكانه، وكان إذا بات في جبة بات معتبرا؛ فإذا بيت الحي صرخوا يا أحمر، فيثور مثل الأسد لا يقوم لسبيله شيء، فأقبل أعرابي من هذيل يريدون حاضره، حتى إذا دنوا من الحاضر قال ابن الأثوع الهذلي: لا تعجلوا حتى انظر، فإن كان في الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم فإن له غطيطا لا يخفي. قال: فاسمع؛ فلما كان عام الفتح وكان العد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلي حتى ندخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس، وهو على شركه، فرأته خزاعة(2/143)
فعرفوه، فأحاطوا به، وهو إلى جنب جدار من جدر مكة، يقولون: أنت قاتل. قال: نعم، أنا قاتل أحمر. فعندئذ أقبل خراش بن أمية مشتملا على السيف؛ فقال هكذا عن الرجل، والله ما نظنه إلا أنه يريد أن يفرج الناس عنه فلما تفرجنا عنه حمل عليه فطنه بالسيف في بطنه؛ فوالله لكأني أنظر إليه وحوشته تسيل من بطنه، وإن عيينه ليريقان في رأسه وهو يقول: قد فعلتموها يا معشر خزاعة حتى أفجعت فوقع؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل إن نفع قتلتم قتيلا لأدينه".
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير، جئته فقلت له: يا هذا، إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة؛ فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رج لمن هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا فقال: "أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض؛ فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا. لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غصبا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس؛ فليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل فيها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله، ولم يحلها لكم، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، قد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه؛ فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله" 1.
ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتله خزاعة؛ فقال عمرو لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية، قال أبو شريح: إني كنت شاهدا، وكنت غائبا، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك، فأنت وشأنك.
قال ابن هشام: وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: جندب بن الأكوع، قتلته بنو كعب، فواده مائة ناقة.
قال ابن هشام: وبلغني عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار؛ فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه ولده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: "ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل صلى الله عليه وسلم بهم حتى أخبروه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم".
__________
1 أخرجه البخاري "4295".(2/144)
وحدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته؛ فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام، ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] . فما أشار صلى الله عليه وسلم إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعي:
وفي الأصنام معتبر وعلم
لمن يرجو الثواب أو العقابا
قال ابن هشام: وحدثني أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالبيت عام الفتح؛ فلما دنى منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضالة؟ " قال: نعم، فضالة يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "ماذا كنت تحدث به نفسك؟ " قال: لا شيء، أذكر الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "استغفر الله" ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده من صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
قال فضالة -رضي الله عنه-: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها؛ فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا. وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى علي الله والإسلام
كوما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الإصنام
لرأيت دين الله أصبح بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام
ثم قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بني سليم سبعمائة. ويقول بعضهم: آلأف، ومن بني غفار أربعمائة. ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار، وحلفائهم، وطوائف العرب، من بني تميم، وقيس، وأسد1.
ثم قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة.
قال ابن إسحاق: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان بسنة ثمان ... انتهى2، باختصار المواضع من إنباء خبر فتح مكة المشار إليه، ومن شعر تميم بن أسد، في اعتذاره، من فراره عن منبه، وشعر الأخرز بن لعيط الديلي، وما كان بين كنانة
__________
1 سيرة ابن هشام 4/ 95-106.
2 السيرة 4/ 13.(2/145)
وخزاعة في تلك الحرب، وشعر لبديل بن عبد مناة، ويقال: له بديل بن أم صرم، أجاب به الأخرز بن لعيط، وشعر حسان بن ثابت، -رضي الله عنه- في المعنى1.
وخبر إسلام أبي سفيان بن الحارث بنعبد المطلب في إسلامه2 وخبر أبي قحافة والد أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- يوم الفتح وإسلامه3، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير شيبته، ومناشدة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في طوق أخته، كما سبق بيانه، وغير ذلك من الأشعار التي استشهد بها ابن هشام على بعض ما فسره من الشعر. واختصرنا أيضا من خبر الفتح ما قيل من الأشعار في الفتح، وغيره ذلك.
__________
1 السيرة 4/ 85.
2 السيرة 4/ 88 و89.
3 السيرة 4/ 91.(2/146)
ذكر فوائد تتعلق بخبر فتح مكة:
هذه الفوائد بعضها يخالف ما ذكرناه عن ابن إسحاق وابن هشام من خبر الفتح، وبعضها يوضح بعض أبهمه ابن إسحاق، وابن هشام، في ذلك.
منها: أن موسى بن عقبة ذكر في "مغازيه" ما يقتضي أن إغارة بني كنانة على خزاعة التي هي سبب فتح مكة كانت بعرفة؛ لأنه قال فيما رويناه عنه في "مغازيه" فتح مكة: ثم إن بني نفاثة من بني الديل، أغاروا على بين كعب وهم بعرفة ... انتهى. وهذا يخالف ما ذكره ابن إسحاق؛ لأنه قال: ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على مائهم بأسفل مكة، يقال له: الوتير ... انتهى. وإذا كان الوتير بأسفل مكة، كما هو مقتضى هذا الخبر، فهو غير عرفة، والله أعلم بالصواب.
وأفاد السهيلي سبب تسميته الوتير؛ لأنه قال: والوتير في اللغة الورد الأبيض، وقد يكون منه بريئا، فيحتمل أن يكون هذا الماء سمي به1 ... انتهى.
ولا منافاة بين قول ابن عقبة: "ثم إن بني نفاثة من بني الديل أغاروا على بني كعب" وبين قول ابن إسحاق: "ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة" لأن بني الديل الذي منه بنو نفاثة، هو الدول بن بكر بن كنانة، على ما ذكر ابن البطاح عن أبي اليقظان، كما حكي عنه الحازمي؛ ويدل لذلك قول ابن إسحاق فيما بعد: فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل ... انتهى.
وذكر ابن إسحاق ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، من نسبة هذه الإغارة إلى بني نفاثة؛ لأنه أنشد أبياتا لتميم بن أسد أولها:
لما رأيت بني نفاثة أقبلوا ... يغشون كل وتيرة وحجاب
__________
1 الروض الأنف 4/ 197.(2/146)
ومنها: أن ابن عقبة بين البيت من خزاعة؛ لأنه قال فيما رويناه عنه: فأغارت بنو الديل على بني عمرو وعامتهم فيما زعموا؛ نساء وصبيانا وضعفه الرجال، فبيوتهم وقتلوا منهم، حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء بمكة ... انتهى.
وبنو عمرو هؤلاء من بني كعب؛ لأن ابن عقبة قال فيما سبق: ثم إن بني نفاثة من بني الديل أغاروا على بني كعب ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين من رفد كنانة من قريش، وقاتل معهم؛ لأنه قال: ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معه من قريش من قاتل بالليل مستخفيا ... انتهى.
وقد بين ذلك ابن عقبة؛ لأنه قال: ويذكر أن ممن أعانهم من قريش: صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو ... انتهى.
وبين ذلك ابن سعد أيضا، وأفاد في ذلك ما لم يفده ابن عقبة؛ لأنا روينا عن الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس في "سيرته" بعد ذكره لقول ابن إسحاق: ورفدت بني بكر قريشا بالسلاح، ذكر ابن سعد منهم: صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف ... انتهى. ولا منافاة بين ما ذكره ابن عقبة وابن سعد فيمنأعان من قريش بني بكر لإمكان أن يكون الذين ذكرهم ابن عقبة وابن سعد أعانوا بن بكر، وذكر ابن عقبة بعضهم، وابن سعد بعضهم، ويكون المعين لبني بكر من قريش خمسة نفر، على مقتضى ما ذكر ابن عقبة وابن سعد، والله أعلم.
ومنها أن قريشا رفدت بني كنانة بدقيق، أفاد ذلك ابنه عقبة؛ لأنه قال: وأعانتهم قريش بالسلاح والدقيق ... انتهى. وهذا لا يفهم مما ذكره ابن إسحاق.
ومنها: أن الفاكهي ذكر خبرا يوهم أن سبب فتح مكة غير ما سبق؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: وكانت خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأصابت بنو بكر منهم قتيلا: فقالت بنو بكر لقريش: لا تسلموا بني عمكم، فكلم بديل بن ورقاء قريشا فقالوا: لا تسلمه فركب بديل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يصدقه، وأرسل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم طليعة يستطلعهم، قال: فجاء به بديل بن ورقاء، فجعل يقف به على قريش ويكلمهم، فقالوا: قد عرفنا(2/147)
إنما أنت مستطلع؛ فوالله لا نسلمهم. فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، فأنشأ حينئذ يتجهز لنصر حلفاته1.
ومنها: أن ابن سعد ذكر أنه خرج مع عمرو بن سالم الخزاعي لإعلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعل كنانة، فيهم أربعون راكبًا؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحق؛ لأنه قال: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العهد والميثاق، بما استحلوا من خزاعة، كانوا في عقد وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي -أحد بني كعب- حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ... انهى.
وكلام ابن سعد رويناه في "السيرة" لابن سيد الناس؛ لأنه قال: بعد أن ذكر كلام ابن إسحاق هذا بعد قوله: خرج عمرو بن سالم الخزاعي، قال ابن سعد: في أربعين راكبًا، قال ابن سيد الناس بعد ذكره لقول ابن إسحق فيما بعد: "ثم خرج بديل بن ورقاء وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم ... انتهى.
قلت: لعل الأربعين راكبًا الذين ذكر ابن سعد قدومهم من خزاعة مع عمرو سالم هو هؤلاء ... انتهى2.
ومنها: أن ابن عقبة ذكر في جواب أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- لأبي سفيان بن حرب -رضي الله عنه- حين سألهما أن يكلما له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء له -غير ما ذكره ابن إسحق؛ لأنه -أعني ابن عقبة- قال: فخرج -يعنى أبو سفيان- من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتي أبا بكر -رضي الله عنه- فقال: جدد العقد، وزد في المدة؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه- جواري في جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. ثم خرج فأتي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكلمه؛ فقال عمر -رضي الله عنه: ما كان من حلفنا جديدًا فأخلقه الله، وما كان منه متينًا قطعه الله، وما كان منه مقطوعًا فلا وصله الله. فقال أبو سفيان: جزاك الله من ذي رحم شرًا ... انتهى.
وإنما كان هذا مخالفًا لما ذكره ابن إسحق من جواب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- لأبي سفيان؛ لأنه قال: ثم خرج -يعني أبو سفيان- حتى أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلمه، فلم يرد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فكلمه في أن يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فقال: ما أنا لفاعل، ثم أتي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكلمه
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 207.
2 عيون الأثر: 2/ 165.(2/148)
فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ... انتهى.
ومخالفة هذا لما ذكره ابن عقبة ظاهرة؛ لأن ابن عقبة جعل جواب أبي بكر جواب عمر الذي ذكره ابن إسحق وإن اختلف لفظهما، فالمعنى واحد. وجعل جواب عمر -رضي الله عنه- غير ما ذكره ابن إسحق، والله أعلم بالصواب.
وذكر الفاكهي خبرًا فيه ما يدل لما ذكره ابن عقبة من جواب عمر لأبي سفيان -رضي الله عنه1.
ومنها: أن كلام ابن إسحق يقتضي أن أبا سفيان بعد جواب عمر -رضي الله عنه- له لما ذكره، سأل عليًا بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يجير بين الناس، وأن عليًا -رضي الله عنه- أجابه بعد الاستطاعة، وأن أبا سفيان سأل بعد ذلك فاطمة الزهراء ابنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تأمر ابنها الحسن بن علي -رضي الله عنه- أن يجير بين الناس، وأن فاطمة -رضي الله عنها- أجابته أن ابنها ما بلغ أن يجير بين الناس، وما أحد يجير على رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ وذلك يخالف ما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال بعد ذكره لجواب عمر -رضي الله عنه- بما سبق: ثم دخل على عثمان -رضي الله عنه- فقال عثمان -رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أتبع أشراف قريش والأنصار فكلمهم، فكل يقول: عقدنا في عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما أيس مما عندهم دخل على فاطمة ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمها، فقالت: إنا أنا امرأة؛ وإنما ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال: فأمري أحد ابنتيك، فقالت: إنهما صبيان ليس مثلهما يجير. قال: فكلمي عليًا، قالت: أنت تكلمه، فكلم عليًا -رضي الله عنه، فقال: يا أبا سفيان، إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله يقتات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بجوار ... انتهى.
ووجه مخالفة هذا لما ذكره ابن إسحق أنه يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- كلم عثمان، ثم أشراف قريش، والأنصار، ثم فاطمة -رضي الله عنها، أن يجيروا قبل أن يكلم عليًا في ذلك، وكلام ابن إسحاق يقتضي خلافه، والله أعلم.
وذكر الفاكهي خبرًا فيه ما يدل لما ذكره ابن عقبة من سؤال أبي سفيان لفاطمة -رضي الله عنها، فيما يصلح به الإصلاح بين الناس.
ومنها: أن الفاكهي ذكر خبرًا يوهم أن أبا سفيان لم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-
فيما جاء له من تجديد الحلف والإصلاح بين الناس؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن إدريس بن عمر من كتابه، قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة ...
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 209.(2/149)
فذكر خبرا يقتضي موادعة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ودخول خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخول بني بكر في صلح قريش، وما كان بين خزاعة وبني بكر بعد ذلك من القتال، وإعانة قريش لهم بالسلاح والطعام، وتخوف قريش أن يكونوا قد نقضوا، وإرسالهم أبا سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجدد الحلف، ويصلح بين الناس، وقدوم أبي سفيان إلى المدينة، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الحلف، ويصلح بين الناس، وقدوم أبي سفيان إلى المدينة، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أبو سفيان فيرجع راجيا بغير حاجة. قال: فأتى أبا بكر -رضي الله عنه- فقال: يا أبا بكر، جدد الحلف وأصلح بين الناس، أو قال: بين قومك؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه: الأمر إلى الله تعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال له فيما قال: إن أعانوا قوما على قوم وأمدوهم بسلاح وطعام ما إن يكونوا نقضوا1؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه: الأمر إلى الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم2 ... انتهى.
ومنها: أن الفاكهي ذكر ما يوهم أن قدوم أبي سفيان بن حرب المدينة لتجديد الحلف والإصلاح بين الناس كان قبل قدوم وافد خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، لإعلامه بما كان من قتال بني بكر لهم، ومعاونة قريش عليهم؛ لأن في الخبر السابق بعد ذكر إتيان أبي سفيان لعمر، وقوله له نحوا مما قال لأبي بكر، وجواب عمر لأبي سفيان بنحو من جوابه الذي أجابه، على نحو ما ذكره ابن عقبة، وإتيانه لفاطمة -رضي الله عنها- له: ليس الأمر إلي، وإتيانه عليا -رضي الله عنه، له بالجيرة بين الناس: ثم انطلق -يعني أبو سفيان- حين3 قدم مكة، فأخبرهم بالذي صنع؛ فقالوا: ما رأينا كاليوم وافد عشيرة، والله ما أتيتنا اليوم بحرب فنحذر، ولا أتيتنا اليوم بصلح فنأمن، ارجع. قال: وقدم وافد خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي صنع القوم، ودعاه إلى النصر، وأنشد في ذلك شعرا4 ... انتهى.
ومنها: أنابن عقبة ذكر ما يوهم أن بين خروج أبي سفيان إلى المدينة، وتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة مدة طويلة؛ لأنه قال بعد أن ذكر خروج أبي سفيان إلى مكة ووصوله إليها، وحلقه رأسه عند الصنمين اللذين عند الكعبة، ليرى الناس أنه على الدين الذي كان عليه؛ لأن الناس تحدثوا حين طال مكثه أنه قد أسلم، فمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما شاء الله أن يمكث، بعدما خرج من عنده أبو سفيان، ثم اعتد في الجهاد ... انتهى.
وهذا لا يفهم من كلام ابن أسحاق، والله أعلم بالصواب.
__________
1 كذا بالأصل، وبأخبار مكة للفاكهي 5/ 209.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 208.
3 كذا في النسخ، والظاهر أنه: "حتى".
4 اخبار مكة للفاكهي 5/ 208-209.(2/150)
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع علي، الزبير بن العوام -رضي الله عنهما- لإحضار كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين بمكة، يخبرهم فيه بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.
وذكر الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري في "المبهمات" خبر كتاب حاطب، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لطلب الكتاب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- وفي الخبر الذي ذكره الحافظ عبد الغني أمور لا تفهم من الخبر الذي ذكره ابن إسحاق في ذلك؛ فنذكره لمافيه من الفائدة. قال الحافظ عبد الغني بعد أن ذكر حديثين ليس فيهما بيان ما تعرف به المرأة التي حملت كتاب حاطب: هذه المرة الحاملة لكتاب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- هي أم سارة، مولاة لقريش، والحجة في ذلك ما حدثنا به يعقوب بن المبارك، أن محمد بن جعفر بن أعين حدثهم، قال: حدثنا الحسن بن بشر بن مسلم الكوفي سنة عشرين، قال: أخبرنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس -رضي الله عنه- قال: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة، إلا أربعة من الناس: عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة الكناني، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأم سارة، ثم قال بعد أن ذكر خبر ابن خطل، وابن أبي سرح، ومقيس بن صبابة: وأما أم سارة فإنها كانت مولاة لقريش، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئا ثم أتاها رجل فدفع إليها كتابا إلى أهل مكة، يتقرب بذلك إليهم ليحفظه في عياله، وكان له بها عياله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فبعث في أثرها عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- فلحقاها، ففتشاها، فلم يعثرا على شيء معها، فأقبلا راجعين؛ فقال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، ارجع بنا إليها، فرجعا إليها، فسلا سيفيهما، وقالا: والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن إلين الكتاب؛ فأنكرت. ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا ترادني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلا ذلك منها، فحلت عقاص رأسها، فأخرجت الكتاب من قرن من قرونها، فدفعته إليهما، فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعاه إليه ... انتهى باختصار.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق لا يفهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث يطلب كتاب حاطب مع علي -رضي الله عنه، غير الزبير بن العوام -رضي الله عنه، لقوله وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء، بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- ... انتهى.
وذكر البخاري ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع علي والزبير -رضي الله عنهما- أبا مرثد؛ وذكر ذلك في كتاب "استتابه المرتدين" في باب ما جاء في المتأولين؛ لأنه روي عنه بسنده إلى أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، أنه(2/151)
قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير وأبا مرثد، وكلنا فارس. قال "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ" 1.
وذكر البخاري -أيضا- ما يفهم منه غير ما ذكر في هذا الباب؛ لأنه روي بسنده عن عبيد الله بن أبي رافع، سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد؛ فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ" ... فذكر القصة، وهذا الحديث أخرجه في باب غزوة الفتح من كتاب المغازي2.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن المرأة التي معها كتاب حاطب بن أبي بلتعة أخرجته لعلي -رضي الله عنه- ومن معه من قرون رأسها؛ فاستخرجت الكتاب منها، فدفته إليه ... انتهى.
وذكر ابن إسحاق قبل ذلك ما يدل له، وذكر ابن عقبة ما يوافق ما ذكره ابن إسحاق، وذكر البخاري أيضا ما يوافق ذلك؛ لأن في الحديث الذي رواه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي -رضي الله عنه: فأخرجته من عقاصها3، وذكر البخاري ما يقتضي أنها أخرجته حجزتها4؛ لأن في الحديث الذي رواه في كتاب "استتابة المرتدين" الذي فيه ذكر أبي مرثد: "فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الصحيفة".
وذكر مثل ذلك في الحديث الذي أخرجه في باب "فضل من شهد بدرا" من رواية أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي -رضي الله عنه- وفيه ذكر أبي مرثد -رضي الله عنه- وقوله في هذين الحديثين: أخرجته من حجزتها بكساء، يقتضي أنها أخرجته من وسطها؛ لأن الكساء لا يحتجز به في الرأس لكبره؛ وإنما يحتجز به في الجسد لستره البدن؛ وذلك يخالف ماذكره ابن إسحاق من أنها أخرجته من قرون رأسها، ويخالف أيضا ما ذكره البخاري من حديث عبيد اللهبن ألأبي رافع عن علي -رضي الله عنه.
ومنها: أنه ابن إسحاق ذكر أن اسم المرأة التي حملت كتاب حاطب: سارة، وزعم لي غيره أنها مولاة لبعض بني عبد المطلب ... انتهى. وقد سبق في الحديث الذي
__________
1 روضة خاخ: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد "معجم البلدان 3/ ولعلها قرب الموضع المسمى بالحمراء في طريق المدينة-مكة".
2 أخرجه البخاري "4274".
3 العقاص: جمع عقصة أو عقيصة، وهي الضفيرة من الشعر إذا لوى وجعل قبل الرمانة أو لم تلو.
4 الحجزة: يقال: احتجز الرجل: إذا شد إزاره على وسطه، والحجزة: موضع الشد.(2/152)
سبق ذكره عن الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، أن حاملة كتاب حاطب أم سارة، مولاة لقريش. وقد سبق ذكر ذلك قريبا.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم المرأة المزنية التي قيل إنها حملتة كتاب حاطب؛ لقوله: ثم أعطاه امرأة، يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ... انتهى.
وقد بين ذلك الحافظ مغلطاي في "سيرته"؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: فكتب حاطب كتابا، وأرسله مع أم سارة المزنية حاملة كتاب حاطب، وفي هذا ما يفهم منه خلاف ما في الصحيحين.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر في الموضع الذي أدركت فيه المرأة حاملة كتاب حاطب فما يفهم منه خلاف ما في صحيح البخاري؛ لأن ابن إسحاق قال: فخرجا يعني عليا والزبير -رضي الله عنهما- حتى أدركاها بالخليفة خليفة1 بني أحمد ... انتهى.
والذي في البخاري عن علي -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير والمقداد -رضي الله عنهما، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب"، قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة؛ فإذا نحن بالظعينة. انتهى باختصار، وذكر البقية من القصة. أخرج هذا الحديث في غزوة الفتح، وأخرج مثله في تفسير سورة الممتحنة، وفي "باب فضل من شهد بدرا" إلا أن في الحديث الذي أخرجه في هذا الباب2: أبا مرثد بدل المقداد، وأخرج مثل ما في هذا الباب في باب ما جاء في المتأولين في كتاب استتابة المرتدين؛ إلا أن أبا عوانة روى الحديث الذي أخرجه في "باب ماجاء في المتأولين" قال: حاج، بدل خاخ. ثم قال البخاري بعد تمام الحديث: خاخ أصح. ولكن كذا قال أبو عوانة: حاج وخاخ تصحيف، وهو موضع. وابن هشام يقول: خاخ ... انتهى.
وخاخ الذي أشار إليه البخاري أنه أصح بخاءين معجمتين، وخاخ الذي أشار إلى أنها تصحيف بحاء مهملة وألف وجيم؛ ذكر ذلك الحافظ أبو ذر الهروي؛ لأنه قال في أثناء حديث أبي عوانة: حاج بحاء مهملة وجيم، كذا الرواية هنا، والصواب بخاءين معجمتين؛ هكذا وجدته منقولا عن أبي ذر بخط بعض المحققين.
وذكر ابن عقبة: أن عليا والزبير -رضي الله عنهما- أدركا المرأة -حاملة كتاب حاطب- ببطن ريم3 لأنه قال: فانطلقا حتى أدركا المرأة ببطن ريم ... انتهى.
__________
1 الخليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال كما في ياقوت.
2 الحديث أخرجه البخاري "3985".
3 ريم: واد قرب المدينة.(2/153)
وذكر القاضي عياض في "المشارق" أن ريم على أربعة برد من المدينة على ما قال مالك، وقيل: ثلاثين ميلا، كما في مصنف عبد الرزاق، وأن روضة خاخ موضع بحمراء الأسد من المدينة. وحكى العابدي أنه موضع قريب من مكة، والأول أصح1 ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر ما في كتاب حاطب من اللفظ الذي عبر به عن المعنى الذي أخبر به أهل مكة، وقد ذكر السهيلي شيئا في بيان ذلك؛ لأنه قال: "فضل في ذكر كتاب حاطب إلى قريش"، ثم قال: وقد قيل: إنه كان في الكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو صار إليكم وحده لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده2.
وفي تفسير ابن سلام أنه كان في الكتاب الذي كتبه حاطب: إن محمدا قد نفر إما إليكم، وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم اليوم الذي خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لقوله: وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر مضين من شهر رمضان ... انتهى.
وبين ذلك الحاكم النيسابوري فيما نقله عنه الحافظ مغلطاي في "سيرته"؛ لأنه قال: وخرج من المدينة في عشرة آلاف رجل، وقال الحاكم: في اثنى عشر، يوم الأربعاء، بعد العصر لعشر مضين من رمضان ... انتهى.
وذكر الأزرقي عن الواقدي ما يوافق ما ذكره الحاكم، وسيأتي ذلك -إن شاء الله- فيما بعد، عند طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في خروجه إلى مكة حتى بلغ الكديد لقوله: فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه؛ حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر ... انتهى.
وذكر الفاكهي خبرين يقتضيان خلاف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا أبو بشر برك بن خلف، قال: حدثنا ابن عدي، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح حتى بلغ عسفان3.
وقال أيضا: حدثنا هارون بن موسى المروزي قال: حدثني إبراهيم، وحدثنا محمد بن يحيى الرماني: وحسين بن حسن المروزي، قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي
__________
1 المشارق 1/ 250، وفيه: وحكى الصابوني أنه موضع قريب من منى.
2 الروض الأنف 4/ 97.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210.(2/154)
جميعا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح؛ فصام حتى بلغ كراعة الغميم1، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا صلى الله عليه وسلم بقدح من ماء بين الصلاتين فشربه، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعض الناس، وصام بعضهم. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناسا صاموا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أولئك العصاة" ثلاث مرات2 ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين الوقت الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه مر الظهران، وقد بين ذلك ابن سعد، مع أمرين آخرين لا يفهمهما كلام ابن إسحاق؛ لأن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس قال في "سيرته" فيما أخبرت به عنه: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران3، وقال ابن سعد: نزله عشاء؛ فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار. وجعل على الحرس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه4 ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أإن بديل بن ورقاء هو القائل لأبي سفيان لما تعجب مما رآه من النيران والعسكر بمر الظهران: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب. وكلام ابن عقبة يقتضي أن أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، قالوا ذلك. وأنهم قالوا في ذلك غيره؛ وذلك أرضا لا يفهم من كلام ابن إسحاق؛ لأن ابن عقبة قال: وبعثت قريش أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وخرج معهما بديل بن ورقاء، فاطلعوا على مر الظهران حتى بلغوا الأراك؛ وذلك عشاء، فإذا النيران والفساطيط، والعسكر، وسمعوا صهيل الخيل فراعهم ذلك، وفزعوا؛ فقالوا: هذه بنو كعب حمشتها5 الحرب ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: هؤلاء أكثر من بني كعب، ثم قالوا: فلعلكم هوازن انتجعوا أرضنا، ولا والله ما يعرف هذا أيضا ... انتهى.
وذكر الفاكهي في الخبر الذي رواه عن محمد بن إدريس بن عمر -المشار إليه- ما يقتضي أن أبا سفيان لما سأل عن العسكر والنيران، قيل له في ذلك غير ما سبق؛ لأنه قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فارتحلوا؛ فسار حتى نزلوا مر، قال: وجاء أبو سفيان ليلا؛ فرأى العسكر والنيران، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: هذه تميم، أمحلت بلادها، وانتجعت بلادكم، قال: هؤلاء والله أكثر من أهل منى، أو قال: مثل أهل منى6 ... انتهى.
__________
1 كراع الغميم: بالضم، موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة "معجم البلدان 4/ 443"، ويقال له اليوم: كراع فقط، وهو موضع مشهور حتى الآن بهذا الاسم وهو في طريق مكة-المدينة.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210.
3 عيون الأثر 2/ 168.
4 الطبقات الكبرى 2/ 157.
5 حمشتها: حرضتها.
6 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210-211.(2/155)
ومعنى قوله في هذا الخبر: هؤلاء والله أكثر من أهل منى: شبههم في الكثرة بالحجاج الذين ينزلوا بمنى، وليس المراد من ذلك أهل منى الذين هم سكانها دائما لقلتهم، والله أعلم.
وفي البخاري ما يقتضي أن أبا سفيان شبه ما رآه من النيران بمر الظهران بنيران عرفة، وسيأتي ذلك قريبا، ومراد أبي سفيان بنيران عرفة النيران التي يوقدها الحجاج بعرفة لكثرتهم، والله أعلم.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان لم يعلم بخبر ما رأى بمر الظهران من العسكر إلا من العباس -رضي الله عنه؛ لأنه قال بعد أن ذكر خروج العباس -رضي الله عنه- عن العسكر رجاء أن يجد من يبعثه إلى أهل مكة ليعلمهم الخبر؛ حتى يخرجوا فيستأمنوا لأنفسهم، ومحاورة أبي سفيان وبديل فيما رأيا من النيران والعسكر، قال: فعرفت صوته -يعني أبا سفيان- فقلت: يا أبا حنظلة؛ فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟! قلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي، قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان. فأخبره العباس الخبر ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان لما علم من العباس -رضي الله عنه- بما رآه وتعجب منه من العسكر والنيران استشار العباس -رضي الله عنه- فيما يصنع؛ فأشار إليه العباس -رضي الله عنه- بأن يذهب معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنه له؛ ففعل أبو سفيان ذلك. وكلام ابن عقبة يقتضي أن أبا سفيان ومن معه أخذوا قهرا، وذهب بهم إلى العسكر فلقيهم العباس -رضي الله عنه- وأجارهم؛ لأنه قال: بعد أن ذكر قول أبي سفيان، وحكيم وبديل فيما رأوه من العسكر والنيران بمر الظهران: فبينما هم كذلك لم يشعروا حتى أخذهم نفر، كان بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش، نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟ فلما دخل بهم إلى العسكر، لقيهم العباس -رضي الله عنه- فأجارهم؛ فقال: يا أبا حنظلة ثكلتك أمك وعشريتك؛ هذا محمد رسول الله وجميع المؤمني، فأدخلوا فأسلموا ... انتهى. وفي هذا موافقة لما في الخبر الذي ذكره الفاكهي من أن أبا سفيان علم خبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير العباس -رضي الله عنه1.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 211.(2/156)
وذكر البخاري ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، من أخذ حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان، وحكمي، وبديل؛ لأنه قال: "باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ ": حدثني عبيد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبلغ ذلك قريشا، خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة؛ فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بن عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك؛ فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1 ... انتهى باختصار.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يوهم أن حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، لم يحضرا مع أبي سفيان عند النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، لقوله بعد أن ذكر ركوب أبي سفيان خلف العباس -رضي الله عنه: ورجع صاحباه، وكلام ابن عقبة يقتضي أنهما حضرا مع أبي سفيان عند النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران؛ لأنه قال تلو قوله: فادخلوا، فأسلموا، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثوا عنده عامة الليل يحادثهم ويسألهم، ثم دعاهم إلى الإسلام؛ فقال: "اشهدوا أن لا إله إلا الله" فشهدوا، ثم قال: "اشهدوا أني محمد رسول الله"؛ فشهد حكيم وبديل -رضي الله عنه- انتهى.
وذكر ابن عقبة في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن من دخل دار حكيم بن حزام، قال: ودار حكيم بأسفل مكة ... انتهى. ولعلها بالموضع المعروف بالحزامية، بقرب الخزورة، والله أعلم.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان إنما أسلم في صبيحة الليلة التي حضر فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم إن لا إله إلا الله؟ " إلى أن قال: فشهد شهادة الحق وأسلم ... انتهى.
وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: فلما نودي للصلاة تبادر الناس ففزع أبو سفيان؛ فقال للعباس -رضي الله عنه: ما تريدون؟ قال: الصلاة، ورأى الناس يتلقون وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما رأيت ملكا قط كالليلة، ولا ملك كسرى، ولا ملك قيصر، ولا بني الأصفر2؛ فسأل العباس -رضي الله عنه- أن يدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخله، فقال: يا محمد قد استنصرت إلهي، واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من
__________
1 أخرجه البخاري "4280".
2 بنو الأصفر: وهم الروم وملكهم هو القيصر.(2/157)
مرة إلا ظهرت علي؛ فلو كان إلاهي محقا، وإلهك مبطلا لقد غلبتك؛ فشهد أن محمدا رسول الله ... انتهى.
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- أسلم ليلا؛ لأنه قال في الخبر الذي رواه عن ابن إدريس تلو قوله: فأخبره العباس -رضي الله عنه- الخبر، وانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة لم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا سفيان أسلم تسلم" قال: فكيف أصنع باللات والعزى؟ قال أيوب: فحدثني أبو الخليل عن سعد بن جبير، قال: فقال له عمر -رضي الله عنه- وهو خارج من القبة في عنقه السيف: اخرا عليها، أما والله لو كنت خارجا من القبة ما قلتها أبدا. فقال أبو سفيان: من هذا؟ قالوا: عمر، ثم رجع إلى حديث أيوب عن عكرمة، قال: فأسلم أبو سفيان -رضي الله عنه-، وانطلق به العباس -رضي الله عنه- إلى منزله، فلما أصبحوا ثار الناس لظهورهم، فقال أبو سفيان -رضي الله عنه-: يا أبا الفضل أو أسر الناس في بشيء؟ قال: لا، ولكنهم قاموا إلى الصلاة ... انتهى باختصار.
ومنها: أن كلام بان إسحاق لا يفهم السبب الذي لأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس -رضي الله عنه- أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عنه خطم الخيل حتى تمر به جنود الله. وقد ذكر الفاكهي شيئا يدل على بيان سبب ذلك؛ لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن: حدثنا علي بن عاصم، عن حصين عن عبيد الله بن معبد الله، قال: فلما جعل أبو سفيان -رضي الله عنه- يساير العباس بن عبد المطلب رأى من الناس انتشارا، والناس في حوائجهم بحضرة عدوة. قال: فبهؤلاء يريد أن يغلبني ويقتلني محمد. قال: يا عباس أنبئني من خلق السماء؟ قال: الله، قال: فأنبئني من خلق الأرض؟ قال: الله. وجعل يسأله عن أشياء نحوها؛ فعرف أن الإسلام لم يدخل قلبه، فتخلف عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "ادع لي خالد بن الوليد"، فدعى له، وهو على مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "يا خالد"، قال: لبيك يا رسول الله، قال: "أضم إليك الخيل"؟ قال: نعم، فضم إليه الخيل قال: "ادعوا لي أبا عبيدة بن الجراح" فدعى له، فقال: "يا أبا عبيدة أضم إليك الناس؟ " قال: نعم. فضم إليه الناس، قال: وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضعفاء، وفي المشاة، وفي الردافي؛ فقال للعباس -رضي الله عنه- فوقف بأبي سفيان في المكان الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يحدثه إذ أقبل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في الخيل؛ فلما رآهم أبو سفيان -رضي الله عنه- في الخيل قال: يا عباس! أفي هؤلاء محمد؟ قال: لا، هذا خالد بن الوليد، هذا سيف الله. قال: فمضى خالد في خالد. ثم أقبل أبو عبيدة بالناس، فلما رآهم قال: يا عباس! أفي هؤلاء محمد؟ قال: لا، هذا أبو(2/158)
عبيدة بن الجراح، هذا أمين الله على الناس. قال: فمضى أبو عبيدة في الناس، ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم في الردافي، والمشاة، وضعفاء الناس؛ فلما رآهم عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فقال: يا عباس! هذا محمد؟ قال: نعم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله -عز وجل- قد أرعبه، وأنه يسأل الأمان. قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" 1 ... انتهى.
وذكر ابن عقبة ما يدل لسبب حبس أبي سفيان، حتى تمر عليه جنود الله -عز وجل- وأفاد فيما ذكره بيان الموضع الذي حبس فيه؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحاق؛ لأنه قال: فلما توجهوا -يعني أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء- ذاهبين. قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس إني لا آمن أبا سفيان أن يرجع عن الإسلام، فيكفر، فاردده حتى يفقه ويرى من جنود الله تعالى معك"؛ فأدركه العباس -رضي الله عنه- فحبسه. فقال أبو سفيان -رضي الله عنه: أغدرا يا بني هاشم؛ قال: ستعلم أنا لسنا نغدر، ولكن لي إليك حاجة، فأصبح حتى تنظر إلى جنود الله، وإلى ما أعد الله للمشركين. فحبسهم بالغميم2 دون الأراك إلى مكة حتى أصبحوا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: لتصبح كل قبيلة قد ارتحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته، وتظهر ما معها من العدة، فأصبح الناس على ظهر، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه الكتائب؛ فمرت كتيبة على أبي سفيان -رضي الله عنه- فقال: يا عباس! أفي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قال: فمن هؤلاء؟ قال: قضاعة، ثم مرت القبائل على راياتها؛ فرأى أمرا عظيما رعبه الله به ... انتهى.
وهذا يقتضي أن يكون الغميم دون مر الظهران إلى مكة؛ لأن أبا سفيان -رضي الله عنه- حبس بالغميم ليرى ما أعز الله -تعالى- به الإسلام من الجنود، والجنود مرت عليه بالغميم؛ بعد توجهها من مر الظهران إلى مكة، فيكون الغميم بين مر الظهران ومكة.
وإنما ذكرنا ذلك؛ لأن كلام النووي يقتضي أن يكون بين مر الظهران وعسفان؛ لأنه قال: كراع الغميم -هو بضم الكاف- والغميم -بفتح الغين وكسر الميم- وهو واد بين مكة والمدينة، بينه وبين مكة مرتحلتين، وهو أمام عسفان بثمانية أميال، يضاف إليه هذا الكراع، وهو جبل أسود بطرف الحرة يمتد إليه، ونقل أن صاحب "المطالع" أنه بضم الغين وفتح الميم، ثم قال: قلت: هذا تصحيف ... انتهى.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 211-213.
2 الغميم: بفتح أوله وكسر ثانيه، كراع الغميم: إليه منسوب، وهو بجانب المراض، والمراض بين رابغ والحصفة "معجم ما استعجم 3/ 1006".(2/159)
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي سفيان في كتيبة الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار؛ لأنه قال: بعد قوله فيقول: ما لي ولبني فلان؛ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار؛ وذلك يخالف ما في "صحيح البخاري"؛ لأن فيه أن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بنم عبادة -رضي الله عنه- ومعه الراية، قال: ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة أخرى هي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير -رضي الله عنه، كذا وقع عند جميع الرواة، وروى الحميدي في كتابه: هي أقل الكتائب، وهو الأظهر كما قال الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس على ما أخبرت به عنه في "سيرته"، ومنها نقلت ما ذكرناه عن البخاري والحميدي، وقوله في البخاري: ثم جاءت كتيبة، وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأخرج البخاري ذلك في الباب الذي ترجم عليه بقوله: "باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح"1.
وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن كتيبة الأنصار حين مروا بأبي سفيان -رضي الله عنه- كانت مع سعد بن عبادة -رضي الله عنه؛ لأنه قال: ومرت الكتائب تتلو بعضها بعضا على أبي سفيان، وحكيم، وبديل، لا ترم عليهم كتيبة إلا سألوا عنها، حتى مرت كتيبة الأنصار، فيهم سعد بن عبادة ... انتهى.
ووقع في نسختي من "مغازي" موسى بن عقبة: وابن حكيم، والصواب: وحكيم بإسقاط "بن"؛ لأن الكلام لا يستقيم إلا بإسقاط: "بن"، والله أعلم.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن المهاجرين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين مر بأبي سفيان -رضي الله عنه، وكلام ابن عقبة يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال بعد قوله السابق: رعبه الله به، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام -رضي الله عنه- على المهاجرين، وخيلهم ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- بعد أن أطلقه العباس -رضي الله عنه، أبلغ أهل مكة تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لمن دخل دار أبي سفيان، ومن أغلق عليه بابه، ومن دخل المسجد2.
__________
1 عيون الأثر 2/ 170.
2 كان ذلك إبقاء من الرسول العظيم على مجد زعيم ألقي السلاح، وهي حكمة جليلة، ودليل تسامح ما بعده من تسامح، وهذه هي شريعة الإسلام؛ فأين منها ما يصنعه الغرب من إعدام القواد المستسلمة، ومحاكمتهم والقضاء عليهم بلا هوادة ولا رحمة، ولقد أبقى الرسول على أبي سفيان وأبقى له ظلا ظليلا يلوذ به أتباعه وجنوده.(2/160)
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- هو الذي أبلغ ذلك قريشا؛ لأن في الخبر الذي رواه عن ابن العباس: فقال العباس -رضي الله عنه: يا رسول الله لو أذنت لي فأتيت أهل مكة فدعوتهم وأمنتهم، وجعلت لأبي سفيان شيئا يذكر به. قال: فانطلق العباس -رضي الله عنه- حتى ركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، ثم انطلق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا علي أبي، فإن عم الرجل صنو أبيه". قال: فانطلق العباس -رضي الله عنه، حتى قدم على أهل مكة فقال: يا أهل مكة أسلموا، تسلموا؛ قد استبطنتهم بأشهب بازل. قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبير -رضي الله عنه- من قبل أعلى مكة، وبعث خالد بن الوليد من قبل أسفل مكة؛ فقال لهم العباس -رضي الله عنه- من قبل أعلى مكة، وبعث خالد بن الوليد من قبل أسفل مكة، فقال لهم العباس -رضي الله عنه: هذا الزبير من قبل أعلى مكة، وخالد بن الوليد من قبل أسفل مكة، خالد وما خالد وخزاعة المخزعة الأنوف، قال: ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قال ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتراموا بشيء من النبل1 ... انتهى باختصار.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأسه يوم فتح مكة عمامة حمراء لأنه قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته محتجزا بشقة برد حبرة حمراء ... انتهى.
وذكر الفاكهي ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال: حدثني أحمد بن عبيد عن عاصم بن مضرس الأنصاري، قال: أخبرن أبو بكر عمرو الضبي، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة معتجرا بعمامة سوداء، والعباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- كذلك ... انتهى باختصار.
وقال الفاكهي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا بشير بن السري، حدثنا حماد بن أبي سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء ... انتهى. ولا يعارض ذلك حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر2، لإمكان أن تكون العمامة السوداء أو الشقة الحمراء المشار إليها هنا من فوق المغفر، والله أعلم.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 213.
2 البخاري "4286"، الحميدي "1212"، أخبار مكة للفاكهي 5/ 215، 216.(2/161)
ومنها: أن كلام ابن إسحاق موهم في بيان الموضع الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل منه إلى مكة يوم فتحها؛ لأنه قال: وحدثني ابن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء ... انتهى.
ووجه الإبهام في كلام ابن إسحاق أنه لم يقل كداء التي أمر الزبير بالدخول منها بأعلى مكة، ولا بأسفلها، ولم يقل مثل ذلك في كدي التي أمر سعد بالدخول منها التي بأسفل مكة؛ فهو مخالف لما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كدي من أعلى مكة، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته، وأمره أن يغرزها بالحجون، ولا يبرح حيث أمره أن يغرزها، حتى يأتيه ... انتهى.
ومنها: أن هشام ذكر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمع سعد بن عبادة حين قال:
اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة
وأن عمر -رضي الله عنه- أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وما نأمن أن يكون له في قريش صولة1.
وذكر الأموي ما يخالف ذلك؛ لأن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس قال فيما أخبرت به عنه: وقال الأموي: وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بيد سعد بن عبادة؛ فلما مر بها على أبي سفيان -وكان قد أسلم أبو سفيان- فقال سعد إذ نظر إليه:
اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة
اليوم أذل الله قريشا، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الأنصار، حتى إذا حاذى أبا سفيان نادى: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟! فإنه زعم سعد ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا، أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم، وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: ما نأمن سعدا أن يكون منه قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله فيه قريشا" 2 ... انتهى.
وهذا مخالف لما ذكره ابن هشام من وجهين:
أحدهما: أن أبا سفيان أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقالة سعد.
__________
1 السيرة لابن هشام 4/ 406.
2 عيون الأثر 2/ 171.(2/162)
والآخر: أن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن هما القائلان: ما نأمن أن يكون من سعد في قريش صولة.
ووقوع ذلك منهما أقرب من وقوعه من عمر، لشدته في دين الله، والله أعلم.
وذكر ابن عقبة ما يوافق ما ذكره الأموي من أن أبا سفيان سمع مقالة سعد وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، واستعطفه على قريش، وسيأتي ذلك قريبا، وفي "صحيح البخاري" مثل ذلك؛ لأن في حديث فتح مكة الذي ترجم عليه بقوله "باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ ": فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة1؟ ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يأخذ الراية من سعد، وأن يدل علي بها؛ لأنه قال بعد ذكر ما نسبه لعمر من الكلام السابق في حق سعد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "أدركه فخذ الراية؛ فكن أنت الذي تدخل بها". وهذا مخالف لما ذكر الأموي؛ لأنه قال بعد ذكره لما سبق، ولشعر قاله ضرار بن الخطاب الفهري في يوم فتح مكة، ليستعطف به النبي صلى الله عليه وسلم على قريش: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فنزع اللواء من يده، وجعله بيد قيس ابنه، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه؛ إذ صار إلى ابنه، قيس ... انتهى.
وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره الأموي، لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن قال: حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، قال: حدثني طاوس وعامر، قالا: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم خالد بن الوليد -فذكر شيئا منخبره يأتي ذكره- ثم قال: ألا إن راية الأنصار في يد سعد بن عبادة، وقد مات سعد بن معاذ، وصار سعد بن عبادة سيد القوم، الراية في يده؛ فبينما هو واقف، والأنصار إذ نظر فلم ير حوله إلا الأنصار، فقال:
اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة
ودخل معهم من المهاجرين من لا يفطن له، فاتشد وهم لا يعلمون، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما سمع من سعد بن عبادة: فقال له: "أنت سمعته يقول هذا؟ قال: نعم، قال: "من هاهنا ادع إلى قيس بن سعد بن سعد بن عبادة"؛ فجاء الرسول وهو واقف مع أبيه، والراية في يد أبيه، وقال قيس: يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه؛ فقال: "يا قيس". قال: لبيك يا رسول الله، فقال: "اذهب فخذ الراية من سعد" قال: نعم يا رسول الله،
__________
1 البخاري "4280".(2/163)
قال: فجاءه الأنصار حوله؛ فقال: أعطني الراية، قال: لا، لا أم لك. قال: أعطنيها ولا تحمق نفسك. قال: لا. إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا. قال: أمرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسمعا وطاعة، ودفع الراية إلى قيس ابنه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، والراية مع قيس بن عبادة ... انتهى.
وذكر الفاكهي أيضا ما يخالف ما ذكرناه عنه؛ لأنه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن أبي ميسرة، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثتني أم عرزة، عن أمها عن جدها الزبير بن العوام قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لواء بن عبادة، ودخل مكة بلواءين ... انتهى1.
ونقل ابن عقبة ما يوافق الخبر الذي رواه الفاكهي عن ابن أبي ميسرة؛ لأنه قال بعد عبادة في كتيبة الأنصار على أبي سفيان: فنادى -أي سعد- أبا سفيان؛ فقال:
اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة
فلما جاز به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، وقال أبو سفيان: أمرت بقومك أن يقتلوا، فإن سعد بن عبادة ومن معه حين مروا بي نادوني:
اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة
وإني أنشد الله في قومك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فعزله وجعل الزبير مكانه على الأنصار مع المهاجرين؛ فسار الزبير بالناس حتى وقف بالحجون، وغرز راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى.
فتحصل من هذه الأخبار فيمن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أخذها من سعد بن عبادة ثلاثة أقوال:
أولها: أنه على بن أبي طالب -رضي الله عنه- عغلى مقتضى ما ذكره ابن إسحاق.
وثانيها: أنه قيس بن سعد، على ما ذكره الأموي والفاكهي.
وثالثها: أنه الزبير بن العوام على ما ذكره الفاكهي أيضا وابن عقبة.
ومنها: أن ابن عقبة ذكره ما يقتضي أن سعدا كان قد أعطى رايته قبل أخذها لابنه قيس؛ لأنه قال: وبعث سعد بن عابدة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدفع سعد رايته إلى قيس بن سعد ... انتهى. وهذا لا يفهم من كلام ابن إسحاق.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 216.(2/164)
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين صفة راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقد بين ذلك الفاكهي؛ لأنه قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا شريك بن عبد الله النخعي، عن عمار الذهبي، عن ابن الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولواؤه أبيض. قال الحسن بن علي: يعني يوم الفتح ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يفهم أن أبا عبيدة بن الجراح كان يوم فتح مكة على المشاة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى. ويتأيد ذلك بما رويناه في "صحيح مسلم"1 من أن أبا عبيدة كان على البيادقة يعني الرجالة، وقد سبق ضبط البيادقة2 في الباب الأول، فأغنى عن إعادته.
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أبا عبيدة لم يكن يوم الفتح -أي فتح مكة- على الرجالة إلا في الخبر الذي سبق ذكره عنه في بيان سبب حسب أبي سفيان حتى مر عليه جنود الله. قال: ادعوا إلى عبيدة بن الجراح، فدعى له، قال: يا أبا عبيدة ضم إليك الناس. قال: نعم، وضم إليه الناس، قال: وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضعفاء، وفي المشاة، وفي الردافى ... انتهى. ويتأيد ذلك في حيث المعنى بأن المقصود إرهاب أبي سفيان، وإرهابه بمرور أبي عبيدة ومعه غير المشاة؛ أقوى من إرهابه بمرور أبي عبيدة عليه والمشاة مع أبي عبيدة ... والله أعلم.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم فتحها من أذاخر3؛ لأنه قال: ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، ضربت هناكل قبته ... انتهى.
وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية كداء بأعلى مكة؛ لأنه قال: ولما علا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنية كداء نظر إلى البارقة على الجبال، ثم فضض المشركين، فقال: "ما هذا؟ نهيت عن القتال"؛ فقال المهاجرون: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتل من قاتله، وما كان ليعصيك، ولا ليخالف أمرك، فهبط رسول الله من الثنية، فأجاز على الحجون ... انتهى.
وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني معن بن عيسى، عن عبد الله بن عمر، عن
__________
1 صحيح مسلم "فتح مكة: 86".
2 "البيادقة" هم الرجالة من الجيش، وسموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم.
3 "أذاخر": جبل قريب من مكة في الشمال الغربي لها.(2/165)
حفص، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، فقال: "كيف قال حسان بن ثابت يا أبا بكر؟ " فأنشده أبو بكر رضي الله عنه:
عدمت ثنيتي إن لم يروها ... تثير النقع من كتفي كداء
ينازعن الأعنة مشفعات ... يلطمهن بالخمر النساء
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخلوا من حيث قال حسان"؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كداء أعلى مكة1 ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن عقبة يقتضي أن القصة التي ذكرها ابن إسحاق لحماش، وقعت لغيره؛ لأن ابن عقبة قال: فدخل رجل من هذيل -حين هزمت بنو بكر- على امرأته، فلامته وعجزته وعيرته بالفرار، فقال:
وأنت لو رأيت يوم الخندق ... إذ فر صفوان وفر عكرمة
ولحقتنا بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمة
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
قال: وقال ابن شهاب: قالها حماش أخو بني سعد بن ليث ... انتهى.
وذكر ابن إسحاق أنه هذه الأبيات لبعض هذيل؛ لأنه قال: ويروي لخراش الهذلي. فاستفدنامن هذا الخلاف في صاحب هذه القصة، هل خراش أو غيره، والله أعلم بالصواب ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق خولف فيما ذكره من عدد من قتل من المشركين يوم فتح مكة؛ لأنه قال: وأصيب من المشركين ناس قريب من اثني عشر أو ثلاث عشر، ثم انهزموا ... انتهى.
وقال ابن عقبة: واندفع خالد بن الوليد حين دخل من أسفل مكة فلقيته بنو بكر، فقاتلوا فهزموا، وقتل من بني بكر قريبا من عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا وقتلوا بالحزورة، حتى بلغ قتلهم باب المسجد ... انتهى.
وقال ابن سعد: قتل أربعة وعشرون رجلا من قريش، وأربعة من هذيل. ذكر ذلك عن ابن سعد2 -هكذا- الحافظ أبو الفتح اليعمري في "سيرته" بعد ذكره لكلام ابن إسحاق في ذلك، فيما أخبرني به بعض مشايخنا عن الحافظ أبي الفتح3.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 214، 215.
2 الطبقات الكبرى 2/ 136.
3 عيون الأثر 2/ 173.(2/166)
وذكر الفاكهي خبرا فيه ما يقتضي أن المقتولين من المشركين يوم فتح مكة سبعون رجلا، وذكر لذلك سببا؛ فاقتضى الحال ذكر ذلك لما فيه من الفائدة، لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن قال: حدثنا علي بن عصام، عن عطاء بن السائب، قال: حدثني طاوس وعامر، قالا: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فأنالهم شيئا من قتل. فجاء رجل من قريش فقال: يا رسول الله هذا خالد بن الوليد قد أسرع في القتل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار عنده: "يا فلان"، قال: لبيك يا رسول الله، قال: "ائت خالد بن الوليد، فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن لا تقتل بمكة أحدا"، فجاء الأنصار، فقال: يا خالد، إن رسول الله يأمرك أن تقتل من لقيت من الناس. فاندفع خالد، فقتل سبعين رجلا بمكة، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش، فقال: يا رسول الله هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم، قال: "ولم؟ "، قال: هذا خالد لا يلقى أحدا من الناس إلا قتله. قال: "ادع لي خالدا" فدعى له، قال: "يا خالد ألم أرسل إليك أن لا تقتل أحدا؟ "، قال: بل أرسلت إلي أن اقتل من قدرت عليه. قال: "ادع لي الأنصاري"، فدعى له، فقال: "ألم آمرك أن تأمر خالدا ألا يقتل أحدا؟ " قال: بلي، ولكنك أمرت وأراد الله غيره؛ فكان ما أراد الله. قال: "يا خالد"، قال: لبيك يا رسول الله. قال: "لا تقتل أحدا" ولم يقل للأنصاري شيئا ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يقتل يوم فتح مكة إلا من قاتل من المشركين؛ لأنه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ... انتهى.
وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر ... انتهى.
وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر ... انتهى.
وروينا في مسند ابن حنبل ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل غير من استثناه؛ لأنه قال: حدثنا يحيى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر"، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: "كفوا السلاح" 1 ... انتهى.
وذكر الفاكهي أنه قال: حدثنا حسن بن حسين أن ابن أبي عدي قال: حدثنا حسن المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر" فأذن لهم حتى صلوا العصر، ثم أمرهم أن
__________
1 أخرجه أحمد 2/ 179.(2/167)
يكفوا السلاح؛ حتى إذا كان الغد لقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر بالمزدلفة فقتله؛ فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا وظهره إلى الكعبة، فقال: "إن أعتى الناس على الله من عدا في الحرم، ومن قتل غير قاتله، ومن قتل بذحول الجاهلية" 1 ... انتهى باختصار.
ومنها: أن ابن سعد -أحد بني عامر بن لؤي- الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، هو ابن أبي سرح؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحاق، ووقع في بعض نسخ سيرته تمسيته بعبد الله، وذلك لا يفهم أيضا أنه ابن أبي سرح، وقد ذكره عقبة بأوضح مما ذكره ابن إسحاق؛ لأنه قال: وأمرهم بقتل أربعة نفر: عبد الله بن سعد بن أبي سرح ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر في سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن أبي سرح، سوى ارتداده إلى الشرك بعد الإسلام، وكتابته الوحي للنبي صلى الله عليهة وسلم بأمره صلى الله عليه وسلم قبل الفتح، وهاجر، وكانت يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد مشركا إلى قرى بمكة، فقال لهم: إني كنت أصرف محمدا حيث ارتد، كان يملي عزيز حكيم، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم، كل صواب2 ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين أخوة الرضاع التي بين أبي سرح، وعثمان بن عفان، وبين ذلك أن عبد البر؛ لأنه قال تلو قوله كل صواب: فلما كان يوم الفتح، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، وقتل عبد الله بن خطل، ومقيس بن ضباعة، ولو وجدوا تحت أستار الكعبة؛ ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان -رضي الله عنه- وكان أخاه من الرضاعة، أرضعته أم عثمان رضي الله عنه2 ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق لا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم عن أحد من الحاضرين عنده، لما جاء ابن أبي سرح أنه يريد قتل ابن أبي سرح؛ لأنه قال: بعد أن ذكر مجيء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبر طويلا، ثم قال نعم؛ فلما انصرف عثمان -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله من أصحابه: "لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه" ... انتهى.
وفي الخبر الذي سبق ذكره عن الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم عن بعض الحاضرين عنده، لما جاء ابن أبي سرح أنه يريد قتل ابن أبي سرح؛ لأنه في الخبر المذكور، ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن أبي سرح إذا رآه. وكان أخا عثمان -رضي الله عنه- من الرضاعة، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشفع
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 219.
2 السيرة لابن هشام 4/ 407.(2/168)
له؛ فلما بصر به الأنصاري اشتمل السيف على عاتقه وخرج في طبله، فوجده في حلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهاب قتله، فجعل يتردد، ويكره أن يقدم عليه؛ لأنه في حلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فبايعه، ثم قال للأنصاري: "قد انتظرتك أن توفي بنذرك"، قال: يا رسول الله هبتك، أفلا أومأت إلي، قال: "إنه ليس لنبي أن يومئ" ... انتهى.
وكان ابن أبي سرح فارس بني عامر بن لؤي معدودا فيهم، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان مجاب الدعوة، وله في ذلك خبر غريب؛ وذلك أن محمد بن حذيفة بن عقبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي نزع مصر من ولاية ابن أبي سرح هذا لما توجه أبن أبي سرح إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بالمدينة، ومنعه ابن حذيفة من دخول مصر لما عاد من المدينة فمضى إلى عسقلان1، وقيل: إلى الرملة2 ودعى ربه أن يجعل خاصة عمله صلاة الصبح، فتوضأ ثم صلى، قرأ في الركعة الأولى بأم القرآن، والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه، وذهب ليسلم عن يساره، فقبض الله روحه -على ما ذكر يزيد بن أبي حبيب وغيره- فيما حكاه ابن عبد البر في "الاستيعاب"، ومنه لخصت ما ذكرت من حاله.
وذكر ابن عبد البر أنه لم يبايع لعلي ولا معاوية -رضي الله عنهما- وأنه توفي سنة ست أو سبع وثلاثين، وقيل: ست وثلاثين.
ومنها: أن ابن إسحاق سمي ابن خطل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله عبد الله؛ لأنه قال: وعبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب ... انتهى.
وقد اختلف في اسمه، فقيل: عبد الله، كما ذكر ابن إسحاق، وقيل اسمه: هلال ذكره الفاكهي في خبر يأتي ذكره، وذكره السهيلي؛ لأنه قال: وقد قيل في اسمه: هلال، قال: وقد قيل هلال كان أخاه، وكان يقال لهما: الخطلان، وهما من تيم بن غالب بن فهر3 ... انتهى.
وقال ابن بشكوال في "المبهمات" لما تكلم على حديث قتل ابن خطل: اختلف في اسمه، فقيل عبد الله، وقيل: عبد العزى، وقيل: هلال، ذكر ذلك كله الدرقطني في "سننه".
وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن اسمه: قيس؛ لأنه قال: وأمر بقتل قيس بن خطل يوم الفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى.
__________
1 "عسقلان": مدينة على ساحل البحر بفلسطين.
2 "الرملة": إحدى مدن فلسطين.
3 السيرة لابن هشام 4/ 410.(2/169)
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن اسمه: عبد العزيز؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، قال حدثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن الناس يوم الفتح، إلا أربعة منهم عبد العزيز بن خطل1 ... انتهى.
ولعل عبد العزيز -كما في هذا الخبر- تصحيف من الناسخ، فإن عبد العزى يشبه في الصورة: عبد العزيز، والله أعلم.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن الذي قتل ابن خطل: سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، اشتركا في قتله، وذكر الفاكهي منا يخالف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن سليمان حدثنا زيد بن حباب، ثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد، حدثني جدي، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "أربعة لا أؤمنهم في حل ولا في حرم: الحارث بن نقيد، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وهلال بن خطل"، قال: فقتل علي -رضي الله عنه- الحارث بن نقيد، وقتل مقيس ابن عم له، وقتل هلال بن خطل الزبير بن العوام رضي الله عنه2 ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين الموضع الذي قتل فيه ابن خطل، وبين ذلك ابن جريج في الخبر الذي سبق ذكره قريبا من كتاب الفاكهي؛ لأن فيه وقتل ابن خطل، وهو آخذ بثياب الكعبة يتعوذ بها انتهى.
وفي الصحيحين3 وغيرهما ما يشهد لما ذكره ابن جريج، وروينا مثل هذا في "مبهمات" الحافظ عبد الغني بن سعيد؛ لأن في الحديث الذي سبق في بيان حاملة كتاب حاطب: فأما عبد العزى فإنه قتل وهي آخذ بأستار الكعبة ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن الذي قتل مقيس بن صبابة: نميلة بن عبد الله، رجل من قومه.
وذكر الفاكهي في الخبر الذي سبق ذكره قريبا عن ابن جريج خلاف ذلك؛ لأن فيه: وقتل مقيس بن صبابة سعيد بن حريث، أو عمر بن حريث. وأفاد في هذا الخبر موضع قتله؛ لأنه قال: وأما مقيس عند الردم ... انتهى.
والمراد -والله أعلم- بالردم: ردم بني جمح الذي قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه، كمان سبق في باب ذكر الموضع الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الباب الحادي والعشرين من هذا الكتاب. وليس المراد بالردم الذي بأعلى مكة؛ لأنه لم يكن إلا في خلافة عمر بن الخطاب، عمل صونا للمسجد من السيل حين ذهب بالمقام عن موضعه.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 220.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 219.
3 البخاري "4286"، مسلم "الحج: 1357".(2/170)
ومنها: أن كلام ابن ‘إسحاق يقتضي أن الرجل الذي قتله مقيس بن صبابة، وارتد بعد قتله، من الأنصار؛ لأنه قالك -لما ذكر الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم: ومقيس بن صبابة؛ وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركا ... انتهى.
وذكر الحافظ عبد الغني بن سعيد، ما يخالف كلام ابن إسحاق هذا؛ لأنه قال في الخبر الذي سبق ذكره: وأما مقيس بن صبابة؛ فإنه كان له أخ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل خطأ؛ فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني فهر، ليأخذ له عقله من الفهري؛ فلما جمع له العقل رجل القهقري، فوثب مقيس وأخذ حجرا فجلد به رأسه، فقتله، ثم أقبل وهو يقول:
شقى النفس من قد بات خاضع ... مسندا يضرح بثوبين وماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله ... كذا تنسى وطاء المضاجع
حللت به نذري وأدركت بغيتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
وفي حاشية كتاب الحافظ عبد الغني:
ثارت به فهر وحملت عقله ... سراة بني النجار إن مات فارع
... انتهى. وفيما ذكره الحافظ عبد الغني من خبر مقيس ما لا يفهم مما ذكره ابن إسحاق.
ومنها: أن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس ذكر هبار بن الأسود فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة هبارا هذا، وهو هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي. ولعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، لما صنع بزينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث بها زوجها أبا العاص بن الربيع إلى المدينة؛ وذلك أن هبارا تعرض لها في سفهاء من قريش فأهوى هبار إليها، ونخس دابتها، فسقطت عن دابتها وألقت ما في بطنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن وجدتم هبارا، فأحرقوه بالنار، ثم اقتلوه"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" فلم يوجد، ثم أسلم هبار وحسن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن سيد الناس في سبب قتل هبار ما ذكرناه بالمعنى؛ لأنه قال: وأما هبار بن الأسود فهو الذي عرض لزينب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ما سبق بالمعنى1.
ومنها: أن الحافظ علاء الدين مغلطاي ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى من أمانه يوم الفتح جماعة غير الذي ذكرهم ابن إسحاق؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: ونادى
__________
1 عيون الأثر 2/ 176، 177.(2/171)
منادية -عليه السلام: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، إلا من استثنى وهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم، وابن خطل قتله أبو برزة، وقينتان، فربما أسلمتا، وسارة، ويقال كانت مولاة عمرو بن صيفي، وهاشم، وأرنب، وقريبة قتلت، وعكرمة بن أبي جهل أسلم، والحويرث بن نقيذ قتله علي، ومقيس بن صبابة نميلة الليثي، وهبار بن الأسود أسلم، وكعب بن زهير أسلم، وهند بنت عتبة أسلمت، ووحشي بن حرب أسلم ... انتهى.
وقد سبق التعريف بشيء من هؤلاء المستثنين إلا كعب بن زهير؛ فإنه ابن أبي سلمة المزني الشاعر المشهور صاحب:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
القصيدة المشهورة التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وهند بنت عتبة، وهي امرأة أبي سفيان أم معاوية بن أبي سفيان. ووحشي هو قاتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب. ولعل الأمر بقتل وشحي وهند لما فعلا بحمزة بن عبد المطلب؛ فإن وحشيا قتله، وهند بنت عتبة مقرت عن كبد حمزة فلاكتها؛ فلم تستطع أن تستسيغها، فلفظتها، وكانت هي ونسوة معها يجد عن الآذان والأنوف من قتلى المسلمين يوم أحد ... انتهى، والله أعلم.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم قينتي ابن خطل؛ وإنما اسم إحداهما، وأنه فرتني1، وبين ذلك ابن سيد الناس في غير موضع؛ لأنه قال: وأما قينتا ابن خطل فرتني وقريبة، فقتلت إحداهما، واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخرى، فأمنها، فعاشت مدة، ثم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم2. وقال أيضا عن ابن سيد الناس غير واحد من أشياخي.
وذكر السهيلي أن اسم قينتي بن خطل فرتني، وسارة3، وهذا يخالف ما ذكره ابن سيد الناس، من أن اسم إحداهما قريبة، والأخرى فرتني، والله أعلم بالصواب. وسيأتي ذكر كلام السهيلي قريبا.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن إحدى قينتي ابن خطل قتلت، والأخرى لم تقتل؛ لأنه قال: وأما قينتا ابن خطل؛ فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فأمنها ... انتهى.
__________
1 السيرة لابن هشام 4/ 410.
2 عيون الأثر 2/ 177.
3 الروض الأنف 4/ 104.(2/172)
وذكر السهيلي ما يقضي أنهما لم تقتلا وأنهما أمنتا. وسيأتي كلامه قريبا.
ومنها: أن كلام أبن إسحاق يقتضي أن سارة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها؛ غير قينة ابن خطل، لأنه قال فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح: وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، ثم قال -بعد ما ذكر قينتي ابن خطل: وأما سارة فاستؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرسا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالأبطح، فقتلها1 ... انتهى.
وذكر السهيلي ما يقتضي أن سارة هذه إحدى قينتي ابن خطل؛ لأنه قال: وأما القينتان اللتان أمر بقتلهما وهما سارة وفرتني، فقد أسلمت فرتني وأمنت سارة، وعاشت إلى زمن عمر بن الخطاب، ثم وطئها فرس فقتلها2 ... انتهى. وهذا هو كلام السهيلي الذي أشرنا إلى أنه يخالف ما ذكره ابن سيد الناس في قتل إحدى قينتي ابن خطل، وتأمين الأخرى، ويخالف ما ذكره ابن إسحاق أيضا في أن سارة إحدى قينتي ابن خطل، وأنها التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، ولا أعلم له سلفا فيما ذكره، والله أعلم.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين قينة ابن خطل اليت استؤمن لها رسول الله، وقد بين ذلك الحافظ مغلطاي؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه في ذكر المستثنين من الأمان يوم الفتح: وابن خطل قتله أبو برزة الأسلمي، وقينته فرتنا أسلمت، ثم قال: وقريبة قتلت ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر سارة فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح.
وذكر الفاكهي عن ابن جريج ما يقتضي أنها أم سارة. وذكر الحافظ عبد الغني سعيد المصري في "مبهماته" ما يوافق ما ذكره الفاكهي عن ابن جريج كما سبق، وسيأتي ذكر ما ذكره الفاكهي في ذلك.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن سارة لم تقتل في زمن الفتح، وذكر الفاكهي عن ابن جريج: أن أم سارة قتلت في الفتح، فإن كانت أم سارة التي ذكرها ابن جريج هي سارة التي ذكرها ابن إسحاق؛ فقد خولف ابن إسحاق في اسمها وحياتها في زمن الفتح. وإن كانت أم سارة التي ذكرها ابن جريج غير سارة التي ذكرها ابن إسحاق، فيكون ابن إسحاق قد ترك بعض من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، ويستفاد ذلك من كلام ابن جريج لا من كلام ابن إسحاق، والأول هو الظاهر، والله أعلم، وإذا كان كذلك فيستفاد من الخبر الذي ذكره الفاكهي عن ابن جريج فائدة لا تفهم من كلام ابن إسحاق، وهي سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أم سارة.
__________
1 السيرة لابن هشام 4/ 410، 411.
2 الروض الأنف 4/ 104.(2/173)
ويظهر ذلك مع ما أشرنا إليه أولا بذكر الخبر الذي ذكره الفاكهي؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بنعبد الرحمن، حدثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن الناس يوم فتح مكة؛ إلا أربعة: عبد العزيز بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة قينة لبني هاشم كانت تدعو على النبي صلى الله عليه وسلم حين تصبح وحين تمسي؛ فأما أم سارة فقتلت ... انتهى باختصار.
وذكر الحافظ عبد الغني بنسعدي أن سبب قتل أم سارة حملها كتاب حاطب بن سبق ذكرنا له عنه؛ لأن فيه: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة، إلا أربعة فذكرهم، منهم أم سارة، ثم قال: وأما أم سارة فإنها كانت مولاة لقريش؛ فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئا، ثم أتاها رجل يدفع إليها كتابا إلى أهل مكة يتقرب بذلك إليهم ليحفظ في عياله، وكان له بها عيال، فأخبر جبريل -عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فذكر بقية الخبر السابق، وهذا يخالف ابن جريج في سبب قتل أم سارة، والله أعلم بالصواب.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث بن نقيذ، سوى أنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة -لقوله بعد ذكره للحويرث: وكان ممن يؤذيه بمكة1.
وذكر السهيلي ما يقتضي أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث له سبب آخر؛ لأنه قال: وأم الحويرث بن نقيذ الذي أمر بقتله مع ابن خطل، فهو الذي نخس بزنيب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أدركها هو وهبار بن الأسود، فسقطت عن دابتها، وألقت جنينها2 ... انتهى.
وذكر ابن هشام ما يقتضي أن سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث، كونه نخس بفاطمة وأم كلثوم ابنتي النبي، ورمى بهما إلى أرض، لما بعثها العباس من مكة إلى المدينة؛ لأنه ذكر كلاما معناه هذا، بعد قول ابن إسحاق في شأن الحويرث بن نقيذ: وكان ممن يؤذيه بمكة، والمعروف أن المشركين عرضوا لزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، لا لأختيها فاطمة وأم كلثوم؛ فيكون الحويرث نخس بزينب، لا بفاطمة وأم كلثوم، والله أعلم بالصواب.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن الثماني ركعات التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكةى، على ما ذكر ت أم هانئ من الضحى.
__________
1 السيرة لابن هشام 4/ 411.
2 الروض الأنف 4/ 104.(2/174)
وذكر السهيلي ما يقتضي أنها صلاة الفتح؛ لأنه قال: فصل: ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ، وهي صلاة الفتح، يعرف ذلك عند أهل العلم، وكان الأمراء يصلونها إذا افتتحوا بلدا، قال الطبري1: صلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- حين افتتح المدائن، ودخل إيوان كسرى قال: فصلى فيه صلاة الفتح. قال: ويه ثمان ركعات، لا يفصل بينها، ولا تصلي بإمام؛ فبين الطبري سنة هذه الصلاة وصفتها. ومن سننها أيضا أن لا يجهر فيها بالقراءة، والأصل ما تقدم في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ؛ وذلك ضحى2. انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين ما كان من حال فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم مع أم هانئ، وقد بين ذلك الفاكهي في خبر ذكره؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي طالب تقول: لما كان يوم الفتح، أتاني حموان لي؛ فأمنتهما، فجاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يريد أن يقتلهما، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت فاطمة، وكانت أشد علي من علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقالت: لم تؤمنين المشركين وتجيرينهم؟ فبينما أنا عندها إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه رهجة الغبار، فقلت: يا رسول الله إني أمنت حموين لي، وإن ابن أمي علي بن أبي طالب يريد قتلهما. فقال: "ما كان ذلك له، قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت" ... انتهى باختصار.
ومنها: أن ابن هشام، قال في تفسير الرجلين اللذين أجارتهما أم هانئ يوم الفتح: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة3 ... انتهى.
وقد تقدم قوله بأن الذي أجارته أم هانئ هو ابنها جعدة بن هبيرة، حكاه السهيلي2 وغيره، وفيه بعد لقولها في السيرة: وفر إلي رجلان من أحماي من بني مخزوم، ومرداهم بقولها: أحماي بسط العذر لها في إجازتها لهما، ولو كان المجار ابنها لقالت ابني، فإنه أولى في بسط العذر لها في ذلك، ولا يعارض ذلك قول ابن عبد البر.
وفي حديث مالك وغيره أن الذي أجارته بعض بني زوجها هبيرة بن أبي وهب لإمكان أن يكون ابن زوجها الذي أجارته من غيرها، والله أعلم.
__________
1 تاريخ الطبري 4/ 16.
2 الروض الأنف 4/ 103.
3 السيرة لابن هشام 4/ 411.(2/175)
وممن ذكر أن أحد الرجلين اللذين أجارتهما أم هانئ -رضي الله عنه- الحارث ابن هشام: الزبير بن بكار وغيره.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم اليوم الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة، بعد أن فتح الله عليه مكة، وذكر الأزرقي عن الواقدي ما يبين ذلك؛ لأنه قال: حدثني جدي عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الجمعة لعشر ليال بقين من شهر رمضان، فبث السرايا في كل وجه ... انتهى.
وإذا كان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في اليوم المشار إليه؛ فهو اليوم الذي طاف فيه بالكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالكعبة يوم دخل مكة في الفتح، على ما هو مقتضى الأخبار الواردة في ذلك، وخحرجح مغلطاي في "سيرته" بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالكعبة يوم الجمعة، لعشر بقين من رمضان؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: وطاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان ... انتهى.
ومنها: أن ابن إسحاق روى بسنده إلى صفية بنت شيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نزل مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت؛ فطاف به سبعا على راحلته1، وهذا ليس فيه بيان ما تعرف به الراحلة التي طاف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدة رواحل وهي: العطباء، والقصواء، والجدعاء، وإن كان قيل في الجميع إنهن واحدة، وقد بين ذلك ابن عمر -رضي الله عنه- في حديثه في دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم فتح مكة، وصلاته فيما، على ما رويناه عنه في الصحيحين وغيرهما؛ وفي لفظ البخاري فيه: حدثنا شريح بن النعمان قال: حدثنا فليح، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وهو مردف أسامة -رضي الله عنه- على القصواء، ومعه بلال، وعثمان بن طلحة؛ حتى أناخ عند البيت، ثم قال لعثمان: "ائتنا بالمفتاح" فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة، وبلال، وعثمان -رضي الله عنهم، ثم أغلقوا عليهم الباب، فمكث نهارا طويلا2 ... انتهى باختصار.
ومنها: أن ما ذكره ابن إسحاق في طواف النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته، لقوله فيه: فطاف به سبعا على راحلته.
وقد روينا في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ما يخالف ذلك في صحيح مسلم وغيره. ولفظ مسلم: أخبرنا ابن عمر قال: أنبأنا سفيان، عن أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، على ناقة
__________
1 السيرة لابن هشام 4/ 46.
2 أخرجه البخاري "4289".(2/176)
أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم عاد عثمان بن طلحة؛ فقال: "ائتني بالمفتاح" فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبي. فأعطته إياه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب، قال: ثم ذكر مثل حديث حماد بن زيد ... انتهى.
توفي حديث ابن عمر السابق قريبا من "صحيح البخاري" ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته وذلك يوافق ماذكره ابن إسحاق والله أعلم بالصواب، وحديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق من "صحيح مسلم" أخرجه الأزرقي في تاريخه عن جده، عن سفيان بن عيينة عن أيوب1 من غير إحالة في نفسه، على خلاف ما صنع مسلم.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة بسبب مفتاح الكعبة، وليس في كلامه ما يبينم هل هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم أو برسول إلى عثمان -رضي الله عنه-، لقوله ابن إسحاق: فلما قضي طوافه دعا عثمان بن طلحة ... انتهى.
وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق قريبا من "صحيح البخاري" ما يدل على أنه دعاه بنفسه لقوله فيه: ثم قال صلى الله عليه وسلم لعثمان: "ائتنا بالمفتاح".
وذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في ذلك إلى عثمان -رضي الله عنه- بلالا، ثم أبا بكر -رضي الله عنه-، وعمر -رضي الله عنه-، لما أبطأ عثمان -رضي الله عنه، لأنه قال: حدثني جدي، عن محمد بن إدريس عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، بعدما طاف على راحلته، فجلس ناحية من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة -رضي الله عنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: "قل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن تأتيه بمفتاح الكعبة". فجاء بلال إلى عثمان -رضي الله عنه-: نعم، فخرج إلى أمه "سلافة بنت سعد" بن سعيد الأنصارية، ورجع بلال -رضي الله عنه- مع الناس؛ فقال عثمان لأمه، والمفتاح يومئذ عندها: يا أمه أعطيني المفتاح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلي، وأمرني أن آتي به إليه. فقالت له: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب بمأثرة قومك على يديك. قال: والله لتدفعنه أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجرها وقالت: أي رجل يدخل يده هاهنا؛ فبينما هما على ذلك، إذ سمعت سوت أبي بكر -رضي الله عنهما- في الدار، وعمر -رضي الله عنه- رافع
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 268.(2/177)
صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان اخرج، فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح، فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أن تأخذه تيم أو عدي، فأخذه عثمان، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناوله إياه؛ فلما ناوله إياه فتح الكعبة1 ... انتهى باختصار.
وذكر الواحدي في تفسيره "الوسيط" وكتابه "أسباب النزول" ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى عثمان بن طلحة، ليأخذ منه مفتاح الكعبة في يوم فتح مكة، ولكن كلام والواحدي يقتضي أن عثمان -رضي الله عنه- لم يكن حين أخذ ذلك منه مسلما، وهو يخالف ما ذكره العلماء بهذا الشأن، من أنه كان مسلما. وفي طلب بنفسه المفتاح من عثمان -رضي الله عنه-، والله أعلم.
ومنها: أن ما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح الكعبة، يوم فتح مكة؛ وإنما فتحت له، لقوله: فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها2. وفي حديث ابن عمر السابق من "صحيح مسلم" ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح الكعبة بنفسه في يوم الفتح لقوله فيه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدفعه إليه ففتح الباب. وفي الخبر السابق من تاريخ الأزرقي عن الواقدي ما يوافق ذلك، لقوله فيه: فلما ناوله إياه فتح الكعبة. وبوب المحب الطبري في "القرى" على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المشار إليه بقوله: "ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح البيت بنفسه" ... انتهى؛ ولكن في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق في "صحيح البخاري" ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأن فيه قال لعثمان: "ائتنا بالمفتاح" فجاءه بالمفتاح، ففتح له، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى. وهذا يوافق ما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم بالصواب.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وليس فيما ذكره ما يبين هل طال مكثه صلى الله عليه وسلم فيه أو قصر، ولا هل كان البيت مغلقا أو مفتوحا؟ ولا هل كان على الباب أحذ يذب الناس أم لا؟ فأما طول مكثه صلى الله عليه وسلم في البيت وإغلاق بابه في يوم الفتح ففي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق من "صحيح البخاري" ما يقتضي ذلك لقوله فيه: ثم أغلقوا عليهم الباب فمكث نهارا طويلا. وفي حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أيضا ما يدل لإغلاق الباب؛ لأن في "سنن النسائي" من حديثه، أنه دخل هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر لإغلاقه الباب؛ لأن في "سنن النسائي" من حديثه، أنه دخل هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالا -رضي الله عنه- فأجاف الباب3 ... انتهى باختصار. وحديث أسامة هذا يقتضي أن بلالا -رضي الله عنه- هو الذي أجاف الباب؛
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 226.
2 سيرة ابن هشام 4/ 46.
3 أخرجه النسائي في سننه 5/ 219.(2/178)
وفي "صحيح مسلم" ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وحدثني حميد بن مسعدة قال: حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- قال: حدثنا عبد الله بن عوف، عن نافع، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنه انتهى إلى الكعبة، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم، وبلال، وأسامة -رضي الله عنهما، وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب قال كم فمكثوا فيه مليا1 ... انتهى باختصار. وقد سبق بكماله في "الباب التاسع"2 من هذا الكتاب، وهذا الحديث وإن تكلم الدارقطني في رواية مسلم له؛ فإنما ذلك لأن فيه منا يقتضي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- سأل بلالا وأسامة -رضي الله عنهم- عن موضوع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، قالوا هاهنا؛ وذلك يقتضي إثبات أسامة -رضي الله عنه- لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، في الكعبة يوم فتح مكة، وفي الصحيح عنه ما يخالف ذلك. والوهم في ذلك من ابن عون، والله أعلم. وقد أخرج النسائي حديث ابن عون عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث بن ابن عون3.
وأما وقوف أحد على باب البيت والنبي صلى الله عليه وسلم داخلها يوم الفتح لذب الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الواقدي ما يقتضيه؛ لأن في الخبر الذي سبق ذكره عنه في "تاريخ الأزرقي" بعد ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم البيت وصلاته فيه: قالوا: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يذب الناس عن الباب، حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم4 ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق ليس فيه بيان الموضع الذي جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بعد طوافه بالبيت، ودخوله بالبيت، ودخوله إليه، وخروجه منه، وخطيته على بابه، لأنه قال بعد ذكره لذلك، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد5 ... انتهى.
وهذا يقتضي أن يكون جلس في مؤخر المسجد أو في مقدمه، وقد أفاد في ذلك ابن عقبة ما لم يفده كلام ابن إسحاق مع أمور أخرى صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في هذا اليوم لم يذكرها ابن إسحاق؛ فنذكر كلام ابن عقبة لما فيه من الفائدة، ونص كلامه قال: فلما قضى صلى الله عليه وسلم طوافه، وأخرجت الراحلة: سجد سجدتين، ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها، وقال: "لولا أن يغلب بنو عبد المطلب على سقايتهم لنزعت منها بيدي" ثم انصرف في ناحية المسجد قريبا من مقام إبراهيم، وكان زعموا المقام لاصقا بالكعبة، فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسجل من زمزم، فشرب
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه.
2 راجع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، حين الفتح، في الباب التاسع من كتاب الحج في صحيح مسلم.
3 أخرجه النسائي في سننه 6/ 52.
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 266، 267.
5 السيرة لابن هشام 4/ 46.(2/179)
وتوضأ، والمسلمون يتبادرون في وضوء ويصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون إليهم ويتعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط بلغ هذا ولا شبيها به ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية، لأنه قال: فقام إليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة، مع السقاية صلى الله عليك وسلم1 ... انتهى.
وذكر الواقدي ما يخالف ذلك لأن الأزرقي قال: وحدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية من المسجد، فجلس، وكان قد قبض السقاية من العباس -رضي الله عنه- وقبض المفتاح من عثمان بن طلحة -رضي الله عنه، فلما جلس بسط العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- يده فقال: بأبي وأمي يا رسول الله، أجمع لنا الحجابة، والسقاية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما ترزؤون فيه، ولا أعطيكم ما ترزؤون منه" 2 ... انتهى باختصار من أول الخبر وآخره، وقد روينا عن ابن إسحاق في "تاريخ الأزرقي" ما يوافق ما ذكره الواقدي، وقد سبق ذلك في خبر ولاية قصي.
ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر سببا لرد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة، ولا لأخذه منه، وقد ذكر الأزرقي ما يدل للأمرين؛ لأنه قال: وأخبرني جدي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج؟، عن مجاهد في قوله الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة -رضي الله عنه، حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، ودخل به الكعبة يوم الفتح، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، وقال صلى الله عليه وسلم: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله، لا ينتزعها منكم إلا ظالم" 3 ... انتهى باختصار.
فهذا يبين سبب دفع المفتاح إلى عثمان -رضي الله عنه، وأما سبب أخذه فقال: الأزرقي فيه: وحدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن أشياخه، فذكر خبرا فيه ما سبق من خروج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت يوم الفتح والمفتاح في يده، وقول العباس -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم: أجمع لنا بين الحجابة والسقاية.
وقول للعباس -رضي الله عنه: "أعطيكم ما ترزؤون عنه ولا أعطيكم ما ترزؤون منه" ثم قال: "ادع لي عثمان"، فقام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقال: ادع لي
__________
1 السيرة لابن هشام 42/ 48، والحديث أخرجه.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 2565.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 256.(2/180)
عثمان؛ فقام عثمان بن طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن طلحة -رضي الله عنه- يوما وهو بمكة يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان -رضي الله عنه- المفتاح؛ فقال صلى الله عليه وسلم "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت" فقال عثمان: لقد هلكت قريش إذا وذلت؛ فقالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل عمرت وعزت بومئذ يا عثمان" فقال عثمان -رضي الله عنه: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أخذه المفتاح، فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم، وما كان قال لي، فأقبلت، فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر1 ... انتهى باختصار. فبان منها سبب رد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة وأخذه منه في يوم الفتح.
وذكر محمد بن سعيد -كاتب الواقدي- سبب أخذ المفتاح من عثمان -رضي الله عنه، وفيه ما يقتضي أن الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان من المقال كان عند إرادة النبي صلى الله عليه وسلم دخول البيت في الجاهلية، فيه فائدة أخرى ليست في الخبر الذي ذكره الواقدي، وهذا الخبر رويناه في "السيرة" للحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس اليعمري، فيما أخبرني به غير واحد من أشياخي عنه، ولفظه في السيرة المذكورة: وروينا عن عثمان بن طلحة من طريق ابن سعد قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت عليه، ونلت منه، وحلم عني، ثم قال: "يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت" فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل عمرت وعزت يومئذ"، ودخل الكعبة؛ فوقعت كلمته صلى الله عليه وسلم مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له يوم الفتح: "يا عثمان ائتني بالمفتاح"؛ فأتيته به، فأخذه مني، ثم دفعه إلي وقال: "خذوها تالدة خالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إنا الله استأمنكم على بيته؛ فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف"، قال عثمان: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ألم يكن إلى ما قلته لك؟ " قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت؛ فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله2.
ومنها: أن ابن هشام ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، وفيه الصور؛ لأنه قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل إلى البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم3، إلى آخر كلامه السابق، وروينا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأن البخاري قال فيما رويناه عنه: حدثني إسحاق قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أيوب عن عكرمة عن أبن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 267.
2 عيون الأثر 2/ 178، 179.
3 السيرة لابن هشام 4/ 48.(2/181)
وفيه الآلهة، فأمر بها فاخرجت وأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيل، وفي أيديهما الأزلام؛ فقال: "قاتلهم الله، لقد علموا أنهما ما استقسما بها قط"، ثم دخل فكبر في نواحي البيت، وخرج ولم يصل، تابعه معمر عن أيوب، قال وهب: حدثني أيوب عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم1.
ومنها: أن ابن هشام ذكر ما يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وأنه صلى فيها على ما روى ابن عمر عن بلال -رضي الله عنهم- ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل فيها لما دخلها يوم الفتح، وقد سبق ذلك في الباب التاسع من هذا الكتاب، مع ما قيل من ترجيح رواية بلال -رضي الله عنه- على رواية من خالفه؛ لكونه أثبت ما لم يثبته غيره، وما قيل من الجمع بين هذا الاختلاف ما فيه كفاية فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم.
ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن أبا سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام حين أذن بلال يوم الفتح كانوا جلوسا بفناء الكعبة لقوله: وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة2.
ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أبي سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام، فأخبرهم بما قالوا حين سمعوا أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة؛ لأن في خبر ابن هشام: فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "قد علمت الذي قلتم"، ثم ذكر ذلك لهم3.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن أبا سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو حين أذن بلال -رضي الله عنه- فوق الكعبة يوم الفتح، كانوا جلوسا في الحجر، ويقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله بقولهم وهو بالصفا، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم واستدعاهم إليه؛ فلما حضروا إليه أخبرهم بما قالوا؛ وذلك يخالف ما ذكره ابن هشام في موضع جلوس من سمع أذان بلال، ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ونص الخبر الذي ذكره الفاكهي: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، ثم خرج يسعى بين الصفا والمروة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن
__________
1 أخرجه البخاري "4288".
2 السيرة لابن هشام 2/ 49.
3 السيرة لابن هشام 22/ 49.(2/182)
عمرو مختبئون في الحجر، فرقي بلال على ظهر الكعبة فأذن بالصلاة ففزع الصبيان، وخرج النساء، وسمعوا شيئا هالهم؛ فقال صفوان بن أمية: لو أن لهذا العبد أحدا. وقال عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أسيدا أن لا يرى هذا اليوم، وما أسيد قبل ذلك بيسير. قال: وقال سهيل بن عمرو: إنك ظان هذا لغير الله فسيغير، وإن كان من الله ليمضينه. قال: وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لظننت هذا الحصى ستخبر عني قال: فأوحى الله -تعالى- إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقولهم -وهو على الصفا يدعو- فقال صلى الله عليه وسلم: "علي بالرهط" فلانا، وفلانا، وفلانا، هم في الحجر، قال ذلك لرج من الأنصار؛ فقال الأنصاري: أنا لا أعرفهم يا رسول الله، فابعث معنا من يعرفهم من المهاجرين، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يذكر العهد الذي كان له، ويخاف العذاب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان: "قلت كذا وكذا" الكلام الذي قال: وقال لعتاب: قال: فعرفهم بالذي قالوا؛ فحسن إسلام عتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وفزع أبو سفيان، وكاد أن يقع، فقال أبو سفيان، أما أن فأسلمت، فأسلم يومئذ، فحسن إسلامه1 ... انتهى.
وهذا الخبر يقتضي أن صفوان بن أمية -رضي الله عنه- كان جالسا بالحجر يوم فتح مكة، وسمع أذان بلال -رضي الله عنه- على ظهر الكعبة يوم الفتح، وهذا لا يصح؛ لأن صفوان فر إلى جدة ليركب منها البحر، ولم يرجع إلى مكة إلا بعد أن استأمن له عمير بن وهب وابن عمه، وذهاب عمير إليه بأمان النبي صلى الله عليه وسلم له، ورجوعه مع عمير إلى مكة لا يكون في يوم واحد.
وفي "مغازي" ابن عقبة ما يقتضي أن صفوان سأل عميرا حين جاءه، وأخبره بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم: أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبتأمينه من النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يعرفه، وأن عميرا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول صفوان، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم برد حبرة كان معتجرا به حين دخل مكة، فذاهب عيمر إلى صفوان، فاطمأنت نفسه، وأقبل مع عمير حتى دخل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى بالمعنى.
ومثل هذا لا يكون يوم ولا في نصف يوم؛ فإن مقتضى الخبر الذي ذكره الفاكهي على تقدير صحة كون صفوان في الحجر حين سمع أذان بلال على الكعبة، أن يكون ذهاب عمير إلى صفوان ومجيئه معه في نصف يوم؛ لأن صفوان لم يقل ما قال إلا حين سمع أذان بلال -رضي الله عنه- للظهر على الكعبة.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 222.(2/183)
وذكر الأزرقي خبر أذان بلال -رضي الله عنه- على ظهر الكعبة في يوم الفتح، وفيه ما يخالف بعض ما ذكره الفاكهي فيه، وفيه ما يخالف ما ذكره ابن هشام في كون عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- قال شيئا في أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة. وفيه ما يوافق ما ذكره ابن هشام في كون النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي سفيان، ومن معه فأخبرهم بقولهم في أذان بلال -رضي الله عنه؛ وذلك يخالف ما ذكره الفاكهي من أن النبي صلى الله عليه وسلم استدعاهم إلى الصفا، وأخبرهم بما قالوا.
وفي الخبر الذي ذكره الأزرقي في أذان بلال -رضي الله عنه- غير ما في الخبر الذي ذكره الفاكهي، فنذكره لما في ذلك من الفائدة، ولفظه: وأخبرني جدي، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن الواقدي، عن أشياخه قال: وحانت1 الظهر يوم الفتح؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة، وقريش فوق رءوس الجبال، وقد اصفرت وجوههم، وتغيبوا خوفا من أن يقتلوا، ومنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أمن، وأذن بلال، ورفع صوته كأشد مايكون؛ فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله، تقول جويرة بنتأ [ي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلي، ووالله ما نحب من قتل الأحبة أبدا، ولقد جاء إلى أبي الذي كان جاء إلى محمد من النبوة فردها، ولم يرد خلاف قومه، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم، وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم، وقال الحارث بن هشام: واثكلاه، ليتني مت قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة. وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجلل، أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بيت أبي طلحة، وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطا لله تعالى فيستغيرهالله تعالى، وقال: أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئا؛ لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصى. فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم؛ فأقبل صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم فقال: "أما أنت يا فلان فقلت: كذا، وأما أنت يا فلان فقلت: كذا"؛ فقال أبو سفيان: أما أن يا رسول الله فما قلت شيئا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم2 ... انتهى باختصار.
وفي الخبر من المخالفة لما ذكره الفاكهي وابن هشام ما فيه؛ منه أن "خالد بن أسيد" هو القائل لما سمع أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم، الخبر الذي ذكره ابن هشام والفاكهي يقتضي أن قائل ذلك عتاب بن أسيد، أخو خالد بن أسيد، وهو الذي أسلم عام الفتح3، على ما ذكر عبد البر4، وهو معدود في المؤلفة
__________
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/: "جاءت".
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 274، 275.
3 السيرة لابن هشام 4/ 49.
4 الاستيعاب 3/ 153، 154.(2/184)
قلوبهم1، وذكر في ترجمة أخيه عتاب ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وأما خالد بن أسيد، فذكر محمد بن إسحاق السراج، قال: سمعت عبد العزيز بن معاوية، من ولد عتاب بن أسيد -ونسبه إلى عتاب بن أسيد- يقول: مات خالد بن أسيد، وهو أخو عتاب بن أسيد لأبيه وأمه، يوم فتح مكة، قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ... انتهى.
ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا شريح الخزاعي ذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الفتح لعمرو بن الزبير بن العوام، لما قدم لقتال أخيه عبد الله بمكة؛ لأنه قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير جئته ... انتهى.
وهذا وهم من ابن هشام على ما ذكر السهيلي2، قال: وصوابه عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وهو الأشدق، ثم قال عند استدلاله على ذلك: فالصواب إذا عمرو بن سعيد، لا عمرو بن الزبير، وكذا رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق، وهكذا وقع في الصحيحين، ذكر هذا التنبيه على ابن هشام: أبو عمرو -رحمه الله- في كتاب "الأجوبة عن المسائل المستغربة"، وهي مسائل من كتاب "الجامع" للبخاري، تكلم عليها في ذلك الكتاب؛ وإنما دخل الوهم على ابن هشام أو على البكائي في روايته، من أجل أن عمرو بن الزوبر كان معاديا لأخيه عبد الله، ومعينا لبني أمية عليه في تلك الفتنة، والله أعلم ... انتهى.؟
ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن فضالة بن عمير الليثي هو القائل للأبيات التي أولها:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام3
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن قائل ذلك غير فضالة؛ لأنه قال: حدثني حسن بن حسين قال: حدثنا محمد بن أبي السري، عن هشام بن الكلبي، عن أبي عوانة، قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، أشار إلى الأصنام فخرت لوجهها؛ فقال في ذلك رجل يقال له: راشد أبياتا، قال أبو سعيد: هو راشد بن عبد ربه السلمي:
قالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا ... يأبى علي الله والإسلام
لو ما شهدت محمدا، وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى ساطعا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام4
... انتهى.
__________
1 الاستيعاب 2/ 410.
2 الروض الأنف 4/ 115.
3 السيرة لابن هشام 4/ 35، وعيون الأثر 2/ 242.
4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 223.(2/185)
وذكر الفاكهي في موضع آخر قبل هذا بيسير، ما يقتضي أن هذه الأبيات لفضالة الليثي، كما هو مقتضى كلام ابن إسحاق، ونص ما ذكره الفاكهي في ذلك: وقال فضالة بن عمير بن الملوح الليثي يذكر كسر الأصنام يومئذ:
لو ما رأيت محمدا وجنوده ... بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أصبح بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام1
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن عدد من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، بعض القبائل التي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه في هذا الموطن: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف2، ثم فصلهم.
وذكر موسى بن عقبة ما يخالف ما ذكره ابن إسحاق في عدد المسلمين يوم الفتح؛ لأنه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقال: في اثني عشر ألفا.
ونقل مغلطاي في "سيرته" عن الحاكم ما يوافق ما ذكره ابن عقبة جزما؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف رجل، وقال الحاكم: اثني عشر ... انتهى.
وذكر الفاكهي عن سعيد بن المسيب ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، في عدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لفتح مكة، وسيأتي إن شاء الله تعالى هذا الخبر قريبا في محل يناسبه.
ومنها: أن ابن إسحاق ذكر في عدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من مزينة في فتح مكة، أنهم ألف وثلاثة نفر3، وذكر ابن عقبة ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: ويقال: كان معه يوم حنين من مزينة ألف رجل وثمانية نفر ... انتهى. ويبعد أن يقال: محمل كلام ابن إسحاق على من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفتح، وكلام ابن عقبة على من كان معه في حنين؛ لأن الذين كانوا في حنين هم الذين كانوا في الفتح؛ والله أعلم. ولعل الثمانية في قول ابن عقبة مصحفة بدل ثلاثة؛ فإن ذلك متقارب في النسبة، والله أعلم.
ومنا: أن ابن إسحاق لم يذكر جهينة في القبائل الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وذكرهم ابن عقبة فيهم؛ لأنه قال بعد قوله: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما يقال- في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، ومن طوائف العرب، من أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، ومن بني سليم، وقادوا الخيل ... انتهى.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 223.
2 السيرة لابن هشام 4/ 56.
3 السيرة لابن هشام 4/ 56.(2/186)
ومنها: أن كلام ابن إسحاق ليس فيه بيان لعدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين في فتح مكة.
وذكر الفاكهي خبرا يبين ذلك؛ لأنه قال في "أخبار مكة": حدثنا حسين، حدثنا الثقفي قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت ابن المسيب يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة بثمانية آلاف أو عشرة آلاف، ومن أهل مكة بألفين1 ... انتهى. وهذا هو الخبر الذي أشرنا آنفا أن الفاكهي ذكره، والله أعلم ليلة يقصر الصلاة2 ... انتهى.
وقد حدث الحافظ علاء الدين مغلطاي في "سيرته" عن الخلاف في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها، ما لم أر مثله مجموعا في غير "سيرته"، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه، بعد أن ذكر خبر فتح مكة، قال: قال البخاري: وأقام بها خمس عشرة ليلة، وفي رواية: تسع عشرة، وفي أبي داود: سبع عشرة، وفي "الترمذي" ثمان عشرة، وفي "الإكليل": أصحها بضع عشرة، يصلي ركعتين ... انتهى.
ورأيت أنا في ذلك غير ما ذكره ابن إسحاق ومغلطاي، وذللاك في كتاب الفاكهي، ونذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكره الفاكهي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الطبري قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن يحيى بن إسحاق قال: سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن قصر الصلاة، فقال: سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة؛ فصلى بنا ركعتين حتى وصلنا؛ فسألته: هل أقام؟ قال: نعم أقمنا بمكة عشرا -يعني زمان الفتح3 ... انتهى.
والذي نقله مغلطاي عن "الإكليل" هو في "مغازي" موسى بن عقبة؛ لأنه قال: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشر ليلة ... انتهى.
وقد بينا فيما يتعلق بخبر الفتح الذي ذكره ابن إسحاق، وابن هشام، فوائد كثيرة، لا يوجد مجموعها في كتاب. وتتعلق بخبر الفتح المشار إليه مسائل كثيرة من الفقه واللغة العربية، تركنا ذكرها؛ لكونها غير مقصودة بالذكر في هذا التأليف، وخيفة من التطويل، ونسأله الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.
__________
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 2323.
2 السيرة لابن هشام 4/ 70.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 224.(2/187)
الباب السابع والثلاثون:
في ذكر شيء من ولاة مكة المشرفة في الإسلام:
لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، استخلف عليها عتاب بن أسيد -بفتح الهمزة- ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي، عند مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين1 في العشر الأوسط من شوال سنة ثمان من الهجرة؛ لأن ابن إسحاق، قال لما ذكر غزوة حنين: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، على مكة، أمير على من تخلف عنه من الناس2 ... انتهى.
وذكر ابن عقبة ما يوهم خلاف ما ذكره ابن إسحاق في تأميره عتابا -رضي الله عنه؛ لأنه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى حنين استخلف معاذ بن جبل الأنصاري، ثم السلمي -رضي الله عنه- على أهل مكة، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس القرآن، ويفقههم في الدين، ثم قال: ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدا إلى المدينة، وخلف معاذ بن جبل -رضي الله عنه- في أهل مكة ... انتهى.
وذكر أبو عمر بن عبد البر عن الطبري ما يوهم خلاف ذلك أيضا؛ لأنه قال: هبيرة شبل بن العجلان بن عتاب الثقفي، هو أول من صلى بمكة جماعة بعد الفتح؛ أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكان إسلامه بالحديبية واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة؛ إذ سار إلى الطائف فيما ذكره الطبري3 ... انتهى.
__________
1 حنين: واد قريب من مكة معروف إلى الآن بهذا الاسم، ومن وادي حنين تأتي عين زبيدة إلى مكة؛ لأن المياه تجتمع فيه لانخفاضه وإحاطة الجبال به.
2 السيرة لابن هشام 4/ 74.
3 الاستيعاب 3/ 615، 616.(2/188)
وذكر ابن ماكولا نحو ما ذكره ابن عبد البير، وعزاه إلى الكلبي1.
وذكر ابن عبد البر ما يوافق ما ذكره ابن إسحاق في ترجمة عتاب -رضي الله عنه.
وما ذكره ابن إسحاق، في تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة هو المعروف؛ لكون جماعة من أهل الأخبار ذكروا ذلك، وسيأتي ذلك عن بعضهم2. وسبق ما يدل لذلك في باب فضل أهل مكة وهو الباب السادس.
وذكر مغلطاي ما يوضح تاريخ تأميره صلى الله عليه وسلم لعتاب على مكة، أكثر مما سبق؛ لأنه قال في "سيرته": ثم خرج صلى الله عليه وسلم لست ليال خلون من شوال، ويقال: لليلتين بقيتا من رمضان إلى حنين ... انتهى.
وأفاد السهيلي شيئا يستغرق في سبب تولية النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة؛ لأنه قال: وقال أهل التعبير: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أسيد بن أبي العيص واليا على مكة مسلما، فمات على الكفر، وكانت الرؤيا لولدة عتاب حين أسلم، فولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وهو ابن أحد وعشرين سنة ... انتهى.
وذكر الأزرقي ما يوهم أن لتولية النبي صلى الله عليه وسلم عتابا -رضي الله عنه- على مكة سببا غير السبب الذي ذكر السهيلي؛ لأنه قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيت أسيدا في الجنة وأنى يدخل أسيد الجنة"؛ فعرض له عتاب بن أسيد فقال: "هذا الذي رأيت، ادعوه لي" فدعى له، فاستعلمه صلى الله عليه وسلم يومئذ على مكة، ثم قال لعتاب: "أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيرا، يقولها ثلاثا" 3 ... انتهى.
ويمكن أن يجمع بين ما قال ابن إسحاق وغيره، من تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة، وبين ما ذكره عقبة والطبري، بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل عتابا -رضي الله عنه- أمير مكة، ومعاذ -رضي الله عنه- في الإمامة "هبيرة" المذكور، ولا يعارض ذلك ما قيل في ترجمة هبيرة -رضي الله عنه- من أنه أول من صلى بمكة جماعة بعد الفتح، لإمكان أن يكون حان وقت الصلاة وهبيرة حاضر من الناس، ومعاذ -رضي الله عنه- غير حاضر، لشغل عرض له، فبادر هبيرة -رضي الله عنه- فصلى بالناس، لتحصيل فضيلة أول الوقت، والله أعلم.
__________
1 الإكمال لابن ماكولا 5/ 25.
2 الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار "ص: 333".
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 151، وأبو يعلى 1/ 185، والإصابة 4/ 430، والبيهقي في السنن 5/ 339.(2/189)
ويحتمل أن هبيرة -رضي الله عنه- كان يصلي بالناس قبل معاذ -رضي الله عنه، ثم يصلي معاذ بمن لم يدرك الصلاة خلف هبيرة والله أعلم. وأهل أولى من جعل الأخبار متعارضة في ولاية عتاب. وكان من أمره في ولاية مكة ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتابا على مكة، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب عامله على مكة ... انتهى.
وذكر ابن عبد البر ما ذكره الزبير، وزاد عليه في مدة ولايته؛ لأنه قال: أسلم يوم فتح مكة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة يوم الفتح، في حين خروجه إلى حنين؛ فأقام للناس الحج في تلك السنة، وهي سنة ثمان. وحج المشركون على ما كانوا عليه. ثم قال: فلم يزل عتاب أمير على مكة، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره أبو بكر -رضي الله عنه؛ فلم يزل عليها إلى أن مات، وكانت وفاته فيما ذكر الواقدي يوم مات أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وقال محمد بن سلام وغيره: جاء نعي أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى مكة يوم دفن عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- بها ... انتهى.
وذكر ابن عبد البر ما يخالف ما ذكره في ولاية عتاب على مكة، في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه؛ لأنه قال في ترجمة الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي الهاشمي، بعد أن ذكر شيئا من حاله عن مصعب الزبيري، والواقدي، وقال غيرهما: ولي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الحارث بن نوفل -رضي الله عنه- مكة، ثم انتقل إلى البصرة من المدينة1 ... انتهى باختصار.
ورأيت في "مختصر تاريخ ابن جرير" أن عتاب بن أسيد كان على مكة في سنة أربع عشرة2، وخمس عشرة3، وست عشرة4، وسبع عشرة5، وثمان عشرة6، وتسع عشرة، وكل ذلك وهم، ذكرناه للتنبيه عليه، والله أعلم.
ورأيت في "تاريخ ابن الأثير" ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة أربع عشرة7، وخمس عشرة8، وكل ذلك وهم ذكرناه للتنبيه عليه، والله أعلم.
__________
1 الاستيعاب 3/ 397.
2 تاريخ الطبري 3/ 597، إتحاف الورى 2/ 5، البداية والنهاية 2/ 207.
3 تاريخ الطبري 3/ 623، إتحاف الورى 2/ 6.
4 تاريخ الطبري 4/ 94، إتحاف الورى 2/ 6.
5 تاريخ الطبري 4/ 94، إتحاف الورى 2/ 9.
6 تاريخ الطبري 4/ 160، إتحاف الورى 2/ 10، البداية والنهاية 2/ 238.
7 الكامل لابن الأثير 2/ 489.
8 الكامل لابن الأثير 2/ 508.(2/190)
وممن ولي مكة في خلافة الصديق -رضي الله عنه: المحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، في سفرة سافرها عتاب، على ما ذكر ابن عبد البر1 رحمه الله.
ثم وليها المحرز المذكور لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه، في أول ولاية عمر -رضي الله عنه، على ما ذكر ابن عبد البر أيضا، وذكر ابن حزم ولايته على مكة لعمر رضي الله عنه.
وذكر الزبير بن بكار ولايته على مكة بعد عتاب -رضي الله عنه.
ثم ولي مكة في خلافة عمر -رضي الله عنه: قنفذ بن عمير بن جدعان التيمي، بعد عزل المحرز، على ما ذكر ابن عبد البر2.
ثم وليها نافع بن عبد الحارث الخزاعي، بعد عزل قنفذ، على ما ذكر ابن عبد البر أيضا3.
ثم وليها لعمر -رضي الله عنه: خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي بعد عزل نافع.
ورأيت في "الكامل" لابن الأثير ما يقتضي أن نافع بن عبد الحارث كان على مكة في سنة ثلاث وعشرين4، ولا أدري هل هذه السنة أول ولايته بمكة؟ ولا متى انقضت ولايته عنها، والله أعلم.
وممن ولي مكة في خلافة عمر -رضي الله عنه: طارق بن المرتفع5 بن الحارث بن عبد مناة، على ما ذكره الفاكهي؛ وعبد الرحمن بن أبزي الخزاعي6 مولى خزاعة، نيابة عن مولاة نافع بن عبد الحارث، لما لقي نافع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعسفان7، وأنكر عمر -رضي الله عنه: إنه قارئ، لكتاب الله، عالم بالفرائض، وفي رواية: أن نافعا قال لعمر -رضي الله عنه- لما أنكر عليه استخلافه عليه استخلافه ابن أبزى هذا على أهل مكة: إني وجدته أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بدين الله تعالى، ولذلك سكن غيظ عمر
__________
1 الاستيعاب 3/ 483.
2 جمهرة أنساب العرب "ص: 78".
3 الاستيعاب 3/ 280، وأخبار مكة للفاكهي 3/ 164.
4 الكامل لابن الأثير 3/ 77، وإتحاف الورى 2/ 131.
5 يجعل المؤرخون قبله: أحمد بن خالد بن العاص "ص: 82". الرحلة الحجازية، وكما ذكر هنا.
6 تاريخ الخليفة "ص: 153".
7 عسفان: ماء في طريق مكة المدينة بعد مر الظهران، ويعرف بهذا الاسم إلى الآن.(2/191)
-رضي الله عنه- على نافع، وخبر توليته لابن أبزى، وما كان ببنه وبين عمر من المقال المشار إليه مذكور في تاريخ الأزرقي وغيره1.
وممن ولي مكة لعمر -رضي الله عنه- على ما قيل: الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب القرشي الهاشمي المقدم ذكره؛ لأنا الزبير، قال في ترجمته: وذكر أن أبا بكر -رضي الله عنهما- استعمله على مكة2 ... انتهى.
ورأيت في "تاريخ الإسلام" للذهبي ما يقتضي الجزم بولاية الحارث هذا على مكة لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما؛ لأنه قال في ترجمته: له صحبة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض صدقات مكة، وبعض أعمال مكة، ثم استعمله أبو بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم- على مكة1 ... انتهى، والله أعلم بالصواب.
ثم ولي مكة: علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي؛ ولاه عليها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين ولي الخلافة، على ما ذكر ابن عبد البر3.
وذكر ابن حزم ولايته على مكة لعثمان -رضي الله عنه، ولم يقل كما قال ابن عبد البر أنه ولاه مكة حين ولي الخلافة، ثم ولي مكة خالد بن العاص المخزومي المقدم ذكره لعثمان أيضا، على ما ذكره ابن عبد البر، ذكر ما يقتضي أنه أقام على ولاية مكة إلى أن عزله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وسيأتي هذا قريبا.
وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه: الحارث بن نوفل السابق ذكره، كما ذكره الذهبي.
وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه- فيما ذكر الفاكهي: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشي ابن أخي عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- المقدم ذكره4.
وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه: عبد الله بن عامر الحضرمي على ما ذكره ابن الأثير5، وذكر أنه كان عامل عثمان -رضي الله عنه- على مكة في سنة خمس وثلاثين.
__________
1 تاريخ الإسلام 2/ 26.
2 الاستيعاب 1/ 297، وفيه يذكر عبد البر ولاية الحارث بن نوفل في عهد أبي بكر فقط.
3 الاستيعاب 2/ 26.
4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 164.
5 ابن الأثير 3/ 207، إتحاف الورى 2/ 23.(2/192)
وذكر في أخبار هذه السنة ما يشعر أنه كان على مكة وقت قتل عثمان -رضي الله عنه؛ لأنه ذكر أن عائشة -رضي الله عنها، لما توجهت من مكة عبد الحج في هذ السنة، بلغها قتل عثمان -رضي الله عنه، فرجعت إلى مكة وحرضت على الطلب بدمه؛ فقال لها عبد الله بن عامر العامري الحضرمي، وكان عامل عثمان -رضي الله عنه- على مكة: ها أنذا أول طالب؛ فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك ... انتهى بالمعنى، وهذا يشعر بخلاف ما ذكره ابن عبد البر من أن خالد بن العاص لم يزل على مكة إل أن عزله علي -رضي الله عنه- في أول خلافته.
وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه- على ما قيل: نافع بن عبد الحارث الخزاعي السابق ذكره؛ لأن الزبير ذكر أنه كان على مكة في سنة ثلاث وعشرين عاملا لعمر -رضي الله عنه، وأن عمر -رضي الله عنه- لما طعن في هذه السنة أوصى أن تقر عماله سنة، فأقر عثمان -رضي الله عنه- عمال عمر -رضي الله عنه- سنة على ما قيل؛ فعلى هذا يكون نافع عاملا على مكة لعثمان -رضي الله عنه، والله أعلم.
ثم ولي مكة في خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: أبو قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحارث بن ربعي، وقيل: النعمان بن ربعي، وقيل غير ذلك.
ثم قثم العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، بعد عزل أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، على ما ذكر ابن عبد البر1؛ لأنه قال في ترجمة قثم هذا: وكان قثم بن العباس واليا لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على مكة، وذلك أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما ولي الخلافة، عزل خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي عن مكة، وولاها أبا قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، ثم عزله وولي قثم بن العباس -رضي الله عنهما، فلم يزل واليا عليها حتى قتل على بن أبي طالب -رضي الله عنه، هذا قول خليفة2 ... انتهى.
وذكر ابن الأثير ما يوافق ما ذكره خليفة في ولاية قثم -رضي الله عنه- لمكة، في خلافة علي -رضي الله عنه، وذكر ما يقتضي أن ولايته في سنة ست وثلاثين، وأنه ولي مع مكة الطائف، وما اتصل بمكة3.
__________
1 الاستيعاب 3/ 275، إتحاف الورى 2/ 28.
2 تاريخ خليفة: "ص: 201".
3 أسد الغابة 1/ 213، تهذيب الأسماء للنووي 2/ 59، سير أعلام النبلاء 3/ 292، والإصابة 3/ 219، جمهرة أنساب العرب "ص: 18".(2/193)
وممن ولي مكة لعلي -رضي الله عنه، على ما قيل: معبد بن العباس بن العباس بن عبد المطلب أخو قثم السابق؛ ذكر ذلك ابن حزم في "الجمهرة"1؛ لأنه قال لما ذكر أولاد العباس: ومعبد ولي مكة لعلي -رضي الله عنه- وقال قبل ذلك: وقثم ولي المدينة لعلي؛ وما ذكره ابن حزم في بيان معبد يخالف ما ذكره خليفة، وأما ما ذكره في شأن قثم فلا؛ لإمكان أن يكون علي -رضي الله عنه- جمع لقثم بين ولاية المدينة ومكة. ويصح تعريفه بأنه ولي المدينة، والله أعلم.
ورأيت في نسخه من "الثقات" لابن حبان ما صورته: قتادة بن ربعي له صحبة، كان عمل علي -رضي الله عنه- بمكة ... انتهى، وهذا -والله أعلم- أبو قتادة السابق ذكره، وسقط في النسخة التي رأيتها من "الثقات"، وإنما ذكرنا ذلك؛ لأن أبا قتادة ولي مكة لعلي -رضي الله عنه- كما سبق. ولم أر في الصحابة من اسمه قتادة بن ربعي، والله أعلم.
ورأيت في "الكامل" لابن الأثير في أخبار سنة ست وثلاثين ذكر وفاة المحرز بن حارثة السابق، ثم قال: واستعمله علي -رضي الله عنه- على مكة، ثم عزله ... انتهى، وعلي تصحيف؛ لأن عمر -رضي الله عنه- الذي ولاه وعزله كما سبق2، والله أعلم.
ثم ولي مكة في خلافة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- جماعة، لا أعرف من أولهم في الولاية، منهم: عتبة بن أبي سفيان بن حرب الأموي3، وولايته على مكة لمعاوية ذكرها الفاكهي.
ومنهم: خالد بن العاص بن هشام المخزومي المقدم ذكره، ورأيت في "الكامل"4 لابن الأثير أنه ولي مكة في سنة اثنتين وأربعين، وذكر ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة ثلاث وأربعين أيضا. ورأيت في "مختصر ابن جرير الطبري"5، ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة ثلاث وأربعين أيضا. ورأيت في "مختصر ابن جرير الطبري"6 ما يقتضي أنه كزان على مكة في سنة خمس وأربعين، وفي ست وسبع وثمان وأربعين، وفي سنة ثلاث وأربعين أيضا.
ومنهم: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي أبو عبد الملك، على ما ذكر ابن عبد البر؛ لأنه قال في ترجمته: وكان معاوية لما صار الأمر إليه ولاه المدينة، ثم جمع له إلى المدينة: مكة، والطائف. ثم عزله عن المدينة،
__________
1 جمهرة أنساب العرب "ص: 18".
2 الكامل لابن الأثير 3/ 263، وفيه: "الخليفة عمر".
3 تاريخ خليفة؛ ص: 205 و208.
4 الكامل لابن الأثير 3/ 420.
5 تاريخ الطبري 5/ 172، 211.
6 تاريخ الطبري 5/ 172، 211.(2/194)
سنة ثمان وأربعين1، انتهى. وفي هذا إشعار بأن ولايته لمكة قبل سنة ثمان وأربعين، والله أعلم.
ومنهم: سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، الأموي، أبو عثمان، ويقال: أبو عبد الرحمن، أحد أشراف قريش وأجودها، وفصحائها، ذكر ما يدل على لولايته على مكة صاحب "العقد" ابن عبد ربه؛ لأنه قال في الفضل الذي ذكره فيه الخطب عن العتبي، قال: استعمل سعيد بن العاص وهو والي المدينة ابنه عمرو بن سعيد على مكة2 ... انتهى.
ومنهم: عمر بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص القرشي الأموي المعروف بالأشدق3، ولد سعيد المقدم ذكره، وولايته على مكة لمعاوية4 ذكرها الفاكهي، وذكر ما يقتضي أنها في حياة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما. وعلى هذا فتكون ولايته في أوائل عشرة الستين من الهجرة؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- مات في سنة ثلاث وخمسين من الهجرة في قول الأكثرين5، والله أعلم. وولايته لمعاوية على مكة ذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة ستين من الهجرة: لما ولي يزيد بن معاوية، كان على مكة: عمرو بن سعيد بن العاص6 ... انتهى.
وممن ولي مكة لمعاوية: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص القرشي المقدم ذكره. وولايته على مكة لمعاوية ذكرها الفاكهي، وذكر الأزرقي ما يفهم ذلك، ويفهم تاريخ ولايته؛ لأنه ذكر خبرا فيه ما يقتضي أن معاوية بن أبي سفيان اشترى دار الندوة من بعض بني عبد الدار؛ فجاء شيبة بن عثمان فقال له: إن لي فيها حقا، فأخذتها بالشفعة، فقال له معاوية -رضي الله عنه- دار الندوة، وخرج من بابها الآخر، مسافرا وشيبة لا يشعر به، وفيه بعهد ذلك ما نصه: خرج إليه والي مكة عبد الله بن خالد بن أسيد، فقام إليه شيبة وقال: فأين أمير المؤمنين؟ قال: راح إلى الشام، قال شيبة: والله لا كلمته أبدا7 ... انتهى.
__________
1 الاستيعاب 3/ 426.
2 العقد الفريد 4/ 133.
3 لقب بالأشدق لفصاحته وبلاغته وقوة عارضته في الخطابة.
4 تاريخ خليفة "ص: 229".
5 تاريخ خليفة "ص: 219".
6 الكامل لابن الأثير 4/ 6، إتحاف الورى 2/ 53، مروج الذهب 4/ 398، البداية والنهاية 8/ 171، العقد الفريد 6/ 389، أخبار مكة للفاكهي 3/ 178.
7 أخبار مكة للأزرقي 1/ 269، 270.(2/195)
وكانت هذه القصة في حجة معاوية -رضي الله عنه- الأولى؛ لأن في الخبر المشار إليه: فلما حج معاوية -رضي الله عنه- حجته الثانية؛ فذكر قصة بني شيبة ومعاوية -رضي الله عنه، وملخصها أنه لم يفتح له الكعبة لمنا سأله معاوية -رضي الله عنه- في ذلك، وبعث إليه حفيده شيبة بن جبير بن شيبة بين عثمان، ففتح له الكعبة، وكانت حجة معاوية -رضي الله عنه- الأولى سنة أربع وأربعين، على ما ذكر العتيقي في "أمراء الموسم". وحجته الثانية في سنة خمسين على ما ذكر العتيقي أيضا، وقيل في حجته الثانية غير ذلك. فاستفدنا مما ذكر العتيقي في حجة معاوية -رضي الله عنه- الأولى: أن عبد الله بن خالد بن أسيد كان على مكة في سنة أربع وأربعين1، والله أعلم.
ثم ولي مكة في خلافة يزيد بن معاوية يزيد بن معاوية بن أبي سفيان جماعة، وهم: عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق المقدم ذكره، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية القرشي الأموي، وعثمان بن محمد بن أبي سفيان بن حرب الأموي، والحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي المقدم ذكر والده، وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي ابن أخي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، ويحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي.
فأما ولاية عمرو بن سعيد الأشدق فذكرها ابن جرير2؛ لأنه ذكر في أخبار سنة ستين من الهجرة، أن عمرو بن سعيد حج بالناس فيها، وهو على مكة والمدينة، وأن يزيد بن معاوية ولاه بالمدينة، بعد أن عزل عنها الوليد بن عتبة، في شهر رمضان، وذكر ابن الأثير مثل ما ذكر ابن جرير بالمعنى، وذكر أن عمرو بن سعيد قدم المدينة لما بينهما من العداوة، وأنيس بن عمرو الأسلمي، في جيش نحو ألفي رجل؛ فقتل أنيس بذي طوى قتله أصحاب ابن الزبير بمكة، وأسروا عمرو بن الزبير، فأقاد منه أخوه عبد الله الناس بالضرب، كما صنع بهم في المدينة، حتى مات عمرو تحت السياط3.
وأما ولاية الوليد بن عتبة فذكرها ابن الأثير4 وذكر سببها، وملخص ذلك: أن يزيد أتهم عمرو بن سعيد بمداهنة ابن الزبير؛ فإنه أظهر العصيان على يزيد بعد قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- بالعراق وبويع بعد ذلك ابن الزبير بمكة. وقيل
__________
1 إتحاف الورى 233، العقد الثمين 5/ 133، الجامع اللطيف "ص: 286".
2 تاريخ الطبري 5/ 343.
3 الكامل لابن الأثير 4/ 18، 19.
4 الكامل لابن الأثير 4/ 98، مآثر الإنافة 1/ 121.(2/196)
ليزيد: لو شاء عمرو بن سعيد سرح إليك ابن الزبير؛ فعزل يزيد عمرا وولي مكانه الوليد، فقدم الوليد مكة، وأقام يريد غرة ابن الزبير، فلا يجده إلا محترزا ممتنعا، وكان ذلك في سنة إحدى وستين، وذكر ابن جرير نحو ذلك مختصرا بالمعنى.
وأما ولاية عثمان فذكرها ابن الأثير وذكر سببها، وملخص ذلك أن الزبير كتب إلى يزيد في أمر الوليد يقول له: إنك بعثت إلينا رجلا أخرق، لا يتجه لرشد، ولا يرعوي لعظة1؛ فلو بعثتن رجلا سهل الخلق، رجوت أن يسهل من المور ما استوعر منها، وأن يجمع مال تفرق؛ فعزل يزيد الوليد وولي عثمان، وذلك في سنة اثنتين وستين2. وذكر ابن جرير نحو ذلك مختصرا بالمعنى3.
وأما ولاية الحارث بن خالد وعبد الرحمن بن يزيد المذكورين، فذكر خليفة بن خياط فيما حكي عنه الحافظ أبو الحجاج المزي في "تهذيبه" أن يزيد لما عزل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عن مكة، ولاها الحارث بن خالد، ثم عزله، وولي عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، ثم عزل عبد الرحمن وأعاد الحارث فمنعه ابن الزبير الصلاة، فصلى بالناس مصعب بن عبد الرحمن بن عوف4 ... انتهى.
وأما ولاية يحيى بن حكيم5 فذكرها الزبير بن بكار مع ولاية الحارث أيضا؛ لأنه قال: فولد حكيم بن صفوان يحيى بن حكيم6 ولي مكة ليزيد بن معاوية وكان عبد الله بن الزبير مقيما معه بمكة، لم يعرض له يحيى بن حكيم؛ فكتب الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يذكر له مداهنة يحيى بن حكيم لعبد الله بن الزبير، فعزل يزيد، يحيى بن حكيم، وولي الحارث بن خالد مكة، فلم يدعه "ابن الزبير" يصلي بالناس، وكان الحارث يصلي في جوف داره بمواليه ومن أطاعه من أهله، وكان مصعب بن عبد الرحمن يصلي بالناس في المسجد الحرام، بأمر عبد الله بن الزبير، فلم يزل كذلك حتى وجه يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير: مسلم7 بن عقبة، فبويع عبد الله بن الزبير بالخلافة بالنسا بمكة8 ... انتهى.
ثم ولي مكة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-، بعد أن لقي في ذلك عناء شديدا، سببه أن يزيد بن معاوية لما طرد أهل المدينة عامله عثمان بن محمد بن أبي
__________
1 الكامل لابن الأثير 4/ 102.
2 الكامل لابن الأثير 4/ 102، إتحاف الورى 257، تاريخ الطبري 5/ 479.
3 تاريخ الطبري 5/ 479.
4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 181، والعقد الثمين 4/ 268.
5 إتحاف الورى 2/ 57، والعقد الثمين 7/ 434.
6 هكذا في جميع النسخ.
7 تاريخ الطبري 5/ 484.
8 نسب قريش "ص: 39".(2/197)
سفيان وغيره من بني أمية، إلى ولد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بعث إليهم مسلم بن عقبة المري، وسمي مسرفا لإسرافه في القتل بالمدينة. وبعث معه اثني عشر ألفا، فيهم: الحصين بن نمير السكوني، وقيل: الكندي، ليكون على العسكر إن عرض لمسلم موت؛ فإنه كان عليلا؛ في بطنه الماء الأصفر، وأمر يزيد مسرفا إذا بلغ المدينة أن يدعوا أهلها ثلاثا، فإن أجابوه وإلا قاتلهم، فإذا ظهر عليهم أباحها ثلاثا، ثم يكف عن الناس ويسير إلى مكة لقتال ابن الزبير؛ فلما بلغ "مسلم" المدينة بمن معه، التقى مع أهلها بظاهر المدينة، فاقتتلوا، فقتل من أولاد المهاجرين ما يزيد عن ثلاثمائة نفر وجماعة من الصحابة، ودخل المدينة وأباحها ثلاثا، وكانت الوقعة بمكان يقال له: الحرة، وأقام لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، ثم سار إلأى مكة؛ فلما كان بالمشلل1 مات، وقيل مات بثنية هرشي2، بعد أن قدم على عسكره: "الحصين بن نمير"، فسار "الحصين" حتى بلغ مكة، لأربع بقين من المحرم سنة أربع وستين، وقد بايع أهل مكة والحجاز وغيرهم ابن الزبير، وأجمعوا عليه، وانضم إليه من انهزم من أهل المدينة، وكان قد بلغه خبر أهل المدينة مع مسلم هلال المحرم سنة أربع وستين، مع المسور بن مخرمة، فلحقه منهن أمر عظيم، واعتد هو وأصحابه واستعدوا للقتال، وقاتلوا الحصين أياما، وتحصن ابن الزبير وأصحابه في المسجد وحول الكعبة، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد خياما ورقاقا يكتنون بها من حجارة المنجنيق، ويستظلون فيها من الشمس، وكان الحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أبي قبيس، وعلى الأحمر؛ فكان يمريهم بالحجارة، وتصيب الحجارة الكعبة فتوهنت، ودامت الحرب بينهم إلى أن فرج الله على ابن الزبير وأصحابه، بوصول نعي يزيد معاوية، وكان وصول نعيه ليلة الثلاثاء، لثلاث مضين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، وبلغ نعيه ابن الزبير قبل أن يبلغ الحصين، وبعث إلى الحصين من يعلمه بذلك، ويحسن له ترك القتال، ويعظم إليه أمر الحرام، وما أصاب الكعبة؛ فمال إلى ذلك، وأدبر إلى الشام لخمس ليال خلون من ربيع الآخر سنة أربع وستين، بعد أن اجتمع بابن الزبير في الليلة التي تلي اليوم الذي بلغه فيه نعي يزيد، وسأله ابن الزبير في أن يبايع له هو ومن معه من أهل الشام، على أن يذهب معهم أبن الزبير إلى الشام ويؤمن النساء، ويهدر الدماء التي كانت بينهم وبين أهل الحرم، فأبى ابن الزبير ذلك3.
__________
1 المشلل: قبل "قديد" بثلاثة أيام، وهي التي كانت عندها مناة الطاغية في الجاهلية "مناسك الحربي ص: 458".
2 مدينة بينها وبين ودان خمسة أميال "المرجع السابق ص: 554".
3 تاريخ الطبري 5/ 502.(2/198)
وبويع ابن الزبير بعد رحيل الحصين عن مكة بالخلافة بالحرمين، ثم بويع بها في العراق، واليمن، وغير ذلك، حتى كاد تجتمع الأمة عليه؛ فولي في البلاد التي بويع له فيها العمال، ودامت ولايته على مكة إلى أن قتله الحجاج -قاتله الله- في جمادى الأولى، وقيل: يوم الثلاثاء من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، عن ثلاث وسبعين سنة، وبعد أن حاصره الحجاج بمن معه أزيد من نصف سنة، وهو ينتصف منهم، ويفضل عليهم في الغلب؛ لأنه كان نهاية في الشجاعة، وكذا في العبادة. وكان في اليوم الذي قتل فيه حمل على أهل الشام لما دخلوا عليه في أبواب المسجد، حتى أبلغهم الحجون. ولم يقتل حتى أدهش بآجرة رمي به وجهه ودمي؛ فعند ذلك تعاونوا عليه تعاونوا عليه وقتلوه. ولم يقتل إلا بعد أنلم يبق معه من أصحابه إلا اليسير لميلهم، عنه إلى الحجاج، وأخذهم الأمان من الحجاج، وكان ممن فعل ذلك ابناه: حمزة: وحبيب. وكان ابتداء حصار الحجاج له في ذي القعدة سنة اثنين وسبعين، وكان الحجاج في حال محاصرته لابن الزبير يرمي الكعبة بالمنجنيق من أبي قبيس، لكون ابن الزبير كان مكتنا في المسجد، وكان الحجاج نازلا ببئر ميمون، ومعه طارق بن عمرومولى عثمان، وكان عبد الملك قد أمد الحجاج بطارق، لما سأله النجدة على ابن الزبير؛ فقدم طارق في ذي الحجة، ومعه خمسة آلاف. وكان مع الحجاج ألفان -وقيل: ثلاثة- من أهل الشام، وكان الحجاج لما وصل من عند عبد الملك نزل الطائف؛ فكان يبعث منه خيلا إلى عرفة، ويبعث ابن الزبير خيلا إلى عرفة، فيقتتلون بها، فتهزم خيل ابن الزبير، وتعود خيل الحجاج بالظفر، ثم استأذن عبد الملك في منازلة ابن الزبير، فأذن له؛ فكان من الأمر ما كان.
وكان حصار الحجاج لابن الزبير ستة أشهر وسبع عشرة ليلة، على ما ذكر ابن جرير1، وصلب ابن الزبير بعد قتله منكسا على الثنية اليمنى بالحجون، وبعث رأسه إلى عبد الملك بن مروان، فطيف به في البلدان.
وولي مكة لابن الزبير في خلافته الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، على ما ذكر ابن عبد البر؛ لأنه قال في ترجمته: واستعمل ابن الزبير الحارث بن حاطب على مكة سنة ست وستين. وقيل: إنه كان يلي المساعي أيام مروان2 ... انتهى.
ثم ولي مكة لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير جماعة، وهم: ابنه مسلمة بن عبد الملك، والحجاج بن يوسف الثقفي، والحارث بن خالد المخزومي -المقدم ذكره- وخالد بن عبد الله القسري، وعبد الله بن سفيان المخزومي،
__________
1 تاريخ الطبري 6/ 187.
2 تاريخ الطبري 6/ 195، 201، 202.(2/199)
وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي، ونافع بن علقمة الكناني، ويحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي.
فأما ولاية الحجاج: فمشهورة، ذكرها غير واحد، ودامت إلى سنة خمس وسبعين. وولي مع مكة: المدينة، والحجاز، وقد ذكر ابن جرير ما يدل لذلك، ولمنتهى ولايته على الحجاز؛ لأنه ذكر في أخبار سنة أربع وسبعين أنه كان ولي على مكة والمدينة، وذكر في أخبار سنة خمس وسبعين أنه ولي العراق، وعزل عن الحجار، وذكر أنه انصرف إلى المدينة في صفر من سنة أربع وسبعين، وأقام بها ثلاثة أشهر، وأنه حج بالنسا في هذه السنة1.
وأما ولاية الحارث بن خالد المخزومي؛ فذكر الزبير بن بكار ما يشهد بذلك؛ لأنه قال بعد أن ذكر تولية يزيد بن معاوية له على مكة، ومنع ابن الزبير له من الصلاة: ولم يزل معتزلا لابن الزبير حتى ولي عبد الملك بن مروان؛ فولاه مكة ثم عزله، فقدم عليه في دمشق، ولم ير عنده ما يحب فانصرف عنه، وقال في ذلك شعرا2 ... انتهى.
وأما ولاية خالد بن عبد الله القسري: ففي "تاريخ الأزرقي" ما يدل لذلك؛ لأنه روى بسنده أن جده عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني كان يضع على طرف دالره مصباحا عظيما، فيضيء لأهل الطواف وأعلى المسجد، ثم قال: فلم يزل ذلك المصباح على حرف الدار، حتى كان خالد بن عبد الله القسري؛ فوضع مصباح زمزم مقابل الركن الأسود في خلافة عبد الملك بن مروان، فمنعنا أن نضع ذلك المصباح3. وذكر في الترجمة التي ترجم عليها: "أول من أدار الصفوف حول الكعبة" ما يدل لذلك؛ لأنه روى فيها عن جده، عن عبد الرحمن بن حسن الأزرقي قال: فلما ولي خالد بن عبد الله القسري لعبد الملك بن مروان، فذكر إدارته للصفوف، والمعروف أن خالدا ولي مكة للوليد، وسليمان، ولدى عبد الملك بن مروان، والله أعلم. ويبعد أن يقال: لعل الأزرقي سها فيما ذكره من ولاية خالد لعبد الملك، لكونه كرر ذلك في غير موضع4، والله أعلم.
وخالد القسري هو الذي حفر البئر التي ساق منها الماء، حتى أخرجه في المسجد الحرام عند زمزم، ليضاهي به زمزم، وحكي عنه في تفضيله على زمزم، وتفضيل الخليفة الذي أمره بذلك ما يستشبع ذكره، وقيل: إن ذلك لا يصح عنه، والله أعلم.
__________
1 الاستيعاب 1/ 29، درر الفرائد: "ص: 200"، إتحاف الورى "2/ 104".
2 نسب قريش "ص: 313".
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 287، أخبار مكة للفاكهي 3/ 167.
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 20.(2/200)
وأما ولاية عبد الله بن سفيان المخزومي: فذكر الأزرقي ما يدل لها؛ لأنه قال لما ذكر سيل الجحاف: وكان سيل الجحاف سنة ثمانين في خلافة عبد الملك، وذكر خبرا فيه؛ فكتب في ذلك إلى عبد الملك بن مروان، ففزع لذلك، وبعث بمال عظيم، وكتب عامله على مكة عبد الله بن سفيان المخزومي -ويقال: بل كان عامله الحارث بن خالد المخزومي- يأمره بعمل ضفائر الدور الشارعة على الوادي1 ... انتهى.
وما عرفت نسب عبد الله بن سفيان هذا؛ إلا أني لم أر له ذكرا في غير تاريخ الأزرقي2، وعلى ما ذكر في تاريخ الجحاف، وكتابة عبد الملك لعامله على مكة عبد الله أو الحارث المشار إليهما، بكون ولاية من كان واليا عبد الملك لعامله على مكة عبد الله أو الحارث المشار إليهما بكون ولاية من كان واليا فيهما في سنة ثمانين، وفي التي بعدها؛ لأن سيل الجحاف كان في زمن الحج، وما يصل خبره لعبد الملك، ويصل أمره ببناء ضفائر الدور إلا في سنة إحدى وثمانين، والله أعلم.
وأمام ولاية عبد العزيز فذكرها الزبير بن بكار؛ لأنه قال: واستعمل عبد الملك بن مروان عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، على مكة3 ... انتهى.
ورأيت في كتاب "الكمال" لعبد الغني المقدسي، ما يوافق ذلك؛ ولكنه لم يحكه إلا بصيغة التمريض؛ لأنه قال: ولي مكة لسليمان بن عبد الملك، قيل: إنه وليها لعبد الملك أيضا ... انتهى.
وأما ولاية نافع بن علقمة الكناني، ويحيى بن الحكم؛ فذكر الزبير بن بكار ما يشهد لذلك4، وفي ذلك طول اختصرناه، ولأنا في الغالب لا نستدل إلا على ما يستغرب، أو يقع فيه اختلاف، وولاية مسلمة بن عبد الملك حكاها ابن قتيبة في "الإمامة والسياسة"5، وكلامه صريح في أنه وليها لأبيه، وأن خالدا القسري وليها أيضا لعبد الملك6؛ لأنه قال: وذكروا أن مسلمة بن عبد الملك كان واليا على مكة؛ فبينا هو يخطب على المنبر، إذ أقبل خالد بن عبد الله القسري من الشام واليا عليها، فدخل المسجد؛ فلما قضي مسلمة خطبته صعد خالد المنبر، فلما ارتقى في الدرجة الثانية تحت مسلمة أخرج طومارا ففضه، ثم قرأه الناس فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أهل مكة، أما بعد فإني وليت عليكم خالد بن عبد الله القسري، فاسمعوا له وأطيعوا، ولا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلا؛ فإنما هو القتل لا غيره، وقد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير والسلام".
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 169.
2 له ذكر في فتوح البلدان للبلاذري 1/ 62.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 169.
4 نسب قريش "ص 283"، تاريخ خليفة "ص 310"، أخبار مكة للفاكهي 3/ 171.
5 الإمامة والسياسة لابن قتيبة 2/ 44.
6 انظر تاريخ خليفة "ص: 311".(2/201)
ثم التفت إليهم خالد فقال: والذي يحلف به، ويحج إليه، لا أجده في دار أحد إلا قتلته، وهدمت داره، ودار كل من جاوره، واستبحت حرمه. وقد أجلت لكم فيه ثلاثة أيام، ثم نزل ودعا مسلمة برواحله، ولحق بالشام. فأتى رجل إلى خالد، فقال له: إن سعيد بن جبير بوادي كذا، من أودية مكة، مختفيا بمكان كذا؛ فأرسل خالد في طلبه، فأتاه الرسول، فلما نظر إليه قال لي: إنني أمرت بأخذك، وأتيت لأذهب بك، وأعوذ بالله من ذلك، فألحق بأي بلد شئت. وأنا معك. فقال سعيد بن جبير: ألك هاهنا
أهل وولد؟ قال: نعم قال: إنهم يؤخذون بعدك، وينالهم من المكروه مثل الذي كان ينالني. قال: وإني أكلهم إلى الله -عز وجل، قال سعيد: لا يكون هذا؟ فأتى به إلى خالد فشدجه وثاقا ثم بعث به إلى الحجاج؛ فقال له رجل من أهل الشام: إن الحجاج قد أنذر به وأشعر قبلك، فما عرض له، فلو جعلته بينك وبين الله تعالى، لكان أزكى من كل عمر يتقرب به إلى الله -عز وجل. قال خالد -وظهره إلى الكعبة وقد استند إليها: والله لو علمت أن عبد الملك لا يرضى إلا بنقض هذا البيت حجرا لنقضته في مرضاته.
وممن ولي مكة لعبد الملك بن مروان فيما أظن: هشام بن إسماعيل المخزومي؛ لأن الفاكهي ذكر ما يدل لولايته لها؛ إلا أنه لم يصرح بأنه ولي مكة لعبد الملك بن مروان، وولايته لها؛ إلا أنه لم يصرح بأنه ولي مكة لعبد الملك بن مروان، وولايته لها لا يبعد أن تكون في زمن عبد الملك بن مروان؛ لأنه ولي المدينة له، وحج في خلاته عدة سنين، وإذا كان ولي ذلك لعبد الملك فولايته على مكة لعبد الملك أقرب من ولايته عليها لغيره1، والله أعلم.
وممن ولي مكة لعبد الملك بن مروان فيما أظن: إبان بن عثمان بن عفان2 -رضي الله عنهما، والله أعلم.
ثم ولي مكة في خلافة الوليد بن عبد الملكبن مروان رجلان فيما علمت: الإمام العادل عمر بن عبد العزيز3 بنمروان بن الحكم الأموي -رضي الله عنه، ثم خالد بن عبد الله القسري.
فأما ولاية عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- فقد ذكرها جماعة منهم: ابن كثير، وأفاد فيما ذكره تاريخ ابتدائها؛ لأنه قال في ترجمته: قالوا: ولما مات عبد الملك حزن عليه ولبس المسموح تحت ثيابه سبعين يوما. وولي الوليد، فعاملهما كان يعامله به، وولاه المدينة ومكة والطائف من سنة ست وثمانين، إلى سنة ثلاث وتسعين4 ...
__________
1 تاريخ خليفة "ص: 311".
2 تاريخ خليفة "ص: 298، 299".
3 كانت توليته لمكة عام 87هـ "تاريخ خليفة ص: 301".
4 البداية والنهاية 9/ 194.(2/202)
انتهى. وقيل: إن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- عزل عن مكة في سنة تسع وثمانين وقيل: سنة إحدى وتسعين.
وأما ولاية خالد القسري: فاختلف في أولها، للخلاف في تاريخ عزل عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-1 ودامت ولايته إلى أن مات الوليد بن عبد الملك، وكان موته في جمادى الآخر سنة ست وتسعين2.
ثم ولي مكة في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان ثلاثة نفر:
خالد القسري، ثم طلحة بن داود الحضرمي، ثم عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي.
فأما ولاية خالد القسري لسليمان: فقد ذكر الأزرقي ما يدل لها3، وكذلك الزبير بن بكار، وما ذكره في ذلك أصح مما ذكره الأزرقي؛ لأنه قال: وحدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: إن خالد بن عبد الله القسري أخاف عبد الله الأصغر بن شيبة بن عثمان، وهو الأعجم؛ فهرب منه، فاستجار بسليمان بن عبد الملك، قال محمد بن الضحاك: عن أبيه، وخالد بن عبد الله يومئذ والي لسليمان بن عبد الملك على مكة، فكتب سليمان بن عبد الملك إلى خالد بن عبد الله ألا يهيجه، وأخبره أنه قد آمنه؛ فجاء بالكتاب، فأخذ الكتاب ووضعه ولم يفتحه، وأمر به فبرز فجلده، ثم فتح الكتاب؛ فقال: لو كنت قرأته ما جلدتك، فرجع عبد الله إلى سليمان، فأخبره الخبر، فأمر الكتاب -في خالد- أن تقطع يده، فكلمه فيه يزيد بن المهلب وقبل يده، وكتب مع عبد الله: إن كان خالد قرأ الكتاب، ثم جلده قطعت يده، وإن كان جلده قبل أن يقرأ الكتاب أقيد منه، فأقيد منه عبد الله4 ... انتهى باختصار. ولعل فعل خالد هذا سبب عزل سليمان له، وكان عزله في سنة ست وتسعين كما سيأتي بيانه.
وأما ولاية طلحة: فذكرها ابن جرير؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وتسعين من الهجرة: وعزل سليمان بن عبد الملك خالد بن عبد الله الفسري عن مكة، وولاها طلحة بن داود الحضرمي5، وذكر ابن جرير أيضا منا يدل على خلاف ما ذكره في تاريخ ولاية طلحة؛ لأنه قال في أخبار سنة سبع وتسعين: وفي هذه السنة قال الواقدي: حدثني
__________
1 جزم خليفة في تاريخه "ص: 302" والذهبي في تاريخ الإسلام 5/ 64: أنه ولي سنة 89هـ.
2 تاريخه خليفة "ص: 310".
3 أخبار مكة 1/ 287، ومآثر الإنافة 1/ 137.
4 نسب قريش "ص: 253"، إتحاف الورى 2/ 124، العقد الثمين 4/ 27.
5 تاريخ الطبري 6/ 522، الجامع اللطيف "ص: 288"، إتحاف الورى 2/ 129.(2/203)
إبراهيم بن نافع عن ابن أبي مليكة قال: لما صدر سليمان بن عبد الملك من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستة أشهر1 ... انتهى.
وأما ولاية عبد العزيز بن عبد الله بن خالد: فكذرها ابن جرير، وحكى خلافا في ابتدائها؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وتسعين، بعد أن ذكر ما سبق في عزل سليمان لخالد وتوليته طلحة، وحكي عن ابن أبي معشر أنه قال: كان الأمير على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد2، وقال في أخبار سنة سبع وتسعين، بعد أن حكى عن الواقدي ما سبق في عزله طلحة: فولي عليها عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان عبد العزيز على مكة في سنة ثمان وتسعين، على ما ذكر ابن جرير أيضا3.
ثم ولي مكة لعمر بن عبد العزيز بن مروان -رضي الله عنه- في خلافته: عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد المذكور على مقتضى ما ذكر ابن جرير؛ لأنه ذكر في أخبار سنة تسع وتسعين أن عامل عمر بن عبد العزيز على مة في هذه السنة: عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد4، وذكر في أخبار سنة مائة5 ما يقتضي أنه كان والي مكة. وذكر الأزرقي ما يقتضي ذلك أيضا؛ لأنه روى عن أحمد بن ميسرة عن عبد الحميد بن أبي رواد عن أبيه قال: قدمت مكة سنة مائة وعليها عبد العزيز بن عبد الله أميرا فقدم كتابا من عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- ينهى عن كراء بيوت مكة، ويأمر بتسوية بيوت منى. قال: فجعل الناس يدسون إليهم الكراء سراء ويسكنون6 ... انتهى.
وولي مكة لعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- على ما قبل: محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، على ما ذكر ابن حبان، فيما حكي عنه الذهبي في "تذهيب مختصر التذهيب"7، وعروة بن عياض بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي8، على ما ذكر صاحب الكمال. ووجدت ذلك بخط الذهبي في ترجمته في "تاريخ الإسلام"، وعبد الله بن
__________
1 تاريخ الطبري 6/ 529، الكامل لابن الأثير 5/ 26.
2 تاريخ الطبري 6/ 522، الكامل لابن الأثير 5/ 20، مآثر الإنافة 1/ 144.
3 تاريخ الطبري 6/ 529، الكامل 5/ 10، إتحاف الورى 2/ 132، العقد الفريد 5/ 450.
4 تاريخ الطبري 6/ 554، الكامل 5/ 36.
5 كذا في الأصل، والصحيح سنة إحدى ومائة كما في تاريخ الطبري 6/ 589.
6 أخبار مكة للأزرقي 2/ 163، 164.
7 تهذيب التهذيب لابن حجر 9/ 236.
8 انظر ترجمة في التاريخ الكبير للبخاري 7/ 32 رقم 140، الجرح والتعديل 6/ 369 رقم 2208، تهذيب التهذيب 7/ 186 رقم 356.(2/204)
قيس بن مخرمة بن المطلب، القرشي1، وعثمان بن عبد الله بن سراقة العدوي، وولايتها ذكرها الفاكهي.
وفي ولايتهما وولاية الذين من قبلهما على مكة لعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- في خلافته نظر، لما ذكره ابن جرير2 من أن عبد العزيز بن عبد الله كان عامل مكة لعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- مدة خلافته كما سبق، ولعل المذكورين ولوا مكة لعمر -رضي الله عنه- في زمن ولايته لها عن الوليد بن عبد الملك في المدة التي كان يقيمها بالمدينة؛ فإنها كانت في ولايته أيضا، والله أعلم.
ثم ولي مكة في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان جماعة أولهم: عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد المذكور؛ لأن ابن جرير ذكر أنه كان على مكة في سنة إحدى ومائة وذكر ذلك ابن الأثير، وذكر أنه كان على مكة في السنة اثنين ومائة3.
ثم عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس القرشي الفهري، مع المدينة، وولايته بمكة في سنة ثلاثة ومائة، وللمدينة في سنة إحدى ومائة4.
ثم ولي مكة عبد الواحد بن عبد الله النصري بالنون من بني نصر بن معاوية -بعد عزل عبد الرحمن بن الضحاك في سنة أربع ومائة مع الطائف والمدينة5.
ثم ولي مكة في خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان جماعة، أولهم: عبد الواحد المذكور، ومدة ولايته لذلك في خلافة يزيد وهشام سنة وثمانية أشهر، على ما ذكر ابن الأثير6.
ثم ولي مكة بعده إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن عبد الملك في سنة ستة ومائة. وولي مع ذلك الطائف والمدينة، ودامت ولايته على مكة إلى سنة ثلاث عشرة، وقيل: سنة أربع عشرة ومائة7.
__________
1 انظر: التاريخ الكبير 5/ 172، رقم 547، الجرح والتعديل 5/ 139 رقم 1650، تهذيب التهذيب 5/ 626، أخبار مكة للفاكهي 3/ 178، العقد الفريد 5/ 232.
2 تاريخ الطبري 6/ 554، الكامل 5/ 43.
3 الكامل لابن الأثير 5/ 102، تاريخ الطبري 6/ 589، 618.
4 تاريخ الطبري 7/ 12، تاريخ خليفة "ص: 332"، الكامل لابن الأثير 5/ 105، إتحاف الورى 2/ 136، العقد الفريد 5/ 359.
5 تاريخ خليفة "ص: 332"، الكامل لابن الأثير 5/ 13، العقد الفريد 5/ 359، وإتحاف الورى 2/ 137، البداية والنهاية 9/ 229.
6 الكامل لابن الأثير 2/ 138، البداية والنهاية 9/ 234.
7 الكامل لابن الأثير 2/ 148، مآثر الإنافة 1/ 154.(2/205)
ثم ولي مكة بعده أخوه محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، ودامت ولايته إلى سنة خمس وعشرين على ما قيل1.
وممن ولي مكة لهشام بن عبد الملك بن مروان: نافع بن علقمة الكناني، ذكر ولايته الفاكهي، وذكر أنه وليها لأبيه.
وممن وليها في خلافة عبد الملك بن مروان، أو في خلافه أحد من أولاده الأربعة: أبو حراب محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر الأموي، ذكر ولايته على مكة الفاكهي، وهكذا نسبه، وذكر ما يقتضي أنه كان واليا على مكة في زمن عطاء بن أبي رباح.
ثم ولي مكة في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان -بعد عزل محمد بن هشام خال الوليد المذكور- يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي، مع الطائف والمدينة في سنة خمس وعشرين2، ودامت إلى انقضاء خلافة الوليد بن يزيد، سنة ست وعشرين.
ثم ولي مكة في خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان3، فيما أظن، والله أعلم.
ثم ولي مكة في خلافة مروان -المعروف بالحمار- ابن محمد بن مروان الأموي خاتمة خلفاء بني أمية: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان، ودامت ولايته إلى أن حج بالناس في سنة ثمان وعشرين4.
ثم ولي مكة بعده عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان، مع المدينة والطائف في سنة تسع وعشرين، ودامت ولايته إلى أن حج بالناس في هذه السنة5.
ثم ولي مكة بعد الحج من هذه السنة أبو حمزة الإباضي الخارجي، واسمه المختار بن عوف، تغلب على مكة، وذلك أن عبد الله بن يحيى الأعور الكندي المسمى
__________
1 الكامل لابن الأثير 5/ 179، 275، تاريخ خليفة "ص: 357"، إتحاف الورى "2/ 155"، درر الفرائد "ص: 208"، أخبار مكة للفاكهي 3/ 182.
2 تاريخ الطبري 7/ 226، الكامل لابن الأثير 5/ 273.
3 تاريخ خليفة "ص: 370"، إتحاف الورى 2/ 157.
4 تاريخ خليفة "ص: 384"، الكامل لابن الأثير 5/ 340، إتحاف الورى 2/ 158، درر الفرائد "ص: 208".
5 تاريخ خليفة "ص: 385"، الكامل لابن الأثير 5/ 376، إتحاف الورى 2/ 159، مآثر الإنافة 1/ 166.(2/206)
طالب الحق بعد أن ملك حضرموت1 وصنعاء وظفار، وطرد عنها عامل مروان: القاسم بن عمر الثقفي، بعث إلى مكة أبا حمزة الخارجي -المذكور- في عشرة آلاف؛ فخاف منهم عبد الواحد بن سليمان والي مكة، وخذله أهلها؛ ففارقها في النفر الأول، وقصد المدينة، فغلب أبو حمزة على مكة، ثم سار منها بعد أن استخلف عليها أبرهة بن الصباح الحميري؛ فلقي بقديد الجيش الذي انفذه عبد الواحد بن سليمان القتال أبي حمزة، فظفر أبو حمزة؛ وذلك في صفر من سنة ثلاثين، وسار إلى المدينة فدخلها، وقتل بها جماعة، منهم أربعون رجلا من بني عبد العزى، ولما بلغ مروان خبره جهز إليه عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، في أربعة آلاف فارس؛ فسار ابن عطية حتى لقي بوادي القرى2 بلجا، وهو على مقدمة أبي حمزة؛ فقتل بلجا وعاة أصحابه، ثم سار ابن عطية يطلب أبا حمزة؛ فأدركه بمكة بالأبطح، ومع أبي حمزة خمسة عشرة ألفا، ففرق عليه ابن عطية الخيل، من أسفل مكة ومن أعلاها، ومن قبل منى، فاقتتلوا إلى نصف النهار، فقتل أبرهة بن الصباح عند بئر ميمون، وقتل أبو حمزة، وقتل خلق من جيشه؛ هذا ملخص بالمعنى مما ذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" نقلا عن خليفةبن خياط3 في خبر أبي حمزة.
وفي تاريخ ابن الأثير ما يخالف ذلك، في مواضع:
منها: أنه كان مع أبي حمزة لما وافى عرفة سبعمائة رجل4.
ومنها: أنه كان ما يقتضي أن أبا حمزة لقي ابن عطية بوادي القرى، وأنه قتل في الواقعة التي بوادي القرى5، والله أعلم.
وذكر ابن الأثير أن ابن عطية لما سار إلى اليمن لقتال طالب الحق، استخلف على مكة رجلا من أهل الشام6، ولم يسمه، ورأيت في مختصر تاريخ ابن جرير أن هذا الرجل يقال له ابن ماعز7، وهذا يقتضي أن يكون عبد الملك بن محمد السعدي المذكور ولي مكة لمروان، ولا يبعد أن يجعل ذلك مروان لعبد الملك، إذا نزع من أبي حمزة ما تغلب عليه، وقد يسر الله ذلك لابن عطية، وكان من أمره بعد مسيرة من مكة لقتال طالب الحق، أنهما، فقتل طالب الحق، وبعث عبد الملك برأسه إلى مروان،
__________
1 حضرموت: مدينة شهيرة باليمن. وهي إحدى محافظاتها الكبرى الآن، وهي تقع في جنوب اليمن.
2 وادي القرى: واد من أودية الحجاز المشهورة ويقع في الشمال بعد المدينة متجها إلى الشام، وهو كثير القرى والآبار والمزارع، ولذلك قيل وادي القرى.
3 تاريخ خليفة "ص 384 - 387".
4 الكامل لابن الأثير 5/ 373.
5 الكامل لابن الأثير 5/ 391.
6 الكامل لابن الأثير 5/ 392.
7 تاريخ الطبري 7/ 399.(2/207)
وكتب مروان لعبد الملك كتابا بالقدوم إلى مكة لإقامة الحج والناس؛ فسار في نفر قليل، فخرج عليه بعض العرب، فقتلوه بعد أن أظهر لهم كتاب مروان بتأميره على الحج؛ فلم يقبلوا ذلك منه، وقالوا له ولمن معه: إنما أنتم لصوص1.
وولي مكة لمروان: الوليد بن عروة السعدي ابن أخي عبد الملك على ما ذكر ابن جرير2، وذكر أنه كان على مكة في سنة إحدى وثلاثين ومائة، وعلى الطائف والمدينة من قبل عمه، وهذا لا يعارض ما سبق من أن عمه، قتل في سنة ثلاثين لإمكان أن يكون كتب إليه من اليمن بولاية ذلك، وأقره مروان على ذلك بعد قتل عمه، والله أعلم.
وذكر ابن الأثير ما يقتضي أن محمد بن عبد الملك بن مروان كان يلي مكة والمدينة والطائف في سنة ثلاثين ومائة، وأنه حج بالناس فيها3، ولم أر في مختصر تاريخ ابن جرير ولايته لذلك؛ وإنما فيه أنه حج بالناس في سنة ثلاثين ومائة4، على أن النسخة التي رأيت فيها ذلك من تاريخ ابن الأثير لا تخلو من سقم، والله أعلم بالصواب.
ورأيت في نسخة من تاريخ ابن الأثير اضطرابا في اسم ابن أخي عبد الملك الذي ولي مكة، كما سبق ذكره، هل هو الوليد بن عروة5 أو هو عروة بن الوليد؟ والصواب: الوليد، كما ذكر ابن جرير والعتيقي في "أمراء الموسم"، والله أعلم.
__________
1 العقد الثمين 7/ 158، إتحاف الورى 2/ 163.
2 تاريخ الطبري 7/ 411، الكامل لابن الأثير 5/ 402، إتحاف الورى 2/ 165، العقد الثمين 5/ 512.
3 الكامل لابن الأثير 5/ 393.
4 تاريخ الطبري 7/ 410.
5 الكامل لابن الأثير 5/ 394، تاريخ خليفه "ص: 398".(2/208)
الدولة العباسية:
ثم ولي مكة في خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أول خلفاء بني العباس: عمه داود بن علي بن عبد الله العباس، في سنة اثنين وثلاثين ومائة، وولاه مع مكة: المدينة واليمن، واليمامة1، ودامت ولايته حتى مات في سنة ثلاث وثلاثين في ربيع الأول بالمدينة، بعد أن قتل من ظفر به بني أمية بمكة والمدينة2.
__________
1 اليمامة: منطقة في نجد بينها وبين البحرين عشرة أيام، وبها كانت منازل طسم، وجدس، وبها كانت دعوة مسيلة الكذب، وفتحها خالد بن الوليد في زمن أبي بكر الصديق، وبها قتل مسيلمة الكذاب، وعادت إلى الإسلام، ويقال: إنها كانت من مخاليف مكة -أي محلقاتها- وكان يضم إلى حكام مكة حكم اليمامة.
2 تاريخ خليفة "ص: 410"، الكامل لابن الأثير 5/ 445، إتحاف الورى 2/ 170.(2/208)
ثم ولي مكة بعد داود: زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي، خال السفاح، مع الطائف، والمدينة، واليمامة، ودامت ولايته إلى سنة ست وثلاثين ومائة، على ما يقتضيه كلام ابن الأثير1.
ثم ولي مكة بعده: العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، في سنة ست وثلاثين ومائة للسفاح، على ما ذكر ابن الأثير2، وذكر ما يقتضي أن ولايته دامت على مكة حتى مات السفاح، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذلك. وذكر ابن حزم أنه ولي مكة للسفاح وقال: كان رجلا صالحا3 ... انتهى.
وممن ولي مكة للسفاح: عمر بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي4، على ما ذكر ابن حزم في "الجمهرة"؛ وذلك غير ملائم لما ذكره ابن الأثير5، من كون زياد بن عبيد الله الحارثي دامت ولايته على مكة إلى سنة ست وثلاثين، وأن العباس بن عبد الله بن معبد وليها بعده حتى مات السفاح، والله أعلم.
ثم ولي مكة في خلافة المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أخي السفاح: العباس بن عبد الله بن معبد المذكور؛ لأن ابن الأثير قال في أخبار سنة سبع وثلاثين: وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، ومات العباس بعد انقضاء الموسم6.
ثم ولي مكة بعده زياد بن عبيد الله الحارث المقدم ذكره، على ما ذكر ابن الأثير وغيره، مع المدينة، والطائف، ودامت ولايته إلى سنة إحدى وأربعين ومائة7، وهو الذي تولى للمنصور عمارة ما زاده في المسجد الحرام8.
ثم ولي مكة بعد عزل زياد: الهيثم بن معاوية العتكي الخراساني مع الطائف، في سنة إحدى وأربعين، ودامت ولايته إلى سنة ثلاث وأربعين9.
__________
1 الكامل لابن الأثير 5/ 448، 449، إتحاف الورى 2/ 171.
2 الكامل لابن الأثير 5/ 463، 483، إتحاف الورى 2/ 171.
3 جمهرة أنساب العرب "ص: 18".
4 ولي علي الكوفة في عهد مروان بن محمد الأموي، وولي على اليمن في عهد أبي العباس "تاريخ خليفة ص: 406، 413".
5 الكامل لابن الأثير 5/ 486.
6 الكامل لابن الأثير 5/ 483.
7 الكامل لابن الأثير 5/ 483-501، أخبار مكة للفاكهي 3/ 174.
8 أخبار مكة للأزرقي 1/ 313.
9 الكامل لابن الأثير 5/ 507، 512، إتحاف الورى 2/ 179، أخبار مكة للفاكهي 3/ 174، العقد الفريد 4/ 224.(2/209)
ثم ولي مكة بعد عزله: السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب مع الطائف؛ فسار "السري" إلى مكة ودامت ولايته عليها إلى سنة خمس وأربعين ومائة.
ثم ولي مكة بعده بالتغلب محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي الجعفري؛ لأن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بالنفس الزكية لما ثار في سنة خمسة وأربعين بالمدينة، وغلب عليها، استعمل محمدًا هذا على مكة، والقاسم بن إسحاق على اليمن، فسار إلى مكة، فخرج محمد إليها السري بن عبد الله المقدم ذكره، فلقيهما ببطن أذاخر1 فهزماه، ودخل محمد مكة وقام بها يسيرا، فأتاه كتاب محمد بن عبد الله بن الحسن يأمره بالمسير إليه فيمن معه، ويخبره بمسير عيسى بن موسى إليه لمحاربته، فسار إليه من مكة هو القاسم، فبلغه بنواحي "قديد" قتل محمد النفس الزكية، فهرب هو وأصحابه وتفرقوا، فلحق محمد بن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله أخي محمد بن عبد الله، فأقام عنده حتى قتل إبراهيم، ذكر هذا بالمعنى ابن الأثير2.
ورأيت في كتاب "النسب" للزبير بن بكار ما يقتضي أن الذي ولاه محمد بن عبد الله بن الحسن على مكة: حسن بن معاوية والد محمد بن حسن المقدم ذكره، والله أعلم بالصواب.
ثم ولي السري مكة، ودامت ولايته عليها إلى سنة ست وأربعين ومائة3.
ثم ولي مكة بعده: عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس العباسي، عم المنصور والسفاح، وولي مع ذلك الطائف، ودامت ولايته إلى سنة تسع واربعين ومائة4، وقيل: إلى سنة خمسين5، وقيل: إنه كان على مكة في سنة سبع وخمسين6، وهذا إن صح فهو ولاية ثانية لعبد الصمد على مكة، والله أعلم.
ثم ولي مكة بعد عبد الصمد: محمد بن إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي، ودامت ولايته في غالب الظن إلى سنة ثمان وخمسين7.
ثم ولي مكة في خلافة المهدي، محمد بن المنصور العباسي: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، مع الطائف، بوصية من المنصور8.
__________
1 أذاخر: الثنية العليا لمكة؛ ولا يزال معروفا بهذا الاسم.
2 الكامل لابن الأثير 5/ 542، إتحاف الورى 2/ 186.
3 الكامل لابن الأثير 5/ 572، 576، إتحاف الورى 2/ 187.
4 الكامل لابن الأثير 5/ 590، إتحاف الورى 2/ 187.
5 الكامل لابن الأثير 5/ 594.
6 الكامل لابن الأثير 6/ 13.
7 الكامل لابن الأثير 6/ 35، إتحاف الورى 2/ 190، مروج الذهب 4/ 402.
8 الكامل لابن الأثير 6/ 36، إتحاف الورى 2/ 193.(2/210)
ثم ولي مكة: جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس العباس مع الطائف، وكان على ذلك في سنة إحدى وستين1، وفي سنة ثلاث وستين كان على المدينة2 في هذه السنة.
ثم ولي مكة عبيد الله3 بن قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب مع الطائف، وكان واليا لذلك في سنة ست وستين، وفي سنة تسع وستين4.
وممن ولي مكة في خلافة المهدي: محمد بن إبراهيم الإمام العباسي المقدم ذكره، ذكر ولايته على مكة للمهدي: الفاكهي.
وممن ولي مكة في خلافة المهدي -فيما أظن والله أعلم: قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، والد عبيد الله المذكور؛ لأن ابن حزم قال في "الجمهرة" لما ذكر أولاد عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فمن ولده: قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ولي مكة واليمامة، وابنه عبيد الله5 بن قثم ولي مكة للرشيد6 ... انتهى.
وإنما ظننا أن ولاية "قثم" في خلافة المهدي؛ لأن ابن الأثير ذكر في كل سنة من خلافة السفاح والمنصور من كان والي مكة، ولم يذكر ولاية قثم هذا في سنة من سنتين خلافة العباس والمنصور.
وذكر ابن الأثير أيضا ولاة مكة في زمن الرشيد، في ترجمته ترجم عليها بقوله: ذكر ولاة مكة7، وسردهم كما سيأتي ذكره، ولم يذكر قثم المذكور، فغلب على الظن أنه ولي مكة في خلافة المهدي؛ لأنه لم يذكر في كل سنة من خلافته من ولي فيها مكة؛ وإنما ذكر ذلك في بعض السنين ولم يذكر ولاتها في خلافته جملة، كما ذكرها جملة في خلافة الرشيد، ويحتمل أن يكون وليها في خلافة المهدي قبل ابنه عبيد الله بن قثم أو بعده، والله أعلم.
ثم ولي مكة في خلافة الهادي موسى بن المهدي العباس: عبيد الله بن قثم بن العباس المقدم ذكره، على مقتضى ما ذكر ابن جرير؛ لأنه قال في أخبار سنة تسع
__________
1 الكامل لابن الأثير 6/ 56، إتحاف الورى 2/ 206، تاريخ الطبري 9/ 341.
2 كان جعفر بن سليمان واليا على مكة والمدينة والطائف واليمامة، الكامل لابن الأثير 6/.
3 جمرة أنساب العرب لابن حزم "ص19"، الكامل لابن الأثير 6/ 73.
4 الكامل لابن الأثير 6/ 94، إتحاف الورى 2/ 216، تاريخ الطبري 8/ 10.
5 الرحلة الحجازية "ص: 83"، إتحاف الورى 2/ 216.
6 جمهرة أنساب العرب "ص: 19".
7 الكامل لابن الأثير 6/ 214.(2/211)
وستين وهي السنة التي في أولها أفضت الخلافة إلى الهادي، بعد أن ذكر من كان فيها علي ولاية المدينة وعلى مكة، والطائف عبيد الله بن قثم1 ... انتهى.
وولي مكة في خلافة الهادي بالتغلب: الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني؛ لأنه ثار بالمدينة، وفتك بهم فيها من جماعة الهادي، ونهبوا بيت المال بالمدينة، وبويع على كتاب الله -تعالى- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وخرج هو وأصحابه إلى مكة لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وستين.
ولما بلغوا مكة أمر الحسين فنودي فيها: أيما عبد أتانا فهو حر؛ فأتاه العبيد. وكان الهادي لما انتهى إليه خبره كتب إلى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن رجال من أهل بيته، ومعه خيل وسلاح، فقدموا مكة وطافوا وسعوا وحلوا من العمرة، وعسكروا بذي طوى، وانضم إليهم من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم، والتقوا مع الحسين وأصحابه؛ فقتل الحسين في أزيد من مائة من أصحابه، وانهزم بعضهم إلى مصر وغيرها، وكانت القتال في يوم التروية بفخ، ظاهر مكة2. وقبر الحسين هذا معروف إلى الآن في قبة تكون على يمين الداخل إلى مكة، ويسار الخارج منها، بقرب الموضع المعروف بالزاهر، وحمل رأسه بعد قتله إلى الهادي؛ فلم يعجبه ذلك وقال: كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت، إن أقل ما أجزيكم أن أحرمكم جوائزكم، فلم يعطهم شيئا.
وكان الحسين شجاعا كريما، قدم على المهدي فأعطاه أربعين آلاف دينار، ففرقها في الناس ببغداد، والكوفة، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلا فروة ما تحتها قميص؛ فالله -تعالى- يرحمه ويغفر له.
وممن ولي مكة في خلافة الهادي أو الخلافة أخيه الرشيد: محمد بن عبد الرحمن السفياني، وولايته لأمر مكة ذكرها الفاكهي؛ لأنه قال: وكان ممن ولي مكة بعد ذلك محمد بن عبد الرحمن السفياني، كان على قضاء مكة وإمارتها ... انتهى.
وذكر الزبير بن بكار أن الهادي استقصاه على مكة، وأن الرشيد أقره حتى صرفه المأمون، فولاه قضاء بغداد شهرا ثم صرفه3 ... انتهى. ولعل محمد بن عبد الرحمن السفياني هذا ولي إمرة مكة مع قضائها في زمن الأخوين: الهادي والرشيد، أو في زمن أحدهما، والله أعلم.
__________
1 تاريخ الطبري 8/ 204.
2 تاريخ الطبري 8/ 192-203.
3 نسب قريش "ص: 338".(2/212)
ثم ولي مكة في خلافة الرشيد هارون بن المهدي العباسي جماعة، ذكرهم ابن الأثير من غير ترتيب في الأسماء ولا في الولاية، ولا رفع في أنسابهم، ونحن نذكرهم مرتبين في الأسماء، ونوضح في أنسابهم ما لم يوضحه ابن الأثير وهم: أحمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس، وحماد البربري، وسليمان بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، والعباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والعباس بن محمد بن إبراهيم الإمام، وعبد الله بن محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، وعبيد الله بن قثم بن العباس المقدم ذكره، وعبيد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام وعلي بن موسى بن عيسى أخو العباس، والفضل بن العباس بن محمد بن عبد الله بن عباس، ومحمد بن إبراهيم الإمام، ومحمد بن عبد اللهبن سعيد بن المغيرة بن عمرو بن عثمان بن عفان العثماني، وموسى بن عيسى بن موسى بن محمد بنعلي والد العباس وعلى المقدم ذكرهما1.
ولم يذكر ابن الأثير في تاريخه ولاية ولاة مكة الذين ذكرهم، إلا ولاية عبيد الله بن قثم؛ ذكر أنه كان على مكة سنة سبعين2؛ وإلا ولاية حماد البربري، والفضل بن العباس، وتاريخ ولاية حماد سنة أربع وثمانين3، وتاريخ ولاية الفضل سنة إحدى وتسعين4، وذكر أن الرشيد ولى حمادا اليمن مع مكة.
ورأيت في تاريخ ابن جرير5 وابن كثير6 ما يقتضي أن ولاية محمد بن إبراهيم الإمام في خلافة الرشيد سنة ثمان وسبعين ومائة.
ورأيت في "أخبار مكة" للفاكهي ما يقتضي أن العثماني كان واليا على مكة للرشيد سنة ست وثمانين، وأن ولاية سليمان بن جعفر بن سليمان لمكة في هذه السنة بعد عزل العثماني.
وولي مكة في خلافة الأمين محمد بن هارون الرشيد العباسي7: داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، العباسي، وكان على مكة في سنة ثلاث وتسعين8، ودامت ولايته إلى انقضاء خلافة الأمين.
__________
1 الكامل لابن الأثير 6/ 214.
2 الكامل لابن الأثير 6/ 109.
3 الكامل لابن الأثير 6/ 166.
4 الكامل لابن الأثير 6/ 206، إتحاف الورى 2/ 247، درر الفرائد "ص 223"، المحبر "ص: 39".
5 تاريخ الطبري 8/ 260.
6 البداية والنهاية 10/ 173.
7 كانت خلافة خمسة أعوام، بدأت بوفاة والده عام 193هـ، وامتدت حتى مقتله عام 198هـ.
8 الكامل لابن الأثير 6/ 226، إتحاف الورى 2/ 248، المحبر "ص: 39"، درر الفرائد "ص: 223".(2/213)
وولي للأمين المدينة أيضا، وهو الذي تولى خلع الأمين بمكة سنة ست وتسعين1.
وولي مكة في خلافة المأمون عبد الله بن هارون الرشيد العباسي2: داود بن عيسى المذكور؛ لأنه لما خلع الأمين في رجب سنة ست وتسعين لنقضه العهد الذي كان عهده الرشيد بينه وبينأخيه المأمون، بايع للمأمون بالحرمين، وسار إلى المأمون حتى أعلمه بذلك، وتبصر به المأمون وتيمن ببركة مكة والمدينة، واستعمل عليهما داود، وأضاف إليه ولاية عك، وأعطاه خمسمائة ألف درهم معونة له، وسار إلى مكة، ودامت ولايته عليها إلى أن كان وقت الوقوف من سنة تسع وتسعين ومائة، ثم فارق مكة متخوفا من الحسين بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بالأفطس مع قدرة داود على الدفع والقتال3.
وولي مكة بعد خروج داود منها: الحسين الأفطس المذكور بالتغلب؛ لأن أبا السرايا السري بن منصور الشيباني داعية ابن طباطبا بعد استيلائه على الكوفة، وضربه بها الدراهم، وبعثه الجيوش إلى البصرة وواسط ونواحيها، ولي الحسين -المذكور- مكة وجعل إليه الموسم، ووجه أبو السرايا أيضا واليا على المدينة، وواليا على اليمن، ولما بلغ داود بن عيسى توجيه أبي السرايا للحسين فارق مكة هو ومن بها من شيعة بني العباس وقت الحج.
وكان الحسين حين بلغ سرف4 تخوف من دخول مكة، حتى بلغه خلوها من ابن العباس؛ فدخلها في عشرة أنفس، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة فوقفوا ليلا، ثم رجعوا إلى مزدلفة، فصلى حسين بالناس الصبح، وأقام بمنى أيام الحج، ثم صار إلى مكة.
فلما كان مستهل المحرم من سنة مائتين نزع الحسين كسوة الكعبة، وكساها الكسوة التي أنفذها معه أبو السرايا، وكانت كسوتين من قز رقيق، إحداهما صفراء، والأخرى بيضاء.
وأخذ ما في خزانة الكعبة، فقسمه مع كسوتها على أصحابه، وهرب الناس من مكة؛ لأن أصحاب الحسين كانوا يأخذون أموال الناس بحجة أنها ودائع لبني
__________
1 الكامل لابن الأثير 6/ 226، إتحاف الورى 2/ 206.
2 امتدت خلافة المأمون عشرين عاما من عام 198هـ- وهو العام الذي قتل فيه أخوه- حتى عام 218هـ، وكان قائد الجيش للمأمون طارق بن الحسين، وهو الذي تولى قتل الأمين.
3 الكامل لابن الأثير 6/ 307، إتحاف الورى 2/ 257.
4 سرف: موضع معروف بقرب مكة، وفيه توفيت السيدة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.(2/214)
العباس، ودامت ولاية الحسين على مكة إلى أن بلغه قتل أبي السرايا في سنة مائتين1.
وذكر العتيقي في "أمراء الموسم" ما يقتضي أن الحسن الأفطس ولي مكة قبل التروية؛ لأنه قال: وكان أمير الموسم سنة تسع وتسعين محمد بن داود بن عيسى بن موسى؛ فلما كان بمنى قبل التروية بيوم، وثب ابن الأفطس العلوي بمكة، وغلب عليها، وصار إلى منى؛ فتنحى عنه محمد بن داود، ولم يمض إلى عرفة، ومضى الناس أإلى عرفات بغير إمام، ودفعوا بغير إمام، وأقام الأفطس الموقف ليلا؛ فوقف، ثم صار إلى المزدلفة، فصلى بالناس صلاة الفجر، ووقف بهم عند المشعر، ودفع بهم غداة جمع، وصار إلى منى ... انتهى.
وإنما ذكرنا ما ذكر العتيقي لمخالفته ما ذكرناه قبل في وقت استيلاء الحسين على مكة؛ فإن الذي ذكرناه قبل يقتضيانه لم يدخله مكة إلا ليلة عرفة، والله أعلم.
ثم ولي مكة بعد الأطلس: محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بالديباجة، لجمال وجهه؛ وسبب ذلك: أن حسينا الأفطس لما بلغه قتل أبي السرايا، رأى أن الناس تغيروا عليه لقبح سيرته وسيرة أصحابه؛ فأتى هو وأصحابه إلى محمد بن جعفر المذكور، وسألوه في المبايعة به بالخلافة؛ فكره محمد ذلك، فاستعانوا عليه باتبنه علي، ولم يزالوا به حتى بايعوه بالخلافة في ربيع ألأول سنة مائتين، وجمعوا الناس على بيعته طوعا وكرها، وسموا أمير المؤمنين، فبقي شهورا ليس له من الأمر شي، وابنه علي وحسين الأفطس وجماعتهم على أقبح سيرة، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى قدم إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فارا من إبراهيم بن موسى بن جعفر، فنزل المشاش، واجتمع إليه جماعة من أهل مكة هربوا من العلويين، واجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفرا، وجمعوا الناس من الأعراب وغيرهم، وحفروا خندقا؛ فقالتهم إسحاق، ثم كره القتال؛ فسار نحو العراق فلقيه الجند الذي أنفذهم هرثمة إلى مكة، وكان فيهم الجلودي، وورقاء بن جميل، فقال لإسحاق: ارجع معنا، ونحن نكفيك القتال، فرجع معهم ولقيهم الطالبيون ببئر ميمون، وكان قد اجتمع إلى محمد غوغاء أهل مكة وسودان البادية والأعراب، فالتقى الفريقان، فقتل جماع، ثم تحاجزوا، ثم التقوا من الغد، فانهزم العلويون ومن معهم، وطلب الديباجة الأمان، فأجلوه ثلاثا، ثم نزح عن مكة، وتفرق كل قوم من الطالبين من ناحية، ودخل العباسيون مكة في جمادى الآخرة سنة مائتين، وتوجه ممج بن جعفر نحو بلاد
__________
1 الكامل لابن الأثير 6/ 306-311، إتحاف الورى 2/ 262.(2/215)
جهينة، فجمع بها، وقاتل والي المدينة هارون بن المسيب عند الشجرة1 وغيرها مرات، وانهز محمد بن جعفر بعد أن فقئت عينه بنشابة، وقتل من أصحابه خلق كثير، ورجع إلى موضعه، ثم طلب الأمان من "الجلودي" ومن ورقاء؛ فأمناه، وضمن له ورقا عن المأمون وعن الفضل2 الأمان، فقبل والي مكة لعشر بقين من ذي الحجة سنة مائتين؛ فصعد به "الجلودي" المنبر بمكة والجلودي فوقه في المنبر، وعليه قباء أسود، فاعتذر من خروجه، بأنه بلغه موت المأمون، وقد صح عنده الآن حياته، وخلع نفسه واستغفر، ثم سار إلى العراق حتى بلغ المأمون بمرو، فعفا عنه، وبقي قليلا، ثم مات فجأة بجرجان؛ فصلى عليه المأمون، ونزل في لحده وقال: هذه رحم قطعت من سنين، وكان موته في شعبان سنة ثلاث ومائتين، وسبب موته -على ما قبل- أنه جامع ودخل الحمام وافتصد في يوم واحد3.
وولي مكة في خلافة المأمون بعد هزيمة الطالبيين: عيسى بن يزيد الجلودي؛ لأن في خبر الديباجة الذي حكاه الذهبي في "تاريخ الإسلام" أن عيسى الجلودي لما خرج بالديباجة إلى العراق استخلف على مكة ابنة محمدا ... انتهى بالمعنى.
وذكر ابن حزم في "الجمهرة"4 ما يدل لولاية الجلودي على مكة؛ لأنه ذكر أن يزيد بن محمد بن حنظلة المخزومي، استخلفه عيسى بن يزيد الجلودي على مكة؛ فدخلها عنوة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وقتل يزيد بن محمد ... انتهى.
فاستفدنا من هذا ولاية الجلودي على مكة، ونيابة ابن حنظلة له وقتله، وكان قتله في سنة اثنتين ومائتين، وإن كان إبراهيم بن موسى المذكور واليا على مكة في هذه السنة، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى، والله أعلم5.
وولي مكة بعد عزل الجلودي: هارون بن المسيب؛ لأني نقلت من كتاب "مقاتل الطالبيين"، عن أبي العباس أحمد بن عبد الله بن عمار الثقفي، فيما رواه من كتاب هارون بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الواحد بن
__________
1 الشجرة: مكان قرب المدينة المنوة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرم منه إذا أراد الحج أو العمرة، وهي غير شجرة البيعة المذكورة في القرآن الكريم؛ فإن هذه الشجرة في الحديبية قريبا من مكة المكرمة في الطريق إلى جدة.
2 هو الفضل بن سهل وزير الخليفة العباسي "المأمون بن هارون الرشيد".
3 تاريخ الطبري 8/ 539، الكامل لابن الأثير 6/ 312، 313، الوافي بالوفيات 2/ 191، شذرات الذهب 2/ 7، إتحاف الورى 2/ 266.
4 جمهرة أنساب العرب "ص: 143".
5 تاريخ الطبري.(2/216)
النصر بن القاسم مولى عبد الصمد بن علي: أن عيسى بن يزيد الجلودي أقام بمكة وهي مستقيمة له والمدينة، حتى قدوم هارون بن المسيب واليا على الحرمين؛ فبدأ بمكة، فصرف الجلودي عنها، وحج بالناس وانصرف إلى المدينة فأقام سنة ... انتهى.
وولي مكة للمأمون: حمدون بن علي بن عيسى بن ماهان، على ما ذكر الأزرقي1؛ لأنه في أخبار سيولة مكة: وجاء سيل في سنة اثنتين ومائتين، في خلافة المأمون، وعلى مكة يزيد بن محمد بن حنظلة2 خليفة لحمدون بن علي بن عيسى بن ماهان ... انتهى.
ولا تعارض بين ما ذكره ابن حزم من ولاية حنظلة للجلودي، وبين ما ذكره الأزرقي من ولاية ابن حنظلة لابن ماهان؛ لإمكان أن يكون وليها للجلودي ولابن ماهان، الله أعلم.
ولا معارضة أيضا بين ما ذكره الذهبي من ولاية محمد بن الجلودي، على مكة لأبيه، وبين ما ذكره ابن حزم من ولاية حنظلة على مكة للجلودي؛ لإمكان أن يكون الجلودي ولي مكة لابنه ولابن حنظلة، والله أعلم.
وولي مكة للمأمون: إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، هكذا نسبه العتيقي، وذكر أنه حج بالناس سنة اثنتين ومائيتن، وهو أمير مكة للمأمون، وأخوه علي بن عيسى الرضا ولي عهد المأمون3 ... انتهى.
ولا معارضة بين ما ذكره العتيقي من أن إبراهيم من أن إبراهيم كان على مكة في سنة اثنتين ومائتين، وبين ما ذكره الأزرقي من أن ابن حنظلة كان على مكة في سنة اثنتين ومائتين خليفة لحمدون بن علي4، لإمكان أن يكون "حمدون" كان على مكة في أول سنة اثنتين ومائتين، وإبراهيم كان على مكة في آخر هذه السنة5، والله أعلم.
وولي مكة للمأمون: عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، مع المدينة، في سنة أربع ومائتين، وكان على مكة والمدينة أيضا في سنة خمس، وسنة ست ومائتين6، ولعل ولايته دامت إلى سنة تسع.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 226، إتحاف الورى 2/ 278.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 170.
3 الكامل لابن الأثير 6/ 309-313.
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 226، إتحاف الورى 2/ 279.
5 أو أن إبراهيم كان متغلبا لا متوليا من قبل خليفة.
6 الكامل لابن الأثير 2/ 280، إتحاف الورى 2/ 280، البداية والنهاية 10/ 25.(2/217)
ثم ولي مكة: صالح بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي في سنة عشرة ومائتين1، ودامت -ولايته -فيما أظن- إلى أن حج بالناس في سنة اثنتي عشرة ومائتين، والله أعلم.
ثم وليها بعده -فيما أظن- سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي؛ لأن يعقوب بن سفيان ذكر أنه ولي مكة والمدينة سنة أربع عشرة ومائتين، وكان ابنه علي مكة مرة، وعلى المدينة مرة، وكان هو وأبوه يتداولان العمل على المدينة ومكة2 ... انتهى.
وولي مكة في خلافة المأمون: محمد بن سليمان المذكور؛ لأن الأزرقي قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في أول من استصبح حول الكعبة": فلم يزل مصباح زمزم على عمود طويل مقابل الركن الأسود الذي وضعه خالد القسري؛ فلما كان محمد بن سليمان بن مكة في خلافة المأمون في سنة ست عشرة ومائتين وضع عمودا طويلا مقابله بحذاء الركن الغربي3 ... انتهى.
والظاهر أنه ابن سليمان بن المذكور لقرب ولايتهما، ولتأخر ولاية محمد بن سليمان الزيني على مكة؛ فإنه لم يليها إلا في آخر خلافة المتوكل فيما علمت، ولا هو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس الذي أمره الهادي على حرب الحسين صاحب فخ؛ لكونه مات سنة ثلاث وسبعين ومائة، على ما ذكره المسيحي وغيره، والله أعلم.
وممن ولي مكة للمأمون: عبيد الله بن عبد الله بن حسن بن جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، ذكر ولايته عليها الزبير بن بكار، أفادني ذلك بعض أصحابنا المعتمدين.
وممن ولي مكة للمأمون: الحسن بن سهل أخو الفضل بن سهل؛ إلا أنه لم يباشر ذلك بنفسه، وإنما عقدت له عليها الولاية؛ لأن المأمون في سنة ثمان وتسعين بعد أن قتل الأمين استعمل الحسن بن سهل على كل ما افتتحه طاهر بن الحسين، من كور الجبال، والعراق، وفارس، والأهواز، والحجاز، واليمن، على ما ذكر ابن الأثير4 وغيره.
__________
1 يجعل صاحب مرآة الحرمين، وصاحب الرحلة الحجازية "ص 83" أن بدء ولايته كان عام "218هـ"، وجعلها ابن فهد سنة "210هـ"، انظر إتحاف الورى 2/ 284.
2 المعرفة والتاريخ 1/ 199، 200، إتحاف الورى 2/ 287.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 287، إتحاف الورى 2/ 288.
4 الكامل لابن الأثير 6/ 297.(2/218)
وولي مكة في خلافة المعتصم محمد بن هارون الرشيد العباسي: صالح بن العباس المذكور، وكان على مكة في سنة تسع عشر ومائتين1، على ما ذكره الفاكهي.
ثم وليها: محمد بن داود عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي الملقب ترنجة، في سنة اثنين وعشرين ومائتين2، ولعل ولايته دامت إلى أثناء خلافة المتوكل، والله أعلم.
وممن ولي مكة في خلافة المعتصم: أشناس التركي أحد كبار قواد المعتصم؛ لأن ابن الأثير ذكر في أخبار سنة ست وعشرين ومائتين "أشناس" لما أراد الحج في هذه السنة جعل إليه المعتصم ولاية كل بلد يدخلها؛ فحج فيها، واستناب على الحج بالناس: محمد بن داود -يعني السابق ذكره- ودعى لأشناس على منابر الحرمين وغيرهما من البلاد التي اجتاز بها، حتى عاد إلى سامرا3 ... انتهى.
وذكر ابن الأثير أيضا أن "أشناس" هذا مات في سنة ثلاثين ومائتين4.
وولي مكة في خلافة المتوكل، أبي الفضل جعفر بن الواثق، هارون بن المعتصم: علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور العباسي سنة ثمان وثلاثين، ودامت ولايته إلى أن توفي سنة تسع وثلاثين؛ هكذا ذكر ابتداء ولايته وانتهاءها بوفاته: المسبحي في تاريخه، وذكر ابن الأثير ما يقتضي أنه لم يكن واليا على مكة سنة ثمان وثلاثين، والله أعلم.
وذكر ابن الأثير أيضا ولايته في سنة تسع وثلاثين5.
ثم ولي بعده عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى العباسي المقدم ذكر والده؛ وذلك في سنة تسع وثلاثين، على ما ذكر المسجي، وذكر أن عبد الله حج بالناس سنة تسع وثلاثين6، ودامت ولايته إلى آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، على متقضى ما ذكر ابن الأثير7.
__________
1 تاريخ خليفة "ص: 476"، إتحاف الورى 2/ 289، المحبر "ص: 42"، درر الفرائد "ص: 226"، مروج الذهب 4/ 405.
2 تاريخ خليفة "ص: 476"، المحبر "ص: 42"، درر الفرائد "ص: 227".
3 الكامل لابن الأثير 6/ 521، المحبر "ص: 42"، مروج الذهب 4/ 405، إتحاف الورى 2/ 296.
4 الكامل لابن الأثير 7/ 18.
5 ذكر ابن الأثير 7/ 72 في سنة "237هـ" ولم يذكره في السنتين التاليتين، وذكره ابن فهد في سنة "237هـ" 8/ 313.
6 كلام ابن الأثير 7/ 72، وابن فهد 2/ 313، يفيد أنه كان واليا سنة "239هـ".
7 الكامل لابن الأثير 7/ 80.(2/219)
وذكر ابن جرير ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة اثنتين وأربعين ومائتين1.
ثم ولي مكة بعده عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي سنة اثنتين وأربعين على ما ذكر ابن الأثير، وذكر ذلك ابن كثير، وذكر أنه حج بالناس سنة ثلاث وأربعين، وهو نائب مكة2 انتهى.
وولي مكة بعده محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام المعروف بالزينبي، على ما ذكر ابن جرير؛ لأنه ذكر أنه حج بالناس سنة خمس وأربعين، وهو والي مكة3.
وولي مكة في خلافة المتوكي ابنه المنتصر محمد، الذي ولي الخلافة بعد أبيه؛ لأن أباه ولاه الحرمين، والطائف، واليمن، في رمضان ثلاث وثلاثين ومائتين، ثم عقد له على ذلك وغيره في سنة خمس وثلاثين4، وما أظنه باشر ولاية مكة، والله تعالى أعلم.
وممن ولي مكة في خلافة المتوكل: إيتاخ الخزري مولى المعتصم، وأحد كبار قواد المتوكل؛ لأن ابن الأثير ذكر في أخبار سنة أربع وثلاثين ومائتين: وضع على إيتاخ من حسن له الحج، فاستأذن فيه المتوكل، فأذن له وصيره أمير كل بلد يدخله، وخلع عليه، ثم قال: وقيل: إن هذه القضية كانت سنة ثلاث وثلاثين5.
ثم ذكر في أخبار سنة خمس وثلاثين، أنه لما عاد من الحج احتيل عليه حتى قبض عليه، ومات في جمادى الآخر من هذه السنة6.
وولي مكة في خلافة المنتصر محمد بن المتوكل المذكور: محمد بن سليمان الزينبي المقدم ذكره، فيما أظن، والله أعلم.
وولي مكة في خلافة المستعين أبي العباس أحمد بن المعتصم العباسي عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام -السابق ذكره- وكان على مكة في سنة تسع وأربعين، على ما ذكر ابن جرير وابن الأثير7.
__________
1 لم يذكره الطبري في حوادي سنة "242هـ" وإنما ذكره في حوادث سنة "241هـ" وذكره ابن فهد 2/ 323 في حوادث سنة "242هـ".
2 البداية والنهاية 10/ 344، تاريخ الطبري 9/ 209.
3 الكامل لابن الأثير 7/ 43، إتحاف الورى 2/ 325، المحبر "ص: 43"، درر الفرائد "ص: 229".
4 الكامل لابن الأثير 7/ 47، إتحاف الورى 2/ 301.
5 الكامل لابن الأثير 7/ 43.
6 الكامل لابن الأثير 7/ 47.
7 تاريخ الطبري 9/ 265، الكامل لابن الأثير 7/ 125.(2/220)
ثم وليها بعده: جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى بن محمد وعلي بن عبد الله بن عباس العباسي المعروف بشاشان؛ وذلك في سنة خمسين ومائتين، ودامت ولايته إلى سنة إحدى وخمسين1.
ثم وليها بعده في هذه السنة بالتغلب: إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ لأنه ظهر بمكة، وهرب منه عاملها جعفر المذكور، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة ونهب منزل جعفر ومنازل أصحاب السلطان، وأخذ من الناس نحو مائتي ألف دينار، وأخذ كسوة الكعبة، وما في الكعبة، وخزائنها من الأموال، وما حمل من المال لإصلاح العين، ونهب مكة، وأحرق بعضها، ثم خرج منا بعد مقامه فيها خمسين يوما، في شهر ربيع الأول إلى المدينة؛ فتوارى عنه عاملها، ثم رجع إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى مات أهلها جوعا وعطشا، وبلغ الخبر ثلاث أواق بدرهم، ولقي أهل مكة منه كل بلاء، ثم سار إلى جدة بعد أن أقام سبعة وخمسين يوما؛ فحبس عن الناس فأفسد فيه كثيرا، وكان من أمره بعرفة ما سنذكره بعد -إن شاء الله، وبعد انفصاله من الموقف بعرفة سار إلى جدة، وأفنى أموالها.
وما ذكرناه من خبره لخصناه بالمعنى من تاريخ ابن جرير وابن الأثير2، وفيه ما يقتضي أن ظهور إسماعيل بمكة كان في صفر من سنة إحدى وخمسين ومائتين؛ لأن فيه أنه خرج من مكة إلى المدينة في ربيع الأول بعد خمسين يوما، وذكر ابن حزم في "الجمهرة" ما يقتضي أنه ظهر بمكة في ربيع الأول، وذكر أنه مات في آخر سنة اثنتين وخمسين بالجدري، عن اثنين وعشرين سنة3.
وذكر المسعودي ما يقتضي أن ظهوره كان سنة اثنتين وخمسين4.
وولي مكة في خلافة المستعين: ابنه العباس؛ لأن المسعودي ذكر في أخبار سنة تسعه وأربعين ومائتين، أن المستعين: عقد لابنه العباس على مكة والمدينة والبصرة والكوفة، وعزم على البيعة له، فأخرها لصغر سنه ... انتهى5 بالمعنى.
__________
1 تاريخ الطبري 9/ 277، الكامل لابن الأثير 7/ 134، 165، إتحاف الورى 2/ 328، البداية والنهاية 11/ 6، مروج الذهب 4/ 406.
2 الكامل لابن الأثير 7/ 165، 166، تاريخ الطبري 9/ 346، 347، إتحاف الورى 2/ 1329، البداية والنهاية 11/ 9، العقد الفريد 3/ 312.
3 جمهرة أنساب العرب "ص: 46"، إتحاف الورى 2/ 331، العقد الفريد 3/ 313.
4 مروج الذهب 4/ 176، وفيه يسميه: "يوسف بن إسماعيل".
5 مروج الذهب 4/ 154.(2/221)
وولي مكة في خلافة المستعين أيضا: محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين؛ لأن ابن الأثير ذكر في أخبار سنة ثمان وأربعين، أن المستعين عقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر على العراق، وجعل إليه الحرمين، والشرطة، ومعادن السواد، وأفرده به1 ... انتهى.
وولي مكة في خلافة المعتز2 محمد، وقيل: طلحة، وقيل: الزبير بن المتوكل العباسي: عيسى بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، على ما ذكر ابن حزم3، وهكذا نسبه، وهو: عيسى بن محمد المخزومي الذي ذكر ابن الأثير أن المعتز أنفذه مع محمد بن العلوي، ولعل المعز ولي عيسى مكة في السنة التي بعثه فيها إلى مكة، وهي سنة إحدى وخمسين4 والله أعلم.
وما عرفت إلى متى دامت ولايته على مكة.
وذكر الفاكهي ولاية عيسى هذا لمكة، وأنه كان واليا عليها في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وفي سنة أربع وخمسين ومائتين، وذكر الفاكهي ما يقتضي أنه ولي مكة مرتين5.
وممن ولي مكة في خلافة المعتز، أو في خلافة المهتدي، محمد بن الواثق العباسي6 أو في خلافة المعتمد العباسي7: محمد بن أحمد المنصوري؛ هكذا رأيته مذكورا في كتاب الفاكهي؛ وذكر ما يدل لولايته على مكة؛ لأنه قال في الأوليات التي اتفقت بمكة: وأول من استصبح في المسجد الحرام في القناديل في الصحن: محمد بن أحمد المنصوري، جعل عمدا من خشب في وسط المسجد، وجعل بينهما جبالا، وجعل فيها قناديل يستصبح بها؛ فكان ذلك في ولايته، حتى عزل محمد بن أحمد، فعلقها عيسى بن محمد في إمارته الأخيرة ... انتهى.
وذكر العتيقي: محمد بن أحمد هذا، ووقع خلاف في نسبه؛ لأنه قال: وحج بالناس سنة ثلاث وخمسين ومائتين: محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور يعرف
__________
1 الكامل لابن الأثير 7/ 118.
2 كانت خلافة المعتز بن المتوكل ثلاث سنوات من "252-255 هـ".
3 جمهرة أنساب العرب "ص: 149".
4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 240.
5 الكامل لابن الأثير 7/ 166، إتحاف الورى 2/ 330.
6 الكامل لابن الأثير، إتحاف الورى 2/ 330.
7 كانت خلافة المهتدي من "255 - 256 هـ".(2/222)
بكعب البقر1، وقال بعد ذلك: وحج بالناس سنة ست وخمسين: محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وقال أيضا: وحج بالناس سنة سبع وخمسين ومائين: محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور كعب البقر ... انتهى.
فاستفدنا مما ذكره العتيقي في نسبه وحجة بالناس في هذه السنين، ولعله كان في إحداها واليا على مكة، والله أعلم.
وما ذكرناه عن ابن الأثير من كون المعتز بعثه مع عيسى بن محمد المخزومي لحرب إسماعيل بن العلوي، يقتضي أنه محمد بن إسماعيل بن عيسى، ولعل إسماعيل تصحف بأحمد، فإن النسخة التي رأيت فيها ذلك من تاريخ ابن الأثير كثيرة السقم، والله أعلم.
وممن ولي مكة في خلافة المهتدي محمد بن الواثق العباسي: علي بن الحسن الهاشمي، على ما ذكر الفاكهي، ولم يزد في ذكره على اسمه واسم أبيه، وذكر في غير موضع أنه هاشمي؛ وذكر الفاكهي أنه ولي مكة في سنة ست وخمسين ومائتين، وذكر ما يقتضي أنه كان واليا على مكة في الحرم وصفر، وفي شهر ربيع الأول منها، وأنه في ولايته حلى المقام وزاد من عنده في حليته2.
وذكر في الأوليات بمكة أنه أول من فرق بين الرجال والنساء في جلوسهم في المسجد الحرام، أمر الجبال فربط بين الأساطين التي تقعد عندها النساء؛ فكن يقعدن دون الحبال، إذا جلس في المسجد الحرام، والرجال من وراء الحبال3 ... انتهى.
وولي مكة في خلافة المعتمد أحمد بن المتوكل العباسي جماعة؛ وهم: أخوه أبو أحمد الموفق، واسمه طلحة، وقيل: محمد بن المتوكل العباسي، وإبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي الملقب برية، وأحمد بن طولون صاحب مصر، ومحمد بن أبي الساج، وأخوه يوسف بن أبي الساج، ومحمد بن عيسى بن محمد بن إسماعيل المخزومي أبو المغيرة ولد عيسى المقدم ذكره، وأبو عيسى محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الوهاب بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي، والفضل بن العباسي بن الحسين بن إسماعيل بن محمد العباسي.
__________
1 إتحاف الورى 4/ 334 و335، مروج الذهب 4/ 6، درر الفرائد "ص: 230، 231".؟
2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 477، والعقد الفريد 6/ 152.
3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 242.(2/223)
فأما ولاية الموافق: فذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة سبع وخمسين ومائيتن: لما اشتد أمر الزنج وعظم شرهم وأفسدوا في البلاد، أرسل "المعتمد على الله" مكة والحرمين واليمن1ض، انتهى باختصار لبعض ما ذكره من البلاد؛ وإنما ذكرنا كلامه بنصه؛ لإفادته ولاية الموفق للحرمين ولما فيه من إحضاره من مكة فإنه يبعد أن يكون فيها وولايتها لغيره، والله أعلم.
وأما ولاية إبراهيم الملقب برية فذكرها ابن الأثير، وذكر أنه كان على مكة في سنة ستين ومائتين2 ولعله كان عليها في التي قبلها، وذكر ابن الأثير أنه رحل من مكة للغلاء الذي كان بها في سنة إحدى وستين، لما جلا الناس عنها لغلائها.
وأما ولاية ابن طولون فذكر ابن جرير ما يدل لها، ولولاية هارون بن محمد المذكور؛ لأنه قال في أخبار سنة تسع وستين ومائتين: وفي ذي الحجة كانت وقعة بين قائدين، وجههما أحمد بن طولون في أربعمائة وسبعين فارسا وألفي راجل، فوافيا مكة لليلتين بقيتا من ذي القعدة؛ فأعطوا الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤساء سبعة، وهارون بن محمد عامل مكة، فوافاه جعفر بن الباغمردي3 لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو مائتي فارس، وكان هارون في مائة وعشرين فارسا، ومائتي أسود، يقوى بهم، فالتقوا وأصحاب ابن طولون؛ فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة نحو مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال، وأخذت دوابهم وأموالهم، وأمن جعفر المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام بلعن أحمد بن طولون، وسلم الناس أموال التجار4 ... انتهى.
وذكر ابن الأثير نحو ذلك مختصرا، وأفاد فيما ذكره أن هارون حين وافاه المصريون كان ببستان ابن عامر، قد فارق مكة خوفا من المصريين5 ... انتهى.
وبستان ابن عامر هو نخلة6 التي هي من عمل مكة؛ لأن أبا الفتح ابن سيد الناس قال في سيرته لما ذكر سرية عبد الله بن جحش: وذكر -يعني ابن سعد- أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 الكامل لابن الأثير 7/ 241، وإتحاف الورى 2/ 335، البداية والنهاية 11/ 28، العقد الفريد 5/ 67.
2 الكامل لابن الأثير 7/ 272، إتحاف الورى 2/ 336.
3 في إتحاف الورى 2/ 336: "الباغمردي".
4 تاريخ الطبري 9/ 652، إتحاف الورى 3/ 343.
5 الكامل لابن الأثير 7/ 395.
6 نخلة: اسم لثلاثة مواضع: نخلة القصوى، ونخلة الشمالية، ونخلة اليمانية، والمقصود هنا: نخلة الشمالية، وهي قريبة من مر الظهران، وكلها قريبة من مكة.(2/224)
بعث عبد الله بن جحش -رضي الله عنه- في اثنى عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان بعيرا إلى بطن نخلة. وهو بستان ابن عامر ... انتهى. أخبرني بذلك عن ابن سيد الناس غير واحد من أشياخي عنه1.
وأما ولاية محمد بن أبي الساج: فذكرها ابن جرير؛ لأنه في أخبار سنة ست وستين ومائتين: وفي شهر ربيع الآخر أبو الساج بجنديسابور، وولي ابنه محمد الحرمين وطريق مكة ... انتهى. وهكذا وجدته في مختصر تاريخ ابن جرير2.
وذكر ابن حمدون في "تذكرته" وابن الأثير3 في "كامله" ولاية محمد بن أبي الساج، كما ذكر في التاريخ المذكور، وذكر أن عمرو بن الليث الصفار ولاه ذلك، ولعل الصفار لم يفعل ذلك إلا بعد أن جعل إليه ذلك الخليفة المعتمد، أو أخوه أبو أحمد الموفق، والله أعلم.
وهذا يدل على ولاية عمرو بن الليث لمكة، والله أعلم.
وأما ولاية أخيه يوسف بن أبي الساج: فذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة إحدى وسبعين ومائتين: وفيها عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة، وطريق مكة؛ فوثب يوسف بن أبي الساج -وهو والي مكة- على بدر غلام الطائي، وكان أمير على الحجاج؛ فحاربه وأسره؛ فثار الجند والحاج بيوسف فقاتلوه، واستنقذوا بدرا، وأسروا يوسف وحملوه إلى بغداد، وكانت الموقعة بينهم على أبواب المسجد الحرام4 ... انتهى.
وأما ولاية أبي المغيرة، وأبي عيسى المخزوميين، فذكرهما ابن حزم؛ لأنه قال بعد أن ذكر نسب أبي المغيرة، وأبي عيسى: وكان المعتمد قد ولي أبا عيسى هذا مكة، ثم عزله بأبي المغيرة المذكور، فتحاربا فقتل أبو عيسى، ودخل أبو المغيرة مكة ورأس أبي عيسى بين يديه5 ... انتهى. ولم أدر متى كانت ولاية أبي عيسى؟
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أبا عيسى محمد بن يحيى المخزومي ولي مكة نيابة عن الفضل بن العباس؛ فقال شاعر من أهل مكة:
أتعجبون يا بني المغيرة فيه ... فبنو حفص منكم أمراء
انتهى.
__________
1 عيون الأثر 1/ 259.
2 تاريخ الطبري 9/ 549.
3 الكامل لابن الأثير 7/ 333.
4 الكامل لابن الأثير 7/ 417، إتحاف الورى 2/ 344.
5 جمهرة أنساب العرب "ص: 149".(2/225)
لأنه قال: وكان محمد بن يحيى المخزومي واليها، واستخلفه عليها الفضل بن عباس.
ولا مانع من أن يكون أبو عيسى ولي مكة عن الفضل بن عباس نيابة، كما ذكر الفاكهي، وعن المعتمد استقلالا، كما ذكر ابن حزم، والله أعلم.
وأما ولاية أبي المغيرة؛ فرأيت في كتاب الفاكهي ما يقتضي أنه كان أميرا على مكة في سنة ثلاث وستين ومائتين؛ لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "تجريد الكعبة": فكانت الكسوة على الكعبة على ما وصفنا، حتى كانت سنة ثلاث وستين، فورد كتاب من أبي أحمد الموفق بالله على محمد بن عيسى وهو يومئذ على مكة، يأمره بتجريد الكعبة؛ فقرأ الكتاب في درا الإمارة لتسع ليال بقين من ذي الحجة1 ... انتهى.
وما ذكرناه من كلام الفاكهي يشعر بأن أبا المغيرة ولي مكة عن أبي أحمد الموفق، وذكر ابن الأثير ما يدل على أنه وليها بعد ذلك لصاحب الزنج؛ لأن ابن الأثير قال في أخبار سنة خمس وستين ومائتين: وفيها كانت موافاة أبي المغيرة عيسى بن محمد المخزومي إلى مكة لصاحب الزنج2 ... انتهى.
وما ذكر ابن الأثير في اسم أبي المغيرة وأبيه عكس ما ذكره ابن حزم في ذلك، ولعله سقط من كتاب ابن الأثير "ابن" بين أبو المغيرة وعيسى؛ وبذلك يتفق ما ذكره مع ما ذكره ابن حزم3، والله أعلم.
وصاحب الزنج هو علي بن أحمد العلوي -بزعمه- لأنه كان ينتمي إلى يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ممن أكثر في الأرض الفساد، وأخباره في ذلك مشهورة.
وذكر ابن الأثير شيئا من حال أبي المغيرة؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وستين وفيها قدم محمد بن أبي الساج مكة، فحاربه ابن المخزومي، فهزمه محمد، واستباح ماله؛ وذلك يوم الترويه4 ... انتهى.
وقال أيضا في أخبار سنة ثمان وستين: وفيها سار أبو المغيرة إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد الهاشمي، فجمع هارون جمعا احتمى بهم؛ فصار المخزومي إلى مشاش فغور ماءها، وأتى جدة فنهب الطعام وأحرق بيوت أهلها، وصار الخبز في مكة
__________
1 الكامل لابن الأثير 7/ 328، إتحاف الورى 2/ 340.
2 الكامل لابن الأثير 7/ 328، إتحاف الورى 2/ 240.
3 جمهرة أنساب العرب "ص: 149".
4 الكامل لابن الأثير 7/ 336، إتحاف الورى 2/ 341، البداية والنهاية 11/ 39.(2/226)
أوقيتين بدرهم، ثم قال: وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق1: وقال في أخبار سنة تسع وستين: وفيها وجه ابن أبي الساج جيشا بعدما انصرف من مكة، فسيره إلى جدة، وأخذ المخزومي مركبين فيهما مال وسلاح2 ... انتهى.
وأما ولاية هارون بن محمد بن إسحاق العباسي فسبق ما يدل لها من كلام ابن جرير3 وابن الأثير، وذكرها ابن حزم4، وأفاد في ذلك مالم يفده غيره؛ لأنه قال بعد إن نسبه كما سبق ذكره: ولي المدينة ومكة، وحج بالناس من سنة ثلاث وستين ومائتين، إلى سنة ثمان وسبعين ولاء، ثم هرب من مكة عند الفتنة، فنزل مصر ومات به، وألف نسب العباسيين وغير ذلك ... انتهى.
وما ذكره ابن حزم من أنه حج بالناس من سنة ثلاث وستين ومائتين، إلى سنة ثمان وسبعين ولاء ذكر مثله "العتيقي" في "أمراء الموسم"؛ إلا أنه ذكر أن أول حجاته سنة أربع وستين. وذكر ابن الأثير ما يوافق ما ذكره ابن حزم والعتيقي في بعض ذلك؛ لأنه ذكر أن هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي حج بالناس سنة ثمان وستين5.
وأما ولاية الفضل بن العباس فذكرها الفاكهي6، وذكر أنه كان واليا على مكة سنة ثلاث وستين ومائتين، واقتصر في نسبه على الفضل بن العباس، وما ذكرناه في نسبه ذكره العتيقي، وذكر أنه حج بالناس سنة ثمان وخمسين ومائتين، إلى آخر سنة ثلاث وستين ولاء؛ إلا سنة ستين فذكر فيها غيره.
ثم ولي مكة في خلافة المعتضد، أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن المتوكل العباسي7، وفي خلافة أولاده المكتفي أبي محمد علي8، والمقتدر أبي الفضل جعفر والقاهر أبي منصور محمد9، وفي خلافة الراضي أبي العباس أحمد بن المقتدر10 وفي خلافة المتقي11 أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر، وفي خلافة المستكفي عبد الله بن المكتفي على بن المعتضد12، وفي خلافة المطيع أبي القاسم الفضل بن
__________
1 الكامل لابن الأثير 7/ 372، 373.
2 الكامل لابن الأثير 7/ 396.
3 تاريخ الطبري 9/ 541 و10/ 8-18، وفيه أنه حج بالناس 16سنة من "264 - 279 هـ"، الكامل لابن الأثير 7/ 321 و302، 337.
4 جمهرة أنساب العرب "ص: 33".
5 الكامل لابن الأثير 7/ 373.
6 أخبار مكة للفاكهي 3/ 184.
7 تولي الخلافة بعد موت المعتمد "279 - 289 هـ".
8 تولى الخلافة في الفترة "289-295هـ".
9 تولى الخلافة في الفترة "320 - 322 هـ".
10 تولى الخلافة في الفترة "322 - 328 هـ".
11 تولى الخلافة في الفترة "328 - 333 هـ".
12 تولى الخلافة في الفترة "333 - 334 هـ".(2/227)
المقتدر العباسي جماعة، ما عرفت منهم غير عج بن حاج، ومؤنس المظفر، وابن ملاحظ. وما عرفته بغير هذا، وابن مخلبة أو ابن محارب على الشك مني، ومحمد بن طفج الأخشد صاحب مصر، وابنيه أبي القاسم أو نجور، ومعنى أونجور: محمود، وأبي الحسن علي، والقاضي أبي جعفر محمد بن الحسن عبد العزيز العباسي، قاضي مصر.
فأما ولاية عج بن حاج فذكرها إسحاق بن أحمد الخزاعي راوي تاريخ الأزرقي، في خبر زيادة دار الندوة، وترجم على ذلك بقوله: "باب ذكر بناء المسجد الجديد" الذي كان دار الندوة، وأضيف إلى المسجد الكبير: لأنه قال بعد أن ذكر أن المستعمل على بريد مكة في ذلك إلى الوزير عبيد الله بن سليمان في سنة إحدى وثمانين ومائتين: وسرح ذلك الأمير بمكة عج بن حاج، مولي أمير المؤمنين1 ... انتهى.
وذكر ابن الأثير ما يدل على أنه كان واليا على مكة في سنة خمس وتسعين ومائتين؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: وفي هذه السنة كانت وقعة بين "عج بن حاج" وبين الأجناد بمنى ثاني عشر ذي الحجة، فقتل منهم جماعة؛ لأنهم طلبوا جائزة بيعة المقتدر، وهرب الناس إلى بستان ابن عامر2 ... انتهى.
وأما ولاية "مؤنس"، فذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة ثلاثمائة: وفيها قلد مؤنس المظفر الحرمين والثغور3.... انتهى.
وأما ولاية "ابن ملاحظ" فذكر النسابة أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني في كتابه "الإكليل" ما يدل لها؛ لأنه قال: في أخبار بني حرب بالحجاز ما نصه: قال أبو جعفر بن المخائي: فمن أيام بني حرب في وقتنا وقبله بمديدة: "يوم الحرة"، ثم قال: ومنها "يوم شرف الإباية" يوم سار إليهم ابن ملاحظ وهو سلطان مكة؛ فقتلوا أصحابه وأسروه؛ فأقام عندهم وقتا، ثم منوا عليه وخلوا سبيله ... انتهى.
وما عرفت اسم ابن ملاحظ المذكور، ولا متى كانت ولايته على مكة؛ غير أني أظن أنه كان على ولايتها بعد سنة ثلاثمائة، أو قبلها بقليل، ومؤلف هذا الكتاب الهمداني النسابة كان حيا فسن اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وعاش بعدها إلى سنةتسع وعشرين، فيما أحسب، والله أعلم.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 111، إتحاف الورى 2/ 348.
2 الكامل لابن الأثير 8/ 11، 12، إتحاف الورى 2/ 360.
3 الكامل لابن الأثير 8/ 75.(2/228)
وأما ولاية "ابن مخلف": فذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال لما ذكر ما فعله أبو طاهر القرمطي من القبائح بمكة في سنة سبع عشرة وثلاثمائة: فخرج إليه ابن مخلب أمير مكة في جماعة من الأشراف، فسألوه في أموالهم؛ فلم يشفهم، فقاتلوه، فقتلهم أجمعين1.
وأما ولاية "ابن محارب": فذكرها الذهبي؛ لأنه قال لما ذكر خبر أبي طاهر وما فعل بمكة: وقتل ابن محارب أمير مكة ... انتهى؛ هكذا قال: في "تاريخ الإسلام"2. وقال في "العبر"3: وقتل أمير مكة ابن محارب ... انتهى.
وأظن -والله أعلم- أن ابن مخلب4 أصوب؛ لأني وجدت في "تاريخ المسبحي" ما نصه في أخبار سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة: وفيها التقى محمد بن إسماعيل بن مخلب متولي معونة الحجاز مع أحمد بن الحسين الحسني ... انتهى. نقلت ذلك من خط الرشيد بن الزكي المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي، والظاهر أن أمير مكة الذي سماه ابن الأثير "ابن مخلب" من أقارب ابن مخلب هذا، والله أعلم.
وأما ولاية الأخشيدية فذكرها النويري في تاريخه5؛ لأنه ذكر أن "المتقي" الخليفة العباس ولي "محمج بن طغج" الحرمين، ومصر، والشام في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وعقد لولديه: "أبي القاسم أو نجور"، وأبي الحسن علي -المقدم ذكرهما- من بعده على ذلك؛ على أن يكفلهما خادمه كافرو الخصي المعروف بالإخشيدي.
وذكر المسبحي مايدل لذلك لأنه ذكر في أخبار سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة: أنه حج جماعة من أعيان المصريين في هذه السنة، ثم قال: ووقع الخلف بين المصريين والعراقيين في ذي الحجة منها بمكة، في إقامة الدعوة لمعز الدولة ولأخيه ركن الدولة، ولولده عز الدولة، بعد المطيع. ومنعه من ذلك المصريون، وتمسكوا بعقد المتقي للإخشيد، ولوده بعده، من غير واسطة بينه وبين المطيع، وكثر الحكايات في شرح ما جرى بينهم6 ... انتهى.
__________
1 الكامل لابن الأثير 8/ 207، 208.
2 تاريخ الإسلام للذهبي 1/ 192، حوادث سنة "317هـ".
3 العبر 2/ 167.
4 في تجارب الأمم 1/ 201، "ابن مجلب" وفي دول الإسلام للذهبي 1/ 192: "ابن محارب" ولم يصرح الهمداني في تكملة تاريخ الطبري "ص: 62" باسمه، وفي إتحاف الورى 2/ 383: "ابن مجلب".
5 نهاية الإرب 23/ 88 وما بعدها.
6 إتحاف الورى 2/ 298، درر الفرائد "ص: 243"، حسن الصفا والابتهاج "ص: 109".(2/229)
وذكر العتيقي في "أمراء الموسم" ما يدل لذلك؛ لأنه قال: وحج بالنسا سنة سبع وأربعين: محمد بن عبد الله بن العلوي، وعلى الصلاة: عمر بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، ومضى إلى مصر في هذه السنة، ومات بالقرب منها ودفن بها، وقلده بعده الصلاة: عبد العزيز وعبد السميع ابنا عمر بن الحسن بن عبد العزيز مكان أبيهما بمصر، والحرمين1 ... انتهى.
ووجه الدلالة من هذا على ولاية الإخشيدية للحرمين أن تقليدهم الصلاة فيهما يقتضي أنهما في ولايتهم، وهو كذلك، بدليل ما حكي من عقد المتقي لهم الولاية على ذلك، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ما يدل لولايتهم على مكة، وما عرفت من كان يباشر للإخشيدية ولاية مكة، ولا من باشر ذلك لمؤنس، والله -سبحانه- أعلم.
وأما ولاية القاضي أبي جعفر محمد بن الحسن بن عبد العزيز العباسي فذكرها بعض مؤرخي مصر في كتاب له ذكر فيه مصر وقضاتها2 ووزراءها وأخبار النيل، وغير ذلك، ورتبه على ترتيب السنين وجعل في كل سنة جداول تحتوي على المشار إليهم، فذكر في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة: أن قاضي مصر في هذه السنة كان أبا جعفر محمد بن الحسن بن عبد العزيز العباسي، إلى أن عزل وولي إمارة مكة. وهذا يشعر بأن محمد بن الحسن المذكور باشر ولاية مكة لعلي بن الإخشيد، والله أعلم.
ثم ولي مكة في زمن الإخشيدية بالتغلب: جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني، على ما ذكر بن حزم في "الجمهرة"؛ لأنه قال بعد أن نسبه "هكذا: الذي غلب على مكة أيام الإخشيدية وولده إلى اليوم ولاة مكة"3 ... انتهى.
ولعل ولاية جعفر هذا لمكة بعد موت كافور الإخشيدي قبل أخذ العبيديين لمصر من الإخشيدية؛ فإن دولتهم لم تتلاش إلا بعد موت كافور، وكان موت كافور في جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وقيل: في سنة سبع وخمسين، فتكون ولاية جعفر في إحدى هاتين السنتين، أو في سنة ثمان وخمسين، فإن فيها: كان انقضاء دولة الإخشيدية على يد القائد "جوهر" مولى "المعز" العبيدي صاحب المغرب، ولا تخرج ولاية جعفر على أن تكون في هذه السنة، أو في إحدى السنتين قبلها، على تقدير موت كافور في سنة ست وخمسين، لقول ابن حزم: إن جعفرا غلب على مكة أيام الإخشدية،
__________
1 إتحاف الورى 2/ 400.
2 يقصد بذلك كتاب "الولاة والقضاة" للمؤرخ المصري المشهور محمد بن يوسف الكندي "283 - 305هـ".
3 جمهرة أنساب العرب ص: 47.(2/230)
وتصدق على ما بعد موت كافور، وحصول مصر للمغاربة في سنة ثمان وخمسين إنها: أيام الإخشيدية، ويبعد أن يلي جعفر مكة، في أيام كافور لعظم أمره، وقد رأيت في بعض التواريخ ما يدل على أنه كان يدعى له على المنابر بمكة، والله أعلم.
وذكر شيخنا ابن خلدون1 في نسب جعفر هذا ما ذكره ابن حزم في نسبه، وحكى في نسبه وجها آخر، وهو أنه من ولد "محمد" القائم بالمدينة أيام المأمون بن سليمان بن داود بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وذكر نسب جعفر إلى محمد بن سليمان، فقال: جعفر بن أبي هاشم الحسن بن محمد بن سليمان، وذكر أن محمد بن سليمان من ولد محمد بن سليمان القائم بالمدينة أيام المأمون، وكلامه يقضي ترجيح هذه المقالة في نسب جعفر، وفي ذلك نظر، والله أعلم.
وذكر أن جعفر هذا: دعا للمعز العبيدي لما استولى له خادمه جوهر على مصر.
ثم ولي مكة بعد جعفر هذا: ابنه عيسى، على ما ذكر شيخنا ابن خلدون.
وذكر أن في أيامه حصر جيش العزيز بن المعز العبيدي مكة، وضيقوا على أهلها كثيرا لمالم يخطبوا للعزيز بعد موت أبيه، ودامت ولايته على مكة، إلى سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، على ما ذكر ابن خلدون؛ وذكر ابن حزم في "الجمهرة"2 ما يفهم أنه ولي مكمة في الجملة.
ثم ولي مكة بعده: أخوه أبو الفتوح الحسن بن جعفر الحسني، على ما ذكر شيخنا ابن خلدون، وذكر أنه ملك المدينة وأزال عنها إمرة بني المهنا الحسيني في سنة تسعين وثلاثمائة، بأمر الحاكم العبيدي: وولاية أبي الفتوح لمكة مشهورة؛ وإنما عزوناها لابن خلدون؛ لإفادته تاريخ ابتداء دولته لها بها بعد أخيه عيسى، ولم أر ذلك لغيره3 وكذا ما ذكره في ملكه للمدينة4، والله أعلم.
ودامت ولاية أبي الفتوح على مكة -فيما علمته- إلى أن مات في سنة ثلاثين وأربعمائة؛ إلا أن الحاكم العبيدي ولي ابن عم أبي الفتوح في المدة التي خرج فيها أبو الفتوح عن طاعة الحاكم، ثم أعاد أبو الفتوح إلى إمرة مكة لما رجع إلى طاعته. وكان سبب عصيانه أن الوزير "أبا القاسم بن المغرب" لما قتل الحاكم أباه، هرب من الحاكم واستجار ببعض آل الجراح؛ فبعث الحاكم إليهم من حاربهم، فكان الظفر لآل الجراح، فعند ذلك حسن لهم الوزير مبايعة أبي الفتوح بالخلافة، فمالوا إلى ذلك، فقصد
__________
1 العبر وديوان المبتدأ والخبر - ابن خلدون 3/ 244.
2 جمهرة أنساب العرب ص: 47.
3 راجع الجمهرة ص: 47.
4 إتحاف الورى 2/ 423، العقد الثمين 4/ 69.(2/231)
أبو القاسم أبا الفتوح، وحسن له طلب الخلافة؛ فاعتذر له أبو الفتوح بقلة ذات يده، فحسن أبو القاسم لأبي الفتوح أخذ ما في الكعبة المعظمة من المال؛ فأخذ أبو الفتوح ذلك مع مال عظيم لبعض التجار، مات بجدة، وخطب لنفسه، وبايعه بالخلافة شيوخ الحسينيين وغيرهم بالحرمين، وتلقب بالراشد، وخرج من مكة إلى الرملة قاصدا آل الجراح في جماعة من بني عمه، وألف عبد أسود -على ما قيل، ومعه سيفه، زعم أنه ذو الفقار، وقضيب زعم أنه قضيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما قرب من الرملة تلقاه العرب وقبلوا له الأرض، وسلموا إليه بالخلافة، ونزل الرملة، ونادى بالعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانزعج الحاكم لذلك، وما وسعه إلا الخضوع لآل الجراح، فاستمال حسان بن مفرج من آل الجراح، وبذل له ولإخوته أموال جزيلة جدا، فتخلوا عن أبي الفتوح، فعرف أبو الفتوح ذلك، فاستجار بمفرج -والد حسان- من الحاكم، فكتب "مفرج" إلى الحاكم فرده إلى مكة، وكان الحاكم قد ولي الحرمين لابن عم أبي الفتوح، وأنفذ له ولشيوخ بني حسن أموالا، وكان عصيان أبي الفتوح في سنة إحدى وأربعمائة1، على ما ذكر صاحب "المرآة" وغيره. ورأيت في تاريخ بعض شيوخنا أن ذلك في سنة اثنتين وأربعمائة، ورأيت في تاريخ النويري ما يشهد لذلك، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- قريبا؛ وإنما نبهنا على ذلك؛ لأن الذهبي ذكر في "تاريخ الإسلام"2 أن ذلك في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وذلك وهم بلا ريب؛ لأن الحاكم لم يل الخلافة إلا في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، كما ذكر الذهبي وغيره.
ووجدت في بعض التواريخ أن ابن عم أبي الفتوح الذي ولاه الحاكم الحرمين يقال له: أبو الطيب، ولعله والله أعلم: أبو الطيب بن عبد الرحمن بن قاسم بن أبي الفاتك بن داود بن سليمان بن عبيد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني؛ هكذا رأيت أبا الطيب هذا منسوبا في حجر بالمعلاة، مكتوب فيه أنه قبر يحيى ابن الأمير المؤيد ابن الأمير قاسم بن غانم بن حمزة بن وهاس بن أبي الطيب، وساق بقية النسب كما سبق.
وذكر ابن حزم في "الجمهرة" أبا الطيب هذا، وساق نسبه كما ذكرناه؛ إلا أنه أسقط في النسخة التي رأيتها من "الجمهرة" قاسما بين عبد الرحمن وأبي الفاتك، وسمي أبا الفاتك عبد الله، وذكر فيها أن لعبد الرحمن هذا اثنين وعشرين ذكرا، فذكرهم، وذكر أبا الطيب فيهم، ثم قال: سكنوا كلهم أذنه3، حاشا نعمة، وعبد الحميد،
__________
1 اتعاظ الحناف 2/ 87.
2 حوادث سنة 381 هـ ص 300.
3 أذنة: جبال شمالي شرقي الحجاز.(2/232)
وعبد الحكيم؛ فإنهم سكنوا أمج1 بقرب مكة2 ... انتهى. ولعل سكناهم أذنه للخوف من أبي الفتوح، بسبب تأمر أبي الطيب بعده، وأستبعد -والله أعلم- أن يكون الذي ولاه الحاكم عوض أبي الفتوح: أبا الطيب بن عبد الرحمن، لكون ابن حزم لم يذكر لأبي الطيب بن عبد الرحمن ولايته، والله أعلم.
ورأيت في تاريخ النويري ما يقتضي أن أبا الفتوح لما عصى على الحاكم خرج عليه بمكة إخوة؛ لأنه حكى أن أبا الفتوح لما بلغه استمالة الحاكم لآل الجراح، قال لهم: إن أخي قد خرج بمكة، وأخاف أن يستأصل ملكي بها، فأعادوه إلى مكة في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة ... انتهى ... وهذا هو الذي ذكرنا أنه يشهد لمن قال: إن تاريخ عصيان أبي الفتوح سنة اثنين، والله أعلم.
وولي مكة بعد أبي الفتوح ابنه شكر بن أبي الفتوح، ودامت ولايته فيما علمت إلى أن مات سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وذكر شيخنا ابن خلدون أنه حارب أهل المدينة وملكها في بعض حروبه، وجمع بين الحرمين. قال: وذكر البيهقي وغيره: أنه ملك الحجاز ثلاثا وعشرين سنة ... انتهى.
وذكر ابن حزم في "الجمهرة" ما يفهم في الجملة ولاية أبي الفتوح، وابنه شكر مكة، وذكر ما يقتضي أن عقبهم انقرض، وأن مكة وليها بعد شكر عبد كان له؛ لأنه قال: وقد انقرض عقب جعفر المذكور؛ لأن أبا الفتوح لم يكن له ولد إلا شكر، ومات "شكر" ولم يولد له قط، وصار أمر مكة إلى عبد كان له3 ... انتهى.
وذكر صاحب "المرآة" عن محمد بن هلال الصابي ما يقتضي أن لشكر بنتا، وسيأتي ذلك قريبا، وهو يخالف ما ذكره ابن حزم، والله أعلم.
وولي مكة بعد "شكر" بنو أبي الطيب الحسنيون، ثم علي بن محمد الصليحي صاحب اليمن، ثم أبو هاشم محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسبن بن علي بن أبي طالب الحسني؛ لأن صاحب "المرآة" قال في أخبار سنة خمس وخمسين وأربعمائة: وفيها دخل الصليحي إلى مكة، واستعمل الجميل مع أهلها، وأظهر العدل والإحسان والأمن، وطابت قلوب الناس، ورخصت الأسعار، وكثرت له الأدعية.
__________
1 أمج: بلد من أعراض المدينة "مراصد الاطلاع 1/ 115".
2 جمهرة أنساب العرب ص: 47.
3 الجمهرة ص47، إتحاف الورى 2/ 467، درر الفرائد "ص: 255".(2/233)
ثم قال: وكسا البيت ثيابا بيضا، ورد بني شيبة عن قبيح أفاعلهم، ورد إلى البيت من الحلي ما كان بنو أبي الطيب الحسنيون أخذوه لما ملكوا بعد "شكر". وكانوا قد غيروا في البيت الميزاب.
ثم قال: بعد أن نقل عن محمد بن هلال الصابي بعض ما ذكره من دخول الصليحي إلى مكة، وما فعله من الجميل فيها: وأقام إلى يوم عاشوراء وراسله الحسنيون، وكانوا قد أنفذوا من مكة: أخرج من بلدنا ورتب منا من تختاره، فرتب محمد بن أبي هاشم في الإمارة، ورجع إلى اليمن1. ومحمد بن أبي هاشم صهر "شكر" على ابنته، وأمره على الجماعة وأصلح، بين العشائر، واستخدم له العساكر، وأعطاه مالا، وخمسين فرسا وسلاحا. ثم قال: وفي رواية: أنه أقام بمكة إلى ربيع الأول؛ فوقع في أصحابه الوباء، فمات منهم سبعمائة رجل. ثم عاد إلى اليمن؛ لأن العلويين جمعوا عليه، ولم يبق معه إلا نفر يسير، فسار إلى اليمن، وأقام محمد بن أبي هاشم بمكة نائبا عنه؛ فقصده الحسنيون بنو سليمان مع حمزة بن أبي وهاس؛ فلم يكن له بهم طاقة بحرهم وخرج من مكة فتبعو، فرجع فضرب واحدا منهم ضربة فقطع ذراعه وفرسه وجسده، ووصل إلى الأرض، فدهشوا ورجعوا عنه، وكان تحته فرس تسمى دنانير لا تكل ولا تمل، وليس له في الدنيا شبيه. ومضى إلى وادي الينبع، وقطع الطريق عن مكة والقافلة، ونهب بنو سليمان مكة، ومنع الصليحي الحج من اليمن، فغلت الأسعار وزادت البلية ... انتهى2.
ولعل بني أبي الطيب -المشار إليه في هذا الخبر- من أولاد الطيب الذي ذكرنا نسبه، ولعله حمزة بن أبي وهاس -المذكور في هذا الخبر أيضا -حفيد أبي الطيب المشار إليه؛ لأن ذلك يوافق ما في الحجر الذي رأيته بالمعلاة، والله أعلم.
وهذا الذي ذكره صاحب "المرآة" يتضمن ولاية ابن أبي الطيب لمكة بعد "شكر"، ثم ولاية "الصليحي" لها، ثم ولاية ابن أبي وهاس.
وذكر شيخنا ابن خلدون ما يقتضي أن ابن أبي هاشم ولي مكة في سنة أربع وخمسين، بعد أن قاتل السليمانيين قوم شكر وغلبهم ونفاهم عن الحجاز3، والله أعلم بذلك.
وعاد إلى أبي هاشم بعد خروجه من مكة إلى إمرتها، ودامت ولايته عليها فيما أحسب إلى أن مات في سنة سبع وثمانين وأربعمائة4؛ إلا أنه خرج منها هاربا من
__________
1 اتعاظ الحنفا 2/ 268، 269.
2 إتحاف الورى 2/ 468، العقد الثمين 6/ 238، النجوم الزاهرة 5/ 72، البداية والنهاية 12/ 89.
3 العبر 4/ 103.
4 إتحاف الورى 2/ 487، العقد الثمين 1/ 439.(2/234)
التركمان الذين استولوا عليها في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، كما ذكر ابن الأثير1 وغيره.
ورأيت في تاريخ ابن الأثير أن هؤلاء التركمان طلبوا من ابن أبي هاشم أموال الكعبة التي أخذها، وأنهم نهبوا مكة، وكانت فتنة عظيمة2 ... انتهى بالمعنى.
وهو أول من أعاد الخطبة العباسية بمكة، بعد قطعها من الحجاز نحو مائة سنة، ونال بسبب ذلك مالا عظيما من السلطان "ألب أرسلان" السلجوقي؛ فإنه خطب له بمكة بعد القائم الخليفة العباسي، وصار بعد ذلك يخطب حينا للمقتدي عبد الله بن محمد الذخيرة ابن القائم عبد الله العباسي، وحينا للمستنصر العبيدي صاحب مصر، ويقدم في ذلك من تكون صلته أعظم، ولعل ذلك من سبب إرسال التركمان إليه. وذكر شيخنا ابن خلدون أن مدة إمرته على مكة ثلاثون سنة، وأنه ملك المدينة، والله أعلم بذلك. وقد بالغ ابن الأثير في ذم ابن أبي هاشم هذا؛ لأنه قال -لما ذكر وفاته: ولم يكن له ما يمدح به ... انتهى. ولعل ذلك لنهبه الحاج في سنة ست وثمانين، وقتله منهم خلقا كثيرا، على ما ذكر ابن الأثير، ولأخذه لحلي الكعبة في سنة اثنتين وستين3 والله أعلم.
وولي مكة بعده: ابنه قاسم بن محمد مدة يسيرة.
ثم وليها بعده، أصبهبذ بن سرتكين4؛ لأنه في هذه السنة استولى على مكة عنوة. وهرب منها قاسم المذكور، وأقام به أصبهبذ إلى شوال سنة سبع وثمانين، ثم إن قاسما جمع عسكرا، وكسر أصبهبذ بعسفان؛ فانهزم أصبهبذ ومضى إلى الشام، ودخل قاسم مكة5، ودامت ولايته عليها فيما علمت حتى مات سنة ثمان عشرة وخمسمائة، هكذا ذكر وفاته ابن الأثير وغيره. ووجدت بخطي فيما نقلته من "تاريخ الإسلام" للذهبي أنه توفي سنة ثمان عشرة، ووجدت ذلك بخطي أيضا فيما نقلته من تاريخ شيخنا ابن خلدون6. وقال شيخنا ابن خلدون: في ترجمته: واستمرت إمرته ثلاثين سنة على الاضطراب ... انتهى.
__________
1 الكامل لابن الأثير 10/ 200، إتحاف الورى 21/ 485، العقد الثمين 1/ 442.
2 الكامل لابن الأثير 10/ 225.
3 الكامل لابن الأثير 10/ 239، دول الإسلام 2/ 15، إتحاف الورى 2/ 486، النجوم الزاهرة 5/ 138.
4 هكذا في النجوم الزاهرة 2/ 487.
5 إتحاف الورى 2/ 487، الكامل لابن الأثير 10/ 329، العقد الثمين 1/ 439.
6 ذكر ابن الأثير 10/ 617، وفاته في سنة "517هـ" وقيل: فيها أو التي بعدها، إتحاف الورى 2/ 498.(2/235)
وولي مكة بعده ابنه "فليته بن قاسم"؛ هكذا سماه ابن الأثير وغيره، وسماه الذهبي في "تاريخ الإسلام" أبوفليتة، في موضعين من تاريخه، ودامت حتى مات في سنة سبع وعشرين وخمسمائة1.
وولي مكة بعده هاشم بن فليتة، ودامت ولايته حتى مات في سنة تسع وأربعين وخمسمائة؛ لأن ابن خلكان ذكر أن الفقيه "عمارة" الشاعر اليمني حج في هذه السنة، فسيره قاسم بن هاشم بن فليتة صاحب مكة رسولا إلى الديار المصرية، فدخلها في شهر رضمان سنة خمسين2 ... انتهى.
وهذا يقتضي أن هاشما توفي في هذه السنة؛ لأن قاسما ابنه إنما ولي بعده، فوجدت بخط بعض فقهاء المكيين ما يقتضي أن هاشما مات في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وأن قاسما ولي بعده، ولم يختلف عليه اثنان ... انتهى.
ودامت ولاية قاسم بن هاشم بعد أبيه إلى سنة ست وخمسين؛ لأنه فارق مكة متخوفا من أمير الحاج العراقي وقت الموسم من هذه السنة لإساءة السيرة فيها.
وولي مكة بعد عمه عيسى بن فليته3.
ثم إن قاسما استولى على مكة في شهر رمضان سنة سبع وخمسين، وأقام بها أياما يسيرة، ثم قتل. ووجدت بخط بعض المكيين ما يقتضي أنه قتل سنة ست وخمسين، والله أعلم4.
واستقر الأمر لعمه عيسى، ودامت ولاية عيسى فيما علمت على مكة، إلى أن مات سنة سبعين وخمسمائة؛ إلا أن أخاه مالك بن فليته كان نازعه في الإمرة، واستولى على مكة نحو نصف يوم؛ لأنه دخل مكة في يوم عاشوراء من سنة ست وستين وخمسمائة، وجرى بين عسكره وعسكر أخيه فتنة إلى وقت الزوال، ثم خرج مالك واصطلحوا بعد ذلك.
فولي مكة بعد عيسى: ابنه داود بن عيسى بن فليته، بعهد من أبيه، ودامت ولايته إلى ليلة النصف من رجب سنة إحدى وسبعين5.
فوليها بعده أخوه مكثر بن عيسى، ثم عزل مكثر في موسم هذه السنة، وجرى بينه وبين "طاشتكين" أمير الركب العراقي حرب شديدة في موسم هذه السنة، كان الظفر فيها للأمير "طاشتكين"6.
__________
1 الكامل لابن الأثير 10/ 617، إتحاف الورى 2/ 499.
2 وفيات الأعيان 3/ 432، إتحاف الورى 2/ 515، العقد الثمين 7/ 361.
3 الكامل لابن الأثير 1/ 279، إتحاف الورى 2/ 523، البداية والنهاية 12/ 242.
4 إتحاف الورى 2/ 524، العقد الثمين 7/ 35.
5 الكامل لابن الأثير 11/ 432، إتحاف الورى 2/ 536، العقد الثمين 7/ 275.
6 الكامل لابن الأثير 11/ 432، إتحاف الورى 2/ 536.(2/236)
ثم ولي مكة الأمير قاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، وكان الخليفة المستضيء قد عقد له عليها الولاية بعد عزله "مكثر"، وأقامت مكة في ولايته ثلاثة أيام، ثم إنه رأى من نفسه العجز عن القيام بإمرة مكة فولي أمير الحج فيها: داود بن عيسى، وشرط عليه أن يسقط جميع المكوس، وما عرفت إلى متى دامت ولاية داود هذا. وكان بعدها يتداول هو وأخوه "مكثر" إمرة مكة، ثم انفرد بها "مكثر" عشر سنين متوالية، آخرها سنة سبع وتسعين، على الخلاف في انقضاء دولة "مكثر"، وهو آخر أمراء مكة المعروفين بالهواشم ولاية.
وولي مكة في ولايته، أو في أخيه داود: سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخو السطان صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ وذلك في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة؛ لأنه في هذه السنة قدم مكة، ومنع من الأذان في الحرم بحي على خير العمل، وقتل جماعة من العبيد كانوا يفسدون، وهرب منه أمير مكة إلى قلعته بأبي قبيس، وشرط على العبيد أن لا يؤذوا الحاج، وضرب الدنانير والدراهم فيها اسم أخيه السلطان صلاح الدين1.
ثم وليها بعد "مكثر": أبو عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني الينبوعي في سبع وتسعين وخمسمائة، وقيل: إن ولايته لمكة في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وقيل: في نسة تسع وتسعين وخمسمائة2. ودامت ولايته إلى أن مات في سنة سبع عشرة، وقيل: وكانت ولايته ممتدة إلى ينبع3 وإلى "حلي"4، وكان يحارب صاحب المدينة، ويغلب كل منهما الآخر حينا.
وولي مكة في زمن ولاية قتادة: "أقباش الناصري" فتى الخليفة الناصر لدين الله العباسي؛ إلا أنه لم يباشر إمرتها؛ وإنما مولاه عقد له على الحرمين وإمرة الحج لعظم مكانته عنده، وقتل بمكة بالمعلاة في السنة التي مات فيها قتادة.
__________
1 إتحاف الورى 2/ 553، العقد الثمين 5/ 62، الفرائد "ص: 265".
2 إتحاف الورى 2/ 566.
3 ينبع: بلد حجازي على ساحل البحر الأحمر من جهة الشمال الغربي لمكة المكرمة، ويقال لها: ينبع البحر، وقريب منها في الداخل بلد يقال لها: ينبع النخل، وهي قرية غناء ذات عيون ومزارع، وقد كانت عامرة. وقال ياقوت في معجمة "5/ 450": قال الشريف بن مسلمة بن عباس الينبغي: عددت بها مائة وسبعين عينا.
4 حلي: بلد حجازي على ساحل البحر الأحمر من جهة الجنوب الغربي لمكة.(2/237)
وولي مكة بعد قتادة: ابنه حسن بن قتادة، وقتل أصحاب أقباش الناصري لاتهامهم له بأنه وطأ راجح بن قتادة على أن يوليه مكة عوض حسن، ودامت ولاية حسن إلى سنة تسع عشر، وقيل: إلى سنة عشرين وستمائة1.
ووليها بعده الملك المسعود، واسمه يوسف، ويلقب بأقشبيس ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب اليمن؛ لأنه سار إليها وحارب هو وحسن بن قتادة بالمسعى؛ فانهزم حسن وفارق مكة فيمن معه، ونهبها عسكر الملك المسعود إلى العصر، ودامت ولايته عليها إلى أن مات في سنة ست وعشرين وستمائة.
ووليها نيابة عن الملك المسعود نور الدين عمر بن علي بن رسول الذي ولي السلطنة بعده ببلاد اليمن، وقصده حسن بن قتادة بجيش جاء به من ينبع؛ فخرج إليه نور الدين، وانكسر حسن.
وولي مكة للملك المسعود الأمير حسام الدين ياقوت بن عبد الله الملكي المسعودي؛ لأني وجدت مكتوبا ببيع دار بمكة بأمر ياقوت المذكور، وترجم فيه بأمير الحاج والحرمين ومتولي الحرب بمكة ومدبر أحوال الجند بها والرعية، بالتولية الصحيحة الملكية المسعودية المتصلة بالأوامر الملكية الكاملية، وتاريخ المبيع ثالث جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وستمائة، فاستفدنا من هذا ولاية ياقوت لمكة في هذا التاريخ2.
وولي مكة بعد الملك المسعود والده الملك الكامل، ودامت ولايته إلى شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين.
ثم وليها نائب ابنه المسعود، ونائبه أيضا على اليمن: نور الدين بن عمر بن علي ابن رسول بعد أن بويع بالسلطنة في بلاد اليمن؛ لأنه بعث إلى مكة جيشا معهم راجح بن قتادة الحسني، فأخرجه من مكة متوليها للملك الكامل طغتكين، وهرب إلى ينبع، وعرف الملك الكامل بذلك، فجهز إليه جيشا كثيفا، مقدمهم الأمير فخر الدين ابن الشيخ علي -على ما قيل، ووصل طغتكين مع الجيش إلى مكة، فأخرجوا منها راجحا ومن معه من أهل اليمن، واستولى عليها طغتكين، وقيل: على الدرب كثيرا من أهل مكة؛ لخذلانهم له في النوبة الأولى، وكان استيلاؤه على مكة في رمضان من هذه السنة.
وذكر ابن محفوظ ما يوهم أن أمير مكة من قبل الكامل الذي أخرجه عسكر صاحب اليمن، وأخرجهم هو منها في السنة المذكورة غير طغتكين؛ لأنه قال: وفي سنة تسع وعشرين وستمائة جهز الملك المنصور في أولها جيشا إلى مكة "وراجح" معه،
__________
1 إتحاف الورى 2/ 32، الذيل على الروضتين "ص: 123"، النجوم الزاهرة 6/ 251.
2 إتحاف الورى 3/ 44، العقد الثمين 7/ 425.(2/238)
فأخذها، وكان فيها أمير الملك الكامل يسمى شجاع الدين الدغكيني1؛ فخرج هاربا إلى نخلة2، وتوجه منها إلى ينبع، وكان الملك الكامل توجه إليه بجيش، ثم جاء إلى مكة في رمضان؛ فأخذها من نواب الملك المنصور، وقتل من أهل مكة ناسا كثيرا على الدرب، وكانت الكسرة على من بمكة ... انتهى.
وهذا الذي ذكره ابن محفوظ في تسمية أمير مكة الكامل في هذا التاريخ وهم لتفرده به فيما علمت، والقصة واحدة، والصواب أنه الأمير طغتكين، فقد سماه طغتكين غير واحد، والله أعلم.
وقيل: إن فخر الدين ابن الشيخ كان على مكة لما وصلها عسكر صاحب اليمن، في سنة تسع وعشرين، ثم وليها عسكر صاحب اليمن مع راجح بن قتادة بغير قتال في صفر سنة ثلاثين، ثم وليها في آخر هذه السنة عسكر الملك الكامل، وكان المقدم على عسكر الملك الكامل أميرا يقال له: الزاهد، وترك في مكة أميرا يقال له: ابن مجلي.
ثم وليها في سنة إحدى وثلاثين عسكر الملك المنصور صاحب اليمن، مع راجح بن قتادة.
ثم وليها عسكر الملك الكامل، وكان عسكرا كبيرا في ألف فارس، وقيل: سبعمائة، وقيل: خمسمائة فارس وخمسة من الأمراء، مقدمهم: الأمير جفريل، ودامت ولايته عليها للملك الكامل إلى سنة خمس وثلاثين.
ثم وليها الملك المنصور في هذه السنة، وكان سار إليها بنفسه، ودخلها بعد أن فارقها جفريل ومن معه. وكان دخول المنصور إلى مكة في رجب، وكان معه ألف فارس على ما قيل، ودامت ولايته عليها إلى سنة سبع وثلاثين، وقرر فيها رتبة مائة وخمسين فارسا، وقدم عليهم: ابن الوليدي وابن التغري.
ثم وليها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل صاحب مصر؛ لأنه جهز إليها ألف فارس مع الشريف شيحة صاحب المدينة، واستولوا على مكة بغير قتال في سنة سبع وثلاثين3.
ثم وليها عسكر الملك المنصور، بعد أن هرب منها شيحة ومن معه، لما سمعوا بقدوم عسكر صاحب اليمن.
ثم وليها عسكر الملك الصالح في سنة ثمان وثلاثين4.
__________
1 في إتحاف الورى 3/ 48: "الطغتكيني".
2 شفاء القلوب "ص: 365".
3 إتحاف الورى 3/ 56، العقد الثمين 6/ 346، غاية الأماني 1/ 242، العقود اللؤلؤية 1/ 64.
4 إتحاف الورى 3/ 57، العقود اللؤلؤية 1/ 69.(2/239)
وممن وليها للملك الصالح: الأمير شهاب الدين أحمد التركماني.
ثم وليها المك المنصور في سنة تسع وثلاثين، وسار إليها في هذه السنة بنفسه، ودخلها في رمضان بعد أن فارقها المصريون خوفا منه، ودامت ولايته عليها حتى مات. وأمر على مكة في هذه السنة مملوكة الأمير فخر الدين الشلاح، وابن فيروز، وجعل الشريف أبا سعد بن علي بن قتادة الحسني بالوادي مساعدا لعسكره، وكان قد استدعاه من ينبع وأحسن إليه، واشترى منه قلعة ينبع، وأمره بخرابها حتى لا يبقى قرارا للمصريين، واستمر مملوكة "الشلاح" على نيابة مكة إلى سنة ست وأربعين وستمائة، على ما ذكر بعض مؤرخي اليمن في عصرنا1.
ووليها للمنصور في هذه السنة ابن المسيب، ووجدت بخط الميورقي أن ابن المسيب قدم مكة لعزل "الشلاح" في منتصف ربيع الأول سنة خمس وأربعين، وهذا يخالف ما سبق، والله أعلم2.
وولي مكة بعد أبي المسيب: أبو سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني بعد قبضه على ابن المسيب في ذي القعدة، وقيل: في شوال سنة سبع وأربعين.
ودامت ولايته إلى أن قتل لثلاث خلون من شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقيل: إنه قتل في رمضان منها3.
ثم ولي مكة بعده أحد قتلته جماز بن حسن بن قتادة الحسني، ودامت ولايته إلى آخر يوم من ذي الحجة سنة إحدى وخمسين4.
ثم وليها بعد جماز: عمه راجح بن قتادة الحسني الذي كان يليها مع عسكر صاحب اليمن، ودامت ولايته عليها إلى شهر ربيع الأول سنة اثنين وخمسين.
ثم وليها بعد جماز: عمه راجح بن قتادة الحسني الذي كان يليها مع عسكر صاحب اليمن، ودامت ولايته عليها إلى شهر ربيع الأول سنة اثنين وخمسين.
ثم وليها بعده: إدريس بن قتادة، وأبو نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة بعد قتال مات فيه ثلاثة نفر، ودامت ولايتهما عليها إلى الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وستمائة5.
__________
1 إتحاف الورى 2/ 58، درر الفرائد "ص: 227، السلوك 1/ 2: 312.
2 إتحاف الورى 3/ 67، العقود اللؤلؤية 1/ 77.
3 إتحاف الورى 3/ 68، العقود اللؤلؤية 1/ 78.
4 إتحاف الورى 3/ 74، درر الفرائد "ص: 278".
5 إتحاف الورى 3/ 76، العقود اللؤلؤية 1/ 15.(2/240)
ثم وليها: المبارز علي بن حسين بن برطاش؛ لأن الملك المظفر ابن الملك المنصور صاحب اليمن جهز بن برطاش إلى مكة في مائتي فارس، وتقاتل مع إدريس وأبي نمي ومن معهما؛ فكان الظفر لابن برطاش، ودامت ولايته عليها إلى يوم السبت لأربع ليال بقين من المحرم سنة ثلاث وخمسين وستمائة1.
ثم وليها إدريس، وابن أخيه أبو نمي؛ لأنهم قاتلوا ابن برطاش في هذا التاريخ، وسفكت الدماء بالحجز من المسجد الحرام، وأسر ابن برطاش، ففدا نفسه، وخرج ابن برطاش ومن معه من مكة2.
ثم وليها أبو نمي بمفرده في سنة أربع وخمسين، لما راح عمه إدريس إلى أخيه راجح بن قتادة.
ثم عاد إدريس لمشاركة أبي نمي في الإمرة؛ لأن راجح بن قتادة جاء مع عمه إدريس، وأصلح بينه وبين أبي نمي على ذلك.
ثم ولي مكة أولاد حسن بن قتادة، وأقاموا بها ستة أيام من سنة ست وخمسين، بعد أن لزموا إدريس بن قتادة3.
ثم جاء أبو نمي وأخرجهم منها، ولم يقتل منهم أحدا، ودامت ولاية إدريس، وأبي نمي على مكة إلى سنة سبع وستين وستمائة.
ثم انفرد فيها أبو نمي بالإمرة قليلا، ثم اصطلح مع إدريس، وعادا للإمرة في السنة المذكورة، ودامت ولايتهما إلى ربيع الأول سنة تسع وستين وستمائة.
ثم انفرد بها إدريس أربعين يوما، ثم قتل بعدها في هذه السنة بخليص4.
ووليها أبو نمي ودامت ولايته عليها إلى سنة سبعين وستمائة.
ثم وليها في صفر منها: جماز بن شيحة صاحب المدينة، وغانم بن إدريس بن حسن بن قتادة صاحب ينبع.
ثم وليها أبو نمي بعد أربعين يوما من سنة سبعين وستمائة، وأخرج منها المذكورين5 ودامت ولايته عليها إلى سنة سبع وثمانين وستمائة.
__________
1 إتحاف الورى 3/ 77، العقد الثمين 6/ 152، غاية المرام 2/ 44.
2 إتحاف الورى 3/ 78، العقد الثمين 7/ 3، غاية المرام 2/ 47.
3 إتحاف الورى 3/ 80، السلوك 1/ 2: 412.
4 خليص: قرية قريبة من مكة في طريق المدينة المنورة، وانظر: إتحاف الورى 3/ 99، العقد الثمين 1/ 460، درر الفرائد "ص: 83".
5 إتحاف الورى 3/ 101، العقد الثمين 1/ 461 و7/ 3.(2/241)
ثم وليها جماز بن شيحة صاحب المدينة، وأقام بها إلى آخر السنة وذلك مدة يسيرة.
ثم وليها أبو نمي، ودامت ولايته عليها إلى قبل وفاته بيومين، وكانت وفاته يوم الأحد رابع صفر سنة إحدى وسبعمائة، وكانت إمرته على مكة خمسين سنة شريكا ومستقلا؛ وإمرته المستقلة تزيد على ثلاثين سنة يسيرا، وذكر صاحب "بهجة الزمن" أن إمرته أزيد من خمسين سنة، وفي ذلك نظر بيناه في ترجمته، ويظهر ذلك مما ذكرناه في تاريخ ابتداء ولايته.
وأما إمرة عمه إدريس التي اشترك فيها مع أبي نمي فنحو ثمانية عشرة عاما، وإمرة عمه المستقلة أربعون يوما.
وولي مكة في حال ولايتها للسلطان الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر، أمير يقال له: شمس الدين مروان نائب الأمير عز الدين جاندار ولاه الملك الظاهر بسؤال إدريس، وأبي نمي له في ذلك، ليرجع أمرهما إليه، ويكون الحل والعقد على يديه، على ما ذكره مؤلف سيرة الملك الظاهر1؛ وذلك في السنة التي حج فيها الملك الظاهر سنة سبع وستين وستمائة، وخرج مروان هذا من مكة سنة ثمان وستين.
وولي مكة بعد أبي نمي ابناه: حميضة ورميثة ابنا أبي نمي في حياته، ودعي لهما على قبة زمزم يوم الجمعة ثاني صفر سنة إحدى وسبعمائة، قبل وفاة أبيهما بيومين، ودامت ولايتهما إلى موسم هذه السنة، ثم قبض عليهما2.
وولي عوضهما أخواهما أبو الغيث3 وعطيفة4، وقيل: أبو الغيث، ومحمد بن إدريس بن قتادة الحسني، وكان المتولي لذلك الأمير بيبرس الجاشنكير الذي كان أستاذا للملك الناصر محمد بن قلاوون، وصار سلطانا بعده في آخره سنة ثمان وسبعمائة، بموافقة من حج معه من الأمراء في هذه السنة، تأديبا لحميضة ورميثة على إساءتهما إلى أخويهما: أبي الغيث وعطيفة.
ثم عاد حميضة، ورميثة إلى إمرة مكة في سنة ثلاث وسبعمائة، وقيل: في سنة أربع وسبعمائة، بولاية من الملك الناصر صاحب مصر، ودامت ولايتهما إلى موسم سنة ثلاث عشر وسبعمائة، ثم وليها أبو الغيث بن أبي نمي بولاية من الملك الناصر، وجهز
__________
1 الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر "ص: 351 و352".
2 الدرر الكامنة 3/ 188، رقم 11، غاية المرام 2/ 53 و78 إتحاف الورى 3/ 134.
3 الدرر الكامنة 3/ 218، رقم 529، غاية المرام 2/ 113، إتحاف الورى 3/ 137.
4 الدرر الكامنة 3/ 455، رقم 2628، غاية المرام 2/ 113، إتحاف الورى 3/ 137.(2/242)
له عسكرا مصر والشام، بعد أن عزل حميضة ورميثة لكثرة الشكوى إليه منهما، ولم يصل أبو الغيث العسكر المجهز له إلى مكة إلى بعد أن فارقها "حميضة" و"رميثة" ولم تطل ولاية أبي الغيث على مكة؛ لأنه لسوء تدبيره قصر في حق من جهز معه من العسكر، وضاق بهم؛ فكتب لهم بخطه باستغنائه عنهم، ففارقوه بعد شهرين؛ فلم يملك بعد أن فارقوه إلا جمعة حتى وصل إليه حميضة وحاربه، فغلب حميضة أبا الغيث، ولجأ إلى هذيل بنخلة1 مكسورا، وأرسل حميضة إلى السلطان الملك الناصر ليستعطفه، فلم يرض عنه، وأرسل أبو الغيث يستنصر السلطان فوعده بالنصر، ثم التقى الأخوان في رابع ذي الحجة سنة أربع عشرة، فأسر حميضة أبا الغيث، ثم قتله2، ودامت وليته على مكة إلى شعبان سنة خمس عشرة وسبعمائة.
ثم وليها رميثة في هذه السنة3 بولاية من الملك الناصر وجهز معه عسكرا كثيرا، ولم يصلوا مكة إلا بعد أن فارقها حميض؛ فقصده إلى الخلف والخليف، وكان لجأ إليه يستحصن به؛ فلم يظفروا به، وانهزم إلى العراق، وقصد خربندا.
ودامت ولاية "رميثة" إلى انقضاء الحج من سنة سبع عشرة، أو أول سنة ثمان عشرة.
ثم وليها حميضة بعد رجوعه من العراق، وأخرج منها رميثة إلى نخلة بموافقة أهل مكة له على ذلك، ويقال: إن ذلك بموافقة "رميثة" أيضا، ويقال: إنه قطع خطبة الملك الناصر وخطب لصاحب العراق أبي سعيد خربندا، ولم تطل ولاية حميضة هذه؛ لأن الملك الناصر لما علم بفعله جهز إليه في ربيع الآخر سنة ثمان عشرة جيشا4. وأمرهم ألا يعودوا إلى بحميضة، فلم يظفروا به، ودام مهججا في البرية إلى أن قتل سنة عشرين وسبعمائة5، ولما انقضى الموسم من سنة ثمان عشرة قبض على مقدم العسكر الأمير بهادر الإبراهيمي لاتهامه بالتقصير في القبض على حميضة، وعلى رميثة، لاتهامه بأن ما يفعله أخوه من الشغب بموافقة، وحملهما إلى القاهرة.
وولي مكة: عطيفة بن أبي نمي بولاية من ملك الناصر: وجهز معه عسكرا؛ وذلك في المحرم سنة تسع عشرة وسبعمائة6. ولما وصلوا إلى مكة كثر بها الأمن
__________
1 نخلة اليمانية: وهي جنوب مكة، وتمتد إلى الشامية، ونخلة اليمانية مشهورة عند أهل مكة، فيقولون: طريق اليمانية للذاهب إلى الطائف عن طريقها.
2 الدرر الكامنة 2/ 79، إتحاف الورى 3/ 153، درر الفرائد "ص: 294 و295".
3 الدرر الكامنة 2/ 111.
4 إتحاف الورى 3/ 159.
5 الدرر الكامنة 2/ 81، إتحاف الورى 3/ 168.
6 الدرر الكامنة 2/ 456، العقد الثمين 2/ 113، إتحاف الورى 3/ 163.(2/243)
ودامت ولاية عجلان بمفرده إلى سنة ثمان وأربعين1.
ثم وليها معه أخوه ثقبة، ودامت ولايته إلى سنة خمسين وسبعمائة، ثم استقل ثقبة بالإمرة في هذه السنة لما توجه فيها عجلان إلى مصر، ثم استولى عجلان على مكة في خامس شوال من سنة خمسين، ودامت ولايته إلى موسم سنة اثنين وخمسين.
ثم وليها "ثقية" مع أخيه عجلان في موسم هذه السنة، بموافقة منهما على ذلك، وكان ثقبة قد وليها بمفرده في هذه السنة فلما وصلا إلى مكة في ذي القعدة من هذه السنة، لم يمكنه عجلان من البلاد؛ فأقام بخليص حتى جاء مع الحاج، وأصلح أمير الحاج بينه وبين أخيه على المشاركة في الإمرة2.
ثم استقل "ثقبة" بالإمرة في أثناء سنة ثلاث وخمسين، بعد قبضة على أخيه "عجلان"، واستمر: "ثقبة" إلى أن قبض عليه في موسم سنة أربع وخمسين3.
ووليها بعده أخوه عجلان، واستمر "عجلان" منفردا بالإمرة إلى أن اصطلح هو وأخوه "ثقبة" على الاشتراك فيها في تاسع عشر المحرم سنة سبع وخمسين4.
ثم وليها عجلان بمفرده في موسم هذه السنة.
ثم اشتركا في الإمراء في موسم سنة ثمان وخمسين، ودامت ولايتهما إلى أن عزلا في أثناء سنة ستين وسبعمائة بأخيهما "سند بن رميثة"، وابن عمهما "محم بن عطيفة ابن أبي نمي"، وجهز مع ابن عطيفة من مصر عسكرا فيه أربعة أمراء، مقدم الأمير جركتمر المارداني5 صاحب الحجاب بالقاهرة، وكان وصولهم مع ابن عطيفة إلى مكة في جمادى الآخر سنة ستين وسبعمائة، وكان سند باليمن مع إخوته؛ فوصل إلى مكة ولاءم الأمراء، ودامت ولايته وولايته ابن عطيفة إلى أن رحل الحاج من مكتة في سنة إحدى وستين وسبعمائة.
ثم زالت ولاية ابن عطيفة بأثر ذلك، وسبب زوالها أن بعض بني حسن جرح بعض الترك الذين جهزهم الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون للإقامة بمكة، عوض "جركتمر" ومن معه من الأحرار، لتأييد سند وابن عطيفة في إمرة مكة؛ فغضب للتركي الأتراك، وغضب للحسني بنو حسن، وتخلى محمد بن عطيفة عن
__________
1 الدرر الكامنة 2/ 112، غاية المرام 2/ 137.
2 إتحاف الورى 3/ 253، السلوك للمقريزي 2/ 3: 839.
3 إتحاف الورى 3/ 257، درر الفرائد "ص: 260".
4 إتحاف الورى 3/ 269.
5 الدرر الكامنة 1/ 534.(2/245)
الفريقين، وظن أن أمره بمكة يكون مستقيما، وإن لم يكن العسكر بن مقيما؛ فقدر أن الترك انكسروا، وفي المسجد حصروا، وبما خف من أموالهم رحلوا، فرحل ابن عطيفة في إثرهم لتخوفه في المقام بعدهم، بسبب ما كان بين ذوي عطيفة والقواد والقتل، وهكذا ذكر لي رحيل ابن عطيفة بعد العسكر من يعتمد على خبره من أهل مكة، ووجدت بخط بعض أصحابنا، فيما نقله من خط ابن محفوظ، ما نصه بعد ذكره لهذه الحادثة: وراحوا1 الأمراء، وقعد محمد بن عطيفة، وسند في البلاد ... انتهى، والله أعلم بصحة ذلك.
وكان "ثقبة" جاء إلى مكة بإثر هذه الفتنة، واشترك مع أخيه "سند" في هذه الإمراء، إلى أن مات في شوال سنة اثنين وستين وسبعمائة2.
وولي مكة في هذه السنة "عجلان"، وكان بمصر معتقلا؛ فأطلقه الأمير يلبغا المعروف بالخاسكي3، لما صار إليه تدبير المملكة، بعد قتل الملك الناصر حسن، وولي معه في الأمراء أخاه ثقبة، بسؤال عجلان، ووصل عجلان إلى مكة وثقبة عليل، ولم يدخل مكة حتى مات ثقبة؛ فولي معه في الإمراء ابنه أحمد بن عجلان4؛ وذلك في شوال سنة اثنتين وستين، وجعل له ربع المتحصل يصرفه في خاصة نفسه، وعلى عجلان كافية العسكر، ثم إن "سندا" استولى على "جده" ونازع في الإمراء، فلم يتم له أمر، واخترمته المنية، ودامت ولاية عجلان وابنه إلى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، ثم انفرد أحمد بن عجلان بالإمرة بسؤال أبيه له في ذلك على شروط شرطها، منها: أن لا يقطع اسمه في الخطبة، والدعاء على زمزم، فوفى له ابنه بذلك.
واستمر أحمد منفردا بالإمرة، إلى أن وليها معه ابنه محمد بن أحمد بن عجلان في سنة ثمانين وسبعمائة بسؤال أبيه على ما بلغني؛ إلا أن أباه لم يظهر لولاية محمد أثرا لاستبداده بالإمرة؛ وذلك لصغر سن ابنه، ودامت ولايتهما إلى أن مات أحمد بن عجلان في حادي وعشرين شعبان سنة ثمان وثمانين.
ثم استقل محمد بن أحمد بالإمرة، حتى قتل في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، وكان عمه كبيش يدبر له الأمر، ولما قتل هرب، وكان رأيه أن ابن أخيه لا يحضر لخدمة المحمل؛ فلم يسمع منه وحضر فقتل، ولكنه فاز بالشهادة،
__________
1 هذه لغة ضعيفة، والصواب أن يقال: وراح الأمراء.
2 الدرر الكامنة 1/ 531.
3 في ترجمته في الدرر الكامنة 4/ 438 رقم 1218.
4 الدرر الكامنة 1/ 201، غاية المرام 2/ 181.(2/246)
ثم وليها بعد قتل محمد: عنان بن مغامس بن مريثة بن أبي نمي1، واستولى على جدة أيضا، ثم استولى على جدة كبيش بمن معه من العرب وغيرهم، ونبهت الأموال التي بجدة للحضارم والغلال التي فيها لبعض الدولة بمصر، والتف عليهم لطمع بعض أصحاب عنان، ثم انتقلوا إلى الوادي، وعات العبيد في الطرقات، وعنان مقيم بمكة.
واشترك معه في الإمرة بنو عمه: أحمد بن ثقبة2، وعقيل بن مبارك بن رميتة3، ثم أشرك عنان في الأمرة: علي بن مبارك4، بعد مفارقته لكبيش ومن معه وملاءمته لعنان، وكان يدعى لهم معه على زمزم، ورأى أن ذلك تقوية لأمره؛ فكان الأمر بخلاف ذلك، لكثرة ماحصل عليه من الاختلاف، ونمى الخبر إلى السلطان بمصر، فعزل عنانا، وولي عوضة "علي بن عجلان بن رميثة"، ووصل الخبر بولايته في شعبان سنة تسع وثمانين، وتوجه "علي" مع "كبيش" وآل عجلان، ومن جمعوا إلى مكة؛ فلم يمكنهم منها عنان وأصحابه، واقتتلوا في التاسع والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين بأذاخر5. فتقل "كبيش" وغيره ممن معه، ورجع آل عجلان إلى الوادي، ودخل عنان وأصحابه مكة وأقاموا بها إلى أن كان الموسم من سنة تسع وثمانين، ثم فارقوها وقصدوا الزيمة6 من وادي نخلة، ودخل مكة "علي بن عجلان" وجماعته، وكان قد توجه بعد وقعة أذاخر إلى السلطان بمصر، فولاه نصف إمرة مكة، وولي عنانا النصف الآخر، بشرط حضور عنان إلى خدمة المحمل المصري، وبلغ عنان النصف الآخر؛ فلما كاد أن يصل إليه خوف من آل عجلان عنان، ففر وتبعه أصحابه إلى الزيمة، وبعد رحيل الحاج من مكة نزلوا الوادي وشاركوا "علي بن عجلان" في إمرة جدة، ثم سافر عنان إلى مصر في أثناء سنة تسعين، واعتقل بها في السنة التي بعدها واصطلح "علي بن عجلان" والأشراف، واستمر منفردا بالإمرة إلى أن شاركه فيها عنان في أثناء سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، بولاية من الملك الظاهر7 في ابتداء دولته الثانية، ووصل إلى مكة من القاهرة في نصف شعبان من السنة المذكورة، واصطلح مع آل عجلان، وكان معه القواد، ومع "علي" الشرفاء، وكانوا غير متمكنين من القيام بمصالح البلد كما ينبغي؛ لمعارضة بني حسن لهما في ذلك، ودامت ولايتهما8 على هذه الصفة إلى الرابع والعشرين من صفر سنة أربعة وتسعين وسبعمائة.
__________
1 ترجمته في الضوء اللامع 6/ 147، غاية المرام 2/ 200.
2 الضوء اللامع 1/ 266، غاية المرام 2/ 223.
3 الضوء اللامع 5/ 1049، غاية المرام 2/ 224.
4 الضوء اللامع 5/ 149، غاية المرام 2/ 225.
5 أذاخر اسم للجبل الذي بشرقي مكة، وخلف واد أذاخر.
6 الزيمة معروفة في طريق الطائف وبها بساتين ومزارع.
7 هو الظاهر برقوق أول المماليك في مصر.
8 غاية المرام 2/ 227.(2/247)
ثم انفرد بها علي بن عجلان، وسبب ذلك أن بعض جماعته1 هم بالفتك بعنان في السمعي؛ فلم يظفروا به لفراره منهم، ولم يدخل مكة إلا أن استدعى هو، وعلي بن عجلان للحضور إلى السلطان بمصر، ودخلها ليتجهز منها بعد أن أخليت له من العبيد، وأقام بها مدة قصيرة، ثم خرج فتوجه إلى مصر، ولحقه علي بن عجلان، وترك بمكة أخاه محمد بن عجلان مع العبيد، وتخلف عنان بمصر، وجاء "علي" إلى مكة في موسم سنة أربع وتسعين منفردا بولاية مكة، ودامت ولايته عليها إلى أن استشهد في تاسع شوال سنة سبع وتسعين.
وكان في غالب ولايته مغلوبا مع الأشراف، وسبب ذلك أنه بعد شهر من وصوله من مصر قبض على جماعة من أعيان الأشراف والقواد، ثم خودع فيهم؛ فأطلقهم، وصاروا يشوشون عليه، ويكلفون ما لا تصل قدرته إليه، وأفضى الحال من تشويشهم عليه إلى أن قل الزمان بمكة، "وجدة"، فقصد التجار "ينبع"، ولحق أهل مكة من ذلك شدة.
ولما قتل بأمر مكة أخوه "محمد بن عجلان" مع العبيد، إلى أن وصل أخوه السيد الشريف حسن بن عجلان2 من الديار المصرية، بولاية مكة عوض أخيه، وكان قدم مصر في سنة سبع وتسعين مغاضبا لأخيه، فاعتقله السلطان، ثم رضي عنه وولاه مكة بعد قتل أخيه، ودخل مكة في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين، وضبط أحوال البلاد وحسم مواد الفساد، وأخذ بثأر أخيه من الأشراف في حرب كانت بينه وبينهم، بمكان من وادي مر، يقال له الزبادة، في يوم الثلاثاء خامس عشر من شوال من السنة المذكورة، وكان المقتولون من الأشراف وجماعتهم نحو أربعين نفرا، ولم يقتل من عسكر السيد حسن إلا واحدًا أو اثنان. واستمر مفردا بالولاية إلى أن اشترك معه فيها ابنه السيد بركات3؛ وذلك في سنة تسع وثمانمائة، ووصل توقيعه بذلك في موسم هذه السنة، وهو مؤرخ بشعبان منها.
ثم سعي لابنه السيد شهاب الدين أحمد بن حسن4 في نصف الإمرة التي كانت معه، فأجيب إلى سؤاله، وولي نصف الإمرة شريكا لأخيه، وولي أبوهما نيابة السلطنة لجميع بلاد الحجاز؛ وذلك في ربيع الأول سنة إحدى عشر وثمانمائة، وجرى توقيعهم بذلك في أوائل النصف الثاني من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، وصار يدعى له
__________
1 غاية المرام 2/ 227.
2 الضوء اللامع 3/ 103- 105 رقم 417، غاية المرام 2/ 246.
3 الضوء اللامع 3/ 13، 14 رقم 50، غاية المرام 2/ 392.
4 الضوء اللامع 1/ 274، غاية المرام 2/ 467.(2/248)
ولولديه في الخطبة بمكة، وعلى قبة زمزم، ويدعى للسيد حسن بمفرده في الخطبة بالمدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وسبب ذلك: أنه كان ولي المدينة عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة الحسني1، عوض أخيه ثابت بن نعير2؛ فإنه كان ولي إمرتها في هذه السنة، ومات ثابت في صفر من هذه السنة قبل وصوله توقيعه، واسشتمرت الخطبة باسم الشريفة حسن بالمدينة النبوية إلى أن عزل عنها "عجلان" بابن عمهم سليمان بن هبة الله بن جماز بن منصور3، في موسم سنة اثني عشرة وثمانمائة، وكان يقدم في الخطبة على عجلان.
وفي هذه السنة أيضا عزل الشريف حسن وابناه عن ولايتهم، ولم يظهر لذلك أثر بمكة؛ لأن السلطان الملك الناصر4 فرج ابن الملك الظاهر برقوق أسرّ أمر عزلهم، ثم رضي عليهم بعد توجه الحجاج من القاهرة في هذه السنة؛ فأعادهم إلى ولايتهم، وبعث إليهم بتقليد وخلع بصحبة خادمه الحاج فيروز الشاقي5، وكتب إلى أمير الحج المصري يأمره بالكف عن محاربتهم؛ فأحمد الله -تعالى- الفتنة بذلك، وبدا من الشريف حسن بعد دخول الحجاج إلى مكة أمور محمودة، من حرصه على الكف عن إذاية الحجيج، ولولا ذلك لعظم عليهم البكاء والضجيج، والله يزيده توفيقا ويسهل له إلى كل خير طريقا. وتاريخ ولايتهم في هذه السنة: الثاني عشر من ذي القعدة الحرام، ووصل الخبر بها في آخر يوم من ذي القعدة، وولي السيد حسن المذكور تدبير الأمور والقيام بمصالح العسكر والبلاد، ودامت ولايته على ذلك إلى أثناء صفر سنة ثمان عشرة وثمانمائة.
ثم ولي مكة بعد ذلك: السيد رميثة بن محمد بن عجلان بن رميثة6، وما دخل مكة ولا دعي له في الخطبة ولا على زمزم إلا في العشر الأول من ذي الحجة من السنة المذكورة، وكانت قراءة توقيعه في يوم دخوله إلى مكة، وهو مستهل ذي الحجة من السنة المذكورة، وتاريخه رابعه عشر من صفر؛ وصرح فيه بأنه ولي نيابة السلطنة بالحجاز
__________
1 الضوء اللامع 5/ 145 رقم 497.
2 الضوء اللامع 3/ 50، رقم 194.
3 الضوء اللامع 3/ 270 رقم 1022.
4 وفي عهد فرج وقع الحريق في المسجد الحرام في ليلة السبت لليلتين بقيتا من شوال عام 802هـ، وسببه ظهور نار من رباط رامشت الملاصق لباب الحزورة من أبواب المسجد من الجانب الغربي، ورامشت: هو الشيخ الصوفي الفارسي ابو القاسم إبراهيم بن الحسين، وقفه على الصوفية عام 529هـ، ولما احترق رباط رامشت عام 802هـ أعيد بناؤه وسمي رباط الخاص، وصار ما اختنق من المسجد، وقد أتى هذا الحريق على ثلث المسجد الحرام. ثم قدر الله تعالى عمارته.
5 الضوء اللامع 6/ 175 رقم 595.
6 الضوء اللامع 3/ 230 رقم 868، غاية المرام 2/ 374.(2/249)
عوضا عن عمه، وإمرة مكة عوضا عن ابن عمه، والله -تعالى- يسدده وإلى الخير يرشده.
ثم عزل عن ذلك في ثامن عشرين من رمضان من سنة تسع عشرة وثمانمائة، وولي عمه السيد الشريف حسن بن عجلان1 دون ولديه إمره مكة، ودخلها لابسا خلعة السلطان الملك المؤيد نصرة الله تعالى بالولاية، في بكرة يوم الأربعاء السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، وبإثر طوافه بالبيت قرئ توقيعه، وكان يوما مشهودا، وفي ليلة يوم الأربعاء المذكور فارق مكة السيد رميثة ومن معه بعد حرب شديدة كانت بينهم وبين عسكر السدي حسن بن عجلان بالمعلاة في يوم الثلاثاء خامس عشر من شوال ظهرت فيه عسكر السيد حسن بن عجلان بالمعلاة في يوم الثلاثاء خامس عشر من شوال، ظهرت فيه عسكر السيد حسن علي من عاداهم؛ لأنهم لما أقبلوا من الأبطح ودنوا من باب المعلاة أزالوا من كان على الباب وقربه من أصحاب رميثة بالرمي بالنشاب والأحجاب، وعمد بعضهم إلى باب المعلاة فدهنه وأوقد تحته النار، فاحترق حتى سقط إلى الأرض، وقصد بعضم طرف السور الذي يلي الجبل الشامي مما يلي المقبرة، فدخل منه جماعة من الترك وغيرهم، ورقوا موضعا مرتفعا من الجبل، ورموا منه بالنشاب وبالأحجار من كان داخل الدرب من أصحاب رميثة، فتعبوا لذلك كثيرا، ونقب بعضهم ما يلي الجبل الذي هم فيه من السور نقبا متسعا حتى اتصل بالأرض، ودخل منه جدماعة من الفرسان من عسكر السيد حسن إلى مكة، ولقيهم جماعة من أصحاب رميثة وقاتلوهم حتى أخرجوهم من السور، وقد حصل في الفريقين جراحات، وهي في أصحاب رميثة وقاتلوهم حتى أخرجوهم من السور، وقد حصل في الفريقين جراحات، وهي في أصحاب رميثة أكثر، وقصد بعض أصحاب حسن أصغر من القتال، وكان السيد حسن كارها للقتال رحمة منه لمن مع رميثة من القواد العجزة، ولو أرادوا الدخول إلى مكة بكل عسكره من الموضع الذي دخل منه بعض عسكره لقدر على ذلك، وأمضى الخيرة بترك القتال، وبإثر ذلك وصل إليه جماعة من الفقهاء والصالحين بمكة، ومعهم ربعات شريفة، وسألوه في كف عسكره عن القتال؛ فأجاب إلى ذلك على أن يخرج من عانده من مكة؛ فمضى الفقهاء إليهم وأخبروهم بذلك، فتأخروا عنه إلى جوف مكة بعد أن توثقوا ممن أضار من القتال، ودخل السيد حسن من السور بجميع عسكره، وخيم حول بركتي المعلاة، وأقام هناك حتى أصبح، وأمن المعاندين له خمسة أيام وتوجهوا في أثنائهم إلى جهة اليمن.
وفي صغر من سنة عشرين وثمانمائة أتى السيد رميثة خاضعا لعمه واجتمعا بالشرف؛ فأكرم عمه وفادته، وتآلفا على الكرامة، فلله الحمد.
__________
1 الضوء اللامع 3/ 103 - 105 رقم 417.(2/250)
ثم في أول سنة أربع وعشرين وثمانمائة فوضت إمرة مكة للسيد حسن بن عجلان وابنه السيد زين الدين بركات1، في أول دولة الملك المظفر أحمد ابن الملك المؤيد، وكتب عنه بذلك عهد شريف مؤرخ بمستهل صفر سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وجهز لهما تشريفتين من خزانته الشريفة، ووصل ذلك مع العهد لمكة في ثاني عشر ربيع الأول، وقرئ العهد بالمسجد الحرام بظل زمزم في الحطيم، بحضور القضاة والأعيان في بكرة يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول، وقرئ بعد ذلك كتاب السلطان الملك المظفر، وهو يتضمن الأخبار بوفاة والده وعهد إليه بالسلطنة ومبايعة أهل الحل والعقد له بذلك، بعد وفاة أبيه وجلوسه على تخت المملكة، وغير ذلك من الأمور التي تصنع للملوك، وتفويضه إمرة مكة للسيد حسن بن عجلان وابنه السيد بركات وبحثهما على مصالح الرعية والتجار، وغير ذلك من مصالح المسلمين بمكة، وتاريخه الرابع عشر من صفر، وفيه أن وفاة الملك المؤيد في يوم الاثنين ثاني المحرم، ولبس السيد بركات تشريفته، وطاف عقب ذلك بالكعبة الشريفة والمؤذن يدعو له على حسب العادة فوق زمزم، وخرج من باب الصفا فركب ودار في شوارع مكة، وكان أبوه إذ ذاك غائبا بناحية الواديين من اليمن، ودامت ولاية السيد حسن بن عجلان وابنه السيد بركات إلى أوائل سنة سبع وعشرين وثمانمائة.
ثم ولي إمرة مكة السيد علي بن عنان بن مغامس بن رميثة الحسني2 بمفرده، وتوجه إليها من مصر صحبة اتلعسكر المنصور الأشرفي، واستولى على مكة بغير قتال؛ لأن السيد حسن وابنه وجماعتهم فارقوها، ودخل السيد علي بن عنان إلى مكة لابسا خلعه الولاية، ضحوة يوم الخميس سادس جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وطاف بالكعبة المعظمة سبعا، والمؤذن يدعو له على زمزم، وبعد فراغه من صلاة الطواف قرئ توقيعه بالولاية بظل زمزم، وفيه أنه ولي إمرة مكة عوض السيد حسن بن عجلان، وركب بعد ذلك من باب الصفا، ودار في شوارع مكة والخلعة عليه؛ ثم مضى في ثالث يوم إلى جدة لتنجيل3 ما وصل إليهما من الهند وغير ذلك، ورفق بالقادمين، ودعا بالعسكر المنصور إلى مكة في سابع جمادى الآخرة، وضربت باسمه السكة، وابتدأت الخطبة باسمه السكة، وابتدأت الخطبة باسمه في سابع جمادى الأولى.
واستمر ابن عنان متوليا إلى أول ذي الحجة سنة ثمان وعشرين، وهي هذا التاريخ وصل السيد حسن بن عجلان إلى مكة المشرفة بأمان من صاحب مصر السلطان الأشرف برسباي، ودخل مكة لابسا خلعة الولاية في يوم الأربعاء ذي الحجة من السنة،
__________
1 الضوء اللامع 3/ 13 و14 رقم 50.
2 الضوء اللامع 5/ 272 و273 رقم 914.
3 التنجيل: إنزال التجارة من السفن إلى البر، وهي كلمة شائعة على ألسنة سكان جدة.(2/251)
وفوضت إليه إمرة مكة، وخطبت له، وتوجه بعد الحج إلى مصر؛ فنال إكراما كثيرا، وقفرر في إمرة مكة في العشرين من جمادى الأولى سنة تسع وعشرين، وهو عليل، واستمر كذلك حتى وفي في سادس عشر جمادى الآخر من السنة المذكورة بالقاهرة بعد أن تجهز للسفر إلى مكة.
ثم إن السلطان استدعى ولده السيد بركات بن حسن بن عجلان إلى مصر؛ فقدمها في ثالث عشرين من رمضان، فوصى إليه إمرة مكة عوضا عن أبيه في سادس وعشرين من رمضان من السنة، واستقر إخوة السيد إبراهيم1 نائبا عنه، وخلع عليهما تشريفتين، وتوجها إلى مكة في عاشر شوال من السنة؛ فوصلوا إليها في أوائل العشر الأوسط من ذي القعدة منها، وقرئ عهد الشريف بركات بالولاية وليس الخلعة.
هذا ما علمناه من خبر ولاة مكة في الإسلام، وقد أوعينا في تحصيل ذلك الاجتهاد، وما ذكرناه من ذلك غير واف بكل المراد؛ لأنه خفي علينا جماعة من ولاة مكة، وخصوصًا ولاتها من زمن المعتمد وإلى ابتداء ولاية الأشراف في آخر خلافة المطيع العباسي، وخفي علينا كثير من تاريخ ابتداء ولاية كثير منهم وتاريخ انتهائها، ومع ذلك فهذا الذي ذكرناه من ولاة مكة ليس له في كتاب نظير والذي لم نذكره من الولاة هو اليسير، وسبب الإقلال في ذلك والتقصير ما ذكرناه من أنا لم نر مؤلفا في هذا المعنى نستضيء به، وذلك مع المقدور لعدم العناية بتدوين كل قضية من أحوال الولاة عند وقوعها. وقد شرحنا كثيرا من أحوالهم، وما أجملناه من أخبارهم في كتابنا المسمى "بالعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين"، وفي مختصره المسمى: "عجالة القرى للراغب في تاريخ أم القرى"؛ فمن أراد معرفة ذلك فليراجع أحد الكتابين؛ فإنه يعلم من حالهم أمورا كثيرا، وفي هذين الكتابين فوائد كثيرة مستغرفبة وأخبار مستعذبة.
والحمد لله على التوفيق، ونسأله الهداية إلى أحسن طريق.
__________
1 الضوء اللامع 1/ 41.(2/252)
الباب الثامن والثلاثون
في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام
...
الباب الثامن والثلاثون:
في ذكر شيء من الحوادي المتعلقة بمكة في الإسلام:
لا شك أن الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا، وخفي علينا كثير من ذلك، لعدم العناية بتدوينه في كل وقت، وقد سبق مما علمناه من ذلك أمور كثيرة في مواضع من هذا الكتاب؛ بعضها فيما يتعلق بسور مكة في الباب الأول من هذا الكتاب، وبعضها فيما يتعلق بأنصاب الحرم؛ وذلك في الباب الثالث من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالكعبة في الباب السابع، والباب الثامن من هذا الكتاب وبعضها في أخبار المقام؛ وذلك في الباب السادس عشر من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالحجر -بسكون الجيم- وذلك في الباب السابع عشر من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالمسجد الحرام؛ وذلك في الباب الثامن عشر، والتاسع عشر من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بزمزم وسقاية العباس؛ وذلك في الباب العشرين من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالأماكن المباركة بمكة وظاهرها؛ وذلك في الباب الحادي والعشرين من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالأماكن التي لها تعلق بالمناسك؛ وذلك في الباب الثاني والعشرين من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقبة بالمآثر بمكة كالربط والمدارس وغير ذلك، وذلك في الباب الثالث والعشرين من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بولاة مكة في الإسلام؛ وذلك في الباب السابع والثلاثين من هذا الكتاب، وبعضها يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأخبار المتعلقة بسيول مكة، وما كان فيها من الغلاء والرخص والوباء؛ وذلك في الباب التاسع والثلاثين من هذا الكتاب، وبعضها أيضا يأتي إن شاء الله تعالى في الأخبار المتعلقة بأسواق مكة؛ وذلك في الباب الأربعين من هذا الكتاب. والمقصود ذكره في هذا الباب وهو الباب الثامن والثلاثون: أخبار تتعلق بالحجاج، ولها تعلق بمكة أو باديتها، وحج جماعة من الخلفاء والملوك في حال خلافتهم وملكهم، ومن خطب له من الملوك(2/253)
وغيرهم في خلافة بني العباس، وما جرى بسبب الخطبة بمكة بين ملوك مصر والعراق، وما أسقط من المكوسات المتعلقة بمكة، وراعينا في ذكر ذلك تاريخ وقوعه، لا مناسبة كل حادثة لما قبلها، مع مراعاتها للاختصار في جمع ما ذكرناه.
فمن الأخبار المقصود ذكرها هنا: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حج بالناس سنة اثنتي عشرة من الهجرة1، وهو الذي حج بالناس سنة تسع من الهجرة2.
ومنها: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حج بالناس في جميع خلافته إلا السنة الأولى منها، وي سنة ثلاثة عشرة، فحج بالناس فيها عبد الرحمن بن عوف الزهري- رضي الله عنه3
ومنها: أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حج بالناس في جميع خلافته إلا في السنة الأولى منها، وهي سنة أربع وعشرين4؛ فحج بالناس فيها عبد الرحمن بن عوف الزهري -رضي الله عنه- وإلا السنة الأخيرة وهي سنة خمس وثلاثين من الهجرة، حج بالناس فيها عبد الله بن عباس بن عبد المطلب -رضي الله عنهما5.
ومنها: أنه في سنة تسع وثلاثين من الهجرة، كاد أن يقع بمكة قتال بين قثم بن العباس رضي الله عنه عامل مكة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين يزيد بن شجرة الرهاوي، الذي بعثه معاوية -رضي الله عنه- لإقامة الحج وأخذ البيعة له بمكة، ونفي عامل علي -رضي الله عنه- عنها، ثم وقع الصلح بينهما، على أن يعتزل كل منهما الصلاة بالناس، ويختار الناس من يصلي بهم ويحج بهم. فاختاروا شيبة بن عثمان الحجبي فصلى بهم وحج بهم6.
ومنها: أنه في سنة أربعين من الهجرة وقف الناس بعرفة في اليوم الثامن، وضعوا في اليوم التاسع، على ما ذكر العتيقي في "أمراء الموسم"؛ لأنه قال: وأقام للناس الحج لسنة أربعين المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- بكتاب افتعله على لسان معاوية -رضي
__________
1 تاريخ الطبري 4/ 27، والكامل 2/ 168، والبداية والنهاية 6/ 353، ومروج الذهب 4/ 396، والذهب المسبوك "ص: 12، 13".
2 تاريخ الذهب 4/ 396، والمحبر "ص: 11 - 17".
3 تاريخ الطبري 4/ 82، وفي الكامل لابن الأثير 2/ 188، أن الذي حج بالناس في هذه السنة هو عمر بن الخطاب.
4 الكامل 3/ 33.
5 تاريخ الطبري 5/ 139، الكامل 3/ 73، البداية والنهاية 7/ 187.
6 الكامل 3/ 164، تاريخ الطبري 6/ 79، مروج الذهب 4/ 397.(2/254)
الله عنه- أنه ولاه الموسم، ثم خشي أن يفطن لذلك؛ فوقف بالناس يوم التروية على أنه يوم عرفة، وضحوا يوم عرفة1 ... انتهى.
ونقل الذهبي في "تاريخ الإسلام"، عن الليث بن سعد رضي الله عنه ما يدل لما ذكره العتيقي، وأفاد في ذلك ما لم يفده العتيقي؛ لأنه قال في أخبار سنة أربعين من الهجرة: حج بالناس المغيرة بن شعبة، ودعا لمعاوية رضي الله عنه، وقال الليث بن سعد رضي الله عنه: حج لمعاوية سنة أربعين؛ لأنه كان معتزلا بالطائف؛ فافعل كتابا عام الجماعة، فقدم الحج يوما خشية أن يجيء أمير، فتخلف عنه ابن عمر -رضي الله عنهما، وصار معظم الناس مع ابن عمر -رضي الله عنهما. قال الليث: قال نافع: فلقد رأيتنا ونحن غادون من منى، وقد استقبلونا مفيضين من جمع، فأقمنا بعدهم ليلة2 ... انتهى.
وهذا إن صح عن المغيرة رضي الله عنه، فلعله صح عنده رؤية هلال ذي الحجة3 على وفق ما فعل، ولم يصح ذلك عند من خالفه، فتأخروا عنه لذلك، والله أعلم.
ومنها أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- حج بالناس سنة أربع وأربعين من الهجرة4، وسنة خمسين5 منها على ما ذكر العتيقي.
ومنها: أن عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنهما- حج بالناس تسع حجج ولاء؛ أولها سنة ثلاث وستين6، وآخرها سنة إحدى وسبعين7 على ما ذكر العتيقي، وكان في سنة اثنتين وسبعين محصورا، حصره الحجاج8.
ومنها: أنه في سنة ست وستين من الهجرة، وقف بعرفة أربعة ألوية؛ لواء ابن الزبير على الجماعة، ولواء لابن عامر على الخوارج، ولواء محمد ابن الحنفية على الشيعة، ولواء أهل الشام من مضر لبني أمية، وذكر ذلك المسبحي قال: وحج بالناس عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما9.
__________
1 الكامل 3/ 174، مروج الذهب 4/ 398.
2 إتحاف الورى 2/ 31، 32.
3 إتحاف الورى 2/ 32، والكامل 3/ 174، وتاريخ الطبري 6/ 92.
4 تاريخ الطبري 6/ 123، الكامل 3/ 192، البداية والنهاية 8/ 28، الذهب المسبوك "ص: 24".
5 تاريخ الطبري 6/ 134، مروج الذهب 4/ 398، الكامل 3/ 202.
6 إتحاف الورى 2/ 58، العقد الثمين 5/ 353، 354، تاريخ الطبري 7/ 12، الكامل 4/ 52، مروج الذهب 4/ 398، المحبر "ص: 21".
7 تاريخ الطبري 7/ 190، المحبر "ص: 24".
8 تاريخ الطبري 7/ 195، الكامل 4/ 146، العقد الثمين 5/ 146، 147.
9 تاريخ الطبري 7/ 139، الكامل 4/ 109، إتحاف الورى 2/ 81، مروج الذهب 4/ 398.(2/255)
ومنها: أن عبد الملك بن مروان حج بالناس في سنة خمس وسبعين1، وفي سنة ثمان وسبعين2، على ما ذكر العتيقي.
ومنها: أن الوليد بن عبد الملك بن مروان حج بالناس سنة إحدى وتسعين3، وفي سنة خمس وتسعين4 على ما قيل.
ومنها: أن سليمان بن عبد الملك بن مروان حج بالناس سنة تسع وتسعين5.
ومنها: أن هشام بن عبد الملك بن مروان حج بالناس سنة ست ومائة6.
ومنها: أنه في سنة تسع وعشرين ومائة؛ بينما الناس معرفة، ما شعروا إلا وقد طلعت عليهم أعلام وعمائم سود على رؤوس الرماح، ففزع الناس حين رأوهم، وسألوهم عن حالهم، فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان -وهو يومئذ على مكة والمدينة- وطلب منهم الهدنة؛ فقالوا نحن بحجنا أحق وعليه أشح، فصالحهم على أنهم جمعيا آمنون بعضهم من بعض بمنى في منزل السلطان، ونزل أبو حمزة الخارجي مقدم الفريق الآخر بقرن الثعالب7؛ فلما كان النفر الأول نفر فيه عبد الواحد وخلى مكة، فدخلها أبو حمزة8 بغير قتال، وكان من أمره ما سبق في باب الولاة بمكة9.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 130، تاريخ الطبري 7/ 210، الكامل 4/ 155، 156، مرآة الجنان 1/ 156.
2 تاريخ الطبري 7/ 281، المحبر "ص: 25"، دور الفرائد "ص: 202"، إتحاف الورى 2/ 108.
3 تاريخ الطبري 8/ 82، الكامل 4/ 227، المحبر "ص: 26"، الذهب المسبوك "ص: 31"، درر الفرائد "ص: 203".
4 الكامل 4/ 242، وفي تاريخ الطبري 8/ 96، ومروج الذهب 4/ 399: أن الذي حج بالناس في هذه السنة: "البشر بن الوليد بن عبد الملك".
5 الذي حج بالناس في هذا العام هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وينظر عن ذلك في: تاريخ الطبري 8/ 131، ومروج الذهب 4/ 399، والكامل 5/ 18، ودرر الفرائد "ص: 204"، وإتحاف الورى 2/ 134.
6 تاريخ الطبري 8/ 182، مروج الذهب 4/ 400، الكامل 5/ 52، البداية والنهاية 9/ 234، الذهب المسبوك "ص: 35".
7 قرن الثعالب: بلدة على بعد يوم وليلة من مكة، وهي ميقات أهل نجد، ويقال لها قرن المنازل.
8 هو: يحيى بن المختار بن عوف الخارجي الإباضي أحد زعماء الخوارج.
9 تاريخ الطبري 9/ 59، الكامل 5/ 151، العقد الثمين 7/ 153، إتحاف الورى 2/ 159 - 161.(2/256)
ومنها: أن أبا جعفر المنصور -رضي الله عنه ثاني خلفاء بني العباس- حج بالناس، على ما ذكر العتيقي في سنة أربعين ومائة من الهجرة1، وفي سنة أربع وأربعين2، وفي سنة سبع وأربعين3، وفي سنة اثنتين وخمسين من الهجرة4، وهو الذي حج بالناس سنة ست وثلاثين، قبل أن تقضى إليه الخلافة5، وفيها أفضت إليه، وأراد الحج بالناس في سنة ثمان وخمسين ومائة من الهجرة؛ فحالت المنية بينه وبين ذلك، بعد أن كاد يدخل مكة، وكانت وفاته ببئر ميمون6 ظاهر مكة.
ومنها: أن المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور العباسي حج بالناس سنة ستين ومائة7 من الهجرة، وفي سنة أربع وستين ومائة8 من الهجرة، وفي كل حجتيه يأمر بتوسعة المسجد الحرام؛ ففي الأولى جرد الكعبة مما عليها من الكسوة مخافة الثقل عليها، وكساها كسوة جديدة، وأنفق في حجته الأولى في الحرمين أموالا عظيمة، يقال عليها، وكساها كسوة جديدة، وأنفق في حجته الأولى في الحرمين أموالا عظيمة، يقال إنها ثلاثون ألف ألف درهم، وصل بها من العراق، وثلاثمائة ألف دينار وصلت إليه من مصر، ومائتا ألف دينار وصلت إليه من اليمن، ومائة ألف ثوب وخمسون ألف ثوب9.
وما ذكرناه من حج المهدي مرتين، سنة ستين وفي سنة أربع وستين؛ ذكره الإمام الأزرقي في تاريخه9، وذكر أنه في كل منهما أمر بالزيادة في المسجد الحرام، ولم يذكر العتيقي إلا حجته الأولى، وذكر أنه في سنة وستين خرج إلى الحج، فرجح في العقبة لعله أصابته10.
وهو أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة، وذلك في حجته الأولى.
ومنها: أن هارون الرشيد بن المهدي العباسي حج بالناس -على ما ذكر العتيقي- تسع حجج متفرقة وذلك في سنة سبعين ومائة11، وسنة ثلاث وسبعين
__________
1 النجوم الزاهرة 1/ 340، تاريخ الطبري 9/ 173، الكامل 5/ 202، المحبر "ص: 53"، درر الفرائد "ص: 210"، الذهب المسبوك "ص: 37".
2 الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 91 - 95"، سمط النجوم العوالي 3/ 253 - 256.
3 تاريخ الطبري 9/ 275، مروج الذهب 4/ 401، الكامل 5/ 235.
4 الكامل 5/ 245، إتحاف الورى 2/ 1914.
5 تاريخ الطبري 9/ 159، 160، الكامل 5/ 189، درر الفرائد "ص: 109".
6 تاريخ الطبري 9/ 292، الكامل 6/ 8.
7 الكامل 6/ 18، تاريخ الخميس 2/ 33، مروج الذهب 4/ 204.
8 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78 - 80، الكامل 6/ 23، وفي مروج الذهب 4/ 402، والمحبر "ص: 37" أن الذي حج بالناس في هذه السنة هو: "صالح بن منصور".
9 أخبار مكة للأزرقي 2/ 74.
10 الكامل 6/ 23، درر الفرائد "ص: 217".
11 الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 111، 112"، إتحاف الورى 2/ 22.(2/257)
ومائة1، وسنة أربع وسبعين ومائة2، وسنة خمس وسبعين ومائة3، وسنة سبع وسبعين ومائة4، وسنة تسع وسبعين ومائة5، وسنة إحدى وثمانين ومائة6، وسنة ست وثمانين ومائة7، وسنة ثمان وثمانين ومائة8، وذكر ابن الأثير حج الرشيد بالناس في هذه السنين، وذكر أنه في سنة سبعين قسم الحرمين عطاء كثيرا9، وأنه فيسنة ثلاث وسبعين أحرم بالحج من بغداد10، وأنه في سنة أربع وسبعين قسم في الناس مالا كثيرا11، وأنه في سنة تسع وسبعين مشى من مكة إلى منى إلى عرفات، وشهد المشاعر كلها ماشيا، وأنه اعتمر في رمضان هذه السنة شكرا لله12 تعالى على قتل الوليد بن طريف13، وعاد إلى المدينة؛ فأقام بها إلى وقت الحج، وحج بالناس، وفعل ما سبق14، وأنه في سنة ست وثمانين بلغ عطاؤه في الحرمين ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وجعل في الكعبة العهد الذي عهده بين ولديه الأمين والمأمون، بعد أن عهد عليهما في الكعبة العهد الذي عهده بين ولديه الأمين والمأمون، بعد أن عهد عليهما في الكعبة بالوفاء15 وأنه في سنة ثمان وثمانين قسم أموالا كثيرة، قال: وهي آخر حجة حجها في قول بعضهم، وهو آخر خليفة حج من العراق16.
ومنها: أنه في سنة تسع وتسعين ومائة، وقف الناس بعرفة بلا إمام، وصلوا بلا خطبة؛ وسبب ذلك، أن أبا السرايا داعية ابن طباطبا17 بعث حسينا الأفطس للاستيلاء
__________
1 تاريخ الطبري 10/ 51، الكامل 6/ 43.
2 تاريخ الطبري 10/ 53، الكامل 6/ 43، القرى "ص: 58"، مروج الذهب 4/ 403.
3 العقد الثمين 4/ 347، إتحاف الورى 2/ 227.
4 تاريخ الطبري 10/ 62، الكامل 6/ 50، البداية والنهاية 10/ 171، مروج الذهب 4/ 403.
5 تاريخ الطبري 10/ 66، الكامل 6/ 53، الذهب المسبوك "ص: 49".
6 تاريخ الطبري 10/ 69، البداية والنهاية 10/ 177.
7 تاريخ الطبري 10/ 74، أخبار مكة للأزرقي 1/ 233.
8 تاريخ الطبري 10/ 94، الكامل 6/ 68، البداية والنهاية 10/ 194.
9 الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 111".
10 مروج الذهب 4/ 403، القرى "ص: 58"، الكامل 6/ 43.
11 مروج الذهب 4/ 403، القرى "ص: 58".
12 تاريخ الطبري 10/ 66، والكامل 6/ 53، الذهب المسبوك "ص: 49".
13 انظر أخباره في: الكامل 6/ 51، تاريخ الطبري 10/ 62، 65.
14 إتحاف الورى 2/ 230.
15 أخبار مكة للأزرقي 1/ 233.
16 المحبر "ص: 38"، تاريخ الطبري 10/ 95، الكامل 6/ 68، البداية والنهاية 10/ 200، إتحاف الورى 2/ 245.
17 هو أبو السرايا السري بن منصور الشيباني داعية ابن طباطبا العلوي المكي، أحد زعماء الشيعة ودعاتهم، توفي سنة "199هـ".(2/258)
على مكة، وأقام الموسم بها1؛ فلما آن وقت الحج فارق مكة واليها داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ومن كان معه بها من شيعة بني العباس مع قدرته على القتال والدفع، وافتعل كتابا من المأمون بتولية ابنه محمد بن داود على صلاة الموسم، وقال له: أخرج فصل بالناس بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل الصبح ثم اركب دابتك فانزل طريق عرفة، وخذ على يسارك في شعب عمرو2 حتى تأخذ طريق المشاش حتى تلحقني ببستان ابن عامر؛ ففعل ذلك؛ فلما زالت الشمس يوم عرفة تدافع للصلاة قوم من أهل مكة، وقيل لقاضي مكة: اخطب بالناس وصل بهم، قال: فلمن أدعو وقد هرب هؤلاء وظل هؤلاء على الدخول؟ فقيل له: لا تدع أحد، فلم يفعل، وقدموا وقدموا رجلا فصلى بالناس الصلاتين بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا بعرفة، ثم دفعوا بغير إمام.
ولما بلغ الأفطس خلو مكة من بني العباس؛ دخلها قبيل الغروب في نحو عشرة من أصحابه؛ فطافوا وسعو ومضوا إلى عرفة، فوقفوا بها ليلا، وأتوا مزدلفة، فصلى حسين بالناس فيها صلاة الفجر، ودفع إلى منى، وأقام بها أيام الحج، ثم أتى مكة ففعل فيها ما سبق ذكره في باب الولاة من الأفعال القبيحة3.
ومنها: أنه في سنة مائتين من الهجرة نهب الحجاج بستان ابن عامر، وسبب ذلك: أن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق أخا علي بن موسى الكاظم، بعد استيلائه على اليمن في هذه السنة، وجه إلى اليمن رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب في جند ليحج بالناس؛ فسار العقيلي حتى أتى بستان ابن عامر، فبلغه أن أبا إسحاق المعتصم قد حج في جماعة من القواد فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان، وقد استعمله الحسن بن سهل على اليمن؛ فعلم العقيلي أنه لا يقوى بهم، فأقام ببستان ابن عامر، فاختار قافلة من الحاج، معهم كسوة الكعبة وطيبها، فأخذوا أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها، وقدم الحجاج مكة عراة منهوبين، فاستشار المعتصم أصحابه، قال الجلودي: أنا أكفيك ذلك، فرده، فانتخب مائة رجل وسار إلى العقيلي، فصبحهم فقاتلهم، فانهزموا، وأسر أكثرهم، وأخذ كسوة الكعبة، وأموال التجار إلا ما كان مع من هرب قبل ذلك، فأخذ الأسرى فضرب كل واحد منهم عشرة أسواط وأطلقهم، فرجعوا إلى اليمن يستطيعون الناس، فهلك أكثرهم في الطريق4 ... انتهى
__________
1 تاريخ الطبري 10/ 229، 230، الكامل 6/ 113، العقد الثمين 4/ 196 - 198.
2 هو أحد شعاب مكة، وهو ما يطلق عليه الملاوي العليا الممتدة إلى جهة منى، والذي يسيل منه شعب الملاوي اليوم.
3 تاريخ الطبري 10/ 229، 230، الكامل 2/ 181، 182، العقد الثمين 4/ 196 - 198.
4 تاريخ الطبري 10/ 233، الكامل 6/ 115.(2/259)
وبستان ابن عامر1 هو ببطن نخلة كما سبق بيانه2.
ومنها: أنه في سنة ثمان وعشرين ومائتين أصحاب الناس في الموقف حر شديد وأضر بهم. ثم أصابهم فيه برد، واشتد البرد عليهم بعد ساعة من ذلك الحر، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة، فقتلت جماعة من الحجاج3 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة إحدى وخمسين ومائتين لم يقف الناس بعرفة لا ليلا ولا نهارا، وقتل فيها خلق كثير، وسبب ذلك: أن إسماعيل بن يوسف العلوي -السابق ذكره في باب الولاة بمكة- بعد ظهوره بها في السنة، وما فعله فيها من الأفعال القبيحة بمكة والمدينة وجدة، ووافى الموقف بعرفة وبها محمد بن إسماعيل بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي، وكان المعتز وجههما إليهما، فقاتلهم إسماعيل، وقتل من الحجاج نحو ألف ومائة، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفلوا بعرفة لا ليلا ولا نهارا. ووقف إسماعيل وأصحابه4 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة اثنتين وستين ومائتين خاف الناس أن يبطل الحج، وسبب ذلك: أنه في هذه السنة وقع بين الجزارين والحناطين بمكة قتال يوم التروية، فخاف الناس أن يبطل الحج، ثم تحاجزوا إلى أن الحج الناس، وقتل منهم تسعة عشر رجلا5.
ومنها: أنه في سنة تسع وستين ومائتين، وثب الأعراب على كسوة الكعبة وانتهبوها، فصار بعضهم إلى صاحب الزنج، وأصاب الحجاج فيها شدة شديدة6.
ومنها: أنه في سنة تسع وستين ومائتين، كان قتال بين الحجاج المصريين أصحاب أحمد بن طولون، والعراقيين أصحاب أبي أحمد الموفق، وكان الظفر لأصحاب الموفق7. وقد سبق هذه الحادثة في باب الولاة مبسوطة.
ومنها: أنه في سنة خمس وتسعين ومائتين كانت واقعة بين عج بن حاج8 وبين الأجناد بمنى، ثاني عشر ذي الحجة، فقتل منهم جماعة؛ لأنهم طالبوا جائزة بيعة المقتدر، وهرب الناس إلى بستان ابن عامر.
__________
1 هو بستان قريب من مزدلفة.
2 الكامل 6/ 115.
3 تاريخ الطبري 1/ 9، إتحاف الورى 2/ 298.
4 تاريخ الطبري 11/ 136، الكامل 7/ 58، البداية والنهاية 11/ 9، مروج الذهب 4/ 406، العقد الثمين 3/ 312.
5 تاريخ الطبري 11/ 243، الكامل 7/ 109، البداية والنهاية 11/ 35.
6 تاريخ الطبري 11/ 258، المنتظم 5/ 56، الكامل 7/ 120.
7 تاريخ الطبري 11/ 320، الكامل 7/ 142، إتحاف الورى 2/ 343.
8 هو أمير الترك.(2/260)
وأصاب الحجاج في عودهم عطش عظيم، فمات جماعة، وحكي أن أحدهم كان يبول في كفة ثم يشربه1.
ومنها: أنه في سنة أربع عشرة وثلاثمائة2، وفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة3، وفي سنة ست عشرة وثلاثمائة4, لم يحج إلى مكة أحد من العراق، على ما ذكر العتيقي في أخبار هذه الثلاث سنين، للخوف من القرمطي. وذكرها ما يقتضي أن الحج في هذه السنين لم يبطل من مكة، وذكر أنهم -يعني أهل مكة- حجوا في سنة أربع عشرة، على قلة من الناس خوف5 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة حج الناس من بغداد مع منصور الديلمي، وسلموا في طريق مكة من القرمطي، فوافدهم القرمطي مكة، وأسرف في قتلهم وأسرهم، وفعل في الكعبة ومكة أفعالا قبيحة، وقد ذكر أفعاله في هذه السنة جماعة من أهل الأخبار، منهم: أبو بكر عمر بن علي بن القاسم الذهبي في تاريخه، فيما حكاه عنه أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك"، وأفاد فيما ذكره ما لم يفده غيره، فاقتضى ذلك ذكرنا بنصه؛ وذلك أنه قال: إن أبا طاهر القرمطي عدو الله وافي مكة يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، في سبعمائة رجل من أصحابه، فقتل في المسجد الحرام نحوألف وسبعمائة من الرجال والنساء، وهم متعلقون بأستار الكعبة وردهم بهم زمزم، وفرش بهم المسجد وما يليه، وقتل في سكك مكة وشعابها من أهل خراسان والمغاربة وغيرهم زهاء ثلاثين ألفا، وسبى من النساء والصبيان مثل ذلك، وأقام بمكة ستة أيام ولم يقف أحد تلك السنة بعرفة، ولا وافى نسكا، وهي التي يقال لها سنة الحمامي.
وأخذ حلي الكعبة، وهتك أستارها، وكان سدنة المسجد قد تقدموا إلى حمل المقام وتغييبه في بعض شعاب مكة، فتألم لفقده؛ إذ كان طلبه، فعاد عند ذلك عند الحجر الأسود فقلعه، وذكر من قلعه وتاريخ قلعه ما نقلناه عنه في أخبار الحجر الأسود.
ثم قال: ولم يأخذ الميزاب، وكان من الذهب الأبريز، وسبب ذلك: أنه لم يقدر على قلعة أحد من القرامطة الذين على ظهر الكعبة، ورام خلعه شخص منهم؛ فأصيب من أبي قبيس بسهم في عجزة، فسقط فمات.
__________
1 تاريخ الطبري 1/ 406، الكامل 8/ 20، البداية والنهاية 11/ 108، المنتظم 6/ 82.
2 البداية والنهاية 11/ 154، النجوم الزاهرة 3/ 215، المنتظم 6/ 202.
3 إتحاف الورى 2/ 373، المنتظم 6/ 210.
4 إتحاف الورى 2/ 374، درر الفرائد "ص: 224".
5 مروج الذهب 4/ 407، درر الفرائد "ص: 234".(2/261)
قال: ورمى الله القرمطي في جسده، وطال عذابه، حتى تقطعت أوصاله، وأراه الله تعالى عبرة في نفسه1 ... انتهى.
وأما قول العتيقي في أخبار هذه السنة، ولم يحج أحد من العراق، ففيه نظر؛ لأنه إن أراد بالعراق عراق العجم، فهو يخالف مقتضى قول الذهبي السابق وقتل في سكك مكة وشعابها من أهل خراسان والمغاربة، وغيرهم زهاء ثلاثين ألفا ... انتهى. وهذا يدل لحج أهل خراسان؛ وهم من عراق العجم، وإن أراد عراق العرب؛ فهو يخالف ما ذكره ابن الأثير؛ لأنه قال: في أخبار سنة سبع عشرة وثلاثمائة: حج بالناس هذه السنة منصور الديلمي2، سار بهم من بغداد إلى مكة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية3، فذكر من أفعاله القبيحة بمكة بعض ما سبق ذكره4.
ومنها: أنه في سنة تسع عشرة وثلاثمائة لم يحج ركب العراق. على ما ذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام"5.
ومنها: أنه في سنة عشرين وثلاثمائة، بطل الحج من العراق، على ما ذكر العتيقي، والذهبي، وذكر العتيقي أن فيها حج ناس من أهل المغرب واليمن6.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة بطل الحج من بغداد، على ما ذكر العتيقي وابن الأثير، لاعتراض القرمطي يلهم في الطريق فيما بين القادسية والكوفة7.
ومنها: أنه في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بطل الحج من ناحية العراق، على ما ذكر العتيقي8.
ومنها: أنه في سنة خمس وعشرين بطل الحج من العراق، على ما ذكره العتيقي والذهبي9.
ومنها: أنه في سنة ست وعشرين بطل الحج من العراق، على ما ذكره الذهبي، وأما العتيقي فقال في أخبار هذه السنة: وخرج من بغداد نفر يسير من الحجاج رجالة،
__________
1 البداية والنهاية 11/ 164، مرآة الجنان 2/ 274، تاريخ الخميس 2/ 350، الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 163".
2 المنتظم 6/ 223، إتحاف الورى 2/ 374.
3 دول الإسلام 1/ 192، تاريخ الخميس 2/ 350، النجوم الزاهرة 3/ 224، سمط النجوم العوالي 3/ 360.
4 دول الإسلام 1/ 192، تاريخ الخميس 2/ 350، النجوم الزاهرة 3/ 224، سمط النجوم العوالي 3/ 360.
5 دول الإسلام 1/ 194.
6 النجوم الزاهرة 3/ 232، إتحاف الورى 2/ 382، 283.
7 الكامل 8/ 108، البداية والنهاية 11/ 123.
8 درر الفرائد "ص: 241"، مروج الذهب 4/ 408، إتحاف الورى 2/ 368.
9 النجوم الزاهرة 3/ 260، مروج الذهب 4/ 408.(2/262)
وقوم أكثروا من العرب، ونحروا في مكة، وحجوا وعادوا من طريق الشام، وعاد منهم قوم على طريق الجادة1 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، بطل الحج من العراق؛ لبعد المتقي عن العراق، واضطرب البلاد، على ما ذكر العتيقي2.
ومنها: أنه في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة بطل الحج على ما ذكر العتيقي3.
ومنها: أنه في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة4، وسنة سبع وثلاثين وثلاثمائة5، وسنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة6، لم يحج أحد من العراق، على ما ذكر الذهبي في "تاريح الإسلام"، وذكر العتيقي ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال: وحج بالناس في سنة خمس وثلاثين، وست وثلاثين، وسبع وثلاثين، وثمان وثلاثين، وتسع وثلاثين، عمر بن يحيى العلوي، بولاية السلطان له بذلك7 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة أو في التي قبلها كان بين الحجاج العراقيين والمصريين قتال بسبب الخطبة بمكة، على ما ذكر العتيقي؛ لأنه قال: وحج بالناس سنة أربعين وثلاثمائة، وسنة إحدى أربعين وثلاثمائة، أحمد بن الفضل بن عبد الملك من مكة، وعارضه أهل مصر مع عمر بن الحسن بن عبد العزيز، وصحت الصلاة لأحمد بن الفضل، وكان أمير الحاج في بغداد عمر بن يحيى العلوي، ووقع بين عمر بن يحيى العلوي وابن الحسين محمد بن عبيد الله العلوي -وكان حاجا- وبين المصريين للمنبر8 بعرفة. وأقام الحج عمر بن الحسن بن عبد العزيز بناحية بالأتراك والمصريين، وأقام لهم الحج9 ... انتهى.
وذكر المسبحي ما يدل على أن هذه القصة كانت في سنة أربعين وثلاثمائة؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: وحج بالعراقيين أحمد بن الفضل بن عبد الملك الهاشمي أحمد، وحج بالمصريين أبو حفص عمر بن الحسن بن عبد العزيز وكانت سنة خلاف وفتنة حدثت بمكة ... انتهى.
__________
1 درر الفرائد "ص: 241".
2 درر الفرائد "ص: 242"، البداية والنهاية 11/ 207.
3 درر الفرائد "ص: 242".
4 النجوم الزاهرة 3/ 294.
5 إتحاف الورى 2/ 394.
6 النجوم الزاهرة 3/ 298، مرآة الجنان 2/ 326.
7 إتحاف الورى 2/ 393، 394.
8 النجوم الزاهرة 3/ 308، درر الفرائد "ص: 243".
9 حسن الصفا والابتهاج "ص: 109".(2/263)
وذكر غيره ما يدل على أن ذلك في سنة إحدى وأربعين؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: وفيها كان حرب بينم أصحاب معز الدولة، وأصحاب ابن طغج، وكان الظفر لأصحاب معز الدين ... انتهى.
ووقع مثل ذلك في سنة اثنتين وأربعين، وفي سنة ثلاث وأربعين، على ما ذكر ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة اثنتين وأربعين: فيها سير الحجاج الشريفان أبو الحسن محمد بن عبد الله، وأبو عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويان؛ فجرى بينهما وبين عساكر المصريين من أصحاب ابن طغج حرب شديد، فكان الظفر لهما، فخطب لمعز الدولة بمكة؛ فلما خرجا من مكة لحقهما عساكر مصر، فقاتلهما فظفر بهم أيضا1.
وقال في أخبار سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة: فيها وقعت الحرب بمكة بين أصحاب معز الدولة، وأصحاب ابن طغج من المصريين؛ فكانت الغلبة لأصحاب معز الدولة، فخطب بمكة والحجاز لركن الدولة، ومعز الدولة، وولده عز الدولة بختيار، وبعدهم لابن طفج2 ... انتهى.
وذكر المسبحي ما كان بين الفريقين في سنة ثلاث وأربعين، وذكر ذلك غيره، وأفاد في ذلك غير ما سبق؛ لأنه قال: في أخبار سنة ثلاث وأربعين: وكان بها أيضا حرب عظيمة بين أصحاب معز الدولة بن بويه والإخشيد بن محمد بن طغج صاحب الديار المصرية، ومنع أصحاب معز الدولة أصحاب الإخشيد من الصلاة بمنى والخطبة، ومنع أصحاب الإخشيد أصحاب معز الدولة من الدخول إلى مكة، والطواف3 ... انتهى باختصار.
ومنها: أنه كان يدعى على المنابر بمكة والحجاز جميعة لكافور الإخشيدي صاحب مصر، ذكر هذه الحادية الملك المؤيد صاحب حماة4، والظاهر أن الدعاء لكافور بمكة كان في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة؛ لأنه ولي السلطنة في هذه السنة بعد موت ابن أستاذه "علي بن محمد بن طغج الإخشيدي"، وكان هو المتولي لتدبير المملكة في سلطنة
__________
1 المنتظم 6/ 372، الكامل 8/ 182، درر الفرائد "ص: 243".
2 درر الفرائد "ص: 243"، حسن الصفا والابتهاج "ص: 109"، وابن طغج هو: الأمير أنوجور بن محمد بن طغج الإخشيد الفرغاني التركي، تولى بعد أبيه سنة 334 بعهد من الخليفة المطيع لله على مصر، وعلى كل ما كان لأبيه من الولاة، ومات سنة 349هـ "انظر ترجمته في: النجوم الزاهرة 3/ 291 - 293".
3 درر الفرائد "ص: 243"، حسن الصفا والابتهاج "ص: 109".
4 المختصر في أخبار البشر 2/ 107.(2/264)
ابن أستاذه المذكور، وسلطنة أخيه أبي القاسم، "أونجور" ومعناه بالعربي: محمود بن محمد بن طغج، ولعله كان يدعى لكافور في حال سلطنة المذكورين، لتوليه تدبير المملكة لهما، والله أعلم.
ومنها: أنه في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة لم يحج أحد من الشام ولا من مصر، على ما ذكر الذهبي1.
ومنها: أنه في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة خطب للمعز بن تميم بعد ابن المنصور العبيدي صاحب مصر؛ بمكة والمدينة واليمن، وبطلت الخطبة لبني العباس، وفرق فيه قائد حج مصر أموالا عظيمة في الحرمين؛ ذكر ذلك كله صاحب "المرآة" وذكر أن نقيب الطالبيين2 حج بالناس من بغداد فيها3.
ومنها -على ما قال ابن الأثير في أخبار سنة تسع وخمسين وثلاثمائة: وفيها كان الخطبة بمكة للمطيع لله، والقرامطة الهجريين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلوي، وخطب أبو أحمد الموسوي -والد الشريف الرضي- خارج المدينة للمطيع لله4.
وذكر صاحب "المرآة" أن فيها خطب للمطيع وللهجريين بعده بمكة، وأن الفاعل لذلك أبو أحمد النقيب الموسوي، وذكر أنه حد بالناس في سنة ستين وثلاثمائة، وهذا يخالف ما ذكره العتيقي من انقطاع الحج في هذه السنة، وفي سنة تسع وخمسين؛ لأنه قال: وبطل الحج من العراق سنة تسع وخمسين، وسنة ستين وثلاثمائة من العراق والمشرق، فلم يحج أحد من هذه الجهات، لاختلاف كان وقع من جهة القرامطة5 ... انتهى.
ودامت الخطبة للمطيع بمكة والحجاز فيما علمت إلى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة خطب للمعز لدين الله صاحب مصر، بمكة والمدينة في الموسم6.
__________
1 دول الإسلام 1/ 221، إتحاف الورى 2/ 405، النجوم الزاهرة 4/ 18، تاريخ الخلفاء "ص: 401".
2 هو أبو أحمد بن الحسين بن موسى "انظر ترجمته في النجوم الزاهرة 4/ 26".
3 إتحاف الورى 2/ 406، درر الفرائد "ص: 244".
4 المنتظم 7/ 53، الكامل 8/ 22، البداية والنهاية 11/ 268، درر الفرائد "ص: 245".
5 إتحاف الورى 2/ 406، 408 درر الفرائد "ص: 345".
6 المنتظم 7/ 75، الكامل 8/ 233، البداية والنهاية 11/ 277، مرآة الجنان 2/ 379، تاريخ الخلفاء "ص: 406".(2/265)
وفيها: خرج بنو هلال وجمع من العربل على الحجاج، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وضاق الوقت وبطل الحج، ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي والد الرضي على طريق المدينة، فتم حجهم ... انتهى من تاريخ ابن الأثير1.
ومنها: أنه في سنة أربع وستين وثلاثمائة بطل الحج من العراق مع توجههم منه؛ لأنهم قدروا أنهم لا يدركون الحج لأمر عرض لهم في الطريق، فعدلوا إلى المدينة المنورة، فوقفوا بها. ذكر ذلك بالمعنى ابن الأثير2. وأما العتيقي فقال في أخبار هذه السنة: وحج بالناس سنة أربع وستين وثلاثمائة ابن القمر صاحب القرامطة3 ... انتهى.
ومنها -على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة خمس وستين وثلاثمائة، من ناحية العراق والمشرق، لاضطراب أمور البلاد4 ... انتهى.
وفي هذه السنة -وهي خمس وستين- على ما ذكر صاحب "المرآة" حج بالناس علوي من جهة العزيز بن المعز العبيدي صاحب مصر، وخطب فيها بمكة والمدينة للعزيز5 ... انتهى.
وذكر غيره ما يوافق ذلك، وأن العزيز أرسل جيشا في هذه السنة، فحصروا مكة وضيقوا على أهلها6.
ومنها: أنه في سنة ست وستين وثلاثمائة حجت جميلة بنت ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان حجا يضرب به المثل في التجمل وأفعال البر؛ لأنه كان معها أربعمائة محمل على لون واحد، ولم يعلم الناس في أيها كانت، وكست المجاورين في الحرمين، وأنفقت فيهم الأموال العظيمة، ولما شاهدت الكعبة نثرت عليها عشرة آلاف دينار من ضرب أبيها ... انتهى بالمعنى من "المرآة"7.
وقد ذكر حج هذه المرأة جماعة من أهل الأخبار، منهم الذهبي؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وستين: وفيها حجت جميلة بنت الملك ناصر حمدان، وصار حجها يضرب به المثل، فإنها أغنت المجاورين، وقيل: كان معها أربعمائة محمل، لا يدري في أيها هي، لكونهن في الحسن والزينة نسبة8، ونثرت على الكعبة لما دخلتها عشرة آلاف دينار9 ... انتهى.
__________
1 الكامل 8/ 233.
2 الكامل 8/ 239.
3 إتحاف الورى 2/ 412.
4 إتحاف الورى 2/ 413، درر الفرائد "ص: 246".
5 الكامل 8/ 241، المنتظم 7/ 80، المختصر في أخبار البشر 2/ 116، البداية والنهاية 11/ 283.
6 إتحاف الورى 2/ 413.
7 مرآة الجنان 2/ 385، أعلام النساء 1/ 214.
8 المنتظم 7/ 84، النجوم الزاهرة 4/ 126.
9 البداية والنهاية 11/ 287، دول الإسلام 1/ 227.(2/266)
وقال غيره في ذكر حجها: أنه كان معها عشرة آلاف جمل، وألف عجوز، ولم يحوج الناس إلى مأكول ولا مشروب، وحج معها الناس من أقطار الأرض، وأنفقت بمكة عشرين ألف دينار، وزوجت كل علوي وعلوية، وأنفقت بالمدينة مثلها. ثم قال: ويقال: إنها أنفقت في هذه الحجة ألف ألف دينار، ومائة وخمسين ألف دينار، ولما رجعت إلى بغداد صادرها عضد الدولة بن بويه، واستصفى أموالها، ثم أراد حملها إليه، فخرجت مع رسله، وتحيلت حتى ألفت نفسها في دجلة، وكانت من أزهد الناس وأعبدهم وأجراهم دمعة؛ فكانت تقوم نافلة الليل، وتسمع العظات وتكثر الصدقات1 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة سبع وستين -على ما قال ابن الأثير: سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر وإفريقية أميرا على الموسم ليحج بالناس، وكانت الخطبة له بمكة، وكان الأمير على الموسم باديس بن زيري أخا يوسف بلكين خليفته بإفريقية؛ فلما وصل إلى مكة أتاه اللصوص بها، فقالوا له: نقبل الموسم منكم بخمسين ألف درهم ولا تتعرض لنا، فقال لهم: أفعل ذلك اجمعوا إلي أًصحابهم حتى يكون العقد مع جميعكم، فاجتمعوا -وكانوا نيفا وثلاثين رجلا- فقال: هل بقي منكم أحد؟ فحلفوا له أنه لم يبق منهم أحد، فقطع أيديهم كلهم2 ... انتهى
ومنها: أنه في سنة سبعين وثلاثمائة خطب مكة والمدينة لصاحب مصر العزيز العبيدي دون الطائع العباسي على ما ذكر صابح "الرآة" وابن الأثير؛ إلا أنه لم يقل دون الطائع3.
ومنها، على ما قال صاحب "المرآة" في أخبار سنة ثمانين وثلاثمائة: حج بالناس أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبيد الله العلوي نيابة عن الشريف أبي أحمد الموسوي4، وكان لهم من سنة إحدى وسبعين لم يحج أحد من العراق، بسبب الفتن والخلف من العراقيين والمصريين، وقيل: إنهم حجوا في سنة اثنتين وسبعين مع أبي الفتح العلوي، وفي سنة يثمان وسبعين وثلاثمائة، والله أعلم.
وذكر العتيقي ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وحج بالناس سنة اثنتين وسبعين وثلاث وأربع وخمس وست وسبع وثمان وتسع وسبعين، وسنة ثمان وثلاثمائة: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى بن عبيد الله العلوي ... انتهى.
__________
1 البداية والنهاية 11/ 287، مرآة الجنان 2/ 385.
2 الكامل 8/ 251، البداية والنهاية 11/ 291، إتحاف الورى 2/ 416.
3 المنتظم 7/ 105، الكامل 9/ 4، النجوم الزاهرة 4/ 178.
4 المنتظم 7/ 153، الكامل 9/ 29، النجوم الزاهرة 4/ 157.(2/267)
ومنها: أنه في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة لم يحج من العراق ولا من الشام أحد، على ما قال ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: فيها عاد الحاج من الثعلبية1، ولم يحج من الشام والعراق أحد، وسبب عودهم أن الأصفر أمير العرب اعترضهم وقال: إن الدراهم التي أرسلها السلطان عام أول كانت نقر مطلية وأريد العوض، وطالب المخاطبة والمراسلة، فضاق الوقت على الحجاج فرجعوا2 ... انتهى.
وأما الذهبي فقال في أخبار هذه السنة: لم يحج من العراق ولا من الشام ولا من اليمن أحد على العادة، وحج الناس من مصر ... انتهى.
وأما الذهبي فقال في أخبار هذه السنة: لم يحج من العراق ولا من الشام ولا من اليمن أحد على العادة، وحج الناس من مصر ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة بطل الحج -على ما قال العتيقي؛ لأنه قال: وبطل الحج سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، لبعد السلطان منها واختلاف بين العرب3.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، لبعد السلطان منها واختلاف بين العرب4.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة لم يحج من العراق أحد، خوفا من الأصفر قال: وبطل الحج سنة اثنين وتسعين وثلاثمائة، لبعد السلطان منها واختلاف بين العرب5.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة لم يحج من العراق أحد، خوفا من الأصفر الأعرابي؛ ذكر ذلك هكذا صاحب "المرآة" وغيره6.
وذكر العتيقي ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وحج بالناس سنة ثلاث وتسعين وأربع وتسعين أبو الحارث بن محمد بنعمر بن يحيى العلوي ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة ست وتسعين وثلاثمائة خطب بمكة والمدينة للحاكم صاحب مصر على جاري7 العادة، وأمر الناس بالحرمين بالقيام عند ذكره، وكذلك كانت عادتهم بمصر والشام8.
ومنها: أنه في سنة سبع سبع وتسعين، وثلاثمائة لم يحج الركب العراقي مع توجههم؛ لاعتراض ابن الجراح لهم بالثعلبية ومطالبته لهم بالمال، فرجعوا إلى بغداد لضيق الوقت عليهم.
وحج الناس من مصر، وبعث الحاكم كسوة الكعبة وما لا لأهل الحرمين، وذكر ذلك صاحب "المرآة" وغيره9.
__________
1 الثعلبية: من منازل الحج بطريق مكة بعد الشقوق وقبل الخزيمة، وهي على ثلثي الطريق.
2 درر الفرائد "ص: 247".
3 المنتظم 7/ 219، البداية والنهاية 1/ 330.
4 نفسه.
5 نفسه.
6 النجوم الزاهرة 4/ 207، البداية والنهاية 11/ 332.
7 النجوم الزاهرة 4/ 210، المنتظم 7/ 227.
8 إتحاف الورى 2/ 432.
9 المنتظم 7/ 234، الكامل 9/ 76، دول الإسلام 1/ 238، البداية والنهاية 1/ 337، إتحاف الورى 2/ 432، 433.(2/268)
ومنها أنه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة لم يحجد من العراق أحد، على ما ذكر صاحب "المرآة"1.
ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج من العراق سنة إحدى وأربعمائة، ورجع الحجاج من بغداد2.
ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة ثلاث وأربعمائة لمسير رجل من القرامطة يعرف بابن عيسى المنتفقي والناير الخويلدي، وجماعة من العرب إلى ظاهر الكوفة، فحاصروها وانصرفوا، وقد فات الحجاج المسير فعادوا من الكوفة إلى بغداد3 ... انتهى.
ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة ست وأربعمائة لخراب الطريق واستيلاء العرب عليه؛ قال: وبطل الحج سنة سبع وأربعمائة بتأخر أهل خراسان4 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة ثمان وأربعمائة لم يحج أحد من العراق، على ما ذكره صاحب "المرآة" وغيره5.
ومنها على ما قال العتيقي" وبطل الحج في سنة تسعه وأربعمائة فخرجوا من بغداد مع عمر بن مسلم؛ فاعترضتهم العرب فيما بين القصر والحاجر، والتمسوا منهم زيادة مع عمر بن مسلم، فاعترضتهم العرب فيما بين القصر والحاجر، والتمسوا منهم زيادة على رسومهم، فرجعوا من القصر، وبطل الحج في هذه السنة6.
وبطل الحج في سنة عشرة وأربعمائة بتأخر ورود أهل خراسان عن الحضور في هذه السنة في الحج7.
وفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة بتأخر ورود أهل خراسان في هذه السنة ... انتهى.
وذكر صاحب "المرآة" ما يوافق ذلك.
ومنها: على ما قال العتيقي وبطل الحج في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، بتأخر ورود أهل خراسان8 ... انتهى.
__________
1 إتحاف الورى 2/ 433، درر الفرائد "ص: 250".
2 دول الإسلام 1/ 240، النجوم الزاهرة 4/ 227.
3 النجوم الزاهرة 4/ 232، المنتظم 7/ 260، درر الفرائد "ص: 251".
4 البداية والنهاية 12/ 2، إتحاف الورى 2/ 443.
5 البداية والنهاية 12/ 6، إتحاف الورى 2/ 444، النجوم الزاهرة 4/ 242.
6 النجوم الزاهرة 4/ 242، درر الفرائد "ص: 252".
7 المنتظم 7/ 293، الكامل 9/ 121، النجوم الزاهرة 4/.
8 إتحاف الورى 2/ 450.(2/269)
ومنها: أنه في سنة أربع عشرة وأربعمائة كان بمكة فتنة، قتل فيها جماعة من الحجاج المصريين ونهبوا بسبببها، وتجرأ بعض الملاحدة على الحجر الأسود فضربه بدبوس، وقد ذكر هذه الحادثة جماعة من أهل الأخبار، منهم ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة أربع عشرة وأربعمائة: ذكر الفتنة بمكة في هذه السنة، كان يوم النفر الأول يوم الجمعة؛ فقام رجل من مصر بإحدى يديه سيف مسلول، وبالأخرى دبوس، بعدما فرغ الإمام من الصلاة فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود فاستلمه، فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس، وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا؛ فإني أريد أن أهدم البيت، فخاف أكثر الحاضرين وترجعوا عنه وكاد يفلت، فثار به وأحرقوا، فثارت الفتنة، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلا، غير ما أخفى منهم، وألح الناس ذلك اليوم على المغاربة من القتلى أكثر من عشرين رجلا؛ غير ما أخفى منهم، وألح الناس ذلك اليوم فلما كان الغد ماج الناس واضطربوا، وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل، وقالوا: نحن مائة رجل؛ فضربت أعناق هؤلاء الأربعة1 ... انتهى باختصار لما يتعلق بأمر الحجر الأسود.
وذكر الذهبي2 هذه الحادثة في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ونقل ذلك عن ابن الأثير عن محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي، وذكر القصة بمعنى ما ذكر ابن الأثير، وزيادة منها: أنه كان على باب المسجد عشرة من الفرسان، على أن ينصروا الذي ضرب الحجر، وأنه كان أحمر أشقر تام القامة جسيما، ونقل عن هلال بن المحسن أن الضارب للحجر كان من استغواهم الحاكم العبيدي صاحب مصر، وأفسد أديانهم على ما قيل ... انتهى.
وذر بعضهم ما يوهم أن هذه الحادثة اتفقت في سنة نيف وستين وأربعمائة، وهذا وهم قطعا، وفي الخبر الذي فيه ذلك أن القاتل للرجل الضارب للحجر رجل من أهل اليمن من السكاسك؛ فالله تعالى يثيبه.
ومنها على ما قال العتيقي: إن الحج بطل من العراق، لتأخر أهل خراسان في سنة خمس عشرة، وفيما بعدها إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة؛ إلا أنه قال في سنة إحدى وعشرين: حج من الكوفة قوم من العرب في قافلة كبيرة، ورجعوا سالمين إلى الكوفة في
__________
1 الكامل 9/ 128، درر الفرائد "ص: 253"، وفي دول الإسلام 1/ 46، المنتظم 8/ 8، 9، والبداية والنهاية 12/ 13، وفي النجوم الزاهرة 4/ 250، وإتحاف الورى 2/ 448: أن ذلك كان سنة "413هـ".
2 دول الإسلام 1/ 46.(2/270)
آخر المحرم، وقال في سنة اثنتين وعشرين: وحج من الكوفة قوم من الرجالة، ومات منهم خلق عظيم في الطريق: وذكر الذهبي: مايوافق ذلك؛ إلا أنه لم يذكر شيئا في سنة خمس عشرة، ولا في سنة اثنتين وعشرين.
ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، لتأخر ورود أهل خراسان، وكان وصولهم إلى بغداد سلخ شوال، وتأخروا عن الخروج، وأقاموا إلى سلخ ذي العقدة، ورجعوا إلى خراسان وحج قوم من الرجالة سيرا1 ... انتهى.
وقال الذهبي في أخبار هذه السنة: ورد من مصر كسوة للكعبة، وأموال للصدقة وصلات لأمير مكة، ولم يحج ركب العراق لفساد الطريق2 ... انتهى.
وقال ابن الأثير في أخبار هذه السنة: خرجت العرب على حجاج البصرة فأخذوهم ونهبوهم، وحج الناس من سائر البلاد إلا من العراق3.
ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة أربع وعشرين وأربعمائة؛ لتأخر أهل خراسان في هذه السنة، وخرج نفر يسير من الرجالة، وعمر الطريق، وقال: وبطل الحج في سنة خمس وعشرين وأربعمائة لتأخر أهل خراسان ... انتهى.
وقال الذهبي في أخبار سنة خمس وعشرين وأربعمائة، لم يحج العراقيون ولا المصريون خوفا من البادية، وحج أهل البصرة مع من يخفرهم؛ فغدروا بهم ونهبوهم4 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة ست وعشرين وأربعمائة، لم يحج أحد من أهل العراق وخراسان5.
ومنها: أنه في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، لم يحج أحد من أهل العراق؛ لفساد البلاد واختلاف الكلمة. وذكر هاتين الحادثتين هكذا ابن كثير6.
ومنها: أنه في سنة ثلاثين وأربعمائة، لم يحج فيها من العراق ومصر والشام أحد؛ ذكر ذلك هكذا الذهبي في "تاريخ الإسلام"، وأما ابن كثير فقال في أخبار هذه السنة: لم يحج فيها أحد من أهل العراق وخراسان7 ... انتهى.
__________
1 المنتظم 8/ 96، الكامل 9/ 160.
2 المنتظم 8/ 76، النجوم الزاهرة 4/ 276، إتحاف الورى 2/ 457.
3 الكامل 9/ 160.
4 البداية والنهاية 12/ 36، إتحاف الورى 2/ 457.
5 المنتظم 8/ 83، الكامل 9/ 166، البداية والنهاية 12/ 37.
6 البداية والنهاية 12/ 40، إتحاف الورى 2/ 458.
7 البداية والنهاية 12/ 45، إتحاف الورى 2/ 459، المنتظم 8/ 100.(2/271)
ومنها: أنه في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، لم يحج فيها أحد من أهل العراق1.
ومنها: أنه في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة لم يحج فيها أحد، ولا في اللواتي قبلها.
ومنها: أنه في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة لم يحج أهل العراق في هذا العام2.
ومنها: أنه في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة لم يحج أحد من ركب العراق في هذا العام3.
ومنها: أنه في سنة أربعين وأربعمائة لم يحج أحد من أهل العراق؛ ذكر هذه الخمس حوادث هكذا ابن كثير4، وذكر ما يقتضي لم يحج أحد من أهل العراق في سنة إحدى وأربعين5، وكذلك عام ثلاثة وأربعين6، وكذلك عام ستة وأربعين7، وكذلك عام ثمانية وأربعين8.
ومنها: أنه في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة لم يحج أحد من أهل العراق في هذه السنة9. وكذلك سنة اثنتين وخمسين؛ غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة، وذهبوا مع طائفة من الحضر10.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة لم يحج أحد في هذه السنة، ذكر هذه الحادثة هكذا ابن كثير11، وذكر اللتين قبلها كما ذكرناه.
ومنها: أنه في سنة خمس وخمسين وأربعمائة حج علي بن محمد الصليحي صاحب اليمن، وملك فيها مكة، وفعل فيها أفعالا جميلة من العدل والإحسان، ومنع المفسدين12.
قال محمد بن هلال الصابي: وورد في صفر -يعني سنة ست وخمسين من الحج- من ذكر دخول الصليحي مكة في سادس ذي الحجة، واستعماله الجميل مع
__________
1 البداية والنهاية 12/ 49، إتحاف الورى 2/ 459.
2 البداية والنهاية 12/ 54، النجوم الزاهرة 5/ 40، درر الفرائد "ص: 254".
3 البداية والنهاية 12/ 56، إتحاف الورى 2/ 262.
4 البداية والنهاية 12/ 57، إتحاف الورى 2/ 262.
5 البداية والنهاية 12/ 59.
6 النجوم الزاهرة 5/ 51، حسن الصفا والابتهاج "ص: 113".
7 البداية والنهاية 12/ 65، درر الفرائد "ص: 254".
8 إتحاف الورى 2/ 465.
9 البداية والنهاية 12/ 84.
10 البداية والنهاية 12/ 85.
11 البداية والنهاية 12/ 87.
12 البداية والنهاية 12/ 89، النجوم الزاهرة 5/ 72، الكامل 10/ 11، المنتظم 8/ 232، العقد الثمين 6/ 238.(2/272)
أهلها، وإظهاره العدل فيها، وأن الحجاج كانوا آمنين أمنا لم يعهدوا مثله؛ لإقامة السياسة والهيبة حتى كانوا يعتمرون ليلا ونهارا وأموالهم محفوظة، ورحالهم محروسة. ويقدم بجلب الأقوات، فرخصت الأسعار وانتشرت له الألسن بالشكر، وأقام إلى يوم عاشوراء، ثم قال: وفي رواية: أقام بمكة إلى ربيع الأول. وذكر ما سبق من تأميره مكة لمحمد بن أبي هاشم المقدم ذكره1 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة اثنين وستين وأربعمائة أعيدت الخطبة العباسية بمكة، وخطب فيها بمكة للسلطان ألب أرسلان السلجوقي مع "القائم" الخليفة العباسي، والفاعل لذلك محمد بن أبي هاشم أمير مكة، على ما ذكر غير واحد من أهل الأخبار؛ منهم ابن الأثير؛ لأنه قال: في أخبار سنة اثنتين وستين وأربعمائة: وفيها ورد رسول لصاحب مكة محمد بن أبي هاشم ومعه ولده إلى السلطان ألب أرسلان، بخبره بإقامة الخطبة للخليفة "القائم" وللسلطان بمكة، وإسقاط خطبة العلوي صاحب مصر، وترك الأذان بحي على خير العمر، فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعا نفيسة، وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار، وقال: لو فعل أمير المدينة منها كذلك أعطيته عشرين ألف دينار، وكل سنة خمسة آلاف دينار2 ... انتهى.
وذكر ابن كثير ما يقتضي أن الخطبة العباسية أعيدت بمكة قبل هذا التاريخ؛ لأنه قال: في أخبار سنة تسع وخمسين وأربعمائة: حج بالناس أبو الغنائم النقيب، وخطب بمكة للقائم بأمر الله العباسي3 ... انتهى.
وذكر بعض مشايخنا في تاريخه ما يقتضي أن ذلك وقع في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، بإشارة النقيب أبي الغنائم، محمد بن أبي هاشم، فعزله أهله على ما فعل، لقطع الميرة من مصر عن مكة ... انتهى بالمعنى.
فهذه ثلاثة أقوال في ابتداء الخطبة العباسية بمكة، والله أعلم بالصواب.
ومنها: أنه في سنة سبع وستين قطعت الخطبة العباسية بمكة، وأعيدت خطبة المستنصر صاحب مصر؛ لإرساله هدية جليلة لابن أبي هاشم، وذكر ذلك ابن الأثير بالمعنى، قال: وكانت مدة الخطبة العباسية بمكة أربع سنين وخمسة أشهر4 ... انتهى.
وذكر ابن الأثير إعادة الخطبة للمستنصر في ذي الحجة من هذه السنة.
__________
1 إتحاف الورى 2/ 469، 470.
2 الكامل 10/ 22، النجوم الزاهرة 5/ 84، تاريخ الخلفاء "ص: 421"، العقد الثمين 1/ 440.
3 تاريخ الخلفاء "ص: 421"، إتحاف الورى 2/ 471.
4 إتحاف الورى 2/ 470.(2/273)
ومنها: أنه في سنة ثمان وستين وأربعمائة أعيدت الخطبة العباسية في ذي الحجة منها، على ما ذكر ابن الأثير وابن كثير؛ إلا أنه لم يقل في ذي الحجة1.
ومنها: كانت بمكة فتنة بين أمير الحجاج العراقي خليع2 التركي، مقطع الكوفة، وبين بعض العبيد؛ لأنه لما حج في هذه السنة نزل في بعض دور مكة، فكبسه بعض العبيد، فقتل منهم مقتله عظيمة، وهزمهم هزيمة شنيعة، وكان بعد ذلك ينزل بالزاهر، ذكر هذه الحادثة بمعنى ما ذكرناه ابن الساعي، فيما نقله عنه ابن كثير3.
ومنها: أنه في سنة سبعين وأربعمائة أرسل وزير الخليفة العباسي من بغداد منبرا هائلا، عمله لتقام عليه الخطبة العباسية بمكة؛ فلما وصل المنبر إليها إذا الخطبة قد أعيدت للمصريين، فكر ذلك المنبر وحرق، ذكر ذلك ابن الجوزي بمعنى ما ذكرناه، وذكر ذلك غيره4.
ومنها: أنه في سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قطعت خطبة المصريين بمكة وخطب فيها للمقتدي والسلطان5.
ومنها أنه في سنة تسع وسبعين وأربعمائة قطعت خطبة المصريين من مكة والمدينة؛ ذكر هاتين الحادثتين هكذا ابن كثير6.
ومنها: أنه في سنة خمس وثمانين وأربعمائة خطب بمكة للسلطان محمد بن السلطان ملك شاة السلجوقي، من بعد وفاة والده، وخطب له أيضا بالمدينة، وفي جميع ممالك أبيه7.
ومنها: أنه في سنة ست وثمانين وأربعمائة -على ما قال ابن الأثير في أخبار هذه السنة- انقطع الحاج من العراق لأسباب أوجبت ذلك، وسار الحاج من دمشق مع أمير أقامه تاج الدولة تتش صاحبها؛ فلما قضوا حجهم وعادوا سائرين؛ سير أمير مكة -وهو محمد بن أبي هاشم- عسكرا فلحقوهم بالقرب من مكة ونهبوا كثيرًا من أموالهم وجمالهم فعادوا إليها أخبروه، وسألوه أن يعيد إليهم ما أخذ منهم، وشكوا إليه بعد
__________
1 المنتظم 8/ 298، الكامل 10/ 36، إتحاف الورى 2/ 478.
2 في البداية والنهاية 12/ 113، والنجوم الزاهرة 5/ 123: "جنغل التركي".
3 البداية والنهاية 12/ 113.
4 المنتظم 8/ 311، البداية والنهاية 12/ 117.
5 المنتظم 8/ 323، البداية والنهاية 12/ 120.
6 الكامل 10/ 59، البداية والنهاية 12/ 131، تاريخ الخلفاء "ص: 425"، المنتظم 9/ 27.
7 البداية والنهاية 12/ 139، إتحاف الورى 2/ 486.(2/274)
ديارهم؛ فأعاد بعض ما أخذه منهم، فلما أيسوا منه ساروا من مكة عائدين على أقبح صورة ... انتهى باختصار لما تم عليهم من البلاء في عودهم من العرب، وأهلك الله ابن أبي هاشم في السنة التي بعد هذه السنة1.
ومنها: أنه في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة لم يحج أحد من الناس، لاختلاف السلاطين2.
ومنها: أنه في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة لم يحج أحد من أهل العراق فيها؛ ذكر هاتين الحادثتين هكذا ابن كثير3.
ومنها: أنه في سنة تسع وثمانين وأربعمائة ذهب للحجاج، وهم نازلون بقرب وادي نخلة كثيرا من الأموال والدواب والأزواد؛ وذلك أنه أصابهم سيل عظيم فأغرقهم، ولم ينج منهم إلا من تعلق بالجبال4.
ومنها: أنه في سنة ست عشرة وخمسمائة لم يحج الركب العراقي، على ما وجدت بخط بعض المكيين5. وأما ابن كثير فقال: وفي سنة ست عشرة وخمسمائة حج الناس، وفيه نظر6.
ومنها: أنه في سنته ثلاثين وخمسمائة لم يحج الركب العراقي على ما وجدت بخط بعض المكيين7.
ومنها: أنه في سنة ثلاثين وخمسمائة لم يحج الركب العراقي، على ما وجدت في "المرآة"8.
ومنها: أنه في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة نهب أصحاب هاشم بن فليتة أمير مكة الحجاج وهم في المسجد الحرام يطوفون ويصلون، ولم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة؛ وذلك لوحشة بين أمير مكة وبين أمير الحاج. ذكر هذه الحادثة بمعنى ما ذكرنا ابن الأثير وغيره9.
__________
1 الكامل 10/ 83، النجوم الزاهرة 5/ 138، درر الفرائد "ص: 257".
2 البداية والنهاية ي12/ 147، إتحاف الورى 2/ 487، درر الفرائد "ص: 258".
3 البداية والنهاية 12/ 149، إتحاف الورى 2/ 488، درر الفرائد "ص: 58".
4 البداية والنهاية 12/ 53، إتحاف الورى 2/ 488، درر الفرائد "ص: 258".
5 إتحاف الورى 2/ 498.
6 البداية والنهاية 12/ 188.؟
7 إتحاف الورى 2/ 505، حسن الصفا "ص: 16".
8 إتحاف الورى 2/ 506.
9 الكامل 11/ 42، البداية والنهاية 12/ 219، العقد الثمين 1/ 326.(2/275)
ومنها: أنه في سنة أربع وأربعين وخمسمائة أقام الحجاج بمكة إلى انسلاخ ذي الحجة من هذه السنة، ونهبهم العرب بعد رحيلهم من مكة في ثالث عشر المحرم سنة خمس وأربعين1.
ومنها: أنه في سنة ست وخمسين وخمسمائة حج السلطان نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد صاحب دمشق وغيرها2.
ومنها: أنه في سنة سبع وخمسين وخمسمائة كانت فيها فتنة بين أهل مكة والحاج العراقي؛ سبببها أن جماعة من عبيد مكة أفسدوا في الحاج بمنى؛ فنفر عليهم بعض أصحاب أمير الحاج برغش فقتلوا منهم جماعة، ورجع من سلم إلى مكة، وجمعوا جموعا أغاروا على جمال الحاج، وأخذوا منها قريبا من ألف جمل؛ فنادى أمير الحاج في جنده فركبوا بسلاحهم، ووقع القتال بينهم، فقتل جماعة، ونهب جماعة من الحجاج وأهل مكة، فرجع أمير الحاج ولم يدخل مكة، ولم يقم الحاج بالزاهر غير يوم واحد، وعاد كثير من الناس رجالة لقلة الجمال، ولقوا شدة، ورجع بعضهم قبل إكمال حجة، وهم الذين لم يدخلوا مكة يوم النحر للطواف والسعي. ذكر هذه الحادثة هكذا ابن الأثير.
وذكر صاحب "المنتظم" أن أمير مكة بعث إلى أمير الحاج يستعطفه ليرجع؛ فلم يفعل، ثم جاء أهل مكة بخرق الدم، فضربت لهم الطبول؛ ليعلم أنهم قد أطاعوا3 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة إحدى وستين وخمسمائة أطلق الحاج من غرامة المكس إكراما لصاحب عدن عمران بن محمد بن الزريع اليامي الهمداني؛ فإنه حمل إلى مكة في هذه السنة ميتا لكونه كان شديد الغرام إلى حج بيت الله الحرام واخترم الحمام، قبل بلوغ المرام، ووقف به بعرفات والمشعر الحرام، وصلي علي خلف المقام، ودفن بالمعلاة، في السنة المذكورة4، والله أعلم؟
ومنها: أنه في سنة خمس وستين وخمسمائة بات الحاج بعرفة إلى الصبح، وخاف الناس خوفا شديدا لما كان بين أمير مكة عيسى بن أخيه عيسى بن فليتة وأخيه ذلك، ولم يحج عيسى وحج مالك5.
__________
1 الكامل 11/ 60، المنتظم 10/ 138، المختصر في أخبار البشر 3/ 22، درر الفرائد "ص: 260، 261".
2 إتحاف الورى 2/ 524.
3 الكامل 11/ 116، المنتظم 10/ 202، العقد الثمين 6/ 468، إتحاف الورى 2/ 525.
4 البداية والنهاية 12/ 251، إتحاف الورى 2/ 528، 529.
5 العقد الثمين 6/ 466.(2/276)
ومنها: أن السلطان نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد صاحب دمشق، خطب له بالحرمين واليمن، لما كان ملكها الملك المعظم توران شاه، أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ذكر هذه الحادثة الملك المؤيد صاحب حماة، وكان ملك توران شاه لليمن في سنة ثمان وستين وخمسمائة، فتكون الخطبة وللسلطان نور الدين بالحرمين في هذه السنة1.
ومنها: أنه في سنة سبعين وخمسمائة بات الحاج العراقي بعرفة، ولم يبت بمزدلفة: ولم يصل إليها إلا في يوم عرفة، ولما دخل أمير الحاج العراقي طاشتكين للوداع، هم أهل مكة بكبسه؛ لمنازعة جرت بين بعض جماعة أمير الحاج وبعض أهل مكة. وسالمهم أمير الحاج إلى أن خرج إلى الزاهر، ثم حصل بين الفريقين قتال يسير بالزاهر بعد ذلك، قتل فيه من أصحاب أمير الحاج: رجلان: وجرح أناس من أهل الحجاز2.
ومنها: أنه في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة لم يتمكن الحجاج العراقيون من إقامة غالب مناسك الحج؛ لفتنة كان بين أميرهم طاشتكين، وبين صاحب مكة مكثر بن عيسى، وكانت فتنة عظيمة اتفقت فيها أمور عجيبة، على ما ذكر غير واحد من أهل الأخبار، منهم ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: في ذي الحجة كان بمكة حرب شديد بين أمير الحاج طاشتكين، وبين الأمير مكثر بن عيسى أمير مكة، وكان قد بنى قعلة على جبل أبي قبيس فلما سار الحاج من عرفات لم يبيتوا بالمزدلفة؛ وإنما اجتازوا بها، ولم يرموا الجمال إنما رمى بعضهم وهو سائر، ونزلوا الأبطح، فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربهم، وقتل من الفريقين. جماعة، وصاح الناس الغزاة إلى مكة، فهجموا عليها، فهرب أمير مكة مكثر، فصعد إلى القلعة التي بناها على جبل أبي قبيس، فحصروه بها، ففارقها وسار عن عكرمة، وولي أخوه داود الإمارة بها، ونهب كثير من الحاج بمكة، وأخذوا من أموال التجار المقيمين بها شيئا كثيرا، وأحرقوا دورا كثيرة.
من أعجب ما جرى أن إنسانا زراقا ضرب دارتا فيها بقارورة نفط فأحرقها، وكانت لأيتام فأحرق ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب مبها مكانا آخر، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها، واحترق هو فيها، فبقي ثلاثة أيام يتعذب بالحريق، ثم مات ... انتهى.
__________
1 إتحاف الورى 2/ 534، العقد الثمين 1/ 188.
2 إتحاف الورى 2/ 535، 536، حسن الصفا "ص: 117".(2/277)
وقد سبق في باب الولاة أن أمير المدينة قاسم بن مهنا الحسيني ولي مكة في هذه السنة بعد هرب مكثر؛ لكون الخليفة المستضيء العباسي عقد له الولاية على مكة، ولما رأى من نفسه العجز عن القيام بأمر مكة ولى فيها أمير الحاج أخا مكثر بن داود بن عيسى، وهذا لا يفهم من كلام ابن الأثير، بل يفهم منه أن الخليفة ولى داود، وما ذكرناه من ولاية الخليفة مكة لأمير المدينة ذكره ابن الجوزي. وكلام ابن الأثير يقتضي أن سبب عزل مكثر بناؤه القلعة على أبي قبيس، وما أظن سبب عزله إلا ما كان من تجرؤوا أهل مكة على أمير الحاج في السنة التي قبلها؛ فإنهم هموا فيها بكبسه فيها، وفعلوا معه ما أوجب غيظه.
ووجدت بخط بعض المكيين أن الحجاج لما نزلوا الأبطح في هذه السنة تقاتلوا مع أهل مكة في يوم النحر، وثانية وثالثة، وفي اليوم الرابع سلم أمير مكة الحصن لأمير الحاج، فهدمه بعد ذلك، وذكر أنه لم يحج من أهل مكة إلا القليل، وذكر ما سبق من إحراق الدور بمكة ونهبها، وأن من الدور المنهوبة الدور التي على أطراف البلد من ناحية المعلاة1.
ومنها: أنه في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة أسقط المكس عن الحجاج إلى مكة في البحر على طريق عيذاب على ما ذكر أبو شامة في "ذيل الروضتين"؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس، بما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل ذلك حبس حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيرا لا يملك شيئا، فرأى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إسقاط ذلك، ويعوض عنه أمير مكة، فقرر معه أن يحمل إليه في كل عام مبلغ ثمانية آلاف أردب قمح إلى ساحل جدة، ووقف على ذلك وقوفا، وخلد بها إلى قيام الساعة معروفا، فانبسط لذلك النفوس، وزاد السرور، وزال البؤس، وصار يرسل أيضا للمجاورين بالحرمين من الفقهاء والشرفاء، ومدحه على ذلك ابن جبير بقصيدة أولها:
رفعت مغارم مكس الحجاز ... بإنعامك الشامل الغامر
وذكر ابن جبي في أخبار رحلته شيئا من أخبار مكة هذا المكس؛ فقال: إنه كان يؤخذ من كل إنسان سبعة دنانير مصرية ونصف، فإن عجز عن ذلك عوقب بأليم العذاب؛ من تعليقه بالاثنيين وغير ذلك، وكانوا يؤدون ذلك بعيذاب، فمن لم يؤدها ووصل جدة، ولم يعلم على اسمه علامة الأداء عذب بها أضعاف العذاب بعيذاب إن لم يؤد، وكانت هذه البلية في مدة دولة العبيديين، وجعلوها معلومة لأمير مكة، وأزالها الله تعالى على يد
__________
1 الكامل 11/ 176، المنتظم 10/ 260، العقد الثمين 4/ 354، إتحاف الورى 2/ 536.(2/278)
السلطان صلاح الدين، وعوض أمير مكة عن ذلك ألفي دينار وألف أردب قمح، وإقطاعات بصعيد مصر وجهة اليمن1 ... انتهى بالمعنى.
ومنها: أنه كان يخطب بمكة للسلطانة صلاح الدين يوسف بن أيوب، وما عرفت وقت ابتداء الخطبة له بمكة، وإنما ابن جبير ذكر في أخبار رحلته أنه كان يخطب بمكة للناصر العباسي2، ثم لمكثر صاحب مكة، ثم للسلطانم صلاح الدين3، وكانت رحلة ابن جبير سنة تسع وسبعين وخمسمائة4.
ومنها: أنه في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ازدحم الحجاج في الكعبة فمات منهم أربعة وثلاثون نفرا ذكر هذه الحادثة ابن القادس، وابن البزوري في "ذيل المنتظم" لابن الجوزي5.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة كانت بعرفة فتنة بين الحجاج العراقيين والشاميين استظهر فيها العراقيون على الشاميين، وقتل من الشاميين جماعة ونهبت أموالهم، وسبي نساؤهم إلا أنهن رددن عليهم، وجرح ابن المقدم -أمير الركب الشامي- جراحات أفضت به إلى الموت في يوم النحر، وسبب هذه الفتنة: أنه لم يسهل على طاشتكين أمير الركب العراقي ما قصده ابن المقدم من الدفع من عرفات قبله، فنهاه عن ذلك؛ فلم يقبل ابن المقدم ذلك، فأفضى الحال إلى قتال الفريقين، فكان ما جرى6.
ومنها: على ما وجدت بخط ابن محفوظ في أخبار سنة سبع وستمائة كانت فيها وقعة عظيمة بمنى، بين الحاج العراقي وأهل مكة، وقتل فيها عبد للشريف قتادة يسمى بلالا، وهي مشهورة بسنة بلالا، وهي مشهورة بسنة بلال ... انتهى.
ولم أر من ذكر هذه الحادثة بين العراقيين وأهل مكة في هذه السنة؛ وإنما رأيت في أخبار هذه السنة أن قتادة صاحب مكة نهب الحاج اليمنى، ولو وقع بينه وبين الفريقين فتنة لذكر ذلك7، والله أعلم.
__________
1 رحلة ابن جبير "ص: 30، 31"، الروضتين 2/ 3، 4، النجوم الزاهرة 6/ 78، العقد الثمين 1/ 189، 7/ 288.
2 هو الناصر بن المستضيء العباس "576 - 622هـ".
3 هو السلطان صلاح الدين الأيوبي.
4 رحلة ابن جبير "ص: 37".
5 إتحاف الورى 2/ 554، العقد الثمين 1/ 189.
6 الكامل 11/ 229، الروضتين 2/ 123، المختصر في أخبار البشر 3/ 73، النجوم الزاهرة 6/ 105، العقد الثمين 2/ 128.
7 إتحاف الورى 3/ 10، درر الفرائد "ص: 269".(2/279)
ومنها: أنه في سنة ثمان وستمائة كان بمنى ومكة فتنة عظيمة، قتل فيها الحجاج العراقيون ونهبوا نهبا ذريعا. وقد ذكر هذه الحادثة جماعة من أهل الأخبار، ولم يشرحوا من أمرها مثل ما شرحه أبو شامة المقدسي في "ذيل الروضتين"، فاقتضى ذلك ذكرنا لما ذكره، ونتبع ذلك بما لم يذكره، ولما خولف فيه، ونصه ما ذكره أبو شامة في أخبار هذه السنة: فيها نهب الحاج العراقي، وكان حج بالناس من العراق علاء الدين محمد بن ياقوت نيابة عن أبيه ومعه ابن أبي فراس يفقهه ويدبره. وحج من الشام الصمصام إسماعيل أخو شاروخ النجمي على حاج دمشق، وعلى حاج المقدس: الشجاع علي بن سلار، وكانت ربعية خاتون أخت الملك العادل في الحاج؛ فلما كان يوم النحر بمنى بعد ما رمى الناس الجمرة، وثب الإسماعيلية على رجل شريف من بني عم قتادة أشبه الناس به؛ وظنوه إياه، فقتلوه عند الجمرة. ويقال: إن الذي قتله كان مع أم جلال الدين، وثار عبيد مكة والأشراف، وصعدوا على الجبلين بمنى، وهللوا وكبروا وضربوا الناس بالحجارة والنبل والمقاليع والنشاب، ونهبوا الناس يوم العيد والليلة واليوم الثاني، وقتل من الفريقين جماعة؛ فقال ابن أبي فراس لمحمد بن ياقوت: ارحلوا بنا إلى الزاهر منزلة الشاميين؛ فلما حملت الأثقال على الجمال حمل قتادة أمير مكة والعبيد، فأخذوا الجميع إلا القليل. وكانت ربيعة خاتون بالزاهر ومعها ابن السلار وأخو شاروخ أمير حاج الشام، فجاء محمد بن ياقوت أمير الحج العراقي، فدخل خيمة ربيعة خاتون مستجيرا بها، ومعه خاتون أم جلال الدين.
فبعثت ربيعة خاتون مع أبن السلار إلى قتادة تقول له: ما ذنب الناس؟ قد قتلت القاتل وجعلت ذلك وسيلة إلى نهب المسلمين، واستحللت الدماء في الشهر الحرام في الحرم والمال، وقالت له: قد عرفت من نحن، والله لئن لم تنته لأفعلن وأفعلن؛ فجاء إليه ابن السلار فخوفه وهدده، وقال: ارجع عن هذا وإلا قصدك الخليفة من العراق، ونحن من الشام؛ فكف عنهم وطلب مائة ألف دينار وإلا قصدك الخليفة من العراق، ونحن من الشام، فكف عنهم وطلب مائة ألف دينار، فجمعوا له ثلاثين ألفا من أمير الحاج العراقي، ومن خاتون أم جلال الدين، وأقام الناس ثلاث أيام حول خيمة ربيعة خاتون، بين قتيل وجريح ومسلوب وجائع وعريان.
وقال قتادة: ما فعل هذا إلا الخليفة، ولئن عاد يقرب أحد من بغداد إلى هنا لأقتلن الجميع.
ويقال: إنه أخذ من المال والمتاع وغيره ما قيمته ألف ألف دينار، وأذن الناس في الدخول إلى مكة، فدخل الأصحاء والأقوياء، فطافوا وأي طواف، ومعظم الناس ما(2/280)
دخل، ورحلوا إلى المدينة ودخول بغداد على غاية الفقر والذل والهوان، ولم ينتطح فيها عنزان1 ... انتهى.
وأما قول أبي شامة: ولم ينتطح فيها عنزان، فسببه أن قتادة أرسل ولده، راجحا وجماعة من أصحابه إلى بغداد؛ فدخلوا ومعهم السيوف مسلولة، والأكفان، فقبلوا العتبة، واعتذروا مما جرى على الحاج، فقبل عذرهم، ووصل قتادة في سنة تسع وستمائة مع الركب العراقي مال وخلع، ولم يظهر له إنكار فيما تقدم من نهب الحاج؛ ولكنه استدرج باستدعائه بالحضور إلى بغداد فلم يفعل. وقال في ذلك أبياتا مشهورة, وذكر ابن الأثير ما يقتضي أن الحجاج العراقيين رحلوا من منى ونزلوا على الحجاج الشاميين بمنى، ثم رحلوا جميعا إلى الزاهر؛ لأنه قال بعد أن ذكر مبيت الحجاج بمنى بأسواء حال من خوف القتل والنهب في الليلة التي تلي يوم النحر: فقال بعض الناس لأمير الحاج: انتقل بالناس إلى منزلة حجاج الشام؛ فأمر الناس بالرحيل، ثم قال بعد أن ذكر نهبهم في حال رحلتهم: والتحق من سلم بحجاج الشام، فاجتمعوا بهم، ثم رحلوا إلى الزاهر ... انتهى.
وهذا يخالف ما ذكره أبو شامة، فإن كلامه يقتضي أن العراقيين لما رحلوا من منى نزلوا على الشامين بالزاهر.
وذكر ابن الأثير أن القاتل للشريف بمنى كان باطنيا2.
وذكر ابن سعيد المغربي هذه الحادثة في تاريخه، وذكر فيها أن القاتل للشريف بمنى شخص مجهول، فظن الأشراف أنه خشيش3 فقتلوه. وذكر قتلهم للحجيج العراقيين ونهبهم لهم بمنى، ثم قال: وفعلوا مثل ذلك بمن كان الحاج في مكة، وذكر ما سبق في أخذ أهل مكة ثلاثين ألف دينار من الحجاج العراقيين على تمكينهم من دخول مكة، لطواف الإفاضة.
وذكر ابن محفوظ هذه الحادثة، وذكر فيها أن القاتل للشريف بمنى خشيش، وأن المقتول يسمى هارون، ويكنى أبا عزيز، ثم قال: وخرج من كان بمكة من نواب الخليفة ومن المجاورين، مثقلين من مكة سائر الأقطار4 ... انتهى باختصار.
__________
1 الذيل على الروضتين "ص: 78، 79" والكامل 12/ 23، العقد الثمين 7/ 47 - 49، مرآة الجنان 4/ 15، البداية والنهاية 13/ 62.
2 الكامل 12/ 123.
3 الخشيش هو الدخيل بلغة العامة في الحجاز، وفي العقد الثمين 7/ 49: "أن الأشراف قتلوا القاتل بمنى وظنوا أنه حشيش" والحشيش هو من ينتسب إلى الطائفة الإسماعيلية الذين نشؤوا في قلعة "الموت".
4 الكامل 12/ 123.(2/281)
ومنها: أنه في سنة إحدى عشرة وستمائة حج الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وتصدق في الحرمين بمال عظيم، وحمل النقطتين وزودهم وأحسن إليهم، وجدد البرك والمصانع، وراعى في حجة ما يطلب فعله، ومما فعله من ذلك: أنه باب بمنى ليلة عرفة وصلى بها الصلوات الخمس، ثم سار إلى عرفة، ولما وصل إلى مكة تلقاه قتادة وحضر في خدمته؛ فقال له المعظم: أين ننزل؟ فقال قتادة: هناك، وأشار بسوطه إلى الأبطح، فاستكثر ذلك منه المعظم؛ لأن صاحب المدينة أنزل المعظم في داره بالمدينة، وسلم إليه مفاتيح المدينة، وبالغ في خدمته والإهداء إليه، ولأجل ذلك أعان المعظم أمير المدينة بجيش حارب به قتادة1.
ومنها: أنه كان يخطب بمكة للعادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر والشام، وأظن أن ذلك بعد ملك حفيده الملك المسعود ابن الملك الكامل ابن العادل لليمن، وكان ملكه لليمن في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وقيل: سنة إحدى عشرة وستمائة
ومنها: أنه قس شنة تشع عشرة وستمائة، كان بمكة وقت الحج فتنة غلقت فيها أبواب مكة دون الحجاج، وقتل فيها أمير الحجاج العراقيين أقباش الناصري؛ وسبب ذلك: أنه لما حج في هذه السنة اجتمع به في عرفات راجح بن قتادة، وسأله أن يوليه إمرة مكة؛ لأن أباه مات في هذه السنة فلم يجبه أقباش، وكان مع أقباش خلع وتقليد لحسن بن قتادة، فظن حسن أن أقباش ولي أخاه، فأغلق أبواب مكة، ووقعت الفتنة بين لحسن بن قتادة، على رمح، فنصبه بالمسعى عند دار العباس، ثم رده إلى جسده ودفنوه بالمعلاة، وأراد حسن نهب الحاج العراقي، فمنعه أمير الحاج الشامي وخوفه من الأخوين: الكامل ملك مصر والمعظم ملك دمشق2، وذكر ما يدل على أن حسن لم يكن له علم بما صنعه أصحابه مع أقباش؛ لأنه قال: قلت: وكان في حاج الشامي في هذه السنة شيخنا فخر الدين أبو منصور بن عساكر؛ فأخبرني بعض الحجاج في ذلك العام أن حسن بن قتادة أمير مكة جاء إليه وهو نازل داخل مكة، فقال له: قد أخبرت أنك خير أهل الشام، فأريد أن تسير
__________
1 النجوم الزاهرة 6/ 211، درر الفرائد "ص: 272"، البداية والنهاية 13/ 67، الذيل على الروضتين "ص: 87" العقد الثمين 7/ 24، إتحاف الورى 3/ 19.
2 الذيل على الروضتين "ص: 132"، السلوك 1/ 1: 213، العقد الثمين 4/ 171، 7/ 493.(2/282)
معي إلى داري فلعل بركات تزول هذه الشدة؛ فسار معه إلى داره جماعة من الدمشقيين، فأكلوها شيئا، فما استتم خروجهم من عنده حتى قتل أقباش، وزال ذلك الاستيحاش ... انتهى.
وذكر ابن الأثير ما يقتضي أن هذه القضية كانت في سنة ثمان عشرة وستمائة1، وأن أقباش أجاب إلى تولية راجح؛ لأنه ذكر موت قتادة في هذه السنة، ثم قال بعد شرح شيء من حاله: فلما سار حجاج العراق كان الأمير عليهم مملوكا من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش، وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق كثير الحماية، فقصده راجع بن قتادة، وبذل له وللخليفة مالًا يساعده على مالك مكة، فأجابه إلى ذلك ووصلوا إلى مكة، فنزلوا بالزاهر، وتقدم إلى مكة مقاتلا لصاحبها حسن، وكان قد جمع جموع كثيرة من العرب وغيرها؛ فخرج إليه من مكة وقاتله، وتقدم أمير الحاج من بين عسكره منفردا، وصعد جبلا إدلالا بنفسه، وأنه لا يقدم أحد عليه، فاحتاط به أصحاب حسن وقتله، وعلقوا رأسه، فانهزم عسكر أمير الحاج، وأحاط أصحاب حسن بالحاج لينهبوهم؛ فأرسل إليهم حسن عمامته أمانا للحاج؛ فعاد أصحابه عنهم ولم ينهبوا منهم شيئا.
وسكن الناس، وأذن لهم في دخول مكة، وفعل ما يريدون من الحج وغير ذلك، وأقاموا بمكة عشرة أيام، وعادوا فوصلوا إلى العراق سالمين، وعظم الأمر على الخليفة، فوصلته رسل حسن تعتذر وتطلب العفو منه، فأجيب إلى ذلك2.
ومنها: أنه في سنة سبع وعشرة وستمائة لم يحج أحد من العجم بسبب التتار، على ما ذكره أبو شامة في "ذيل الروضتين"3.
ومنها: أنه في سنة تسع عشرة وستمائة مات بالمسعى جماعة من الزحام؛ لكثرة الخلق الذين حجوا في هذه السنة من العراق والشام4. وفيها حج من اليمن صاحبها الملك المسعود، وبدا منه ما هو غير محمود، على ما ذكر أبو شامة؛ لأنه قال: قال أبو المظفر -يعني سبط ابن الجوزي: وحج بالناس من اليمن أقسيس بن الملك الكامل، ولقبه المسعود، في عسكر عظيم، فجاء إلى الجبل، وقد لبس هو وأصحابه السلاح، ومنع علم الخليفة أن يصعد به إلى الجبلِ، وأصعد علم أبيه الكامل وعلمه، وقال لأصحابه: إن أطلع البغاددة علم الخليفة فاكسروه وانهبوه، ووقفوا تحت الجبل من الظهر
__________
1 الكامل 12/ 170.
2 إتحاف الورى 3/ 43 - 36، مفرج الكروب 4/ 125.
3 إتحاف الورى 3/ 31، الذيل على الروضتين "ص: 122".
4 إتحاف الورى 3/ 37، الذيل على الروضتين "ص: 132".(2/283)
إلى غروب الشمس يضربون الكوسات ويتعرضون للعراقي، وينادون: يا ثارات ابن المقدم؛ فأرسل ابن فراس أباه شيخا كبيرا إلى أقسيس، وأخبره بما يجب من طاعة الخليفة وما يلزمه في ذلك من الشناعة؛ فيقال إنه أن في صعود العلم قبيل الغروب، وقيل: لم يأذن، قال: وبدا من أقسيس هذا في تلك السنة جبروت عظيم، حكى لي شيخنا جمال الدين الحصيري قال: رأيت أقسيسا قد صعد على قبة زمزم، وهو يرمي حمام مكة بالبندق، قال فرأيت غلمانه في المسعى يضربون الناس بالسيوف في أرجلهم، ويقولون: اسعوا قليلا قليلا فإن السلطان نائم سكران في دار السلطنة التي بالمسعى، والدم يجري من سيقان الناس.
قلت: واستولى أقسيس هذا على مكة وأعمالها، وأذل المفسدين فيها وشتت شملهم، وهو الذي بنى القبة على ماقام إبراهيم عليه السلام، وكثر الجلب إلى مكة من مصر واليمن في أيام، فرخصت الأسعار، ولعظم هيبته قلت الأشرار وأمنت الطرق والديار1 ... انتهى.
وذكر ابن الأثير ما يقتضي أن حج الملك المسعود ومنعه من طلوع علم الخليفة كان في سنة ثمان عشرة وستمائة؛ بعد ذكره لشيء من خبر قتادة وابنه حسن، وخبر أقباش: وفي هذه السنة حج بحجاج الشام كريم الدين الخلاطي، وحضر الملك المسعودي صاحب اليمن مكة، ومنع أعلام الخيفة من الطلوع إلى جبل عرفات، ومنع حاج العراق من الدخول إلى مكة يوما واحدا، ثم بعد ذلك لبس خلعة الخليفة، واتفق الأمر، وفتح باب مكة، وحج الناس، وطابت قلوبهم2 ... انتهى.
وهذ الذي ذكره ابن الأثير من منع الملك المسعودي للحاج العراقي من دخول مكة، لم أره لغيره، والله أعلم ... انتهى.
ومنها: أن أبا شامة قال في أخبار سنة إحدى سنة إحدى وعشرين وستمائة: وهي أول السنين الأربع المتصلة التي وجدت الحج فيها هنيئا مريئا من رخص الأسعار، والأمن في الطرق الشامية وبالحرمين، أما في المدينة: فسببه أن أميرها كان من أتباع صاحب الشام الملك المعظم عيسى؛ فكان يدور الحرس على الحج الشامي ليلا وأما بمكة: فسببه أنها صارت في المملكة الكاملية المسعودية، فانقمع بها المفسد، وسهل على الحجاج أمر دخول الكعبة، فلم يزل بابها مفتوحا ليلا ونهارا مدة مقام الحج فيها، وكان الكامل قد
__________
1 إتحاف الورى 3/ 37، الذيل على الروضتين "ص: 132".
2 الكامل 12/ 170، العقد الثمين 4/ 170، مفرج الكروب 4/ 125.(2/284)
أرضي بني شيبة سدنة الكعبة بمال أطلقه لهم عما كانوا يأخذونه بإغلاق الباب وفتحه لمن أرادوا، وكان الناس ينالون من ذلك شدة، ويزدحمون عند فتح الباب، ويتسلق بعضهم على رقاب بعض؛ لأن الباب مرتفع عن الأرض بنحو قامة رجل، فيقع بعضهم على بعض، فيموت وينكسر بعض، ويشج بعض، فزال ذلك عن الناس تلك السنة وما بعدها مدة بقاء مكة في المملكة الكاملية1 ... انتهى.
ومنها: أنه كان يخبط بمكة للملك الكامل ابن الملك العادل صاحب الديار المصرية، وأظن أن ملك ابنه الملك المسعود مكة، وقد سبق أنه ملك مكة بعد أبيه المسعود، وما جرى بين عساكره وعساكر صاحب اليمن الملك المنصور نور الدين عمر علي بن رسول في أمر ولاية مكة، واستيلاء عسكر كل منهم عليها حينا، وكان يخطب لكل منهما في حال استيلاء عسكره على مكة، والله أعلم.
ومنها: أنه في سنة خمس وعشرين وستمائة، وفي سنة ست وعشرين، وسبع وعشرين وستمائة، لم يحج أحد من الناس من الشام في هذه الثلاث سنين، على ما ذكر ابن كثير2. وذكر أبو شامة ما يدل لذلك؛ لأنه قال في أخبار سنة أربع وعشرين: وانقطع ركب الحج بعدها، بسبب ما وقع بالشام من الاختلاف والفتن3 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة أربع وعشرين، وستمائة حج ميافارقين4 سلطانها الشهاب غازي بن العادل بن أبي بكر بن أيوب، وكان ثقله على ستمائة جمل، على ما ذكر سبط ابن الجوزي5.
ومنها: أنه في سنة تسع وعشرين وستمائة خطب بمكة للملك المنصور نور الدين صاحب اليمن، وهي أول سنة خطب له فيها بمكة، وكان يخطب له في المدة التي تكون في ولاية عسكره.
ومنها: أنه في سنة إحدى وثلاثين وستمائة حج الملك المنصور نور الدين صاحب اليمن على النجب حجا هنيا، ورجا أن يصله بمكة تقليد من الخيلفة المستنصر بإرسال ذلك إليه إلى عرفة؛ فلم يصله ذلك في سنة حجه، ووصله في التي بعدها.
__________
1 الذيل على الروضتين "ص: 144، 143".
2 البداية والنهاية 13/ 127، الذيل على الروضتين "ص: 154، 158، 159"، إتحاف الورى 3/ 44، 46، 48.
3 الذيل على الروضتين "ص: 151".
4 هي أشهر مدن ديار بكر "بتركيا حاليا" "مراص الاطلاع 3/ 1341".
5 الذيل على الروضتين "ص: 159".(2/285)
ومنها: أنه في سنة أربع وثلاثين وستمائة، على ما ذكر ابن البزوري، لم يحج فيها ركب العراق1، ولم يحج أيضا العراقيون خمس سنين متوالية بعد هذه السنة، من سنة خمس وثلاثين إلى سنة أربعين2، ذكر ذلك ابن البزوري في "ذيل المنتظم"، ووجدت بخط ابن محفوظ ما يقتضي أن الحجاج العراقيين لم يحجوا في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة؛ لأنه قال في أخبار سنة أربعين وستمائة: وحج العراقي في تلك السنة بعد أن أقام سبع سنين لم يحج ... انتهى.
ولا يستقيم ما ذكره من أن العراقي لم يحج سبع سنين إلا بأن يكون انقطع من الحج سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
ومنها أنه في سنة سبع وثلاثين وستمائة خطب بمكة لصاحب مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل أخي الملك المسعود، وقد سبق ما مكان بين عسكره وعسكر صاحب اليمن المنصور من استيلاء كل من العسكرين على مكة حينا3.
ومنها: أنه في سنة تسع وثلاثين وستمائة حج الملك المنصور نور الدين عمر بن علي ابن رسول صاحب اليمن، وصام رمضان في هذه السنة بمكة. وفيها أبطل السلطان نور الدين المذكور عن مكة سائر المكوسات والجبايات والمظالم، وكتب بذلك مربعة، وجعلت قبالة الحجر الأسود، ودام هذه المربعة إلى أن قعلها ابن المسيب لما ولي بمكة في سنة ست وأربعين وستمائة، وأعاد الجبايات والمكوس بمكة4.
ومنها: أن في سنة أربع وأربعين وستمائة، وسنة خمس وأربعين وستمائة، لم يحج الحاج العراقي على ما وجدت بخط ابن محفوظ5.
ومنها: على ما وجدت بخطه أن في سنة خمسين وستمائة، فيها حج العراقي6، ولم يذكر أنه حج فيما بين سنة خمس وأربعين وهذه السنة؛ وذلك مشعر بتخلف العراق عن الحج في هذه السنة، والله أعلم.
ومنها: أنه في سنة اثنتين وخمسين وستمائة خطب بمكة لصاحب مصر الملك الأشرف موسى ابن الملك الناصر يوسف ابن الملك المسعود أقسيس ابن الملك الكامل،
__________
1 البداية والنهاية 13/ 145، السلوك 1/ 1: 255، مرآة الجنان 4/ 58، النجوم الزاهرة 6/ 296، شذرات الذهب 5/ 162، الذيل على الروضتين "ص: 165".
2 إتحاف الورى 2/ 55، 58، والسلوك 1/ 2: 312، وغاية الأماني 1/ 425.
3 العقود اللؤلؤية 1/ 64، غاية الأماني 1/ 424، إتحاف الورى 3/ 56، العقد الثمين 6/ 346.
4 العقود اللؤلؤية 1/ 96، السلوك 1/ 2: 313، العقد الثمين 6/ 347.
5 إتحاف الورى 3/ 64، 65، درر الفرائد "ص: 277"، البداية والنهاية 13/ 182.
6 العقد الثمين 4/ 176، السلوك س1/ 2: 385، دول الإسلام 5/ 157، البداية والنهاية 13/ 182.(2/286)
ولأتابك الملك المعز أيبك التركماني الصالحي. وفيها تسلطن أيبك المذكور في شعبة 1.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وخمسين وستمائة كادت أن تقع الفتنة بين أهل مكة والركب العراقي، وسكن الفتنة الملك الناصر داود بن العظم عيسى صاحب الكرك، بعد أن ركب أمير الحاج العراقي بمن معه للقتال؛ لأن الناصر اجتمع بأمير مكة، وأحضره إلى أمير الحاج مذعنا بالطاعة، وقد حمل عمامته في عنقه، فرضي أمير الحاج وخلع عليه، وزاده على ما جرت به العادة من الرسم، وقضى الناس حجتهم، وهم داعون للمك الناصر شاكرون صنعه2.
ومنها: على ما وجدت بخط الشيخ أبي العباس الميورقي أنه لم يحج سنة خمس وخمسين وستمائة من الآفاق ركب سوى حجاج الحجاز ... انتهى.
وما عرفت المانع لحجاج مصر والشام من الحج في هذه السنة، وأما العراقيون، فالمانع لهم التتار؛ لإفسادهم فيها وقصدهم الاستيلاء على بغداد، وتم لهم ذلك في سنة ست وخمسين، وقتلوا الخليفة المستعصم وغيره من الأعيان وغيرهم، وأسرفوا في القتل، حتى قيل إن هولاكو ملك التتار أرم بعد القتلى، فبلغوا ألفًا وثمانمائة ألف، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكثر بعد هذه السنة انقطاع الحجاج العراقيين من الحج، ولا سيما في بقية هذا القرن، فإني لا أعلم من حجهم في ذلك إلا اليسير، كما سيأتي بيانه. ولم يبق للحجاج العراقيين تقدم في أمر الحج وفي مشاعره، كما كان لهم ذلك في زمن الخلفاء العباسيين؛ لأن التتار بعد إزالتهم للخلافة العباسية من بغداد لم تكن لهم ولاية على الحرمين، وصار التقدم في إقامة الحج بمشاعره لأمير الحاج المصري، لكون السلطان بالديار المصرية نافذ الأمر في الحرمين الشريفين، ويقوم بمصالحهم من كسوة البيت الحرام. وأول من قام بذلك بعد العباسيين والخلفاء من ملوك مصر الملك الظاهر بيبرس البندقدراي الصالحي3، وقام بذلك بعده ملوك مصر، إلا أن كسوة الكعبة، صارت تعمل من غلة4 قرية ظاهرة القاهرة، وقفها الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر، على كسوة الكعبة في كل سنة، ومع ذلك فيكتب في كسوة الكعبة اسم السلطان بمصر، وكان أمر بيبرس نافذا في الحجاز، وخطب له به، وكذلك غالب من بعده من ملوك مصر، والذي أشك في الخطبة لهم بمكة من
__________
1 العقد الثمين 1/ 191، إتحاف الورى 3/ 76.
2 النجوم الزاهرة 7/ 34، البداية والنهاية 13/ 186، درر الفرائد "ص: 279"، إتحاف الورى 3/ 78.
3 هو المؤسس الحقيقي لدولة المماليك البحرية في مصر والشام.
4 "غلة": هي خرقة تشد على رأس الإبريق، والغلة: ما يواري الإناء. والجمع: غلل. "المعجم الوسيط: 684".د(2/287)
ملوك مصر بعد الظاهر بيبرس أبناءه: السعيد، وسلامش، والعادل كتبغا، ولاجين المنصوري، ويغلب على ظني أنه خطب لجميعهم غير سلامش؛ إلا أنه ربما قطعت خطبة بعضهم من مكة حينا، وخطب عوضه لصاحب اليمن، واتفق ذلك لصاحب مصر الأشرف خليل ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا يبعد أن يكون اتفق قبل ذلك للمنصور قلاوون وللظاهر بيبرس وابنه السعيد، والله تعالى أعلم، لاضطراب حال أبي نمي أمير مكة في الميل حينا إل صاحب اليمن، وحينا إلى صاحب مصر.
وأما ملوك مصر بعد الأشراف خليل غير كتبغا ولاجين، فما علمت أن أحدا منهم انقطعت خطبته من مكة، إلا ما قيل من أن حميضة بن أبي نمي لما استولى على مكة بعد رجوعه من العراق، قطع خطبة الملك الناصر صاحب مصر، وخطب لملك العراق أبي سعيد بن خرابندة؛ وذلك في آخر سنة سبع عشرة، أو في أول سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وبضع ملوك مصر هؤلاء لم يخطب له بمكة، وهو المنصور عبد العزيز بن الملك الظاهر برقوق1، لقصر مدته؛ فإنها كانت سبعين يوما في مدة اختفاء أخيه الناصر فرج، وما اتفق أنه أرسل نجابا إلى مكة يخبر بولايته، وحتى يخطب له؛ ولكن وصل الخبر بذلك من غير نجاب له، فترك الخطيب الخطبة للناصر، وصار يدعو لصاحب مصر بها، فلما عاد الناصر إلى السلطنة صرح باسمه في الخطبة، وكان ذلك في النصف الأول من سنة ثمان وثمانمائة، وكان للملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي من نفوذ الكلمة بالحجاز ما لم يكن لأحد قبله من م لوك الترك بمصر، بسبب أن الملك الناصر المذكور أرهب أولاد أبي نمي بالولاية، والعزل لهم في أمر مكة، والقبض على بعضهم، وتجهيز العساكر غير مرة إلى مكة، والقبض على بعضهم، وتجهيز العساكر غير مرة إلى مكة لإصلاح أمرها، وتقوية من يوليه أمرها، وتم لملوك مصر بعد الملك الناصر مثل ما تم له من كثرة نفوذ أوامرهم بالحجاز، وانفردوا بالولاية فيه دون ملوك اليمن وغيرهم.
ومنها: أنه في سنة تسع وخمسين وستمائة حج الملك المظفر يوسف ابن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي ابن رسول صاحب اليمن، وتصدق بصدقة جيدة عمت الناس، وغسل الكعبة بنفسه، وطيبها، ونثر عليها الذهب الفضة، وكسا البيت، وقام بما يطلب من مصالح الحرم وأهله، وهو أول من كسا البيت بعد الخلفاء العباسيين، وقام بمصالح الحرم، وتولى ذلك مع تولي ملوك مصر له في سنين، كان يخطب له في مكة في غالب مدة سلطنته، وخطب بمكة من بعده لذريته ملوك اليمن إلى تاريخه بعد ملوك مصر2.
__________
1 هو ثالث ملوك الجراسكة، وهو أخو الناصر فرج بن برقوق.
2 العقود اللؤلؤية 1/ 133 - 135، غاية الأمان 1/ 450، العقد الثمين 2/ 239.(2/288)
ومنها على ما قال الميورقي: إنه لم ترفع راية لملك من الملوك سنة ستين، كسنة وخمس وخمسين وستمائة ... انتهى منقولا من خطه، وأراد بذلك وقت الوقوف بعرفة1.
ومنها: أنه في سنة ست وستين وستمائة، على ما قال الظهير الكازروني في ذيله، أمن الصاحب عن طريق الحجاز، وتوجه الحاج من بغداد في أمن ... انتهى.
وهذه السنة أول سنة حج فيها العراقيون بعد استيلاء التتار على بغداد فيما علمت2.
ومنها: أنه في سنة سبع وستين وستمائة حج السلطان الظاهر بيبرس الصالحي صاحب مصر والشام، في ثلاثمائة مملوك وجماعة من أعيان الخليفة وغيرهم، وتصدق في الحرمين بمال عظيم، وأحسن إلى أمراء الحجاز؛ إلا أمير المدينة جماز بن شيحة وابن أخيه مالك بن منيف؛ لأنهما لم يواجهاه خوفا منه، وغسل الكعبة بنفسه، وزاد أميري مكة إدريس بن قتادة وأبا نمي جملة من المال والغلال في كل سنة بسبب تسبيل المسجد الحرام3.
ومنها: على ما وجدت بخط ابن محفوظ أن في سنة سبع وستين وستمائة: لم يحج فيها أحد من مصر لا في البر ولا في البحر4 ... انتهى.
ومنها: على ما قال الظهير الكازروني في أخبار سنة تسع وستين وستمائة: وحج الناس من بغداد5 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة أربع وسبعين وستمائة أقام الحجاج بمكة ثمانية عشر يوما، وبالمدينة عشرة أيام، وهذا شيء لم يعهد، ذكر هذه الحادثة ابن الجزري6.
ومنها على ما وجدت بخط الميورقي: أنه في الخميس رابع عشر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة ازدحم الحجاج في خروجهم إلى العمرة من باب المسجد
__________
1 إتحاف الورى 2/ 87، العقد الثمين 1/ 192، درر الفرائد "ص: 280".
2 إتحاف الورى 3/ 92.
3 البداية والنهاية 13/ 254، 255، السلوك 1/ 2: 580، الذهب المسبوك "ص: 89، 93"، النجوم الزاهرة 7/ 146، إتحاف الورى 3/ 95.
4 إتحاف الورى 3/ 98.
5 العقد الثمين 1/ 192، السلوك 1/ 2، درر الفرائد "ص: 283".
6 إتحاف الورى 3/ 104، درر الفرائد "ص: 284"، السلوك 1/ 2: 624، تاريخ الملك الظاهر لابن شداد "ص: 137".(2/289)
الحرام المعروف بباب العمرة؛ فمات بالزحمة جمع كثير يبلغون ثمانين نفرا، وقال لنا مكي: عدد خمسة وأربعين ميتا ... انتهى باختصار.
ووجدت هذه الحادثة بخط غيره، وذكر أنها في ثالث عشر ذي الحجة، وأنها اتفقت حين خرج إلى العمرة من باب العمرة من المسجد الحرام1.
ومنها: أنه في سنة ثماني وستمائة وقف الناس بعرفة يومين يوم الجمعة والسبت احتياطا، وذكر هذه الحادثة ابن الفركاح في "تاريخه"2.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وثمانين وستمائة كان بين أبي نمي صاحب مكة وأمير الحج المصري علم الدين الباشقردي كلام، أفضى إلى أن أغلق أبو نمي أبواب مكة، ولم يمكن أحدا من دخولها؛ فلما كان يوم التروية أحرق الحجاج باب المعلاة، ونقبوا السور، وهجموا على البلد؛ فهرب أبو نمير وجمعه، ودخل الناس مكة، ووقع الصلح بينهم وبينأه لمكة على يد صاحب بدر الدين السنجاري، وذكر بعضهم أن سبب هذه الفتنة أن بعض أمراء بني عقبة حج في هذه السنة، وكان بينهم وبين أبي نمي معاداة، فتخيل أبو نمير أنه إنما جاء ليأخذه معه؛ فغلق أبوابها ولم يمكن أحدا من دخولها؛ فكان ما ذكرناه، وقد ذكر هذه الحادثة ابن الفركاح تاج الدين مفتي الشام، بمعن ما ذكرناه مختصرا. وقال بعد ذكره لها: أإن من الحجاج في هذه السنة بدر الدين بن جماعة، وأنه له في ذلك؛ فقال: السنة ما أحج، ولا بد أن تقع في مكة فتنة. قال: وهذا من كراماته، نفعنا الله به3.
ومنها:" أنه في سنة ثمان وثماني وستمائة، على ما ذكر ابن الفركاح، وصل من العراق ركب كبير، ولم يصل ركب اليمن؛ وإنما جاء منهم آحاد، ووقف الناس يومين يوم الجمعة ويوم السبت؛ لأنه ثبت عند القاضي جلال الدين ابن القاضي حسام الدين، وكان في الركب الشامي: أن أول الشهر كان يوم الخميس، ولم يوافقه الشيخ محب الدين الطبري شيخ مكة وفقيه الحجاز، وقال: كان أول الشهر الجمعة4 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة تسع وثمانين وستمائة -على ما قال ابن الفركاح- كانت فيها فتنة بين الحجاج وأهل مكة، وتقاتلوا في الحرم، وكان الأصل في ذلك أجناد من
__________
1 السلوك 1/ 2: 650، درر الفرائد "ص: 284"، إتحاف الورى 3/ 109، 110.
2 إتحاف الورى 3/ 113.
3 العقد الثمين 1/ 192، السلوك 1/ 3: 724، إتحاف الورى 3/ 116، 117.
4 إتحاف الورى 3/ 120، درر الفرائد "ص: 287".(2/290)
المصريين، بسبب فرس؛ فانتهى الأمر إلى أن شهرت السيوف بالحرم الشريف، نحوا من عشرة آلاف سيف، ونهبت جماعة من الحجاج وجماعة الحجازيين، وقتل من الفريقين جمع كثير، قيل فوق أربعين نفسا، وجرح خلق كثير، ولو أراد الأمير أبو نمي أخذ الجميع أخذهم؛ ولكنه تثبت ... انتهى.
وقال ابن الجزري في أخبار سنة تسع وثمانين وستمائة: وكان مع ركب الشام الأمير عبية أمير بني عقبة، وكان بينهع وبين أبي نمي صاحب مكة معاداة؛ فتخيل صاحب مكة أنه ما جاء إلا ليأخذ مكة شرفها الله، فغلق باب مكة ولم يمكن أحد من أصحاب عبية من الدخول إلى مكة، فاضطلعوا أصحاب عبية من جبال مكة، ودخلوا قهرا وأحرق المصريون باب مكة شرفها الله -عز وجل، ونهبوا من الدباغات الطاقات الأديم، وجرى كل قبيح من الفريقين، وقتل من الطائفتين جماعة، ثم إنهم راسلوا صاحب مكة واتفقوا معه، فدخلوا وطافوا وقضوا حجهم، ثم قال: والذي حج بالناس من مصر الأمير علم الدين سنجر الباشقيري ... انتهى.
وإنما ذكرنا هذا لأنه يخالف ما ذكره ابن الفركاح في سبب الفتنة في هذه السنة، والله أعلم.
وذكر ابن محفوظ ما يخالف ما ذكره ابن الجزري فيمن كان أمير الحاج في هذه السنة؛ لأنني وجدت بخطه سنة تسع وثمانين وستمائة حج أمير الحاج في هذه السنة، ولأنني وجدت بخطه أن في تسع وثمانين وستمائة حج أمير يقال له الفارقاني، ووقع بينه وبين أهل مكة قتال عند درب الثنية ... انتهى.
ودرب الثنية هو درب الشبيكة بأسفل مكة1.
ومنها: أن ابن محفوظ قالفي أخبار سنة اثنتين وتسعين وستمائة: ووقف الناس الاثنين والثلاثاء2 ... انتهى.
ومنها على ما وجدت بخط ابن محفوظ في أخبار سنة ثلاث وتسعين وستمائة: وحصل بعرفة جفلة عظيمة شنيعة، وكان سببها أن بعض أولاد أبي نمي نهى مملوكا فأخطأ عليه المملوك، فجفل الناس3 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة أربع وتسعين حج فيها المجاهد أنس ابن السلطان مالك العادل كتبغا المنصوري صاحب الديار المصرية والشامية، وحج في خدمته جماعة من الأمراء
__________
1 درر الفرائد "ص: 286"، السلوك 1/ 3: 76، البداية والنهاية 13/ 317، إتحاف الورى 3/ 10.
2 السلوك 1/ 3/ 786.
3 إتحاف الورى 3/ 125، 126، درر الفرائد "ص: 288".(2/291)
والأدر السلطانية1، وحصل بهم رفق كثير لأهل الحرمين، وشكر سيرة الملك أنس المذكور، وبذل المال لصاحب مكة وأتباعه، ويقال: إن الذي نال صاحب مكة منه نحو سبيعن ألف درهم2.
وحجت في هذه السنة عمة صاحب ماردين3 مع الركب الشامي، وكان لها محمل كبير وسبيل كثير، وتصدق بمال كثير، وانتفع بها الحرمين وأمراء مكة والمدينة، وذكر هذه الحادثة بمعنى ما ذكرناه ابن الجزري وغيره4.
ومنها: أنه في سنة سبع وتسعين وستمائة حج الخليفة أبو العباس أحمد ابن الأثير حسن بن علي بن أبي بكر ابن الخليفة المسترشد بالله العباسي الملقب بالحاكم، ثاني الخلفاء العباسيين بعد المستعصم، وأول من أقام بمصر من الخلفاء العباسيين، وحج معه عياله، وأعطاه صاحب مصر المنصور لاجين سبعمائة ألف درهم، وحج فيها أمير العرب منها بن عيسى بن منها، وشكر سيرته؛ لأنه تصدق بأشياء كثيرة، وحخمل المنقطعين وأطعم العيش للناس كافة5.
ومنها: أنه في سنة ثمان وتسعين وستمائة حصل للحاج تشويش بعرفات وهوشة في نفس مكة، ونبه خلق كثيرون، وأخذت ثيابهم التي عليهم، وقتل خلق وجرح جماعة، وقيل إن المقتولين في هذه الفتنة أحد عشرة نفرا، وحصل لأبي نمي صاحب مكة من الجمال المنهوبة خمسمائة جمل، ذكره هذه الحادثة والتي قبلها بمعنى ما ذكرناه ابن الجزري6.
ومنها: أنه في سنة تسع وتسعين وستمائة لم يحج أحد من الشام، وحج الناس من الديار المصرية، ذكر هذه الحادثة الجزري7.
ومنها: أنه في سنة سبعمائة لم يحج فيها أحد من الشام؛ إلا أنه خرج عن دمشق جماعة إلى غزة، ومن غزة إلى إيلة، وصحبوا المصريين. ذكر ذلك البرزالي8.
__________
1 الأدر السلطانية: يراد بها حريم السلطان.
2 النجوم الزاهرة 8/ 58، البداية والنهاية 13/ 340، إتحاف الورى 3/ 127، درر الفرائد "ص: 288".
3 صاحب ماردين هو الملك السعيد شمس الدين داود ابن الملك المظفر فخر الدين ألب أرسلان "انظر ترجمته في النجوم الزاهرة 8/ 58".
4 إتحاف الورى 3/ 127، درر الفرائد "ص: 288".
5 العقد الثمين 1/ 193، إتحاف الورى 3/ 130.
6 درر الفرائد "ص: 289"، إتحاف الورى 3/ 131.
7 إتحاف الورى 3/ 131، درر الفرائد "ص: 289".
8 السلوك 1/ 3: 917، النجوم الزاهرة 8/ 146، درر الفرائد "ص: 289".(2/292)
ومنها: أنه في سنة ثلاث وسبعمائة حج من مصر نائب السلطان بها الأمير سيف الدين سلار، وحج معه خمسة وعشرون أميرا، وتصدق سلار بصدقات كثيرة سد بها فاقة ذوي الحاجات، وانتفع بها المجاورون بمكة وأهلها الأشراف وغيرهم، وفعل بالمدينة مثل ذلك، وكان قد جهز للصدقة في البحر عشرة آلاف أردب قمح، وتصدق الأمراء الذين حجوا معه، وتوجهوا إلى المدينة ثم إلى القدس، وتوجهوا منه إلى مصر فدخلوها مع دخول الركب المصري؛ ذكر هذه الحادثة البرزالي بمعنى ما ذكرناه1.
ومنها: أنه في سنة أربع وسبعمائة أبطل أمراء مكة حميصة ورميثة ابنا أبي نمي شيئا من المكوث في هذه السنة والتي قبلها2.
ومنها: أنه في سنة خمس وسبعمائة حج من مصر ونواحي الغرب ومن بلاد العراق والعجم خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى3
ومنها: أنه في سنة خمس وسبعمائة كانت بمنى جفلة عظيمة، وحصل الحرب بين المصريين والحجازيين، وكان مقدم الركب المصري الأمير سيف الدين ألغيه، وكان كافر النفس مقداما على الجرائم، سفك من البشر جماعة، وجعل عوض نحر البدن نحرهم؛ ذكر هاتين الحادثتين هكذا صاحب "بهجة الزمن في تاريخ اليمن"، التاج عبد الباقي اليماني، وذكر هذه الحادثة التي في سنة أربع بمعنى ما ذكرناه3.
وذكر البرزالي ما يقتضي أن الفتنة التي كانت بين المصريين والحجازيين في سنة خمس، على ما ذكر صاحب "البهجة"؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وسبعمائة: فيها كان أمير الركب المصري سيف الدين ألغيه قفجق السلحدار، ثم قال: ووقع في أيام الحج بمنى، ونهب شيء: ثم تفاقم الأمر، ولم يحصل ذلك إلا بالسوق خاصة، وانطلق العسكر خلف من فعل ذلك، فلم يعلم، وهرب المكيون في الجبال، وانطلق معهم من السروز إلى ذيل الجبل، فحصل فيهم من العسكر، ووسط منهم نفر يسير عند الجمرة، لتسكين الأمر، وإظهار الهيبة والقدرة؛ فسكن الناس ولكن بقي عندهم خوف ووجل.
__________
1 السلوك 1/ 3: 954، البداية والنهاية 14/ 29.
2 العقد الثمين 4/ 234، 405، العقود اللؤلؤية 1/ 326.
3 إتحاف الورى 3/ 143، درر الفرائد "ص: 292".(2/293)
ومنها: أنه في سنة تسع وسبعمائة لم يحج من الشام أحد على العامة إلا أن طائفة يسيرة من التجار وأهل الحجاز، خرجوا من دمشق إلى غزة، ومنها إلى إيله واجتمعوا بالمصريين وصحبوهم، ذكر هذه الحادثة البرزالي1.
ومنها: أنه في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة حج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر، ومع خواص عكسره نحو أربعين أميرا؛ ذكر ذلك البرزالي.
وذكر صاحب "بهجة الزمان": أن الملك الناصر -المذكور- حج في هذه السنة في مائة فارس وستة آلاف مملوك على الهجن، وسار من دمشق إلى مكة في اثنتين وعشرين يوما2 ... انتهى.
ومنها: أنه في سنة ست عشرة وسبعمائة: حج فيها الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري نائب السلطنة المعظمة بالقاهرة، وتصدق بصدقات كثيرة بمكة والمدينة3.
وحج أيضا في سنة عشرين وسبعمائة، ومشي فيها من مكة إلى عرفة، وحج أيضا في سنة ست وعشرين وسبعمائة4، ذكر ذلك ابن الجزري.
ومنها: أنه في سنة تسع عشرة وسبعمائة حج الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي، وحج معه من الأمراء نحو الخمسين من المقدمين الطبلخانات والعشراوات وجماعة من أعيان دولته، وكان توجه من القاهرة في تاسع ذي القعدة، وتصد على أهل الحرمين، وأحسن وعمل معروفا كثيرا، وغسل الكعبة بيده؛ ذكر ذلك هذه الحادثة بمعنى ما ذكرناه5 البرزالي في تاريخه.
ومنها: أنه في سنة عشرين وسبعمائة فعل الحاج سنة من سن الحج متروكة من قبل، وهي أنهم صلوا الصلوات الخمس من منى في يوم التروية وليلة التاسع، وأقاموا بمنى إلى أن أشرقت الشمس على ثبير، وتوجهوا إلى عرفة6؛ ذكر هذه الحادثة بمعنى قال: وهذه مكملة مائة جمعة وقفها المسلمون من الهجرة النبوية إلى الآن؛ ونرجو الله تعالى أن تكون ألوفا إلى يوم القيامة ... انتهى.
__________
1 إتحاف الورى 3/ 146، درر الفرائد "ص: 293".
2 السلوك 2/ 1: 19، العقود اللؤلؤية 1/ 402، العقد الثمين 4/ 406.
3 النجوم الزاهرة 9/ 233، إتحاف الورى 3/ 156.
4 السلوك 2/ 1: 214، إتحاف الورى 3/ 170.
5 السلوك 2/ 1: 197، النجوم الزاهرة 9/ 59، درر الفرائد "ص: 297".
6 إتحاف الورى 3/ 170.(2/294)
ومنها: أنه في سنة عشرين وسبعمائة -على ما قال البرزالي: حضر الموقف عالم كثير من جميع الأقاليم والبلاد، قال الشيخ رضي الله الطبري إمام المقام: من عمري أحج ولم أر مثل هذه الوقفة، قال: وفيها حضر الركب العراقي في محمل كثير، ومعهم محمل عليه ذهب كثير، وفيه لؤلؤ وجوهر، قوم بمائة تومان ذهبا، وحسبنا ذلك بمائتي ألف دينار وخمسين ألف دينار من الذهب المصري1 ... انتهى. وذكر ابن الجزري ذلك بالمعنى.
ومنها: أنه في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة حج من دمشق نائبها الأمير تنكز الناصري2.
ومنها: أنه في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة أبطل السلطان الملك الناصر المكس المتعلق بالمأكول فقط بمكة، وعوض صاحب مكة عطيفة عن ذلك ثلثي دمامين3 من صعيد مصر، وذكر ذلك البرزالي وابن الجزري4.
ومنها: أنه في سنة أربع وعشرين وسبعمائة حج ملك التكرور موسى، وحضر للحج معه أكثر من خمسة عشر ألفا من التكاررة5.
ومنها: أنه في سنة خمس وعشرين وسبعمائة وقف الناس بعرفة يوم السبت ويوم الأحد، بسبب الاختلاف في هلال ذي الحجة، وفيها رجع أكثر الركب المصري بسبب قلة الماء في المنازل؛ فلذلك قل الحج المصري، وحج العراقي وكان ركبا كبيرا، ذكر هذه الحوادث بمعنى ما ذكرناه البرزالي وابن الجزري6.
ومنها: أنه في سنة سبع وعشرين وسبعمائة بات الحجاج الشاميون بمنى ليلة عرفة ولم يبت بها المصريون، وكان المصريون قليلا بالنسبة إلى العادة7.
ومنها: أنه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة حج العراقيون ومعهم تابوت جوبان نائب أبي سعيد بن خرابندا ملك العراق؛ ليدفن بالتربة التي بناها بالمدينة عند باب
__________
1 العقد الثمين 6/ 96، 97، إتحاف الورى 3/ 172.
2 البداية والنهاية 14/ 100، درر الفرائد "ص: 299".
3 هي بلدة من مركز الأقصر بمحافظة قنا تقع على شاطئ الغربي للنيل "الخطط التوفيقية لعلي مبارك" 11/ 20.
4 السلوك 2/ 1: 236.
5 البداية والنهاية 14/ 112، مرآة الجنان 4/ 271، السلوك 2/ 1: 255، إتحاف الورى 3/ 178، درر الفرائد "ص: 300".
6 إتحاف الورى 3/ 181، درر الفرائد "ص: 300".
7 إتحاف الورى 3/ 185.(2/295)
الرحمة؛ فلم يدفن بها لعدم تمكين أمير المدينة من ذلك، حتى يأذن فيه صاحب مصر، وأحضروا تابوته في الموقف بعرفة، ودخلوا مكة ليلا، وطافوا به حول البيت، ثم ذهبوا به إلى المدينة؛ فكان من أمره فيها ما ذكرناه1، ذكر الملك البرزالي بمعنى ما ذكرناه، وذكر أن الوقفة كانت يوم الجمعة باتفاق ... انتهى.
وذكر ابن محفوظ أن قدوم الركب العراقي بجوبان كان في سنة سبع وعشرين، والله أعلم.
ومنها: أنه في سنة ثلاثين وسبعمائة كانت فتنة عظيمة بين الحجاج المصريين وأهل مكة، وقد شرح قاضي مكة شهاب الدين الطبري شيئا من خبرها في كتاب كتبه إلى بعض أصحابه؛ لأن فيه: ونهى صدورها من حرام الله تعالى بعد توجه الركب السعيد على الحالة التي شاع ذكرها، ولا حيلة في القدرة، والله ما لأحد من أهل الأمر ذنب لا من هؤلاء ولا من هؤلاء؛ وإنما الذنب للغاغة والرعاع والعبيد والنفرية، على سبب مطالبة من أخدام الأشراف للعراقيين، بسبب عوائدهم، وحصلت ملالاة، وأوجبت معاداة؛ فقامت الهوسة والخطيب على المنبر، وكان السيد سيف الدين عند أمير الركب جالسا، فقام ليطفئ النوبة من ناحية، فانتفخت من نواحي، وقام الأمير سيف الدين يساعده، فاتسع الخرق وهاج الناس في بعضهم بعضا فمات من مات وفات من فات، ولزم الأشراف مكانهم بجياد، ولم يخرج منهم أحد إلى القتال إلا من انخلس من الفريقين.
وذكر هذه الحادثة الحافظ علم الدين البرزالي، وشرح من أمرها ما لم يشرحه القاضي شهاب الدين الطبري؛ لأنه قال في أخباره سنة ثلاثين وسبعمائة: ووصل كتاب عفيف الدين الطبري يذكر فيه أمورا مما وقع للحجاج بمكة المشرفة، قال: وليس الخبر كالمعاينة، ولما كان يوم الجمعة عند طلوع الخطيب المنبر، حصلت شوشة ودخلت الخيل المسجد الحرام، وفيهم جماعة من بني حسن ملبين غائرين، وتفرق الناس وركب الأمراء من المصريين، وكانوا ينتظرون سماع الخطبة، فتركوها، وركب الناس بعضهم بعضا، ونهبت الأسواق، وقتل من الخلق جماعة من الحجاج وغيرهم، ونهبت الأموال وصلينا نحن الجمعة والسيوف تعمل، وطفت أنا ورفيقي طواف الوداع جريا، والقتل بين الترك والعبيد الحرامية من بني حسن، وخرج الناس إلى المنزلة، واستشهد من الأمراء سيف الدين ألدمر أمير جاندار وولده خليل، ومملوك لهم، وأمير عشرة يعرف بابن التاجي، وجماعة نسوة، وغيرهم من الرجال، وسلمنا من القتل، وكانت الخيل في إثرنا
__________
1 العقد الثمين 3/ 447، والدرر الكامنة 2/ 79، إتحاف الورى 3/ 185، وفيها أن ذلك كان سنة "727 هـ" أو في التي بعدها.(2/296)
يضربون بالسيوف يمينا وشمالا، وما وصلنا إلى المنزلة وفي العين قطرة، ودخل الأمراء راجعين بعد الهرب إلى مكة لطلب بعض الثأر، وخرجوا فارين مرة أخرى، ثم بعد ساعة جاء الأمراء خائفين وبنو حسن وغلمانهم خلفهم؛ فلما أشرفوا على ثنية كداء من أسفل مكة، فأمر بالرحيل، ولولا أن سلم الله الناس كانوا نزلوا عليهمولم يبق من الحجاج مخبر، فوقف أمراء المصريين في وجوههم، وأمر بالرحيل، فأخطبت الناس، وجعل أكثر الناس يتركون ما ثقل من أحمالهم، ونهب الحاج بعضه بعضا، وكان في جملة من راح جمل محمل لنا فيه جميع ما رزقنا الله من نفقة وثياب وزاد، واحتسبناه وحمدنا الله على سلامة أنفسنا1 ... انتهى.
وذكر النويري هذه الحادثة في تاريخه، وذكر فيها ما يوافق ما ذكره الطبري، ثم قال: ووقع الخبر بذلك بالقاهرةن يوم الجمعة يوم مقتله يعني سيف الدين ألدمر جاندار سوار، ثم وصل الخبر بذلك مع المبشرين في ثالث المحرم2.
ومنها: أنه في سنة ثلاثين وسبعمائة -أيضا- حج الركب العراقي، ومعهم فيل، وما عرفت مقصد أبي سعيد بن خربندا ملك التتار بإرساله، وقد ذكر خبره البرزالي نقلا عن العفيف المطري؛ لأنه قال: بعد ما سبق ذكره من خبر الفتنة: وكان الركب العراقي ركبا صغيرا، ووصل معهم فيل، وقفوا به3 المواقف كلها، وتفاءل4 الناس منذ رأوه بالشر، فتم ما تم وحصل ما حصل، وكنا خائفين أن يقع بسببه شر، إذا وصل إلى المدينة، فوصل إلى أن بلغ الفريش الصغير قبيل البيداء التي ينزل منها إلى بئر الحرام من ذي الحليفة؛ فجعل كلما أراد أن يقدم رجلا تأخر مرة بعد مرة، قفضربوه وطردوه، وكل ذلك يأبى إلا الرجوع القهقرى، إلى أن سقط إلى الأرض ميتا في يوم الأحد الرابع والعشرين من ذي الحجة الحرام؛ وذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من غرائب العجائب، والحمد لله على ذلك، وقد ذكر خبره النويري في تاريخه، بمعنى ما ذكره المطري، وقال: وقيل: أنه أنصرف عليه من حين خروجه من العراق إلى أن مات زيادة على ثلاثين ألف درهم، وما علم مقصد أبي سعيد في إرساله ذلك ... انتهى5.
__________
1 النجوم الزاهرة 9/ 282، السلوك 2/ 2: 323: البداية والنهاية 14/ 149، العقد الثمين 3/ 327، إتحاف الورى 3/ 189.
2 السلوك 2/ 2: 323، درر الفرائد "ص: 302".
3 السلوك 2/ 2: 325، درر الفرائد "ص: 304".
4 كذا في الأصل، وفي السلوك 2/ 2: 325: "تشاءم" وهو الصحيح.
5 السلوك 2/ 2: 325، إتحاف الورى 3/ 192، 193.(2/297)
ومنها: أنه في سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة حج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومعه نحو سبعين أميرا، وجماعة من أعيان الفقهاء وغيرهم بالقاهرة، وتصدق بعد حجة على أهل الحرم من المجاورين والفقهاء1.
ومنها: أنه في سنة ست وثلاثين وسبعمائة لم يحج الركب العراقي في هذه السنة، لموت السلطان أبي سعيد بن خربندا ملك العراقيين، واختلاف الكلمة بعده، ودام انقطاع الحج من العراقيين سنين كثيرة على ما يأتي بيانه2 إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وقف الحجاج المصريون والشاميون بعرفة، يومين: يوم الجمعة ويوم السبت، ووقف أهل مكة السبت؛ ولكنهم حضروا عرفة ليلة السبت3.
ومنها: أنه في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة حج صاحب اليمن الملك المجاهد على ابن مالك المؤيد داود بن المظفر، ولما حضر بعرفة كان في خدمته الأشراف والقواد، وحموه من أن يتعرض له المصريون بسوء، وأطلعوا علمه على جبل عرفة، وكان المصريون قد عزموا على منعه من ذلك، ومن نزول عرفة والوقوف عند الصخرات بها، وكان الأشراف والقواد في خدمته، إلى أن قضى مناسك الحج، وعم بصدقته أهل مكة، وكان دخوله إليها أول ذي الحجة، ورحل منها في العشرين من ذي الحجة، ورام أن يكسو الكعبة ويقلع بابها ويركب بابا من عنده؛ فلم يمكنه الأشراف من ذلك، فوجد عليهم في ذلك4.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة حصل بين أمير الحاج المصري والأشراف قتال عظيم بعرفة، كان الظفر من يوم النفر الأول، ونزلوا بباب الشبيكة، وأقاموا به ليلة، ثم رحلوا في يوم النفر الثاني، ولم يعتمر أكثر الحجاج ولم يطوفوا طواف الوداع خوفا على أنفسهم، وتعرف هذه السنة بسنة المظلمة؛ لأن أهل مكة في نفرهم من عرفة سلكوا الطريق التي تخرجهم على البئر المعروفة بالمظلمة، وهي غير الطريق التي يسلكها الحجاج5.
__________
1 النجوم الزاهرة 9/ 104، والسلوك 2/ 2: 355.
2 إتحاف الورى 3/ 205، درر الفرائد "ص: 305".
3 إتحاف الورى 3/ 220، السلوك 2/ 3: 563، درر الفرائد "ص: 306".
4 العقود اللؤلؤية 2/ 70، 71، إتحاف الورى 3/ 220، 221.
5 السلوك 2/ 3: 636، العقد الثمين 2/ 146، إتحاف الورى 3/ 224، 225.(2/298)
ومنها: أنه في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة حج العراقي بعد أن أقام إحدى عشر سنة لم يحج، وكان حاجا كثيرا، وكان حاج مصر والشام قليلا1.
ومنها: أنه في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة حج الملك المجاهد صاحب اليمن وقبض عليه بمنى؛ وسبب ذلك أنه لم ينصف أمير مكة عجلان، ولا بني حسن، ولا أمير الحاج المصري "بزلار"، ولم يراع من المصريين إلا الأمير "طاز"؛ فأجمعوا عليه مع أمير مكة، وقصدوه في صبح اليوم الثالث من أيام منى إلى محطته، فقاتلهم أصحاب صاحب اليمن ساعة من نهار، ثم عظم عليهم الأمر باجتماع الناس عليهم للطمع في النهب، فنهب محطة المجاهد عن آخرها بما فيها من الخزائن، والخيول والبغال، والجمال، وغير ذلك، وكان من أسباب ذلك: عدم ظهوره للقتال، فإنه لم يركب، ولم ينصب علما ولا دق طبلا؛ وإنما صعد جبلا بمنى، فحصروه به إلى قرب غروب الشمس، ثم سلم نفسه بأمان، فأخذ سيفه وأركب بغلا واحتفظ به، وسافر مع المصريين تحت الحوطة، ولم يرم الجمار بمنى ولا ظهر بها، ولعله راعى في ترك القتال حرمة الزمان والمكان، وهما جديران بالاحترام، وكان من خبره بعد وصوله إلى مصر أن صاحبها الملك الناصر حسن بأن الملك الناصر محمد بن قلاوون أكرمه وسيره إلى بلده على طريق الحجاز، وفي خدمته بعض الأمراء؛ فلما كان بالدهناء قريبا من "ينبع" قبض عليه؛ لأن الأمير الذي في خدمته نقل عنه إلى الدولة بمصر ما أوجب تغير خاطرهم عليه، وذهب به إلى الكرك فاعتقل بها مع الأمير "بيبغاروس" الذي كان نائبا بالقاهرة، ثم أطلق بشفاعة الأمير يلبغا؛ لأنه كان أطلق قبله، وزار المجاهد القدس والخليل، وجاء إلى مصر فتوجه منها إلى بلاده على طريق عيذاب، فبلغ اليمن في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، ومنع الجلاب من السفر إلى مكة حنقا على أهلها2.
ومنها: أنه في سنة خمس وخمسين وسبعمائة لم يحج الركب العراقي، وحج في التي بعدها، وهي سنة ست وخمسين وسبعمائة، وكان حاجا قليلا3.
ومنها: أنه في سنة سبع وخمسين وسبعمائة وقف الناس بعرفة يومين، وحصل للناس في آخر اليوم مطر جيد سالت به الشعاب، فاستقى الحاج ودوابهم، وكان ذلك من الله رحمة لعباده، وكان الحاج العراقي في هذه السنة كثيرا لم يعهد أن مثله حج من العراق، وحج فيها بعض العجم، وتصدق بذهب كثير على أهل مكة والمدينة4.
__________
1 إتحاف الورى 3/ 236، درر الفرائد "ص: 308".
2 النجوم الزاهرة 10/ 226، السلوك 2/ 3: 832، العقود اللؤلؤية 2/ 84، درر الفرائد "ص: 308".
3 إتحاف الورى 3/ 268.
4 إتحاف الورى 3/ 270.(2/299)
ومنها: أنه في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة حج العراقي وكان حاج مصر والشام قليلا1.
ومنها: أنه في سنة تسع وخمسين وسبعمائة رحل الحجاج جميعهم من منى وقت الظهر من يوم النفر الأول، وكان الحاج قليلا من مصر والشام والعراق2.
ومنها: أنه في جمادى الآخرة أو رجب سنة ستين وسبعمائة أسقط المكس المأخوذ من المأكولات بمكة من الحب، والتمر، والغنم، والسمن، وغير ذلك، وارتفع من مكة الجور والظلم، وانتشر العدل والأمان؛ وذلك بسبب أن الملك الناصر حسن صاحب مصر جهز إلى مكة عسكرا لإصلاح أمرها وللإقامة بها مع من ولاة إمرة مكة وهما الشريفان محمد بن عطيفة بن أبي نمي، وسند بن رميثة بن أبي نمي، ودام هذا مدة مقام هذا العسكر بمكة؛ وذلك إلى آخر سنة إحدى وستين وسبعمائة3.
ومنها: أنه في سنة ستين وسبعمائة -أيضا- وصل الركب العراقي، وكان وصوله قبل الوقت الذي يعهد فيه وصوله بيومين وهو الخامس من ذي الحجة.
ومنها: أنه في سنة إحدة وستين وسبعمائة كان بمكة فتنة بين أهلها من بني الحسن وبين الترك الذين قدموا إلى مكة للإقامة بها في موسم هذه السنة عوض الترك الذين كانوا قدموا مكة في سنة ستين وسبعمائة، وسبب هذه القتنة أن بعض الأشراف من ذوي المعروفة بدار المضيف عند باب الصفا، فطالبهم بالكراء بعض الأشراف من ذوي "علي بن قتادة"، وحصل بينهما منازعات أفضى الحال فيها إلى أن ضرب التركي الشريف فقتله الشريف، فثار عليه الترك، فصاح، فحمى له بعض الشرفاء فثارت الفتنة، وقيل في سبب الفتنة: إن بعض الترك أرادوا النزول في دار المضيف؛ فعارضه في ذلك بعض ذوي "علي" وضربوهم، فشكوا ذلك إلى "ابن قراسنقر"، وكانوا من جماعته، وكان إذ ذاك يطوف بالبيت الحرام محرما بعمرة، فقطع طوافه ولبس السلاح وثارت الفتنة، وركب هذا اليوم، وقصد بنو حسن أجياد، واستولوا على إسطبل ابن "قراسنقر" أحد مقدمي الترك المقيمين بمكة، وحصروا المقدم الآخر وهو الأمير المعروف "قراسنقر" أحد مقدمي "دار الزباع" بأجياد، وقاتلوه حتى غلبوه، ونجا بنفسه من موضع في الدار، فاستجار ببعض نساء الأشراف، واجتمع الترك في المدرسة المجاهدية، وفي المسجد الحرام،
__________
1 إتحاف الورى 3/ 272.
2 إتحاف الورى 3/ 274، درر الفرائد "ص: 310".
3 العقد الثمين 2/ 141، 6/ 66.(2/300)
وغلقوا أبوابه عليهم، وعملوا عند المدرسة المجاهدية جسرا من خشب يمنع بني حسن من قصدهم، وأزالوا الظلة التي على رأس الزقاق المقابل لباب أجياد، وقصدهم جماعة من بني حسن إلى جهة المجاهدين، فرموهم بالنشاب، ففر بنو حسن، ثم كر عليهم بعض من بني حسن ثانية، فقتل منهم جماعة منهم الشريف "مغامس بن رميثة"، ثم وصل الشريف "ثقبة بن رميثة" إلى مكة، بأثر الفتنة، فسكنها عن الترك، ووقع الاتفاق على أن ترحل الترك من مكة، فرحلوا بما خف من أموالهم. والتحقوا بالحجاج، فأدركوهم بينبع، وكانت هذه الفتنة بعد رحيل الحجاج من مكة بيوم أو يومين1.
ومنها: أنه في سنة ست وستين وسبعمائة رسم السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر بإسقاط ما على الحج من المكوس بمكة في سائر ما يحمل إليها من المتاجر، سوى الكارم2 وتجار الهند وتجار العراق، وأسقط المكس المتعلق بالمأكولات، وبلغني أن المكس الذي كان يؤخذ من المأكولات بمكة مد حب جدي، وهو مدان مكيان من كل حلم حب يصل من جدة، ومد مكي وربع مكي من كل حمل حب يصل من وجهة الطائف وبجيلة3 وثمانية دنانير مسعودية على كل حمل من التمر اللبان4 الذي يصل إلى مكة، وثلاثة دنانير مسعودية على كل حمل ترم محشي5 يصل إلى مكة، وستة مسعودية على كل شاة يصل إليها، وسدس وثمن ما يباع بمكة من السمن والعسل والخضر؛ وذلك أنه يحصى ثمنها مسعودية، فإذا عرف أخذ على كل خمسة دنانير دينار مسعودية، ويؤخذ -أيضا- دينار مسعودية من ثمن السلة التمر إذا بيعت بالسوق من الثمار الذي باعها ليعيش منها، والمأخوذ على التمر أولا من جالبه إلى مكة، ويؤخذ شيء مما يباع في السوق من غير ما ذكرناه، وكان الناس يقاسون شدة؛ بحيث بلغني أن بعض الناس جلب شاة، فلم تساو المقدار المقرر عليها، فمسح بها في ذلك؛ فلم يقبل منه، فأزال الله -تعالى- جميع هذا الأشراف شعبان المذكور، بتنبيه بعض أهل الخير له على ذلك، وعوض صاحب مكة عن ذلك ثمانية وستين ألف درهم من بيت المال المعمور بالقاهرة، وألف أردب قمح، وقدر ذلك في دويان السلطان المذكور، وأمضى ذلك الولاة بالديار المصرية إلى تاريخه، وكتب خبر الإسقاط في أساطين بالمسجد الحرام في جهة باب الصفا وغيره، ولما وقعت
__________
1 السلوك 3/ 1: 48، العقد الثمين 2/ 141.
2 الكارم: هو نوع من الأحجار الكريمة.
3 قرية بالبادية حول الكعبة.
4 لعله يقصد الممحوس من التمر، وهو التمر الذي ذهب قشره من حرارة الشمس.(2/301)
هذه الحسنة من الأمير يلبغا -المذكور- طابت بها نفس صاحب مكة -إذ ذاك- الشريف عجلان بن رميثة الحسن -رحمه الله- وعمل بها هو ومن عبده من أمراء مكة أثابهم الله تعالى1.
ومنها: أنه في أثناء سنة عشر السبعين وسبعمائة -بتقديم السين، خطب بمكة للسلطان الشيخ أويس ابن الشيخ حسن الصغير صاحب بغداد وغيرها، بعد أن وصلت منه قناديل حسنة للكعبة، وهدية طائلة لأمير مكة عجلان، وهو الأمر لخطيب مكة بالخطبة له؛ فكان الخطيب إذ ذاك جدي لأبي، قاضي مكة أبي الفضل النويري، ثم تركت الخطبة لصاحب العراق، وماعرفت وقت ابتداء تركها، وخفي على كثير من خبر الحجاج العراقيين في عشر السبعين وسبعمائة، وفي عشر الثمانين وسبعمائة، وفي عشر التسعين وسبعمائة، ويغلب على ظني أن حجهم في هذه الأعشار أكثر من انقطاعهم عن الحج فيها، والله أعلم.
ومنها: أنه في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة كان الحجاج من مصر في غاية القلة، بسب ما اتفق في عقبة إيلة من ثورة الترك على الملك الأشرف شعبان صاحب مصر، وكان قد توجه إلى الحج في هذه السنة في تجمل كثير، وفر إلى القاهرة؛ فتبعه الناس إلا نفرا يسيرا، وكان من خبره أنه دخل في القاهرة متخفيا؛ لأن الأمراء الذي تركهم بها سلطنوا ولده المنصور عليا، وظفروا به بعد مدة يسيرة، واستشهد -رحمة الله تعالى- في بقية السنة2.
ومنها: أنه في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة حج محمل لصاحب اليمن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس ابن الملك المجاهد في البر، وأراد بعض الأمراء المصريين توهين حمرة هذا المحمل؛ فلم يمكنهم من ذلك صاحب مكة الشريف أحمد بن عجلان، وكان أمير الحج مع هذا المحمل ابن السنبلي، وليس هذا المحمل أول محمل حج من اليمن؛ فقد رأيت ما يدل على أن في السنة التي ولي فيها الملك المؤيد السلطنة ببلاد اليمن حج له محمل إلى مكة3.
ومنها: أنه في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة كان بمكة فتنة في أيام الموسم، وحج الناس خائفين، وسبب هذه الفتنة أن بعض الباطنية قتل أمير مكة محمد بن أحمد بن عجلان عندما حضر لخدمة المحمل المصري على جاري عادات الأمراء -أي أمراء
__________
1 البداية والنهاية 14/ 309، إتحاف الورى 3/ 302.
2 النجوم الزاهرة 11/ 73، الذهب المسبوك "ص: 118"، بدائع الزهور 1/ 3: 171، السلوك 3/ 1: 272.
3 النجوم الزاهرة 11/ 196، السلوك 3/ 1: 374، إتحاف الورى 3/ 335.(2/302)
الحجاز- وتولى بعده عنان بن مغامس بن رميثة إمرة مكة، وقصدها في جماعته، ومعه أمير الحج المارديني؛ فحاربهم من كان بمكة من ذوي عجلان زمنا يسيرا، ثم انهزموا، واستولى عنان ومن معه على مكة1.
ومنها: أنه في سنة سبع وتسعين وسبعمائة كان بمكة قتل ونهب في الحجاج في يوم التروية، وفي ليلة عرفة بطريق عرفة، وسبب هذه الفتنة: أن بعض القواد اختطف شيئا في المسجد الحرام، واحتمى ببعض أصحابه؛ فجرى بينهم وبين الحجاج مقاولة بالمسجد الحرام أفضت إلى مقاتلته، فشهرت السيوف بالمسجد الحرام وصارت الفتنة به وفي خارج المسجد، ونهبت الأموال، وجاء أمير الحج الحلبي المعروف بابن الزين غائرا من الأبطح في خيل ورجل، فلقيه بعض القواد بأسفل مكة إلى جهة الشبيكة، وجرى بين الفريقين قتال كان الظفر فيه للقواد، وطمح الحرامية في الحجاج، فنهبوهم نهبا ذريعا في خروجهم إلى منى، وفي ليلة عرفة بالموضع المعروف بالمضيق بين عرفة ومزدلفة وقتلوهم، وتعدى النهب إلى أهل مكة واليمن، وحج الناس خائفين، ورحل الحجاج أجمع في يوم النفر الأول، وكان في هذه السنة قدم مع الحجاج الشاميين محمل من حلب، ولم يعهد مثل ذلك فيما علمت إلا في سنة سبع وثمانين وسبعمائة2، والله أعلم.
وفيها حج العراقي عند انقطاعه مدة، وكان قدومه يوم الصعود، وكان حاجا قليلا جدا، يقال: إنه كان فيه خمسمائة جمل2.
ومنها: أنه في سنة ثمانمائة حج لصاحب اليمن الملك الأشرف مع طواشي من جهته وفي خدمته الشريف محمد بن عجلان، وحج معه جماعة من أعيان التجار والفقهاء المكيين وغيرهم، وحصل للحجاج الذين كانوا مع المحمل اليمني عطش بقرب مكة، مات فيه جماعة منهم -رحمهم الله تعالى- ووقف بعرفة مع المحامل، وكانت الوقفة يوم الجمعة3.
ومنها: أنه في سنة ثلاث وثمانمائة لم يحج من الشام أحد على الطريق المعتادة، وسبب ذلك أن تيمورلنك قصد البلاد الشامية في هذه السنة واستولى عليها وأخربها؛ وكان ما حصل من الخراب بدمشق أكثر من غيرها من البلاد الشامية بسبب إحراق التترية لها لما استولوا عليها، بعد أن فارقها الملك الناصر فرج،
__________
1 السلوك 3/ 2: 545، نزهة النفوس 1/ 132، بدائع الزهور 1/ 2: 370، العقد الثمين 3/ 53.
2 إتحاف الورى 3/ 395.
3 إتحاف الورى 3/ 408.(2/303)
وقصد الديار المصرية لأمر اقتضاه الحال. والتترية منازلون لدمشق، وكان استيلاء التترية على دمشق بصورة أمان، والتزام من أهل دمشق لهم بمال يؤدونه؛ لأنهم بعد رحيل السلطان من دمشق حصروا القلعة بدمشق وأخربوا بعضها، وكادوا يستولون عليها؛ فاقتضى ذلك خروج الشاميين إليهم لطلب الأمان والتزامهم لهم بالمال؛ فلما صار بأيديهم ما التزموا لهم به من المال وأكثر منه بكثير، فارقوا البلد، بعد أن أحرقوها في ثالث شعبان من السنة المذكورة، ثم عمرت القلعة والجامع الأموي ومواضع حوله من البلد وظاهرها عمارة حسنة، وأكثر البلد متخرب إلى الآن؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله1.
ومنها: أنه في سنة ست وثمانمائة حج الركب الشامي على طريقته المعتادة، ومعه محمل، وكان قد بطل من سنة ثلاث وثمانمائة، وحج الشامي في سنة سبع وثمانمائة كحجة في سنة ست بمحمل وعلى طريقته المعتادة2.
ومنها: أنه في سنة سبع وثمانمائة حج العراقيون بمحمل من قبل متولى بغداد من أولاد تيمورلنك، ومات تيمورلنك في هذه السنة في سابع عشر شعبان منها، بعلة الإسهال القولنجي.
ومنها: أنه في سنة ثمان وثمانمائة لم يحج الشاميون على طريقتهم المعتادة ولا حج لهم محمل؛ وإنما حج فيها من الشام تجار، جاؤوا من دمشق إلى غزة، ومنها إلى إيلة، ومنها إلى مكة3.
ومنها: أنه في سنة تسع وثمانمائة، حج الشاميون بمحمل على طريقتهم المعتادة، وتخوف الناس أن يقع بين أميرهم وبين أمير الركب المصري قتال، فسلم الله، وسبب توقع القتال في هذه السنة؛ أن الأمير "جكم"4 بايع لنفسه بالسلطنة، وتلقب بالملك العادل، وخطب له بحبل وغيرها من البلاد الشامية؛ حتى أنه خطب له بدمشق -ولكن زمن الخطبة له بدمشق يسيرا دون شهر- وأعيدت الخطبة بها للملك الناصر، فرج ابن الملك الظاهر صاحب مصر، وضربت السكة باسم جكم، ورأيت دراهم مكتوبة عليها اسمه، وكان ذلك من الأمير جكم في هذه السنة أو في آخرها، أو في أول التي بعدها، وقتل من سهم أصابه على غفلة منه في حرب كانت بينه وبين بعض التركمان.
__________
1 القعد الثمين 4/ 96.
2 العقد الثمين 1/ 197، درر الفرائد "ص: 317".
3 العقد الثمين 1/ 197، درر الفرائد "ص: 317"، إتحاف الورى 3/ 449.
4 العقد الثمين 1/ 197، درر الفرائد "ص: 318".(2/304)
ومنها: أنه في سنة عشر وثمانمائة نفر الحجاج جميعهم في النفر الأول، ولم يزر المدينة المنورة من الركب المصري إلا القليل، وسار معظمهم مع أمير الحاج إلى "ينبع"، وسبب ذلك: أن أمير الحج المصري تخوف من أهل الشام أن يقصدوا الحجاج بسوء من جهة "إيلة"، بسبب القبض بمكة على أمير الركب الشامي في هذه السنة، وكان صورة القبض عليه: أن المصريين تكلموا مع أمير مكة في القبض عليه؛ فقصده أمير مكة في المسجد الحرام بعد طوافه يوم قدومه بالبيت، وقيل سعيه، وأشار على أمير الحج الشامي بأن يمضي معه للسلام على أمير الحج المصري؛ فلم يجد بدا من الموافقة على ذلك؛ لانفراده عن عسكره؛ فسار إلى أمير الحج المصري، فقبض عليه وحج معه محتفظا به، وذهب به تحت الخوطة إلى مصر، وكانت الموافقة يوم الجمعة1.
ومنها: أنه في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة كان بين بني حسن من أهل مكة وبين أمير الحاج المصري مشاجرة عظيمة، أفضت إلى قتله بعض الحجاج ونهبهم غير مرة، ولم يحج بسبب ذلك من أهل مكة إلا اليسير، وسبب هذه الفتنة: أن صاحب مصر الملك الناصر فرج انحرف على الشريف حسن بن عجلان نائب السلطنة ببلاد الحجاز؛ فعزله عن ذلك، وعزل ابنيه عن إمرة مكة، وأسر ذلك إلى أمير الحج المصري "بيسق"2؛ فاستعد للحرب، واستصحب معه أنواعا من السلاح والمكاحل والمدافع وغير ذلك، وورى بأن قصده بذلك الدخول إلى اليمن، وبلغ الشريف "حسن" ذلك في عاشر ذي القعدة من السنة المذكورة؛ فجمع أعراب مكة، وأهل الطائف و"ليه"3 وغيرهم من عرب الشرق، على ما كان معه من بني حسن من الأشراف والقواد، وعبيد أخيه أحمد بن عجلان وأولادهم وعوام مكة، وكان من معه على ما بلغني يزيدون على ستة آلاف نفر؛ منهم: أربعة آلاف من الأعراب الذين استنفرهم، واجتمع عنده من الخيل نحو ستمائة على ما بلغني، وكان يكره القتال مخافة أن يصيب الحجاج سوء من معرة الجيش، وأشار بعض جماعته بأن يرسل إلى أمير الحاج من يعظم عليه أمر الحرم وأهله، وأنه إذا كان قصده القتال، فليتقدم الحجيج قبله بيوم أو يتقدم هو قبلهم بيوم فيقع اللقاء؛ وبينما هم في المعركة فيم يؤدي هذه الرسالة إلى أمير الحاج إذ جاء الله بالفرج، وأزال الخاص بخدمته فيروز الساقي4 إلى مكة بخلع وتقاليد للسيد حسن -المذكور- وولديه، بعودهم إلى ولايتهم، ومنع أمير الحاج من التعرض لقتالهم، وكان وصول هذا الخبر إلى
__________
1 السلوك 4/ 1: 68.
2 هو يبسق الشيخي "انظر ترجمته في: الضوء اللامع 3/ 22، 23 رقم 114".
3 لية: بلدة من نواحي الطائف "معجم البلدان 5/ 30".
4 انظر ترجمته في أنباء الغمر 2/ 501.(2/305)
مكة في تاسع من ذي القعدة، أو في اليوم الموفى ثلاثين منه، وقدم إلى مكة جماعة من الحجاج من الترك وغيرهم؛ فلقيهم الشريف حسن -بعسكره، وفي ليلة حسن جماعة الحجة بعث المقدم فيروز من يعلم بوصله في هذه السنة، فبعث الشريف حسن جماعة للقائه من باب الشبيكة، وكان هو قد قصد مكة من باب المعلاة، فلما رآه الموكلون بسرو باب المعلاة صاحوا وظنوه عدوا، فارتجت البلد، وظن الناس أن ما ذكر من خبر فيروز مكيدة، فقتل بعض من كان معه، ودخل البلد مكسورا، فطيب خاطره الشريف حسن، ووعده بكل جميل، وقرئ بحضوره التقليد الذي كان معه بعودة الشريف حسن وابنيه إلى ولايتهم، وسعى عند الشريف حسن في عدم التعرض لأمير الحاج؛ فأجاب إلى ذلك الشريف حسن، وشرط أن يسلم أمير الحج ما معه من السلاح وآلات الحرب، فأجاب أمير الحاج إلى ذلك بعد توقف، وشرط أن يكون برباط ربيع أجياد، إلى أن تنقضي أيام الموسم، ثم يتسلم ذلك، فأجيب إلى ما ذكر، ودخل الحجاج مكة في ثاني ذي الحجة وقت الظهر، ودخل أمير الحاج في ثالث ذي الحجة إلى مكة فطاف بالبيت، وتقدم إلى الشريف حسن بأجياد فأحسن لقاءه، وأقام بمكة إلى أن خرج منها في يوم التورية إلى متى بعد أن تقدمه طائفة من الحجاج، وبلغ الشريف حسن أن بعض ما جمعه من الأعراب عزموا على التعرض للحاج؛ فبعث إليهم من يزجرهم عن ذلك، فعصوا وتغلبوا على الحجيج، فقتلوا ونهبوا وعقروا الجمال عند المأزمين، وهو الموضع الذي تسميه الناس المضيق، وتوقف الشريف حسن هو وغالب من معه عن الحج، خيفة أن يقع بينهم وبين أمير الحج قتال، فيلحق الحجيج من ذلك مشقة، وحج ولد السيد أحمد بن حسن في نفر قليل من خواصه؛ وبسبب تخلفه عن الحج تخلف غالب أهل مكة.
وكنت ممن يسر الله له الحج في هذا العام. ولما وصلنا إلى الموضع المعروف بالمأزمين: وجدنا الجمال في معقورة، وكدنا أن نرجع من الخوف، فقوى الله تعالى العزم السليم وله الحمد، وكان مما حملنا على العزم على الرجوع: أن بعض الأشراف لقينا قريبا من المزدلفة، وأخبرنا أن الحاج في أثرهم واصل، وسبب ذلك أن الحجاج لما خرجوا من مكة في يوم التروية لم ينزلوا بمنى، وساروا إلى عرفة فنزلوا بها، وثبت عند القاضي الحنفي بمكة أن هذا اليوم هو اليوم التاسع من ذي الحجة، وكان هذا اليوم يوم التروية على رؤية أهل مكة، فاقتضى رأي أمير الحاج أن يقيم بالناس يومين بعرفة، وأن يدفع في هذا اليوم إلى أن يبلغ الأعلام التي هي حد عرفة من جهة مكة، ويرجع إليها فيقيم اليوم الثاني؛ ففعل ذلك ورأى ذلك الشرفاء، فظنوا أن الحاج سائر إلى منى.
وتعرض أهل الفساد للحاج في توجههم من عرفة إلى منى، ونهبوهم وقتلوهم وجرحوهم، وذلك في ليلة النحر، ولم نستطيع أن نبيت بالمزدلفة إلى الصباح، فرحلنا(2/306)
منها بعد أن أقمنا بها مقاما تتأدى به السنة، ووقع بمنى في ليلة النحر قتل ونهب، وفي ضحى يوم النحر شاع بين الناس بمكة وصول الشريف علي بن مبارك بن رميثة من مصر، وكان يذكر أنه يلي مكة مع أمير الحج، فاضطرب الناس بمكة ومنى، ثم سكنوا لما لم يصح ذلك، وفي آخر هذا اليوم دخل أمير الحج إلى مكة؛ فطاف للإفاضة والوداع، وكان قد قدم للسعي في يوم الصعود، وخرج من فوره إلى منى، وفي يوم النفر الأول اضطرب الناس بمنى، وظنوا أن الفتنة قامت بها، ثم لم يظهر لذلك أثر، ثم رحل الحاج بأجمعهم في اليوم الثاني -أي في يوم النفر الثاني- فلما وصلوا إلى الأبطح؛ أمر أمير الحاج المصري بأن يسلك الحجاج المصريون شعب أذاخر، ويخرجون منه إلى وادي الزاهر؛ ففعلوا ذلك ووصل إليه بالزاهر ما كان أودعه من السلاح بمكة، ولولا مراعاة الشريف حسن في هذه الفتنة للحجيج، لكثر عليهم العويل مع الحزن الطويل، فالله تعالى بقية، ومن الشر يقيه1.
ومنها: أنه في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة حج صاحب كاوة الملك المنصور حسن ابن المؤيد سليمان بن الحسن، وتصدق على أعيان أهل الحرم، وزار بعد الحج، وركب البحر من أثناء الطريق إلى بلاد اليمن ليتواصل منها إلى بلاده من عدن2.
ومنها: أنه في سنة ثلاث عشر وثمانمائة أيضا، لم يحج العراقيون من بغداد بمحمل على العادة، وكانوا قد حجوا على هذه الصفة ست سنين متوالية، أولها سنة سبع وثمانمائة3، وآخرها سنة اثنتي عشرة وثمانمائة4، وسبب بطلان الحج في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة: أن فيها أو في التركماني5 فقتل السلطان أحمد، وقيل: إنه فقد، واستولى التركماني على بغداد، وقرأ يوسف التركماني5 فقتل السلطان أحمد، وقيل: إنه فقد، واستولى التركماني على بغداد، ولم يقع منهم عناية بتجهيز الحجاج بمحمل على العادة، ودام انقطاع الحجاج العراقيين من بغداد سنتين بعد سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وحج في هذه السنين من عراقي العجم جماعة على الطريق الحسا والقطيف6 بلا محمل.
__________
1 في نسخة شفاء الغرام طبعة أوروبا: "ومن السوء".
2 العقد الثمين 1/ 199، درر الفرائد "ص: 682".
3 إتحاف الورى 3/ 449، العقد الثمين 1/ 197.
4 إتحاف الورى 3/ 478، درر الفرائد "ص: 319".
5 هو: قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرخجا التركماني "انظر ترجمته في الضوء اللامع 6/ 216 رقم 733".
6 إتحاف الورى 3/ 482.(2/307)
ومنها: أنه في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة أقام الحجاج المصريون والشاميون بمنى يوما ملفقا بعد يوم النفر الثاني، لرغبة التجار في ذلك، وكانت الوقفة في هذه السنة يوم الجمعة1.
ومنها: أنه في يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وعشرة وثمانمائة خطب بمكة للإمام المستعين بالله أمير المؤمنين أبي الفضل المستكفي أبي الربيع سليمان ابن الحاكم أبي العباس أحمد -المقدم ذكره- العباسي؛ وذلك لما أقيم في مقام السلطنة بالديار المصرية والشامية، بعد قتل الملك الناصر فرج، ولم يتفق مثل ذلك لأحد من أبنائه الذين بويعوا بالخلافة بمصر بعد المستعصم؛ لأنه وإن خطب لمن قبله بديار مصر، فلم يكن لأحد منهم سكة، ولا يخرج عنه توقيع وغير ذلك إلا الإمام المستعين بالله2، إلى أن عهد بالسلطنة إلى مولانا السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ -نصره الله- في مستهل شهر شعبان في هذه السنة، وقبل الخطبة للخليفة بمكة بيومين قرئ كتابه بتفويضه إلى الملك المؤيد تدبير الأمور بالممالك الشريفة، ولقبه فيه ينظام الملك بعد أن ذكر فيه قتل الملك الناصر3 بسيف الشرع الشريف، وكان قتله في ليلة السبت سابع عشر صفر من هذه السنة بدمشق، ودعي للإمام المستعين بالله على زمزم بعهد المغرب من ليلة الخميس الحادي والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، عوض الملك الناصر، واستمر الدعاء له على زمزم في كل ليلة إلى أن وصل كتاب الملك المؤيد يتضمن مبايعة الخليفة، وأهل الحل والعقد من أهل الدولة وغيرهم له بالسلطنة في التاريخ المقدم ذكره، فترك الدعاء للخليفة المستعين بالله على زمزم ودعي له في الخطبة قبل الملك المؤيد دعاء مختصرا بالصلاح، ثم ترك الدعاء له في يوم الجمعة التاسع عشر من شوال سنة ست عشرة وثمانمائة4؛ لأن بعض من ولي الخطابة بمكة رأى ذلك، ثم أعيد الدعاء له في الخطب مختصرا، كما كان يفعل قبل الملك المؤيد في يوم الجمعة ثاني ذي الحجة من السنة المذكورة، لما عاد إلى الخطابة من كان يصنع ذلك، ثم ترك الدعاء له لما عاد إلى الخطابة من كان ترك الدعاء له؛ لأن الدعاء للخليفة لم يعهد بمكة فيما قيل في بعد المستعين، وحكي أيضا أن أخاه داود أقيم عوضه في الخلافة، ولقب بالمعتصم؛ وذلك في سنة سبع عشرة وثمانمائة، وفي ربيع الثاني منها ترك الدعاء في الخطبة بمكة للمستعين بالله، وأول جمعة دعي
__________
1 العقد الثمين 1/ 199، درر الفرائد "ص: 682"، إتحاف الورى 3/ 483.
2 النجوم الزاهرة 13/ 189 - 208، العقد الثمين 4/ 111.
3 هو السلطان فرج بن برقوق.
4 العقد الثمين 2/ 57، إتحاف الورى 3/ 510.(2/308)
فيها بمكة للمؤيد يوم الجمعة السابع عشر من شوال سنة خمس عشرة وثمانمائة1؛ فالله تعالى يديم دولته ويعلي كلمته.
ومنها: أنه في سنة ست عشرة وثمانمائة حج الناس من بغداد بمحمل على العادة، ومعهم ناس من خراسان، والذي جهز الحجاج من بغداد صاحبها "ابن قرا يوسف" ودعي له ولأبيه ولأخيه في المسجد الحرام في ليلة الجمعة سادس عشر ذي الحجة من السنة المذكورة، وبعد الفراغ من قراءة الختمة الشريفة التي جرت العادة بقراءتها، لأجل صاحب بغداد، وكانت الوقفة بالجمعة2.
ومنها: أنه في سنة سبع عشرة وثمانمائة في يوم الجمعة خامس ذي الحجة حصل في المسجد الحرام فتنة عظيمة، انتهكت فيها حرمة المسجد كثيرا، لما حصل فيه القتال بالسلاح والخيل، وإراقة الدم فيه، وروث الخيل فيه وطول مقامها فيه؛ وسبب ذلك: أن أمير الحج المصري أدب بعض غلمان القواد المعروفين بالعمرة على حمل السلاح، لنهيه عن ذلك، وسجنه، فرغب مواليه في إطلاقه، فامتنع الأمير؛ فلما صليت الجمعة هاجم جماعة من القواد المسجد الحرام من باب إبراهيم راكبين خيولهم وبعضهم لابس لأمة الحرب، وبعضهم عار منها، وانتهوا إلى مقام الحنفية؛ فلقيهم الترك والحجاج واقتتلوا، فخرج أهل مكة من المسجد، فتبعهم الترك والحجاج، فقاتلوهم بسوق العلاقة بأسفل مكة؛ فظفر عليهم المصريون أيضا، وانتهب بعض العوام من المصريين السوق المذكور، والسوق الذي بالمسعى، وبعض بيوت المكيين؛ فلما كان آخر النهار أمر أمير الحجاج بتسمير أبواب المسجد، إلا باب بني شيبة، وباب الدريبة، والباب الذي عند المدرسة المجاهدية؛ لأن أمير الركب الأول ومن في أبواب المسجد الحرام كلها، خلا ما ذكر، وأدخلت خيل أمير المحمل إلى المسجد، وجعلت بالرواق الشرقي قريبا من منزله برباط الشرابي، وهو منزل أمير المحمل المصري في الغالب، وباتت الخيل في المسجد حتى الصباح، وأوقدت فيه مشاعل الأمير، ومشاعل المقامات الأربعة، وبات به جمع كثير من الحجاج المصريين في وجل كثير، ورام بعض القواد ومن انضم إليه نهب الحجيج الذين بالأبطح وخارج المسجد؛ فأبى ذلك الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة، وانضم في بكرة يوم السبت سادس ذي الحجة إلى القواد بموضع يقال له الطنبداوية بأسفل مكة قريبا منها، وحضر إليه في بكرة هذا اليوم جماعة من أعيان مكة والحجاج، فبدا منه ما يدل على كراهيته لما وقع من الفتنة ورغبته في إخمادها، وبعثهم بذلك إلى أمير المحمل،
__________
1 السلوك 4/ 1: 251، إتحاف الورى 3/ 497، العقد الثمين 4/ 112.
2 إتحاف الورى الورى 3/ 510.(2/309)
فعرفوه بذلك، فبدا منه مثل ما بدا من صاحب مكة، وأجاب إلى ما سئل فيه من إطلاق الذي أدبه على أن يفصل صاحب مكة ما يحصل به الطمأنينة للحجاج من الحث على رعايتهم، وغير ذلك؛ فوافق على ذلك صاحب مكة، وبعث ولده السيد أحمد إلى أمير المحمل، فخلع عليه، وسكنت الخواطر بذلك، وباع الناس واشتروا، وحصل في الفريقين جراحات كثيرة، مات بها غير واحد من الفريقين، ولا أعلم أن المسجد الحرام انتهك نظير هذا الانتهاك من بعد الفتنة المعروفة بفتنة قندس، في آخر سنة إحدى وستين وسبعمائة إلى تاريخه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها: أنه في هذه السنة حصل اختلاف كثير في تعيين الوقفة؛ لأن جمعا كثيرا من القادمين إلى مكة في البر والبحر وبعضا من مكة، ذكروا أنهم رأوا هلال ذي الحجة ليلة الاثنين، ولم ير ذلك غالب أهل مكة ولا غالب الركب المصري؛ فوقع الاتفاق على أن الناس يخرجون إلى عرفة في بكرة يوم الثلاثاء من ذي الحجة على مقتضى رؤية الثلاثاء، ففعلوا ذلك، وصار معظم الحاج إلى عرفة من غير نزول بمنى؛ فبلغوها بعد دخول وقت العصر، وتخلف غالب المكيين بمكة إلى وقت الظهر، وتوجهوا إلى عرفة من غير نزول بمنى؛ فلما كانوا بالمأزمين: مأزمي عرفة -وتسمي الناس هذا الموضع: المضيق خرج عليهم بعض الحرامية، فقتلوا وجرحوا ونهبوا، وعقروا الجمال، وكنا بالقرب ممن أصابه هذا البلاء؛ فلطف الله تعالى، ولم يصبنا مثل الذي أصابهم، ووصلنا إلى عرفة، ووصل بعدنا إليها أناس آخرون، وأقمنا بها مع الحجاج بقية ليلة الأربعاء، ويوم الأربعاء حتى الغروب، ونفرنا مع الحجاج إلى المزدلفة، وبتنا بها إلى قريب الفجر، وسرنا إلى منى حتى انتهينا إليها في بكرة يوم الخميس. وحصل بمنى في ليلة الأربعاء وليلة الخميس نهب كثير وجراحات في الناس، ولم يحج في هذه السنة من أهل مكة إلا القليل. ونفر الحجاج أجمعهم في بكرة يوم النفر الثاني، ونزلوا قريبا من التنعيم، ولم يخرجوا بعد طوافهم للوداع إلا من باب المعلاة؛ لإغلاق باب الشبيكة دونهم، وسافر الأمير وأعيان الحاج وهم متأثرون لذلك ونسأل الله تعالى أن يحسن العاقبة.
وفي هذه السنة حج ركب من بغداد بمحمل على العادة، ولم يعملوا في المسجد الحرام ختمة على العادة، لرحيلهم بأثر رحيل الحجاج المصريين والشاميين خوفا من زيادة الغرامة في المكس1.
ومنها: أنه في سنة ثمان عشرة وثمانمائة أقام الحجاج بمنى حتى طلعت الشمس على ثبير من يوم عرفة، وصلوا بها الصلوات الخمس وأحيوا هذه السنة بعد إماتتها دهرا طويلا، والله يثبت الساعي في ذلك2 آمين.
__________
1 درر الفرائد "ص: 320".
2 إتحاف الورى 3/ 527.(2/310)
ومن شعائر الحج التي ينبغي إحياؤها -أيضا- الخطبة بمنى، وهذه سنة متروكة من دهر طويل جدا، وكان خطيب مكة الفقيه سليمان بن خليل يفعلها بعد الرمي، وفعلها بعده خطيب مكة ابن الأعمى قبل الرمي؛ وذلك في يوم النفر من سنة تسع وستين وستمائة، على ما ذكر الشيخ أبو العباس الميورقي في تعاليقه -فيما ألفيته منقولا بخط بعض أصحابنا من خط الميورقي1، وفعلها القاضي شهاب الدين أحمد بن ظهيرة فيما بلغني، فعل ذلك في موسم سنة ست وثمانين وسبعمائة أو في سنة سبع وثمانين أو في كليهما، والله أعلم.
وكان يذكر أن في موسم سنة ثماني عشرة وثمانمائة تقام هذه الشعيرة بمنى؛ فما تم ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وفي كتب أصحابنا المالكية ما يقتضي أن الخطبة بمنى تكون في اليوم الحادي عشر قبل النفر الأول، والله أعلم.
وفيها -أعني سنة ثمان عشرة وثمانمائة: حج العراقيون بمحمل من بغداد على العادة، وجرى حالهم كالسنة التي قبلها، وكذلك سنة تسع عشرة وثمانمائة، وكذلك سنة عشرين وثمانمائة2.
ولم يحج العراقيون من بغداد في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة3، ولعل سبب ذلك كما قيل من أن الملك شاة رخ بن تيمورلنك أخذ تبريز من قرا سنقر والد صاحب بغداد، أو الحرب الذي كان بين عسكر قرا سنقر، وعسكر حلب من بلاد الروم، وكان الظفر لعسكر حلب، وقتل ابن لقرا سنقر، قيل هو صاحب بغداد، وقيل غيره، وهو أصح، والله أعلم، وكانت هذه الحرب في أثناء سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وفيها كانت الوقعة بالجمعة اتفاقا، وكان يقال: إن الملك المؤيد صاحب مصر يحج فيها؛ فلم يتفق ذلك، ولعل سبب ذلك ما اتفق من إتيان عسكر قرا سنقر لحلب، والله أعلم.
ولم يحج العراقيون بمحمل من بغداد على العادة في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ولا في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة4، ولا في سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة5. وفي آخرها هلك قرا سنقر بعد أن ثبت عند الحكام بمصر زندقته وزندقة ولد محمد شاه صاحب بغداد.
وفيها قصد صاحب الشرق الملك شاه رخ بن تيمورلنك في عسكر كثير جدا لحربه.
__________
1 إتحاف الورى 3/ 100.
2 درر الفرائد "ص: 320"، إتحاف الورى 3/ 535، 551.
3 السلوك 4/ 1: 478، إتحاف الورى 3/ 562.
4 درر الفرائد "ص: 221".
5 السلوك 4/ 1: 519.(2/311)
ولم يحج العراقيون أيضا من بغداد في سنة أربع وعشرين وثمانمائة1، وحج فيها قفل من عقيل، وتوجه معهم من مكة جمع كثيرون من التجار؛ فنهبوا نبها فاحشا فيما بين وادي نخلة والطائف في النصف الثاني من ذي الحجة منها، ورجع كثير من المنهوبين لمكة، فألبت عليهم الخواطر، وباع الناهبون ما انتهبوا بأبخس الأثمان.
ومنها: أنه في يوم الجمعة السادس عشر من شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وثمانمائة خطب بمكة للملك المظفر أحمد ابن الملك المؤيد أبي النصر شيخ، بعد مبايعته بالسلطنة وغيرها في يوم موت والده2، وقبل ذلك في حياة والده بعهد منه، ووصل منه تقليد إمرة مكة للسيد حسن بن عجلان وابنه السيد بركات3 فقرئ في الحطيم في رابع عشرة ربيع الأول4.
ومنها: أنه في يوم الجمعة ثاني ذي الحجة، على مقتضى رؤية أهل مكة لهلال ذي الحجة، هو الثالث منه على مقتضى رؤية أهل مصر واليمن لهلال ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثمانمائة: خطب بمكة للملك الظاهر أبي الفتح ططر، الذي كان يدير دولة المظفر ابن الملك المؤيد، وكان قد سار به في العسكر لدمشق، ثم طلب وعاد منها لدمشق وبويع في يوم الجمعة تاسع عشر من شعبان من السنة المذكورة بالسلطنة، وخطب له بديار سنة خمس وعشرين وثمانمائة بالقاهرة، فسلطنته ثلاثة أشهر وخمسة أيام5.
ومنها: أنه في سنة أربع وعشرين وثمانمائة: أقام الحجاج بمنى بقية يوم التروية، وليلة التاسع وإلى أن طلعت الشمس منه، ثم ساروا إلى عرفة مع المحمل المصري والشامي، ووقفت الناس يوم الجمعة6.
ومنها: أنه في يوم الجمعة التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وثمانمائة خطب بمكة للملك الصالح أبي الخير محمد ابن الملك الظاهر أبي الفتح ططر7؛ لأن والده عهد له بالسلطنة في ثاني ذي الحجة من سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وأخذ له البيعة بالسلطنة على أهل الحل والعقد بمصر من الدولة وغيرهم،
__________
1 السلوك 4/ 2: 596، إتحاف الورى 3/ 582.
2 إتحاف الورى 3/ 580.
3 انظر ترجمته في الضوء اللامع 3/ 13، رقم 50.
4 العقد الثمين 1/ 201.
5 إتحاف الورى 3/ 581.
6 السلوك 4/ 2: 596.
7 كان قد تولي الملك في التاسع والعشرين من شعبان سنة "824هـ" بعد خلع المظفر أحمد بن المؤيد شيخ "انظر: بدائع الزهور 2/ 70".(2/312)
وتمت البيعة له بعد أبيه، وله من العمر نحو عشرة أعوام -فيما قيل- وأما المظفر: فكان سنة لما بويع له بالسلطنة نحو سنتين فيما قيل، وقيل: نحو أربع سنين، والله أعلم.
ومنها: أنه في يوم الجمعة الثامن عشر لجمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وثمانمائة خطب بمكة للملك الأشرف أبي النصر برسباي1 الذي كان يدير دولة الملك الصالح ابن الملك الظاهر، لتوليه السلطنة بديار مصر والشام عوض الملك الصالح، بعد خلعه في ثامن شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وقطعت الخطبة للملك الصالح بمكة2.
ومنها: أنه في سنة ست وعشرين وثمانمائة بات الحجاج بمنى في ليلة التاسع إلى طلوع الفجر أو قربه، ثم ساروا إلى عرفة فبلغوها بعد طلوع الشمس بقليل، وسبب مبيتهم فيها: خوف النهب، فسلموا في ذهابهم ورجوعهم، لاعتناء الأمراء الذين حجوا في هذه السنة بحراستهم، أثابهم الله تعالى3.
وهذا آخر ما قصدنا ذكره من الحوادث في هذا الباب، ونسأل الله -تعالى- أن يجزل لنا على ذلك الثواب، ولولا مراعاتنا للاختصار في ذكرها لطال شرح أمرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
1 هو السلطان الملك الأشرف أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري "انظر ترجمته في: بدائع الزهور 2/ 81".
2 العقد الثمين 4/ 143.
3 العقد الثمين 4/ 146، 147، إتحاف الورى 3/ 595.(2/313)
الباب التاسع والثلاثون:
سيول مكة في الجاهلية:
روينا بالسند المتدقم إلى الأزرقي قال: سيولة مكة في الجاهلية.
حدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز قال: إن وادي مكة سال في الجاهلية سيلا عظيما وخزاعة تلي الكعبة، وأن ذلك السيل هجم على أهل مكة، ودخل المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، ورمي شجر بأسفل مكة، وجاء برجل وامرأة ميتين؛ فعرفت المرأة، كانت تسكن بأعلى مكة، يقال لها فارة، ولم يعرف الرجل، فبنت خزاعة حوالي البيت بناء وأدارته1 عليه، وأدخلوا الحجر فيه ليحصنوا البيت من السيل؛ فلم يزل ذلك البناء على حاله حتى بنت قريش الكعبة، فسمى ذلك السيل: سيل فارة، وسمعت أنها امرأة من بني بكر2.
وبه قال الأزرقي: حدثني جدي عن سفيان عن عمرو بن دينار، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: حدثني أبي عن جده قال: جاء سيل في الجاهلية كسا ما بين الجبلين3 وبه قال الأزرقي.
__________
1 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 166: "أدروه".
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 166.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 103، وإسناده صحيح، ورواه الأزرقي في أخبار مكة 2/ 167.(2/314)
سيول مكة في الإسلام:
قال الأزرقي: "سيول وادي مكة في الإسلام": حدثني جدي قال: وسال وادي مكة في الإسلام بأسيال عظام مشهورة عند أهل مكة؛ منها: سيل في خلافة عمر بن(2/314)
الخطاب -رضي الله عنه- يقال له: سيل أم نهشل، أقبل السيل حتى دخل المسجد الحرام من الوادي ومن أعلى مكة من طريق الردم، وبين الدارين1، وكان ذلك السيل ذهب بأم نهشل بنت عبيد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس؛ حتى استخرجت منه بأسفل مكة؛ فمسي: سيل أم نهشل، واقتلع السيل المقام -مقام إبراهيم الخليل -عليه أفضل الصلاة والسلام- وذهب به حتى وجد بأسفل مكة، وعين مكانه الذي كان فيه، وأخذ فربط بلصق الكعبة بأستارها، وكتب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في ذلك فجاء فزعا، حتى رد المقام مكانه، ثم قال: فعمل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في تلك السنة الردم الذي يقال له: ردم عمر، وهو الردم الأعلى عند دار جحش بن رئاب، التي يقال لها: دار إبان بن عثمان إلى دار بيه؛ فبناه بالضفائر والصخر العظام، وكبسه، فسمعت جدي يذكر أنه لم يعله سيل منذ ردمه عمر -رضي الله عنه- إلى اليوم. وقد جاء من بعده أسيال عظام، كل ذلك لا يعلوه منها شيء2.
قال الأزرقي: ذكر سيل الجحاف، وما جاء في ذلك، قال:
وكان سبيل الجحاف في سنة ثمانين وفي خلافة عبد الملك بن مروان، صبح الحاج يوما، وكان يوم التروية، وهم آمنون قارون3، قد نزلوا إلى وادي مكة، واضطربوا الأبنية، ولم يكن عليهم من المطر إلا شيء يسير؛ إنما كانت السماء في صدر الوادي، وكان عليهم من ذلك رشاش4.
قال الأزرقي: قال جدي: حدثني سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: لم يكن المطر عام الجحاف على مكة إلا شيئا يسيرا؛ وإنما كان شدته بأعلى الوادي، قال: فصبحبهم يوم التروية بالغبش قبل صلاة الصبح، فذهب بهم وبمتاعهم، ودخل المسجد وأحاط بالكعبة، وجاء دفعة واحدة، وهدم الدور على الشوارع وعلى الوادي، وقتل الهدم أناسا كثيرا، ورقي الناس في الجبال واعتصموا بها؛ فسمي ذلك الجحاف؛ وقال فيه عبد الله بن أبي عمار:
ولم تر عيني مثل يوم الاثنين5 ... أكثر محزونا وأبكى للعين
__________
1 الدارين هما: دار أبو سفيان، ودار حنظلة بن أبي سفيان.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 167 و168، أخبار مكة للفاكهي 3/ 104، العقد الثمين 1/ 405، إتحاف الورى 2/ 7.
3 في أخبار مكة للأزرقي، وإتحاف الورى 2/ 108: "غارون" وهو تصيف.
4 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 168: "رشاس من ذلك".
5 هو اليوم الذي جاء فيه السيل، ذكر ذلك البلاذري 1/ 62.(2/315)
إذ خرج المختبئات تسعين ... سواندا في الجبلين يرقين1
فكتب في ذلك إلى عبد الملك بن مروان، ففزع لذلك، وبعث بمال عظيم، وكتب إلى عامله على مكة عبد الله بن سفيان المخزومي -ويقال: بل كان عامله الحارث بن خالد المخزومي- يأمره بعمل شفائر الدور الشارعة على الوادي للناس من المال الذي بعث به، وعمل ردما على أفواه السكك تحصن بها درر الناس من السيول، وبعث رجلا "معد بن مهند" في عمل ذلك، وعمل ضفائر المسجد الحرام، وضفائر الدور في جنبتي الوادي؛ فكان من تلك الردم، الردم الذي يقال له ردم الحزامية على فوهة بخط الحزامية2، والردم الذي يقال له: ردم بني جمح، وليس لهم؛ ولكنه لبني قراد الفهريين، فغلب عليه ردم بني جمح، وله يقول الشاعر:
سأملك عبرة وأفيض أخرى ... إذا جاوزت ردم بني قراد3
قال: فأمر عامله بالصخر العظام4، فنقلت له على العجل، وحفر الرباط دون دور الناس؛ فبناها به وأحكمها من المال الذي بعث به، قالوا: فكانت الخيل والثيران تجر ذلك العجل، حتى ربما أنفق في المسكن الصغير لبعض الناس مثل ثمنه مرات، ومن تلك الضفائر أشياء إلى اليوم قائمة على حالها من دار أبان بن عثمان التي هي ردم عمر -رضي الله عنه، وهلم جرا إلى دار ابن الخوار؛ فتلك الضفائر التي في رباط تلك الدور كلها، مما عمل من ذلك المال، ومن ردم بني جمح منحدرا في الشق الأيسر إلى أسفل مكة، وأشياء من ذلك المال، ومن ردم بني جمح منحدرا في الشق الأيسر إلى أسفل مكة، وأشياء من ذلك هي على حالها، وأما الضفائر دار أويس التي بأسفل مكة ببطح نحر الوادي: فقد اختلف علينا في أمرها؛ فقال بعضهم: هي من عمل عبد الملك، وقال آخرون: هي من عمل أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما، وهو أثبتهما عندنا5.
وكان جاء بعد ذلك سيل يقال له سيل المخبل في سنة أربع وثمانين، وأصاب الناس عقبه مرض شديد في أجسادهم وألسنتهم، أصابهم منه شبه الخبل6، فسمي: المخبل7، وكان عظيما دخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة8.
__________
1 سواندا، وفي نسخة: شوادرا، وكذا في إتحاف الورى:
شواردا في الجابين يرقين
2 خط الخزامية: يقع عند باب الوداع.
3 فتوح البلدان 1/ 62، 63.
4 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 169، إتحاف الورى 2/ 110: "بالصخر العظام".
5 أخبار مكة للأزرقي في 2/ 168، 170، إتحاف الورى 2/ 108، أخبار مكة للفاكهي 3/ 105.
6 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة للأزرقي.
7 في أخبار مكة للأزرقي: "سيل المخبل".
8 إتحاف مكة 2/ 111، أخبار مكة للأزرقي 2/ 169.(2/316)
وكان بعد ذلك أيضا سيل عظيم -في سنة أربع وثمانين ومائة- وحماد البربري أمير على مكة -دخل المسجد الحرام، وذهب بالناس وأمتعتهم، وغرق الوادي في أثره في خلافة الرشيد هارون1.
وجاء سيل في سنة اثنتين ومائيتين في خلافة المأمون، وعلى مكة: يزيد بن محمد بن حنظلة المخزومي، خليفة لحمدون بن علي بن عيسى بن ماهان؛ فدخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة، وكان دون الحجر الأسود بذراع، ورفع المقام عن مكانه؛ لما خيف عليه أن يذهب به السيل، وهدم دورا من دور الناس، وذهب بناس كثير، وأصاب الناس بعده مرض شديد من وباء وموت وفاش؛ فسمى ذلك السيل: سيل ابن حنظلة2.
ثم جاء بعد ذلك في خلافة المأمون، هو أعظم من سيل ابن حنظلة في سنة ثمان ومائتين في شوال، جاء والناس غافلون؛ فامتلأ السد الذي بالثقبة3، فلما فاض انهدم السد، فجاء السيل الذي اجتمع فيه مع سيل السدرة، وسيل ما أقبل منى؛ فاجتمع ذلك كله، فجاء جملة، فاقتحم المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، وبلغ الحجر الأسود، ورفع المقام من مكانه لما خيف عليه أن يذهب به، فكبس المسجد الحرام والواغدي بالطين والبطحاء، وقلع صناديق الأسواق ومقاعدهم، وألقاها بأسفل مكة، وذهب بأناس كثيرين، وهدم دورا كثيرا مما أشرف على الوادي. وكان أمير مكة يومئذ: عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- وعلى بريد مكة وصوافيها: مبارك الطبري. وكان وافى تلك السنة للعمرة في شهر رمضان قوم من الحجاج من أهل خراسان وغيرهم كثير؛ فلما رأى الناس من الحجاج وأهل مكة ما في المسجد من الطين والتراب، اجتمع الناس فكانوا يعملون بأيديهم ويستأجرون من أموالهم؛ حتى كان النساء بالليل والعواتق يخرجن فينقلن التراب التماس الأجر والبركة؛ حتى رفع من المسجد الحرام ونقل ما فيه؛ فرفع ذلك إلى المأمون فأرسل بمال عظم، وأمر أن يعمر به في المسجد، ويبطح ويعزق وادي مكة، فعزق منه وادي مكة، وعمر المسجد الحرام وبطح، ثم لم يعزق وادي مكة، حتى كانت سنة سبع وثلاثين ومائتين؛ فأمرت أم أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله باثنتي عشرة ألف دينار لعزقه، فعزق بها عزقا مستوعبا4 ... انتهى.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 170.
2 إتحاف الورى 2/ 279، أخبار مكة للأزرقي 2/ 170.
3 الثقبة -بالتحريك: جبل بين حراء ومكة وتحته مزارع "مراصد الاطلاع 1/ 279".
4 إتحاف الورى 2/ 282، أخبار مكة للأزرقي 2/ 271، أخبار مكة للفاكهي 3/ 109.(2/317)
هذا ما ذكر الأزرقي من سيول وادي مكة في الجاهلية والإسلام1.
وذكر الفاكهي2 السيول الذي ذكرها الأزرقي أخصر مما ذكره، وذكر أن في ذلك غير ما لم يذكره الأزرقي؛ لأنه ذكر أن السيل الذي يقال له "المخبل": كان في ولاية حماد البربري على مكة، وهذا لا يفهم من كلام الأزرقي.
وذكر أن السيل الذي يقال له "سيل ابن حنظلة" كان عظيما امتلأ به الوادي وعلاه قيد رمح، وهذا أيضا لا يفهم من كلام الأزرقي. ونقل الفاكهي هذا عن ابن إسحاق عن ابن عباس.
ومن أمطار مكة وسيولها التي كانت قبل الأزرقي ولم يذكرها، ما ذكره ابن جرير الطبري في تاريخه؛ لأن فيه: أخبار سنة ثمان وثمانين من الهجرة: وعن صالح بن كيسان قال: خرج عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- تلك السنة -يعني سنة ثمان وثمانين- ومعه نفر من قريش3 أرسل إليهم بصلات، وظهر للحمولة، وأحرموا معه من ذي الحليفة، وساق معه بدنا؛ فما كان بالشفير4 لقيهم نفر من قريش، منهم ابن أبي مليكة وغيره؛ فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش؛ وذلك أن المطر قل، فقال عمر -رضي الله عنه: فالمطلب هاهنا: تعالوا ندع الله -تعالى- قال: فرأيتهم دعوا، ودعا معهم عمر -رضي الله عنه؛ فألحوا في الدعاء، قال صالح: فلا والله إنا وصلنا إلى البيت ذلك اليوم إلا مع المطر، حتى كان مع الليل، وسكبت السماء، وجاء سيل الوادي؛ فجاء أمر، فخافه أهل مكة، ومطرت عرفة، ومنى، وجمع، فما كانت إلا عبرا5. قال: وكانت مكة تلك السنة مخصبة6 ... انتهى.
وذكر ابن الأثير هذا بالمعنى مختصرا، وفيه: أنهم لقوا عمر -رضي الله عنه- بالتنعيم، ولعل الشفير الذي وقع فيما نقلناه من تاريخ ابن جرير تصحيف من الكاتب، والله -تعالى- أعلم7.
ومنها: "سيل أبي شاكر" في ولاية هشام بن عبد الملك في سنة عشرين ومائة، وأبو شاكر المنسوب إليه هذا السيل هو: سلمة بن هشام بن عبد الملك. ولم يبين الفاكهي سبب تسمية هذا السيل بأبي شاكر؛ وذلك لأن أبا شاكر حج بالناس سنة تسع
__________
1 ذكر الأزرقي في مواضع متفرقة من كتابه عدة سيول أخرى منها: سيل وقع سنة "225هـ"، وآخر عام "240 هـ".
2 أخبار مكة الفاكهي 3/ 108.
3 عند الطبري 6/ 437: "بعده من قريش".
4 عند الطبري 6/ 437: "بالتنعيم".
5 العبر: الكثير من الشيء والسحاب السريع.
6 تاريخ الطبري 6/ 437 و438.
7 الكامل لابن الأثير 4/ 534، إتحاف الورى 2/ 113.(2/318)
عشرة ومائة -على ما ذكر العتيقي وغيره- وجاء هذا السيل عقيب حج أبي شاكر؛ فسمي به، والله أعلم1.
ومنها: سيل الأميري في خلافة المهدي العباسي سنة ستين ومائة، وكان هذا السيل ليومين بقيا من المحرم، وذكر هذين السيلين الفاكهي بمعنى ما ذكرناه2 والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن أمطار مكة وسيولها في عصر الأزرقي أو بعده بقليل: سيل كان في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ودخل المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، وبلغ قريبا من الركن الأسود، ورمى بالدور بأسفل مكة، وذهب بأمتعة الناس وخرب منازلهم، وملأ المسجد الحرام حتى جر ما في المسجد من التراب بالعجل3.
ومنها: في سنة اثنتين وستين ومائتين جاء سيل عظيم، ذهب بحصباء المسجد الحرام حتى عري منها4.
ومنها: سيل في سنة ثلاث وستين ومائتين؛ وذلك أن مكة مطرت مطرا شديدا، حتى سال الوادي، ودخل السيل من أبواب المسجد، فامتلأ المسجد، ونبع الماء قريبا من الحجر الأسود، ورفع المقام من موضعه، وأدخل في الكعبة للخوف عليه من السيل5، ذكر هذه السيول الفاكهي بهذا اللفظ، غير قليل منه فبالمعنى.
ومن أمطار مكة وسيولها بعد الأزرقي، ما ذكره إسحاق بن أحمد الخزاعي، راوي تاريخ الأزرقي، وأدخله فيه عقيب الخبر الذي فيه: أنه يأتي على زمزم زمان يكون أعذب من النيل والفرات؛ لأنه قال: وقد رأينا ذلك في سنة إحدى وثمانين ومائتين؛ وذلك أنه أصاب مكة أمطار كثيرة، وسال واديها بأسيال عظام في سنة تسع وسبعين، وسنة ثمانين ومائتين، فكثر ماء زمزم، وارتفع حتى كان قارب رأسها؛ فلم يكن بينه وبين شفتها العليا إلا سبع أذرع أو نحوها، وما رأيتها قط كذلك، ولا سمعت من يذكر أنه رآها كذلك، وعذبت جدا حتى كان ماؤها أعذب من مياه مكة التي يشربها أهلها6 ... انتهى.
ومنها: ما ذكره المسعودي في تاريخه في أخبار سنة سبع وتسعين ومائتين، ونص كلامه: ورد الخبر إلى مدينة السلام بأن أركان البيت الحرام غرقت حتى جرى
__________
1 إتحاف الورى 2/ 153، أخبار مكة للأزرقي 2/ 311، أخبار مكة للفاكهي 3/ 170.
2 إتحاف الورى 2/ 203، العقد الثمين 1/ 206، أخبار مكة للفاكهي 3/ 108.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 311 ملحق سيول مكة رقم 216، إتحاف الورى 2/ 331، درر الفرائد "ص: 230"، أخبار مكة للفاكهي 3/ 113.
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 312، إتحاف الورى 2/ 238.
5 إتحاف الورى 2/ 339.
6 إتحاف الورى 2/ 347، 348.(2/319)
الغرق في الطواف، وفاضت بئر زمزم، وأن ذلك لم يعهد فيما سلف من الزمان1 ... انتهى.
ومنها: أنه في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وقع بمكة مطر سبعة أيام، وسقطت منه الدور، وقد تضرر الناس من ذلك كثيرا2.
ومنها على ما وجدت بخط الشيخ جمال الدين محمد بن أحمد بن البرهان الطبري: أنه في سنة تسع وأربعين وخمسمائة وقع بمكة مطر سال منه وادي إبراهيم، ونزل مع الماء برد بقدر البيض، وزن بميزان أخي زهير مائة درهم.
ومنها على ما وجدت بخطه: أنه في سنة تسع وستين وخمسمائة وقع بمكة مطر وجاء سيل كبير إلى أن دخل من باب بني شيبة ودخل دار الإمارة ولم ير سيل قط قبله دخل دار الإمارة ... انتهى.
ومنها على ما وجدت بخطه: أنه في سنة تسع وسبعين وخمسمائة كثرت الأمطار والسيول بمكة، وسال وادي إبراهيم خمس مرات.
ومنها على ما وجدت بخطه: أنه في سنة تسع وستين وخمسمائة جاء سيل عظيم في يوم الاثنين الثامن من صفر ودخل الكعبة وأخذ ضرفتي3 باب إبراهيم، وحمل منابر الخطبة ودرجة الكعبة، ووصل الماء إلى فوق القناديل التي في وسط المسجد بكثير4 ... انتهى.
ورأيت في نسخة في تاريخ الأزرقي في حاشية صورتها: جاء أسيل في يوم الاثنين لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، هدم دورا على حافتي وادي مكة ودخل المسجد الحرام وعلا الحجر الأسود، ذراعين، ودخل الكعبة فبلغ قريبا من الذراع، وأخذ ضرفتي باب إبراهيم، وسال بهما ... انتهى.
وفي هذا زيادة على ما ذكر ابن البرهام؛ كون السيل بلغ في الكعبة قريبا من ذراع، وكونه أخذ ضرفتي باب إبراهيم، وكونه هدم دورا على جانبي وادي مكة.
ومنها: سيل على رأس العشرين وستمائة؛ ذكر ذلك ابن مسدي في "معجم شيوخه"؛ لكون هذا السيل أذهب إثبات بعض شيوخه، وذكر أنه طم بمكة5.
__________
1 مروج الذهب 4/ 307.
2 إتحاف الورى 2/ 504، العقد الثمين 7/ 446.
3 الضرفة بالعامية المصرية: شق الباب حين يكون مقسما إلى قسمين، وبالشامية: درفة.
4 إتحاف الورى 2/ 563، العقد الثمين 1/ 207.
5 إتحاف الورى 3/ 37، العقد الثمين 1/ 207.(2/320)
ومنها على ما وجدت بخط الشيخ أبي العباس الميورقي: أنه في منتصف ذي القعدة عام عشرين وستمائة أتى سيل عظيم قارب دخول بيت الله الحرام، ولم يدخله ... انتهى.
ولعله السيل الذي ذكره ابن مسدي، والله أعلم.
ومنها على ما وجدت بخطه: سيل في سنة إحدى وخمسين وستمائة.
ومنها على ما وجدت بخطه -أيضا: أنه في ليلة نصف شعبان سنة تسع وستين وستمائة أتى سيل لم يسمع بمثله في هذه الإعصار، بأثر سيل في أول يوم الجمعة، يعني رابع عشر شعبان هذه السنة، ودخل البيت الله الحرام -شرفه الله تعالى- وألقى كل زبالة في المعلاة في الحرم -قدسه الله تعالى- قال لي الشيخ عبد الله بن محمد ابن الشيخ أبي العباس أحمد التونسي المعروف بالأعمى: لم يكن ليلة النصف من شعبان بالحرم أحد إلا أن الحرم بقي كالبحر، يموج منبره فيه، وما سمعت تلك الليلة مؤذنا؛ لأنه بقي الناس من خوف الهدم والغرق في أمر عظيم، حتى خشي أنه ينسى كثير من الناس الفرض؛ فكيف بصلاة ليلة النصف من شعبان المكرمة، قال: وتوهمت أنا أنه طرد لأهل مكة عن بيته؛ لأنهم كانوا قد استعدوا على العادة لصلاة نصف شعبان، وأخرجوا من صلاة الجمعة، فأتمها الإمام، ولم ير تلك الليلة طائف إلا ما سمع في السحر برجل يطوف بالعوم. فتعجب الناس من قوته وجسارته، قال القلعي: إن الحجر الأسود لا يستطاع إلا لمن كان عواما غطاسا، وقال الفقيه يعقوب القاضي: حمل سيل مكة عالما عظيما، وطاحت الدور على عالم أيضا1 ... انتهى.
ومنها: سيل عظيم في ليلة الأربعاء سادس عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وسبعمائة؛ ذكره قاضي مكة شهاب الدين الطبري في كتاب كتبه لبعض أصحابه بعد الحج في هذه السنة، ونص المكتوب في الكتاب فيما يتعلق بهذا السيل: وجاء الناس سيل عظيم بلا مطر ليلة الأربعاء سادس عشر من ذي الحجة ملأ الفساقي التي عند المعلاة، وعند مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرب البساتين، وملأ الحرم، وأقام الماء فيه يومين، والعمل مستمر فيه يلزم الناس شغل مدة كثيرة2 ... انتهى.
ومنها على ما ذكر البرزالي في "تاريخه": أن في آخر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وقع بمكة أمطار وصواعق، ووقعت صاعقة أبي قبيس فقتلت رجلا، ووقع في مسجد الخيف صاعقة فقتلت آخر، ووقع في الجعرانة صاعقة فقتلت رجلين3 ... انتهى.
__________
1 إتحاف الورى 3/ 100، درر الفرائد "ص: 283"، العقد الثمين 1/ 207.
2 إتحاف الورى 3/ 193.
3 إتحاف الورى 3/ 200، درر الفرائد "ص: 305".(2/321)
ومن أخبار الصواعق: صاعقة وقعت بمكة قبل سنة سبعمائة وبعد التسعين -بتقديم التاء- وستمائة هلك بها بعض مؤذني الحرم.
ومنها: صاعقة وقعت في المسجد الحرام، فقتلت خمسة نفر؛ وذلك في سنة أربع وخمسين ومائة. ذكر ذلك الواقدي فيما حكاه الذهبي عنه1.
ومنها على ما وجدت بخط ابن البرهان: أنه في ليلة الخميس العاشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة دخل سيل عظيم إلى المسجد الحرام، وبلغ في الكعبة شبرا وأربع أصابع ... انتهى.
وقد ذكر هذا السيل ابن محفوظ في تاريخه؛ فقال: وفي تلك السنة يعني سنة ثمان وثلاثين جاء سيل وادي إبراهيم؛ حتى أنه دخل الحرم، فطلع في وسط الكعبة قدر ذراع، وبلغ الماء إلى القناديل التي بالأورقة، وبقيت المنابر منابر الخطبة ودرجة الكعبة كأنهم ترابا عظيما، وقعد الناس في تقويمه مدة ... انتهى.
ورأيته مذكورا بأبسط من هذا في ورقة لا أعرف كاتبها، فرأيت أن أذكر ذلك أما فيه من الفائدة، ونص مكتوب:
ولما كان عام ثمانين وثلاثين وسبعمائة -أحسن الله تقضية وعقباه- ليلة الخميس عاشر جمادى الأولى منه، الموافق خامس كانون الأول، قدر الله تعالى غيما، وردعوا مزعجة، وبروقا مخيفة، ومطر وابل كأفواه القرب على الملأ من علو، ثم وقعت السيول من كل جهة، وكان وبل بمكة -شرفها الله تعالى وحماها، وكان معظم السيل من جهة البطحاء؛ فدخل الحرم الشريف من جميع الأبواب التي تليه: من باب بني شيبة إلى باب إبراهيم، وحفر في الأبواب، وجعل حول الأعمدة في طريقه مقدار قامتين وأكثر ولو لم تكن أساسات الأعمدة محكمة لكان رمى بها وقلع من أبواب الحرم أماكن، وطاف بها الماء؛ فطاف بالمنابر كل واحدة إلى جهة، وبلغ عند الكعبة المعظمة قامة ووصل إلى قناديل من خلل الباب، وعلا الماء فوق عتبتها أكثر من نصف ذراع بل شبرين، ووصل إلى قناديل المطاف، وعبر في بعضها من فوقها فطفأه، وغرق بعض المجاورات من النساء اللواتي في المصاطب، وخرب بيوتا كثيرة، وغرق بعض أهلها، وبعضهم مات تحت الردم، وكان أمرا مهولا قدرة قادرة يقول للشيء كن فيكون -سبحانه وتعالى- ولو دام ذلك النوء إلى الصباح لكانت عرفت مكة، والعياذ بالله، وذكره أيضا: الشيخ عماد الدين بن كثير في "تاريخه" بما يقضي تعظيمه2.
__________
1 تاريخ الإسلام 6/ 106.
2 إتحاف الورى 3/ 212، ويعرف هذا السيل بسيل القناديل.(2/322)
ولم يجئ مكة -فيما علمت- بعد هذا السيل سيل على نحو هذه الصفة؛ إلا سيل كان بمكة في سنة اثنتين وثمانمائة؛ وذلك أنه في آخر اليوم الثامن من جمادى الأول من هذه السنة، نشأت مخايل، واستهلت بالغيث ساعة بعد ساعة، وكان الحال هكذا في اليوم التاسع من هذا الشهر، وفي آخره اشتد استهلال الغيث، واستمر الحال على ذلك إلى بعد المغرب من ليلة الخميس عاشر الشهر المذكور؛ فصار المطر يصب كأفواه القرب، وما شعر الناس إلا سيل وادي إبراهيم قد هجم مكة؛ فلما حاذى وادي أجياد خالطه السيل الذي جاء منه، وصار ذلك بحرا زاخرا، فدخل السيل المسجد الحرام من غالب أبوابه، وعمه كله، وكان عمقه في المسجد خمسة أذرع، على ما ذكر لي بعض أصحابنا في كتابه؛ لأني كنت غائبا عن مكة في الرحلة الثانية منها. وذكر لي بعض مشايخنا أن عمقه في جهة باب إبراهيم فوق قامة وبسطة، وأنه علا على عتبة باب الكعبة المعظمة قدر ذراع أو أكثر فيما قيل، ودخلها السيل من شق بابها الشريف، واحتمل درجة الكعبة المعظمة قدر ذراع أو أكثر فيما قيل، ودخلها السيل من شق بابها الشريف، واحتمل درجة الكعبة المعظمة فألقاها عند باب إبراهيم، ولولا صد بعض العواميد لها لحملها إلى حيث ينتهي، وأخرب عمودين في المسجد الحرام عند باب العجلة، بما عليهما من العقود والسقف، ولولا ما لطف الله به من تصرفه من المسجد سريعا لأخرب المسجد؛ لأنه كان يقد الأرض قدا، وأخرب دورا كثيرة بمكة، وسقط بعضها على سكانها فماتوا، وجملة من استشهد بسببه -على ما قيل- نحو ستين نفرا، وأفسد للناس من الأمتعة شيئا كثيرا، وأفسد في المسجد مصاحف كثيرة، ولما أصبح الناس نادى لهم المؤذن لصلاة الصبح بالصلاة في بيوتهم؛ للمشقة العظيمة في المشي في الطرقات إلى المسجد الحرام؛ لأجل الوحل والطين، وامتلأ المسجد بذلك أيضا، وكذلك صنع المؤذن لصلاة الصبح يوم الجمعة، ولم يخطب الخطيب يوم الجمعة إلا في الجانب الشمالي من المسجد الحرام، لعدم تمكنه من الخطبة في الموضع الذي جرت العادة بخطبته فيه، وهو الركن الشامي لما في هذا الموضع من الوحل والطين. وبلغني أن ناسا مكثوا يومين لا يتمكنون من الطواف لأجل ذلك إلا بمشقة، وبالجملة فكان سيلا مهولا، فسبحان الفعال لما يريد1.
ومن سيول مكة المهولة بعد هذا السيل: سيل يدانيه؛ لدخول المسجد الحرام، وارتفاعه فيه فوق الحجر الأسود حتى بلغ عتبة باب الكعبة الشريفة، وألقى درجتها عند منارة باب الحزورة، وكان هجم هذا السيل على المسجد الحرام عقيب صلاة الصبح، من يوم السبت سابع وعشرين من ذي الحجة سنة خمس وعشرين وثمانمائة، وكان المطر وقع بقوة عظيمة في آخر هذه الليلة؛ فلما كان وقت صلاة الصبح، صلى الإمام الشافعي
__________
1 إتحاف الورى 3/ 419، العقد الثمين 1/ 208.(2/323)
بالناس أمام زيادة دار الندوة بالجانب الشامي من المسجد الحرام؛ لتعذر الصلاة عليه بمقام إبراهيم وما يليه هناك؛ فلما انقضت صلاته للصبح حمل الفراش الشمع ليوصله إلى القبة المعدة لذلك، بين سقاية العباس، وقبة زمزم؛ فإذا الماء في صحن المسجد يعلوه قليلا قليلا، ولم يتمكن من إيصال الشمع للقبة إلا بعسر، وكان بعض أهل السقاية بها؛ فدخل عليه الماء من بابها، ثم زاد فرقى على دكة هناك، ثم زاد فرقى على صندوق وضعه فوق الدكة، فبلغه الماء، فخاف وخرج من السقاية فارا إلى صوب الصفا، وما نجا إلا بجهد، وكان السيل قد دخل المسجد الحرام، وقل أن يعهد دخول الماء منه، وصار المسجد مغمورا بالماء الكثير المرتفع نحو القامة، وكان به خشب كالصندوق الكبير ليس له رأس يستره، كان فوق بعض الأساطين التي أزيلت في هذه السنة لعمارتها؛ فأخذه بعض الناس وركب فيه، وصار يقذف به، حتى أخرج به من السيل الجديد عند زمزم شخصا كان بالسيل متعلقا ببعض شبابيك السبيل خوفا من الغرق، لما دخل الماء السبيل، ووصلا فيه للمحل الذي أرادا، وفعل مثل ذلك بغير واحد، وما خرج السيل من المسجد حتى هدمت عتبة باب إبراهيم لعلوها، وألقى السيل في المسجد لأجله، وأفسد الناس أشياء كثيرة من المتاجر في الدرر التي بمسيل وادي مكة بناحية سوق الليل والصفا، والمسفلة، وما مات فيه أحد فيما علمناه ولكن مات في هذه الليلة أربعة نفر بمكان يقال له: "الطنبداوية" بأسفل مكة، بصاعقة وقعت عليهم هناك؛ فسبحان الفعال لما يريد.
ومما تخرب بهذا السيل: موضع الدرب الجديد بسور باب المعلاة وألقاه للأرض، وما بين هذا الباب والباب القديم، وذلك ثمانية وعشرون ذرعا1.
ومنها: سيل يقارب هذا السيل، دخل المسجد الحرام من أبوابه التي بالجانب اليماني، وقارب الحجر الأسود؛ زاده الله شرفا، وألقى بالمسجد من الأوساخ والزبل شيئا كثيرا، وذلك بعد المغرب من ليلة ثالث جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، عقيب مطر عظيم، وكان ابتداؤه بعد العصر من ثاني الشهر المذكور، وأخرب هذا السيل باب الماجن، وجانبًا كبيرًا من سورة، ثم عمر ذلك، والله أعلم2.
ولا شك أن الأخبار في هذا المعنى كثيرة، ولكن لم نظفر منها إلا بهذه النبذة اليسيرة.
__________
1 إتحاف الورى 3/ 588.
2 إتحاف الورى 3/ 607، السلوك للمقريزي: 4/ 2: 663، العقد الثمين 1/ 208.(2/324)
ذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة على ترتيب ذلك في السنين:
فمن ذلك: أنه في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وقع بمكة غلاء، وأصاب الناس مجاعة شديدة، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد الذرة بعشرين درهما؛ ذكر ذلك صاحب الكامل1 ولم يبين مقدار المد، والله أعلم بذلك.
ومن ذلك: أنه في سنة إحدى وخمسين ومائتين بلغ الخبز بمكة ثلاث أواق برهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء بثلاثة دراهم؛ ذكر ذلك صاحب الكامل أيضا2.
ومن ذلك: أنه في سنة ستين ومائتين -على ما قال صاحب "الكامل" أيضا- اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام، فانجلى من أهل مكة الكثير، ورحل عنه عاملها3.
ومن ذلك: أنه في سنة ست وستين ومائتين -على ما قال صاحب "الكامل" أيضا- عم الغلاء سائر بلاد الإسلام من الحجاز، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، وغير ذلك؛ إلا أنه لم يبلغ الشدة التي بالمدينة4.
ومن ذلك: أنه في سنة ثمان وستين ومائتين -على ما قال صاحب "الكامل" أيضا- صار الخبز بمكة أوقيتين بدرهم، وذكر أن سبب ذلك أن أبا المغيرة المخزومي صار إلى مكة؛ فجمع عاملها جمعا احتمى بهم، فصار أبو المغيرة إلى المشاش -عين مكة- فغورها، وإلى جدة فنهب الطعام وأحرق بيوت أهلها، ثم ذكر ما سبق من سعر الخبز5.
ومن ذلك: أنه في سنة أربعين وأربعمائة -على ما ذكر صاحب "الكامل"- كان الغلاء والوباء عاما في جميع البلاد، بمكة، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، ومصر، وغيرها من البلاد6.
ومن ذلك: أنه في سنة سبع وأربعين وأربعمائة -على ما قال صاحب "الكامل" أيضا- كان بمكة غلاء شديد، بلغ الخبز عشرة أرطال بدينار مغربي، ثم تعذر وجوده،
__________
1 الكامل لابن الأثير 4/ 352، إتحاف الورى 2/ 91.
2 الكامل لابن الأثير 7/ 166، إتحاف الورى 2/ 330.
3 الكامل لابن الأثير 7/ 272، إتحاف الورى 2/ 336، وكان عامل مكة: إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الهاشمي المعروف ببرية.
4 الكامل لابن الأثير 7/ 336، إتحاف الورى 2/ 341.
5 الكامل لابن الأثير 7/ 372، إتحاف الورى 2/ 342.
6 الكامل لابن الأثير 8/ 552، إتحاف الورى 2/ 412.(2/325)
فأشرف الناس والحجاج على الهلاك؛ فأرسل الله -عز وجل- عليهم من الجراد ما ملأ الأرض فتعوض الناس به، ثم عاد الحجاج فسهل الأمر على أهل مكة، قال: وكان سبب هذا الغلاء عدم زيادة النيل بمصر -على العادة- فلم يحمل منها الطعام إلى مكة1 ... انتهى.
ومن ذلك: أنه في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة -على ما ذكر صاحب "الكامل"- عم الوباء والغلاء سائر البلدان من الشام، والجزيرة، والموصل، والحجاز، واليمن، وغيرها2.
ومن ذلك: أنه في سنة سبع وستين وخمسمائة -على ما وجدت بخط جمال الدين بن البرهان الطبري- بلغ الحب بمكة خمسة أمداد بدينار، ولم يجئ مير، لا في رجل، ولا في شعبان، إلى أن وصلت جلبتان صدقة مشحونتان من عند صلاح الدين -رحمه الله- فأحيت المسلمين وفرجت عنهم3 ... انتهى.
وما عرفت مقدار المد المشار إليه، هل هو مد الطائف، أو مد أهل بجيلة وما والاها، الذي يقال له الزبيدي، وهو الأقرب، لأنه مد المير المشار إليهم، وهم الجالبون للميرة إلى مكة، والله أعلم.
ومقدار هذا المد: ربعية، وهي ربع الربع المكي الذي يكتال الناس به بمكة الآن، ويبعد كل البعد أن يكون المد المشار إليه في هذه الحادثة -وفيما يذكر من الحوادث- المد المكي لكثرته ويسارة الثمن عنه؛ إلا أن يكون المشار إليه ذهبا، وهو بعيد، والله أعلم.
ومن ذلك: أنه في سبع تسع وستين وخمسمائة -على ما وجدت بخط ابن البرهان أيضا- بلغ الحب فيها صاعا بدينار، وصاعا إلا ربع، وأكل الناس الدم والجلود والعظام، ومات أكثر الناس؛ فلما كان الثامن والعشرون من جماد الآخرة، وجه الخليفة المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين بالصدقات لأهل مكة والمجاورين، وفرج عنهم، فرج الله عنه.
ثم قال بعد أن ذكر المطر الذي كان بمكة في هذه السنة -وقد تقدم ذكره: وجاء شهر رجب الميرة، وابتاعوا الحب ثلاثة أصوع ومدين بدينار4 ... انتهى.
__________
1 الكامل لابن الأثير 9/ 614، إتحاف الورى 2/ 464، در الفرائد "ص: 254".
2 الكامل لابن الأثير 9/ 631، إتحاف الورى 2/ 464، البداية والنهاية 12/ 68، در الفرائد "ص255".
3 إتحاف الورى 2/ 533.
4 إتحاف الورى 2/ 534، در الفرائد "ص: 263".(2/326)
والصاع هو الزبيدي -فيما أحسب- وهو ربع المد المكي. أو صاع طائفي؛ وهو نحو نصف المد المكي، وفيه بعد، وليس هو الصاع المكي بلا ريب؛ لكثرته ويسارة الثمن، والله أعلم.
ومن ذلك: أنه على رأس سنة ستمائة، كان بمكة غلاء شديد ووباء، ذكر ذلك الشيخ أبو العباس الميورقي؛ لأني وجدت بخطه: أن القاضي عثمان بن عبد الواحد العسقلاني المكي، أخبره أنه ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة، قال: وهذا تاريخ غلاء مصر الكبير، بقي نحو سنتين، ثم كان بأثره غلاء الحجاز المعروف بحوطته نحو سنتين، ثم أمطر الله البلاد؛ فوقع وباء الميلة سنين أيضا على رأس الستمائة ... انتهى.
ومن ذلك: أنه في سنة ثلاثين وستمائة، أو في التي بعدها كان بمكة غلاء يقال له: "غلاء ابن مجلى"؛ لأن الميورقي قال -فيما وجدت بخطه، بعد أن ذكر فتنة كانت بمكة في سنة تسع وعشرين وستمائة: ثم جاء غلاء ابن مجلى بأثر ذلك ... انتهى، ولم يبين الميورقي ابن مجلى هذا، وهو أمير كان بمكة من جهة الملك الكامل.
ومن ذلك على ما قال ابن محفوظ: في سنة تسع وأربعين وستمائة: وقع بمكة غلاء عظيم، وأقام الغلاء سنة1 ... انتهى.
ومن ذلك: أنه في عشر السبعين وستمائة، كان بمكة غلاء شديد، ذكر الميورقي؛ لأني وجد بخطه: فاشتد العلاء من آخر سنة ثلاث في الموسم، واستمر سنة أربع وستين، وتمادى إلى سنة خمس وستين ما لم يسمع بمثله في هذا العصر قط. قال: وسمعت علي بن الحسين يتذاكر مع مسعود بن جميل؛ فقالا: إن سنة الغلاء الكبير بالحجاز المعروفة بسنة حوطة، ما دامت، وذكر أن فوقها كان الميلة بالطائف والحجاز، على رأس الستمائة؛ فوجدت الغلاء الكبير؛ فلما فرغ كانت حوطة، وذكر لفي في هذا الغلاء سنة أربع وستين شيخ مصري أن هذا الغلاء اليوم في الحجاز مضاعف على الغلاء الذي الكبير الذي كان بمصر على قرب رأس الستمائة، أباد عالما من المصريين، وأكلوا فيه بعضهم بعضا.
وكان يعجب من صبر أهل الحجاز، وعدم افتضاحهم وكثرة مروءتهم في هذه الشدة، فصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الإيمان في أهل الحجاز".
ووجدت بخطه: وفي أواخر جمادى الآخرة سنة خمس وستين وستمائة في شهر تماز لطلوع الفجر بالفزع اشتد الخوف على البادية لتمام قحط السنين عليهم، وغلاء السعر بالطائف، وبلغ السعر في مكة: الشعير: ربع وثلثيه بدينار، وكان في رمضان.
__________
1 إتحاف الورى 3/ 70، السلوك للمقريزي 1/ 2: 382.(2/327)
وبخطه أيضا: الغلاء الدائم بالحجاز سنة ست وستين وستمائة.
ووجدت بخطه: سنة سبع وستين وستمائة: رابع سنة من سنين جدب قحط الحجاز، وذكر حادثة في هذه السنة.
ووجدت بخطه: وقعت زلزلة على نحو ثلث الليل بالطائف، وبغتهم غرة ربيع الأول سنة خامس قحط الحجاز سنة ثمان وستين وستمائة، ثم جاءت الميرة سنة تسع وستين في ليلة، وسنة سبعين.
ومن ذلك: أنه في إحدى وسبعين وستمائة، كان بمكة فناء عظيم. قال الميورقي: وسمعت الفقيه جمال الدين محمد بن أبي بكر التونسي إمام بني عوف يقول: في آخر رجب سنة إحدى وسبعين وستمائة قال الزوار: خرج من مكة -شرفها الله تعالى- في يوم واحد اثنان وعشرون جنازة، وفي يوم خمسون جنازة، وعد أهل مكة ما بين العمرتين من أول رجب إلى سبع وعشرين من رجب نحو ألف جنازة1.
ومن ذلك: أنه في سنة ست وسبعين وستمائة، كان الغلاء بمكة مستمرا2؛ لأجل الفتنة التي كانت بين صاحب مكة وصاحب المدينة، مع اتصال الجلاب من سواحل اليمن وعيذاب وسواكن؛ ذكر ذلك: زيد بن هاشم الحسني وزير المدينة النبوية في كتاب كتبه للميورقي، على ما وجدت بخطه فيه.
ومن ذلك: أنه في سنة إحدى وتسعين وستمائة، على ما وجدت بخط ابن محفوظ: وكانت الحنطة ربعا بدينار ... انتهى. والربع المشار إليه هو الربع المد المكي في غالب الظن، والله أعلم3.
ومن ذلك: أنه في سنة خمس وتسعين وستمائة -على ما وجدت بخط ابن الجزري الدمشقي في "تاريخه"- وصلت الأخبار بأن الغلاء كان بمكة والحجاز، وأن غرارة القمح بيعت بألف ومائتين درهما ... انتهى بالمعنى باختصار.
ولم يبين ابن الجزري الغرارة المشارة إليها، ويحتمل أن تكون الغرارة الشامية، ومقدارها، غرارتان مكيتان، ونحو نصف غرارة، ويحتمل أن تكون الغرارة المكية، والأول أقرب، والله أعلم4.
__________
1 در الفرائد "ص: 284"، وإتحاف الورى 3/ 102.
2 إتحاف الورى 3/ 108.
3 إتحاف الورى 3/ 102، ودر الفرائد "ص: 287".
4 إتحاف الورى 3/ 128، والسلوك للمقريزي 1/ 3: 815.(2/328)
ومن ذلك: أنه في سنة سبع وسبعمائة -على ما قال البرزالي في تاريخه: كان في وسط هذه السنة بمكة غلاء شديد بيعت غرارة الحنطة بألف وخمسمائة درهم، والذرة بأكثر من تسعمائة، وكان سبب الغلاء أن صاحب اليمن الملك المؤيد قطع الميرة عن مكة، لما بينه وبين صاحب مكة حميضة1 وميثة2 ابني أبي نمي، ولم يزل الحال شديدا إلى أن وصل الركب الرجبي؛ فنزل السعر، ثم ورد من اليمن السبلات بعد منعها، فعاش الناس، وكان وصول الركب الرجبي مكة في رمضان، وتوجهوا من القاهرة في سابع عشر من رجب، فكان فيه فوق ألفي جمل وراحلة، وكان الماء في هذه السنة يسيرا يحمل إليها من بطن مر، ومن أبي عروة وغيره، وسبب ذلك: قلة المطر بمكة سنين متوالية ... انتهى بالمعنى.
والغرارة المشار إليها هي الغرارة الشامية في غالب ظني، والله أعلم3.
ومن ذلك: أنه في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة -على ما قال البرزالي في "تاريخه": اشتد الغلاء بالحجاز وبمكة وما حولها؛ فبلغ القمح الأردب المصري مائتين وأربعين درهما، وأما التمر فعدم بالكلية، والأسمان تلاشت؛ حتى قيل إن السمن بلغت منهم كل أوقية خمسة دراهم، واللحم كذلك، المن بخمسه دراهم ... انتهى بالمعنى4.
والوقية المشار إليها هي في غالب ظني الوقية المكية، ومقدارها رطلان مصريان ونصف رطل، ويقال: رطلان وثلث، والأول هو الذي عليه عمل الناس اليوم، والمن المشار إليه سبعة أرطال مصرية إلا ثلث، ويحتمل أن يكون المراد بالوقية الوقية الشامية، وهي خمسون درهما وفيه بعد، والله أعلم.
والرطل المصري مائة وأربعة وأربعون درهما.
ومن ذلك: أنه في سنة خمس وعشرين وسبعمائة بيع القمح الأردب في جدة ساحل مكة، بمبلغ ثمانية عشر وسبعة عشر درهما كاملية، والشعير بمبلغ اثني عشر، نقلت ذلك من خط ابن الجزري في "تاريخه"، وذكر أن المحدث شهاب الدين المعروف بابن القدسية أخبره بذلك، لما عاد من مجاورته بمكة في هذه السنة5.
ومنها: أنه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة -على ما قال البرزالي في "تاريخه" نقلا عن كتاب عفيف الدين المطري- كانت مكة في غاية الطيبة والأمن والرخاء، القمح
__________
1 الدر الكامنة 2/ 78-81 ترجمة رقم 1627.
2 الدر الكامنة 2/ 111-112 ترجمة رقم 1728.
3 إتحاف الورى 3/ 144.
4 إتحاف الورى 3/ 173، ودرر الفرائد "ص: 299، 300"، والسلوك للمقريزي "2/ 1: 238".
5 إتحاف الورى 3/ 180.(2/329)
الأردب بأربعين درهما، والدقيق بثمانية، واللحم كل من بأربعة دراهم مسعودية، والعسل الهاجر المليح كل من بدرهمين، والسمن الوقية بثلاثة دراهم، والجبن كل من بدرهمين، وبها من الخير، وكثرة المجاورين ما لا يسمع بمثله ... انتهى1.
والمن المشار إليه هنا في العسل والجبن ثلاثة أرطال مصرية.
ومن ذلك: أنه في سبع وأربعين وسبعمائة، على ما قال ابن محفوظ، حصل على الناس غلاء عظيم في أيام الموسم والحج، ابتيعت الغرارة الذرة بمائة وأربعين، والحنطة بمائة وسبعين، والتمر بثلاثة دراهم المن، والملح سدسية بدرهم كاملي، ثم قال: ودام الغلاء في الناس شهرين بعد الحج2 ... انتهى.
ومن التمر المشار إليه، هو ثلاثة أرطال مصرية.
ومن ذلك: أنه في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة -على ما قال ابن محفوظ- وقع الغلاء في الموسم، ولم يبين ابن محفوظ مقدار هذا الغلاء، والله -سبحانه وتعالى- أعلم بحقيقة ذلك3.
ومن ذلك: أنه في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، كان الوباء الكبير بمكة وغيرها، وسائر الأقطار، وعظم أمره بديار مصر4.
ومن ذلك: أنه في سنة تسع وخمسين وسبعمائة -على ما قال ابن محفوظ- حصل على الناس الغلاء في المأكول جميعه، ولم يبين ابن محفوظ مقدار هذا الغلاء، ثم قال: ورحلت الحواج جميعها في اليوم الثالث وقت الظهر من منى5 ... انتهى.
ومن ذلك: أنه في سنة ستين وسبعمائة -على ما ذكر ابن محفوظ- كان الغلاء مع الناس من أول السنة وخلت مكة خلوا عظيما، وتفرق الناس في سائر الأقطار لأجل الغلاء وجور الحكام بها ... انتهى ملخصا بالمعنى.
ومن ذلك: أنه في آخر السنة -على ما أخبرني به من اعتمده من الفقهاء المكيين- أن الغرارة الحنطة بيعت بمكة بستين درهما كاملية، بعد وصول العسكر من مصر إلى مكة في هذه السنة.
وذكر ابن محفوظ: أنه بعد وصول هذا العسكر إلى مكة أسقط المكس في سائر المأكولات، وارتفع من مكة الظلم، وانتشر العدل والأمان، وذلك ما أظهر مقدم
__________
1 إتحاف الورى 3/ 187، والعقود اللؤلؤية 2/ 51، والسلوك للمقريزي 2/ 1: 303.
2 إتحاف الورى 3/ 232، ودر الفرائد "ص: 308".
3 إتحاف الورى 3/ 225.
4 إتحاف الورى 3/ 238.
5 إتحاف الورى 3/ 274، ودرر الفرائد "ص: 310".(2/330)
العسكر الأمير "جركتم المارديني" من الأمور المقتضيى لذلك، وقد ذكرنا شيئا من خبر هذا العسكر في ترجمة محمد بن عطيفة الحسني، الذي قدم مع هذا العسكر من مصر إلى مكة متوليا أمرها.
ومن ذلك: أنه في سنة ست وستين وسبعمائة، كان بمكة غلاء عظيم، حصل للناس منه مشقة عظيمة؛ بحيث أكل الناس الميتة -على ما قيل- وذلك أنه وجد بمكة حمار ميت، وفيه أثر السكاكين، وأصيبت المواضي بالجرب، وتعرف هذه السنة بسنة أم الجرب، واستسقى الناس بالمسجد الحرام، فلم يسقوا، وأحضرت المواشي إلى المسجد للاستسقاء، وأدخلت فيه، ووقفت في جهة باب العمرة إلى مقام المالكية، ثم فرج الله -عز وجل- هذه الشدة عن الناس بالأمير يلبغا العمري المعروف بالخاصكي مدبر المملكة الشريفة بالديار المصرية، تغمده الله برحمته؛ لأنه أرسل بقمح فرق على المجاورين بمكة؛ وذلك أن بعض خواصه ممن أرسله لعمارة المسجد الحرام عرفه بما الناس فيثه من الشدة بمكة؛ فلما بلغه الخبر أمر من فوره بألف أردب قمح طيب، فجهزت إلى مكة في البر، غير ما أمر بتجهيزه في البحر، وفرقت على من بها من الناس أحسن تفرقة، وما شعر الناس بها إلا وهي معهم1.
ومن ذلك: غلاء شديد وقع في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة بيعت فيه الحنطة: الغرارة بمكة بخمسمائة درهم كاملية وأربعين درهما، وأكل الناس سائر الحبوب واختبزوها، ثم فرج الله -تبارك وتعالى- على الناس بصدقة قمح، أنفذها الملك الظاهر برقوق، رحمه الله2.
وحصل في هذه السنة أيضا بمكة وباء، وبلغ الموتى فيه في بعض الأيام أربعين، على ما قيل3.
ومن ذلك: رخاء في سنة ست وتسعين وسبعمائة بيعت فيه الغرارة الحنطة بسبعين درهما كاملية في زمن الموسم4.
ومن ذلك: غلاء كان بمكة في آخر سنة سبع وتسعين وسبعمائة بعد الحج، ولم يبلغ مقدار الغلاء الذي كان في سنة ثلاث وتسعين، وإنما بلغت فيه الغرارة الحنطة ثلاثمائة درهم وثلاثين درهما5.
__________
1 إتحاف الورى 3/ 302، والبداية والنهاية 14/ 309، والسلوك للمقريزي 3/ 97.
2 إتحاف الورى 3/ 379، والعقد الثمين 1/ 210.
3 إتحاف الورى 3/ 379، والعقد الثمن 1/ 210، ودرر الفرائد "ص: 315".
4 إتحاف الورى 3/ 391، ودرر الفرائد "ص: 315"، والسلوك للمقريزي 3/ 2: 819.
5 إتحاف الورى 3/ 196.(2/331)
ومن ذلك: غلاء كان في أثناء خمس وثمانمائة بيعت فيه الغرارة الحنطة بنحو خمسمائة درهما كاملية، والذرة بنحو ثلاثمائة وخمسين درهما كاملية، ودام ذلك أياما يسيرة1، ثم فرج الله علي بالناس قريبا بجلاب وصلت من سواكن، وبلغ المن السمن في هذه السنة مائة وخمسين درهما كاملية، والمن المشار إليه اثنتي عشرة أوقية، وقد تقدر مقدار الأوقية، وهذا أغلا قدر بلغ إليه سعر السمن فيما رأينا، وأرخص شيء بلغ إليه السمن فيما رأيناه، أن بيع المن السمن بنحو ثلاثين درهما كاملية، وخزنه الناس كثيرا بهذا المقدار، وبلغ في بعض السنين أيام الحج بمنى دون ذلك، وبلغني عن بعض المشايخ أنه رأى السمن يباع بمكة، كل من سمن باثني عشر درهما كاملية، كل أوقية بدرهم، قال: وخزنه الناس كثيرا بهذا السعر، وأما القمح فلم نره بلغ في الرخص ما بلغ في سنة ست وتسعين وسبعمائة، بيعت الغرارة الحنطة بسبعين درهما كاملية.
وبلغني عن بعض المشايخ، أن رآها بيع بمكة بأربعين درهما كاملية، وهذا يقرب من الرخص الذي نقله ابن الجزري عن ابن القدسية، وأما الذرة فرأيناها بيعت بمكة بأربعين درهما كاملية، وربما بيعت كل ثلاث غراير ذرة بمائة درهم كاملية وتسعين درهما، بتقديم التاء؛ وذلك بعد التسعين وسبعمائة، وهذا أرخص شيء رأيناه في سعر الذرة بمكة، ثم بلغت بعد ذلك بنحو الستين والسبعين في أوائل هذا القرن، ثم ارتفعت عن ذلك في آخر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وبلغت قريبا من مائة وخمسين ثم ارتفع سعرها وسعر الدخن، والحنطة، والشعير، والدقة، وسائر المأكولات في آخر سنة خمس عشرة وثمانمائة.
وفي سنة ست عشرة وثمانمائة ارتفع ارتفاعا لم يعهد مثله؛ لأن الغرارة الحنطة بكيل مكة قد بيعت في الجملة بعشرين إفرنتيا، وبيعت بعرفة بأزيد من عشرين كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى.
وكان ابتداء مشقة هذا الغلاء على الناس في آخر شهر رمضان، عن استقبال عيد الفطر المبارك من سنة خمس وعشرة ثمانمائة2، بلغ ربع الحب الحنطة في هذا التاريخ اثني عشر مسعوديا، بعد أن كان بثمانية ونحوها، ثم صار يرتفع قليلا قليلا؛ حتى بلغ الربع: ثمانية عشر مسعوديا، ودام على ذلك إلى الموسم من سنة خمس عشرة وثمانمائة، وربما بلغ في ذي القعدة من هذه السنة سبعة وعشرين مسعوديا، وعند وصول المراكب إلى مكة من اليمن، ولم يكن ذلك إلا أياما قليلة، ثم عاد السعر إلى
__________
1 إتحاف الورى 3/ 432.
2 إتحاف الورى 3/ 498، ونزهة النفوس 2/ 319، والسلوك 4/ 1: 253.(2/332)
الثمانية عشر وأزيد، وسبب ذلك: أن متولي أمر المراكب اليمانية القاضي أمي الدين مفلح التركي الملكي الناصري -أعزه الله- أمر ببيع بعض ما معه من الطعام، وأرخص في البيع، وتصدق أيضا ببعضه، ثم ترك لاحتياجه إلى ما معه، وعندما حصل هذا النقص في السعر، ترك الإمام القنوت في الصلاة، وكانت قد قنت فيها شهرا أو نحوه، وكان ابتداء القنوت في يوم الجمعة عاشر شوال سنة خمس عشر -وثمانمائة، ولما وصل الحجاج في هذه السنة تهافتوا على جميع المأكولات، فارتفعت الأسعار في جميعها ارتفاعا لم يعهد مثله في زمن الموسم، وأرخص ما بيع الحب به بعد تكامل وصول الأعراب من بجيلة وغيرها؛ الجالبين للأطعمة إلى مكة، كل غرارة مكسية بعشرة إفرنتية؛ وذلك في اليوم السادس من ذي الحجة الحرام من هذه السنة. ثم ارتفعت الأسعار بعرفة ومنى؛ فببيع الدقيق كل ويبة مصرية بإفرنتيتين وعشرين درهما، والشعير كل ويبة بإفرنتيتين، والحب كل ربع مد مكي بسبعة وعشرين درهما مسعودية، وتسقيم الغرارة من هذا السعر بتسعة عشر إفرنتية ونحوها؛ لأن الإفرنتي كان يباع في زمن الموسم بمنى بسبعة وخمسين مسعوديا ونحوها، والغرارة هي أربعون ربعا مكيا، ونزل الإفرنتي إلى خمسين مسعوديا ونحوها.
فلما توجه الحاج من مكة بيع الحب الحنطة كل ربع مد مكي بسبعة وعشرين مسعوديا، ونزل الإفرنتي إلى خمسين مسعوديا أو نحوها، والمثقال الذهب الهبرجي إلى ستين مسعوديا أو نحوها، وتستقيم الغرارة على ما ذكرناه من سعر الحب بإحدى وعشرين إفرنتيا وأزيد، وبالمثاقيل بثمانية عشر مثقالا، وبيع الغرارة في أثر سفر الحجاج في السوق بالمسعى بعشرين إفرنتيا، ودام سعر الحب كل ربع بسبعة وعشرين مسعوديا، والذهب على ما ذكرناه من السعر، إلى أثناء المحرم من سنة ست عشرة وثمانمائة ثم صار ينقص درهما ودرهمين، وشبه ذلك في بقية المحرم وصفر، ثم نقص أكثر من ذلك عند طيب النخل وقت الصيف، من سنة ستة عشرة وثمانمائة، وبيع الرع في هذا التاريخ بنحو عشرين مسعوديا؛ لاكتفاء كثير من الناس بالبلح، ثم نزل بعد ذلك إلى ستة عشر مسعوديا ونحوها، ورأى الناس ذلك رخيصا بالنسبة إلى ما كان عليه في الموسم سنة خمس عشرة وثمانمائة وبعده، وهو غلاء بالنسبة إلى ما كانوا يعهدونه من السعر في الحنطة وغيرها، في أول سنة خمس عشرة، والغرارة من حساب ستة عشر، بنحو من عشرة إفرنتية؛ لأن صرف الإفرنتي في شهر رمضان سنة ست عشرة: ستون مسعوديا ونحوها، وهي على ذلك في شهر رمضان في سنة ست عشرة، وبيعت الدقسة بأثر الموسم، كل ربع باثني عشر مسعوديا، والشعير بمثل ذلك، الذرة والدخن سعرهما يقارب سعر الحنطة من ابتداء الغلاء، وإلى تاريخه، وبيع التمر بأثر الموسم كل من بتسعة مسعودية، وربما بيع بأكثر(2/333)
من ذلك في الموسم، وبيع فيه الأرزد بأربعة إفرنتية، الويبة والنوى لعلف الجمال، كل ويبة مصرية بإفرنتي وربع.
ووقع الغلاء في الموسم في الخضر أيضا، حتى بيعت البطيخة الكبيرة بإفرنتي وأزيد، بعرفة ومنى، وهذا شيء لم يسمع به، وسبب هذا الغلاء مع المقدور: قلة الغيث بمكة في سنة خمس عشرة وثمانمائة عما يعهد، ولم يصل إلى مكة مما كان يصل إليها من الذرة من بلاد سواكن، ومن اليمن، لغلاء وقع فيهما، ولا سيما بسواكن؛ فسبب الغلاء فيها: أكل الجراد لزرع بلاد الداع التي يحمل منها الذرة إلى سواكن؛ فبلغ السعر فيها في هذه السنة ست عشرة وثمانمائة، كل غرارة مكية ذرة بثلاثين مثقالا ذهبا، وهذا شيء لم يعد فيها مثله من دهر طويل.
وسبب الغلاء ببلاد اليمن: قلة الزرع بها لقلة المطر، وصار أهل اليمن وأهل سواكن يجلبون الذرة إليها من قرية يقال لها فنونا، بقرب حلي، ومنها أيضا يجلب ذلك إلى مكة، وما عرفت أن مثل هذه القرية الصغيرة تمير أهل اليمن وسواكن؛ فسبحان القادر على كل شيء، وهو المسئول في اللطف وكشف البلاء.
ووقع بعد ذلك بمكة غلاء كثير ورخص كثير.
فمن ذلك: أنه في سنة تسع عشرة -بتقديم التاء- وثمانمائة، كانت الغرارة الحنطة اللقيمة المليحة بخمسة إفرنتية، والغرارة المابية، وهي نوع دنيء من الحنطة بأربعة إفرنتية، وربع الغرارة الذرة بثلاثة إفرنتية، وبيعت في وادي مر بإفرنتيتين وستة دنانير مسعودية، وصرف الإفرنتي خمسة عشر دينار مسعوديا بالوادي، والسمن كل وقية بسبعة مسعودية، ويستقيم المن بإفرنتي وثلث ونحو ذلك، واللحم كل من بستة مسعودية، والتمر كل من بدرهمين مسعوديين. وكان صرف الإفرنتي بمكة بأربعة وخمسين مسعوديا، وربما زاد قليلا.
ومن ذلك غلاء وقع بعد الموسم من هذه السنة، وامتد إلى أوائل سنة عشرين وثمانمائة، ولم تطل مدته، وبلغت فيه الغرارة الذرة ثلاثة عشرة إفرنتيا.
ومن ذلك رخاء في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة في الذرة، بيعت الغرارة بمكة بثلاثة إفرنتية، وبجدة بإفرينيتين وربع وبإفرينيتين ونصف، وبيع في هذه السنة العسل كل سبعة أمنان بإفرنتي، ولم يعهد مثل ذلك قبله في العسل، من مدة سنين1، ثم غلا سعره وسعر الذرة في بقية سنة إحدى وعشرين، وفي سنة اثنين وعشرين وثمانمائة، وبلغت فيه
__________
1 إتحاف الورى 2/ 561، واستبدل بالإفرنتي لفظ "الأفلوري".(2/334)
الغرارة الذرة بمكة ثمانية إفرنتيا، وكذلك الغرارة الدخن وبلغت فيه الغرارة الحنطة: اثني عشرة إفرنتيا إلا ربع إفرنتي، ثم نزلت إلى عشرة إفرنتية ودون ذلك، والذرة والدخن لم ينقص سعرهما عن الثمانية الإفرنتية، إلى جمادى الأولى من سنة اثنين وعشرين وثمانمائة، ونسأل الله اللطف.
وفيما أشرنا إليه من هذا المعنى كفاية من أمر الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة، وقد خفي علينا كثير من ذلك لعدم العناية في كل عصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/335)
الباب الأربعون:
في ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها وشيء من خبرها:
روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: "ما داء في أول من نصب الأصنام في الكعبة والاستسقاء بالأزلام": حدثني جدي، حدثنا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: إن البئر التي كانت في الكعبة1 كانت على يمين من دخلها، وكان عمقها ثلاثة أذرع، يقال إن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- حفراها ليكون فيها ماء يهدي للكعبة؛ فلم يزل كذلك حتى كان عمرو بن لحي، فقدم بصنم يقال له هبل من "هيت" من أرض الجزيرة، وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها؛ فنصبه على البئر في بطن الكعبة، وأمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر، بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق بأسه عنده، وهبل الذي يقول له أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل، أي أظهر دينك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الله أعلى وأجل"، وكان اسم البئر الذي كان في بطن الكعبة: الأخسف، وكان العرب تسميها: الأخشف.
قال محمد بن إسحاق: وكان عند هبل في الكعبة سبعة2 قداح كل قدح فيه كتاب: قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة عليه؛ فعلى من خرج حمله، وقدح فيه "نعم" للأمر، إذا أرادوه ضرب به في القداح، فإن خرج فيه "نعم" عملوا به، وقدح فيه "لا" فإذا أرادوا الأمر ضربوا بالقداح، وإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه "منكم"، وقدح فيه "ملصق"، وقدح فيه: "من غيركم"، وقدح فيه: "المياه"3؛ فإذا أرادوا أن يحفروا الماء ضربوا بالقداح، وفيها
__________
1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 117: "في جوف الكعبة".
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 117، والأصنام "ص: 28": "تسعة".
3 كذا في جميع الأصول، وكذلك في السيرة لابن إسحاق، وفي "الأصنام" لابن الكلبي "ص: 28":=
"الميت".(2/336)
ذلك القدح؛ فحيث ما خرج عملوا به، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميتا، أو شكلوا في نسب أحد منهم، ذهبوا به إلى هبل، وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فلان أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج "منكم" كان منهم وسطا، وإن خرج عليه "من غيركم" كان حليفا، فإن خرج عليه "ملصقا" كان ملصقا على منزلته فيهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج عليه شيء ما سوى هذا مما يعلمون به عملوا به، وإن خرج "لا" أخروه عامه ذلك؛ حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمرهم ذلك، إلى ما خرجت به القداح. وكذلك فعل عبد المطلب بابنه حين أراد أن يذبحه1.
قال محمد بن إسحاق: كان هبل من حجر العقيق، على صورة إنسان وكانت يده اليمنى مكسورة فأدركته قريش؛ فجعلت له يدا من ذهب، وكانت له خزانة للقربان، وكانت له سبعة قداح يضرب بها على الميت والعذرة والنكاح، وكان قربانه مائة بعير، وكان له حاجب، وكانوا إذا جاءوا هبل بالقربان ضربوا بالقدح وقالوا:
إنا اختلفنا فهب السراحا ... ثلاثة يا هبل فصاحا
الميت والعذرة والنكاحا ... والبرء في المرضى والصحاحا
إن لم تقله فمر القداحا2
ما جاء في أول من نصب الأصنام وما كان من كسرها:
وبالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: إن جرهما لما طغت في الحرم، دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة، ففجر بها، ويقال إنه قبلها فيها، فمسخا حجرين، اسم الرجل إساف بن بغاء، واسم المرأة نائلة بنت ذئب، فأخرجا من الكعبة، ونصب أحدهما على الصفا، والآخر على المروة؛ وإنما نصبا هناك ليعتبر بهما الناس ويزجروا عن ما ارتكبا، لما يرون من الحال الذي صارا إليها؛ فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم، حتى صارا يمسحان، يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة، إلى أن صارا وثنين يعبدان؛ فلما كان عمر بن لحي أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما، وقال للناس: إن من كان قبلكم كان يعبدهما؛ فكان كذلك، حتى كان قصي بن كلاب، فصارا أمر الحجابة إليه،
__________
1 الأصنام لابن الكلبي "ص: 28".
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 117-119، الأصنام لابن الكلبي "ص: 27".(2/337)
وكذا أمر مكة فحولهما من الصفا والمروة، فجعل أحدهما بلصق الكعبة، وجعل الآخر في موضع زمزم، ويقال: جعلهما جميعا موضع زمزم، وكان ينحر عندهما1 وكان أهل الجاهلية يمرون بإساف ونائلة ويتمسحون بهما، وكان الطائف إذا طاف بالبيت يبدأ بإساف فيستلمه؛ فإذا فرغ من طوافه ختم بنائله فاستلمها، فكان كذلك حتى كان يوم الفتح، فكسرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ما كسر من الأصنام2.
وبه إلى الأزرقي قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن محمد بن عبد العزيز، عن ابن شهاب الدين، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، منها ما قد شد بالرصاص3؛ فطاف -صلى الله عليه وسلم- على راحلته وهو يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، ويشير -صلى الله عليه وسلم- إليها، فما منهم صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره، ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه، حتى وقعت كلها.
وقال ابن إسحاق: ولما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر يوم الفتح، أمر بالأصنام التي حول الكعبة كلها؛ فجمعت ثم حرقت بالنار وكسرت، وفي ذلك يقول فضالة بن عمر بن الملوح الليثي في ذكر يوم الفتح:
لو ما رأيت محمدا وجنوده ... بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت نور الله أصبح بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام
حدثني جدي، وحدثني محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن أبي عباس -رضي الله عنهما- قال: ما يزيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يشير بالقضيب إلى الصنم، فيقع بوجهه، ثم قال: وأمر -صلى الله عليه وسلم- بهبل فكسر، وهو واقف عليه، فقال الزبير بن العوام -رضي الله عنه- لأبي سفيان: يا أبا سفيان بن حرب، قد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه في يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم عليك، فقال أبو سفيان -رضي الله عنه: دع هذا عنك يا ابن العوام؛ فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان4 ... انتهى باختصار.
__________
1 هذه الرواية بعيدة عن المعروف عن قصي من عبادته لله على دين الحنيفية البيضاء.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 119، 120، الأصنام لابن الكلبي "ص: 29".
3 في أخبار مكة 1/ 121: "قد شدهما إبليس بالرصاص".
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 121، 122.(2/338)
وبه إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي عن أشياخه، فذكر شيئا من خبر إساف ونائلة1: منها: أنها بنت سهيل، وإساف بن عمرو، ثم قال: فلما كسرت الأصنام كسرا، فخرج من أحدهما امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها، عريانة ناشرة الشعر، تدعو بالويل؛ فقيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تلك نائلة قد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا" 2.
وذكر الواقدي عن أشياخه قال: نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة: من كان يؤمن بالله ورسوله فلا يدع في بيته صنما إلا مشى إليه حتى يكسره؛ فجعل المسلمون يكسرون تلك الأصنام. قال: وكان عكرمة بن أبي جهل حين أسلم لا يسمع بصنم في بيت من بيوت قريش إلا مشى إليه حتى يكسره، وكان أبو نحراة3 يعملها في الجاهلية ويبيعها، فلم يكن في قريش رجل بمكة إلا وفي صنم.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن بعض آل جبير بن مطعم، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم الفتح نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله ورسوله 4 واليوم الآخر، فلا يتركن في بيته صنما إلا كسره أو أحرقه، وثمنه حرام"، قال جبير -رضي الله عنه: وكنت أرى قبل ذلك الأصنام يطاف بها بمكة، فيشتريها أهل البدو، فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما بقي رجل5 من قريش إلا وفي بيته صنم، إذا دخل يمسخه، وإذا خرج بمسحه؛ تبركا به.
قال الواقدي: وأخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الحميد بن سهيل قال: لما أسلمت هند بنت عتبة، جعلت تضرب صنما في بيتها بالقدوم فلذة فلذة، وهي تقول: كنا منك في غرور.
وبه قال الأزرقي: باب ما جاء في الأصنام التي كانت على الصفا والمروة ومن نصبها، وما جاء في ذلك:
حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق قال: نصب عمرو بن لحي الخلصة6 بأسفل مكة؛ فكانوا يلبسونها القلائد،
__________
1 الأصنام لابن الكلبي "ص: 29".
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 122.
3 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 123: "أبو شنجارة".
4 "رسوله": سقطت من أخبار مكة للأزرقي 1/ 123.
5 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 123: "ما من رجل".
6 اسمه في كتاب الأصنام لابن الكلبي "ص: 34": "ذو الخلصة"، وأخبر بأنها كانت بين مكة واليمن، والخبر في بلوغ الأرب 2/ 223، معجم البلدان 2/ 4/ 80، وفيه: وهي قرية من أعمال الطائف، معروفة بهذا الاسم إلى اليوم، وهي محاذية لوادي ركبة.(2/339)
ويهدون لها الشعير والحنطة، ويصبون عليها اللبن، ويذبحون لها، ويعلقون عليها بيض النعام، ونصب على الصفا صنما يقال له: نهيك مجاور الرمح، ونصب على المروة صنما يقال له: مطعم الطير1.
ذكر ما جاء في اللات والعزى وما جاء في بدئها كيف كان:
حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن رجلا ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا، فيلت سويقهم، وكان ذا غنم، فسميت صخرة اللات، فمات؛ فلما فقده الناس، قال لهم عمرو بن لحي: إن ربكم كان اللات، فدخل في جوف الصخرة، وكانت العزى ثلاث شجرات بنخلة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمر بن ربيعة، والحارث بن كعب، وقال لهم عمرو: إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتي2 بالعزى لحر تهامة. وكان في كل واحدة شيطان يعبد.
فلما بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- بعث بعد الفتح خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى العزى ليقطعها فقطعها، ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت فيهن؟ " قال: لا شيء. قال -صلى الله عليه وسلم: "ما قطعتهن فارجع فاقطع". فرجع فقطع، فوجد تحت أصلها امرأة ناشرة شعرها، قائمة عليهن كأنها تنوح عليهن، فرجع فقال: إني وجدت كذا وكذا، قال: صدقت.
حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرنا ابن إسحاق: أن عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة3؛ فكانوا إذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة، لم يلحوا حتى يأتوا العزى، فيطوفون بها ويحلون عندها ويعكفون عندها يوما، وكانت لخزاعة، وكانت قريش بنو كنانة كلها تعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر، وكان سدنتها الذين يحجبونها بنو شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم.
وقال عثمان: وأخبرنا محمد بن السائب الكلبي قال: كانت بنو مضر وجشم، وسعد بن بكر -وهم عجز هوازن- يعبدون العزى.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 124.
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 126: "يشتون".
3 قال الكلبي: "العزى" هي أحدث من اللات ومناة، وكانت بواد من نخلة الشامية، يقال له: حراض، بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة: "الأصنام ص: 17، 18".(2/340)
قال الكلبي: وكان اللات والعزى ومناة في كل واحدة منهن شيطانة تكلمهم، وتراءا للسدنة، وهم الحجبة؛ وذلك من صنيع إبليس وأمره، ثم قال: وكان هدمها لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان1.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 126، 127.(2/341)
ذكر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام:
روينا في "تاريخ الأزرقي خبرا فيه حج الجاهلية ومواسمهم وأسماء الشهور، رواه بسنده إلى الكلبي، قال فيه: فإذا كان الحج في الشهر الذي يسمونه ذي الحجة، خرج الناس إلى مواسمهم، فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة فيقيمون به عشرين ليلة، ويقوم فيها أسواقهم بعكاظ، والناس على مراعيهم ورايتهم منحازين في المنازل، يضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة؛ فأقاموا بها عشرا، وأسواقهم قائمة، فيقيمون بها إلى يوم التروية، ويخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة فيترون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز؛ وإنما سمي يوم التروية لترويهم من في الماء بذي المجاز ينادي بعضهم بعضا: ترووا من الماء؛ لأنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة -يومئذ- وكان يوم التروية آخر أسواقهم؛ وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ، ومجنة وذي المجاز التجار ومن كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية، فيتروى من الماء، فينزل الحمس أطراف المسجد الحرام من غرة يوم عرفة، وينزل الحلة عرفة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنينه التي دعا فيها بمكة قبل الهجرة لا يقف مع قريش والحمس في طرف الحرم، وكان يقف مع الناس بعرفة.
ثم قال: وكانوا لا يتبايعون في يوم عرفة، ولا أيام مني؛ فلما أن جاء الله تعالى بالإسلام أحل الله -عز وجل- ذلك لهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وفي قراءة أبي بن كعب: في مواسم الحج، يعني: منى، وعرفة، وعكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فهذه مواسم الحج2.
ثم قال الكلبي: وكانت هذه الأسواق: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، قائمة في الإسلام، حتى كان حينا من الدهر.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 126، 127.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 188، 189، وإتحاف الورى 2/ 589.(2/341)
فأما عكاظ: فإنما تركت عام خرج الحرورية1 بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الإباضي في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينتهبوا، وخافوا الفتنة، فتركت حتى الآن.
ثم تركت المجنة وذو المجاز بعد ذلك واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وعرفة2.
قال أبو الوليد الأزرقي: وعكاظ: وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في عمل الطائف على بريد منها، وهي سوق لقيس عيلان وثقيف، وأرضها لنضر.
ومجنة: سوق بأسفل مكة على بريد منها، وهي سوق لكنانة، وأرضه من أرضها كنانة، وهي التي يقول فيها بلال -رضي الله عنه:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ3 وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل
وشامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة.
وذو المجاز: سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة قريب من كبكب4 على فرسخ من عرفة.
وحباشة5 سوق الأزد، وهي في ديار الأوصام6 من بارق7 من صدر قنونا8.
وحلي بناحية اليمن، وهي من مكة على ست ليال، وهي آخر سوق خربت من أسواق الجاهلية، وكان والي مكة يستعمل عليها رجلا يخرج معه بجند، فيقيمون بها ثلاثة أيام من أول شهر رجب متوالية، حتى قتلت الأزد واليا كان عليها بعثه داود بن
__________
1 الحرورية طائفة من الخوارج تنسب إلى "حروراء" قرب الكوفة؛ لأنه كان بها أول اجتماع لهم حين خالفوا علينا -رضي الله عنه.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 190.
3 فخ: هو واد معروف بمكة واقع في مدخلها بين طريق جدة وبين طريق التنعيم ووادي فاطمة، ويسمى أيضا وادي الزاهر؛ لكثرة الأشجار والأزهار التي كانت فيه قديما، أما اليوم فيعرف باسم الشهداء، إشارة إلى واقعة يوم التروية عام 169هـ بين الحسين بن علي بن الحسين، وجيوش بني العباس التي قتل فيها الحسين، وقد أسس في هذا الوادي قصر المنصور الذي بناه الملك عبد العزيز آل سعود عام 1347هـ.
4 كبكب: بالفتح والتكرير اسم جبل خلف عرفات مشرف عليها "معجم البلدان 4/ 434".
5 حباشة: بالضم؛ سوق من أسواق العرب في الجاهلية في تهامة "معجم البلدان 2/ 210".
6 الأوصام: قرية باليمن.
7 بارق: جبل بتهامة "معجم البلدان 1/ 319".
8 وادي من أودية السراة يصب إلى البحر في أوائل أرض اليمن من جهة مكة قرب حلي، "معجم البلدان 4/ 409".(2/342)
عيسى بن موسى في سنة سبع وتسعين ومائة؛ فأشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها، فخربها، وترك إلى اليوم.
وإنما ترك ذكر حباشة مع هذه الأسواق؛ لأنها لم تكن في مواسم الحج، ولا في أشهره؛ وإنما كانت في رجب ... انتهى باختصار1.
وقد خولف الأزرقي فيما ذكره في مجنة، وشامة، وطفيل، من وجوه:
منها: أن الفاكهي ذكر ما يقتضي أن مجنة في غير المحل الذي سبق ذكره؛ لأنه قال: حدثني عبد الملك بن محمد بن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، الأسواق التي يجتمع بها العرب للتجارة كل عام إذا حضر الموسم، يحج العرب فيها، ويأمن بعضهم بعضا حتى تنقضي أيامها، وكانت مجنة بمر الظهران إلى جبل يقال له: الأصفر، وكانت عكاظ فيما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له العنق، وكانت ذو المجاز ناحية عرفة إلى جانبها، قال عبد الملك: الأيسر؛ وإنما هو الأيمن إذا وقفت على الموقف ... انتهى.
ومنها أن كلام الأزرقي يقضي أن مجنة عن بريد من مكة.
وذكر القاضي عياض في "المشارق" ما يخالف؛ ذلك لأنه قال: طفيل وشامة جبلان على نحو من ثلاثين ميلا من مكة2 ... انتهى.
ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي: أن شامة، وطفيل، جبلان مشرفان على مجنة على ما ذكره الأزرقي، وإذا كانا كذلك وكانا من مكة على المقدار الذي ذكره القاضي عياض، وكانا مشرفين على مجنة كما ذكر الأزرقي؛ فتكون مجنة من مكة على المقدار الذي ذكره القاضي عياض وهو نحو ثلاثين ميلا؛ وذلك بريدان أو أزيد، فإن البريد اثنا عشر ميلا، والعيان يشهد لصحة ما ذكره القاضي عياض في شامة، وطفيل؛ لكون الجبلين المعروفين عند الناس: شامة، وطفيل: من مكة على بريدين على مقتضى ما ذكر الأزرقي من أن شامة وطفيل مشرفان على مجنة، ولعل الأزرقي أراد أن يكتب أن مجنة على بريدين من مكة فسها عن الياء والنون فكتب بريد، والله أعلم.
وذكر المحب الطبري ما يوافق ما ذكره القاضي عياض في مقدار ما بين مكة، وشامة، وطفيل، وسيأتي كلامه -إن شاء الله تعالى.
__________
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 190-192، وإتحاف الورى 2/ 260.
2 المشارق 1/ 327، وعزاه للفاكهي، وذكر أقوالا أخرى.(2/343)
ذكر شيء مما قيل من الشعر في التشوق إلى مكة الشريفة وذكر معالمها المنيفة:
أنشدني المعمر بن محمد بن داود الصالحي إذنا مكاتبة، والأصيلة أم الحسن فاطمة بنت مفتي مكة شهاب الدين أحمد بن قاسم العمري إذنا مشافهة، أن الإمام المحدث فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان المالكي أنشدهما إذنا مشافهة، قال: أنشدنا الأديب أبو بكر محمد بن محمد بن عبد الله بن رشيد البغدادي قصيدة نفيسة سماها "الذهبية في الحجة الملكية والزورة المحمدية"، جاء فيها:
فيا أين أيام تولت على الحما ... وليل مع العشاق فيه سهرناه
ونحن لجيران المحصب جيرة ... نوفي لهم حسن الوداد ونرعاه
ومنها قوله:
فهاتيك أيام الحياة وغيرها ... ممات فيا ليت النوى ما شهدناه
ويا ليت عنا أغمض الدهر طرفه ... ويا ليت وقتا للفراق فقدناه
وترجع أيام المحصب من منى ... ويبدو ثراه للعيوب وحصباه
وتسرح فيه العيس بين ثمامة ... وتستنشق الأرواح طيب خزاماه
ومنها قوله:
فشدوا مطايانا إلى الربع ثانيا ... فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه
ففي ربعهم لله بيت مبارك ... إليه قلوب الناس تهوى وتهواه
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ... ويسقط عنه إثمه وخطاياه
وكم لذة كم فرحة لطوافه ... فلله ما أحلى الطواف وأهناه
نطوف كأنا بالجنان نطوفها ... ولا هم لا غم جميعا نفيناه
فيا شوقنا نحو الطواف وطيبة ... فذلك طيب لا يعبر معناه
فمن لم يذقه لم يذق قط لذة ... فذقه تذق يا صاح ما نحن ذقناه
ترى رجعة أو عودة لطوافنا ... وذاك الحمى قبل المنية نغشاه
فوالله لا ننسى الحمى فقلوبنا ... هناك تركناها فيا كيف ننساه
ووالله لا ننسى زمان مسيرنا ... إليه وكل الركب يلتذ مسراه
وقد نسيت أولادنا ونساؤنا ... وإخوننا والقلب عنهم شغلناه
تراءت لنا أعلام وصل على اللوى ... فمن ثم أمسى القلب عنهم لويناه
جعلنا إله العرش نضب عيوننا ... ومن دونه خلف الظهور نبذناه
وسرنا نشق البيد للبلد الذي ... بجهد وشق للنفوس بلغناه
رجالا وركبانا على كل ضامر ... ومن كل فج مقفر قد أتيناه(2/345)
نخوض إليه البحر والبر والدجا ... ولا مفظع إلا إليه قطعناه
ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا ... فنمشي الفلا نحكي السجل طويناه
ولا صدنا عن قصدنا فقد أهلنا ... ولا هجر جار أو حبيب ألفناه
وأموالنا مبذولة ونفوسنا ... ولا نبغ شيئا منعناه
ومنها قوله:
عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله ... فهان علينا كل شيء بذلناه
ولو قيل إن النار دون مزاركم ... دفعنا إليها والعذول دفعناه
ومنها قوله:
ترادفت الأشواق واضطرم الحشا ... فمن ذا له ضرم وتضرم أحشاه
وأسرى بنا الحادي وأمعن في السرا ... وولي الكرى نوم الجفون نفيناه
ومنها قوله:
نحج لبيت حجه الرسل قبلنا ... لنشهد نفعا في الكتاب وعدناه
دعانا إليه الله عند بنائه ... فقلنا له لبيك داع أجبناه
وما زال وفد الله يقصد مكة ... إلى أن بدا البيت العتيق وركناه
فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا ... وكبرت الحجاج حين رأيناه
وقد كادت الأرواح تزهق فرحة ... لما نحن من عظم السرور وجدناه
وطفنا به سبعا رملنا ثلاثة ... وأربعة مشيا كما قد أمرناه
كذلك طاف الهاشمي محمد ... طواف قدوم مثل ما طاف طفناه
وسالت دموع من غمام جفوننا ... على ما مضى من إثم ذنب كسبناه
ونحن ضيوف الله جئنا لبيته ... نريد القرى نبغي من الله حسناه
فنادى بنا أهلا ضيوفي تباشروا ... وقروا عيونا فالحجيج أضفناه
فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا ... وأي ثواب فوق ما قد أثبناه
ومنها قوله:
فطيبوا وسيروا وافرحوا وتباشروا ... تهنوا وهموا بابها قد فتحناه
ولا ذنب إلا وقد غفرناه منكم ... وما كان من عيب عليكم سترناه
ومنها قوله:
ويوم منى سرنا إلى الجبل الذي ... من البعد قد حيانا كما قد عهدناه
فلا حج إلا أن يكون بأرضه ... وقوف وهذا في الصحاح رويناه
إليه فؤاده المرء يشعر بالهنا ... ولولا ما كان الحجار سلكناه(2/346)
وبتنا بأقطار المحصب من منى ... فيا طيب ليل بالمحصب بتناه
وسرنا إليه طالبين وقوفنا ... عليه ومن كل الوجوه أممناه
على علميه للوقوف جلالة ... فلا زالتا تحمي وتحرس أرجاه
وبينهما حزنا إليه برحمة ... فيا طيبها ليت الزحام رجعناه
ولما رأيناه تعالى عجيجنا ... نلبي وبالتهليل منا ملأناه
وفيه نزلنا بكرة بذنوبنا ... وما هو من ثقل المعاصي حملناه
وبعد زوال الشمس كان وقوفنا ... إلى الليل نبكي والدعاء قد أطلناه
ومنها قوله:
على عرفات قد وقفنا بموقف ... به الذنب مغفور وفيه محوناه
وقد أقبل الباري علينا بوجهه ... وقال: ابشروا فالعفو فيكم نشرناه
وعنكم ضمنا كل تابعة جرت ... عليكم وأما حقنا قد وهبناه
أقلناكم من كل ما قد جنيتم ... ومن كان ذا عذر إلينا عذرناه
ومنها قوله:
وطوبى لمن ذاك المقام مقامه ... وبشراه في يوم التغابن بشراه
نرى موقفا فيه الخزائن فتحت ... ووالى علينا الله منه عطاياه
ومنها قوله:
ودارت علينا الكأس بالوصل والرضا ... سقينا شرابا مثله ما سقيناه
فإن شئت تسقي ما سقينا على الحمى ... فخلِ التواني واقصد محلا حللناه
ومنها قوله:
فظل حجيج الله لليل واقفا ... فقيل انفروا فالكل منكم قبلناه
أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم ... إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه
وسيروا إليه واذكروا الله عنده ... فسرنا ومن بعد العشاء نزلناه
وفيه جمعنا مغربا لعشائنا ... ترى عابد جمع بجمع جمعناه
وبتنا به منه التقطنا جمارنا ... وربا ذكرناه على ما هداناه
ومنه أفضنا حيث ما الناس قبلنا ... أفاضوا وغفران الإله طلبناه
ونحو منى ملنا بها كان عيدنا ... ونلنا بها ما القلب كان تمناه
فمن منكم بالله عيد عيدنا ... فعيد منى رب البرية أعلاه
وفيها رمينا للعقاب جمارنا ... ولا جرم إلا مع جمار رميناه(2/347)
ومنها قوله:
وبالخفيف أعطانا الإله أماننا ... وأذهب عنا كل ما نحن خفناه
وردت إلى البيت الحرام وفودنا ... رجعنا لها كالطير حن لمأواه
وطفنا طوافا للإفاضة حوله ... ولذنا به بعد الجمار وزرناه
ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة ... كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه
ونلنا أمان الله عند دخوله ... كما أخبر القرآن فيما قرأناه
فيا منزلا قد كان أبرك منزل ... نزلناه في الدنيا وبيت وطئناه
ترى حجة أخرى إليك ورحلة ... وذاك على رب العلا تمناه
فإخواننا ما كان أحلى دخولنا ... إليه لبثا في حماه لبثناه
فإخواننا أوحشتمونا هنا لكم ... فيا ليتكم معنا وأنا حففناه
ومنها قوله:
وبالحجر الميمون لذنا فإنه ... لرب السما في أرضه يمناه
نقبله من حبنا لإلهنا ... فكم أشعث كم اغبر قد رحمناه
وذاك لنا يوم القيامة شاهد ... وفيه لنا عهد قديم عهدناه
ونستلم الركن اليماني طاعة ... نستغفر المولى إذا ما لمسناه
وملتزم فيه التزمنا لذنبنا ... عهود وعفو الله فيه لزمناه
وكم موقف فيه مجاب لنا الدعا ... دعونا به القصد فيه نويناه
وصلى بأركان المقام حجيجنا ... وفي زمزم ماء طهور وردناه
وفيه الشفا فيه بلوغ مرادنا ... لما نحن ننويه إذا ما شربناه
وبين الصفا والمروة الحاج قد سعى ... فإن تمام الحج تكميل مسعاه
ومنها قوله:
وبينا حجيج الله بالبيت محدق ... ورحمة رب العرش تدنو وتغشاه
تداعت رفاق بالرحيل فما ترى ... سوى دمع عين بالدماء مزجناه
لفرقة بيت الله والحجر الذي ... لأجلهما شاق الأمور شققناه
وودعت الحجاج بيت إلهها ... وكلهم تجري من الحزن عيناه
فلله كم باك وصاحب حسرة ... يود بأن الله كان توفاه
ولا يشهد التوديع يوما لبيته ... وإن فراق البيت مرد وجدناه
فما فرقه إلا والله إنه ... أمر وأدهى ذاك شيء خبرناه(2/348)
ومنها قوله:
ووالله لولا أن نؤمل عودة ... لذقنا طعام الموت حين فجعناه
ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا ... رحلنا إلى قبر الحبيب ومعناه
وأنشدني محمد بن محمد بن داود الصالحي مكاتبة منه، وفاطمة بنت أحمد الفقيه مشافهة بطيبة، أن أبا عمرو الإفريقي أنشدهما إذنا قال: أنشدنا أبو اليمن ابن عساكر1 نزيل مكة لنفسه، بقراءتي عليه بمسجد الخيف بمنى:
يا جبرتي بين الحجون إلى الصفا ... شوقي إليكم مجمل ومفصل
أهوى دياركم ولي يربوعها ... وجد يؤرقني وعهد أول
ويزيدني فيها العذول صبابة ... فيظل يغريني إذا ما يعدل
ويقول لي لو قد تبدلت الهوى ... فأقول: قد عز الغداة تبدل
بالله قل لي: كيف تحسن سلوتي ... عنها وحسن تصبري هل يجمل؟
هل في البلاد محلة معروفة ... مثل المعرف أو محل بحلل؟
أم في الزمان كليلة النفر التي ... فيها من الله العوارف تجزل
أم مثل أيام تقضت في منى ... عمر الزمان بها أغر محجل
في جنب مجتمع الرفاق ومنزع الأ ... شواق حياها السحاب المسبل
وأنشدتني أم الحسن فاطمة بنت مفتي مكة شهاب الدين أحمد بن قاسم الحرازي إذنا مشافهة بطيبة -إن لم يكن سماعا- قالت: أنشدني جدي الإمام رضي الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري2 سماعا قال: أنشدنا الإمام الحافظ أبو بكر بن محمد بن يوسف بن مسدي لنفسه من قصيدة له:
سقى تهامة ما تهمي السحاب به ... سحا يسح وتهتانا بتهتان
حيث الحجيج إن حجيجي تخذت بها ... ربعا بربع وأخذانا بأخدان
ومنها قوله:
أنكرت سلمى وأياما بذي سلم ... لوقفة بين تعريف وعرفان
حيث الأراك والنسيم صبا ... بقنا في شيخ أفنان بأفنان
والدار آهلة من كان مغترب ... يعرو إليها بتهليل وقرآن
__________
1 هو عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن. توفي سنة "686هـ"، لحظ الألحاظ "ص: 81".
2 ترجمته في لحظ الألحاظ "ص: 100، 101".(2/349)
واسم الحبيب شعار العاشقين بها ... تيك المشاعر من شيب وشيبان
لبيك لبيك توحيدا يؤكده ... توابع الشوق في سر وإعلان
وللإجابة سمع ليس يشغله ... شأن كثير من القول عن شان
وينفرون إلى الزلفى بمزدلف ... جمعا بجمع ووجدانا بوجدان
من كل مستغفر مستقبل ثقة ... من الحبيب بإقبال وغفران
من لم يقف برسوم الموقفين فما ... مشت به قط للأحباب رجلان
وفي منى للمنى ذاك المنال فلا ... تبعد بك الدار عن قرب وقربان
ومنها قوله:
وفي الإفاضة فيض الجود من ملك ... يلقى المسيء إذا استعفى بإحسان
ومنها قوله:
يا طائفين بنا إنا نطوف بكم ... باعا يباع ووجدانا بوجدان
ورب ماش تبادرناه هرولة ... إليه تلقاه بشرى قبل تلقاني
أما الغريب وإن عز المكان فلا ... يبعدنك الوهم في تقرير إمكان
من فاوض الركن قد فاوضته بيدي ... هذا يميني فحيوها بأيمان
من يستجر فإن بالمستجار له ... نعم المجير إذا يلجأ لي الجاني
وعند ملتزم منا لملتزم ... لو شاء ما شاء منا غير منان
ومنها قوله:
ولي مقام أمين بالمقام فما ... نوفي فيه إلا كل أمان
ولي بزمزم سر فيه زمزمة ... عنوانها عند أزمات وأزمان
ومنها قوله:
هذي الأماني لا أيام ذي سلم ... دار الأمان فما دار بغمدان
كفاني الله تبديلا بمظهرها ... حتى أغيب في لحدي وأكفاني
وأنشدني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري -تغمده الله برحمته- سماعا بالمسجد الحرام، أن القاضي عز الدين عبد العزيز ابن القاضي بدر الدين بن جماعة الشافعي أنشده سماعا، قال: أنشدني والدي لنفسه، وأنشدني عاليا الإمامان: أبو أحمد إبراهيم بن محمد اللهمي وأبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد المصري إذنا عن القاضي بدر الدين بن جماعة1 قال:
ما بال قلبي لا يقر قراره ... حتى يقضي من منى أوطاره
__________
1 هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله توفي سنة 733هـ وترجمته في "لحظ الألحاظ".(2/350)
ما ذاك إلا أنه من شوقه ... قد شام من وادي الحمى تذكاره
يا سائق الأظعان إن جزت الحمى ... سلم على من بالمحصب داره
واشرح له ما يلتقي مشتاقه ... من فرط شوق أحرقته ناره
يصبو إذا ذكر الحطيم وزمزم ... والركن والبيت المكرم جاره
ويهيم من شوق يفتت كبده ... إذ عز ملقاه وطال مزاره
وأنشدني الرئيس شهاب الدين أحمد بن الحافظ صلاح الدين خليل بن كيلكلدي1 العلائي بقراءتي عليه في المسجد الأقصى بالرحلة الأولى أن الأستاذ أبا حيان محمد بن يوسف الأندلسي2 النحوي أنشدني لنفسه قصيدة نبوية على وزن بانت سعاد، قال فيها:
وإذا قضيت غزاة فأتنف عملا ... للحج والحج للإسلام تكميل
ثم قال بعد وصفه للحجاج:
يسوقهم طرب نحو الحجاز فهم ... ذوو ارتباح على أكوارها ميل
شعث رؤوسهم بلس شفاههم ... حوص عيونهم غرث مهازيل
حتى إذا لاح من بيت الإله لهم ... نور إذا هم على الغبرا أراجيل
يعفرون وجوها طال ما سهمت ... باكين حتى أديم الأرض مبلول
حفوا بكعبة مولاهم فكعبهم ... عال بها لهم طوف وتقبيل
وبالصفا وقتهم صاف بسعيهم ... وفي منى لمناهم كان تنويل
تعرفوا عرفات واقفين بها ... لهم إلى الله تكبير وتهليل
وأنشدني العلامة الأديب المفنن برهان الدين إبراهيم بن عبد الله بن محمد المعروف بالقيراطي لنفسه إجازة من قصيدة، وأنشدنيها سماعا قاضي مكة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة -رحمه الله عليه- عن القيراطي سماعا قال:
ثم أنشأت من جفوني سحبا ... أي نثر كالدر من إنشاء
كم سكبناه بل سكبناه تبرا ... فاز منه ثرى الحما بالثراء
فإذا جئت المحصب فانثر ... من يواقيته على الحصباء
أتمنى عيشا مضى وتقضى ... وتولى على الصفا بالصفاء
ميت أحيا يناديك حيا ... إنما الميت ميت الأحياء
لا يمل الثاوي هناك مقاما ... رب ثاو يمل طول الثواء
__________
1 ترجمته في "الضوء اللامح" 1/ 296.
2 ترجمته في "الدر الكامنة" 4/ 302-310 رقم 833، ذيل تذكرة الحفاظ "ص: 23-27".(2/351)
حسبه هواه الرطب فينا ... فذكرناه مجامع الأهواء
بك داء فارحل وجز بكداء ... وهو داء من الذنوب كداء
ومنها قوله:
ما حنينا للمنحني الجيد إلا ... واستقمنا بذلك الإنحناء
ومنها قوله:
أنا ما لي عن مكة من براح ... وبها أشتفي من البرحاء
حبذا الكعبة التي قد تبدت ... وهي تزهو في حلة سوداء
فصفا سترها مساء صباح ... وبياض الثنا صباح مساء
قبل الخال لا أبا لك عشرا ... يا أخا حيها بغير إباء
واملأ الحجر باللآلئ من الـ ... ـدمع ونزهه عن عقيق الدماء
واشربن من شراب زمزم كاسا ... دب منه السرور في الأعضاء
فهي حقا طعام طعم لجوع ... وبها للسقيم أي شفاء
فسقى المسجد الحرام غمام ... ورعى عشنا على البطحاء
كم حطمنا لدى الحطيم ذنوبا ... كثر عدها عن الإحصاء
صاح قم طف للإله سبعا ... بيت رمى الفيل فيه بالدهماء
مر بالمروين وارق لترقى ... بجنان مراقي السعداء
واكحل العين عند مسعاك ... بالميل ففيه شفاء ذاك العماء
ثم قف خاضعا على عرفات ... عل تعطى عوارف الإعطاء
وارمها في منى إلى جمرات ... اللظى بها في انطفاء
وأنشدنا الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب رحمه الله، إجازة لنفسه، وأنشدني ذلك قاضي القضاة جمال الدين بن ظهيرة من لفظه عن ابن الصاحب هذا سماعا، قال من قصيدة نبوية:
على الأبطح المكي طيب سلامي ... وأزكى تحيات كمسك ختام
وسقيا له من أدمع بهوامع ... تجود بحفظ الود جود كرام
فذاك هو الحي الذي طاير المنى ... له فيه بالإطراب سجع حمام
إذا ذكروا في الحي طيب حديثه ... خلعت على السماء ثوب منام
وإن ظفرت نفسي بلثم ترابه ... لبست بذاك اللثم خير لثام
منازل أفراحي وأنسي ولذتي ... وموسم أعيادي ودار هيام
إذا مر بي من نحوها نسمة الصبا ... وجدت لها بردا لحر أوامي
فتبعث في الروح حتى أكاد أن ... أطير وقد قص الجناح سقامي(2/352)
فلله عهد من معاهد أنسه ... جديد ولو أبلى الممات عظامي
فهل لي إلى تلك المواطن عودة ... على رغم حسادي وأهل ملامي
وأكحل بالميل الأخيضر ناظري ... بإثمد ركن البيت قبل حمام
وأنشد في عيدي بقرب أحبتي ... ألا إن هذا اليوم فطر صيامي
أديروا أديروا ماء زمزم خالصا ... فذا خيرا كأس في ألذ مقام
ونادوا على رأسي بأبواب شاربي ... عبيد ذليل مثقل بآثام
عسى عطفه منكم عليه فإنه ... تعلق من إحسانكم بزمام
وفي قوله أيضا:
في مكة الوقت قد صفا لي ... بطيب جار لها ودار
وخفض عيش جوار ربي ... فذاك خفضي على الجوار
وقوله أيضا:
ليل الحمى كله من طيبه سحر ... أحلى من النوم فيه عندنا السهر
يستلقط البرد من أنفاسه خلسا ... يطفي بها نار أحشاء لها شرور
وتجتلي الكعبة الغراء في خلع ... من الجمال على من فوقها الخفر
دار الهوى برح أطيار القلوب ... بداء أكبادنا روض الربا العطر
مستودع السر حضن الأمر منتقح ... إلام لا كنز لديه تحقر البدر
فغنني واسقني من ماء زمزمها ... هذا هو العيش لا خمر ولا وتر
وقوله أيضا:
وليل ببطحاء الحمى قد قطعته ... وطائر أنسي في الهوى قد ترنما
وطاف بكاسات الأماني سرورنا ... فطيب عيش في المقام وزمزما
وقوله أيضا:
بمكة قد طابت مجاورتي فيا ... إلهي فاجعلها مدى العمر سرمدا
فأنت الذي أحللتني ساحة الهوى ... وعودت قلبي عادة فتعودا
وقوله أيضا:
بمكة نلت الخير من كل جانب ... ودست على أمنية النفس بالنعل
فعن حرم الرحمن إن سرت قاصدا ... فلا كنت من نفسي الكريمة في حل
وقوله مضمنا:
مجاورتي بمكة نلت فيها ... أجل مناي من أقصى مرام
وما ظفر الفتى في الدهر يوما ... بأطيب من مجاورة الكرام(2/353)
والأشعار في التشوق إلى هذه المشاعر الشريفة كثيرة، ونسأل الله تعالى أن يجعل أعيننا بدوام مشاهدتها قريرة.
وقد انتهى الغرض الذي أردنا جمعه في هذا الكتاب، ونسأل الله تعالى أن يجزل لنا فيه الثواب، وصلى الله عليه سيدنا محمد سيد المرسلين، وآله وصحبه الأكرمين.(2/354)
خاتمة المؤلف للكتاب:
قال مؤلفه محمد بن أحمد بن علي الحسني الفاسي المكي المالكي، ألهمه الله رشده وأنجح قصده: كنت ألفت هذا الكتاب على وجه أخصر من هذا، ثم زدت فيه أمورا كثير مفيدة، تكون نحوا من مقداره أولا، وزدت في أبوابه ستة عشر بابا؛ لأني استطلت الباب الأخيرة منه أولا، وهو الباب الرابع والعشرون، فجعلته سبعة عشر بابا؛ فصارت أبوابه أربعين بابا، ولم يخل باب منها من زيادة مفيدة، وأصلحت في كثير منها مواضع كثيرة ظهر لي أن غيرها أصوب منها، وذكرت في بعض الأبواب ما كنت ذكرته في غيره، مع الإعراض عما ذكرته في الباب الذي كان فيه، لما رأيت في ذلك من المناسبة، وكان أكثر ما زدته فيه، وما أصلحت فيه، وما ذكرته في بعض الأبواب، معرضا عن ذكري له في غيره، وجعلي الباب الأخير من التأليف الأول: سبعة عشر بابا، بعد خروج التأليف المختصر الأول من يدي إلى ديار مصر والمغرب واليمن والهند، ولأجل ذلك تعذر علي أن أضع فيه ذلك، وكان اختصار للمختصر الأول في آخر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وفي سنة أربع عشرة وثمانمائة، وفي سنة خمس عشر وثمانمائة، وفي سنة ست عشرة وثمانمائة، وما زدته في سنة خمس عشرة وست عشرة، أكثر مما زدته فيما قبلهما بكثير، وفي سنة ست عشرة جعلت أبوابه أربعين بابا، وزدت فيه فوائد كثيرة أيضا في المحرم وصفر من سنة سبع عشرة وثمانمائة بمكة، وزدت فيه في شوال وذي القعدة من السنة المذكورة فوائد كثيرة، بمرسى جزيرة كمران1، وفيما بينها وبين باب المندب2 من البحر المالح ببلاد اليمن، وزدت فيه في
__________
1 هي جزيرة باليمن.
2 باب المندب مضيق يفصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي.(2/355)
بقية هذه السنة، وفي سنة ثمان عشرة، وفي سنة تسع عشرة فوائد كثيرة أيضا، وأنا حريص على أن ألحق فيه ما يناسب من المتجددات ومن الفوائد.
وأسأل الله تعالى تيسير ذلك، وأظن أن الزيادة فيه تقل جدا؛ لأن غالب ما زدته فيه أخذته من كتاب الفاكهي؛ فإني لم أظفر به إلا بعد ذلك، ومن تاريخي المسمى بالعقد الثمن في تاريخ البلد الأمين، لما فيه من الأخبار ولاة مكة، والحوادث التي ذكرتها في الباب الذي فيه ذكر ولاة مكة في الإسلام، وقد أخذت من هذا الكتاب، ومن كتاب الفاكهي ما يناسب أن يذكر في هذا الكتاب.
ونسأل الله تعالى تيسير القصد والتوفيق فيه للصواب، إنه كريم وهاب.
وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأنام، ورضي الله عن آله واصحابه حماة الإسلام، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
آخر كتاب شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام:
تأليف الإمام العلامة الحافظ المؤرخ قاضي المسلمين: شهاب الدين أبي العباسي أحمد بن علي ابن العلامة أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني الفاسي المكي المالكي تغمده الله بالرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان ... آمين، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من هذه النسخة في عصر يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الثاني أحد شهور سنة أربع وستين وثمانمائة. والحمد لله حق حمده، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد خير خلقه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، حسبنا الله ونعم الوكيل.(2/356)
الملحق الأول: ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام"
ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام" 1:
قال العلامة المؤرخ ابن ظهيرة القرشي المخزومي المكي في كتابه "الجامع اللطيف في أخبار مكة المشرفة والبيت الشريف"2 ما تلخيصه:
واستمر السيد بركات بعد موت الفاسي المؤرخ على ولاية مكة إلى أثناء سنة خمس وأربعين وثمانمائة فعزل عن ذلك.
ثم وليها أخوه السيد علي بن حسن وكان بالقاهرة فوصل مكة يوم السبت مستهل شعبان واستمر متوليا إلى رابع شوال سنة ست وأربعين وثمانمائة3، وقبض عليه وعلى أخيه السيد إبراهيم.
ثم وليها أخوه أبو القاسم بن حسن وقدم من مصر متوليا، فدخل مكة في يوم السبت السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ست وأربعين وثمانمائة واستمر متوليا إلى أوائل سنة خمسين فعزل.
ثم أعيد السيد بركات إلى ولاية مكة ودامت ولايته إلى أن مرض وترعك بدنه؛ وذلك في سنة تسع وخمسين "بتقديم التاء المثناة الفوقية" وثمانمائة فسأل نائب جدة الأمير جاني بك الظاهر بأن يرسل إلى السلطان يسألة ولاية عمرة مكة لولده السيد محمد عوضا
__________
1 تذييل وتكميل من الناسخ الفقير إلى الله، الراجي من ربه بلوغ المراد، أبي الفيض وأبي الإسعاد، عبد الستار الصديقي الحنفي، ابن المرحوم الشيخ عبد الوهاب المبارك المكي البكري.
2 هو القاضي ابن ظهيرة المخزومي المكي، المؤرخ المتوفى عام 950هـ.
3 وذلك في عهد برسباي الأشرف "833-841هـ" وابنه العزيز يوسف بن برسباي "841-842هـ" وجزء من عهد الملك الظاهر سيف الدين جقمق العلائي "842-857هـ" وهم من الملوك الشراكسة في مصر.(2/359)
عن أبيه فأجاب السلطان ذلك، وقبل وصول الخبر توفي السيد بركات في عصر يوم الاثنين تاسع عشر شعبان سنة تسع وخمسين بأرض خالد بوادي مر وحمل على أعناق الرجال إلى مكة ودفن بها في صبح يوم الثلاثاء لعشرين من شعبان؛ فلما كان عصر ذلك اليوم المذكور وصل قاصد من الديار المصرية بمرسوم للسيد محمد مؤرخا بسادس عشر رجب، ومضمونه ولاية مكة للسيد محمد عوضا عن والده حسب ما سأل نائب جدة، وكان السيد محمد خارجا عن مكة فدعى له على زمزم بعد المغرب من ليلة الأربعاء حادي عشر شعبان، ثم وصل السيد محمد مكة ليلة الجمعة سابع رمضان فقرئ موسمه في صبحها ثم لما كان رابع شوال من السنة المذكورة وصل إلى السيد محمد كتاب من السلطنة بالعزاء في والده وتوقيع باستمراره مؤرخا بشهر رمضان واستمر السيد محمد على ولاية مكة ودانت له البلاد وأطاعت له العباد لكونه أظهر العدل والإحسان والرأفة على الرعية والالتفات في أمور المسلمين وعدم الغفلة عن ذلك؛ فبسبب ذلك طالت مدته وحمدت سيرته وطابت سريرته فكانت مدة ولايته ثلاثا وأربعين سنة ونصفا إلا أربعة أيام مع مشاركة والده السيد بركات على عوائدهم، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى في الحادي والعشرين من محرم الحرام سنة ثلاث وتسعمائة بوادي الأبيار وحمل إلى مكة ووقف بها1.
ثم وليها من بعده ولده السيد بركات بن محمد بركات من قبل الملك الناصر محمد بن قايتباي في رابع شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وتسعمائة واستمر على ولايتها إلى أن كان موسم سنة ست وتسعمائة.
ووليها أخوه السيد هزاع بن محمد بعد محاربة وقعت بينه وبين أخيه السابق السيد بركات بالموسم المذكور بمحل يقال له وادي الحجون2 بمر الظهران وانهزم السيد بركات ودخل السيد هزاع مكة وحج بالناس سنة ثم خرج منها بعد انقضاء الموسم إلى ينبع3 خوفا من أخيه بركات لقلة عسكره؛ فعاد السيد بركات إلى مكة واستمر بها إلى جمادى الثانية سنة سبع بتقديم السين وتسعمائة فوصل السيد هزاع من ينبع بعسكر عظيم
__________
1 فقد استمرت ولايته من عام 589هـ حتى عام 903هـ وعاصر عهد ملك مصر المنصور بن الظاهر جقمق "857هـ"، ثم الملك الأشرف أنيال العلائي "857-865هـ"، ثم ابنه الملك المؤيد أحمد بن أنيال "865هـ"، ثم الملك الناصر سيف الدين بن سعيد خوشقدم الناصري "865-872هـ" ثم الملك الظاهر الناصر يلباي المؤيدي "872هـ"، ثم الملك الظاهر أبي سعيد تمربغا الظاهري "872هـ"، ثم قايتباي "872-901هـ"، ثم ابنه الناصر أبو السعادات "901-904هـ".
2 المعرف أن الحجوم بمكة، أما مر الظهران فهي تبعد عن مكة لأنها بالمكان الذي يقال له الآن: "وادي فاطمة".
3 قد سبق التعريف بينبع.(2/360)
وتحارب هو وأخوه السد بركات محاربة ثانية بمحل يقال له: "طرف البرقا"1 فانهزم السيد بركات؛ فوليها السيد هزاع ثانيا واستمر إلى خامس عشر من رجب ثم توفي إلى رحمة الله.
ثم عاد السيد بركات إلى مكة واستمرت الفتن والشرور بينه وبين أخيه السيد أحمد جازان وتحاربا مرارا، وكان ابتداء ذلك من أواخر ذي الحجة سنة سبع وتسعمائة إلى أن كان يوم السبت الخامس والعشرون من شوال سنة ثمان وتسعمائة فوصل السيد جازان بعسكر كبير من ينبع من بني إبراهيم وغيرهم ووقع الحرب بينه وبين أخيه السيد بركات فانهزم السيد بركات.
ثم وليها السيد أحمد جازان ودخل مكة في يوم السبت المذكور ونهب عسكره مكة وفعلوا أفعالا قبيحة وانتهكوا حرمة البيت وجرى منهم على مكة وأهلها أمورا شنيعة ليس هذا محل ذكرها ولا نحن بصددها، واستمر السيد جازان بمكة إلى آخر ذي القعدة من السنة المذكورة فبلغه وصول التجريدة من قبل السلطان الغوري2 بقيادة الأمير الكبير المعروف: بقتب الرجبي "بالجيم ثم الموحدة" بسبب ما فعله السيد جازان من نحو مكة ونهب الحاج الشامي والمصري فخرج من مكة هاربا، وهذا الشريف أحمد جازان المذكور هو جد أشراف مكة.
ثم عاد إلى مكة السيد بركات فواجه أمير التجريدة وقبض عليه، ثم حج وتوجه بعد ذلك إلى القاهرة من طريق ينبع في أوائل سنة تسع وسبعمائة، ثم عاد السيد جازان إلى مكة واستمر بها إلى يوم الجمعة عاشر رجب من السنة المذكورة فقتله الأتراك الشراكسة بالمطاف.
ثم وليها بعده أخوه السيد حميضة بن محمد واستمر إلى أواخر محرم أو أوائل صفر من سنة عشر وتسعمائة فعزل.
ثم وليها أخوه السيد قايتباي بن محمد بإشارة أخيه السيد بركات، وقد أمكنه الله بالفرار إلى مكة من مصر ولم يشعر به الغوري إلا بعد يومين؛ فأرسل خلفه فلم يلحقه، واستمر قايتباي متوليا موافقا لأخيه بركات مستضيئا برأيه إلى أن توفي إلى رحمة الله يوم الأحد الحادي والعشرين من صفر عام ثمان عشرة وتسعمائة بأرض حسان بوادي مر، فحمل إلى مكة فدفن بها، وهذا الشريف قايتباي جد أشراف مكة.
ثم استولى السيد بركات بعد موته على مكة إلى شهر شعبان من هذه السنة بمفرده.
__________
1 البرقا: ماء معروف بمر الظهران.
2 هو الملك الأشرف قانصوه الغوري، ولي حكم مصر من عام 906هـ حتى 922هـ.(2/361)
ثم أرسل السلطان الغوري يطلب الشريف بركات إلى مصر، فاعتذر، وأرسل ولده الشريف محمد أبا نمي بن بركات إلى الديار المصرية فوصلها1 فقابل السلطان قانصوه فأكرمه وعظمه وأنعم عليه بإمرة مكة، ثم عاد إليها شريكا لأبيه وعمره يومئذ سبع سنوات وبضعة شهور2 وكان وصوله إلى مكة في أواخر ذي القعدة الحرام بين يدي الحاج من السنة المذكورة، واستمر كذلك إلى أن كان عام ثلاث وعشرين وتسعمائة فاستولى السلطان سليم خان من آل عثمان على الديار الشامية والمصرية والحرمين الشريفين وجهز؛ فأصدر إلى مكة3 للسيد بركات وابنه السيد أبي نمي باستمرارها في إمرة مكة، فتجهز حينئذ السيد أبو نمي، وسافر إلى القاهرة وقابل السلطان سليما4 المذكور بمصر فأكرمه واحترمه وأقره هو ووالده على إمرة مكة، ثم عاد إلى مكة واستمر شريكا لوالده إلى أن أذن الله بوفاة والده السيد بركات في أثناء ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من ذي القعدة الحرام عام إحدى وثلاثين وتسعمائة5 وله من العمر إحدى وسبعون سنة.
ثم ولي بها بعده السيد محمد أبو نمي بمفرده ولقب بنجم الدين، ووصلت إليه الأحكام السلطانية السليمانية بولاية إمرة مكة في أواخر عام اثنين وثلاثين وتسعمائة فاطمأنت به الخواطر وقرت به النواظر واستمر منفردا بالولاية إلى عام ست وأربعين وتسعمائة.
ثم وليها ابنه السيد أحمد شريكا لوالده في هذا العام بعد وصوله إلى الديار الرومية ومقابلته للإمام الأعظم والخاقان المكرم الملك المظفر السلطان سليمان خان؛ فقوبل بالإكرام والرعاية والاحترام، وعاد إلى مكة في أول ربيع الأول عام سبع وأربعين وتسعمائة واستمر شريكا لوالده الشريف أبي نمي إلى عام خمسين وتسعمائة.
واستمر الشريف أحمد بن أبي نمي إلى رجب سنة إحدى وستين وتسعمائة شريكا لوالده، وانتقل إلى رحمة الله ودفن بالمعلاة، وهو الشريف أحمد وهو جد ذوي حراز وذوي قنديل من أشراف مكة، والله أعلم.
ثم أقام الشريف أبو نمي ولده الثاني الشريف حسن وعرض ذلك على الأبواب السلطانية السليمانية ففوض إليه الأمر، واستمر والده مشاركا له في الدعاء إلى أن مات
__________
1 إن عمره آنذاك 12 عاما، على رواية القطبي "ص: 214 من تاريخ القبطي".
2 هذا غير معقول، والصحيح أن عمره كان 12 عاما، كما سبق أن ذكرناه عن القبطي.
3 أي مرسوما.
4 تولى السلطان سليم حكم الدولة العثمانية من عام 917 حتى عام 926هـ وهو الذي فتح مصر، ودانت له البلاد الخاضعة لحكم مصر ومنها الحجاز.
5 وذلك في خلافة السلطان سليمان القانوني "926-974هـ".(2/362)
في المحرم سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة بتقديم التاء فيهما، فاستقل ولده الشريف حسن بالأمور، وهذا الشريف حسن هو جد ذوي حسن من الأشراف.
ثم في أوائل عام سنة تسع بعد الألف عرض الشريف حسن لأكبر أولاده أن يشاركه في الأمر؛ فوصل الأمر الشريف السلطاني في آخر السنة المذكورة بأن يكون أول أولاده الشريف أبو طالب بن حسن مشاركا لوالده، ودعى لهما واستمر مشاركا لوالده إلى أن قضى الله على والده الشريف حسن فتوفي في ثالث جمادى الآخرة سنة عشرة وألف في محل يسمى فاعية، بينه وبين مكة نحو سبعة أيام بالجمال، وحمل إلى مكة ودفن بالمعلاة.
واستقل بالأمر الشريف أبو طالب المذكور استقلالا تاما إلى أن توفي في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وألف بمحل يقال له: العشبة بنواحي بيشة فغسل هناك وكفن وقصد به مكة ودفن بالمعلاة بعد الصلاة عليه حسب العادة، وهو يزار وينذر له النذور، وتحمي ساداتنا بنو حسن من التجأ إلى قبره ولا ينال من استجار به مكروه.
ثم اجتمع الأشراف جميعهم فاختاروا الشريف إدريس بن حسن بن أبي نمي أخا المذكور وصدروه في جميع الأمور وأشركوا معه في الدعاء الشريف: محسن بن حسين بن حسن بن أبي نمي، والشريف فهيد بن حسين، وكتبوا بذلك إلى أبواب السلطنة العثمانية إلى الروم، ثم وصل المكتوب واستمروا كذلك إلى آخر شهر ربيع الآخر من سنة تسع عشرة وألف؛ فدخل الشريف محسن بن حسين بن حسن من اليمن بأمر من الشريف إدريس وقد كان الشريف محسن خرج إلى اليمن مغاضبا للشريف إدريس في سنة خمس عشرة وألف، ثم أخرجوا الشريف فهيدا من الديار المكية ورفعوا يده عما كان يستلمه من غلة الأقطار الحجازية فذهب إلى الروم ومات سنة إحدى وعشرين وألف، واستوى على ذلك كله الشريف إدريس، ثم إنه جعل ما كان للشريف فهيد من الربع لابن أخيه الشريف محسن بن حسين بن حسن، واستمر كذلك إلى أن حصل التنافر بين الشريف محسن وعمه الشريف إدريس؛ فعند ذلك اجتمع أهل الحل والعقد من بني عمه فرفعوا الشريف إدريس وفوضوا الأمر إلى الشريف محسن في يوم الخميس رابع محرم سنة أربع وثلاثين، وألف حصل بسبب ذلك القتال، وركب الشريف أحمد بن عبد المطلب بن حسن ومعه خيل ونادى في البلاد السابق ذكره، ثم خرج الشريف إدريس ليلة عيد المولد متوجها إلى الشريف مريضا فتوفي في جمادى الأخرى من سنته؛ ثم عرض على الأبواب السلطانية ما وقع فجاء التأييد في رابع عشر رمضان من العام المذكور للشريف محسن.(2/363)
ولم يزل الشريف محسن منفردا بمراده قامعا لأضداده آمنا في سربه عزيزا في حزبه إلى أن دخلت سنة سبع وثلاثين وألف وحصل القتال فيما بينه وبين الشريف أحمد بن عبد المطلب بن حسن؛ فدخل الشريف أحمد مكة وخرج الشريف محسن إلى اليمن بعد عزله في يوم الأحد سابع عشر رمضان من السنة المذكورة، واستمر هناك إلى أن توفي سادس رمضان المعظم بظاهر صنعاء اليمن سنة ألف وثمان وثلاثين وعمره أربع وخمسون سنة، فحمل إلى صنعاء ودفن بها وبنى عليه قبة تزار.
واستمر الشريف أحمد متغلبا على مكة إلى أن قتله قانصوه أمير الحج المصري في سنة تسع بتقديم التاء وثلاثين وألف.
وولي الشريف مسعود بن إدريس إمرة مكة ونودي له في البلاد واستمرار إلى أن توفي في ثاني عشرين من ربيع الثاني سنة أربعين وألف؛ فاتفق الأشراف على تولية عمه الشريف عبد الله بن حسن بن أبي نمي وإليه ينسب العبادلة جميعا، وعرضوا ذلك على الأبواب السلطانية العثمانية فجاءت المراسم بتأييده وفي أيامه كان إتمام عمارة البيت المعظم في أيام سلطنة الخاقان الأعظم السلطان مراد خان، وهذه هي العمارة الموجودة إلى وقتنا هذا، ثم في يوم الجمعة غرة صفر سنة إحدى وأربعين وألف خلع نفسه تعففا وديانة، وقلد إمرة مكة لولده الشريف محمد بن عبد الله بن حسن وابن أخيه الشريف زيد بن محسن بن حسين بن حسن وإليه ينسب أمراء مكة ذوي زيد، وكان الشريف عبد الله قد أرسل إليه يطلبه من اليمن؛ لكونه بغي هناك بعد وفاة والده الشريف محسن؛ فوفد إليه فأشركه مع ولده الشريف محمد، وتجرد حينئذ الشريف عبد الله عن إمرة مكة للعبادة إلا أنه كان يدعى له على المنبر معهما إلى أن توفي بالمنحني في بستان خياير بيك ليلة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة أي سنة 1041 وصلى عليه ودفن بالمعلاة عند والده الشريف حسن.
وأعقب جملة من الذكور وهم محمد وأحمد وحمود وحسين وهاشم وثقبة وزامل ومبارك زين العادين، ولهؤلاء أعقاب معروفون بمكة واليمن والحجاز يقال لهم العبادلة.
ثم استمر الأميران على ولاية مكة وجاءهما التأييد من السلطنة العثمانية المرادية، ثم قتل الشريف محمد بن عبد الله بن في وقعة الجلالبة وهي وقعة البغاة من جند قانصوه قدموا من اليمن في سنته ووصلوا السعدية واقتتلوا بأسفل مكة عند فوز المكامسة؛ فاستشهد الشريف محمد المذكور في يوم الأربعاء خامس عشر من شعبان، فوصلوا به مكة عصر ذلك اليوم وغسلوه ودفنوه بعد أن صلوا عليه.
ثم دخلت الأتراك مكة ومعهم الشريف نامي بن عبد الملك بن حسن، فنودي له بالبلاد بعد أن ولاه قانصوه وأشركوا مع الشريف عبد العزيز بن إدريس في ربع مكة ولم(2/364)
يشركه في الدعاء، وخرج الشريف زيد إلى بدر، وأرسل الشر يف علي بن هيازع إلى الأبواب السلطانية الشريفة يخبرها بوقعة الجلالبة، ثم توجه هو إلى المدينة النبوية فجاءه هناك قفطانان ولبسهما في حجرة جده -صلى الله عليه وسلم- وتوجه إلى ينبع فواجه العسكر وسار معهم إلى أن وصل الجموم وبلغ خبرهم إلى صاحب مكة الشريف نامي السابق؛ فخرج هو وأخوه الشريف عبد العزيز لأربع من ذي الحجة من سنته وتوجهوا إلى تربة، وتوجه الشريف عبد العزيز إلى ينبع وكان بمكة الشريف أحمد بن قتادة بن ثقبة بن مهنا فنادى في البلاد للسلطان، وأرسل للشريف زيد وأخبره بخلو البلاد؛ ففي سنته من ذي الحجة دخل الشريف زيد مكة ومعه الصناجق الأربعة المرسلة من السلطنة والعسكر، ونزل بدار السعادة فنودي له في البلاد وحج بالناس في سنته، ثم بعد قضاء المناسك توجه إلى تربة لمحاصرة المذكورين؛ فحاصرهم وهجم بالعسكر على الحصن ودخوله في سنة اثنتين وأربعين وألف ليلة الجمعة حادي عشر من محرم، وأمسكوا الشريف نامي وأخاه ثم رجعوا إلى مكة واستفتوا العلماء بقتلهما فأفتوا بذلك فشنقوا يوم الخميس ثاني عشر من محرم، وكان مدة الشريف نامي على عدد حروف اسمه مائة يوم، وبقي زيد حاكما على مكة إلى أن توفي يوم الثلاثاء في صبحه ثامن محرم أو ثالثه سنة سبع وسبعين وألف ومدته خمس وثلاثون سنة، وكانت ولادته بعد مضي درجتين من شروق شمس يوم الاثنين سبع عشرة شعبان من سنة تسع عشرة وألف ببلدة بيشة وكان رديفه الشريف حمود بن عبد الله بن حسن جد الحمودية من العبادلة؛ فكان يرى أنه الأحق بولاية مكة، فاستحسن عمار أفندي سنجق جدة وشيخ الحرم المكي تولية الشريف سعد بن زيد المذكور وحصلت هناك رجة شديدة لمنازعة الشريف حمود وكان يطلبها لنفسه، وكان له أتباع نحو أربعمائة من بني عمه وعبيده وغيرهم وللشريف سعد المذكور أضعاف ذلك، وتأخر تأمير الشريف سعد بن زيد بسبب المنازعة المذكورة إلى بعد الزوال وكان إذ ذاك بمكة المشرفة جماعة من أكابر الأتراك والأروام فاتفق رأيهم على تولية الشريف بعد المذكور فذهبوا لبيته، وخلعوا عليه وهنوه وعزوه في والده على أنهم يرسلون إلى السلطان محمد خان في ذلك، ثم إنه جلس للتهنئة، وأرسل إلى حاكم الطائف، وكان إذ ذاك بمكة وأمره أن يطلع إلى الطائف من ليلته وكان أهلها في شدة عظيمة فحصل لهم السرور واطمأنوا بقدومه.
وأما ما كان من طرق الحجاز؛ فقد وقع فيها النهب واشتد فيها فلما كان يوم الخميس حصل بمكة اضطراب كبير من مشاجرة وقعت بين الشريف سعد والشريف حمود، ووقع بينهم رمي البندق ومع ذلك لم يحصل فيهم ضرر والحمد لله، ووقع لذلك اضطراب الطائف حتى إن الخطيب امتنع من الخطبة بها لشهرة ذلك عندهم وتخيل عدم صحة التولية، وإن ذلك ناشئ عنه، وقد وقع بين بعض القبائل قتال ولم يزل الناس بعد(2/365)
ذلك في قيل وقال إلى اليوم الثالث عشر من توليته فوقع الاتفاق بينهم وزينوا لذلك مكة حسب عادتهم ثلاث ليالي واطمأنت القلوب وراقت الأفكار ودام السرور وزالت الأحزان، والناس مستبشرون بتوليته؛ غير أنه لم تأته الخلعة السلطانية إلا بعد مضي ستة أشهر وهذه هي الولاية الأولى له؛ فلما أهل شهر رجب وقع في رابعه بين جماعة الشريف سعد وجماعة الشريف حمواد النزاع مرة أخرى واشتد الأمر وتجمعت القبائل والعساكر وتراموا بالبندق، ومات نحو أربعة رجال اثنان منهم خطأ، ودام ذلك بينهم ليلتين ويوما وبعض يوم، ثم وقع الصلح ونودي بالأمن والحمد لله إلى صبيحة اليوم السادس والعشرين من رجب؛ فجاء التأييد والخلع السلطانية بإمارة مكة للشريف سعد المذكور فحصل بها غاية السرور ونودي بالزينة سبع ليال وأعطى عسكره في ذلك اليوم ألفي دينار وخلع على كثير من خدامه، واستمر الأم إلى شهر ذي القعدة فحصل أيضا بين الشريف سعد والشريف حمود تنافر وكلام من جهة المعلوم وخرج لذلك من مكة؛ فلما كان الثالث والعشرون من الشهر المذكور أرسل خدامه إلى الطرقات ينتهبون ما يجدون فبالغوا في ذلك وجمعوا أموالًا كثيرة من القوافل وغيرهم؛ حتى إنهم أخذوا فرسا لبعض خدام الشريف وأرسل لهم عند ذلك عسكرا فلم يجدوهم، واستمر أمرهم كذلك إلى زمن الحج فلم يقع منهم أذية للحجاج؛ غير أن أهل مكة وقراها والعرب لم يحج منهم إلا القليل، وبعد انقضاء الحج طلبوه للصلح وحضر القاضي فلم يقع الصلح وذكر أنه متوجه إلى مصر وخرج مع الأمير المصري إلى بدر فتخلف فيها، ثم انتقل إلى ينبع، ووقع لبعض أولاد الشريف زيد تنافر مع أخيرهم الشريف سعد والتحقوا بالسيد حمود وفعلوا مثل فعله من النهب وغيره، وجهز الشريف إليهم فلم يظفر بهم بل ببعض أموالهم ووقع من الشريف حمود أمور مشتهرة قيدها غير واحد من المؤرخين.
وفي هذه المدة تكاثرت الفتن والغلاء والسرقة والحرائق وسقوط النجوم وظهر عمود في السماء لم يظهر مثله وكثر الفناء والمرض وكسفت الشمس، وقد كان توجه الشريف سعد إلى ينبع مع الحج المصري وخلف أخاه الشريف أحمد بن زيد على مكة؛ فأقامه الله سبحانه وتعالى أحسن قيام ووجد الطعام ثم توجه هو إلى نواحي المبعوث وأقام مقامه الشريف بشير بن سليمان في صفر من سنة ألف وتسع وسبعين، انتهى ما وجدته مذيلا على نسخة المؤرخ العلامة ابن ظهيرة الموجودة بمصر بالأزهر الأنور برواق الأروام بخط كاتب ذلك التاريخ، وتم نسخ النسخة المذكورة في يوم الأحد الحاديث عشر من ذي القعدة الحرام من سنة ألف ومائة وتسع وثلاثين من هجرته -صلى الله عليه وسلم.
ثم رجع الشريف سعد إلى مكة في يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي القعدة من ينبع واستمر إلى سنة ثلاث وثمانين وألف وكان في هذه السنة أمير الحج حسين باشا فحصل التنافر في يوم الحادي عشر من ذي الحجة بمنى بين الشريف سعد وبين الباشا، وكان في(2/366)
ذلك اليوم ترد الخلع السلطانية والمرسوم المتضمن بقاء الولاية والوصاية على الرعية والحجاج وتأخير أمين الصرة بذلك عن وقته المعهود وتعدى الحدود؛ فحينئذ أرسل الشريف سعد في طلبه فوجده عند الباشا المذكور وبعثوا يطلبونه من عندهم للبسه وكان مرادهم اقتناصه من أبناء جنسه؛ فأرسل يعرفهم أن القواعد جرت بأن يأتيهم به إليه فمنعوه وشحوا به عليه؛ فعلم الشريف القضية وأيقن أنه لا بد من القتال فترك ذلك حرمة للزمان والمكان ورأى أن القتال في هذا الشهر الشريف مما يضر بأهل التعريف وارتحل هو وأخوه الشريف أحمد ليلة الاثنين الثالث عشر من ذي الحجة المذكور إلى الطائف ثم إلى تربة ثم إلى بيشة ثم سار منها إلى بلاد عديدة إلى أن اجتماعا ووصل الديار الرومية وقابل الدولة العلية وبقيا هناك؛ فلما أصبح الناس يوم الثاني عشر منه شاع بين الناس ارتحال الشريف سعد وأخيه أحمد فاجتمع حسين باشا وأمين الصرة في بيت الشيخ محمد بن سليمان بمنى واستدعوا جماعة من الأشراف منهم الشريف بركات بن محمد بن إبراهيم بن بركات بن أبي نمي فأظهر الباشا أمرا سلطانيا بتولية المذكور فألبسوه خلعة الولاية، ثم إنه نزل من منى في موكب عظيم إلى مكة وجلس كهيئته في دار أبيه المعروفة به واستمر في ولاية مكة عشر سنين وعدة أيام إلى أن توفي ليلة الخميس في التاسع والعشرين من ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين وألف، ودفن بجوار الشيخ النسفي بوصاية منه، وقد ترجمه العلامة المحبي في تاريخ "خلاصة الأثر".
فولي مكة بعده ابنه الشريف سعد بن بركات وألبسه قاضي مكة خلعة الاستمرار بموجب الأمر السلطاني الذي بيده المتضمن كونه ولي عهد أبيه بعد يوم وفاة أبيه، ولم ينازعه أحد في ذلك، ثم ورد التأييد السلطاني بذلك أيضا وبقي إلى سنة خمس وتسعين وألف.
فولي بعده السلطان إمارة مكة للشريف أحمد بن زيد من الأستانة؛ لكونه كان موجودا هناك وسار إليها كما تقدم مع أخيه الشريف سعد، ثم دخل هو مكة في سابع ذي الحجة من سنة خمس وتسعين وألف، وتوجه الشريف سعيد بن بركات إلى مصر وتوفي بها، استمر الشريف أحمد إلى سنة تسع وتسعين "بتقديم التاء فيهما" وألف وتوفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من العام المذكور.
فولي مكة الشريف سعيد بن سعد بن زيد وهي المرة الأولى من إمارته؛ حتى ورد الشريف أحمد بن غالب مكة ومعه أمر سلطاني بإمارة مكة له في ثاني شوال من السنة المذكورة وجلس للتهنئة وحصل التنافر بينه وبين الأشراف فنودي بالطائف وحده للشريف محسن بن حسين بن زيد فدخل مكة وخرج الشريف أحمد بن غالب بعد عشرين يوما منها، وجلس للتهنئة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من رجب سنة ألف ومائة(2/367)
وواحد وجاءه التأييد السلطاني؛ فبقي مدة حتى صار الاختلاف فيما بين الأشراف في سنة ثلاث بعد المائة والألف إلى أن نزل عن ولاية مكة للشريف مساعد بن سعد جد ذوي مساعد من آل زيد.
ونزل هو للشريف سعيد بن سعد السابق جد ذوي سعيد بن ذوي زيد بحضرة القاضي فسجل ذلك، وبعث القاضي الشريف سعيد قفطانا من السلطان فلبسه وجلس للتهنئة يوم الأحد سابع محرم سنة ثلاث ومائة وألف، وهذه هي الولاية الثانية للشريف سعيد، ثم أرسلوا الخبر إلى أبواب السلطنة بذلك فولت والده الشريف سعد ذلك، وهذه هي الولاية الثانية له وكان حينئذ عندهم كما تقدم، ولم تزل الأخبار تتوارد بمجيء الشريف سعد إلا أن دخل مكة مع الحج في ذي الحجة من العام وجلس في دار للتهنئة، ثم بعد مدة في أواخر سنة خمس ومائة وألف عزل عنها لمنافرة حصلت بينه وبين محمد باشا صاحب جدة.
فولي إمارة مكة الشريف عبد الله بن هاشم بن محمد بن عبد المطلب بن حسن بن أبي نمي وخرج الشريف سعد إلى القنفذة.
ثم رجع الشريف أحمد بن غالب مكة وواجه أميرها الشريف عبد الله بن هاشم، ثم وصل الخير إلى الشريف بالقنفذة، وورد مكة فحصل القتال بينه وبين جماعة الشريف عبد الله بن هاشم الأمير والشريف أحمد بن غالب.
فغلب الشريف أسعد على مكة ودخلها وارتحل الشريف عبد الله والشريف أحمد إلى الرنى فاجتمع الأشراف وقالوا إن الفتنة لا تسكن إلا إذا نودي في البلاد للشريف سعد فحينئذ تم الأمر له وجلس في داره للتهنئة، وكانت مدة تولية الشريف عبد الله أربعة أشهر، وهذه هي الولاية الثالثة للشريف سعد، ثم وصل الخبر بذلك إلى الأبواب الخاقانية والسلطنة العثمانية؛ فأرسل حينئذ السلطان مصطفى خان التأييد للشريف سعد.
وإلى هنا تم تاريخ العلامة المؤرخ السنجاري1 المسمى "منائح الكرم في أخبار مكة وولاة الحرم".
واستمر الشريف سعد في ولايته هذه مطمئنا إلى سنة ثلاث عشرة ومائة وألف؛ فاستحسن أن يعرض للدولة إقامة ولده الشريف سعيد مقامه في ولاية مكة وينزل عنها فأجيب إلى ذلك، وهيه هي الولاية الثالثة للشريف سعيد السابق ذكره، وبقي فيها إلى أن حصل التنافر فيما بينه وبين الأشراف وامتدت الولاية إلى سنة ست عشرة ومائة، وحصل
__________
1 هو السنجاري المكي المؤرخ المتوفى عام 1125هـ.(2/368)
بينهما القتال إلى أن خرج الشريف سعيد بن المغرب من أعلى مكة في ليلة الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول من العام المذكور.
ثم دخلت الأشراف مكة ورئيسهم الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد فنودي في البلاد له بحكم سليمان باشا بعد عزل الشريف سعيد؛ فجلس في دار السعادة للتنهئة وبقي تسعة أيام.
ثم نزل عنها للشريف عبد الكريم بن محمد بن يعلى بن حمزة بن مغامس بن بركات بن أبي نمي جد ذوي عبد الكريم من آل بركات؛ فقبلها برضاء الأشراف جميعا وجلس في داره للتنهئة وهذه هي الولاية الأولى له.
ثم وقع فيما بين قائم مقام الشريف عبد الكريم بمكة وبين الشريف سعد النزاع وحصل القتال فيما بينهما؛ فغلب عليه فنودي في البلاد للشريف سعد المذكور سادس شوال من سنة ست عشرة ومائة وألف، وكان أمير مكة -إذ ذاك- غائبا باليمن ودخل الشريف سعد مكل وأرسل له الباشا قفطانا، وهذه هي الولاية الرابع للشريف سعد بن زيد وأقام فيها ثمانية عشر يوما، وسببه أن الشريف عبد الكريم ورد الحسينية1 قافلا من اليمن ومعه بنو عمه وقبائل عتبة وحرب وقاتل الشريف سعدا إلى أن انهزم؛ فدخل الشريف عبد الكريم مكة وفي صحبته الشريف عبد المحسن، ونودي في شوارع مكة للشريف عبد الكريم، وهذه هي الولاية الثانية له واطمأنت البلاد وخرج الشريف سعد إلى العابدية، وتوفي هناك يوم الأحد خامس ذي القعدة من سنة ست عشرة ومائة وألف، ودفن بقبة الشريف أبي طالب عند قبر والده الشريف زيد.
ثم ورد الأمر الشاهاني بتولية الشريف سعيد بن سعد من الدولة العلية؛ فدخل مكة بعده في اليوم السابع من ذي الحجة ونودي له في البلاد، وهذه هي الولاية الرابعة للشريف سعيد؛ فحج من سنته وذهبت القوافل حسب عادتها وأهل محرم سنة سبع عشرة ومائة وألف.
ثم كان يوم الاثنين ثامن عشر من رجب ورد مكة خبر أغا السلطان وصحبته الأمر السلطاني بتولية مكة للشريف عبد الكريم بن محمد بن يعلى السابق، ثم وصل الأغا جده ونودي له بها؛ فلما كان يوم الثلاثاء سادس شعبان دخل الشريف عبد الكريم مكة، وهذه هي الولاية الثالثة له وجلس للتنهئة في داره وبقي إلى سنة ثلاث وعشرين ومائة ألف.
وفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب أو شوال من السنة المذكورة وردت الأخبار من المدينة النبوية بأن السلطنة أمرت بتوجيه ولاية مكة للشريف سعيد وورد إليهم
__________
1 الحسينية: مزرعة معروفة بأسفل مكة. وهي للأشرف من ذوي زيد.(2/369)
صورة الأمر الوارد فدخل الشريف سعيد ثامن عشر من ذي القعدة ونودي له في البلاد وجلس للتنهئة، وهذه هي الولاية الخامسة للشريف سعيد المذكور، واستمر فيها إلى أن توفي في الحاديث والعشرين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائة وألف.
ثم تولى بعده ولده الشريف عبد الله بن سعيد وبقي إلى سنة ثلاثين ومائة وألف في ست وعشرين من جمادى الأولى وطلب الشريف علي بن سعيد فأعطاه ولاية مكة، وكتبوا إلى الدولة باستحسان ذلك فجاءته المراسيم السلطانية في شوال من سنته، ثم عدن ورود باشتة المحمل طلبت الأشراف أن يولوا الشريف يحيى بن بركات ويعزلوا الشريف الحالي فوافقهم على ذلك؛ فألبس الباشا الشريف يحيى بن بركات خلعة الولاية، وهذه هي الولاية الأولى له؛ وذلك في اليوم السادس من ذي الحجة من سنة ثلاثين ومائة وألف ودخل مكة وخرج الشريف علي بن سعيد منها، واستمر الشريف يحيى إلى أن عزل عنها بالشريف مبارك بن أحمد بن زيد من سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف، فدخل مكة بعد القتال مع الشريف يحيى ونودي للشريف مبارك في شوارع مكة وجلس للتنهئة، وهذه هي الولاية الأولى للشريف مبارك، ولم يزل في إمارة مكة إلى ست من ذي الحجة من سنة أربع وثلاثين ومائة وألف؛ فانتزعها منه الشريف يحيى بن بركات السابق ذكره بولاية من السلطنة الشريفة، وكان قد توجه هذا الشريف إلى دار السلطنة حتى اجتمع بالسلطان أحمد خان بن محمد بن إبراهيم خان العثماني؛ فولاه ذلك وأرسله مع أمير المحمل الشامي هو ووالي جدة أيضا فدخلوا مكة في ست من ذي الحجة ونودي له في البلاد، وهذه هي الولاية الثانية للشريف بركات في ذي الحجة في سبع وعشرين منه من سنة خمس وثلاثين ومائة وألف، ثم حصل القتال فيما بينه وبين الشريف مبارك بن أحمد بن زيد المار ذكره في ثاني عشر من المحرم الحرام من سنة ست وثلاثين ومائة وألف؛ فانهزم الشريف بركات بن يحيى بن بركات ودخل مكة الشريف مبارك بن أحمد ونودي له وعم الأمن من كل الجهات، وهذه هي الولاية الثانية له.
فلما كان خامس عشر جمادى الآخرة عزل عنها وتولى بأمر السلطان الشريف عبد الله بن سعيد ولاية مكة، وهذه هي الولاية الثانية له وكان ذلك في التاريخ المذكور، ثم بقي إلى أن توفي خامس عشر ذي القعدة من سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف، فتولى، ولده محمد ذلك بعد أن نودي له ودعي من اليمن وكان حين وفاة والده بها؛ فوصل مكة في تسع وعشرين من ذي القعدة الحرام من العام المذكور وألبس الخلعة ونودي له في البلاد وعلى المنبر دعي له وكان عمره عشرين سنة، واستمر إلى أن حصل النزاع والقتال فيما بينه وبين الشريف مسعود بن سعيد عمه؛ إلى أن انهز الشريف محمد بن عبد الله بن سعيد فدخل الشريف مسعود مكة في سابع جمادى الأولى من سنة خمس وأربعين ومائة(2/370)
وألف ونودي له في شوارع مكة، وهذه هي الولاية الأولى للشريف مسعود، ثم ارتحل الشريف محمد بن عبد الله بن سعيد اليمني، ثم رجع إلى الطائف فارتحل إليه الأمير الشريف مسعود وحصل القتال فيما بينهما فانهزم الشريف مسعود واستقل الشريف محمد بن عبد الله بكرسي الولاية وتوجه إلى مكة، وهذه هي الولاية الثانية له في السنة المذكورة، وبقي إلى أن أقبل الشريف مسعود بن سعيد مكة بجماعة معه فتقاتلا صبح اليوم السابع من رمضان من سنة ست وأربعين ومائة وألف؛ فانهزم الشريف محمد بن عبد الله بن سعد ودخل الشريف مسعود عمه مكة ونزل في داره وجلس للتنهئة، وهذه هي الولاية الثانية للشريف مسعود كما رأيت ذلك بخط العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري المدني في هامش تاريخ ابن ظهيرة المسمى "بالجامع اللطيف في أخبار مكة المشرفة وولاتها والبيت الشريف"، واستمر الناس في ولايته مطمئنين فتوفي في يوم الجمعة الثاني من ربيع الثاني من سنة خمس وستين ومائة وألف.
وتولى بعده الشريف مساعد بن سعيد ونودي له في البلاد وعرفوا بذلك الدولة العليلة؛ فجاءه التأييد في ست وعشرين من شعبان وألبس الخلعة بالحطيم؛ كما رأيت بخط بعض الأماثل المعاصرين للشريف المذكور.
ثم استمر وانقادت له الأمور إلى سنة إحدى وسبعين ومائة وألف فحصل التنافر بينه وبين الأشراف فبسببه قبض على الأمير الشريف مساعد المذكور، وتولى أخوه الشريف جعفر بن سعيد إمارة مكة وألبس القفطان في السنة المذكورة.
ثم بعد توجه الحجاج والقوافل نزل الشريف جعفر بالإمارة لأخيه الشريف مساعد المذكورة؛ وذلك في اليوم الرابع عشر من المحرم الحرام من سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف وبقي هو في ذلك إلا أن توفي يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر المحرم الحرام من سنة أربع وثمانين ومائة وألف ... فبعد وفاته ولي إمارة مكة أخوه الشريف عبد الله بن سعيد.
فألبسه قاضي الشرع الشريف ونودي له في البلاد، ثم نزل عنها لأخيه الشريف أحمد بن سعيد وبقي أياما ثم في يوم الجمعة الثامن عشر من ربيع الأول من العام المذكور وصل مكة أبو الذهب محمد بيك من مصر؛ فعزل الشريف أحمد بن سعيد، وجلس على كرسي الولاية والإمارة الشريف عبد الله بن حسين بن يحيى بن بركات بن محمد بن بركات بن أبي نمي، وحسين والد هذا الأمير ينسب إليه ذوو حسين من الأشراف وسكن بدار آبائه المسماة بدار الهنا بباب الوداع ونودي باسمه في البلاد، وتوجه الشريف أحمد بن سعيد السابق إلى اليمن، ثم جاء إلى مكة لأخذ الثأر من الشريف عبد الله بن حسن السابق الأمير ومعه من العربان جمع غفير فحصل بينهما القتال(2/371)
فانهزم الشريف عبد الله بن حسين، ودخل مكة الشريف أحمد بن سعيد في الثاني عشر من جمادى الثانية من السنة المذكورة سنة 1184هـ أربع وثمانين ومائة وألف، وبقي إلى أن حصل النزاع فيما بين الشريف أحمد بن سعيد الأمير وبين ابن أخيه الشريف سرور بن مساعد بن سعيد بن مسعد بن زيد يوم السبت ثلاثة عشر من ذي القعدة من سنة 1186هـ ست وثمانين ومائة وألف، وأدى إلى القتال؛ فانهزم الشريف أحمد ودخل مكة المشرفة الشريف سرور بن مساعد يوم السبت ثالث عشر من ذي القعدة من السنة المذكورة، ونودي له في شوارع مكة، وأمنت البلاد، ثم حصل القتال الشديد مرارا وفي كل مكان انهزم عمه الشريف أحمد، وفي الوقعة الخامسة عشر من جمادى الأولى من سنة 1193هـ ثلاث وتسعين ومائة وألف قبض الشريف سرور على عمه وعلى ولديه وأمر بحبسهم بينبع، ثم نقلوا إلى جدة وما زالوا بها حتى توفي أحد ولديه، ثم توفي الشريف أحمد بن سعيد في السجن أيضا في عشرين من ربيع الثاني من سنة 1195هـ خمس وتسعين ومائة وألف وأطلق حينئذ ابنه الأحسن وجاء جد كاتب النسخة، وجاء مع التذييل الشيخ حبيب الله لأجل أداء فريضة الحج من بلاد الهند في سنة 1200هـ مائتين وألف، ثم بعد فراغه من الزيارة النبوية عاد إلى بلده دلهي بالهند وعاش ممتعا بحواسه بين أقرانه إلى أن توفي سنة 1245هـ خمس وأربعين ومائتين وألف.
وخلف عمي الشيخ عبد النبي ووالد الشيخ عبد الوهاب وعمر الأول أربعون سنة ووالدي -إذ ذاك- ينيف عمره على عشر سنين، والله أعلم.
ولم يزل الشريف سرور في إمارة مكة إلى سنة اثنتين بعد المائتين والألف حتى توفي في اليوم الثامن عشر من شهر ربيع الثاني من العام المذكور.
وتولى إمارة مكة أخوه الشريف عبد المعين بن مساعد، ونودي له بذلك وبقي أياما، ثم نزل عنها لأخيه الشريف غالب بن مساعد بن سعيد بن مسعد بن زيد جد ذوي غالب وجاءته الخلعة السلطانية في التاسع والعشرين من ذي القعدة من العام المذكور، وقد حصل في أيامه الحركة الإصلاحية الوهابية المنسوبة إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي ودام القتال معه مدة المواسم، ذكرها شيخنا العلامة المرحوم برحمة الملك المنام السيد أحمد بن زيني بن دحلان في تاريخ "خلاصة الكلام في تاريخ أمراء بلد الله الحرام"، ثم صفا الوقت والزمان للشريف غالب المذكور إلى أن وصل محمد علي باشا جد العائلة الخديوية بمصر مكة المشرفة. واحتفل به الشريف غالب احتفالا تاما غير أن الباشا المذكور كان مأمورا من طرف الدولة العثمانية بالقبض على الشريف غالب الأمير وإرساله إلى الآستانة العلية فصار متحيرا في هذا الأمر لتحفظ الشريف غالبا أمير مكة على نفسه؛ حتى تشاور مع الشيخ أحمد تركي في ذلك الأمر، فدبر له تدبيرا حسنا،(2/372)
حتى تم له الأمر في أواخر ذي القعدة الحرام من سنة 1228هـ ثمان وعشرين ومائتين وألف، وقد صار الاستحسان بأن تكون إمارة مكة لابن أخيه الشريف يحيى بن سرور بن مساعد؛ فطلبوه فمضى فألبسه محمد علي باشا فروا سموريا، وأركبوه في هيئة على فرس وأوصلوه إلى داره بقرب باب الوداع فجلس للتنهئة؛ ثم إن الشريف غالب أنزل إلى جدة وتوجه به إلى الآستانة، ثم أرسل إلى سلانيك ونفى بها إلى أن توفي في سنة 1235هـ خمس وثلاثين ومائتين وألف وقبره بها يزار.
واستمرت الإمارة للشريف يحيى مدة أعوام إلى أن دخلت سنة 1240هـ أربعين ومائتين وألف، وفي ليلة الثاني من شعبان من العام المذكور صار قتل الشريف، وفي عام 1242هـ حصل نزاع بين الشريف يحيى والأمير التركي أحمد باشا وخصوم الشريف من يحيى إلى مصر؛ حينئذ تأهب للسفر؛ فلما خرج ووصل بدرا صام رمضان فجاءته مشايخ حرب وهم عربان سكنوا بين الحرمين فوعدوه بالإعانة، ومكث هناك إلى تمام السنة فهلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين فأخذ في الشروع في جمع القبائل؛ فوصل الخبر إلى مكة بذلك، وكان أحمد باشا قد أنهى الأمر إلى مصر لدولة محمد علي بابا فأبطأ عليه في الجواب فاستحسن أن يولي مكة أحدا من الأشراف صورة؛ فوليها الشريف عبد المطلب بن غالب ليجمع جموعا يقابل بها الشريف يحيى المذكور وذلك في أثناء سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف. وهذه هي الولاية الأولى للشريف عبد المطلب المذكور؛ وحينئذ نودي باسمه في البلاد. وبعد دخول سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف جاءت البشائر من مصر بأن محمد علي باشا استحسن أن تكون الإمارة للشريف محمد بن عبد المعين بن عوف بن حسين بن عبد الله بن حسن بن أبي نمي، وكان -إذ ذاك- بمصر وهو جد أمراء مكة ذوي عون.
وأما الشريف يحيى فذهب من بلاد الحرمين إلى المدينة المنورة وزار قبر جده -صلى الله عليه وسلم- وتوجه بعد حين إلى مصر فوصلها واجتمع بالشريف محمد بن عبد المعين بن عوف المتولي المذكور وبقي هناك إلى أن توفي بها.
ثم أرسل محمد علي باشا صاحب مصر الشريف محمدا المذكور مع جموع وعسكر عظيم إلى مكة فوصل جدة؛ ثم في اليوم الثاني من جمادى الأولى من العام المذكور أي عام ثلاث وأربعين ومائتين وألف، فدخل مكة بدون قتال لتوجه الشريف عبد المطلب بن غالب إلى الطائف، وجلس الشريف محمد بن عبد المعين بن عون في اليوم المذكور في دار الشريف يحيى بن سرور عند باب الوداع للتنهئة، ثم توجه إلى الطائف لقتال الشريف عبد المطلب فلم يقع ذلك، وحصل الصلح وكان ذلك في شهر(2/373)
رجب الحرم من السنة المذكورة، وتوجه الشريف عبد المطلب بن غالب ومعه أخوه الشريف بن غالب إلى الآستانة برا فوصلها وتولى ثانيا كما سيأتي إن شاء الله، ثم استقامت للشريف محمد بن عبد المعين الأمير الأمور على أحسن حال وانتظمت أحكامه بلا معارض على أتم نظام.
وفي سنة خمس وستين ومائتين وألف توفي بمصر محمد علي باشا، ثم استمر الحال مطمئنا للشريف محمد بن عبد المعين بن عون إلى أن دخلت سنة سبع وستين ومائتين وألف ونزل من الطائف وفي صحبته ولده الشريف عبد الله والشريف علي فحضروا عند عبد العزيز باشا الشهير بأنه باشا، وكان ذلك في رجب من العام المذكور؛ فأبرزا أمرا مضمونه حضورهما مع والدهما إلى الآستانة دار السلطنة، فتوجهوا وأقاموا حينئذ الشريف المنصور بن يحيى بن سرور وكيلا قائم مقام أمير مكة، ثم وجهت الدولة الإمارة للشريف عبد المطلب بن غالب في رمضان من السنة المذكورة، وكان إذ ذاك بالآستانة عندهم، وهذه هي الولاية الثانية له، ثم وصل مكة في ذل القعدة من العام المذكور وجلس في داره بالقرارة للتنهئة، وبقي إلى سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف، فعزل وتوجه إلى دار السلطنة في شوال من سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف.
فولت الدولة العلية إمارة مكة للشريف محمد بن عبد المعين بن عون وكان إذ ذاك بالآستانة كما تقدم، فهذه هي الولاية الثانية له وجاء الخبر بوصوله إلى جدة في ثاني شعبان ومعه ابنه الشريف علي باشا فقط، ثم بعد يومين وصلا مكة وجلس الشريف محمد بن المعين بن عون للتنهئة في داره العامرة بسوق الليل، وبقي فيها إلى سنة أربع وسبعين ومائتين وألف وتوفي في الثالث عشر من شعبان المبارك من العام المذكور، ودفن بقبة السيدة آمنة والدة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعلاة.
فلما بلغ الخبر إلى السلطنة بوفاته وجهت الدولة إمارة مكة إلى ابنه الشريف عبد الله باشا في رمضان وكان إذ ذاك بالآستانة، وتركه والده كما تقدم وأقيم مقامه أخوه الشريف علي باشا بن محمد بن عبد المعين بن العون بمكة إلى حين مجيئه، ثم توجه الشريف عبد الله المتولي بعد قضاء حوائجه في ربيع الأول من سنة خمس وسبعين ومائتين وألف من الآستانة، ودخل مكة في موكب عظيم وجلس في دار والده للتنهئة، ودامت له الأمور في أحسن نظام إلى وفاته في اليوم الرابع عشر من جمادى الآخرة من سنة أربعين وتسعين ومائتين وألف بالطائف، ودفن بقبة الحبر ابن عباس.
فأقام تقي الدين باشا والي وجدة وشيخ الحرم المكي أخاه الشريف عون الرفيق باشا دليلا بمقام الإمارة وكان أخوة الأكبر الشريف حسين باشا بالآستانة؛ فوجهت الدولة(2/374)
الإمارة له؛ فقدم مكة في شعبان من السنة المذكورة وتوجه الشريف عون الفريق إلى الآستانة في شوال من سنته، واستمر الشريف حسين في إمارة مكة إلى سنة سبع وتسعين "بتقدم السين في الأولى والتاء المثناة الفوقية في الثانية" ومائتين والألف ... وفيها توجه إلى جدة في أوائل ربيع الثاني، وفي دخوله جدة طعن بسكين مسمومة ودفن في قبر والده بقبة السيدة آمنة والدة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعلاة.
فلما وصل الخبر إلى الآستانة بوفاة الشريف حسين وجهت الدولة إمارة مكة للشريف عبد المطلب بن غالب، وكان إذ ذاك في الآستانة، وهذه هي الإمارة الثالثة له، ثم وصل مكة ودخلها في الحادي عشر من جمادى الثانية من العام المذكور وجلس للتنهئة في داره بالقرارة، واستمر الحال له بأحسن طريق إلى عشرين من شعبان من سنة تسع وتسعين ومائتين وألف حصل بينه وبين ولاة جدة ومكة الاختلاف، ثم جاء الخبر من السلطنة بأنها ولت عثمان نوري باشا ولاية الحجاز عبد المطلب الأمير؛ إذ أحاطت العسكر بداره الذي بالمثناة وأخبروه بأنه معزول ونودي في البلاد للسلطان، وأنزلوه من داره إلى قشلاق العسكرية للحكومة بالطائف، وأرسل الخبر إلى الدولة بذلك فتوجهت إمارة مكة للشريف عون الرفيق باشا، وكان إذ ذاك بالآستانة، ثم وصل الخبر بذلك إلى مكة وكان عثمان باشا قد أقام أخاه الشريف عبد الإله باشا نائبا عنه.
ثم توجه الشريف عون المتولي من دار السلطنة ووصل إلى جدة في ثامن يوم التروية من سنته، ووصل إلى مكة يوم عيد النحر وتوجه إلى منى في موكب عظيم في عصره وقرئ فرمانه ثاني يوم على حسب عادة الأمراء، ثم بعد انقضاء أيام منى نزل إلى مكة ومشت القوافل والحجيج وأهلت سنة ثلاثمائة وألف، وتوجه في شهر ربيع الأول من العام المذكور أخوه الشريف عبد الإله باشا إلى الآستانة، ولم يزل الشريف عون في إمارة مكة منتظما، وتوفي في جمادى الأولى من سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف بالطائف بداره رغدان، ودفن بقبة الحبر ابن عباس على أخيه الشريف عبد الله باشا، ونودي في البلاد باسم ولي النعم سيدنا الشريف علي باشا بن عبد الله باشا بن محمد بن عبد المعين بن محمد بن عبد الله بن حسين بن عبد الله بن حسن بن أبي نمي، ثم أرسل الخبر إلى الحجاز وشيخ الحرم أحمد راتب باشا بوفاة الشريف عون الرفيق، ووجهت الدولة إمارة مكة أصالة لولي النعم المتلقي لها باليدين السامي إليها من ذروة الشرف صاحب الدولة والسيادة والشرف سيدنا الشيخ شريف علي باشا السابق ذكره وهنؤوه بذلك، ثم نزل إلى مكة في شعبان من العام المذكور؛ فانتظمت له الأمور على أحسن منوال بدون معارض له ولا منازع، وقد امتدح(2/375)
بقصيدة غراء في عيد الفطر من مطلعها1:
وفد الربيع بحلة خضراء ... فكسى الرياض ملابس الهيفاء
... إلى آخرها.
وبقي فيها إلى أن انفصل عن ذلك في شوال من سنة سبع وعشرين وثملاثمائة وألف، وجاء الخبر من الآستانة بتولية إمارة مكة لعمه الشريف عبد الإله باشا، وكان إذ ذاك باقيا بدار السلطنة وبقي فيها أياما وتوفي هناك من عامه، ثم وصل الخبر بتولية الشريف حسين باشا بن علي باشا بن محمد بن عبد المعين بن عون إمارة مكة لكونه إذ ذاك كان بالآستانة، وأقيم أخوه الشريف ناصر باشا نائبا عنه، ثم وصل في ذي القعدة إلى جدة، وفي ثاني يوم منه دخل مكة في موكبه وجلس في بيت جده للتنهئة، ثم توجهت القافلة حسب عادتها وحج هو في سنته، ثم في شعبان من سنة ثمان وعشرين وثملاثمائة وألف توجه أخوه الشريف ناصر باشا إلى دار السلطنة وهو باق بها معززا مكرما، وتوجه ابن عمه في هذه السنة الشريف علي باشا، ولم يزل الشريف حسين باشا بن علي باشا بن محمد بن عبد المعين بن عون يلي إمرة مكة من 6 شوال عام 1326هـ، ثم أعلن نفسه ملكا على الحجاز.
وقد دخل الملك عبد العزيز مكة في 7 من جمادى الآولى سنة 1343هـ، وسلم له الملك حسين حكم الحجاز في أوائل جمادى الثانية عام 1344هـ، وصار خالد بن لؤي حاكم مكة من قبله، وهو أحد قواد جيش الملك عبد العزيز ومن أقربائه، ثم اختير سمو الأمير فصيل نائبا عن والده الملك عبد العزيز في حكم مكة والمدينة وباقي الحجاز.
وتوفي الملك عبد العزيز في 2 ربيع الأول 1373هـ "9 نوفمبر 1953"، وتولي ولي العهد جلالة الملك سعود حكم المملكة العربية السعودية في الخامس من ربيع الأول 1373هـ، وكان قد بويع بولاية العهد قبل ذلك بأمد طويل في 16 محرم 1352هـ، وميلاده في ليلة الثالث من شوال عام 1319هـ.
وقد عين حضرة صاحب السمو الأمير فيصل رئيسا لمجلس الوزراء في 6 من ذي الحجة 1373هـ، وصار حضرة صاحب الجلالة الملك سعود هو حامي حمى الحرمين وباقي مدن الحجاز وهو حاكم مكة المكرمة2.
__________
1 صاحب هذه القصيدة: هو كاتب هذا التذييل الشيخ عبد الستار الدهلوي.
2 إلى هنا انتهى ما كتبه عبد الستار الدهلوي عميد آل الدهلوي بالحجاز، وهم إحدى العريقة في مكة المكرمة، ولهم أياد بيض مشكورة: وما يلي ذلك فهو من قلم اللجنة.(2/376)
الملحق الثاني في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة
مقدمة بقلم اللجنة التي أشرف على تحقيق الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الملحق الثاني: في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة
مقدمة: بقلم اللجنة التي أشرفت على تحقيق الكتاب
-1-
كتاب "الدرة الثمينة، في تاريخ المدينة" كتاب جليل، عظيم الأهمية، كبير النفع، يحتوي على كثير من المعلومات التاريخية الحافلة عن مدينة الرسول، ومسجده النبوي الشريف، صلى الله عليه وسلم- وسلاما دائمين إلى يوم الدين.
وهذا الكتاب يكاد يكون من أقدم المصادر التاريخية التي وصلتنا في تاريخ المدينة، بعد تاريخ المدينة لابن زبالة الذي ألفه عام 199هـ، وهو من هذه الناحية يعد مصدرا أصيلا لا غنى لباحث أو محقق عن الرجوع إليه، والإفادة منه.
وها هو ذا ينشره الرجل الإسلامي الكبير: معالي الشيخ محمد سرور الصبان، بمعاونة أصحاب مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة: عبد الحفيظ وعبد الشكور عبد الفتاح فدا، في هذه الطبعة الجديدة المنقحة المحققة، ملحقا لكتاب "شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام" الذي تحدث فيه مؤلفه الفاسي عن محمد الحجاز الكبرى ما عدا المدينة، وقد آثرنا نشره هنا لتمام الفائدة.
وقد اعتمدنا في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ:
1- الأولى نسخة إستامبول الخطية لهذا الكتاب، وتقع في سبع وستين ورقة من القطع المتوسط، وقد كتب اسم الكتاب في الورقة الأولى، ونص الاسم كما هو مثبت فيها هو: "كتاب تاريخ المدينة المشرفة وفضائلها، على ساكنها الصلاة والسلام، تصنيف الشيخ الأجل أبي عبد الله محمد بن محمود بن النجار، رحمه الله، ونفعنا به"؛ وعلى الورقة الأولى كذلك أن هذا الكتاب وقف على العلماء العاملين بمحمية قسطنطينية في سنة 1073هـ. وفي آخر هذه النسخة الخطية كتب اسم ناسخ الكتاب وهو(2/379)
عبد القاهر بن أحمد بن سليمان بن موهوب، وقد فرغ من نسخه في 5 ربيع الآخر عام 731هـ، وقد كتب في الورقة الأخيرة عدة كلمات في غير موضوع الكتاب، وبخط آخر كتب أيضا في آخرها تاريخ هو عام 691هـ، وبجواره اسم عثمان بن زيد المالكي.
2- والنسخة الثانية هي نسخة المكتبة التيمورية الخطية رقم 912، وقد كتب عليها الدرة الثمينة في أخبار المدينة لمحب الدين محمد بن محمود النجار الحافظ المتوفى عام 643هـ1، وتقع في 263 صفحة من القطع الصغير، وهي مكتوبة بخط واضح وفي آخرها ما نصه: تمت نسخة تاريخ المدينة في دار الخلافة العلية على يد كاتبها الحاج أحمد الأنقروي الشهير بعرب شيخ زاده غفر الله ذنوبه وذنوب أبويه في دار الآخرة، في هلال شهر ذي الحجة مضت منه ثلاث يوم الخميس بعد الظهر.
3- والنسخة الثالثة هي نسخة مطبوعة عام 1366هـ-1947م بمطبعة الرسالة بالقاهرة بتعليق الأستاذ صالح محمد جمال، وتقديم الشيخ محمد بن مانع، وهذه الطبعة بالاعتماد على نسخة خطية يبدو من المراجعة أن بها سقطا كثيرا، وتقع هذه الطبعة في 133 صفحة من القطع المتوسط، واسم الكتاب كما هو مكتوب في هذه الطبعة "أخبار مدينة الرسول، المعروف بالدرة الثمينة" للإمام محمد بن محمود النجار. وهذه الطبعة منقولة عن نسخة خطية مكية، تاريخ نسخها عام 1217هـ، وهي منقولة عن نسخة خطية أخرى، تاريخ نسخها عام 975هـ، وجاء في أصل هذه النسخة: "علقه كما وجده الفقير إلى رحمة الله وكرمه محمد بن عبد اللطيف بن محمد الأشبيلي الخزرجي نزيل حرم الله بتاريخ 11 ربيع الأول عام 975هـ ... وكان الفراغ من تعليق هذه النسخة ليلة البدر من شوال سنة 1217هـ، مع ما في أصلها من ضياع بعض الكلمات لقدم النسخة، ودثور بعض الألفاظ ومحوها؛ وذلك بيد أحد العبيد المحتاج إلى ربه الفتاح، محمد أبي مرزوق بن أبي الصلاح".
-3-
ومؤلف الكتاب هو الشيخ محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن النجار، وشهرته أبو عبد الله البغدادي، ولد عام 573هـ، وتلقى ثقافته في الدين والعلوم والآداب على أساتذة أجلاء، ثم عشق الرحلات، فطاف بالعالم الإسلامي شرقا وغربا، نحو ثمان وعشرين سنة، وتوفي في 5 شعبان عام 647هـ2 عن خمسة وسبعين عام ... وله مؤلفات كثيرة من أهمها:
1- تاريخ المدينة المشرفة وفضائلها، وهو هذا الكتاب.
__________
1 الصحيح أن وفاته عام 647هـ.
2 سبق أن نقلنا عن بعض النسخ أن وفاته عام 643هـ.(2/380)
2- أخبار مكة.
3- بيت المقدس.
4- الذيل على تاريخ مدينة السلام خمسة مجلدات.
5- غرر الفوائد، خمسة مجلدات.
6- الكافي في أسماء الرجال.
7- القمر المنير، في المسند الكبير.
8- كنز الأيام، في معرفة الأحكام.
9- نهج الإصابة في معرفة الصحابة.
أثابه الله على جهوده في خدمة الدين والعلم والإسلام خير الثواب ورحمه الله رحمة واسعة.
-4-
وبعد فقد بذلنا كل ما أمكننا بذله من مجهود في مراجعة النصوص، وتحقيق الروايات، وضبط الأعلام والتعليق على التواريخ، وتخريج الأحاديث؛ ليخرج الكتاب في أروع حلة، وأجمل صورة.
والكتاب صورة لعلم مؤلفه وفضله، ولا غرو فقد كانت له مكانة علمية رفيعة في عصره، مما جعل هذا الكتاب القيم ذا البحوث المنوعة، والأبواب المختلفة، جديرا بكل عناية، حريا بكل ما يبذل فيه من مجهود.
ولا يفوتنا أن ننوه بفضل كل من ساعدنا وأمدنا بمعلومات ساعدت على خدمة هذا الكتاب وإخراجه في مظهر لائق به، وفي مقدمة هؤلاء سعادة الشيخ صالح القزاز.
وفي آخر الكتاب وضعنا عدة ملاحق في عمارة المسجد النبوي الشريف، وفي آثار المدينة؛ وذلك لتكون المعلومات التي تضمنتها هذه الملاحق معاونة على تتبع تاريخ المدينة بعد عصر المؤلف حتى اليوم، ولنثبت تاريخ العمارة في مسجد الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه منذ العصر النبوي إلى اليوم.
وفقنا الله إلى الصواب، بفضله وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وما توفيقنا إلا بالله.(2/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أخبرنا الفقيه الأجل الإمام العالم الشريف العدل: تاج الدين علي بن أبي العباس أحمد ابن الشيخ الأجل أبي محمد عبد المحسن بقراءتي عليه.
أخبرنا الشيخ الفقيه الأجل أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار بقراءة أبي عليه، وقراءة ابن الوليد عليه وأنا أسمع ... قال:
الحمد لله حمدًا يقتضي من إحسانه المزيد، ويبلغنا من رضوانه ما نؤمل وما نريد، وصلى الله على مَن هَدانا إلى المنهج السديد، محمد الذي هو على أمته شهيد، وعلى آله وأصحابه ذوي المجد المشيد، ما سار راكب في البيد.
وبعد؛ فإنني لما دخلت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأُسعدت بزيارته، أقمت بها فاجتمعت بجماعة من أهل الصلاة والعلم والفضل من المجاورين بها، وفقهم الله وإيانا، فسألوني عن "فضائل المدينة وأخبارها" فأخبرتهم بما تعلق في خاطري من ذلك، فسألوني إثباته في أوراق، فاعتذرت إليهم بأن الحفظ قد يزيد وينقص، ولو كانت كتبي حاضرة كنت أجمع كتابا في ذلك شافيًا لما في النفس، فألحوا علي وقالوا: تحصيل اليسير، خير من فوات الكثير، وهذه1 مع شرفها قد خلت ممن يعرف من أخبارها شيئا، ونحن نحب أن يكون لك بها أثر2 صالح تذكر به، فأجبتهم إلى ذلك رجاء لبركتهم، واغتناما لامتثال أمرهم، وقضاء لحق جوارهم وصحبتهم، وطلبا لما عند الله تعالى بنشر فضائل دار الهجرة ومنبع الوحي، وذكر أخبارها والترغيب في سكناها والحث على زيارة المدفون بها.
__________
1 يريد المدينة المنورة، وفي نسخة استامبول: وهذه البلد.
2 في نسخة استامبول: ولد.(2/383)
صلوات الله عليه وسلامه، واستخرت الله، وأثبت في هذا الكتاب ما تيسر من ذلك بعون الله تعالى وحسن توفيقه، ثم إني ذكرت1 أكثره بغير إسناد؛ لتعذر حضور أصولي ... وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل ذلك لوجهه خالصا وإليه مقربا، ولنا ولهم نافعا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.
وقد قسمته ثمانية عشر بابا، والله الموفق للصواب:
الباب الأول: في ذكر أسماء المدينة وأول ساكنيها.
الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة.
الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إليها.
الباب الرابع: في ذكر فضائلها.
الباب الخامس: في ذكر تحريمها وحدود حرمها.
الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله.
الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها.
الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضائل الشهداء به.
الباب التاسع: في ذكر إجلاء بني النضير من المدينة.
الباب العاشر: في ذكر حفر الخندق حول المدينة.
الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة.
الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفضله.
الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها.
الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه.
الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما.
الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله.
الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن الله نستمد الهداية والسداد، إلى سبل الحق والرشاد.
__________
1 في نسخة استامبول: وذكرت.(2/384)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول- في ذكر أسماء المدينة وأول من سكنها 1:
أنبأنا ذاكر بن كامل قال: كُتب إلى أبي علي الحداد أن أبا نعيم الحافظ أخبره إجازة عن أبي محمد المخلدي قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة عن إبراهيم بن أبي يحيى قال: للمدينة في التوراة أحد عشر اسما: المدينة، وطيبة2، وطابة، والمسكينة، وجابرة، والمجبورة، والمرحومة، والعذراء، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة. وقال ابن زبالة عن عبد العزيز بن محمد بن موسى بن عقبة عن عطاء بن مروان عن أبيه عن كعب قال: نجد في كتاب الله الذي نزل على موسى أن الله تعالى قال للمدينة: "يا طيبة يا طابة يا مسكينة لا تقبلي الكنوز، ارفعي أجاجيرك3 على أجاجير القرى". قال عبد العزيز بن محمد: وبلغني أن لها في التوراة أربعين اسما. وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله تعالى سمى المدينة طابة". وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هي المدينة يثرب"، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: "يثرب اسم أرض"، ومدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- في ناحية منها، وقال ابن زبالة: كانت يثرب أم قرى المدينة وهي ما بين طرف "قناة" إلى طرف "الجرف"، وما بين المال الذي يقال له البرناوي إلى زبالة.
وكانت زهرة4 من أعظم قرى المدينة، قيل كان فيها ثلاثمائة صانع من اليهود، وقيل: إن تبعا لما قدم المدينة بعث رائدًا ينظر إلى مزارع المدينة فأتاه فقال: قد نظرت
__________
1 في نسخة استامبول: ساكنيها.
2 وقد ورد في ذلك أحاديث ذكرت فيها المدينة باسم طيبة.
3 الإجار: السطح، والجمع أجاجير.
4 قرية من قرى ضواحي المدينة.(2/385)
فأما قناة1 فحب ولا تبن، وأما الحرار2 فلا حب ولا تبن، وأما الجرف فالحب والتبن.
قال أهل السير: كان أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهم: صعل وفالج، فغزاهم داود النبي عليه السلام، فأخذ منهم مائة ألف عذراء، قال: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل، قالوا: وكانت العماليق قد انتشروا في البلاد فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله وعتوا عتوا كبيرًا، فبعث إليهم موسى -على نبينا وعليه السلام- جندا من إسرائيل فقتلوهم بالحجاز وأفنوهم.
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: بلغني أن ضبعا ربيت هي وأولادها رابضة في حجاج3 عين رجل من العماليق. وقال: لقد كان في ذلك الزمان تمضي أربعمائة سنة وما يسمع بجنازة4.
ذكر سكنى اليهود الحجاز:
قال: وإنما كان سكن اليهود بلاد الحجاز أن موسى عليه السلام لما أظهره الله على فرعون وأهلكه وجنوده وطيئ الشام، وأهلك من بها وبعث بعثا من اليهود إلى الحجاز، وأمرهم ألا يستبقوا من العماليق أحدا بلغ الحلم، فقدموا عليهم فقتلوهم وقتلوا ملكهم "نبنما" وكان يقال له: الأرقم بن أبي الأرقم وأصابوا ابنا له شابا من أحسن الناس فضنوا به عن القتل وقالوا: نستحييه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم وقبض الله موسى قبل قدومهم؛ فلما سمع الناس بقدومهم تلقوهم فسألوهم عن أمرهم فأخبروهم بفتح الله عليهم، وقالوا: لم نستبق منهم أحدا إلا هذا الفتى فإننا لم نر شابا أحسن منه فاستبقيناه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فقالت لهم بنو إسرائيل: إن
__________
1 اسم موضع بجوار المدينة فيه سيل يسمى سيل قناة.
2 جمع حرة وهي الصخور السوداء، أو هي أرض ذات صخور سوداء، كأنها أحرقت بالنار. ومن الحرار حول المدينة حرة المدينة وتعرف بحرة بني سليم، أما حرة خيبر فتقع على بعد مائة ميل شمال المدينة وترتفع عن سطح البحر 2200 قدم، وتسمى الحرة اللوبة واللابة، وقد ثارت إحدى الحرات في شرقي المدينة بضع أسابيع عام 654هـ 1256م، وكان نجاة المدينة منها معجزة من المعجزات لرسولنا العظيم.
3 حجاج العين: ما يحيط بالحدقة، وهذه الرواية من الأساطير المكذوبة.
4 المدينة المنورة ترتفع عن سطح البحر بنحو 600 متر، وتقع على الخط الخامس والعشرين من العرض الشمالي والخط الأربعين من الطول الشمالي، وعلى بعد 300 ميل من مكة و130 ميلًا من ينبع، والمسجد النبوي في وسط المدينة على شكل مستطيل، طوله 126 مترا. وعرضه نحو ثلثي ذلك. وفي شمال المدينة جبل أحد، وفي جنوبها جبل عير، ومن الوديان القريبة منها وادي العقيق، ومرفأ المدينة ينبع، وجوها على العموم أكثر اعتدالًا من مكة، وتكثر بها الزرعات والبساتين.(2/386)
هذه لمعصية لمخالفتكم نبيكم، لا والله لا يدخلوا علينا بلادنا، فحالوا بينهم وبين الشام، فقال الجيش: ما بلد إذ منعتم بلدكم خير من البلد الذي خرجتم منه. قال: وكانت الحجاز أكثر بلاد الله شجرًا وأظهره ماء. قالوا: وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق1 وهم يجدون في التوراة أن نبينا يهاجر من العرب إلى بلد فيه نخيل بين حرتين، فأقبلوا من الشام يطلبون صفة البلد؛ فنزل طائفة تيماء وتوطنوا نخلًا، ومضى طائفة فلما رأوا خيبر2 ظنوا أنها البلدة التي يهاجر إليها فأقام بعضهم بها ومضى أكثرهم وأشرفهم فلما رأوا يثرب سبخة وحرة ونخلًا قالوا: هذا البلد الذي يكون له مهاجر النبي إليها فنزلوه، فنزل النضير بمن معه بطحان فنزلوا منها حيث شاءوا وكان جميعهم بزهرة وهي محل بين الحرة والسافلة مما يلي القف، وكانت لهم الأموال بالسافلة، ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب بمجتمع السيول؛ سيل بطحان والعقيق وسيل قناة مما يلي رغاية، قال: وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هذل وهدل وعمرو أبناء الخزرج بن الصريح بن التوم بن السبط بن اليسع بن العتين بن عيد بن خيبر بن النجار بن ناجوم بن عازر بن هارون بن عمران، والنصر بن النجار بن الخزرج بن الصريح بعد هؤلاء فتبعوا آثارهم فنزلوا بالعلية على واديين يقال لهما مذينيب ومهزور، فنزلت بنو النضير على مذينيب واتخذوا عليه الأموال ونزل قريظة وهذل على مهزور واتخذوا عليه الأموال وكانوا أول من احتفر بها الآبار واغترس الأموال وابتنوا الآطام والمنازل، قالوا: فجميع ما بنى اليهود بالمدينة تسعة وخمسون أطما3.
قال عبد العزيز بن عمران: وقد نزل المدينة قبل الأوس والخزرج أحياء من العرب منهم أهل التهمة تفرقوا جانب بلقيز إلى المدينة، فنزلت بين مسجد الفتح إلى يثرب في الوطا، وجعلت الجبل بينها وبين المدينة فأبرت الآبار والمزارع.
ذكر نزول أحياء من العرب على يهود:
قالوا: وكان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل وكان قد نزلها عليهم أحياء من العرب فكانوا معهم وابتنوا الآطام والمنازل قبل نزول الأوس والخزرج؛ وهم بنو أنيف حي من بلى ويقال إنهم من بقية العماليق، وبنو مريد حي من بلى وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان وبنو الجذماحي من اليمن قالوا: وكانت الآطام عز أهل المدينة ومنعتهم التي يتحصنون فيها
__________
1 في المصادر الإفرنجية أن مستعمرات اليهود في الحجاز من مثل خيبر وغيرها كوَّنها اليهود الذين اضطهدهم أباطرة الرومان من مثل أدربان الذي طردهم من فلسطين عام 132م.
2 قرية شمالي المدينة كان سكانها في القديم من اليهود.
3 الأطم: الحصن العالي أو القلعة، وكان كل حصن من هذه الحصون محاطًا بالمزارع والبساتين.(2/387)
من عدوهم فكان منها ما يعرف اسمه، ومنها ما لا يعرف اسمه، ومنها ما يعرف باسم سيده، ومنها ما لا يدري لمن كان، ومنها ما ذكر في الشعر، ومنها ما لم يذكر، وكان ما بني من الآطام للعرب بالمدينة ثلاثة عشر أطما.
ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة:
قالوا: فلم تزل اليهود العالية بها الظاهرة عليها حتى كان من سيل العرم ما كان وما قص الله في كتابه، وذلك أن أهل مأرب وهي أرض سبأ كانوا آمنين في بلادهم تخرج المرأة بمغزلها لا تتزود شيئا تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام فقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19] ، فسلط الله عليهم العرم1 وهو جرذ، فنقب عليهم حتى دخل السيل عليهم فأهلكهم وتمزق من سلم منهم في البلاد، وكان السد فرسخا في فرسخ، كان بناه لقمان الأكبر العادي، بناه للدهر على زعمه، وكان يجتمع إليه مياه أهل اليمن من مسيرة شهر، فكان تمزيقهم، ويروى أن طريفة بنت ربيعة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغفوث قالت2: أُتيت في المنام فقيل لي: رب أسير ذاب، شديد الذهاب، بعيد الإياب، من واد إلى واد، وبلاد إلى بلاد، كدأب ثمود وعاد، ثم مكثت ثم قالت: أُتيت اليلة فقيل لي: شيخ هرم، وجعل لزم، ورجل قرم، ودهر أزم، وشر لزم، يا ويح أهل العرم، ثم قالت: أُتيت الليلة فقيل لي: يا طريفة لكل اجتماع فراق، فلا رجوع ولا تلاقٍ، من أفق إلى آفاق، ثم قالت: أُتيت اليلة في النوم فقيل لي: رب ألب موالب، وصامت وخاطب، بعد هلاك مارب، قالت: ثم أُتيت في النوم فقيل لي: لكل شيء سبب، إلا غبش ذو الذنب، الأشعر الأزب، فنقب بين المقر والقرب، ليس من كاس ذهب، فخرج عمرو وامرأته طريفة، فيدخلان العرم3 فإذا هما بجرذ يحفر في أصله ويقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلًا، فقال: هذا والله البيان، وكتم أمره وما يريد، وقالا لابن أخيه وداعة بن عمرو: إني سأشتمك في المجلس فالطمني فلطمه، فقال عمرو: والله لا أسكن بلدًا لطمت فيه أبدا. من يشتري مني أموالي؟ قال: فوثبوا واغتنموا غضبته تزايدوا في ماله فباعه، فلما أراد الظعن قالت طريفة: من كان يريد حمرا وحميرا وبرا وشعيرا وذهبا وحريرا وسديرا فلينزل بطوى، ومن أراد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلج يثرب
__________
1 وقع سيل العرم في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد أي قبل ظهور الإسلام بنحو سبعة قرون، وقد حطم السيل سد مأرب فأغرق البلاد، وتفرق أهلها في كل مكان.
2 كانت طريفة من كاهنات العرب، وكانت تستفتي في شتى المسائل المعقدة، فتجيب السائل بكلام ينطق بما يشبه الحكمة، على أسلوب سجع الكهان.
3 استعمل العرم هنا بمعنى الجرذ، ويطلق أيضا على السيل وعلى الموضع.(2/388)
ذات النخل، قال: فلحقت بنو عمرو بن ثعلبة وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو بن عامر يثرب وهي المدينة، قالوا: وكان ممن بقي بالمدينة من اليهود حين نزلت عليهم الأوس والخزرج بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو محمحم، وبنو زعورا، وبنو قينقاع، وبنو ثعلبة وأهل زهرة وأهل زبالة وأهل يثرب، وبنو القصيص، وبنو فاعصة، وبنو ماسكة، وبنو القمعة، وبنو زيد اللات وهم رهط عبد الله، وبنو عكوة، وبنو مرانة، قالوا: فأقامت الأوس والخزرج بالمدينة، ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم، فسكنت الأوس والخزرج معهم ما شاء الله ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم وبينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض ويمنعون به من سواهم، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا فلم يزالوا على ذلك زمنًا طويلًا وأَثْرَتِ الأوس والخزرج، وصار لهم مال وعدد، فلما رأت قريظة والنظير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم، وكانت قريظة والنضير أعدوا وأكثروا، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم وهم خائفون أن تحتلهم يهود حتى نجم منهم مالك بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج.
ذكر قتل يهود واستيلاء الأوس والخزرج على المدينة:
قالوا: ولما نجم مالك بن العجلان سوده الحيان عليهما، فبعث هو قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم حالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود عليهم، وكان رسولهم الدمق بن زيد بن امرئ القيس أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج وكان قبيحا دميما شاعرا بليغا، فمضى حتى قدم الشام على ملك من ملوك غسان الذين ساروا من يثرب إلى الشام يقال له أبو جبيلة من ولد حفنة بن عمرو بن عامر، وقيل كان أحد بني جشم بن الخزرج وكان قد أصاب ملكا بالشام وشرفا، فشكى إليه الدمق حالهم وغلبة اليهود عليهم وما يتخرفون منهم وأنهم يخشون أن يخرجوهم، فأقبل أو جبيلة في جمع كبير لنصرة الأوس والخزرج، وعاهد الله لا يبرح حتى يخرج من بها من اليهود أو يذلهم ويصيرهم تحت يد الأوس والخزرج، وأعلمهم ما جاء به فقالوا: إن علم القوم ما تريد تحصنوا في آطامهم فلم نقدر عليهم ولكن تدعوهم للقائك وتتلطف بهم حتى يأمنوك ويطمئنوا، فتتمكن منهم فصنع لهم طعامًا وأرسل إلى وجوههم1 ورؤسائهم فلم يبق من وجوههم أحد إلا أتاه وجعل الرجل منهم يأتي بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم الملك، وقد كان بنى لهم حيزا وجعل فيه قوما وأمرهم من دخل عليهم منهم أن يقتلوه حتى أتى على وجوههم ورؤسائهم فلما فعل ذلك عزت الأوس والخزرج في المدينة واتخذوا الديار والأموال
__________
1 الوجوه: رؤساء القوم وأعيانهم.(2/389)
وانصرف أبو جبيلة إلى الشام وتفرقت الأوس والخزرج في عالية المدينة وسافلتها، وبعضهم جاء إلى عفًا من الأرض لا ساكن فيه فنزله، ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها، واتخذوا الأموال والآطام فكان ما ابتنوا من الآطام مائة وسبعة وعشرين أطما وأقاموا كلمتهم، وأمرهم مجتمع ثم دخلت بينهم حروب عظام وكانت لهم أيام ومواطن وأشعار فلم تزل الحروب بينهم إلى أن بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأكرمهم باتباعه1.
__________
1 ومن بين أيامهم في المدينة يوم بعاث وقد كان بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بنحو خمس سنوات، وهزمت فيه الخزرج.(2/390)
الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة
قالت عائشة رضي الله عنها: كل البلاد افتتحت بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن، قلت: وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرض نفسه في كل موسم على قبائل العرب ويقول: "ألا رجل يحملني إلى قومه؛ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" حتى لقي في بعض السنين عند العقبة نفرًا من الأوس والخزرج قدموا في المنافرة التي كانت بينهم، فقال لهم: "من أنتم؟ " قالوا: نفر من الأوس والخزرج، قال: "من موالي اليهود؟ " قالوا: نعم، قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟ " قالوا: بلى"، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، وكانوا أهل شرك وأوثان، وكان إذا كان بينهم وبين اليهود الذين معهم بالمدينة شيء، قالت اليهود لهم وكانوا أصحاب كتاب: قد علمنا أن نبينا يبعث الآن قد أظل زمانه فنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي يوعدكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه فاغتنموه وآمنوا به، فأجابوه فيما دعاهم إليه وصدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا، وكانوا ستة: أسعد بن زرارة، وعوف ابن عفراء -وهي أمه، وأبوه الحارث بن رفاعة، ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رباب، فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما جرى لهم ودعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم حتى لم يبق بيت ولا دار من دور الأنصار إلا ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها ذكر، فلما كان العام المقبل وافى منهم اثني عشر رجلًا فلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوه، فلما انصرفوا بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب بن عمر إلى المدينة وأمره أن يقرئهم القرآن(2/390)
ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان منزله على أسعد بن زرارة، ولقيه في الموسم الآخر سبعون رجلًا من الأنصار ومعهم امرأتان فبايعوه وأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى المدينة ثم خرج إلى الغار بعد ذلك وتوجه هو وأبو بكر إلى المدينة.(2/391)
الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه
أخبرنا يحيى بن أسعد المهاجر وأبو القاسم بن كامل الحذاء وجماعة غيرهما فيما أذنوا لي في روايته عنهم قالوا: أنبأنا الحسن بن أحمد أبو علي الحداد عن أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني قال: كتب إلى جعفر بن محمد بن نصير أبو محمد المخلدي قال: أنبأنا أبو شريك محمد بن عبد الرحمن المخزومي بمكة قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة عن جعفر بن صالح بن ثعلبة عن جده، ويعلى بن سلام عن محمد بن عبد الله بن خزيمة بن ثابت أن تُبَّعًا لما قدم المدينة وأراد إخراجها جاءه حبران يقال لهما تحيت ومنبه من قريظة فقالا: أيها الملك، انصرف عن هذه البلدة؛ فإنها محفوظة، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج آخر الزمان، فأعجبه ما سمع وصدقهما وكف عن أهل المدينة.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال1: "رأيت في المنام أني مهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهمي إلى اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب". وذكر البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر هذا المنام لأصحابه هاجر من هاجر منهم قِبَل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على رسلك 2؛ فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده الخبط أربعة أشهر قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة3 قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: فدا له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "اخرج من عندك"، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أُذِن لي في الخروج"، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله
__________
1 هي في البخاري في باب علامات النبوة الجزء الرابع صفحة 169 طبعة مصر-1296هـ.
2 أي على مَهْلِكَ.
3 أي في صدرها أو وسطها.(2/391)
خذ إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بالثمن"، قالت عائشة: فجهزناهما أحثَّ الجهاز1، ووضعنا لهما سفرة2 في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لها به نطاقين في الجنة"، فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغارٍ في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهم عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب، فيدلج3 من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة4 من لبن فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رسل5 حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الدئل هدَّايًا ماهرًا بالهداية وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعاه إليه راحلتهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل أسفل من عسفان ثم عارض الطريق على امج ثم لقي الطريق بناحية فنزل في خيام أم معبد بنت الأشقر الخزاعية بأسفل ثنية لفت ثم على الحرار ثم على ثنية المرة ثم استبطن مديحة ثم محاح ثم بطن مرج محاح ثم مرج ذي القصوى ثم بطن كشد ثم الأجرد ثم ذا سلم ثم اعدا مديحه بعهن ثم أجاز القاحة ثم هبط العرج ثنية العامر عن يمين ركوبة ويقال بل ركوبة نفسها ثم بطن ديم حتى انتهى إلى بني عمرو بن عوف بظاهر قباء، فنزل عليهم على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث وكان سيد الحي، وقد اختلف في اليوم الذي نزل فيه، وعن نجيح بن أفلح مولى بني ضمرة، قال: سمعت بريدة بن الحصيب يخبر أنه بعث يسارًا غلامه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر من الحدوات، قال: وهي موضع أسفل من ثنية هرشا، يدلهما على العابرين ركوبة، قال يسار: فخرجت حتى صعدت الثنية ورجزت به فقلت:
هذا أبو القاسم فاستقيمي ... تعرضي مدارجا وسومي
تعرض الجوزاء للنجوم
قال: فلما علوًا ظهر الظهيرة حضرت الصلاة، فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة، فقام أبو بكر عن يمينه وقمت عن يمين أبي بكر ودخلني الإسلام، فدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدر أبي بكر فأخره وأخرني أبو بكر، فصففنا خلفه فصلينا ثم خرجنا حتى قدمنا المدينة بكرة وكان يوم الاثنين، ولقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة
__________
1 أي أسرعه.
2 المراد الطعام والزاد.
3 أي فيخرج.
4 المنحة: الشاة تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشى.
5 الرسل: اللبن.(2/392)
بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم رقى رجل من اليهود أطما من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين1 فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم2 الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك، ولما أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان مردفا لأبي بكر وأبو بكر شيخ يعرف ونبي الله شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: أيا با بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك، فيقول: هذا الرجل الذي يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير، ولبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه، ثم ركب راحلته فصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا3 للتمر لسهيل وسهل؛ غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بركت به راحلته: "هذه إن شاء الله المنزل"، ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالغلامين فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدًا.
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قال: لما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كلثوم بن الهرم وصاح كلثوم بغلام له يا نجيح، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنجحت يا أبا بكر"، وعن ابن عباس أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وركب من قباء يوم الجمعة، فجمع في بني سالم فكانت أول جمعة جمعها في الإسلام، وكان يمر بدور الأنصار دارا دارا فيدعونه إلى المنزل والمواساة، فيقول لهم خيرا ويقول: "خلوها؛ فإنها مأمورة" حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، وكان المسلمون قد بنوا مسجدا يصلون فيه، فبركت ناقته ونزل، وجاء أبو أيوب الأنصاري فأخذ رحله وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجد تعلقت به الأنصار فقال: "المرء مع رحله"، فنزل على أبي أيوب الأنصاري خالد بن يزيد بن كليب ومنزله في بني غنم بن النجار.
__________
1 أي عليهم الثياب البيض.
2 أي حظكم.
3 المربد: موضع يجفف فيه التمر، ويقال له: مسطح.(2/393)
وعن أبي عمرو بن حجاش قال: اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنازل فنزل في منزله ومسجده، فأراد أن يتوسط الأنصار كلها فأحدقت به الأنصار.
وقال البراء بن عازب: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم كلثوم وكانا يقرئان الناس، ثم قدم عمار بن ياسر وبلال ثم قدم عمر بن الخطاب ثم قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جعل الإماء يقولون: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينا، قدم، قالت عائشة رضي الله عنها: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف نجدك ويا بلال كيف نجدك؟ فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
وكل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت: وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة: فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها، واجعلها بالجحفة. قال أهل السير: وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها حتى أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل معه على كلثوم بن الهرم، قالوا: ولم يبق بمكة من المهاجرين إلا من حبسه أهله أو فتنوه.
أنبأنا أبو القاسم الزاندواذي عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخواص قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قول الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] ، قال: جعل الله مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار.(2/394)
الباب الرابع: في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها
أخبرنا عبد الرحمن بن علي الحافظ في كتابه قال: حدثنا معمر بن عبد الواحد إملاء قال: أنبأنا شكر بن أحمد أنبأنا أبو سعيد الرازي الحافظ في كتابه قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم حدثنا سليمان بن داود، حدثنا أبو غزية حدثنا عبد العزيز بن عمران عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال:(2/394)
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "غبار المدينة شفاء من الجذام" 1، أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخواص قال: أخبرنا أبو يزيد المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن فضالة عن إبراهيم بن الجهنم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بني الحارث فرآهم روبا، فقال: "ما لكم يا بني الحارث روبا؟ " قالوا: نعم يا رسول الله أصابتنا هذه الحمى، قال: "فأين أنتم من صعيب؟ " قالوا: يا رسول الله ما نصنع به؟ قال: "تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: باسم الله تراب أرضنا بريق بعضنا شفاء لمرضنا بإذن ربنا"، ففعلوا، فتركتهم الحمى2.
قال أبو القاسم ظاهر بن يحيى العلوي: "صعيب" وادي بطحان دون الماجشونية وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه، وهو اليوم إذا ربا إنسان أخذ منه، قلت: ورأيت هذه الحفرة اليوم والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم جربوه فوجدوه صحيحا وأخذت أنا منه أيضا.
وحدثنا ابن زبالة عن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة: أن رجلا أُتِيَ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبرجله قرحة، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرف الحصير ثم وضع أصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعد ما مسها بريقه فقال: "باسم الله ريق بعضنا بتربة أرضنا يشفي سقيمنا بإذن ربنا"، ثم وضع أصبعه على القرحة فكأنما حل من عقال2.
ما جاء في ثمرها:
روى مسلم في الصحيح حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره شيء حتى يمسي" 3، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث سعيد أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من تصبح كل يوم سبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر" 4.
ما جاء في انقباض الإيمان إليها:
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم أنه قال5: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها"، قلت: أي ينقبض إليها.
__________
1 أخرجه أبو نعيم في الطب عن ثابت بن قيس بن شماس وقال: هو حديث ضعيف، وورد عن ابن السني وأبي نعيم معا في الطب عن أبي بكر ابن حسن بن سالم مرسلا هكذا: "غبار المدينة يبرئ الجذام" وروي: "يطفئ" بدل "يبرئ"، رواه هكذا الزبير بن بكار في أخبار المدينة.
2 حديث ضعيف.
3 هذا الحديث: رواية مسلم ويؤيده ما في البخاري مما سيأتي بعده.
4 هذا الحديث: ورد في البخاري في كتاب الأطعمة في الجزء السابع صفحة 29.
5 رواه البخاري في باب حرم المدينة في الجزء الثاني صفحة 205.(2/395)
ما جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بالبركة:
أنبأنا محمد بن علي الحافظ في كتابه قال: أنبأنا يحيى بن علي القرشي أنبأنا حيدرة بن علي الأنطاكي أنبأنا أبو محمد بن أبي نصر أنبأنا أحمد بن سليمان بن أيوب حدثنا عبد الرحمن بن عمرو حدثنا عبيد بن حسان حدثنا الليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن عمرو بن سليم الزرقي عن عاصم بن عمرو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بوضوء" فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال: "اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين" 1.
أنبأنا عبد الرحمن بن علي الفقيه قال: أخبرنا علي بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عزيز حدثني سلامة عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة"، أخرجاه في الصحيحين2.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: كان الناس إذا رأوا التمر جاءوا به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أخذه قال: "اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مديتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعاك لأهل مكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" 3 قال: ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك التمر.
ما جاء في الصبر على لأوائها وشدتها:
روى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة" 4.
أنبأنا أبو محمد الشافعي قال: أخبرنا محمد بن الخليل بن فارس حدثنا أبو القاسم بن أبي العلاء أنبأنا محمد بن عبد الله الدوري حدثنا محمد بن موسى بن إبراهيم بن فضال حدثنا أبو بكر محمد بن ريان بن حبيب أخبرنا محمد بن رمح، أنبأنا
__________
1 رواه الترمذي عن علي وهو حديث صحيح.
2 رواه البخاري في باب حرم المدينة في الجزء الثاني ص206.
3 رواه مسلم في صحيحه وهو حديث صحيح.
4 رواه مسلم في صحيحه.(2/396)
الليث عن سعيد المقبري بن أبي سعيد مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة واستشاره في الجلاء من المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة فقال: ويحك لا آمرك بذلك؛ لأني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يصبر أحد على جهد المدينة ولأوائها 1 فيموت إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما" 2.
ما جاء في ذم من رغب عنها:
خرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل لابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد رغبة عنها إلا خلف فيها خيرا منه، ألا إن المدينة كالكير يخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد" 3.
ما جاء في ذم من أخاف المدينة وأهلها:
أنبأنا أبو الفرج بن علي قال: أنبأنا عبد الوهاب الحافظ أنبأنا أبو الحسن العاصمي حدثنا أبو عمر مهدي حدثنا عثمان بن أحمد السماك حدثنا أحمد بن الخليل والحسن بن موسى قالا: حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عمرو بن دينار حدثنا سالم بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اشتد الجهد بالمدينة وغلا السعر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اصبروا يا أهل المدينة وأبشروا؛ فإني قد باركت على صاعكم ومدكم، كلوا جميعا ولا تفرقوا؛ فإن طعام الرجل يكفي الاثنين، فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا وكنت له شهيدا يوم القيامة، ومن خرج عنها رغبة عما فيها أبدل الله عز وجل فيها من هو خير منه، ومن بغاها أو كادها بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء" 2.
أنبأنا أبو طاهر لاحق بن الصوفي أنبأنا أبو القاسم الكاتب أنبأنا أبو علي بن المذهب أنبأنا أبو بكر القطيعي أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أنس بن عياض حدثني يزيد بن حصيفة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن عطاء بن يسار عن السائب بن خلاد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" 4.
__________
1 اللأواء: الشدة.
2 حديث صحيح.
3 حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه.
4 يروى من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي، وقد رواه أحمد في مسنده عن جابر وهو حديث حسن.(2/397)
أنبأنا أبو محمد الشافعي عن أبي محمد بن طاوس حدثنا سليمان بن إبراهيم حدثنا أبو عبد الله حدثنا حامد بن محمود حدثنا محمد مكي بن إبراهيم حدثنا هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن عبد الله بن نسطاس عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخاف أهل المدينة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلًا، ومن أخاف أهلها فقد أخاف ما بين هذين" ووضع يديه على جنبيه تحت ثدييه1.
وخرج البخاري في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يكيد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء" 2.
أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في كتابه قال: أنبأنا أبو البركات ابن المبارك أنبأنا عاصم بن الحسن أنبأنا عبد الواحد بن محمد حدثنا السماك حدثنا إسحاق بن يعقوب حدثنا محمد بن عبادة حدثنا أبو ضمرة عن عبد السلام بن أبي الجنوب عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "المدينة مهاجري، فيها مضجعي، وفيها مبعثي، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، من حفظهم كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال"، قيل للمزني: ما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار.
ما جاء في منع الطاعون والدجال من دخولها 3:
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال" 4.
وفيهما من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق".
وأخرج البخاري في من حديث أبي بكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب في كل باب ملك".
__________
1 يروى من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي، وقد رواه أحمد في مسنده عن جابر وهو حديث حسن.
2 رواه البخاري في باب حرم المدينة الجزء الثاني ص25.
3 راجع في ذلك وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للشيخ السمهودي، وص21 خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى للمؤلف نفسه.
4 وفي الحديث: "قدم رسول الله المدينة وهي أوبأ أرض الله"، وتحويل مثل هذا الوباء من أعظم المعجزات لرسولنا الكريم راجع 24 خلاصة "دار الوفا".(2/398)
ذكر ما يؤول إليه أمرها:
أنبأنا القاسم بن علي قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن أنبأنا سهل بن بشر بن محمد بن الحسن بن أبي طاهر حدثنا جعفر بن محمد الغيرياني، حدثنا هشام بن عمار أنبأنا يحيى بن حمزة الزبيدي حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لتتركنَّ المدينة على خير ما كانت مدلاة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي -يريد عوافي السباع والطير- وآخر من يحشر منها راعيان من مزينة يردان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوهما" 1. أخرجه البخاري في صحيحه.
تضعيف الأعمال بها:
أخبرنا عبد العزيز بن محمود الأخصر قال: أخبرنا عبد الأول بن عيسى بن شعيب الشجري قال: أخبرنا محمد بن عبد العزيز الفارسي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، حدثنا ابن صاعد، حدثنا هارون بن موسى، حدثنا عمر بن أبي بكر الموصلي عن القاسم بن عبد الله عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها" 2.
وبالإسناد عن ابن عمر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها" 3.
فضيلة الموت بها:
أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أنبأنا يحيى بن علي بن الطماح، أنبأنا محمد بن أحمد العدل، حدثنا محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا الصلت بن مسعود، حدثنا سفيان بن موسى، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإن من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة" 4.
__________
1 رواه البخاري في صحيحه.
2 حديث حسن رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر ويروى: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام"، رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة وهو صحيح.
3 رواه البيهقي عن ابن عمر وحسنه.
4 حديث صحيح مروي عن ابن عمر.(2/399)
الباب الخامس: في ذكر تحريم النبي للمدينة وحدود حرمها
في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة" 1.
وذكر أبو داود السجستاني في السنن من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أنشدها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ولا يصلح أن تقطع منها شجرة إلا أن يعلف 2 رجل بعيره".
وفي الصحيحين عن علي أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" 3.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: عير وثور جبلان وأهل المدينة لا يعرفون بها جبلًا يقال له ثور إنما ثور بمكة. فترى أن الحديث أصله ما بين عير إلى أحد.
قلت: بل يعرف أهل المدينة جبل ثور وهو جبل صغير وراء أحد ولا ينكرونه. وفي السنن لأبي داود من حديث عدي بن زيد قال: حمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل ناحية من المدينة بريدا بريدا لا يخبط شجرها ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل. وفيها أن سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا تصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلبه ثيابه، فجاءوا إليه فكلموه فيه فقال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرم هذا الحرم، وقال: "من أخذ الصيد فيه فليسلبه ثيابه" فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه.
وفيها عن جابر بن عبد الله أنه قال: لا يخبط شجرها ولا يعضد ولكن يهش هشًّا رفيقًا.
أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الفقيه، أخبرنا عبد الله بن رفاعة، أنبأنا علي بن الحسن الشافعي؛ أخبرنا شعيب بن عبد الله، حدثنا أحمد بن الحسن الرازي، حدثنا أبو الزنباع، حدثنا عمر بن خالد، حدثنا بكر بن مضر عن أبي الهاد عن أبي بكر بن محمد
__________
1 رواه البخاري ومسلم وهو حديث حسن.
2 حديث صحيح صححه جماعة.
3 رواه البخاري في كتاب الفرائض الجزء الثامن ص9.(2/400)
عن عبد الله بن عمرو عن رافع بن خديج أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول؛ وذكر مكة، فقال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها -يريد المدينة"، وفي صحيح البخاري في حديث الهجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للمسلمين: "إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان".
أنبأنا القاسم بن علي، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم، أنبأنا سهل بن بشر، أنبأنا علي بن منير، أنبأنا الذهلي، أنبأنا موسى بن هارون، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني أبو بكر بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده عن كعب بن مالك قال: حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشجر بالمدينة بريدا في بريد، وأرسلني، فأعلمت على الحرم على شرف ذات الجيش وعلى مشيرف وعلى أشراف المجتهر وعلى يتم1.
قلت: واختلف العلماء في صيد حرم المدينة وشجره فقال مالك والشافعي وأحمد: إنه محرم. وقال أبو حنيفة: ليس بمحرم واختلفت الرواية عن أحمد هل يضمن صيدها وشجرها بالجزاء؛ فروي عنه أنه لا جزاء فيه وبه قال مالك، وروي أنه يضمن وللشافعي قولان كالروايتين، وإذا قلنا بضمانه فجزاؤه سلب القاتل بتملكه الذي يسلبه، ومن أدخل إليها صيدًا لم يجب عليه رفع يديه عنه ويجوز له ذبحه وأكله، ويجوز أن يؤخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للرحل والوسائد ومن حشيشها ما يحتاج إليه للعلف بخلاف مكة.
__________
1 هذه كلها مواضع قريبة من المدينة المشرفة.(2/401)
الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله
روى البخاري في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أتاني 1 الليلة آتٍ من ربي عز وجل فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة".
وكان عبد الله بن عمر ينيخ بالوادي يتحرى معرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: هو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي بينه وبين الطريق وسط من ذلك.
أنبأنا يحيى بن أسعد الخباز قال: كُتب إلى أبي علي المقري، عن أحمد بن عبد الله الأصفهاني قال: أنبأنا جعفر بن محمد الزاهد إجازة قال: أنبأنا أبو يزيد
__________
1 الحديث في البخاري ص132 ج2 كتاب الحج.(2/401)
المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن عمر بن عثمان بن عمر، حدثنا موسى عن أيوب بن سلمة، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى العقيق ثم رجع فقال: "يا عائشة، جئنا من هذا العقيق فما ألين موطئه وأعذب ماءه"، قالت: يا رسول الله، أفلا ننقل إليه؟ فقال: "كيف وقد ابتنى الناس؟ "
قالت: ووجد على قبر آدمي عند حمى أم خالد بالعقيق1 حجر مكتوب: "أنا عبد الله رسول الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب"، ووجد حجر آخر على قبر آدمي أيضا عليه مكتوب: "أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى ابن مريم إلى أهل هذه القرية"، قلت: وابتنى بعض الصحابة بالعقيق ونزلوه، وكذلك جماعة من التابعين ومن بعدهم، وكانت فيه القصور المشيدة والآبار2 العذبة.
ولأهلها أخبار مستحسنة في الكتاب وأشعار رائقة، ولما بنى عروة بن الزبير قصره بالعقيق ونزله قيل له: جفوت عن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان بعدي مما هنالك عافية.
قال أهل السير: كانت بنو أمية تجري في الديوان رزقا على من يقوم على حوض مروان بن الحكم بالعقيق في مصلحته وفيما يصلح بئر المغيرة من علقها ودلائها. قالوا: ومر هشام بن عبد الملك3 وهو يريد المدينة بجرر هشام بن إسماعيل بالرابغ، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذه جرر جدك هشام، فأمر بإصلاحها وما يقيمها من بيت المال فكانت توضع هناك جرار أربع يسقى منهن الناس.
قالوا: وولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقيق لرجل اسمه هيضم المزني، ولم تزل الولاة على المدينة يولون واليا من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى كان زمان داود بن عيسى4 فتركه في سنة ثمانٍ وتسعين ومائة.
قالوا: ومات سعيد بن زيد بن أبي وقاص وهما من العشرة بالعقيق، وحملا إلى المدينة فدفنَّا بها، قلت: ووادي العقيق اليوم ليس به ساكن وفيه بقايا بنيان خراب وآثار تجد النفس برؤيتها أنسا كما قال أبو تمام:
ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب
ما ربع مية معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب5
__________
1 وادٍ خصب يقع غربي المدينة ويبعد عنها قليلا.
2 من أشهر آبار العقيق: بئر رومة وبئر عروة.
3 تولى هشام الخلافة الأموية عشرين عاما "105-125هـ".
4 هو والي المدينة في عهد الرشيد والأمين.
5 مية: محبوبة ذي الرمة. وغيلان: هو ذو الرمة الشاعر الأموي المتوفى عام 117هـ.(2/402)
الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها
اعلم أنه قد نقل أهل السير أسماء آبار بالمدينة شرب منها النبي -صلى الله عليه وسلم- وبصق فيها إلا أن أكثرها لا يعرف اليوم فلا حاجة في ذكرها، ونحن نذكر الآبار التي هي اليوم موجودة معروفة على ما يذكر أهل المدينة والعهدة عليهم في ذلك، ونذكر ما جاء في فضلها.
فأول ذلك بئر حا 1:
روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر حا، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن الله عز وجل يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب أموالي إلي بئر حا وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بخ بخ ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أَفعَلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
قلت: وهذه البئر اليوم وسط حديثة صغيرة جدا وعندها نخلات ويزرع حولها، وعندها بيت مبني على علو من الأرض وهي قريبة من سور المدينة وهي ملك لبعض أهل المدينة وماؤها عذب حلو، وذرعتها فكان طولها عشرة أذرع ونصف ماء، والباقي بنيان، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر، وهي مقابلة المسجد كما ذكرت في الحديث.
ثم بئر أريس:
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري أنه توضَّأ في بيته ثم خرج فقال: لألزمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأكونن معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: خرج وجه ههنا، فخرجت على أثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس2، قال: فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجته وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قُفَّها3 وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر،
__________
1 هي في شمال شرقي المدينة ولا يفصلها عنها إلا مسافة قليلة جدًّا.
2 هي في غرب المدينة، وسميت باسم صاحبها، وهي مشهورة ببئر الخاتم، لسقوط خاتم الرسول فيها من يد عثمان بن عفان.
3 هو ما ارتفع من فم البئر على وجه الأرض.(2/403)
قال: فسلمت عليه، ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت: لأكونن بواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال: "ائذن له وبشره بالجنة"، قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر، فجلس عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا -يريد أخاه- يأتِ به فإذا إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك ثم جئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه وقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فجئت عمر فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، قال: فدخل فجلس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم في القف ثم رجعت فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا -يعني أخاه- يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان فقلت: على رسلك قال: وجئت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: "ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه"، قال: فجئت وقلت: ادخل ويبشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة مع بلوى تصيبك، قال: فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاههم من الشق الآخر.
وقد أخرج البخاري في صحيحه هذا الحديث فزاد فيه ألفاظا ونقص، وقال: فدخل عثمان فلم يجد معهم مجلسا، فتحول حتى جاء مقابلهم عن شقة البئر فكشف عن ساقيه ثم دلاهما في البئر؛ وقال البخاري: قال سعيد بن المسيب: فتأولت ذلك قبورهم اجتمعت ههنا وانفرد عثمان.
وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من ورق، أي فضة، وكان في يده ثم كان في يد أبي بكر ثم كان بعد في يد عمر ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس.
وروى البخاري في الصحيح من حديث أنس قال: كان خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- في يده وفي يد أبي بكر وبعده وفي يد عمر بعد أبي بكر فلما كان عثمان جلس على بئر أريس فأخرج الخاتم فجعل يعبث به فسقط، قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده.
قلت: وهذه البئر مقابلة مسجد قباء وعندها مزارع ويستقى منها، وماؤها عذب، وذرعتها فكان طولها أربعة عشر ذراعا وشبرا، منها ذراعان ونصف ماء، وعرضها خمسة أذرع وطول قُفِّها الذي جلس عليه النبي -صلى الله عليه وسلم، وصاحباه ثلاثة أذرع تشف كفًّا، والبئر تحت أطم عالٍ خراب من حجارة.(2/404)
ثم بئر بضاعة:
روى أبو داود في السنن من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقال له: إنه يسقى لك من بئر بضاعة1 وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعذر الناس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" 2.
أنبأنا أبو القاسم الصموت عن الحسن بن أحمد بن عبد الله عن جعفر بن محمد، قال: أنبأنا أبو يزيد المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن حاتم بن إسماعيل عن محمد بن أبي يحيى عن أمه قالت: دخلنا على سهل بن سعد في نسوة فقال: لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهتن ذلك، وقد -والله- سقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي منها.
وحدثنا محمد بن الحسن عن عبد المهمين بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصق في بئر بضاعة، وحدثنا محمد بن الحسن عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن مالك بن حمزة بن أبي السيد عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لبئر بضاعة، قال أبو داود السجستاني في السنن: سمعت -والله- قتيبة بن سعيد يقول: سألت قيِّم بئر بضاعة عن عمقها فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة، قلت: فإذا نقص قال: دون العورة، قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤه عما كان عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماءً متغير اللون. قلت: وهذه البئر اليوم في بستان وماؤها عذب طيب ولونه صافٍ أبيض، وريحه كذلك ويستقي منها كثيرا، وذرعتها فكان طولها أحد عشر ذراعا وشبرا، منها: ذراعان راجحة ماء والباقي بناء وعرضها ستة أذرع كما ذكر أبو داود في السنن.
ثم بئر غرس:
أخبرنا يحيى بن أسعد بخطه قال: أنبأنا أبو علي الحداد عن أبي نعيم الأصبهاني قال: كُتِب إلى أبي محمد الخواص أن محمد بن عبد الرحمن أخبره قال: أخبرنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد عن سعيد بن عبد الرحمن بن قيس، قال: جاءنا أنس بن مالك بقباء فقال: أين بئركم هذه؟ يعني بئر غرس3 فدللناه
__________
1 هي بالقرب من سقيفة بني ساعدة.
2 هو لأحد في مسنده ولمسلم والترمذي والنسائي والدارقطني وللبيهقي في السنن عن أبي سعيد وهو صحيح.
3 هو في الشمال الغربي للمدينة.(2/405)
عليها قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءها بسحر، فدعا بدلو من مائه فتوضأ منه ثم سكبه فيها فما نزفت بعد.
وحدثنا محمد بن الحسن عن القاسم بن محمد عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة"، فأصبح على بئر غرس، فتوضأ منها، وبصق فيها، وغسل منها حين توفي صلى الله عليه وسلم".
وحدثنا محمد بن الحسن عن سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: غسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بئر يقال لها غرس، وكان يشرب منها.
قلت: وهذه البئر بينهما وبين مسجد قباء نحو نصف ميل، وهي في وسط الشجر وقد خربها السيل وطمها، وفيها ماء أخضر إلا أنه عذب طيب وريحه الغالب عليه الأجون1، وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شافة، منها ذراعان ماء، وعرضها عشرة أذرع.
ثم بئر البصة:
أنبأنا ذاكر الحذاء عن الحسن بن أحمد الأصبهاني عن أحمد بن عبد الله الحافظ عن جعفر بن محمد قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن موسى عن سعيد بن أبي زيد عن ابن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي الشهداء وأبناءهم ويتعاهد عيالهم، قال: فجاء يوما أبا سعيد الخدري، فقال: "هل عندك من سدر أغسل به رأسي؛ فإن اليوم الجمعة". قال: نعم، فأخرج له سدرًا وخرج معه إلى البصة، فغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه وصب غسالة رأسه ومزاقة شعره في البصة.
قلت: وهذه البئر قريبة من البقيع على طريق المارِّ إلى قباء وهي بين نخل، وقد هدمها السيل وطمها، وفيها ماء أخضر ووقفت على قفها وذرعت طولها فكان أحد عشر ذراعا منها ذراعان ماء، وعرضها تسعة أذرع وهي مبنية بالحجارة ولون مائها إذا انفصل منها أبيض وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه، وذكر لي الثقة أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمها السيل.
ثم بئر رومة:
روى أهل السير: أن تُبَّعًا لما قدم المدينة نزل بقباء واحتفر البئر الذي يقال لها: بئر الملك، وبه سميت، فاستوبئ ماؤها، فدخلت عليه امرأة من بني زريق من اليهود اسمها
__________
1 أي الملوحة.(2/406)
فكيهة، فشكا إليها وباء بئره، فانطلقت فأخذت حمارين واستقت له من ماء رومة1 ثم جاءته فشربه، فقال: زيدينا من هذا الماء.
وكتبت إلي عفيفة الأصبهانية أن أبا علي الحداد أخبرها بخطه عن أبي نعيم قال: كتب إلى جعفر الملدي أن أبا يزيد المخزومي أخبره عن الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن عن محمد بن طلحة عن إسحاق بن يحيى عن موسى بن طلحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعم الحفيرة حفيرة المدني"؛ يعني رومة، فلما سمع بذلك عثمان بن عفان ابتاع نصفها بمائة بكرة، وتصدق بها فجعل الناس يستقون منها فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب عليها باع من عثمان النصف الثاني بشيء يسير فتصدق بها كلها.
وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن عثمان حيث حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفر رومة فله الجنة؟ " فحفرتها، ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة؟ " فجهزتهم، قال: فصدقوه.
قلت: وهذه البئر اليوم بعيدة عن المدينة جدًّا في براح واسع من الأرض وطيء، وعندها بناء من حجارة خراب قيل إنه كان ديرا ليهود والله أعلم، وحولها مزارع وآبار وأرضها رملة، وقد انتقضت خرزتها وأعلامها إلا أنها بئر مليحة جدًّا مبنية بالحجارة الموجهة، وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعا، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها، وعرضها ثمانية أذرع وماؤها صاف وطمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه، قلت: واعلم أن هذه الآبار قد يزيد وماؤها في الأزمان عما ذكرنا وقد ينقص وربما بقي منها ما كان مطموما2.
__________
1 هي في وادي العقيق في الشمال الغربي للمدينة.
2 ومن عيون المدينة المشهورة: العين الزرقاء أو عن الأزرق، وهو مروان بن الحكم وكان قد أجراها بأمر معاوية حين كان واليًا على المدينة وأصلها من قباء معروف من بئر كبيرة غربي مسجد قباء في حديثة نخل تعرف بالجعفرية. وقد أخذ الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء في حدود عام 560هـ منها شعبة عند مخرجها من القبة، فساقها إلى باب المدينة باب المصلى، ثم أوصلها إلى باب الرحبة التي عند مسجد النبي من جهة باب السلام، المعروف قديمًا بباب مروان وبنى لها منهلًا بدرج من تحت الدور يستسقي منه أهل المدينة وينتفعون بها، وجعل لها مصرفا من تحت الأرض يشق وسط المدينة على البلاط ثم يخرج إلى ظاهر المدينة من جهة الشمال شرقي الحصن الذي يسكنه أمير المدينة وتسمى بئر السوق، وقد أقام الملك سعود خزانات على مياه عين الزرقاء تتسع لأكثر من 1500 متر مكعب من المياه تجري في أنابيب من الصلب إلى المدينة لسقيا الناس.(2/407)
ذكر عين النبي -صلى الله عليه وسلم:
أنبأنا يحيى بن أسعد عن الحسن بن أحمد عن أبي نعيم عن جعفر بن محمد حدثنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا الزبير حدثنا محمد بن الحسن عن موسى بن إبراهيم بن بشير عن طلحة بن خراش قال: كانوا أيام الخندق يخرجون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويخافون البيات، فيدخلون به كهف بني حرام فيبين فيه حتى إذا أصبح هبط، قال: ونقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العينية التي عند الكهف فلم تزل تجري حتى اليوم، قلت: وهذه العين في ظاهر المدينة وعليها بناء وهي مقابلة المصلى.(2/408)
الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضل الشهداء به
روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، قال أبو عمر بن عبد البر: في معنى هذا الحديث يحتمل أن الله خلق فيه الروح، فأحب النبي -صلى الله عليه وسلم، وقيل: يحمل على المجاز. أخبرنا أبو غالب محمد بن المبارك الكاتب وعبد العزيز بن أحمد الناقد قالا: أنبأنا محمد بن عمر الفقيه أنبأنا جابر بن ياسين أنبأنا عمر بن أحمد المقري حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا إسحاق حدثنا عبد الله بن جعفر حدثني أبو حازم عن سهل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أُحُد ركنٌ من أركان الجنة"1.
وكتب إلى أبي محمد بن أبي القاسم الحافظ أن عبد الرحمن بن أبي الحسن أخبره قال: أنبأنا سهل بن بشر أنبأنا أبو الحسن بن منير أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الله الذهلي حدثنا موسى بن هارون حدثنا يعقوب حدثنا عبد العزيز بن محمد عن طلحة بن خراش بن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خرج موسى وهارون عليهما السلام حاجَّيْن أو معتمرين، فلما كانا بالمدينة مرض هارون فثقل، فخاف عليه موسى اليهود، فدخل به أُحُدًا فمات فدفنه فيه"2.
وروي عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما تجلى الله تعالى لجبل طور سينا تشظى منه ست شظايا فنزلت مكة، فكان: حراء وثبير وثور، وبالمدينة: أحد وورقان وعير"، قلت: فأحد معروف وعير مقابله والمدينة بينهما وورقان عند شعب علي رضي الله عنه.
قلت: وكانت قريش قد جاءت من مكة لحرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولقوه في يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة عند جبل أحد، وكان بينهم من القتال ما أكرم
__________
1 رواه أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير عن سهل بن سعد وهو ضعيف.
2 المشهور أنهما قد ماتا في التيه.(2/408)
الله به من أكرم من المسلمين بالشهادة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلص العدو إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذب بالحجارة حتى وقع لشقه فانكسرت رباعيته وشج في وجهه وكُلِمَتْ شفته، وكان ذلك كرامة له -صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الذين استشهدوا بين يديه وكانوا سبعين رجلا: حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، فهؤلاء الأربعة من المهاجرين، ومن الأنصار: عمر بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن قيس، وعمرو بن ثابت بن وقش، وأبو قيس ثابت، ورفاعة بن وقش، وحسيل بن ثابت، وهو اليمان أبو حذيفة، وصيفي بن قبطي، وعباد بن سهل، وخباب بن قبطي، والحارث بن أوس بن هانئ، وإياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن التيهان، ويقال: عتيك وحبيب بن زيد بن قتم، وزيد بن حاطب بن أمية بن رافع، وأبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد، وأنيس بن قتادة، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي، وأبو حبة بن عمرو بن ثابت أخو سعيد بن حثمة لأمه، وعبيد الله بن جبير بن النعمان، وخيثمة أبو سعد بن خيثمة، وعبد الله بن سلمة، وسبيع بن حاطب بن الحارث، وعمرو بن قيس بن زيد وابنه قيس، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف بن علقمة، وأوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت، وأنس بن النضر، وقيس بن مجلد، وكيسان عبد لبني النجار، وسليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو، وخارجة بن زيد، وسعد بن الربيع، وأنس بن الأرقم بن زيد، ومالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري، وسعيد بن سويد بن قيس وعتبة بن ربيع بن رافع، وثعلبة بن سعد بن مالك، وثقيف بن قرة، وعبد الله بن عمرو بن وهب، وضمرة حليف لبني طريف من جهينة، ونوفل بن عبد الله، وعباس بن عبادة، ونعمان بن مالك بن ثعلبة، والمجذر بن زياد، وعبادة بن الحسحاس، ورفاعة بن عمرو وعبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح، وابنه خلاد، وأبو أيمن مولاه وعنترة بن عمرو بن حديدة ومولاة عنيزة، وسهل بن قيس بن أبي كعب، وذكوان بن عبد قيس وعبيد بن المعلى بن لوذان ومالك بن نميلة، والحارث بن عدي بن خرشة، ومالك بن إياس، وإياس بن عدي، وعمرو بن إياس.
فهؤلاء الذين استشهدوا بين يديه -صلى الله عليه وسلم- وقاتلوا وقتلوا رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين:
فأما حمزة رضي الله عنه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عليه، وقد مثل به جدع أنفه وأذناه وبقر بطنه عن كبده؛ فقال -صلى الله عليه وسلم: "لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا"، ثم قال: "جاءني جبريل وأخبرني أن حمزة مكتوب في السموات السبع: حمزة بن(2/409)
عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله"؛ فأقبلت صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة لأبيه ولأمه؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابنها الزبير بن العوام: "القها فأرجِعْها لا ترى ما بأخيها"؛ فقال: يا أمه؛ رسول الله يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مُثِّل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فجاء الزبير، فأخبره بذلك، فقال: "خل سبيلها"، فأتته، فنظرت إليه، وصلت عليه، واسترجعت واستغفرت له، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فسجي ببردة ثم صلى عليه فكبر عليه سبعين ودفنه، ولما رجع إلى المدينة سمع البكاء والنواح على القتلى، فذرفت عيناه -صلى الله عليه وسلم- وبكى؛ ثم قال: "لكن حمزة لا بواكي له"، فجاء نساء بني عبد الأشهل لما سمعوا ذلك، فبكين على عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن على باب المسجد؛ فلما سمعهن خرج إليهن فقال: "ارجعن يرحمكن الله؛ فقد آسيتن بأنفسكن".
وأما عمر بن زياد بن السكن فإنه قاتل حتى أثبتته الجراحة؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أدنوه مني"، فأدنوه منه، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنه.
وأما عمرو بن ثابت بن وقش فإنه كان يأبى الإسلام فلما كان يوم أحدا بدا له في الإسلام فأسلم وأخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض المسلمين فقاتل حتى أثبتته الجراحة فرآه المسلمون بين القتلى، فقالوا: ما جاء بك يا عمرو أحرب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام آمنت بالله ورسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقاتلت حتى أصابني ما أصابني ثم مات في أيديهم فذكروه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه لمن أهل الجنة"، وكان أبو هريرة يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط، فإذا لم تعرفه الناس قال: هو عمرو بن ثابت.
وأما أبو ثابت بن وقش والحسيل وهو اليمان أبو حذيفة فإنهما كانا شيخين كبيرين ارتفعا في الآطام مع النساء والصبيان لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك ما تنتظر؟ فوالله إنما نحن عامة اليوم أو غد أفلا نحني أسيافنا ونلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعل الله يزرقنا الشهادة معه؟ فأخذا أسيافهما وخرجا حتى دخلا في الناس فقاتلا حتى قتلا.
وأما حنظلة ابن أبي عامر فإنه لما قتله المشركون قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبكم لتغسله الملائكة فسألوا أهله: ما شأنه؟ " فسئلت صاحبته عنه فقالت: خرج وهو جنب حين سمع النداء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لذلك غسلته الملائكة".
وأما أنس بن النضر فإنه جاء إلى المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟، قالوا: قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان الشيطان قد نادي بذلك، وفقده المسلمون؛ لاختلاطهم فلم يعرفوه فقال لهم أنس: فما تصنعون بالحياة بعده؛ قوموا فموتوا على ما(2/410)
مات عليه ثم قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فاستقبل المشركين وقاتل حتى قتل، ولما وجدوه في القتلى ما عرفوه حتى عرفته أخته بشامة أو بنانة وفيه بضع وثمانون طعنة وضربة ورمية بسهم.
وأما سعد بن الربيع فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع في الأحياء هو أم الأموات؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل، فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق قال: فقلت له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم الأموات، قال: أنا في الأموات، فبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل: إن سعد بن الربيع يقول له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، قال: لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته.
وأما عبد الله بن عمرو بن حرام فإنه روى البخاري في الصحيح أن ابنه جابرا قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهوني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا تبكه ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه".
وأما عمرو بن الجموح فإنه كان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله قد عذرك، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه؛ فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك"، وقال لبنيه: "ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة"، فخرج معه فقتل بأحد، وروى البخاري في الصحيح أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: أرأيت إن قتلت أين أنا؟ قال: "في الجنة" فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل، وروى البخاري أيضا من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بني الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن" فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا. وروى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى، اللون لون دم والريح ريح مسك"، وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أريت في رؤياي أني هززت سيفي فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به يوم الفتح واجتماع المؤمنين"، قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من القرآن في يوم أحد ستين آية، من آل عمران فيها صفة(2/411)
ما كان من يومهم ذلك، وهي من قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} إلى قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران: 121-179] إلى آخر الآية.
وروى ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لما أصيب أخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأتي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا يلتووا عن الحرب، فقال الله تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم"، فأنزل الله على رسوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] ... الآيات.
وروى البخاري في الصحيح عن عقبة بن عامر: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر، فقال: "إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها"، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود في سننه من حديث طلحة بن عبيد الله قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرة واقم1 فلما تدلينا منها فإذا قبور، فقلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: "قبور أصحابنا"، فلما جئنا قبور الشهداء قال: "هذه قبور إخواننا".
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في قتلى أحد: "هؤلاء شهداء؛ فأتوهم وسلموا عليهم ولن يسلم عليهم أحد ما قامت السموات والأرض إلا ردوا عليه".
وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده: أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تختلف بين اليومين والثلاثة إلى قبور الشهداء بأحد، فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت رضي الله عنها.
وروى العطاف بن خالد قال: حدثتني خالة لي وكانت من العوابد قالت: ركبت يوما حتى جئت قبر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فصليت ما شاء الله، والله ما في الوادي داعٍ ولا مجيب وغلامي آخذ برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قمت فقلت: السلام عليكم، وأشرت بيدي فسمعت رد السلام من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله سبحانه خلقني، فاقشعر جلدي وكل شعرة مني، فدعوت الغلام وركبت.
__________
1 هي حرة مشهورة من حرار المدينة.(2/412)
وروى مالك في الموطأ أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كان السيل قد حفر قبرهما، وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهدوا يوم أحد، فحفر عنهما؛ لينقلا من مكانهما فوجدا كأنهما ماتا بالأمس، فكان أحدهما قد جرح موضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم الحفر عنهما ست وأربعون سنة.
قلت: وقبور الشهداء اليوم لا يعرف منها إلا قبر حمزة رضي الله عنه؛ فإنه قد بنت عليه أم الخليفة الناصر لدين الله رحمه الله مشهدا كبيرا1، وجعلت عليه بابا من ساج منقوش وحوله حصا، وعلى المشهد باب من حديد يفتح في كل يوم خميس وقريب منه مسجد يذكر أهل المدينة أنه موضع مقتله والله أعلم بصحة ذلك2.
وأما بقية الشهداء فهناك حجارة موضوعة يذكر أنها قبورهم، وفي أحد غار يذكرون أنه صلى فيه، وموضع في الجبل أيضا منقوب في صخرة منه على قدر رأس الإنسان، يذكرون أنه -صلى الله عليه وسلم- قعد وأدخل رأسه هناك كل هذا لم يرد به نقل فلا يعتمد عليه.
__________
1 وذلك عام 590هـ.
2 وقد زاد الأشرف قايتباي في مسجد حمزة زيادة في جهته الغريبة، وذلك عام 893هـ على يد شاهين الجمالي.(2/413)
الباب التاسع: في ذكر إجلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير من المدينة
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عقد حلفا بين بني النضير من اليهود وبين بني عامر، فعدا رجل من بني النضير على رجلين من بني عامر فقتلهما. فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بني النضير يستعين في دية ذينك القتيلين، فقالوا له: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم، فمُرُوا رجلًا يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه، وانتدب لذلك أحدهم فصعد؛ ليلقي عليه صخرة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة وأخبر أصحابه بما كانت اليهود همَّت به، وأمرهم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، وسار حتى نزل بهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطع نخيلهم وتحريقها، وكان رهط من الخزرج من المنافقين قد بعثوا إلى بني إسرائيل أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك منهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم(2/413)
الرعب، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل يهدم بيته ويأخذ بابه فيضعه على البعير وينطلق به، واستقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم، والدفوف والمزامير والقيان تعزف خلفهم، وخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقسمهما على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرًا، فأعطاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاه. فأنزل الله في بني النضير سورة الحشر بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليهم به رسوله وما عمل فيهم.(2/414)
الباب العاشر: حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة
كان نفر من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد خرجوا، فقدموا مكة على قريش، فدعوهم إلى حرب النبي، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فسرهم ذلك واتعدوا له وتجمعوا، ثم جاءوا غطفان، فدعوهم إلى حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنهم معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك وخرجت قريش وغطفان بمن جمعوا معهم فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب الخندق على المدينة يعمل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه ودأبوا فيه.
روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك فلما رأى ما بهم من النصب قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة"
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا1
وروى أيضا من حديث البراء بن عازب قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرَّ بطنه، ويقول:
والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا، ويرفع بها صوته: أبينا أبينا.
__________
1 أعظِمْ بها من مبايعة، وأكرِمْ بمن اشترك فيها من مجاهدين خالدين.(2/414)
قال ابن إسحاق: وحكت ابنة بشير بن سعد قالت: دعتني أمي فأعطتني حفنة من تمر في ثوب ثم قالت: اذهبي إلى أبيك وخالك بغدائهما، قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألتمس أبي وخالي فقال: "تعالي يا بنية ما هذا معك؟ ". قالت: قلت: يا رسول الله، هذا بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة؛ يتغديانه، قال: "هاتيه". قالت: فصببته في كفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما ملأتهما ثم أمر بثوب، فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده: "اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء"، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
وروى جابر بن عبد الله أن صخرة اشتدت عليهم، فشكوها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك على تلك الصخرة، فانهالت حتى عادت كالكثيب ما ردت فأسا ولا مسحاة.
ولم يزل المسلمون يعملون فيه وينقلون التراب على أكتافهم حتى فرغوا منه وأحكموه، وأقبلت قريش ومن تبعها في عشرة آلاف حين نزلت بمجتمع السيول من رومة، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد، وخرج رسول الله في ثلاثة آلاف حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، وضرب عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام، وخرج حيي بن أحطب النضري حتى أتى قريظة في دارها، وسألهم أن يكونوا معهم على حرب رسول الله؛ فذكروا أن بينهم وبينه عقدا وحلفا، فلم يزل بهم حتى نقضوه وأجابوه إلى حرب محمد -صلى الله عليه وسلم، فبعث سعد بن معاذ وجماعة معه إليهم؛ لينظروا صحة ذلك، فأتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم، فنالوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد وشاتموه، ثم أقبل بمن معه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وآتاهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلا النبل والرمي والحصار إلا فوارس من قريش فإنهم قاتلوا فقتلوا وقتلوا، ولما وقفوا على الخندق قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها؛ ويقال: إن سلمان أشار به على النبي -صلى الله عليه وسلم- ورمي سعد بن معاذ بسهم فقطع أكحله فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه؛ اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. واستشهد يومئذ من المسلمين ستة نفر من الأنصار منهم(2/415)
أنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، وكعب بن زيد أصابه سهم فقتله، وسعد بن معاذ عاش حتى قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- بني قريظة بحكمه، واستجاب دعاءه، ثم قبض شهيدا، وسيأتي ذكر وفاته، وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة؛ لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى هدى الله نعيم بن مسعود أحد غطفان للإسلام؛ لإنفاذ أمره سبحانه في نصر نبيه وإقامة دينه؛ فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة"، فخرج حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديمًا في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، ولا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم؛ فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا منهم أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن اليهود قد ندموا على ما صنعوه فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين قريش وغطفان رجالًا من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي حتى تستأصلهم، فأرسل إليهم: نعم، فإن بعثت إليكم يهود تطلب منكم رجلا واحدا فلا تدفعوه، ثم خرج فأتى غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش، فأرسلت قريش إلى يهود أن اغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، فقالوا: لسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فقالت قريش وغطفان: إن الذي حدثكم نعيم لحق، ثم أرسلوا إلى قريظة إنا لن ندفع إليكم أحدا؛ فإن أردتم أن تقاتلوا فقاتلوا، فقالت قريظة: إن الذي قال لكم نعيم لحق، وخذل الله بينهم وبعث عليهم الريح في ليالٍ باردة شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فرجعوا إلى بلادهم وكان مجيئهم وذهابهم في شوال سنة خمس من الهجرة.
قلت: والخندق اليوم باقٍ وفيه قناة تأتي من عين بقباء إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح وفي الخندق نخل قد انطم أكثره وتهدمت حيطانه.(2/416)
الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة
قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون، ووضعوا السلاح أتى جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتمًّا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم" فقال: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك بالسير إلى بني قريظة؛ فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، فأذَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس: من كان سامعا ومطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة، وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون، فمر بنفر من أصحابه فقال: هل مر بكم أحد فقالوا: مر بنا دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم"، وأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون ونزل عليهم، وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتواثبت الأوس، وقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج فهبهم لنا، فقال: "ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منهم"، قالوا: بلى، قال: "فذلك إلى سعد بن معاذ"، وكان سعد في خيمة في المسجد يداوى جرحه، فأتاه الأوس، فأركبوه، وأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة 1 "، ثم استنزلوا بني قريظة من حصونهم، فحبسوا بالمدينة في دار امرأة من بني النجار، ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم، فجيء بهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، وكانوا سبعمائة وفيهم حيي بن أخطب النضري الذي حرضهم على نقض العهد وعلى محاربة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة؛ فإنها كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد من الحصن، فقتلته، فقتلها النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان النبي قد قتل منهم كل من أنبت، ومن لم ينبت استحياه ثم قسم الرسول أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأنزل الله في بني قريظة وأمر الخندق الآيات من سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} إلى قوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [9-27] الآية.
ولما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، فمات منه شهيدًا، وروي أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ فقام -صلى الله عليه وسلم- سريعا يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات.
__________
1 أي سماوات.(2/417)
الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفضله
قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فنزل في علو المدينة في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم، فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فأخذ مربد كلثوم فعمله مسجدًا، وأسسه، وصلى فيه إلى بيت المقدس، وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع النهار، فركب ناقته القَصوَى، وحشد المسلمون، ولبسوا السلاح عن يمينه وشماله، وخلفه منهم الماشي والراكب، واعترضه الأنصار فما يمر بدار من دورهم إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة، فيقول لهم خيرا ويدعو لهم، ويقول عن ناقته: "إنها مأمورة؛ خلوا سبيلها"، فمر ببني سالم فأتى مسجدهم الذي في الوادي وادي رانوناء، وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك وكانوا مائة رجل، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها وسار حتى انتهت به إلى زقاق الحبشي ببني النجار، فبركت على باب دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه القرآن ويأتيه جبريل حتى ابتنى مسجده ومساكنه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نزل في سفل بيت أبي أيوب وذكر أبو أيوب أنه فوق النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل ساهرا حتى أصبح، فأتاه فقال: يا رسول الله، إني أخشى أن أكون ظلمت نفسي أن أبيت فوق رأسك، فقال عليه السلام: "السفل أرفق بنا وبمن يغشانا"، فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى انتقل إلى العلو، وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت أبي أيوب سبعة أشهر، وكان بنو مالك بن النجار يحملون كل يوم قصاع الثريد إلى النبي يتناوبون ذلك بينهم إلا سعد بن عبادة فإنه ما كان يقطع جفنته في كل ليلة إلى دار أبي أيوب فيدعو النبي أصحابه فيأكلون، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أخذ المربد من بني النجار كان فيه نخل وقبور المشركين وخِرب "خرائب" فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضاديته حجارة، قال: وكانوا يرتجزون ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم: "اللهم إن الخير خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة" وجعلوا ينقلون الصخر، وطفق النبي -صلى الله عليه وسلم- ينقل اللبن معهم في ثيابه ويقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
وبنى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجده مربعا، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وطوله سبعون ذراعا أو يزيد، وجعل له ثلاث أبواب: بابا في مؤخره، وباب عاتكة وهو باب الرحمة والباب الذي(2/418)
كان يدخل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو باب عثمان، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة سد النبي -صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه وفتح الباب الآخر حذاءه فكان المسجد له ثلاثة أبواب: باب خلفه وباب عن يمين المصلى وباب عن يساره، وجعلوا أساس المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن، وفي الصحيحين: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزه، وقالت عائشة: كان طول جدار المسجد بسطة وكان عرض الحائط لبنة لبنة ثم إن المسلمين كثروا، فبنوه لبنة ونصفا ثم قالوا: يا رسول الله لو أمرت فزيد فيه قال: "نعم" فأمر به فزيد فيه، وبني جداره لبنتين مختلفتين ثم اشتد عليهم الحر، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، قال: "نعم"، فأمر به فأقيم له سواري من جذوع النخل شقة ثم شقة ثم طرحت عليها العوارض والخصف والإذخر، وجعل وسطه رحبة فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف1 عليهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد يعمر فَطُين فقال لهم: "عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات والأمر أعجل من ذلك"، فلم يزل كذلك حتى قبض -صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن عريش موسى كان إذا قام أصاب رأسه السقف، قال أهل السير: بنى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجده مرتين؛ بناه حين قدم أقل من مائة في مائة فلما فتح الله عليه خيبر بناه، وزاد عليه في الدور مثله، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه متوجها إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم أمر بالتحول إلى الكعبة فأقام رهطا على زوايا المسجد؛ ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده: هكذا، فأماط كل جبل بينه وبينها فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل: هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها، وصارت قبلته إلى الميزاب، أخبرنا أبو القاسم المظفري والأرحبي في كتابيهما عن أبي علي الأصفهاني عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخلدي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن أبو زبالة، حدثني عبد العزيز بن أبي حازم، عن هشام بن سعد بن أبي هلال عن أبي هريرة قال: كانت قبلة النبي -صلى الله عليه وسلم- الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده موضع الأسطوانة المخلفة اليوم خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام حتى إذا كنت بين باب آل عثمان كانت قبلته في ذلك الموضع.
فضيلة المسجد والصلاة فيه:
أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن أحمد العطار، أخبرنا أبو سعد عمار بن طاهر الهمداني، حدثنا مكي بن عبد السلام الرميلي، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي، أخبرنا محمد بن محمد الواسطي، حدثنا عمر بن الفضل بن مهاجر، حدثنا الوليد بن
__________
1 أي يقطر سقفه عليهم ماء.(2/419)
حماد الرملي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"، أخرجه البخاري في صحيحه.
أنبأنا الذهلي، حدثنا أبو محمد بن عبدوس، حدثنا يعقوب بن حميد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دخل مسجدي هذا يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره".
أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الهمداني في كتابه قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين محمد بن محمد الفقيه، قال: أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي، حدثنا عمرو بن الفضل بن مهاجر، حدثنا أبي، حدثنا الوليد، أخبرنا محمد بن النعمان، أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو عبد الملك عن عبد الواحد بن زيد عن شهر بن حوشب عن عبد الله قال: سكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط، وهو يصلي في كل جمعة في خمسة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ومسجد قباء، ويصلي كل ليلة جمعة في مسجد الطور ويأكل كل جمة أكلتين من كمأة وكرفس ويشرب مرة من زمزم ومرة من جب سليمان الذي ببيت المقدس ويغتسل من عين سلوان.
أنبأنا أبو الفرج بن الجوزي قال: أنبأنا عباد بن أحمد الحسن آباذي، قال: أخبرنا الحسن بن عمر الأصبهاني أنبأنا الحسن بن علي البغدادي حدثنا محمد بن علي الهمداين حدثنا محمد بن عمران حدثنا بحر بن نصير أخبرنا موسى بن عبيدة عن داود بن مدرك عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء أحق المساجد أن يزار وتركب إليه الرواحل، وصلاة في مسجدي هذا أفضل من الصلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام". وأخرج مسلم في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" 1.
أخبرنا عبد الوهاب بن علي أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي أنبأنا أبو محمد الصيرفي أنبأنا أبو بكر بن عبدان عن عبد الوهاب بن المهتدي حدثنا أيوب بن سليمان الصعدي حدثنا أبو اليمان حدثنا العطاف بن خالد عن عبد الله بن عثمان بن عمر بن الأرقم بن أبي الأرقم عن أبيه عن جده قال: قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن
__________
1 هو في مسلم في كتاب الحج الجزء الأول.(2/420)
أخرج إلى بيت المقدس قال: "فلم؟ " قلت: للصلاة فيه، قال: "ههنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة".
أنبأنا أبو القاسم البقل عن أبي علي الأصبهاني عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخلدي قال: أنبأنا أبو زيد المخزومي أخبرنا الزبير بن بكار أخبرنا محمد بن الحسن حدثني إسماعيل بن المعلى عن يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة".
وحدثني محمد بن الحسن حدثني حاتم بن إسماعيل عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبينة عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذباب والضباع، فيمر الرجل ببابه فيريد أن يصلي فيه فما يقدر عليه".
ذكر حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:
لما بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده بنى بيتين لزوجته عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل، وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر أو ساج، ولما تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه بنى لهن حجرًا وهي تسعة أبيات، وهي ما بين بيت عائشة -رضي الله عنها- إلى الباب الذي يلي باب النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أهل السير: ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشامي ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد.
قال عمر بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر، وذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع. قال مالك بن أنس: وحدثني الثقة عندي أن الناس كانوا يدخلون حجرات أزواج النبي بعد وفاته يصلون فيها يوم الجمعة.
قال مالك: وكان المسجد يضيق عن أهله، وحجر النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.
أخبرنا صالح بن أبي الحسن الخريمي أنبأنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري أخبرنا أبو الحسن بن معروف أخبرنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتا باللبن ولها حجر من جريد، ورأيت أم سلمة(2/421)
وحجرتها من لبن، فسألت ابن ابنها، فقال: لما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دومة، بنت أم سلمة بلبن حجرتها، فلما قدم نظر إلى اللبن فقال: ما هذا البناء، فقالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال: يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان، وقال عطاء الخراساني: أدركت حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم.
وسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم لو تركوها على حالها ينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر، وقال عمران بن أبي أنس: لقد رأيتني في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيه نفر من أصحابه أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو أمامة بن سهل وخارجة بن زيد يعني لما نقضت حجر أزواجه عليه السلام وهم يبكون حتى اخضلَّت لحاهم من الدمع، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تُركت حتى يقصر الناس من البنيان، ويروا ما رضي الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ومفاتيح الدنيا بيده.
ذكر بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها:
كان خلف بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يسار المصلى إلى الكعبة وكان فيه خوخة إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل إلى المخرج اطلع منها يعلم خبرهم، وكان يأتي بابها كل صباح، فيأخذ بعضادتيه، ويقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ، وقال محمد بن قيس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر أتى فاطمة -رضي الله عنها- فدخل عليها وأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفر، فصنعت فاطمة مسكتين من ورِق "فضة" وقرطين وسترًا لباب بيتها؛ لقدوم أبيها وزوجها، فلما قدم عليه السلام ودخل عليها وقف أصحابه على الباب، فخرج وقد عُرِفَ الغضب في وجهه، ففطنت فاطمة أنما فعل ذلك لما رأى المسكتين والقلادتين والستر، فنزعت قرطيها وقلادتيها، ومسكتيها، ونزعت الستر، وأنفذت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت للرسول: قل له: تقرأ عليك ابنتك السلام، وتقول لك: اجعل هذا في سبيل الله، فلما أتاه قال: "فعله، فداها أبواها -ثلاث مرات- ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء"، ثم قام، فدخل عليها.
وقال محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الستر من فاطمة شقَّهُ لكل إنسان من أصحابه ذراعين ذراعين.
وقال ابن عباس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر قبل رأس فاطمة رضي الله عنها.(2/422)
أنبأنا أبو القاسم التاجر عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخواص، قال: أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر بن محمد، كان يقول: قبر فاطمة رضي الله عنها في بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد؛ قلت: وبيتها اليوم حوله مقصورة وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي عليه السلام.
ذكر مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالليل:
روى عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطرح حصيرا كل ليلة إذا انكف الناس، ورأيت عليا كرم الله وجهه ثَمَّ يصلي صلاة الليل، قال عيسى: وذلك موضع الأسطوان الذي على طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يلي الدور.
وروي عن سعيد بن عبد الله بن فضيل، قال: مر بي محمد بن علي ابن الحنفية رضي الله عنه وأنا أصلي إليها، قال لي: أراك تلزم هذه الأسطوانة هل جاءك فيها أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها؛ كانت مصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالليل، قلت: وهذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة رضي الله عنها وفيها محراب إذا توجه الرجل كان يساره إلى باب عثمان رضي الله عنه.
ذكر الجذع الذي كان يخطب إليه النبي عليه السلام:
أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر الجنابذي، أخبرنا يحيى بن علي المديني، أخبرنا أبو الحسين بن النقور، أخبرنا أبو القاسم بن حنانة، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا هدية بن خالد، حدثنا حماد بن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب إلى جذع نخلة، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحتضنه فسكن، فقال عليه السلام: "لو لم أحتضنه لَحَنَّ إلى يوم القيامة".
أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أخبرنا جابر بن ياسين، أخبرنا المخلص، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا المبارك بن فضالة، حدثنا الحسن عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إلى خشبة مسنِدًا ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: "ابنوا لي منبرًا" فبنوا له منبرا له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنَّت الخشبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال أنس: وأنا في المسجد، فسمعت الخشبة تحنُّ حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكنت، فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحنُّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقا إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه، وفي لفظ: فنزل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحتضنه وسارَّه بشيء، وفي لفظ: فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت تنشق، وفي لفظ: فجعلت تئن أنين(2/423)
الصبي حتى استقرت، وفي لفظ: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر، كل هذه الألفاظ في الصحيح، وقال أبو سعيد الخدري: لما سكن الجذع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحفر له ويدفن.
وقال أبو بريدة الأسلمي: لما سكن الجذع قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن شئت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه كما كنت، فتنبت لك عروقك، ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمر، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتأكل أولياء الله من ثمرك"، ثم أصغى إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع ما يقول، قال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله، وأكون في مكان لا أداس فيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم، قد فعلت"؛ وعاد إلى المنبر ثم أقبل على الناس فقال: "خيرته كما سمعتم فاختار أن أغرسه في الجنة، اختار دار البقاء على دار الفناء".
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك غار الجذع فذهب، وقال ابن أبي الزناد: لم يزل الجذع على حاله زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما هدم عثمان رضي الله عنه المسجد اختلف في الجذع فمنهم من قال: أخذه أبي بن كعب فكان عنده حتى أكلته الأرضة، ومنهم من قال: دفن في موضعه، وكان الجذع في موضع الأسطوانة المخلفة التي عن يمين محراب النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الصندوق.
ذكر عمل المنبر:
وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي حازم أن نفرا جاءوا إلى سهل بن سعد قد تماروا في المنبر من أي عود هو، فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو ومن عمله؛ رأيت رسول الله أول يوم جلس عليه، فقلت له: فحدثنا، فقال: أرسل عليه السلام إلى امرأة: "انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها"، فعمل هذه الدرجات الثلاث ثم أمر بها فوضعت بهذا الموضع وهي من طرفاء الغابة ... وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؛ فإن لي غلاما نجارا؟ قال: "إن شئت" فعمل له المنبر. وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر أن النبي لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرا يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: "بلى" قال: فاتخذ له منبرا مرقاتين1، وروي عن أبي الزناد أنه عليه السلام كان يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد فقال: "إن القيام قد شق علي" وشكا ضعفا في رجليه، فقال له تميم الداري وكان من أهل فلسطين: يا رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام قال: فلما أجمع
__________
1 المرقاة: الدرجة.(2/424)
ذوو الرأي من أصحابه على اتخاذه قال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "فمره يعمل"، فأرسل إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضع المنبر اليوم ثم راح إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حنَّ الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة حتى ارتاع الناس، وقام بعضهم على رجليه، فأقبل عليه السلام حتى مسه بيده فسكن، فما سمع له صوت بعد ذلك، ثم رجع إلى المنبر فقام عليه، وقد روي أن اسم هذا الغلام الذي صنع المنبر مينا، وقال عمر بن عبد العزيز: عمله صباح غلام العباس بن عبد المطلب.
قال الواقدي1: وفي سنة ثمانٍ من الهجرة اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- منبره واتخذه درجتين ومقعدة.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال -صلى الله عليه وسلم: "قوائم منبري رواتب في الجنة، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "منبري على حوضي"، قال الخطابي: معناه: من لزم عبادة الله عنده سقي من الحوض يوم القيامة، قلت: الذي أراه أن المعنى هذا المنبر بعينه يعيده الله على حاله فينصبه عند حوضه كما تعود الخلائق أجمعون.
أخبرنا أبو طاهر المبارك بن المبارك العطار قال: أخبرنا أبو الغنائم محمد بن محمد الخطيب، وأخبرنا هبة الله بن الحسن بن السبط قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله العكبري قالا: أخبرنا أبو طالب العادي أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين قال: حدثنا علي بن محمد العسكري حدثني دارم بن قبيصة حدثني نعيم بن سالم قال: سمعت أنس بن مالك قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "منبري على ترعة من ترع الجنة". قال أبو عبيدة القاسم بن سلام: في الترعة ثلاثة أقوال: أحدها أنها الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة، والثاني أنها الباب، والثالث أنها الدرجة.
وروى أبو داود في السنن من حديث جابر بن عبد الله قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له النار".
وقال ابن أبي الزناد: كان -صلى الله عليه وسلم- يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى فلما
__________
1 هو أبو عبد الله الواقدي المتوفى عام 207هـ أو 216هـ. وله: تاريخ مكة، وفتوح الشام.(2/425)
ولي عمر قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان فعل ذلك ست سنين ثم علي فجلس موضع النبي وكسى المنبر قبطية، فلما حج معاوية كساه قبطية وزاد فيه ست درجات، ثم كتب إلى مروان بن الحكم وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر على الأرض فدعا له النجارين وعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها، وصار المنبر تسع درجات بالمجلس لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده، قال: ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة قال لمالك بن أنس: إني أريد أن أعيد منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على حاله، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد سُمِّر إلى هذه العيدان وشد، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك فلا أرى أن تغيره.
قلت: وطول منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مستند النبي -صلى الله عليه وسلم- ذراع، وطول رمانتي المنبر الذي يمسكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس يخطب شبر وإصبعان، وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر ثلاث أصابع، والدكة التي هو عليها طول شبر وعقد، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل له باب يفتح يوم الجمعة ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوبا من الحرير الأسود، وله علم ذهب يكسى به المنبر، ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستورا على أبواب الحرم.
ذكر الروضة:
أخبرنا أبو طاهر بن المقطوش قال: أخبرنا أبو الغنائم بن المهتدي وأخبرنا أبو القاسم الهمداني أخبرنا أبو المعز بن كادش قالا: أخبرنا محمد بن علي بن أبي الفتح الحربي قال: أخبرنا أبو الحفص بن شاهين حدثنا علي بن محمد العسكري حدثنا دارم بن قبيصة حدثني نعيم بن سالم بن قنبر قال: سمعت أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 1 أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وقال: "بيتي" مكان "حجرتي"، وقال الخطابي: معناه: من لزم طاعة الله تعالى في هذه البقعة آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة، والذي هو عندي أن يكون هذا الموضع بعينه روضة في الجنة يوم القيامة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: معناه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت الصحابة تقتبس منه العلم في ذلك الموضع فهو مثل الروضة قلت: ويؤيد قولَه قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر".
__________
1 ويروى بلفظ آخر، وهو: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". وهو حديث صحيح رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن علي وأبي هريرة.(2/426)
ذكر سد الأبواب الشوارع في المسجد:
روى البخاري في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ أن يكون الله عز وجل خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا، فقال يا أبا بكر: "لا تبك؛ إن أَمَنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر"، قال أهل السير: كان بابه في غربي المسجد، وروى ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالأبواب كلها فسُدَّتْ إلا باب علي رضي الله عنه.
ذكر تجميره:
ذكر أهل السير أن عمر بن الخطاب أتى بسفط من عود فلم يسع الناس فقال: أجمروا به المسجد؛ لينتفع به المسلمون فبقيت سنة في الخلفاء إلى اليوم يؤتى في كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة عند المنبر من خلفه إذا كان الإمام يخطب، قالوا: وأتي عمر بن الخطاب بمجمرة من فضة فيها تماثيل من الشام فكان يجمر بها المسجد ثم توضع بين يدي عمر فلما قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد واليا على المدينة غيرها وجعلها ساذجا وهي في يومنا هذا منقوشة.
ذكر تخليقه:
روي أن عثمان بن مظعون تفل في المسجد فأصبح مكتبئا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا. فقال: لا شيء؛ إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم خلقتها فكان أول من خلق1 القبلة، وقال جابر بن عبد الله: كان أول من خلق المسجد عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم لما حجت الخيزران أم موسى وهارون في سنة سبعين ومائة وأمرت بالمسجد أن يخلق فتولى تخليقه جاريتها مؤنسة فخلقته جميعه حتى الحجرة الشريفة جميعها.
منع آكل الثوم من دخوله:
روى البخاري في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزل مسجدنا"، وفي لفظ آخر: "فلا يقربن مسجدنا".
__________
1 أي طيبها بالخلوق وهو ضرب من الطيب.(2/427)
النهي عن رفع الصوت فيه:
روى البخاري في الصحيح أن السائب بن يزيد قال: كنت نائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما، فقال: ممن أنتما أو من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم.
جواز النوم فيه:
روى البخاري في الصحيح أن عبد الله بن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له، وروى أيضا من حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يجد عليا رضي الله عنه في البيت فقال: "أين ابن عمك؟ "، فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل1 عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان: "انظر أين هو فأخبرنا"، فجاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع قد سقط رداءه عن شقه وأصابه تراب فقال له: "قم أبا تراب".
جواز الصلاة على الجنائز فيه:
روى أبو داود في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابني بيضا في المسجد سهيل وأخيه، وروي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه".
النهي عن إخراج الحصى منه:
روى أبو داود في السنن من حديث أبي هريرة رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- "أن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد".
ذكر مواضع تأذين بلال:
روى ابن إسحاق أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن، وذكر أهل السير أن بلالًا كان يؤذن على أسطوانة في قبلة المسجد يرقى إليها بأقتاب وهي قائمة إلى اليوم في منزل عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروى نافع عن عمر قال: كان بلال يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر التي تلي المسجد
__________
1 من القيلولة وهي النوم وقت الظهيرة.(2/428)
قال: فكان يرقى على أقتاب فيه، وكانت خارجة من مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، لم تكن فيه وليست فيه اليوم.
ذكر أهل الصفة رضي الله عنهم:
روى البخاري في الصحيح أن أصحاب الصفة كانوا فقراء، وروي أيضا من حديث أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء؛ إما إزار وإما كساء قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وروي أيضا من حديث أبي هريرة أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "أبا هر". قلت: لبيك يا رسول الله قال: "الحق" ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال: "من أين هذا اللبن؟ " قالوا: هداه لك فلان أو فلانة قال: "أبا هر" قلت: لبيك رسول الله، قال: "الحق إلى أهل الصفة فادعهم إلي" وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولا يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بدٌّ، فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت قال: "أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "خذ فأعطهم" فأخذت القدح فجعلت أعطيه فيشرب حتى يروى حتى انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد روى القوم وأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، وقال: "يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله قال: "اقعد فاشرب" فقعدت فشربت فقال: "اشرب" فشربت فما زال يقول: "اشرب" حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا قال: "فأرني" فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة، وروى أهل السير أن محمد بن مسلمة رأى أضيافا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فقال: ألا تفرق هذه الأضياف في دور الأنصار ونجعل لك من كل حائط قنوا؛ ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بلى" فلما جذ ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون ذلك، وكان معاذ بن جبل يقوم عليه وكان يجعل عليه حبلا(2/429)
بين الساريتين ثم يعلق الأقناء على الحبل، ويجمع العشرين أو أكثر، فيهش عليهم بعصاه من الأقناء فيأكلون حتى يشبعوا ثم ينصرفون، ويأتي غيرهم فيفعل لهم مثل ذلك فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك.
ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة:
روى أهل السير عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي في مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم نجد أحدا يذكر لنا منه شيئا حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة أنه جلس إلى جنبه أنس بن مالك فقال: تدري لم صنع هذا العود؟ قلت: لا أدري، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع عليه يمينه ثم يلتفت إلينا، فيقول: "استووا وعدلوا صفوفكم"، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرق العود، فطلبه أبو بكر فلم يجده حتى وجده عمر عند رجل من الأنصار بقباء، وقد دفن في الأرض فأكلته الأرضة فأخذ له عودًا فشقه، ثم أدخله فيه ثم شعبه ورده إلى الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة، وهو الذي في المحراب اليوم باقٍ، وقال مسلم بن حباب: كان ذلك العود من طرفاء الغابة.
ذكر مواضع اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم:
روى أهل السير أن ابن عمر قال: كان النبي إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير بأسطوانة التوبة.
ذكر أسطوانة التوبة:
قال ابن إسحاق: لما حاصر رسول الله بني قريظة بعثوا إليه أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف -وكانوا حلفاء الأوس- نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم فقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدًا، فلا تراني ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا، فلما بلغ رسول الله خبره وأبطأ عليه وكان قد استبطأه قال: "أما لو جاءني لاستغفرت الله له، فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه"، فأنزل الله توبته على رسول الله وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السحر يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك قال: "تيب على أبي لبابة"، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال: "بلى إن شئت"، قال: فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب(2/430)
الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر؛ فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس؛ ليلقوه قال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] قال إبراهيم بن جعفر: السارية التي ارتبط إليها ثمامة بن أثال الحنيفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة، وروى خالد بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ربوص، والربوص: الثقيلة، بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع وكاد بصره يذهب وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، وإذا أراد أن يذهب لحاجته حتى يفرغ ثم تأتي به فترده في الرباط كما كان، وكان ارتباطه ذلك إلى جذع في موضع الأسطوانة التي يقال لها أسطوانة التوبة، وروي عن محمد بن كعب القرظي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي أكثر نوافله إلى أسطوانة التوبة، قلت: وهذه الأسطوانة الثانية عن يمين حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يصلي إليها في الصف الأول خلف أمام الروضة وهي معروفة.
ذكر أسطوانة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي إليها:
روى الزبير بن حبيب أن الأسطوانة التي بعد أسطوانة التوبة إلى الروضة وهي الثالثة من المنبر ومن القبر ومن رحبة المسجد ومن القبلة وهي متوسطة في الروضة، صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها المكتوبة بضع عشرة ثم تقدم إلى مصلاه اليوم، وكان يجعلها خلف ظهره، وأن أبا بكر وعمر والزبير وابنه عبد الله وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها؛ وكان يقال لها مجلس المهاجرين، وقالت عائشة رضي الله عنها فيها: لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالاسم، فسألوها عنها، فأبت أن تسميها، فأصغى إليها ابن الزبير فسارَّته بشيء، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوانة عائشة، قال: فظن من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة وسميت أسطوانة عائشة، وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر رضي الله عنهما، ويقال: إن الدعاء عندها مستجاب.
ذكر أسطوانة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يجلس إليها إذا جاءه الوفود:
روى ابن أبي فديك عن غير واحد من مشايخه أن الأسطوانة الثالثة من قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي التي تلي الرحبة وهي خلف أسطوانة علي بن أبي طالب التي خلف أسطوانة التوبة كان النبي يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته، قلت: إذا عددت الأسطوان الذي فيه مقام جبريل كانت الثالثة.(2/431)
ذكر أسطوانة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وروى أهل السير أن الأسطوانة التي خلف أسطوانة التوبة هي مصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين المسجد:
روى البخاري في الصحيح من حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة، قال: فإني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرى الصلاة عندها، وروي أيضا من حديث أنس قال: لقد أدركت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يبتدرون السواري عند المغرب. قلت: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يستحب الصلاة عندها؛ لأنها لا تخلو من أن كبار الصحابة صلوا إليها.
ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد:
عن ابن عمر قال: زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه، وروى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر أن المسجد كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، وروى أهل السير أن عمر رضي الله عنه قال: لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني أزيد في المسجد" ما زدت فيه، أنبأنا أبو القاسم الحذاء عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الأصبهاني عن أبي جعفر الخلدي، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة، حدثني محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن مصعب بن ثابت عن مسلم بن خباب أن النبي قال يوما وهو في مصلاه: لو زدنا في مسجدنا وأشار بيده نحو القبلة، فلما توفي عليه السلام وولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله قال: "لو زدنا في مسجدنا" وأشار بيده نحو القبلة فأجلسوا رجلًا في موضع مصلى النبي، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأوا أن النبي رفع يده ثم مد، ووضعوا طرفه بيد الرجل ثم مدوه فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه بما أشار رسول الله من الزيادة فقدم عمر القبلة فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة.
قال أهل السيرة: كان بين المنبر وبين الجدار الذي كان على عهد رسول الله بقدر ما يمر شاة، فأخذ عمر إلى موضع المقصورة اليوم، وزاده فيه، وزاد في يمين القبلة، فصار طوله أربعين ومائة ذراع، وسقفه جريد ذراعان، وبنى فوق ظهر المسجد سترة ثلاثة أذرع(2/432)
وبنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة، وجعل له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة وبابين عن يسارها ولم يغير باب عاتكة ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي، وفتح بابا عند دار مروان بن الحكم، وفتح بابين في مؤخر المسجد، وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي". وروى غيره مرفوعا أنه قال: "هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ صنعاء كان مسجدي".
وكان أبو هريرة يقول: ظهر المسجد كقعره، وأدخل عمر في هذه الزيادة دارًا للعباس بن عبد المطلب وهبها للمسلمين، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد هدم دار كانت للعباس بن عبد المطلب؛ ليزيدها في المسجد وقال: ذلك أرفق بالمسلمين، فقال له العباس: حكِّم بيني وبينك في ذلك، فجعلا بينهما أبي بن كعب فقال: إني أحدثكما حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن داود النبي أراد بنيان بيت المقدس وكانت أرضه لرجل فاشتراها سليمان منه فلما باعه الرجل إياه قال الرجل: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ قال: بل ما أخذت، قال: فإني لا أجيز، فناقضه البيع، ثم اشتراها ثانية فقال له: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ فقال: بل ما أخذت منك قال: إني لا أجيز فناقضه البيع، ثم اشتراها الثالثة فصنع مثل ذلك، فقال له سليمان: أشتريها منك بحكمك على أن لا تسألني، قال: فاشتراها بحكمه فاحتكم شيئا كثيرا اثني عشر قنطارا ذهبا، فاستعظمه سليمان، فأوحى الله إليه: إن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى، وإن كنت تعطيه من عندك فذلك لك، وعم النبي العباس إن شاء باعها وإن شاء تركها، قال العباس: أما إذا قضيت فيَّ فقد جعلتها للمسلمين.
وكانت للعباس دار إلى جنب المسجد فقال له عمر: بعنيها فقال له العباس: لا أبيعك، فقال عمر: إذًا آخذها، فقال العباس: لا تأخذها، فقال: اجعل بيني وبينك من شئت، فجعلا بينهما أبي بن كعب فأخبروه الخبر، فقال: أوحى الله إلى سليمان أن ابْنِ بيتَ المقدس وكان بيت لعجوز فأراد أخذه منها فأبت أن تبيعه إياه، فعزم على أخذه منها وإدخاله في المسجد، فأوحى الله إليه أن بيتي أحق المواضع أن لا يدخل فيه شيء من الظلم، فكف عن أخذه فقال عمر: وأنا أشهدكم أني قد كففت عن دار العباس، فقال له العباس: أما إن كان هذا وحكم لي عليك فإني أشهدكم أني قد جعلتها صدقة على المسلمين، فهدمها عمر، وأدخلها في المسجد، واشترى نصف موضع كان خطه النبي -صلى الله عليه وسلم- لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة دارا بمائة ألف فزاده في المسجد. أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن الحسن بن أحمد عن أحمد بن عبد الله عن جعفر محمد بن الحسن حدثني عبد العزيز بن أبي حبارة عن الضحاك بن عثمان عن أبي النضر عن(2/433)
بشر بن سعيد أو سليمان بن يسار الضحاك أنه حدثه أن المسجد كان يرش زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وزمان أبي بكر وعامة زمان عمر، وكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقا حتى قدم ابن مسعود الثقفي، وقال لعمر: أليس قربكم وادٍ؟ قال: بلى قال: فمر بحصباء تطرح فيه فهو أكف للمخاط والنخامة، فأمر بها عمر، وذكر محمد بن سعد أن عمر بن الخطاب ألقى الحصا في مسجد رسول الله وكان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم فأمر بالحصباء فجيء به من العقيق فبسط في المسجد.
ذكر زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه فيه:
روى البخاري في الصحيح أن عثمان زاد في المسجد زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وذكر أهل السير أن عثمان رضي الله عنه لما ولي الخلافة سنة أربع وعشرين سأله الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فاجتمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزيد فيه، وأشهد أني لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بنى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة"، وقدر أن لي فيه سلفا والإمام عمر بن الخطاب زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هدمه وبنائه وتوسعته، فحسن الناس ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلًا يصوم النهار ويقوم الليل، وكان لا يخرج من المسجد فهدمه، وأمر بالقصة المنخولة وكان عمله في أول ربيع الأول سنة تسع وعشرين، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين، فكان عمله عشرة أشهر، وزاد من القبلة إلى موضع الجدار اليوم، وزاد فيه من المغرب أسطوانًا بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا ولم يزد فيه من المشرق شيئًا، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وخشب النخل والجريد وبيضه بالقصة وقدر زيد بن ثابت أساطنيه فجعلها على قدر النخل وجعل فيه طاقات مما يلي المشرق والمغرب وبنى المقصورة بلبن وجعل فيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام وكان يصلي فيها خوفا من الذي أصاب عمر وكانت صغيرة وجعل أعمدة المسجد حجارة منقوشة فيها أعمدة الحديد وفيها الرصاص وسقفه بالساج، فجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باب عاتكة، والباب الذي يليه، وباب مروان، والباب الذي يقال له باب النبي -صلى الله عليه وسلم- وبابين في مؤخره.
وقال عبد الرحمن بن سفينة: رأيت القصة تحمل إلى عثمان وهو يبني المسجد من بطن نخل، ورأيته يقوم على رجليه، والعمال يعملون فيه حتى تأتي الصلاة فيصلي بهم ثم(2/434)
ربما نام في المسجد واشترى من مروان بن الحكم داره وكان بعضها لآل النجار وبعضها دار العباس لها باب إلى المسجد وهي اليوم باقية على حالها وفيها تسكن الأمراء.
ذكر زيادة الوليد بن عبد الملك فيه 1:
ذكر أهل السير أن الوليد بن عبد الملك لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه، فاشترى ما حوله من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبي أن يبيع عليه ووضع الثمن له فلما صار إلى القبلة قال له عبد الله بن عبد الله بن عمر: لسنا نبيع هذا هو من حق حفصة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسكنها، فقال له عمر: ما أنا بتارككم أنا أدخلها المسجد، فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق، وما بقي من الدار فهو لكم، ففعلوا، فأخرج بابهم في المسجد وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة، وأعطاهم دار الرقيق وقدم الجدار في موضع اليوم، وزاد من المشرق ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد ومعه عشر أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام ومد في المغرب أسطوانتين وأدخل في حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي كان يقال لها القراين اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... بقيع المصلى أم كعمد القراين
ودار عبد الله بن مسعود، وأدخل فيه من المغرب دار طلحة بن عبيد الله ودار أبي سبرة بن أبي رهم ودار عمار بن ياسر وبعض دار العباس بن عبد المطلب وأعلى ما أدخل منها، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف أعظم من غيرها من سواري المسجد قالوا: وبعث الوليد إلى ملك الروم: إنا نريد أن نعمل مسجد نبينا الأعظم، فأعنا فيه بعمال وفسيفساء، فبعث إليه بأربعين من الروم وبأربعين من القبط وبأربعين ألف مثقال عونا له وبأحمال من فسيفساء، وبعث هذه السلاسل التي فيها القناديل، فهدم عمر المسجد، وأخمر النورة التي يعمل بها الفسيفساء، وحملوا القصة من النخل منخولة وعمل الأساس من الحجارة والجدار بالحجارة المنقوشة المطابقة والقصة وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، وجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمه مائتي ذراع وفي مؤخره مائة وثمانين وعمله بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقفه بالساج، وموهه بالذهب، وهدم حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدخلها فيه، وأدخل القبر فيه أيضا، ونقل لبن حجرات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولبن المسجد فبنى به داره بالحرة وهو فيها اليوم له بياض على اللبن.
__________
1 تولى الوليد الخلافة بعد موت والده عبد الملك وذلك من عام 86هـ- حتى عام 96هـ.(2/435)
وقال بعض الذين عملوا الفسيفساء: إنا عملناه على ما وجدناه من صور شجر الجنة وقصورها، وكان عمر إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء وأحسن عملها نقده ثلاثين درهما، قالوا: وكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة إلى القبر أربع عشرة أسطوانة منها عشرة في الرحبة وأربع في السقائف الأُوَل التي كانت قبل، وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين، وأدخل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وبقي ثلاث أساطين في السقايف وجعل للمسجد أربع منارات في كل زاوية منارة، وكانت المنارة الرابعة مطلَّة على دار مروان، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن فأطل عليه، فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد.
قالوا: وأمر عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد بأسفل الأساطين، فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها، وقدر مجلس اثنين يستندان إليها، وقالوا: ولما صار عمر إلى جدار القبلة دعا مشايخه من أهل المدينة من قريش والأنصار والموالي والعرب، فقال لهم: تعالوا احضروا بنيان قبلتكم لا تقولوا عمر غير قبلتنا فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع حجرا، قالوا: ومات عثمان بن عفان رضي الله عنه، وليس للمسجد شرافات ولا محراب، فأول من أحدث الشرافات والمحراب عمر بن عبد العزيز، قال: وكتب عمر بن عبد العزيز الكتاب الذي في القبلة عن يمين الداخل من الباب الذي يلي دار مروان بن الحكم حتى انتهى إلى باب علي رضي الله عنه كتبه مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه سعد، والكتاب "أم القرآن" ومن أول سورة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} إلى خاتمة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، وعمل الميازيب من رصاص ولم يبقَ منها إلا ميزابان: أحدهما في موضع الجنائز، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق يقال له باب عاتكة، وعمل المقصورة من ساج، وهدم بيت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدخله في المسجد، وكان ذلك في سنة إحدى وتسعين ومكث في بنيانه ثلاث سنين.
وكتب عمر في القبلة في صحن المسجد في الفسيفساء ما نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أمر عبد الله أمير المؤمنين الوليد بتقوى الله وطاعته والعمل بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وبصلة الرحم وتعظيم ما صغر الجبابرة من حق الله سبحانه وتصغير ما عظموا من الباطل وإحياء ما أماتوا من الحقوق وإماتة ما أحيوا من العدوان والجور وأن يطاع الله سبحانه، ويعصى العباد في طاعة الله فالطاعة لله سبحانه ولأهل طاعته لا طاعة لأحد في معصية الله يدعو إلى كتاب الله سبحانه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإلى العدل في أحكام المسلمين والقسم بالسوية في فيئهم ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله سبحانه بها لذوي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل".(2/436)
قالوا: ولما قدم الوليد بن عبد الملك حاجًّا بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد جعل يطوف فيه وينظر إلى بنائه فقال لعمر حين رأى سقف المقصورة: ألا عملت السقف كله مثل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إذًا تعظم النفقة جدًّا؛ أتدري كم أنفقت على عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال: وكم؟ قال: خمسة وأربعين ألف دينار، وقال بعضهم: أربعين ألف دينار، وقال: والله لكأنك أنفقتها من مالك، وقيل: كانت النفقة أربعين ألف مثقال.
قالوا: وكان معه أبان بن عثمان بن عفان فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان فقال: أين بنياننا من بنيانكم، فقال أبان: بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس، قالوا: وبينا أولئك القوم يعملون في المسجد إذ خلا لهم فقال بعضهم لأبولن على قبر نبيهم فتهيأ لذلك ونهاه أصحابه فلما هم أن يعمل اقتلع وألقي على رأسه فانتثر دماغه فأسلم بعض أولئك النصارى وعمل أحدهم على رأس خمس طاقات من جدار القبلة، وفي صحن المسجد صورة خنزير، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز فأمر به فضربت عنقه، قالوا: وكان عمل القبلة مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من السقف من جوانبه ومؤخره، قال أهل السير: ولما فرغ عمر من بنيان المسجد أراد أن يجعل في أبوابه في كل باب سلسلة تمنع الدواب من الدخول فعمل واحدة وجعلها في باب مروان ثم بدا له عن البواقي، قلت: فهي باقية إلى اليوم، وأقام الحرس فيه يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز فيه، ومن أن يخترقوه، والسنة في الجنائز باقية إلى هذا إلا في حق العلويين ومن أراد من الأمراء وغيرهم من الأعيان، والباقون يصلى عليهم خلف الحائط الشرقي من المسجد إذا وقف الإمام على الجنازة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يمينه.
ذكر زيادة المهدي فيه:
قال أهل السير: لم يزل المسجد على ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولي أبو جعفر المنصور1 فهم بالزيادة وشاور فيها وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز، ويقول: إن زيد في المسجد من الناحية الشرقية توسط قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فكتب إليه أبو جعفر: إني قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه، قالوا: وتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا. ثم حج المهدي2 ابن أبي جعفر سنة إحدى وستين ومائة، فقدم من الحج إلى المدينة واستعمل عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس سنة إحدى وستين ومائة، وأمره
__________
1 ولي أبو جعفر عرش الخلافة العباسية عام 136هـ، وظل خليفة حتى توفي عام 158هـ.
2 ظل في الخلافة من عام 158هـ، حتى عام 169هـ.(2/437)
بالزيادة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان، وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام، فزيد في المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم، وكانت زيادته مائة ذراع ولم يزد فيه من الشرق ولا الغرب ولا القبلة شيئا، ثم خفض المقصورة وكانت مرتفعة ذراعين من الأرض، فوضعها في الأرض على حالها اليوم، وسد على آل عمر خوختهم التي في دار حفصة حتى كثر الكلام فيها، ثم صالحهم على أن خفض المقصورة وزاد في المسجد لتلك الخوخة ثلاث درجات، وحفرت الخوخة حتى صارت تحت أرض المقصورة وجعل عليها في جدار القبلة شباك فهو عليها اليوم، وكان المهدي قبل بنائه المسجد قد أمر به فقدر ما حوله من الدور، فابتيع، وكان مما أدخل فيه من الدور دار عبد الرحمن بن عوف التي يقال لها دار مليكة، ودار شرحبيل ابن حسنة، وبقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء، ودار المسور بن مخرمة الزهري، وفرغ من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة. قالوا: وكتب على أثر الكتاب الذي كتبه عمر بن عبد العزيز في صحن المسجد ما نسخته: "أمر عبد الله المهدي أمير المؤمنين أكرمه الله وأعز نصره بالزيادة في مسجد رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- وإحكام عمله ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة أحسن الله ثوابه بأحسن الثواب والتوسعة لمن صلى فيه من أهله وأبنائه من جميع المسلمين، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين فيما نوى من حسنته في ذلك وأحسن ثوابه، بسم الله الرحمن الرحيم" ثم كتب "أم القرآن" كلها، ثم كتب على أثرها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18] ... الآية كلها ثم كتب: "وكان مبتدأ ما أمر به عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين -أكرمه الله- من الزيادة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنة اثنتين وستين ومائة، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائة، فأمير المؤمنين -أصلحه الله- يحمد الله على ما أذن له واختصه به من عمارة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوسعته حمدا كثيرا، والحمد لله رب العالمين على كل حال".
قالوا: وعرض منقبة جداري المسجد مما يلي المغرب ينقصان شيئا، وعرض منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربع أصابع، وإنما زيد فيها؛ لأنها من ناحية السيل، وفي صحن المسجد أربع وستون بلاعة لماء المطر، عليها أرحا، ولها صمائم من حجارة يدخل الماء من أصعابها، وكان أبو البحتري وهب بن وهب القاضي على المدينة واليًا لهارون أمير المؤمنين، فكشف سقف المسجد في سنة ثلاث وسبعين ومائة، فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأدخل مكانها خشبا صحاحا، وكان ماء المطر يغشى قبلة المسجد فجعل التي في شرقيه تلي القبر فمنع الماء الصحن ومنع حصباء القبلة أن يصل إلى الصحن.(2/438)
ذكر الستارة التي كانت على صحن المسجد:
قال أهل السير: لما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة أمر بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رءوس كقريات الفساطيط وجعلت في الطيقان، فكانت الريح تدخل فيها فلا يزال العمود يسقط على الإنسان فغيرها وأمر بستور هي أكثف من تلك الستور وبحبال، فأتي بها من جدة من حبال السفن المتينة، وجعلت على تشبيك حباله اليوم، وكانت تجعل على الناس كل جمعة فلم يزل كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر بها فقطعت ذرائع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمن هارون أمير المؤمنين1 فأحدث هذه الأستار، ولم تكن في زمن بني أمية.
أنبأنا ذاكر بن كامل عن الحسن بن أحمد بن محمد الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي جعفر الخلدي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني محمد بن الحسن بن زبالة قال: حدثني حسين بن مصعب قال: أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل أن تصل إلى مكة فتنشر على الرضراض في المسجد ثم يخرج بها إلى مكة وذلك في سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين ومائة.
ذكر المصاحف التي كانت بالمسجد:
قال مالك بن أنس: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير وكان في صندوق عن يمين الأسطوان التي عملت على مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يفتح يوم الجمعة والخميس فيقرأ فيه إذا صليت الصبح، وبعث المهدي بمصاحف لها أثمان، فجعلت في صندوق عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت تقرأ عليها، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه فجعل عند الأسطوان التي عن يمين المنبر، وإلى الأسطوان الأخرى التي تليها صندوق آخر فيه مصحف بعث به المهدي؛ ليقرأ فيها الناس على طبقة منبر صحيح، وفي القبلة صندوق لاصق بالمقصورة فيه مصاحف يقرأ الناس فيها تصدقت بها حسنة أم ولد المهدي، ووضع رجل من أهل البصرة يقال له أبو يحيى صندوقا وجمع فيه مصاحف يتعلم فيها الأميون والأعاجم، قلت: وأكثر هذه المصاحف المذكورة دثرت على طول الزمان وتفرقت أوراقها فهو مجموع في يومنا هذا في خلال المقصورة إلى جانب باب مروان، وفي الحرم عدة مصاحف موقوفة، بخطوط ملاح مخزونة في خزانتين من ساج بين يدي المقصورة خلف مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهناك
__________
1 تولى الخلافة من عام 170هـ، حتى عام 193هـ.(2/439)
كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه أنفذ به من مصر وهو عند الأسطوانة التي في صف مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- محاذي الحجرة الشريفة، وإلى جانبه مصحفان على كرسي يقرأ الناس فيهما وليس في المسجد ظاهر سواهما.
ذكر السقايات التي كانت في المسجد:
قال محمد بن الحسن بن زبالة1: كان في صحن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة سقاية إلى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة تسع وتسعين ومائة: منها ثلاثة عشر أحدثتها خالصة وهي أول من أحدث ذلك، ومنها ثلاث سقايات ليزيد البربري مولى أمير المؤمنين، ومنها سقاية لأبي البحتري وهب بن وهب، وسقاية لسحر أم ولد هارون أمير المؤمنين، وسقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر، قلت: وأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه، وفيه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب ينزل الناس إليها بدرج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها يأتي من العين ولا يكون الماء فيها إلا في أيام الموسم إذا جاء الحاج وبقية السنة تكون فارغة عملها بعض أمراء الشام واسمه شامة، وعملت الجهمة أم الخليفة الناصر لدين الله وفقها الله توفيقا سديدا في مؤخر المسجد سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئرا، وفتحت بابا إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام وهي تفتح في أيام الموسم.
ذكر ذرع المسجد اليوم وعدد أساطينه وطبقاته وأبوابه وذكر تجديد عمارته وما وما يتعلق به من الرسوم:
اعلم أن طول المسجد اليوم من قبلته إلى الشام مائتا ذراع وأربع وخمسون ذراعا وأربعة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه مائة ذراع وسبعون ذراعا شافة، وطول رحبته من القبلة إلى الشام مائة ذراع وتسع وخمسون ذراعا وثلاثة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه سبع وتسعون ذراعا راجحة، وطول المسجد في السماء خمس وعشرون ذراعا، هذا ما ذرعته أنا بخيط، وذكر محمد بن زبالة أن طول مناراته خمس وخمسون ذراعا، وعرضهن ثمانية أذرع في ثمانية أذرع، وأما طيقانه ففي القبلة إحدى عشرة طاقة، وفي الشام مثلها، وفي المشرق والمغرب تسع عشرة طاقة وبين كل طاقتين أسطوان، ورءوس الطاقات مسددة بشبابيك من خشب، وأما عدد أساطينه غير التي في الطيقان، ففي القبلة ثمانٍ وستون أسطوانة منها في القبر صلى الله على ساكنه وسلم أربع، وفي الشام مثله، وفي الشرق أربعون منها اثنتان في الحجرة وفي المغرب ستون أسطوانا وبين كل أسطوان وأسطوان
__________
1 لابن زبالة: كتاب في تاريخ المدينة والمسجد النبوي الشريف هو أصل لكل من كتب حول هذا وقد ألفه عام 199هـ.(2/440)
تسعة أذرع وأما أبوابه فكانت بعد زيادة المهدي فيه: في المشرق باب علي رضي الله عنه، ثم باب النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم باب عثمان رضي الله عنه، ثم باب مستقبل دار ريطة، وباب مستقبل دار أسماء بنت الحسن، ثم باب مستقبل دار خالد بن الوليد، ثم باب مستقبل زقاق المصانع، ثم باب مستقبل ابنا الصوافي فذلك ثمانية أبواب: منها باقٍ في يومنا هذا: باب عثمان والباب المقابل لدار ريطة وفي الشام أربعة أبواب: الأول حذاء دار شرحبيل بن حسنة، والرابع حذاء بقية دار عبد الله بن مسعود، وليس منها شيء مفتوح في زماننا هذا، وفي المغرب سبعة أبواب: الخامس منها باب عاتكة والسادس باب زياد والسابع باب مروان، وليس منها شيء مفتوح في يومنا هذا إلا باب عاتكة، ويعرف الآن بباب الرحمة وهو الذي يلي باب الإمارة وفي دار مروان باب إلى المسجد باقٍ على حاله حتى الآن، روى إبراهيم بن محمد عن ربيعة بن عثمان قال: لم يبقَ من الأبواب التي كان رسول الله يدخل منها إلا باب عثمان، واعلم أن حدود مسجد رسول الله من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين، ومن الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد، فهذا طوله وأما عرضه من المشرق إلى المغرب فهو من حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الأسطوان الذي بعد المنبر وهو آخر البلاد. ولم تزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء على المدينة، ويمدونهم بالأموال؛ لتجديد ما يتهدم من المسجد ولم يزل ذلك متصلًا إلى أيام الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين1؛ فإنه ينفذ في كل سنة من الذهب العين الأمامي ألف دينار لأجل عمارة المسجد، وينفذ عدة من النجارين والبنائين والنقاشين والجصاصين والحراقين والحدادين والدوزجاربة والحمالين، ويكون مادتهم ما يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف المذكورة، وينفذ من الحديد والرصاص والأصباغ والحبال والآلات شيئا كثيرا، ولا تزال العمارة متصلة في المسجد ليلًا ونهارًا حتى إنه ليس به إصبع إلا عامرا وينفذ من القناديل والشيرج2 والشمع عدة أحمال لأجل المسجد، وينفذ من الند والغالية المركبة والعود لأجل تجمير المسجد شيئا كثيرا، وأما الرسوم التي تصل من الديوان لغير العمارة فأربعة آلاف دينار من العين الأمامية للصدقات على أهل المدينة من العلويين وغيرهم، وينفذ من الثياب القطن ألف وخمسمائة ذراع لأجل أكفان من يموت من الفقراء الغرباء، هذا غير ما ينفذ للخطيب وإمام الروضة وللمؤذنين وخدام المسجد، وذكر يوسف بن مسلم أن زيت قناديل مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم كان يحمل من الشام حتى انقطع في ولاية جعفر بن سليمان الأخيرة على المدينة، فجعله على سوق المدينة، فلما ولي المدينة داود بن عيسى سنة سبع أو ثمانٍ وتسعين ومائة أخرجه من بيت المال، قلت: وفي يومنا هذا يصل الزيت من مصر من وقف هناك، ومقداره سبعة وعشرون قنطارا بالمصري والقنطار مائة وثلاثون رطلًا، ويصل معه مائة وستون شمعة بيضاء كبار وصغار وعلبة فيها مائة مثقال ند.
__________
1 هو الناصر ابن المستضيء تولى الخلافة عام 576هـ حتى عام 622هـ.
2 هو نوع من أنواع الزيت ويسمى باللغة المصرية العامية "السيرج".(2/441)
الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها
اعلم أن المساجد والمواضع التي صلى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة كثيرة وأساميها في الكتب مذكورة إلا أن أكثرها لا يعرف في يومنا هذا، فذكره لا فائدة فيه هنا، فأما المساجد التي هي اليوم معروفة فهي:
مسجد قباء:
روى البخاري في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه وخرج إلى المدينة.
أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أنبأنا محمد بن أبي منصور، أخبرنا محمد بن أحمد المقري، أنبأنا عبد الملك بن محمد الواعظ، حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسماعيل بن أبي أوس، حدثني أبي عن شرحبيل بن سعد عن عويمر بن ساعدة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأهل قباء: "إن الله تعالى قد أحسن الثناء عليكم في الطهور قال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] إلى آخر الآية، ما هذا الطهور؟ " فقالوا: ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزور قباء راكبا وماشيا، وفي صحيح مسلم أن عبد الله بن عمر كان يأتي قباء في كل سبت ويقول: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتيه كل سبت، وروى أبو عروبة قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي قباء كل يوم الاثنين ويوم الخميس فجاء يوما فلم يجد أحدا من أهله فقال: والذي نفسي بيده لقد رأيتنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر في أصحابه ننقل حجارته على بطوننا ويؤسسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجبريل عليه السلام، وروى البخاري في الصحيح قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين. وروى أبو أمامة ابن سهل بن حنيف عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من توضأ فأسبغ الوضوء وجاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له أجر عمرة"، وروت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال: والله لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي إلى بيت القدس مرتين ولو(2/442)
يعلمون ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل، وروى نافع عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى الأساطين الثلاث في مسجد قباء التي في الرحبة، قلت: لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء في منزل كلثوم بن الهرم، وأخذ مربده1 فأسسه مسجدا، وصلى فيه، ولم يزل ذلك المسجد يزوره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة حياته ويصلي فيه أهل قباء فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه، ولما بنى عمر بن عبد العزيز مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بنى مسجد قباء ووسعه وبناه بالحجارة والجص، وأقام فيه الأساطين من الحجارة داخلها عواميد الحديد والرصاص ونقشه بالفسيفساء وعمل له منارة وسقفه بالساج وجعله أروقة وفي وسطه رحبة وتهدم حتى جدد عمارته جمال الدين الأصبهاني وزير بني زنكي الملوك ببلاد الموصل2.
وذرعت مسجد قباء فكان طوله ثمانية وستين ذراعا تشف قليلا وعرضه كذلك، وارتفاعه في السماء عشرون ذراعا وطول منارته من سطحه إلى رأسها اثنان وعشرون ذراعا، وعلى رأسها قبة طولها نحو العشرة أذرع وعرض المنارة من جهة القبلة عشرة أذرع شافة، ومن المغرب ثمانية أذرع، وفي المسجد تسعة وثلاثون أسطوانا بين كل أسطوانين سبعة أذرع شافة، وفي جدارنه طاقات نافذة إلى خارج في كل جانب ثمان طاقات إلى الجانب الذي يلي الشام، والثامنة فيها المنارة فهي مسدودة والمنارة عن يمين المصلى وهي مربعة.
مسجد الفتح:
أنبأنا حنبل بن عبد الله الرصافي قال: أخبرنا أبو القاسم بن الخضر أخبرنا أبو علي بن المهذب أنبأنا أبو بكر القطيعي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو عامر كثير يعني ابن زيد، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: حدثني جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا في مسجد الفتح يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بعد الصلاتين، فعرف البشر في وجهه، أنبأنا القاسم بن علي أخبرنا هبة الله بن أحمد أخبرنا أبو منصور بن شكرويه أخبرنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا أبو عبد الله المحاملي حدثنا علي بن سالم حدثنا إسماعيل بن أبي فديك عن معاذ بن سعيد السلمي عن أبيه عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بمسجد الفتح الذي على الجبل وقد حضرت صلاة العصر فرقي فصلى فيه صلاة العصر، وروى هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق دعا على الأحزاب في موضع
__________
1 المربد: موضع يجفف فيه التمر "وهو الجرن والجرين والمسطح".
2 وذلك عام 555هـ، وقد جدد أيضا عام 671هـ، وعام 733هـ في عهد الناصر بن قلاوون، وعام 840هـ، وعام 881هـ، وفي عهد السلطان عبد المجيد.(2/443)
الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح الذي على الجبل؛ قلت: وهذا المسجد على رأس جبل يصعد إليه بدرج، وقد عمر عمارة جديدة وعن يمينه في الوادي نخل كثير، ويعرف ذلك الموضع بالسيح ومساجد حوله وهي ثلاثة قبلة الأول منها خراب قد هدم وأخذت حجارته، والآخران معموران بالحجارة والجص، وهما في الوادي عند النخل، وروى معاذ بن سعد أن رسول الله عليه السلام صلى في مسجد الفتح في الجبل وفي المساجد التي حوله1.
مسجد القبلتين:
روى عثمان بن محمد الأحبشي قال: زار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة من بني سلمة يقال لها: أم بشير في بني سلمة، فصنعت له طعاما، فجاء الظهر فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه في مسجد القبلتين الظهر فلما صلى ركعتين أمر أن يتوجه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وكانت يومئذ أربع ركعات منها ثنتان إلى بيت المقدس وثنتان إلى الكعبة، وقال سعيد بن المسيب2: صرفت القبلة قبل بدر بشهرين، والثابت عندنا أنها صرفت في الظهر في المسجد، قلت: وهذا المسجد بعيد من المدينة قريب من بئر رومة وقد انهدم وأخذت حجارته وبقيت آثاره وموضعه يعرف بالقاع3.
مسجد الفضيخ 4:
روي عن هشام بن عروة والحارث بن فضيل أنهما قالا: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجد الفضيخ5، قلت: وهذا المسجد قريب من قباء ويعرف بمسجد الشمس وهو حجارة مبنية على نشز من الأرض.
مسجد بني قريظة 6:
روى علي بن رفاعة عن أشياخ من قومه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيت امرأة فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة وهو المكان الذي صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ببني قريظة،
__________
1 يقع مسجد الفتح في شمال المدينة الغربي في جبل يقال له سلع، ويسمى أيضا: مسجد الأحزاب، والمسجد الأعلى، وهو في المكان الذي قام فيه الرسول يدعو على الأحزاب في غزوة الخندق، فاستجاب الله دعاءه، وهزم الأحزاب، وقد عمره عمر بن عبد العزيز، ثم جدد عام 575هـ بأمر أمير مصر.
2 من كبار التابعين بالمدينة توفي عام 110هـ.
3 جدد بناؤه عام 893هـ في عهد المماليك، وعام 950هـ في عهد السلطان سليمان العثماني.
4 هو شرقي مسجد قباء.
5 وذلك في مدة حصاره لبني النضير.
6 يقع شرقي مسجد الفضيخ، وقد جدده الشجاعي شاهين الجمالي شيخ المسجد النبوي سنة 893هـ.(2/444)
قلت: وهذا المسجد اليوم باقي بالعوالي وهو كبير طوله نحو عشرين ذراعا وعرضه كذلك، وفيه ست عشر أسطوانة قد سقط بعضها وهو بلا سقف وحيطانه مهدومة، وقد كان مبنيا على شكل بناء مسجد قباء وحوله بساتين ومزارع ومشربة أم إبراهيم ابن النبي عليه السلام، وهذا الموضع بالعوالي من المدينة بين النخل وهو أكمة قد حوط عليها بلبن والمشربة والبستان، وأظنه قد كان بستانا لمارية القبطية أم إبراهيم النبي -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم ...
واعلم أن بالمدينة عدة مساجد خراب فيها المحاريب وبقايا الأساطين وتنقض وتؤخذ حجارتها فتعمر بها الدور، منها: مسجد بقباء قريب من مسجد الضرار فيه أسطوانات قائمة ومسجدان قريبان من البقيع أحدهما يعرف بمسجد الإجابة، وفيه أسطوانات قائمة ومحراب مليح وباقيه خراب، وآخر يعرف بمسجد البغلة فيه أسطوانة واحدة وهو خراب، وحوله يسير من الحجارة فيه أثر يقولون إنه أثر حافري بغلة النبي -صلى الله عليه وسلم- فتستحب الصلاة في هذه المواضع وإن لم يعرف أساميها لأن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو واليه على المدينة: مهما صح عندك من المواضع التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فابن عليه مسجدًا فهذه الآثار كلها آثار بناء عمر بن عبد العزيز.(2/445)
الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهده
...
الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه
هذه المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء فكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستهزئون به، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلًا: حرام بن خالد، ومن داره أخرجه،، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع، وزيد،، ونفيل بن الحارث، ومحدج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت؛ فلما بنوه أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: "إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه"، فلما نزل رسول الله "بذي أوان"، وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ومرجعه من تبوك أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مالك بن الدخسم ومعن بن عدي أو أخاه عاصما، فقال: "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأهِدَّاه وحرقاه"، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، فأخذا سعفا من النخل، وأشعلا فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرق أهله عنه ونزل فيه من القرآن ما نزل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} إلى آخر القصة.
قلت: وهذا المسجد قريب من مسجد قباء وهو كبير وحيطانه عالية، وتؤخذ منه الحجارة وقد كان بناؤه متينا.(2/445)
الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما
روي عن أبي مويهبة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه؛ فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم أقبل علي وقال: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيخ خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي الجنة قال: فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه.
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول وارأساه فقال: "بل والله يا عائشة وارأساه"؛ فقال: "وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك"، قالت: قلت: لكأني بك قد فعلت ذلك، ثم رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى اشتد به وجعه وهو في بيت ميمونة فدعا نساءه وكن تسعا: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وزينب وميمونة وجويرية وصفية فاستأذنهن على أن يمرض في بيت عائشة فأذن له فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي بين العباس وعلي رضي الله عنهما عاصبا رأسه تخط قدماه الأرض حتى دخل بيت عائشة ثم حم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه فقال: "هريقوا علي من من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم" فأقعدوه -صلى الله عليه وسلم- في مخضب وصبوا عليه الماء وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلى على أصحاب أحد واستغفر لهم وأكثر الصلاة عليهم ثم قال: "إن عبدًا من عباد الله خيره الله عز وجل بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عنده" قال: ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه يريد وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، ثم قال رسول الله عليه السلام: "يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي آويت إليها فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" ثم نزل فدخل بيته وتتام به وجعه، وروى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت أحدا الوجع عليه أشد من رسول الله.
وفيه أيضا من حديث عبد الله بن مسعود قال: دخلت على النبي وهو يوعك فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا قال: "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان(2/446)
منكم"، ولما اشتد به وجعه -صلى الله عليه وسلم- جاءه بلال يؤذنه بصلاة الفجر من يوم الاثنين، قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"؛ فلما تقدم أبو بكر يصلي بالناس وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خفة فخرج على الناس قال أنس: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وقام على باب عائشة فكان المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه فرحا به وتفرجوا؛ فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم قال: وتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرورا لما رأى من هيئتهم في صلاتهم وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن هيئة منه تلك الساعة، قال أبو بكر بن أبي مليكة: فلما تفرج الناس عرف أبو بكر أنهم لم يفعلوا ذلك إلا لرسول الله فنكص عن مصلاه فدفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طهره وقال: "صل بالناس" وجلس الرسول إلى جانبه فصلى قاعدا عن يمين أبي بكر فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول: "يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإني والله ما تمسكون علي بشيء إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن"؛ فلما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من كلامه قال له أبو بكر: يا نبي الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قال: نعم قال: ثم دخل عليه السلام وخرج أبو بكر إلى أهله بالسيح وخرج يومئذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الناس من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، قال: فأخذ العباس بيده، وقال: يا علي أحلف بالله لقد رأيت الموت في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب.
وفي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء؛ فبكت ثم دعاها فسارها فضحكت فسألتها عن ذلك فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه فبكيت ثم سارني أني أول أهله لحوقا به فضحكت، وفيه من حديثها أيضا أنها قالت: إن من نعم الله علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في بيت وفي يومي وبين سحري ونحري وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وأنا مسندة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صدري ومعه سواك رطب يستن به؛ فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت آخذه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته وطيبته ثم دفعته إليه فاستن به فما رأيت النبي عليه السلام استن استنانا قط أحسن منه وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات" ثم نصب يديه فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير؛ فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على(2/447)
فخذي غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحوه سقف البيت ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى"؛ فقلت: إذا لا يختارنا فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح.
وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله عليه السلام وأصغيت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلى ظهره يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى"، ولما تغشاه الموت قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه، قال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم"، قالت عائشة: وثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجري فنظرت في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: "بل الفريق الأعلى في الجنة"، وقبض -صلى الله عليه وسلم، قالت: فوضعت رأسه على وسادة وقمت أندب مع النساء أضرب وجهي وقالت فاطمة رضي الله عنها تندبه: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، وقال جبريل للنبي عند موته: يا أحمد هذا آخر وطئي في الأرض ولا أنزل إليها أبدا بعد إنما كانت حاجتي من الدنيا، وكانت وفاته -صلى الله عليه وسلم- حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة عن ثلاث وستين سنة من عمره وكمل بالمدينة من يوم دخلها إلى يوم مات عشر سنين كوامل مبلغا لرسالات الله مجاهدا لأعدائه. ولما توفي رسول الله قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله ما مات؛ ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى فإنه غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ووالله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات، قالوا: وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسيح فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله وهو مسجى بثوب حبرة فشكف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي وأمي أنت والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها، ثم لن يصيبك بعدها موتى أبدا ثم رد البرد على وجهه وخرج عمر بن الخطاب يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلا أن يتكلم؛ فلما رآه أبو بكر لا ينصب أقبل على الناس؛ فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال: ثم تلا هذه الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ قال: وأخذها الناس عن أبي بكر فهي في
أفواههم قال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله قد مات، ولما مات رسول الله قالوا: والله لا يدفن، ومات مات وإنه ليوحى إليه فأخروه حتى أصبحوا من يوم الثلاثاء وقال العباس: إنه قد مات(2/448)
وإني لأعرف منه موت بني عبد المطلب وقال القاسم بن محمد ما دفن رسول الله حتى عرف الموت في أظفاره قالت عائشة رضي الله عنها ما أرادوا غسل رسول الله اختلفوا فقالوا: والله ما ندري أيجرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما نجرد موتانا؟ أو نغسله وعليه ثيابه، قالت: فلما اختلفوا ألقى عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه قالت: فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص دون أيديهم وغسله علي رضي الله عنه أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابناه الفضل وقثم يقلبونه معه وأسامة بن زيد وشقران مولى النبي يصبان الماء عليه وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا ولم يرد من رسول الله شيء مما يرى من الميت فلما فرغوا من غسله كفن.
روى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنه أنها قالت: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالا -أي جماعات: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله أحد.
واختلفوا في دفنه فأنبأنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو الحسن الفقيه، أخبرنا علي بن أحمد البندار، أنبأنا عبيد الله بن محمد العكبري، حدثنا أبو عبد الله بن مخلد، حدثنا علي بن سهل بن المغيرة، حدثنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في موضع قبره فقال قائل: بالبقيع فإنه كان يكثر الاستغفار لهم وقال قائل: منهم عند منبره وقال قائل: منهم في مصلاه فجاء أبو بكر رضي الله عنه فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما سمعت رسول الله يقول: "ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي". أخبرنا الحسن بن محمد الواعظ، أنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبي أن أصحاب النبي لم يدروا أين يقبرون رسول الله حتى قال أبو بكر رضي الله عنه فأخروا فراشه وحفروا له تحت فراشه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله عليه السلام وكان أبو عبيدة يضرح حفر أهل مكة وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة؛ فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة وللآخر اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسولك؛ فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله ثم دفن رسول الله من وسط الليل ليلة الأربعاء وكان الذين نزلوا قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابن العباس، وشقران مولى رسول الله وبنى على لحده(2/449)
تسع لبنات نصبن نصبا، وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رش على قبره وجعل عليه حصباء حمراء من حصباء العرصة ورفع قدر شبرين من الأرض، وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر النبي مسنما.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك أنه قال: لما دفن النبي قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ أنبأنا أبو جعفر الواسطي، عن أبي طالب، عن ابن يوسف، أخبرنا أبو الحسن بن الأبنوسي، عن عمر بن شاهين، أخبرنا محمد بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد الكاتب، حدثني طاهر بن يحيى، حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما رمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينها وبكت وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت على مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا
روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: ما رأيت فاطمة رضي الله عنها بعد أبيها ضاحكة ومكثت بعده ستة أشهر.
وروى حجاج بن عثمان عن أبيه قال: رأيتهم اجتمعوا يوم مات النبي على أكمة فجعلوا يبكون عليه.
وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح رسول الله في هذين.
وروى أنس من حديث عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، أنبأنا يحيى بن أسعد بن بوش عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخلدي، أنبأنا يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثني غير واحد، منهم عبد العزيز بن أبي حازم ونوفل بن عمارة قالوا: إن عائشة رضي الله عنها كانت تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطنبة بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فترسل إليهم أن لا تؤذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقيا لذلك، وروي أن بعض نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- دعت نجارا يغلق ضبة لها، وأن النجار ضرب المسمار في الضبة ضربا شديدا فصاحت عائشة بالنجار وكلمته كلاما شديدا وقالت: ألم تعلم أن حرمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميتا كحرمته إذا كان كان حيا قالت الأخرى: وماذا سمع من هذا قالت عائشة رضي الله عنها:(2/450)
إنه ليؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت هذا الضرب كما لو كان يؤذيه حيا صلى الله عليه وسلم تسليما.
ذكر وفاة أبي بكر رضي الله عنه:
ذكر محمد بن جرير الطبري بإسناد له أن اليهود سمت أبا بكر في أرزه، ويقال في خزيرة وتناول معه الحارث بن كلدة منها ثم كف وقال لأبي بكر: أكلت طعاما مسموما؛ فسم لسنته فمات بعد سنة ومرض خمسة عشر يوما فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآني، قالوا: فما قالك لك؟ قال: قال إني أفعل ما أشاء، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدا أبو بكر رضي الله عنه أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة وكان يوما باراد فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة وكان يأمر عمر بن الخطاب يصلي بالناس ويدخل عليه الناس يعودونه وهو يثقل كل يوم وهو يومئذ نازل في داره التي قطعها له رسول الله وجاه دار عثمان بن عفان، قال أهل السير كان ينزل أبو بكر بالسيح عند زوجته بنت خارجة بن زيد وأقام بالسيح بعدما بويع له بالخلافة ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة وربما ركب على فرس له وعليه إزار ورداء فيوافي المدينة؛ فيصلي الصلاة بالناس فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسيح؛ فكان إذا حضر صلى وإن لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب، وكان تاجرا يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج بالغنم لرعيها وربما كفيها ورعيت له، وكان يحلب للحي أغنامه؛ فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال بل لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ربي أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه؛ فكان يحلب لهم ثم نزل المدينة فأقام بها ونظر في أمره فقال والله ما يصلح أمر الناس والتجارة وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ولا بد لعيالي مما يصلحهم فترك التجارة واستنفق من بيت مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر، وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم؛ فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما علي من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا وإن أرضى التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم؛ فدفع ذلك إلى عمر فقال عمر: لقد أتعب من بعده.
روى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله؟ قالت: يوم الاثنين قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليلة؛ فنظرت إلى ثوب عليه كما يمرض فيه به ردغ من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين(2/451)
وكفنوني فيها قلت: إن هذا لخلق قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت؛ فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل الصبح، وكان آخر ما تكلم به أبو بكر رضي الله عنه: رب توفني مسلما وألحقني بالصالحين، وتوفي بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال وكان عمره ثلاثا وستين سنة وغسلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية منه وابنه عبد الرحمن يصب عليه الماء، وكفن وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاء المنبر ودفن ليلة الثلاثاء إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألصقوا لحده بلحده ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن ابنه رضي الله عنهم وكان أبوه قحافة حيا بمكة؛ فلما نعي إليه قال: رزء جليل، وعاش بعده ستة أشهر وأياما، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة وهو ابن سبع وتسعين سنة رضي الله عنهما.
ذكر وفاة عمر رضي الله عنه:
روى أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده من حديث معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام يوم الجمعة خطيبا؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر رضي الله عنه، ثم قال: أيها الناس إني قد رأيت رؤيا كأن ديكا أحمر نقرني نقرتين ولا أدري ذلك إلا لحضور أجلي، وإن ناسا يأمرون أن أستخلف وإن الله لم يكن يضيع دينه وخلافته والذي بعث به نبيه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الرهط الستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض فأيهم بايعوا فاسمعوا له وأطيعوا وذكر كلاما طويلا قال: فخطب بها عمر يوم الجمعة وأصيب يوم الأربعاء.
وروى البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس حذاءه غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف والنحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس؛ فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلبي حين طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة وصار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا وشمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة؛ فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح علينا برنسا؛ فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه؛ فمن يلي عمر قد رأى الذي رأى وأما أواخر المسجد فإنهم لا يدرون؛ غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصانع؟ قال: نعم قال: قاتله الله لقد أمرت به(2/452)
معروفا، وقال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل يدعي الإسلام واحتمل إلى بيته؛ فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل ذلك فقائل يقول: لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه فعرفوا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه وجاء شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك في صحبة رسول الله وقدمك في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم الشهادة قال: وددت أن ذلك كان كفافا لا علي ولا ولي؛ فلما أدبر رأى رداءه يمس الأرض قال: ردوا على الغلام، قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى لثوبك يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجوده ستة وثمانين ألفا أو نحوه قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فاسأل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم انطلق إلى عائشة أم المؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عليك السلام عمر بن الخطاب ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت فقال: الحمد لله ما كان أهم إلي من ذلك فإذا أنا قبضت فاحملوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء معه فلما رأينها قمن فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلا، فسمعنا بكاءها من داخل فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف قال: ما أجد أحدا أولى وأحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض؛ فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وقال: اشهد يا عبد الله بن عمر ليس لك من الأمر شيء وأوص الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل أن محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا؛ فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو ولا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا؛ فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يأخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم؛ فلما قبض رضي الله عنه خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر، وقال: يستأذن عمر بن الخطاب قالت: أدخلوه فأدخل موضعا هناك مع صاحبيه قلت: وباع عبد الله بن عمر دارا لعمر بن الخطاب ومالا له بالغابة ثم قضى دين أبيه وكانت وفاته رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث(2/453)
وعشرين من الهجرة، وكانت خلافته عشر سنين كوامل وستة أشهر وأربعة أيام، وكان سنة ثلاثا وستين سنة وصلى عليه صهيب وجاه المنبر ودفن مع النبي.
وروى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس أنه قال: وضع عمر على سريره فكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع -وأنا فيهم- فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي؛ فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فترحم على عمر وقال: ما خلت أحدا أحب أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كنت أسمع كثيرا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"، وروي أن عائشة رضي الله عنها لما دفن عمر رضي الله عنه لبست ثيابها الدرع والخمار والإزار، وقالت: إنما كان أبي وزوجي؛ فلما دخل معهما غيرهما لزمت ثيابي.
وأخبرني يحيى بن أبي الفضل السعدي قال: أخبرنا أبو محمد الفقيه قال: أخبرنا أبو الحسن الشافعي قال: أخبرنا أبو عبد الله بن النبهاني أخبرنا أبو العباس الرازي أخبرنا أبو الزنباع، حدثنا عمر بن خالد، حدثنا أبو بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يخبر، عن عائشة رضي الله عنها أنها رأت في المنام أنه سقط في حجرها أو بحجرتها ثلاثة أقمار؛ فذكرت ذلك لأبي بكر فقال: خير.
قال يحيى بن سعيد؛ فسمعت بعد ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما توفي فدفن في بيتها قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك يا بنيه وهو خيرها، أنبأنا أبو القاسم الصموت عن الحسن بن أحمد، عن أحمد بن عبد الله عن جعفر بن محمد أخبرنا أبو زيد، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد عن أنيس بن أبي يحيى قال: لقي رسول الله جنازة في بعض سكك المدينة فسأل عنها فقالوا: فلان الحبشي فقال رسول الله: سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها. قلت: فعلى هذا طينة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي خلق منها من المدينة وطينة أبي بكر وعمر من طينة النبي وهذه منزلة رفيعة، وروي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فأطلعت على قبر النبي وقبر أبي بكر وعمر فرأيت عليها حصباء حمراء.
وروي عن هارون بن موسى العروبي قال: سمعت جدي أبا علقمة يسأل: كيف كان الناس يسلمون على النبي قبل أن يدخل البيت في المسجد؟ فقال: كان الناس يقفون على باب البيت يسلمون وكان الباب ليس عليه غلق حتى هلكت عائشة رضي الله عنها، قال أهل السير: وكان الناس يأخذون من تراب قبر النبي؛ فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما زلت أضع خماري وأنفصل عن ثيابي حتى دفن عمر؛ فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا قلت:(2/454)
وقبر النبي وقبر صاحبيه في صفة بيت عائشة رضي الله عنها، قال أهل السير: وفي البيت موضع قبر في الجهة الشرقية قال سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى ابن مريم عليه السلام، وروى عبد الله بن سلام، عن أبيه عن جده قال: يدفن عيسى ابن مريم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما ويكون قبره الرابع، واختلف الرواة في صفة قبورهم؛ فأخبرنا أبو القاسم بن كامل إذنا عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الأصبهاني عن أبي محمد الخلدي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا إسحاق بن عيسى عن عثمان بن نسطاطس قال: رأيت قبر النبي لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعا نحو من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة مائلة، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبر النبي ورأيت قبر عمر أسفل منه وصورة لنا هكذا:(2/455)
وبالإسناد المتقدم حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن إسماعيل عن عمرو بن عثمان بن هانئ عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أماه أريني قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضوان الله عليهما؛ فكشفت لي عن قبورهم فإذا هي لا مرتفعة ولا واطية مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة، وإذا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمامهما، ورجلا أبي بكر عند رأس النبي -صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند رجلي أبي بكر، وصفة ذلك كما يأتي:
قلت: ذكر أهل السير أن جدار حجرة النبي الذي يلي موضع الجنائز سقط في زمان عمر بن عبد العزيز فانهارت القبور الشريفة؛ فما رؤي بكاء في يوم مثل ذلك اليوم فأمر عمر بقباطي فخيطت ثم ستر الموضع بها، وأمر ابن ورد أن يكشف عن الأساس؛ فبينما هو يكشف إذ رفع يده وتنحى فقام عمر بن عبد العزيز فزعا؛ فرأى قدمين وراء الأساس وعليهما الشعر؛ فقال عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وكان حاضرا: أيها الأمير لا يروعنك فهما قدما جدي عمر بن الخطاب ضاف البيت عنه فحفر له في الأساس فقال يا ابن ورد أن غط ما رأيت، ففعل.(2/456)
وروى البخاري في الصحيح من حديث هشام بن عمرو عن أبيه قال: لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنيانه فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي، وما هي إلا قدم عمر، قالوا: وأمر عمر أبا حفصة مولى عائشة وناسا معه فتبوءوا الجدار وجعلوا فيه كوة؛ فلما فرعوا منه ورفعوه دخل مزاحم مولى عمر؛ فرفع ما سقط على القبر من التراب والطين ونزع القباطي. قالوا: وباب البيت الذي دفنوا فيه شامي، قلت: وبنى عمر بن عبد العزيز على حجرة النبي حاجزا من سقف المسجد إلى الأرض وصارت الحجرة في وسطه وهو على دورنها.
ولما ولي المتوكل الخلافة أمر إسحاق بن سلمة، وكان على عمارة مكة والمدينة من قبله بأن يأزر الحجرة بالرخام من حولها؛ ففعل ذلك وبقي الرخام عليها إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من خلافة المقتفي، فجدد تأزيرها جمال الدين وزير بني زنكي وجعل الرخام حولها قامة وبسطة وجعل لها شباكا من خشب الصندل والأبنوس وأداره حولها مما يلي السقف، قيل: إن أبا الغنايم النجار البغدادي عمله أروانكا، وفي دورانه مكتوب على أقطاع الخشب إلا روانك سورة الإخلاص صنعة بديعة ولم تزل الحجرة على ذلك حتى عمل لها الحسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة ديبقية بيضاء وعليها الطرز والجامات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر وخيطها، وأدار عليها زنارا من الحرير الأحمر والزنار مكتوب عليه سورة يس بأسرها، قيل: إنه غرم على هذه الستارة مبلغا عظيما من المال، وأراد تعليقها على الحجرة فمنعه قاسم بن مهنا الأمير على المدينة وقال: حتى يستأذن الإمام المستضيء1 بأمر الله فبعث إلى العراق يستأذن في تعليقها فجاء الإذن في ذلك فعلقها نحو العامين ثم جاءت من الخليفة ستارة من الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة وعلى دوران جاماتها مكتوب بالرقم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: وعلى ظاهرها اسم الإمام المستضيء بأمر الله فرفعت تلك وأنفذت إلى مشهد علي بن أبي طالب بالكوفة فعلقت هذه عوضها؛ فلما ولي الإمام الناصر لدين الله2 أرسل ستارة أخرى من الإبريسم الأسود أيضا على شكل المذكورة؛ فأنفذتها فعلقت عليها حتى يومنا هذا على الحجرة ثلاث ستائر بعضهن على بعض. وفي سقف المسجد -الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا- معلق نيف وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة
__________
1 تولى الخلافة من عام 566 حتى عام 576هـ في بغداد.
2 هو ابن المستضيء، ولي الخلافة العباسية مدة طويلة 576-622هـ.(2/457)
والساذجة، وفيها اثنان من البلور وواحد ذهب، وفيها قصر من فضة مغموس في الذهب، وهذه تنفذ من البلدان من الملوك وأرباب الحشمة والأموال، واعلم أن حجرة النبي عليها ثوب مشمع مثل الخيمة وفوقه سقف المسجد وفيه خوخة عليها ممرق مقفل وفوق الخوخة في سقف السطح خوخة أخرى فوق تلك الخوخة، وعليها ممرق مقفول أيضا وحولها في سطح المسجد حظيرة مبنية بالآجر وبين سقف المسجد وبين سقف السطح فراغ نحو الذراعين وعليه شبابيك حديد ترمي الضوء منها إذا أرادوا الدخول إلى هناك لأجل تعليق سلاسل القناديل وحبال الأبارير لأجل العمارة في المسجد وهذه صفة الحاجز الذي بناه عمر بن عبد العزيز والحجرة في وسطه ومن الحجرة إلى المقصورة تسعة عشرا ذراعا ومن الركن الغربي إلى المسمار الفضة الذي هو مقابل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسة أذرع.(2/458)
واعلم أنه في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سمعوا صوت هدة في الحجرة، وكان الأمير قاسم بن مهنا الحسيني فأخبروه بالحال؛ فقال: ينبغي أن ينزل شخص إلى هناك لينظر ما هذه الهدة وافتكروا في شخص يصلح لذلك؛ فلم يجدوا إلا عمر النساي1 شيخ من شيوخ الصوفية بالموصل، وكان مجاورا بالمدينة؛ فذكروا ذلك له؛ فذكر أن به فتقا والريح والبول تحوجه إلى الغائط مرارا فألزموه فقال: أمهلوني حتى أروض نفسي، وقيل إنه امتنع من الأكل والشرب وسأل الله إمساك المرض بناه عمر ودخل منه إلى الحجرة ومعه شمعة يستضيء بها فرأى شيئا من طين الثقف قد وقع على القبور فأزاله وكنس التراب بلحيته، وقيل إنه كان مليح الشيبة وأمسك عز وجل ذلك الداء بقدر ما خرج من الموضع، وعاد إليه وهذا ما سمعته من أفواه جماعة، والله أعلم بحقيقة الحال في ذلك، وفي شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في أيام قاسم أيضا وجد من الحجرة رائحة منكرة وكثر ذلك حتى ذكروه للأمير؛ فأمرهم بالنزول إلى هناك فنزل بيان الأسود الخصي أحد خدم الحجرة الشريفة، ومعه الصفي الموصلي متولى عمارة المسجد ونزل معهما هارون الشاوي الصوفي بعد أن سأل الأمير في ذلك في الحاجز بين الحجر والمسجد، وكان نزولهم يوم السبت الحادي عشر من ربيع الآخر، ومن ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم ينزل أحد إلى هناك2.
__________
1 وفي وفاء الوفاء وخلاصة الوفا: النساء والصحيح ما هنا. وقد توفي عام 656هـ.
2 وفي عهد الأشرف قايتباري رئي احتياج المسجد النبوي إلى العمارة؛ وذلك عام 881هـ. ففعل ذلك وجدد رخام الحجرة الشريفة وجدد الكثير من بنائها وكان ختم هذا البناء في يوم الخميس سابع شوال عام 881هـ "216-220 خلاصة الوفا". وقد أقام من قبل الملك العادل نور الدين الشهيد خندقا مملوءا من الرصاص حول الحجرة الشريفة؛ وذلك عام 557هـ. هذا وقد احترق المسجد النبوي أول ليلة الجمعة أول رمضان عام 654هـ، ولم يسلم من الحريق سوى القبة التي أحدثها الخليفة الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم النبوي عام 576هـ، ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة على سقف بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة؛ فكتبوا للخليفة المستعصم وابتدئ بالعمارة عام 655هـ، وشارك فيها صاحب مصر المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك الصالحي وصاحب اليمن المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول، ثم لما عزل ملك مصر عام 657هـ، وتولى مكانه المظفر قطز المعزى، ولما قتل عام 658 تولى مكانه بيبرس وشارك هؤلاء جميعا في العمارة الشريفة، ولم يظل المسجد على هذه العمارة الجديدة؛ حتى جدد السقف الغربي والسقف الشرقي في أوائل دولة الناصر محمد بن قلاوون الصالحي؛ فجعلا سقفا واحدا؛ وذلك في سنتي خمس وست وسبعمائة، ثم أمر الناصر عام 729هـ بزيادة رواقين متصلين بمؤخر السقف القبلي فاتسع سقفه بهما وعم نفعه؛ إذ صار فيه سبعة أروقة وكان عددها خمسة كالشمالي، ثم حصل في هذين الرواقين خلل فجددهما الأشرف برسباي عام=(2/459)
الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم
أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الصوفي، أخبرنا أبو محمد الفقيه، أخبرنا أبو الحسن المصري، أنبأنا أبو النعمان العسقلاني، حدثنا أبو الحسن الدارقطني، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا محمد العبادي، حدثنا مسلمة بن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من جاءني زائرا لم يرم حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون شفيعا له يوم القيامة".
وبالإسناد حدثنا الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن محمد الوراق، حدثنا موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمرو عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" 1.
أنبأنا سعيد بن أبي سعيد النيسابوري، أنبأنا إبراهيم بن محمد المؤدب، أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنا محمد بن محمد بن مقاتل، حدثنا جعفر بن هارون، حدثنا إسماعيل بن المهدي عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زارني ميتا فكأنما زارني حيا، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر".
وروي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من لم يزر قبري فقد جفاني".
أنبأنا عبد الرحمن بن علي، أنبأنا أبو الفضل الحافظ عن أبي علي الفقيه، أنبأنا أبو القاسم الأزهري، أنبأنا القاسم بن الحسن، حدثنا الحسن بن الطيب، حدثنا علي بن
__________
=831هـ، على يد مقبل القديدي. وجدد الشرف أيضا شيئا من السقف الشامي مما يلي المنارة السنجارية، ثم جدد الظاهر جقمق كثيرا من سقف مقدم المسجد من الروضة وغيرها وذلك عام 853هـ، ثم جدد الأشرف قايتباي جانبا من السقف الشرقي بعد هدم عقوده التي تلي صحن المسجد، ثم أعيد ذلك عام 879هـ و 881هـ. ثم احترق المسجد النبوي ثانيا في ليلة 13 رمضان 886هـ بسبب صاعقة، ولم يصل إلى جوف الحجرة الشريفة شيء من هدم هذا الحريق وسلمت الأساطين الملاصقة للحجرة الشريفة واحترق المنبر والمقصورة التي كانت حول الحجرة الشريفة وسقطت أكثر عقود المسجد وأساطينه؛ فأخذ قايتباي في عمارة المسجد النبوي وجدد تجديدا كاملا وهدمت المنارة وأحكم بناؤها وهدمت أعالي القبة وأعيدت على ما كانت عليه وتم ذلك كله عام 891هـ. وفي صفر عام 898هـ سقطت صاعقة ثانية على المنارة الرئيسية فأسقطت قبتها وجانبا كبير من دورها الأول الذي يقوم عليه المؤذن؛ فأعيد ذلك كله بأمر الأشرف قايتباي.
1 هو لابن عدي في الكامل، وللبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.(2/460)
حجر، حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني" 1.
أنبأنا أبو أحمد الكاتب، أنبأنا أبو بكر الأنصاري، أنبأنا أبو محمد الجوهري، أنبأنا أبو بكر بن الشخير، حدثنا أحمد بن محمد بن العباس، حدثنا أحمد بن علي الحراني، حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي، حدثنا محمد بن مروان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من صلى على قبري سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته" 2، أنبأنا أبو الحسن الشافعي، أنبأنا أبو محمد الفقيه، أنبأنا علي بن الحسين، أنبأنا الحسين بن محمد، حدثنا إسماعيل بن يعقوب، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا مدد، حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني عبد الله بن السائب عن زادان عن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله عز وجل سياحين يبلغوني عن أمتي السلام".
أخبرنا أبو طاهر الصوفي، أنبأنا القاسم بن الحصين، أنبأنا أبو علي بن المذهب، أنبأنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة حدثني أبو صخران يزيد بن عبد الله بن قسيط أخبره عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" 3.
أنبأنا يحيى بن بوش عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم عن جعفر الخلدي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد عن محمد بن زيد المهاجر عن المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن عيسى ابن مريم مار بالمدينة حاجا أو معتمرا ولئن سلم علي لأردن عليه".
أنبأنا يحيى بن الحسين المقبري، أخبرنا المبارك بن الحسن العطار، أنبأنا أبو بكر الخياط، أنبأنا أبو عمر العلاف، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن الحسين، أخبرنا قتيبة، حدثنا ليث بن سعد عن خالد بن وهب أن كعب الأحبار قال: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا استوى عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يزفونه -صلى الله عليه وسلم.
__________
1 هو للطبراني في الكبير، وللبيهقي في السنن عن ابن عمر.
2 هو للبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة وهو ضعيف.
3 هو لأبي داود عن أبي هريرة وهو ضعيف.(2/461)
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يرد البريد من الشام يقول: سلم لي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أنبأنا يحيى بن الحسين الأواني، أنبأنا أبو الكرم الشهروزي، أنبأنا أبو بكر بن الخيايط، أنبأنا أبو عمر بن دوست حدثنا الحسين بن صفوان حدثنا ابن أبي الدنيا، أخبرنا سعيد بن عثمان الجرجاني، أنبأنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال: سمعت بعض من أدركت يقول بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فتلا هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] ، وقال صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان لم تسقط لك حاجة.
وبالإسناد حدثنا ابن فديك قال: أخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول: من أحب أن يقوم وجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه. وروى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أنه كان إذا جاء يسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عند الأسطوانة التي مما يلي الروضة؛ فسلم ثم يقول: هاهنا رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قلت: واليوم هناك علامة واضحة وهي مسمار من فضة في حائط حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قابله الإنسان كان القنديل على رأسه فيقابل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسلم عليه، ثم يتقدم عن يمينه قليلا ويسلم على أبي بكر رضي الله عنه، ثم يتقدم قليلا فيسلم على عمر، ثم يعود ويجعل الحجرة على يساره ويستقبل القبلة ويدعو الله تعالى بما أحب.
أنبأنا أبو الفرج بن علي الفقيه، أنبأنا عمر بن ظفر، أنبأنا جعفر بن أحمد، أنبأنا عبد العزيز بن علي، حدثنا أبو الحسن الهمداين، حدثني محمد بن حبان قال: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: حججت في بعض السنين؛ فجئت المدينة فتدقمت إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه فسمعت من داخل الحجرة وعليك السلام، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في كتابه، أخبرنا أبو الفرج بن أحمد، أخبرنا أحمد بن نصير، أخبرنا محمد بن القاسم سمعت علي بن غالب الصوفي، يقول: سمعت إبراهيم بن محمد المذكي يقول: سمعت أبا الحسن الفقيه يحكي عن الحسن بن محمد عن ابن فضيل النحوي عن محمد بن روح عن محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير المرسلين إن الله عز وجل أنزل كتابا عليك صادقا قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وإني جئتك مستغفرا إلى ربي من ذنوبي مستشفعا بك ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم(2/462)
أنت النبي الذي ترجى شفاعته ... عند الصراط إذا ما زلت القدم1
ثم استغفر وانصرف؛ فرقدت فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: الحق بالرجل فبشره بأن الله عز وجل قد غفر له بشفاعتي.
أنبأنا ذاكر بن كامل بن أبي غالب الخفاق فيما أذن لي في روايته عنه قال: كتب إلى أبي علي الحداد عن أبي نعيم الأصبهاني قال: أنبأنا جعفر بن محمد بن نصير، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، أخبرنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني غير واحد منهم عن عبد العزيز بن أبي حازم عن عمر بن محمد أنه لما كان أيام الحرة ترك الأذان في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام وخرج الناس إلى الحرة وجلس سعيد بن المسيب في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فاستوحشت فدنوت من قبر النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فلما حضرت الصلاة سمعت الأذان في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فصليت ركعتين ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر ثم جلست حتى أصلي العصر فسمعت الأذان في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم سمعت الإقامة ثم لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبره -صلى الله عليه وسلم- حتى مضت الثلاث وقفل القوم ودخلوا مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاد المؤذنون فأذنوا فتسمعت الأذان في قبره -صلى الله عليه وسلم- فلم أسمعه فرجعت إلى مجلسي الذي كنت فيه أكون.
أنبأنا عبد الرحمن بن علي، أنبأنا أبو الفضل الفارسي عن أبي بكر الشيرازي أخبرنا محمد بن الحسين سمعت أبا الخير الأقطع يقول: دخلت مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا بفاقة فبقيت خمسة أيام ما ذقت ذواقا فتقدمت إلى القبر وسلمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى أبي بكر وعمر وقلت: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله وتنحيت فنمت؛ فرأيت النبي في المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلي بين يديه فحركني علي، وقال لي: قم قد جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فقمت إليه وقبلت بين عينيه؛ فدفع إلي رغيفا؛ فأكلت نصفه وانتبهت وفي يدي النصف الآخر.
أخبرنا عبد الوهاب بن علي، أخبرتنا فاطمة بنت أبي حكيم -إن لم يكن سماعا- فإجازة أنبأنا منصور بن الفضل، أخبرنا أبو عبد الله الكاتب، أخبرنا ابن المغيرة، حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، حدثنا الزبير بن بكار أخبرنا السري بن الحارث عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وكان مصعب يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ويصوم، قال: بت ليلة في المسجد بعدما خرج الناس منه؛ فإذا برجل قد جاء إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أسنده ظهره إلى الجدار ثم قال: اللهم إنك تعلم أني كنت أمس صائما، ثم أمسيت؛ فلم أفطر على شيء اللهم إني أمسيت أشتهي الثريد فأطعمنيه من عندك قال: فنظرت إلى
__________
1 الشاعر هنا يقول بالشفاعة والوسيلة ومذهب الموحدين، أن الشفاعة والوسيلة غير جائزتين.(2/463)
وصيف داخل من خوخة المنارة ليس في خلقة وصفاء الناس معه قصعة؛ فأهوى بها إلى الرجل فوضعها بين يديه وجلس الرجل يأكل وحصبني، فقال: هلم فجئته وظننت أنها من الجنة؛ فأحببت أن آكل منها لقمة؛ فأكلت طعاما لا يشبه طعام أهل الدنيا، ثم احتشمت فرجعت لمجلسي؛ فلما فرغ من أكله أخذ الوصيف القصعة، ثم أهوى راجعا من حيث جاء وقام الرجل منصرفا فتبعته لأعرفه؛ فلا أدري أين سلك فظننته الخضر عليه السلام.
وروي أن امرأة من المتعبدات جاءت عائشة رضي الله عنها؛ فقالت: اكشفي لي عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فكشفت لها فبكت حتى أنشدني بعض مشايخي رحمه الله بعض زوار النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:
أتيتك زائرا ووددت أني ... جعلت سواد عيني أمتطيه
وما لي لا أسير على الأماقي ... إلى قبر رسول الله فيه
وأنشدني عبد الوهاب عن علي قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن محمد الأديب لنفسه من قصيدة يتشوف فيها إلى الحج وإلى زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم:
أحسن مشتاقا ولولا جوى ... أملك بي مني لم أطرب
وكل عام أتمنى المنى ... وهن قد سوفن بالوعد بي
وليس في القلب سوى وقفة ... في حرم المدفون في يثرب(2/464)
الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله
أنبأنا القاسم بن علي، أخبرنا أبو محمد الداراني، أخبرنا أبو الفرج الإسفرائيني، أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا أبو طاهر القاضي، أنبأنا محمد بن عبدوس، حدثنا سعد بن زياد وأبو عاصم قالا: زعم نافع مولى ابن عمر قال: حدثتني أم قيس بنت محصن قالت: لو رأيتني ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخذ بيدي في سكة المدينة حتى أنتهي إلى بقيع الغرقد فقال: "يا أم قيس" قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: "ترين هذه المقبرة؟ " قلت: نعم يا رسول الله قال: "يبعث منها يوم القيامة سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب".
أخبرنا محمد بن أبي القاسم السوسي، أخبرنا جدي أبو محمد، أخبرنا أبو الحسن الربيعي إجازة، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثنا أبو هاشم الإمام، أخبرنا معاوية بن محرز، حدثنا الحسن بن جرير المنصوري، حدثنا محمد بن عثمان، حدثنا أبي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "أنا أول من تنشق الأرض عنه فأكون أول من يبعث؛ فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى أهل البقيع فيبعثون ثم يبعث أهل مكة فأحشر بين الحرمين".(2/464)
أنبأنا أبو القاسم بن كامل عن أبي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخلدي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن محمد عن إسماعيل عن حكام أبي عبد الله الشامي عن أبي عبد الملك أنه حدثه حديثا يرفعه إلى رسول الله أنه قال: مقبرتان تضيئان لأهل السماء كما يضيء الشمس والقمس لأهل الدنيا: مقبرتنا بالبقيع بقيع المدينة ومقبرة بعسقلان.
وحدثنا محمد بن الحسن عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: قال كعب الأحبار نجدها في التوراة كفتة محفوفة بالنخيل موكلا بها الملائكة كلما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفوها في الجنة، قلت: يعني البقيع.
وحدثنا محمد بن الحسن عبد الله بن نافع عن سليمان بن زيد عن شعيب وأبي عبادة عن أبي بن كعب القرظي أن النبي قال: من دفناه في مقبرتنا هذه شفعنا له أو شهدنا له.
وحدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن إسماعيل عن داود بن خالد عن المقبري أنه سمعه يقول: قدم مصعب بن الزبير حاجا أو معتمرا ومعه ابن رأس الجالوت فدخل المدينة من نحو البقيع؛ فلما مر بالمقبرة قال ابن رأس الجالوت: إنها لهي! قال مصعب: وما هي؟ قال: إنا نجد في كتاب الله صفة مقبرة شرقيها نخل وغربيها بيوت يبعث منها سبعون ألفا كلهم على صورة القمر ليلة البدر فطفت مقابر الأرض؛ فلم أر تلك الصفة حتى رأيت هذه المقبرة، وحدثنا محمد بن الحسن عن العلاء بن إسماعيل عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: أقبل ابن رأس الجالوت فلما أشرف على البقيع قال: هذه التي نجدها في كتاب الله كفتة لا أطؤها قال: فانصرف عنها إجلالا لها.
وروى مسلم في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: سلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، وروي في الصحيح أيضا من حديثها قالت: لما كانت ليلتي التي فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندي انقلب؛ فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع فلم يلبث إلا بقدر ما ظن أنني قد رقدت فأخذ رداءه وبدأ، وفتح الباب رويدا فخرج، ثم أجافه رويدا؛ فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع؛ فقام فأطال القيام ثم رفع يده ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت فسبقه فدخلت؛ فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: "ما لك يا عائشة". قالت: لا شيء قال: "لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير" فأخبرته فقال: "فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ " قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة(2/465)
أوجعتني، ثم قال: "أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ " قالت: قلت: مهما يكتمه الناس يعلمه الله عز وجل قال: "فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفى منك؛ فأجبته فأخفينا منك ولم يكن يدخل عليك، وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت وكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي إلى أهل البقيع وتستغفر لهم" قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا شاء الله بكم لاحقون".
واعلم أن أكثر الصحابة رضي الله عنهم مدفون بالبقيع، وكذلك جميع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- سوى خديجة؛ فإنها بمكة مدفونة.
وبالبقيع سادة من التابعين ومن بعدهم من الزهاد والعلماء والمشهورين؛ إلا أن قبورهم لا تعرف في يومنا هذا فمن حضرها وسلم على من بها فقد أتى بالمقصود وليس في يومنا هذا معين إلا تسعة قبور: قبر العباس بن عبد المطلب عم النبي وعليه طين ساج وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب ومعه في القبر ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدين وأبو جعفر محمد بن علي الباقر وأبوه جعفر الصادق، والقبران في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة رضي الله عنهم أجمعين، وروي عن عبيد الله بن علي بن الحسن بن علي قال: ادفنوني إلى جنب أمي فاطمة بالمقبة فدفن إلى جنبها بالمقبرة. وقال سعيد بن محمد بن جبير: رأيت قبر الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند فم الزقاق الذي بين دار نبيه وبين دار علي بن أبي طالب، وقيل لي دفن عند قبر أمه، وروى قائد مولى عبادل قال: حدثني الحفار أنه حفر لإنسان؛ فوجد قبرا على سبعة أذرع من خوخة بيته مشرفا عليه لوح مكتوب هذا قبر فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: فعلى هذا هي مع الحسن في القبة؛ فينبغي أن يسلم عليها هنالك وقبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي في تربة في أول البقيع.
وقال محمد بن موسى بن أبي عبد الله: كان قبر صفية بنت عبد المطلب عند زاوية دار المغيرة بن شعبة وقبر عقيل بن أبي طالب أخي علي رضي الله عنه في قبة في أول البقيع أيضا، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر الطيار وابن أبي طالب الجواد المشهور وقبور أزواج النبي وهي أربعة قبور ظاهرة ولا يعلم تحقيق ما فيها منهن، وقد ورى البخاري في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها أوصت عبد الله بن الزبير: لا تدفني معهم -تعني النبي وصاحبيه- وادفني مع صواحبي بالبقيع.
وروي عن قائد مولى عبادل قال: قال لي منفذ الحفار: في المقبرة قبران مطابقان بالحجارة: قبر حسن بن علي وقبر عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فنحن لا نحركهما.(2/466)
وقد روى مالك بن أنس أن زينب بنت جحش توفيت في زمان عمر بن الخطاب فدفنها بالبقيع، وروي عن محمد بن عبد الله بن علي أنه قال: قبور أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من خوخة بيته إلى الزقاق يعني البقيع، وروي عن الحسن بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه هدم منزله في دار علي بن أبي طالب قال: فأخرجنا حجرا مكتوبا عليه هذا قبر رملة بنت صخر فسألنا عنه قائد مولى عبادل فقال: هذا قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان.
وروي عن إبراهيم بن علي الرافعي أنه قال: حفر لسالم البابلي مولى محمد بن علي، قال: فأخرجوا حجرا طويلا، وفيه مكتوب هذا قبر أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مقابل خوخة آل نبيه بن وهب فأهيل عليه التراب وحفر لسالم في موضع آخر، وقبر إبراهيم ابن النبي وعليه قبة وملبن ساج وروى إبراهيم بن قدامة عن أبيه قال: دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبقيع عثمان بن مظعون قال: فدفنه -أي ابنه إبراهيم- رسول الله إلى جنب عثمان بن مظعون، وقبره حذاء زاوية عقيل بن أبي طالب، قال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما: قبر إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاه دار سعيد بن عثمان التي يقال لها الزوراء بالبقيع مرتفعا عن الطريق، وأنبأنا أبو القاسم الأزجي، عن أبي علي الأصبهاني، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخواص، حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن صالح بن قدامة عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت: كان القائم يقوم عند قبر عثمان بن مظعون فيرى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس دونه حجاب، وحدثنا محمد بن الحسن، حدثنا سليمان بن سالم عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه، قال: أرسلت عائشة إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت أن هلم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى إخوانك، فقال: ما كنت مضيقا عليك بيتك إني كنت عاهدت ابن مظعون أينا مات دفن إلى جنب صاحبه قلت: فعلى هذا قبر ابن مظعون وابن عوف عند إبراهيم عليه السلام؛ فينبغي أن يزارا هناك وقبر فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في قبة في آخر البقيع، روى عيسى بن عبد الله بن محمد عن أبيه عن جده قال: دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت أسد بن هاشم -وكانت مهاجرة مبايعة- بالروحاء مقابلها حمام أبي قطيفة قلت: واليوم مقابلها نخل يعرف بالحمام. وقبر عثمان بن عفان رضي الله عنه وعليه قبلة عالية وهو قبل قبة فاطمة بنت أسد بقليل وحوله نخل.
روى ابن شهاب أن عثمان رضي الله عنه لما قتل دفن في حش كوكب؛ فلما ملك معاوية واستعمل مروان على المدينة أدخل ذلك الحش في البقيع فدفن الناس حوله قلت: والحش البستان؛ وقبر مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه في أول البقيع على الطريق؛ فهذه القبور المشهورة، والباقي سبخة لا يعرف فيها قبر أحد بعينه.(2/467)
وأخبرنا أبو القاسم بن سعد بخطه عن جعفر بن محمد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن شريك عن عبد الله بن أبي روق قال: حمل الحسن بن أبي طالب فدفنه بالبقيع بالمدينة، وحدثنا محمد بن الحسن عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: ابتاع عمر بن عبد العزيز من زيد بن علي وأخته خديجة دارا لهما بالبقيع بألف وخمسمائة دينار ونقضها وزادها في البقيع؛ فهي مقبرة آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحدثنا محمد بن عيسى عن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار؛ فمر بي جعفر بن محمد فقال لي: أعن أثر وقفت هاهنا قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع، قلت: وداره الموضع الذي دفن فيه.(2/468)
الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة ومن بعدهم
اعلم أن أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين وأكابر تابعيهم إلى يومنا رضي الله عنهم لا يمكن حصرهم؛ لأن أكثر الصحابة هاجروا إليها والباقون منها وأكثر التابعين منها والباقون دخلوها لزيارة النبي وكذلك من بعدهم من الأكابر إلى يومنا هذا.
وإنما نذكر في هذا الباب أعيان من استوطنها؛
فمنهم من أقام بها مدة، ثم خرج عنها ومنهم من مات بها.
فمن الصحابة رضوان الله عليهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، فهؤلاء العشرة.
ومن أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب والحسن، والحسين ابنا علي بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
ومن كبار الصحابة أبي بن كعب، أسيد بن حضير، بلال بن أبي رباح، أبو ذر الغفاري، أبو قتادة الأنصاري حسان بن ثابت، حكيم بن حزام، خالد بن الوليد، أبو لبابة الأنصاري، زيد بن حارثة، زيد بن ثابت، سعد بن عبادة، أبو سعيد الخدري. سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، سلمة بن الأكوع، سهل بن أبي حثمة، سهل بن سعد، أبو سفيان بن حرب، صهيب، عبد الله بن أنيس، عبد الله بن أرقم، عبد الله بن عمر بن الخطاب، عبد الله بن مسعود، أبو حميد الساعدي، أبو هريرة، عثمان بن حنيف، العلاء بن الحضرمي، عمر بن أبي سلمة، عبد الله ابن أم مكتوم، مالك بن التيهان،(2/468)
محمد بن سلمة، المقداد بن عمرو، أسيد بن ظهير، أسلم وهو أبو رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، البراء بن عازب، بلال بن الحارث، بشير بن سحيم، بشر بن سعد، ثابت بن وديعة، جابر بن عتيك، جبير بن مطعم، جويبر بن خويلد الأسلمي، الحارث بن زياد، أبو سعيد بن المعلى، الحجاج بن عمرو، الحجاج بن علاط، حمل بن مالك، حنظلة الكاتب، خلاد بن السائب، خفاف بن أيمن بن رخصة، خوات بن جبير، ذؤيب أبو قبيصة، رافع بن خديج، رافع بن مكيث، ربيعة بن كعب، رفاعة بن رافع، رفاعة بن عرابة، الركين بن الربيع، رويفع بن ثابت، زيد بن الخطاب، زيد بن خالد، زيد بن الصامت، السائب بن خلاد، سبرة بن أبي سبرة، سراقة بن مالك بن جشعم، سفيان بن أبي العرجاء، سلمة بن صخر، سويد بن النعمان، نشل بن معبد، الصعب بن جثامة، الضحاك بن سفيان الكلابي، عامر بن ربيعة، عبد الله بن حراقة، عبد الله بن زيد، عبد الله بن زمعة، عبد الله بن عبد الأسد، عبد الله بن عتيك، عبد الله بن كعب، عبد الله بن أزهر، عبد الرحمن بن جبير، عبد الرحمن بن عثمان، عتبان بن مالك، عمارة بن معاذ، عمرو بن أمية، عمير مولى أبي اللحم، قتادة بن مالك بن ضمرة، مجمع بن حارثة، محمد بن عبد الرحمن بن جحش، محمود بن الربيع، محجر الدئلي، معاوية بن الحكم الأسلمي، معمر بن عبد الله، ناجية الخزاعي، نوفل بن معاوية، هذال الأسلمي، هشام بن حكيم، زيد أبو السائب، أبو بشير الأنصاري، أبو خيبرة، أبو زيد الأنصاري، أبو مربع الأنصاري.
ومن كبار التابعين: أبو سعيد المقبري، محمد بن الحنفية، سعيد بن المسيب، أبو سلمة بن عبد الرحمن، عطاء وسليمان ابنا يسار، عروة بن الزبير، خارجة بن زيد، علي بن الحسين زين العابدين، أبو بكر بن عبد الرحمن، عكرمة، كريب، مقسم مولى عبد الله بن عباس، علي بن عبد الله بن العباس بن المطلب، نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين. ومن مشاهير الذين بعدهم: عمر بن عبد العزيز، أبو بكر بن حرام الزهري، محمد بن المنكدر، زيد بن أسلم، أبو الزناد، ربيعة الرأي، صفوان بن سليم، أبو حازم الأعرج، يحيى بن سعيد القطان، أبو جعفر محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر الصادق، إبراهيم ومحمد وموسى بنو عقبة أصحاب الأخيار محمد بن إسحاق بن يسار، مالك بن أنس، الإمام يوسف بن الماجشون، عبد العزيز الدراوردي، محمد بن عمر الواقدي، رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم ونفع بعلومهم.
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/469)
الملحق الثالث في العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة
العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف
...
الملحق الثالث: في العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة
الملحق الثالث: [العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف] :
1 - العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة:
إنشاء المسجد الشريف:
شيد1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده الشريف في السنة الأولى من هجرته.
واتخذ سواريه من النخيل، وسقفه من الجريد. ولم يبالغ في ارتفاعه بل كان يزيد على المترين قليلا ليتمكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوقوف على الجذع في وقت الخطبة.
وقد كانت مساحته سبعين ذراعا في ستين، كما حققه النووي، وتساوي بالأمتار 1030 مترا مربعا تقريبا.
وقد ظل المسجد النبوي الشريف على الحال الذي شيده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فاتحة الهجرة إلى العام السابع الهجري، ومن هذا العالم إلى عصرنا هذا والدول الإسلامية تتناوله بالعمارة.
توسعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
في عام 7 هجرية رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقب عودته من غزوة خيبر أن المسلمين قد تكاثروا، وأصبح المسجد لا يسعهم جميعا؛ فاعتزم -صلى الله عليه وسلم- توسعته، وكان هو أسبقهم إلى العمل، وقد جعله في هذه المرة مربعا 100 ذراع في 100 ذراع فأصبح بعد هذه الزيادة 2475 مترا مربعا فتكون الزيادة التي أحدثها -صلى الله عليه وسلم- 1445 مترا تقريبا.
__________
1 ص26 من كتاب توسعة الحرم النبوي الشريف: للأستاذين هاشم دفتر دار وجعفر فقيه.(2/473)
توسعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
في عام 17 هجرية رأى سيدنا عمر رضي الله عنه أن الحاجة تقتضي توسعة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد حدد ابن عمر مقدار هذه الزيادة؛ فقال: " ... جعل طوله 140 ذراعا، وعرضه 120 ذراعا. فتكون الزيادة فيه 1100 مترا مربعا ... ".(2/474)
توسعة عثمان بن عفان رضي الله عنه:
وفي عام 29 هجرية، شيد سيدنا عثمان مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نسق ما جد من عمارة في المدينة المنورة، أي شيده بالحجارة المنحوتة، والسواري الضخمة، وجعل سقفه من خالص خشب الساج.(2/475)
كما أفسح في كل جهة من جهاته الثلاث: الجنوبية والغربية والشمالية عشرة أذرع؛ فيكون ما أضافه إلى المسجد 496 مترا مربعا، وقبل بدء العمل استشار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوسعة.
فحسن الناس له ذلك ودعوا له. وفي صباح اليوم التالي دعا العمال وقد باشر ذلك بنفسه. وكان ابتداء العمل في ربيع الأول عام 29هـ ونهايته في أول محرم عام 30 هجرية، وقد استغرق العمل عشرة أشهر.
توسعة الوليد بن عبد الملك الأموي:
في عام 88 هجرية وسعه الوليد بن عبد الملك الأموي وأضاف إليه حجرات أمهات المؤمنين، وقد بلغت توسعته من الجهة الغربية عشرين ذراعا، ومن الجهة الشرقية ثلاثين ذراعا؛ فتكون زيادة 2369 مترا مربعا.
وهو أول من وشى جدرانه بالمرمر، وزخارف الفسيفساء. وجلل سقفه بماء الذهب، وقد جعله من خالص خشب الساج. واستمر العمل في تجديده أربع سنوات؛ لأنه ابتدأه في سنة ثمان وثمانين وانتهى في سنة إحدى وتسعين للهجرة.
وقد أنفق في عمارته خمسة وأربعين ألف دينار.
وكان ذلك في ولاية عمر بن عبد العزيز، على المدينة المنورة، وقد أشرف على العمارة بنفسه.
توسعة المهدي بن المنصور العباسي:
في عام 161 هجرية. جدد عمارة المسجد المهدي العباسي.
وزاد مائة ذراع في الجهة الشمالية فتكون توسعته 2450 مترا مربعا.
وقد استمر العمل أربع سنوات. ابتدأ في عام 161هـ، وانتهى سنة 165هـ.
تجديد المستعصم بالله العباسي:
في عام 655هـ. وقع احتراق في المسجد النبوي الشريف بسبب إهمال موقد المصابيح. وقد خرب الحريق المسجد، ولم يفلت منه إلا قبة الناصر لدين الله التي كانت في رحبته، وحين بلغ المستعصم العباسي الخبر، أرسل الصناع والآلات في موسم الحج، وبدأ العمل عام 655هـ. وقد حدثت في هذا العام أحداث التتار وحروبهم؛ ولكن عمل البناء لم يتوقف؛ إذ اشترك فيه الملك المظفر ملك اليمن، وملك مصر نور الدين علي بن المعز الصالحي، وإن كانت العمارة لم تنته إلا في عهد الملك الظاهر بيبرس.(2/476)
ومن أشهر الملوك والسلاطين الذين قاموا بالتجديد، أو التوسعة أو الإصلاح أو الترميم:
1- الملك الناصر محمد بن قلاوون في الأعوام 705 و706 و729 هجرية.
2- الملك الأشرف برسباي عام 831هـ.
3- الملك الظاهر شمقمق عام 853هـ.
4- الملك الأشرف قايتباي عام 879هـ1 وقد زاد فيه 120 مترا مربعا.
5- السلطان سليمان العثماني عام 974هـ2.
6- السلطان سليم الثاني عام 980هـ.
7- السلطان محمود الأول وهو أول من سيد القبة الخضراء عام 1233هـ.
8- السلطان عبد المجيد، وقد بدأت عمارته عام 1265هـ وانتهى منها عام 1277هـ.
ففي هذا العام كان تجديد البناء الضخم الذي قام به السلطان عبد المجيد العثماني، وقد استمر العمل فيه ثلاثة عشر عاما: من عام 1265هـ إلى عام 1277هـ.
وقد زاد فيه الكتاتيب، لاستظهار القرآن المجيد وتعليم القراءة والكتابة. والمستودعات زادها في الجهة الشمالية.
كما زاد من المشرق خمسة أذرع؛ فتكون توسعة السلطان عبد المجيد 1293 مترا مربعا. وتصبح مساحة المسجد بعد إضافة هذه التوسعة إليه 10302 متر مربع.
فيكون القسم الداخلي الجنوبي الذي لم يمس 4056، والقسم الخارجي الشمالي الذي هدم وألحق بالتوسعة السعودية 6246.
ولم يكن بعد عمارة السلطان عبد المجيد من عمل تاريخي كبير في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى زمن الملك عبد العزيز آل سعود فأمر بإجراء توسعة كبرى هي أفسح التوسعات التاريخية على الإطلاق، إذا بلغت مساحتها 6024 مترا مربعا. وهذه التوسعة غير العمارة؛ فالعمارة أفسح من التوسعة لأن مساحة التوسعة وحدها قد بلغت 6024 مترا مربعا، ومساحة العمارة المشتملة على التوسعة المضافة إلى القسم الشمالي الذي هدم من المسجد هي 6246 مترا مربعا.
__________
1 الصحيح أن ذلك عام 881هـ كما سبق.
2 وقد وجدت لدى عملية الهدم الحالية حجر تشتمل على تاريخ العمل كما ذكره المؤرخون، وهو محفوظ لدى المكتب في المدينة المنورة. وفي عام 886هـ وقع حريق في المسجد النبوي فقام قايتباي ببناء المئذنة الكبيرة وجدار القبلة والجدار الشرقي إلى باب جبريل والجدار الغربي إلى باب الرحمة وسوى ذلك.(2/477)
وإذا نظرنا إلى مساحة القسم الداخلي من المسجد الذي لم يمس البالغ 4056 مترا مربعا يكون مجموع المساحتين معا يبلغ 16326 مترا مربعا، وهذه هي المساحة التي انتهى إليها المسجد الآن1.
__________
1 ويذكر الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه آثار المدينة أن فخري باشا رمم المحرابين النبوي والسليماني ورخم البئر التي في صحن المسجد عام 1336هـ، وأن الملك عبد العزيز آل سعود رمم أرض المسجد مما يلي رحبته في الجهات الأربع عام 1348هـ ووضع أطواقا حديدية على بعض الأساطين التي حدث فيها انشقاق بقرب الرحبة وشرقيها عام 1350هـ. وأن الحكومة المصرية قامت بعمارة للمسجد عام 1353هـ.(2/478)
2- المسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية:
كان المسجد النبوي الشريف1 قبل التوسعة السعودية يشتمل على قسمين: جنوبي وشمالي.
القسم الجنوبي:
فالقسم الجنوبي يشتمل على كل المشاعر المقدسة، التي هي:
1- الحجرة الشريفة: وتضم ضريحه -صلى الله عليه وسلم- وضريحي صاحبيه الجليلين: أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما. وتقع في الجهة الجنوبية الشرقية المسجد النبوي الشريف.
__________
1 عن ص47 من كتاب مشروع توسعة الحرم النبوي الشريف.(2/478)
2- الروضة المطهرة: وتبتدئ من ضريحه -صلى الله عليه وسلم- وتنتهي عند المنبر.
3- مصلاه -صلى الله عليه وسلم- وكان يؤم الناس منه في صلواته الخمس. وهو موضع المحراب بالذات.
4- منبره -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخطب عليه، وموضعه بالذات نصب المنبر الحالي.
5- السواري الأثرية المعروفة الواقعة في الروضة المطهرة.
6- السدة التي يبلغ المؤذن من أعلاها ويسميها أهل المدينة المنورة "المكبرية".
7- المآذن: ومآذن هذا القسم ثلاثة: "الرئيسية" ومأذنة باب الرحمة و"السليمانية".
وهذا القسم الجنوبي، مسقوف جميعه بالقباب، التي تحملها السواري الضخمة على مناكبها.
ويبتدئ هذا القسم من الجهة الغربية بباب السلام المجاور للجهة الجنوبية، وينتهي بباب الرحمة المجاور للرحبة من الجهة الشمالية؛ ويبتدئ من الجهة الشرقية بالمئذنة "الرئيسية" المجاورة للجهة الجنوبية. وينتهي بباب "النساء" المجاور للجهة الشمالية. ويقع باب "جبريل" عليه السلام بين باب النساء والمئذنة الرئيسية.
ومساحة هذا القسم الجنوبي من المسجد النبوي الشريف 4056 مترا مربعا. وقد قرر الإبقاء عليه.
القسم الشمالي:
هذا القسم الشمالي من مسجد النبوي الشريف الذي عمره السلطان عبد المجيد رحمه الله، هو الذي قرر هدمه وإدخال التوسعة السعودية عليه، وهو يشتمل على:
1- الرحبة: وهي مفروشة بالحصى الأحمر، وتحيط بها من جهاتها الثلاث: الشرقية والغربية والشمالية أروقة مسقوفة بالقباب الشامخة، التي تحملها السواري الباسقة على مناكبها؛ فأروقة الجهة الشمالية والغربية اثنتان، وأروقة الجهة الشرقية ثلاثة، أما من الجهة الجنوبية القبلية فإن الرحبة متصلة اتصالا مباشرا بالقسم الجنوبي بالذات، لذلك لم يجعل لها في هذه الجهة أروقة خاصة.
2- المآذن في هذا القسم الجنوبي مئذنتان مرتفعتان جدا: تقع إحداهما في الجهة الشمالية الشرقية قرب باب المجيدي، وتسمى المجيدية، وتقع الثانية في الجهة الشمالية الغربية وتسمى الشكيلية.
3- الكتاتيب: هي مدارس صغيرة، لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال، وتعليمهم الكتابة والقراءة، بصورة بسيطة. وفوق الكتاتيب طابق ثان، فيه مكتبة الحرم النبوي المشهورة.
4- باب المجيدي المفضي إلى عرصة الكتاتيب، التي تؤدي بدورها إلى الأروقة الشمالية فالرحبة.
5- مخازن الزيت، وموقعها في الجهة الشمالية بين المجيدي والمئذنة الشكيلية.(2/479)
3- سير العمل في العمارة الجديدة:
في 5 شوال عام 1370هـ عين لوكيل أمير المدينة المنورة حدود الدور التي سيتناولها الهدم، وتدخل في توسعة المسجد الشريف من الجهات الثلاث: الشرقية والغربية والشمالية.
وسار الهدم بنشاط وسرعة، وكانت أنقاض الأبنية المهدومة تنقل إلى المواطن التي خصصت لها: من إصلاح طرق وردم حفر، وسوى ذلك. ثم ذللت أرضها تذليلا، حتى غدت ميدانا فسيحا مستويا تعبره السيارات الضخمة التي تحمل الآلات الثقيلة ...
وفي 6 شعبان عام 1371هـ أمر سعادة الشيخ محمد بن لادن بإنشاء جدار، على حدود أروقة الجهة الغربية، من باب الرحمة، إلى مستودعات الزيت الواقعة في مؤخرة المسجد من الجهة الشمالية ليفصل هذه الأروقة عن المسجد، لتهدم وتضم إليها التوسعة الجديدة.
وبعد أن تمت عمليات هدم هذه الأروقة استعملت الأنقاض التي لا حاجة إليها في تعبيد الطرق وردم المنخفضات أيضا.
وفي 15 شعبان عام 1372هـ أمر الشيخ ابن لادن العمال بأن يباشروا حفر الأسس، وقد خططها المهندسون وعينوا مواطن الآبار العميقة التي تحفر لتصب فيها أسس السواري. وانتهت عمليات حفر الأسس في 24 رمضان المبارك عام 1372هـ.
وفي أثناء ذلك كان قد أزيلت دور القسم الشمالي وأنقاضها، وسويت أرضها، حتى أصبحت صالحة للعمارة أيضا.
وفي 24 رمضان المبارك عام 1372هـ سارت العمارة في طريقها الجدي سيرا حثيثا متواصلا.
وحين تبوأ العرش جلالة الملك سعود حفظه الله أحب أن يطلع على سير العمارة بنفسه فقصد المدينة المنورة في 16 ربيع الأول عام 1373هـ، وقد أعجبه ارتفاع العمارة، وسره سير العمل وأبي إلا أن يباشر بعض أعمال البناء بنفسه، ليحظى بشرف الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتحقق مباشرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناء مسجده الشريف بنفسه مرتين: مرة لدى عمارته، ومرة لدى توسعته.
وهذا بيان تفصيلي عن العمارة الجديدة:(2/481)
4- المباني التي هدمت:
أما العقارات1 التي تحيط بالمسجد النبوي الشريف: فمنها ما كان عامرا مسكونا، ومنها ما كان أطلالا شاخصة؛ وذلك من أثر التهديم الذي أجراه فخر الدين باشا. في خلاف الحرب العالمية الأولى.
وهذا بيان عن جملة العقارات التي أزيلت، لتدخل في التوسعة حسب موقعها من المسجد:
1- عقارات الجهة الغربية:
ابتدأ العمل لإزالة العقارات، في 5 شوال عام 1370هـ.
وابتدأ في الجهة الغربية، مما يلي الرحمة إلى جهة الجنوب: كما تراه مفصلا:
1- أطلال وقف آل السمهودي الواقعة في جنوب مكتبة أمين باشا.
2- أطلال دار الأوقاف.
3- أطلال دار الأوقاف.
4- أطلال دار سيدنا تميم الداري رضي الله عنه.
5- أطلال دار وقف السادة المغاربة.
6- خرائب وسبل عدة تابعة للأوقاف.
7- أطلال دار بيت الشيخ عبد العزيز أبي الطاهر.
8- دار قائمة تابعة للأوقاف.
9- وهناك جملة دور وخرائب تقع في الجهة الغربية، قد أزيلت؛ ولكن لا لتدخل في التوسعة لأنها واقعة في المنطقة المنخفضة، ما بين باب السلاح وباب الرحمة. أي جهة القسم الجنوبي الذي قرر عدم مساسه وستكون الرحبة الخارجة عن المسجد فيها ولأجل ذلك أزيلت. وهي:
__________
1 ص84 من كتاب "مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف".(2/483)
1- المدرسة المحمودية.
2- بيت العلامة الشيخ عمر بري.
3- دائرة لجنة العين الزرقاء.
4- جملة دكاكين ومقاه للأوقاف.
2- العقارات الواقعة في الجهة الشمالية:
1- دار المرحوم العلامة الحافظ الشيخ إبراهيم الفقيه والد السادة: الأستاذ الشيخ جعفر الفقيه والسيد عبد الوهاب الفقيه والسيد عبد العزيز والسيد سليمان الفقيه الملازم في الجيش.
2- دار كتب أمين باشا.
3- دار للأوقاف.
4- كراج للشيخ بركات الأنصاري.
5- أطلال دار الشيخ بركات الأنصاري.
6- جملة خرائب للأوقاف.
7- جملة دكاكين للأوقاف.
8- دار تغسيل الموتى المعروفة بالشرشورة.
9- الحوش الكبير المعروف بوقف والدة السلطان عبد العزيز "برتو دنيال" هانم، أوقفته ليكون مستودعا للحرم الشريف.
10- مخازن تابعة لوقفية والدة السلطان عبد العزيز.
11- مخفر شرطة باب المجيدي.
12- أنقاض أربطة تابعة للأوقاف كرباط المجاريح وسواه.
13- جملة مخازن للأوقاف.
3- العقارات الواقعة في الجهة الشرقية:
1- رياض البهرة -والرياض هو عمارة مقسمة إلى جملة أجنحة لسكنى "الطبقة الفقيرة" أو لسكنى الذين حبس الرباط عليهم.
2- المدرسة الناصرية.
3- أطلال دار داود عرب.
4- معمل السيد محمود أحمد.
5- دور للأغوات.
6- دار وزاوية آل السمان.
7- دار العلامة الشيخ مأمون بري.
8- دار للأوقاف.(2/484)
5- وصف المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة 1:
1- المساحة:
المساحة التي انتهت بها توسعة المسجد النبوي الشريف 16326 مترا مربعا.
2- الأقسام:
نجد للمسجد النبوي بعد إضافة العمارة السعودية الجديدة قسمين: جنوبي وشمالي.
أ- القسم الجنوبي: وهذا هو القسم الذي قرر الاحتفاظ به على وضعه الذي هو عليه.
ب- القسم الشمالي: وهذا هو القسم الجديد الذي أمر بتشييده المغفور له جلالة الملك عبد العزيز، وأتمه جلالة الملك سعود حفظه الله.
4- الرحبات:
وللمسجد النبوي الشريف بعد العمارة السعودية الجديدة، رحبات ثلاث: اثنتان داخليتان وواحدة خارجية، ويفصل بين الرحبتين الداخليتين رواق ممتد متصل بباب خالد بن الوليد الشرقي، وباب السعودي الغربي، وهذا الرواق من التنظم الدقيق.
وأما الرحبة الخارجية؛ فهي بين باب السلام وبين باب الرحمة، من الجهة الغربية.
4- المآذن:
عرفنا أن المآذن التي كان يشتمل عليها المسجد النبوي قبل العمارة السعودية الجديدة خمس:
1- الرئيسية الواقعة في الجنوب الشرقي.
2- منارة باب السلام الواقعة في الجنوبي الغربي.
3- المجيدية الواقعة شرقي باب المجيدي من الجهة الشمالية.
4- الشكيلية، الواقعة شمال باب المجيدي.
5- السليمانية الواقعة في الجهة الغربية. وكانت هذه المئذنة خارج المسجد وقصيرة من أجل ذلك أزيلت.
وأما ما جد منها في العمارة الجديدة فسيأتي الحديث عنه.
__________
1 ص53 من "كتاب مشروع توسعة الحرم النبوي الشريف".(2/485)
6- أبواب الحرم النبوي الشريف:
كان أهمها أحد عشر بابا وهذا بيانها:
1- باب السلام.
2- باب الصديق.
3- باب الرحمة.
4- باب سعود.
5- باب عمر بن الخطاب.
6- الباب المجيدي.
7- باب خالد بن الوليد.
8- باب عبد العزيز آل سعود.
9- باب النسا.
10- باب جبريل.
11- باب عثمان بن عفان.
وقد ذكر المطري في تاريخ "التعريف بما آنست إليه دار الهجرة من معالم الهجرة" أن عدد أبواب المسجد النبوي كان ثلاثة في عهد الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن الوليد كان قد جعل له عشرين بابا.
وفي رحلة ابن جبير ذكر هذا المؤرخ، أنه لما ذهب إلى المدينة عام 579هـ رأى أن عدد أبواب المسجد النبوي الشريف تسعة عشر بابا "ص151 رحلة ابن جبير طبعة عبد الحميد حنفي".
ونقل ابن زبالة أنه كان له أربعة وعشرون، لم يبق منها في القرن التاسع الهجري إلا ستة عشر بابا1.
وللمسجد بعد العمارة الجديدة تسعة أبواب: أربعة في القسم الجنوبي الذي بقي على حاله، وخمسة في القسم الشمالي الجديد، وهي:
1- الباب السعودي وموقعه في الجهة الغربية.
__________
1 راجع ص75 من كتاب "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة" للمراغي المتوفى عام 816هـ.(2/486)
2- باب خالد الوليد رضي الله عنه، وموقعه في الجهة الشرقية.
3- الباب المجيدي، وموقعه في الشمال الشرقي، واسم هذا الباب هو عين اسم الباب القديم الذي كان قبل التوسعة، وقد بقي اسمه عليه وفاء للسلطان عبد المجيد الذي بذل من ذات يده في سبيل مسجد رسول الله الكثير.
4- الباب العزيزي: وموقع هذا الباب في الشمالي الغربي.
5- باب الضيافة: وموقع هذا الباب في الشمال، وفي الوسط بين الباب المجيدي والباب العزيزي.(2/487)
7- حول عمارة المسجد النبوي الشريف:
أسئلة موجهة من الحاج عبد الشكور فدا إلى سعادة الشيخ صالح القزاز وإجابة فضيلته عليها:
س- ما مقدار المبلغ الذي صرف على عمارة المسجد النبوي الجديد؟
ج- بلغ ما صرف على عمارة المسجد النبوي الشريف ما يقرب من 30 مليونا من الريالات حتى الآن "حوالي ثلاثة ملايين جنيه مصري".
ص- ما مقدار التعويضات التي دفعت للأهالي مقابل أملاكهم من أجل التوسعة؟
ج- بلغت قيمة العقار الذي انتزعت مليكته للتوسعة الجديدة وللشوارع الرئيسية حول الحرم الشريف حتى الآن ما يقرب من أربعين مليونا من الريالات "حوالي أربعة ملايين جنيه مصري".
س- ما طول جدار المسجد وعرضه وارتفاعه؟
ج- مساحة المسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية "10303" متر مربع، أما مساحة الزيادة فهي "6024" مترا مربعا، وحيث إنه قد هدمت أجزاء من الجامع القديم فقد بلغت مساحة العمارة الجديدة "12271" مترا مربعا. أما الجدار الغربي فطوله 128 مترا -والجدار الشرقي 128 مترا- والجدار الشمالي 91 مترا -وارتفاع سقف المسجد من الداخل 12 مترا.
س- كم عدد أبوابه وما أسماؤها وما طول مصراع كل باب وعرضه وارتفاعه مع وصف مختصر له وللزخارف التي عليه؟
ج- عدد الأبواب هي ستة أبواب "أ" باب سعود ومكون من ثلاثة مداخل "ب" باب عبد العزيز مكون من ثلاثة مداخل "ج" باب عبد المجيد "د" باب الصديق "هـ" باب عمر بن الخطاب "و" باب عثمان بن عفان -طول كل باب من الأبواب الجديدة 6 أمتار وعرضه 20/ 3متر، والباب مصنوع من الخشب وبه زخاف من النحاس الأصفر على الطراز العربي "الأرابسك".
س- ما عدد الأساطين التي أقيمت في العمارة الجديدة وما ارتفاعها وقاعدتها مع وصف لواحدة منها؟
ج- عد الأساطين بالعمارة الجديدة 232 وارتفاع الواحد منها 5 أمتار وقاعدته من الرخام الأسود تعلوه قاعدة من النحاس الأصفر ثم العمود الذي ينتهي بتاج من النحاس الأصفر.(2/488)
س- ما عدد العقود والشرفات وشيء موجز في وصفها؟
ج- عقد العقود 689 عقدا، والشرفات عددها 44 شرفة ويتجلى في العقود جمال الفن الإسلامي من ناحية الزخرفة المعروفة بالمقرنصات.
س- المنائر -كم هي وما ارتفاعها؟ وهل هي على شكلها القديم أو على شكل آخر؟ وكم المدة التي استغرقها البناؤون في إنجاز المنارة الواحدة؟ ومن أي بلد هؤلاء العمال والمهندسون الذين أشرفوا على بنائها؟ ومن هو كبير المهندسين وما جنسيته؟
ج- عدد المنائر الجديدة اثنتان، وارتفاع المئذنة 70 مترا أما المآذن القديمة فهي اثنتان أيضا. وقد استغرق بناء المنارة الواحدة ستة أشهر، والبناؤون من سوريا ومصر والحجاز، وكبير المهندسين من مصر.
س- الأروقة -ما عددها مع ذكر الطول والعرض ووصف لبلاطها ونقوشه وزخارفه؟
ج- عدد الأروقة أربعة: وهي الرواق الشمالي والرواق الأوسط والرواق الشرقي والرواق الغربي وأساس الرواق هو العقود المتكررة -والتي تحتوي على زخارف الأرابسك وأما أرضية الرواقات فهي مفروشة بالرخام الأبيض وتتخللها أشرطة من الرخام الأسود وهذا عدا الرواق الجنوبي وهو القسم القديم من المسجد الشريف.
س- الثريات الكهربائية: ما عددها وما شكلها مع وصف لأهمها؟
ج- قد حلي المسجد الشريف في العمارة الجديدة بمصابيح كهربائية مثبتة في أعلى الأعمدة في كل عمود أربعة مصابيح من أربع جهات، وقد عملت بشكل عربي جميل أخاذ وعددها ألف وأحد عشر مصباحا هذا عدا الإضاءة التي رتبت في زوايا العقود والثريات الكهربائية التي صممت على طراز عربي خاص ويبلغ عددها 116 قطعة عدا 1400 مصباح دائري في زوايا العقود.(2/489)
س- متى بدئ في عمارة المسجد؟ ومتى تم الانتهاء منها؟ ومن كان رئيس لجنة الإشراف على العمارة؟ ومن كان يعاونه من كبار مساعديه؟
ج- كان البدء في تنفيذ مشروع عمارة الحرم النبوي الشريف في الخامس من شهر شوال عام 1370هـ وكان معالي الشيخ محمد بن لادن مدير الإنشاء والتعمير المشرف العام على العمارة، ومعالي الشيخ محمد صالح قزاز هو مدير مكتب مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف.(2/490)
س- ما الوصف العام الشامل لشكل المسجد من الخارج؟
ج- يحيط المسجد الشريف أربعة شوارع رئيسية وثلاثة ميادين عدا الشوارع الرئيسية تجاه المسجد الشريف، وإن تخلية أطراف المسجد الشريف من الدور وتنظيم هذه الشوارع قد جعل للمسجد منظرا رائعا، وقد زينت جدار المسجد الشريف من الخارج بزخارف عربية جميلة وجعله له نوافذ ذات عقود بنيت على طراز بديع، كما أن بناء الجدار من الداخل والخارج وكذلك السقوف كان بناؤها كلها بالحجارة المنقوشة المعمولة من الموازيكو؛ مما جعل للمسجد الشريف منظرا جميلا يدعو للإعجاب والاستسحان.
س- هل حصلت هناك بعض الإصلاحات للطرق الموصلة لبعض المزارات بالمدينة إبان عمارة المسجد، وما هي وما مقدار ما صرف عليها؟
ج- لقد عبدت جميع طرق المزارات بالمدينة المنورة وهي: طريق سيد الشهداء -وطريق قباء- وطريق المساجد والقبلتين، وجميع الطرق الرئيسية بالمدينة، وقد فرشت جميعها بالإسفلت.(2/491)
الملحق الرابع: بعض آثار المدينة والمزارات وغيرها
مساجد المدينة المنورة
...
الملحق الرابع: بعض آثار المدينة والمزارات وغيرها
1- مساجد المدينة المنورة 1:
تحفل طيبة بالمساجد الأثرية، التي تعد بحق من أجل الآثار الإسلامية الخالدة وأولها مسجد قباء وهو أول مسجد أسس على القوي، ومن أشهرها المساجد السبعة وقد سبق ذكر بعضها.
__________
1 راجع ص191 مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف.(2/493)
وقد قدام المغفور له جلالة الملك عبد العزيز -لما بلغه أن مساجد طيبة، تحتاج إلى إصلاح وترميم، أو تجديد بالآجر- بالنظر في شأنها جميعا، ويعطي كل مسجد حاجته التي تعيد له جدته. وهذه هي أهم هذه المساجد:
1- مسجد السبق: الواقع بجوار المستشفى الملكي. في الباب الشامي وهذا المسجد قد أصلح، وسلم لدائرة الأوقاف.
2- مسجد مالك بن سنان الواقع في الحماطة حيال حوش المرزوقي، وقد جدد بناؤه بالطرق الفنية الحديثة. وسلم للأوقاف.
3- مسجد بلال بن أبي رباح الواقع في دار الحكومة في السيح. وهذا المسجد تم الكشف عليه ورسمت خطة إصلاحه وسيبدأ العمل فيه قريبا.
4- مسجد محطة سكة الحديد كذلك.
5- مسجد الكاتبية كذلك.
6- مسجد حوش التاجوري كذلك.
7- مسجد المصلى: والعمل جار فيه الآن، وطفقوا يفتتحون له باب من الجهة الشمالية.
8- مسجد عروة بن الزبير الكائن في وادي العقيق، وقد قرر إصلاحه.
9- مسجد شمس الواقع في الباب المجيدي قرب فندق التيسير، وهذا المسجد تم إصلاحه وسلم للأوقاف.
10- جبل أحد وضريح سيدنا حمزة رضي الله عنه.(2/495)
2- القصور التاريخية بالمدينة:
في المدينة كثير من الآثار والقصور التاريخية الإسلامية، ومن أشهر هذه القصور:
1- قصر سعيد بن العاص وموقع هذا القصر في العقيق الصغير.
2- قصر عروة بن الزبير رضي الله عنهما وموقع هذا القصر بجوار بئر عروة.
3- قصر سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما.
4- قصر ابنة المرازقي.
5- قصر مراجل.
6- قصر إسحاق بن أيوب. وموقع هذه القصور الأربعة في حرة الوبرة.
7- قصر عبد الله بن عامر.
8- قصر مروان بن الحكم.
والقصر الوحيد الذي لا تزال أطلاله شاخصة إلى اليوم هو قصر سعيد بن العاص. وللملك سعود حفظه الله قصر فخم أقيم حديثا في المدينة المنورة.
قصر داود باشا 1:
كان داود باشا واليا على العراق من قبل الدولة العثمانية، وقد قام بثورته عام 1258هـ. ولما أخمدت الدولة العثمانية ثورته، عفت عنه وأرسلته إلى المدينة المنورة شيخا للحرم النبوي الشريف، وكان هذا المنصب مرموقا لدى الدولة.
وحين استقر داود باشا في المدينة المنورة، أنشأ قصره الفخم إلى جانب بستانه الذي عني به، وسماه بالداودية عام 1265هـ.
قد اختار هضبة المستندر التاريخية مكانا لتشييده قصره ليشرف على ما حوله من مناظر، وشيد بجواره سبيل ماء. لا يزال قائما بناؤه إلى اليوم. وهضبة "المستندر" نزلها المهاجرون من بني الديل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد اهتم الشيخ محمد بن لادن؛ بهذا المكان التاريخي، فاستأجره من الأوقاف، وأجرى فيه إصلاحات واسعة، حتى جعله صالحا ليكون مستودعا لآثار المسجد النبوي الشريف ومحلا لورش عمارة التوسعة، ومكاتب للأعمال الإدراية ومحطة للبنزين، على الطريقة الحديثة، لتموين جميع الآلات والسيارات التابعة لأعمال مكتب التوسعة في المدينة المنورة.
__________
1 راجع ص101 مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف.(2/496)
ولداود باشا مشيد قصر الداودية يد لا تنسى، هي أنه في غضون مشيخته شاهد المسجد النبوي في حاجة إلى تجديد العمارة؛ فبعث إلى السلطان رسائل يخبره بالأمر، فما كادت توافيه رسائل داود باشا حتى أجاب الطلب، وأوفد إلى المدينة المنورة جماعة من العلماء والمهندسين والخبراء ليدرسوا حالة المسجد ويرسموا خطة عمارة من جديد، وقد رفعوا قرارهم إلى السلطان فوافق عليه، وأمر بمباشرة الأعمال لتجديد البناء عام 1265.(2/497)
3- خزانات ماء الشرب 1:
كان أهل المدينة المنورة في الجاهلية، وصدر الإسلام، يستقون من آبارها الشهيرة بعذوبة مائها: كبئر "بضاعة"، وبئر "أريس" وبئر "بيرحاء"، وبئر "غرس"، وبئر "رومة"، وبئر "البصة"، وبئر "السقيا"، وبئر "ذروان"، وبئر "عروة"، وبئر "أبي أيوب".
وما زال هذا شأن أهل المدينة المنورة، حتى انتقلت الخلافة من الكوفة إلى دمشق، وأصبح معاوية بن أبي سفيان هو الخليفة؛ فأحب أن يتخذ يدا عند أهل المدينة المنورة؛ فبعث إلى واليه فيها "مروان بن الحكم". وكان ذلك في طليعة النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وأمره بإجراء الماء من الضواحي إلى البلدة كما رأى ذلك في دمشق، وأمده من أجل ذلك بكل ما يحتاجه من أموال ورجال وآلات وسوى ذلك.
وبعد أن استقر رأي الخبراء على أن يكون مأتى الماء من ضاحية قباء لعذوبة مياهها وغزارتها. طفقوا يحفرون الأنفاق للديل2 وقد فرح أهل المدينة بذلك. وسموا عين الماء التي جرت إليهم بالعين الزرقاء نسبة إلى مروان الذي كانت عيناه زرقاوين.
وقد ظل مصدر العين الزرقاء من بئر الأزرق الواقعة غربي مسجد قباء، مدة من الزمن، ثم ضوعف ماؤها من آبار كثيرة، وينابيع شتى، في عصور مختلفة على جملة من الأيدي البارة المحسنة.
وقد وافت عين الزرقاء المدينة المنورة وهي منخفضة؛ لذلك شيدت لها جملة مناهل ذات دركات يهبط منها إليها كمنهل الزكي، ومنهل درب الجنائز، ومنهل باب السلام، ومنها حارة الأغوات ومنهل مسجد المصلى، ومن المناهل ما جعل كآبار يجذب الماء من "الديل" بواسطة الدلاء كمنهل أبي جيدة الواقع قريبا من الجسر.
ومنهل الباب المصري، ومنها باب بصرى، ومنهل الباب الشامي.
__________
1 راجع ص111 مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف.
2 الديل: هو جدول الماء، والجمع ديول، وهو اللفظ المطلق لدى أهل المدينة حتى اليوم.(2/497)
ولم يفت جلالة الملك سعود حين زار المدينة، أن يمد يده ويساهم في إصلاح العين الزرقاء مساهمة جليلة؛ حيث أصدر أمره، بإنشاء خزانات حديثة بالإسمنت المسلح، لتحفظ فيها المياه من منابعها صافيه نقية، ثم توصل إلى المدينة المنورة في الأنابيب الحديدية الخفية في جوف الأرض وتوزع فيها على محلاتها.
والذي يدلنا على اهتمام جلالة الملك بمشروع خزانات العين الزرقاء، وضعه الحجر الأساسي بيده، وقد دس فيه جملة من النقود الذهبية والفضية، وبعض الوثائق التاريخية والخرائط، وجملة من أعداد جريدة المدينة المنورة. وبالله التوفيق؟(2/498)
كلمة الختام:
هذه هي خاتمة الجزء الثاني من كتاب "شفاء الغرام"، والملحقات الذي ذيلنا بها الكتاب، وبانتهائه ينتهي هذا الكتاب القيم، والسفر النفيس، وقد وقع الجزء منه في أكثر من 420 صفحة، ووقع الجزء الثاني في أكثر من ذلك، وقد طبع الكتاب طبعة لم تتح لكتاب قديم من قبل، ويعد إخراج الكتاب بهذه الصورة مفخرة جليلة من المفاخر العربية، ويرجع الفضل في ذلك إلى معالي الشيخ محمد سرور الصبان الذي كان له فضل إخراج هذا الكتاب إلى عالم النور، وإلى مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة لأصحابها عبد الحفيظ وعبد الشكور فدا اللذين أسهما بجهود مشكورة في إخراجه ونشره وطبعه، ومما ساعد على إناقة هذه الطبعة أنها محلاة بأروع الصور والخرائط الجديدة المنقحة التي لم يظهر لها من قبل مثيل في صحتها وإناقتها.
والأصول الخطية للكتاب في منتهى الرداءة؛ بحيث يصعب قراءة أية كلمة من كلماته دون مجهود شاق؛ فإخراج الكتاب جملة بهذه الصورة الرائعة من شدة التحري والجهد، ومع صعوبة أصول الكتاب ورداءتها التي ليس لها مثيل في المخطوطات، يعد عملا جليلا1.
وللفاسي عدا "كتاب شفاء الغرام" الذي نتحدث عنه عدة كتب من أهمها:
1- تاريخه الكبير المسمى "العقد الثمين في أخبار البلد الأمين" وهو مخطوط في أربعة أجزاء ضخام، ومنه عدة نسخ خطية بدار الكتاب المصرية، وقد ترجم فيه لولاة مكة وأعيانها وعلمائها وأدبائها، منذ ظهور الإسلام حتى عصره، وبدأ بالمحمدين والأحمدين، وفي صدره مقدمة لطيفة تحتوي على مقاصد الكتاب.
__________
1 راجع الضوء اللامع ج7 ص18.(2/498)
2- تحفة الكرام بأخبار البلد الحرام وهو مختصر لكتابه "شفاء الغرام"، ويسمى أيضا "تحصيل المرام من تاريخ البلد الحرام"، وقد اختصر هذا الكتاب وهو "تحفة الكرام" في كتاب عنوانه "هادي ذوي الأفهام إلى تاريخ البلد الحرام"، واختصر هذا الكتاب الأخير في كتابه له بعنوان "الزهور المقتطفة في تاريخ مكة المشرفة".
3- عجالة القرى للراغب في تاريخ أم القرى.
4- الجواهر السنية في السيرة النبوية.
5- منتخب المختار المذيل به على تاريخ ابن النجار1.
وقد توفي الفاسي ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شهر شوال المكرم عام 832هـ بمكة المشرفة بعد أن اعتمر في السابع والعشرين من رمضان من العام المذكور.
وكتاب شفاء الغرام هذا من أروع ما أبدعه مؤرخ عربي من حيث الدقة والأمانة العلمية والروعة في البحث والتحليل والاستقصاء والاستنتاج، ولا يعرض الفاسي لموضوع من موضوعات بحثه في الكتاب إلا ويذكر الآراء فيه وينقدها ويرجح بينها؛ مؤيدا كلامه بالدليل تلو الدليل، وقد دون فيه الفاسي أخبار مكة بتفصيل كثير، وإحاطة شاملة، ويعد من المصادر الأصيلة في هذا الموضوع بعد كتاب الأزرقي المتوفى نحو عام 250هـ، والفاكهي المتوفى نحو عام 280هـ، وقد رتبه الفاسي على أربعين بابا، تحدث فيها رحمه الله عن مكة وألم بالطائف وجدة، ولم يعرض للمدينة المنورة؛ لذلك رأينا إضافة كتاب ابن النجار في تاريخ المدينة كملحق لهذا الكتاب إتماما للفائدة واستكمالا للنفع.
وترجع أهيمة الغرام إلى استقصائه واستيعابه وجمعه لشتى الأخبار التي تتعلق بمكة وحرمها، مما لم يجمعه مدون بعد كتابي الأزرقي والفاكهي، وإلى نقله عن مصادر تاريخية تعد اليوم مفقودة.
والكتاب كما يقول المرحوم الأستاذ محمد مبروك نافع في تصويره له: "ليس كتابا لتاريخ مكة السياسي فحسب؛ بل هو بفصوله الأربعين يعتبر دائرة معارف شاملة لهذا البلد الحرام وما يتصل به من النواحي العمرانية والدينية والثقافية والاجتماعية، وفيه من هذه النواحي ما لا يوجد في كتاب آخر من كتب التاريخ المعروفة".
والباب الخاص بولاة مكة في الإسلام يعد كتابا ضخما مستقلا بذاته، وهو من أمتع ما كتبه الفاسي.
__________
1 منه نسخة مخطوطة سنة 830هـ، في مكة المكرمة.(2/500)
وبعد، فإن كتاب الفاسي بحق دائرة معارف رفيعة في تاريخ الإسلام والبلد الحرام والبيت والكعبة، وفي التاريخ العربي بوجه عام.
ونحن على ثقة من أن مجهود الفاسي في هذا الكتاب يكاد لا يضارعه مجهود مؤلف آخر، وشفاء الغرام أول كتاب كامل يطبع للفاسي، وقد سبق الأوروبيون فطبعوا في أوروبا منتخبات منه منذ نحو ثمانين عاما.
وإن الثقافة العربية لتستبشر اليوم بظهور هذا الكتاب كاملا في ثوب أنيق، وطباعة جميلة.
ونحب أن نشير هنا إلى أن في الكتاب كثيرا من الشعر المهلهل النسج، المضطرب الوزن، وفي بعضه ما لا يظهر معناه. ولولا المحافظة على الأمانة والدقة لألغينا الكثير منه، خاصة، وأن مراجعه معدومة؛ إذ لا يوجد في كتاب آخر وقع في يدنا غير "شفاء الغرام". ويبدو أن نسخ الكتاب كلها قام بنسخها أعاجم فحرفوا كثيرا من الشعر الوارد في الكتاب الذي يصعب فهمه على غير العناصر العربية، فأبدلوا كلمة بأخرى؛ مما جعل الشعر يضطرب.
ويوجد في "شفاء الغرام" نسخة في برلين برقم 9753، ونسخة ثانية في غوطا بألمانيا برقم 1706، ونسخة أخرى في باريس برقم 1633، وأخرى في الآستانة برقم 816، وأخرى في مدينة فاس برقم 1282.
وقد ساعدنا الحظ في العثور على نسخة خطية جديدة من الكتاب أثناء طبع الجزء الثاني، وهي برقم 2067 تاريخ، وكانت في مكتبة طلعة بالقلعة، ولم تبح دار الكتب المصرية الاطلاع على مخطوطات هذه المكتبة إلا منذ أمد قريب مما سهل علينا العثور على هذه النسخة، وقد صورناها تصويرا "فوتوغرافيا" وراجعنا عليها أصول الجزء الثاني؛ وذلك من بدء الملزمة الثالثة والعشرين، وهذا هو السر في تأخر صدور الجزء الثاني قليلا عن موعده الذي كنا عازمين على إخراجه فيه، وتقع هذه النسخة في 654 صفحة، وهي أوضح قليلا من النسختين الخطيتين الأخريين للكتاب، وإن كانت لا تختلف في قليل ولا في كثير عن نسخة دار الكتب المصرية الخطية الأخرى.
وقد نشرت مجلة المنهل الحجازية الغراء كلمة في عددها الأخير الذي ظهر أثناء طبع هذه الخاتمة للأستاذ إبراهيم الدروبي ببغداد أشار فيها إلى أن بالمكتبة القادرية ببغداد نسخة خطية من "شفاء الغرام" رقم 663، وقياسها 28 سم 20 سم، وعدد أسطر صفحتها 25 سطرا، ومجموع صحائفها 682 صفحة، وهي ناقصة الصحيفة الأولى والورقة الثالثة كلها ويظن أن ثلثي الكتاب من أوله من خطوط أهل القرن العاشر للهجرة، والباقي من خطوط القرن الثاني عشر للهجرة.(2/501)
وللأستاذ الأجلاء: الشيخ العلامة حمد الجاسر والسيد المحقق محمد سعيد العامودي والأستاذ عبد القدوس الأنصاري، والأستاذ عبد الله عبد الجبار الشكر على توجيهاتهم الصائبة لنا أثناء طبع الكتاب.
ونحن هنا نعتذر للقارئ عن بعض الأخطاء المطبعية التي حاولنا جهدنا التخلص منها؛ ولكن دائما الكمال لله وحده.
كما نرجو أن يوفقنا الله في القريب العاجل لإخراج دراسة تفصيلية عن الكتاب ومخطوطاته التي وصلت إلينا، مع فهارس الأعلام والأماكن التي تفضل الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم مدير الشؤون المكتبية بدار الكتاب المصرية بالقيام بعملها.
ولا يفوتنا في هذا المقام تقديم خالص الشكر لمدير دار إحياء الكتب العربية وعمالها جميعا، ونخص بالشكر الأستاذ سليم الحلبي مدير المطبعة، والسيد إبراهيم كامل رئيسها لما قاما به من جهد مشكور في معاونتنا في إخراج وطبع هذا الكتاب القيم بهذه الصورة اللائقة.
ونحن نحمد الله أخيرا على فضله وتوفيقه، وعلى أن سدد خطانا إلى الصواب، ونسأله مزيد السداد، وأن يلهمنا الحق، ويعرفنا إياه أنه أكرم مأمول، وأفضل مسؤول، وما توفيقنا إلا بالله عليه نتوكل وإليه ننيب.(2/502)
فهرس المحتويات:
الباب السادس والعشرون: في ذكر شيء من خبر إسماعيل عليه السلام وذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام:
3 في ذكر شيء من خبر إسماعيل -عليه السلام
10 ذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-
الباب السابع والعشرون: في ذكر شيء من خبر هاجر أم إسماعيل عليه السلام وذكر أسماء أولاد إسماعيل وفوائد تتعلق بهم وذكر شيء من خبر بني إسماعيل وذكر ولاية نابت بن إسماعيل للبيت الحرام
19 ذكر شيء من خبر هاجر؛ أم إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-
22 ذكر أسماء أولاد إسماعيل، وفوائد تتعلق بذلك
26 ذكر شيء من خبر بني إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-
29 ذكر ولاية نابت بن إسماعيل -عليه السلام- للبيت الحرام
الباب الثامن والعشرون: في ذكر ولاية إياد بن نزار بن معد بن عدنان للكعبة وشيء من ذكر ولاية بني إياد بن نزار للكعبة وشيء من خبرهم وخبر مضر ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش
30 ذكر ولاية إياد بن نزار بن معد بن عدنان للكعبة
33 ذكر ولاية بني إياد بن نزار وخبر مضر ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش(2/503)
الباب التاسع والعشرون:
38 ذكر من ولي الإجازة بالناس من عرفة ومزدلفة ومنى من العرب في ولاية جرهم وفي ولاية خزاعة وقريش على مكة
الباب الثلاثون: في ذكر من ولي إنساء الشهوء من العرب بمكة وصفة الإنساء، وذكر الحمس، والحلة، والطلس
48 ذكر من ولي إنساء الشهور من العرب بمكة
49 ذكر صفة الإنساء
51 ذكر الحمس والحلة
53 ذكر الطلس
الباب الحادي والثلاثون: في ذكر شيء من خبر خزاعة ولاة مكة في الجاهلية ... إلخ
54 ذكر نسبهم
58 ذكر سبب ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية
59 ذكر مدة ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية
60 ذكر أول من ولي البيت من خزاعة، وغير ذلك من خبر جرهم
68 ذكر شيء من خبر عمرو بن عامر الذي ينسب إليه خزاعة وشيء من خبر بنيه
الباب الثاني والثلاثون: في ذكر شيء من أخبار قريش بمكة في الجاهلية وشيء من فضلهم وما وصفوا به وبيان نسبهم وسبب تسميتهم بقريش وابتداء ولايتهم للكعبة وأمر مكة
73 ذكر شيء من فضلهم وما جاء في أنهم خير العرب
73 ما جاء في أن الخلافة لا تزال في قريش
73 ما جاء في عقوبة من عادة قريشا
74 ذكر ما وصفت به بطون قريش
75 ذكر أهل البطاح والظواهر والعارية والعائدة من قريش
76 قريش العائدة
77 ذكر بيان نسب قريش
79 ذكر سبب تسمية قريش بقريش وما قيل في ذلك
80 ذكر ابتداء ولاية قريش الكعبة المعظمة ومكة(2/504)
الباب الثالث والثلاثون
91 في ذكر شيء من خبر بني قصي بن كلاب
91 توليتهم لما كان بيده من الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والقيادة وتفسير ذلك
الباب الرابع والثلاثون
110 في ذكر شيء من خبر الفجار والأحابيش
112 ذكر يوم العبلاء
112 ذكر يوم شرب
113 ذكر يوم الحريرة
115 ذكر الفجار الأول وما كان فيه بين قريش عيلان وسبب ذلك
117 ذكر شيء من خبر الأحابيش ومحالفتهم لقريش
الباب الخامس والثلاثون: في حلب الفضول
118 ذكر شيء من خبر حلف الفضول
124 ذكر شيء من خبر ابن جدعان الذي كان في دار حلف الفضول
128 ذكر شيء من خبر أجواد قريش في الجاهلية
128 ذكر الحكام من قريش بمكة في الجاهلية
129 ذكر تملك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي على قريش بمكة وشيء من خبره
الباب السادس والثلاثون: في ذكر شيء من خبر فتح مكة وفوائد تتعلق به
131 ذكر شيء من خبر فتح مكة
146 ذكر فوائد تتعلق بفتح مكة
الباب السابع والثلاثون
188 في شيء من ولاة مكة المشرفة في الإسلام
208 الدولة العباسية
الباب الثامن والثلاثون
253 في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام(2/505)
الباب التاسع والثلاثون: في ذكر شيء من أمطار مكة وسيولها في الجاهلية والإسلام وشيء من خبر الصواعق بمكة، وذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة على ترتيب ذلك ففي السنين
314 سيول مكة في الجاهلية
314 سيول مكة في الإسلام
325 ذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة على ترتيب ذلك في السنين
الباب الأربعون: في ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها وشيء من خبرها وذكر شيء من خبر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام، وذكر شيء مما قيل من الشعر في الشوق إلى مكة المشرفة وذكر معالمها المنيفة
336 ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها وشيء من خبرها
337 ما جاء في أول من نصب الأصنام وما كان من كسرها
340 ذكر ما جاء في اللات والعزى وما جاء بعدها
341 ذكر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام
345 ذكر شيء مما قيل من الشعر في التشوق إلى مكة الشريفة وذكر معالمها المنيفة
355 خاتمة المؤلف للكتاب:
الملحق الأول: ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام"
359 ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام"
الملحق الثاني: في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة
379 مقدمة: بقلم اللجنة التي أشرفت على تحقيق الكتاب
383 مقدمة المؤلف
385 الباب الأول: في ذكر أسماء المدينة وأول من سكنها
386 ذكر سكنى اليهود الحجاز
387 ذكر نزول أحياء من العرب على يهود
388 ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة(2/506)
389 ذكر قتل يهود واستيلاء الأوس والخزرج على المدينة
390 الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة
391 الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه
394 الباب الرابع: في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها
395 ما جاء في ثمرها
396 ما جاء في انقباض الإيمان إليها
396 ما جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بالبركة
396 ما جاء في الصبر على لأوائها وشدتها
397 ما جاء في ذم من رغب عنها
397 ما جاء في ذم من أخاف المدينة وأهلها
397 ما جاء في منع الطاعون والدجال من دخولها
399 ذكر ما يؤول إليه أمرها
399 تضعيف الأعمال بها
399 فضيلة الموت بها
400 الباب الخامس: في ذكر تحريم النبي للمدينة وحدود حرمها
401 الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله
403 الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها
408 الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضل الشهداء به
413 الباب التاسع: في ذكر إجلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير من المدينة
414 الباب العاشر: حفر النبي -صلى الله عليه وسلم- الخندق حول المدينة
417 الباب الحادي عشر: في ذكر مقتل بني قريظة بالمدينة
419 فضيلة المسجد والصلاة فيه
421 ذكر حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-
423 ذكر مصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل
424 ذكر عمل المنبر
426 ذكر الروضة
427 ذكر سد الأبواب الشوارع من المسجد، ذكر تجميره، ذكر تخليقه منع آكل الثوم من دخوله(2/507)
428 النهي عن رفع الصوت فيه، جواز النوم فيه، جواز الصوم على الجنائز فيه، النهي عن إخراج الحصى منه، ذكر مواضع تأذين بلال
429 ذكر أهل الصفة رضي الله عنهم
430 ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة
430 ذكر موضع اعتكاف النبي -صلى الله عليه وسلم-
430 ذكر أسطوانة التوبة
431 ذكر أسطوانة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يصلي إليها
431 ذكر أسطوانة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يجلس إليها إذا جاءه الوفود
432 ذكر أسطوانة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
432 ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين المسجد
432 ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد
434 ذكر زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه فيه
435 ذكر زيادة الوليد بن عبد الملك فيه
437 ذكر زيادة المهدي فيه
439 ذكر الستارة التي كانت على صحن المسجد
439 ذكر المصاحف التي كانت بالمسجد
440 ذكر السقايات التي كانت في المسجد
440 ذكر ذرع المسجد اليوم وعدد أساطنيه وطبقاته وأبوابه
442 الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها
445 الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه
446 الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما
451 ذكر وفاة أبي بكر رضي الله عنه
452 ذكر وفاة عمر رضي الله عنه
460 الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم-
464 الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله
468 الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة ومن بعدهم
الملحق الثالث: في العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة
473 العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة(2/508)
478 المسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية
481 سير العمل في العمارة الجديدة
483 المباني التي هدمت
485 وصف المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة
486 أبواب الحرم النبوي الشريف
488 حول عمارة المسجد النبوي الشريف، أسئلة موجهة من الحاج عبد الشكور فدا إلى سعادة الشيخ صالح القزاز وإجابة فضيلته عليها
الملحق الرابع: بعض آثار المدينة والمزارات وغيرها
493 مساجد المدينة المنورة
496 القصور التاريخية بالمدينة
497 خزانات ماء الشرب
499 كلمة الختام(2/509)