الادميرال ماكين أصر على عدم ذهابنا إلى إسرائيل، أو التحدث مع الإسرائيليين حول هذا الموضوع مطلقاً. وللأسف أننا في لجنة التحقيق لم ننظر في شهادات أكثر من 60 شخصاً من الناجين والجرحى.
6. أنا شديد الأسف، وغاضب للغاية من هؤلاء، الذين يبررون لإسرائيل في هذا البلد (الولايات المتحدة)، ويرددون بأن الهجوم كان بسبب عدم التعرف إلى هوية السفينة، وعلى وجه الخصوص (جي كريستول). (فجي كريستول) يلوي الحقائق ويقدم بطريقة خاطئة أولئك الذين حققوا في الحادث. ومحاولات (كريستول) المليئة (باللؤم) لغسل الحقائق دفعتني للخروج عن صمتي.
7. أنا أعلم من محادثاتي مع الأدميرال كيد أن الرئيس (جونسون) ووزير الدفاع (روبرت ماكنمارا) أمراه بأن يجعل نتائج التحقيق تخلص إلى أن الهجوم على ليبرتي، كان حادثاً بسبب عدم التعرف إلى هوية السفينة، وإنما كان حادثاً تم خطأ، رغم الأدلة التي تدل على عكس ذلك. فالأدميرال (كيد) قال لي بعد عودته من واشنطن: إنه تلقى أوامر بالجلوس مع شخصين مدنيين من البيت الأبيض ووزارة الدفاع، لإعادة كتابة أجزاء من تقرير لجنة التحقيق.
8. الأدميرال (كيد) أيضا قال لي: إنه قد صدرت إليه أوامر بالتغطية على كل شيء له علاقة بالهجوم على ليبرتي، و (إننا) ممنوعان من التحدث على الإطلاق عنها، وأن علينا أن نحذر الآخرين من ألا يفتحوا فمهم في هذا الموضوع إلى الأبد، وأنا ليس لدي أي سبب يجعلني أشك في هذا الكلام. أنني أعرف أن لجنة التحقيق والسجل المكتوب الذي نشر لاحقاً للرأي العام ليس هو السجل الذي كنت قد وقعت عليه وأرسلته إلى واشنطن. لقد كان علينا تحت ضغوط الوقت أن نصحح باليد، ونوقع على عدد كبير من الصفحات. وعندما قمت بفحص التقرير الذي نشر لم أر أياً من الصفحات التي سجلتها، وكانت تحمل توقيعي، وأيضاً فإن أصل التقرير لم تكن به صفحات بيضاء كالتي رأيتها في التقرير المنشور. أيضاً شهادة الملازم (بينتر) المتعلقة بالهجوم المتعمد على (الجرحى الأمريكيين) في قوارب النجاة من قبل أطقم التوربيدو الإسرائيلي، تم حذفها من التقرير الرسمي المنشور. وبعد نهاية عمل لجنة التحقيق استمررنا أنا وكيد في التواصل ومناقشة الموضوع في ما بيننا، وفي كل مرة كان الأدميرال مصراً على أن الإغراق كان متعمداً، ومن المهم للشعب(2/227)
الأمريكي أن يعلم أن (إسرائيل) مسئولة عن إغراق السفينة ليبرتي، وقتل بحارتها الأمريكيين، وعن هؤلاء الضحايا الذين قتلوا ومشاعر أسرهم، وكذلك الناجين الذين عاشوا هذه الظروف التي تفوق الوصف (1).
شارون وأحداث سبتمبر
ونعود إلى (ديفيد ديوك) الذي - بعد ان سلط الضوء على المنطلقات الذهنية اليهودية العنصرية الحاقدة على البشرية، والطريقة التى يفكر بها القادة الصهاينة وشارون بالذات وعدم تورعه عن اللجوء إلى أحط الوسائل لتنفيذ ما يسميه بأهداف الصهيونية القذرة، وسعيها إلى جر العالم إلي حرب عالمية ثالثة - يتابع مقاله بالقول: لقد أوردت هذا لأقول إنه من هنا، ومن هذه المنطلقات في الذهنية اليهودية ينبغي أن نبدأ النظر، إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا. فقد تملكت شارون رغبة جامحة بافتعال حدث جديد خفي وسرى على غرار قضية (لافون) و (ليبرتى). كان يسعى لقضية لا يعتريها الخطأ ولا يفسدها خلل ما. كان شارون يتلهف بيأس على حدث رهيب بالغ الشناعة يقلب العالم رأساً على عقب، ويحول الرأي العام العالمي ويطلق له العنان ليفعل ما يشاء بالفلسطينيين، وعثر على ضالته في منظمة القاعدة بزعامة بن لادن، حيث اخترقها الموساد واقترح خطة هجمات نيويورك وواشنطن. وهنا يقول (ديفيد ديوك): "إن خبراء مركز الأبحاث والدراسات العسكرية في الجيش الأمريكي، يقولون: إن الموساد لديه القدرة على توجيه ضربات لقوات ومصالح أمريكية، وجعل الأمر يبدو على أنه من تدبير فلسطينيين أو عرب" (2).
ويضيف (ديفيد ديوك): "لا يجرؤ على التستر على الدور الخياني المجرم الذي قامت به إسرائيل في هجمات 11 سبتمبر سوى الخونة من الأمريكيين. الخونة وحدهم هم الذين يحجمون عن مقاضاة مائة من جواسيس إسرائيل، الذين تم
_________
(1) راجع أيضا العراق أولاً - حرب إسرائيل الخاطفة على نفط الشرق الأوسط (عملية شيخينا) - تأليف جوفيالز- ترجمة مروان سعد الدين ص17
(2) سؤال يتجدد: هل كانت "إسرائيل" وراء أحداث سبتمبر؟ إميل أمين الخميس- 30 - 6 - 2005 - العدد 9538(2/228)
القبض عليهم، ويعيدوهم ـ بدل أن يحاكموهم ـ إلى إسرائيل كي يطمس الحق، ويتم التستر على دور إسرائيل في الهجمات. الخونة وحدهم هم الذين يقدمون الدعم الأمريكي لجرائم إسرائيل المروعة ضد الشعب الفلسطيني، تلك الجرائم الشنيعة ضد الإنسانية، وهى جرائم لا تتصف فقط بأنها تسدد طعنة للإحساس الأمريكي بالعدل، بل أنها جرائم تدمر بلدنا في كل أنحاء العالم وتشوه سمعتنا، وتجعلنا عرضة لمزيد من الإرهاب في المستقبل.
ثم يختم (ديفيد ديوك) كلامه بالقول: "أنني ارتجف خشية على أمريكا، بلدي، وامتلئ مرارة وألماً لفقد بلدي استقلاله وحريته ورضوخه مذعناً لهيمنة دعاة التفوق العنصري اليهودي، مثل القاتل بالجملة، ومجرم الحرب أرييل شارون. وأنني لابتهل إلى الله من اجل أن يحل السلام، وقلبي كله لوعه مما يصيب عشرات الآلاف من الفلسطينيين المجهولي الأسماء، الذين يعانون في هذه اللحظة اشد المعاناة في وطنهم الحبيب، كما أنني أتضرع إلى الله من اجل أولئك اليهود الأبرياء، الذين دفعوا ثمن إرهاب شارون وغيره من دعاة العنصرية اليهود، وأصلي من أجل الشعب الأمريكي كي تتمكن من كسر أصفاد هذه الخيانة ضد شعبنا .. الخيانة ضد كل تلك المبادئ السامية، التي قام على أساسها بلدنا الحبيب (1).
الجماعات المسيحية المتطرفة وأحداث 11 سبتمبر
إذا كان احتمال مسئولية اسرائيل عن احداث 11 سبتمبر كبير حسب ما اوردناه من ادلة وشواهد واقعية وتاريخية، فإن احتمال مشاركة الجماعات اليمينية المتطرفة في الاحداث كبير جداً بسبب علاقاتها المميزة مع اسرائيل ورغبتها في التعجيل بالمعركة النهائية بين ما يسمى الخير والشر. فمن خلال ما تقدم اتضح لنا ـ وبإجماع الخبراء ـ على أن التفجيرات لا يمكن أن يخطط لها من الخارج، بل إن المخططين والمنفذين من داخل أمريكيا، ولديهم معلومات بالغة الدقة في كافة المجالات، وهنا لا بد من التساؤل: لماذا لم يتم توجيه الاتهام للجماعات المسيحية المتطرفة التي
_________
(1) عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوك- ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002 - عدد 8510(2/229)
تعد بالمئات؟ والتي تمتلك أسلحة ومليشيات، ولديها سوابق في هذا المجال مثل ما حدث في (اوكلاهوما)، كما أن هذا الجماعات تؤمن بأفكار ونبوءات متطرفة وجنونية، تقول بقرب نهاية العالم، وقيام معركة فاصله بين قوى الخير وقوى الشر، ولهذا فلا يستبعد أن تكون إحدى هذه الجماعات، هي التي نفذت الهجوم لاستعجال نهاية العالم وعودة المسيح إلى الأرض، وهنا سنعرض لمثل حي لهذه المحاولات، حيث سبق لمكتب التحقيق الفدرالي أن نبه إلى خطر هذه الجماعات، في تقرير نشر في 20/ 10/1999م (1).
فقد ذكرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، نقلاً عن تقرير صادر عن المكتب الفيدرالي الأمريكي في 20 أكتوبر 1999 م أن المتطرفين المسيحيين الأمريكيين يستعدون للقيام بأعمال عنف كبيرة في بداية القرن العشرين داخل الولايات المتحدة. وأضافت الصحيفة تقول: إن هذا العنف المتوقع سيكون راجعاً لاعتقاد الذين يؤمنون بالإنجيل بأن نهاية العالم ستكون في الألفية الثالثة (2). وذكرت أن التقرير الأمريكي يشير إلى أن هناك توترات يمكن أن تحدث بين المسلمين واليهود في القدس استنادًا للأسطورة -التي يؤمن بها مسيحيون ويهود- والقائلة بأن منطقة (هرمجيدون) التي تقع شمال فلسطين ستشهد حرباً بين الخير (اليهود) والشر (المسلمين)، وسينتصر فيها الخير، كما سيتم استخدام الأسلحة النووية في هذه الحرب، وسيباد كل المسلمين، وسيعود العالم مرة أخرى إلى حالته البدائية.
ويضيف التقرير: أن الآلاف من السياح الأمريكيين بدءوا يتوافدون على إسرائيل للاشتراك في هذه المعركة، وأن الإيمان الراسخ بهذه الأسطورة دفع أشخاصاً عديدين لاقتناء حاجاتهم من الغذاء والمال والسلاح والملابس انتظارًا لنهاية العالم.
_________
(1) موقع إسلام اون لاين 20/ 10/1999
(2) عبر الرئيس نيكسون عن هذا الاعتقاد بقوله: سوف نحتفل بعد اثني عشر عاماً بيوم يأتي كل ألف سنه، فهو بداية سنه جديدة وقرن جديد وألف سنه جديدة. ولأول مره في مثل هذا اليوم التاريخي، لن يكون الخيار المطروح أمام الجنس البشرى هو مجرد جعل المستقبل خيراً من الماضي، بل إذا كنا سنعيش لنتمتع بالمستقبل أم لا. فقد استهل العالم الألف سنه الماضية بإحساس محموم بأنه نذير شؤم، وذلك عندما استشار زعماء الدين الإنجيل وتنبأوا بأن نهاية العالم وشيكة. إذ خشوا انه في سنة 1000 سوف تدمر قوة الرب العالم، وفي سنة 2000 ستدمر قوة الإنسان العالم، إذا لم يقم بعمل للحيلولة دون ذلك. (1999 نصر بلا حرب - ريتشارد نيكسون - تقديم المشير/ محمد عبد الحليم أبو غزالة ص23). مركز الاهرام, 1989.(2/230)
وفي الإطار نفسه، وفي يناير سنة 1999م اعتقلت الشرطة الإسرائيلية وأبعدت إلى الولايات المتحدة ثمانية أعضاء في طائفة أميركية (المسيحيون القلقون)، اتهمتها بالسعي إلى الانتحار بشكل جماعي بمناسبة حلول الألفية الثالثة. وأفادت الصحافة الأميركية أن زعيم هذه الطائفة (مونتي كيم ميلر) تنبأ بأنه سيقتل في شوارع القدس في ديسمبر 1999م، وأن هذا الحدث سيطبع نهاية الألفية الثانية. ويعتقد المسيحيون من أصحاب هذه النظرية أن تدمير مسجدي القدس (الأقصى وقبة الصخرة)، وإعادة بناء المعبد اليهودي مكانها يشكل مقدمة لعودة المسيح وللدينونة الأخيرة.
ويضيف التقرير: إن عدداً من المنظمات الدينية التي تنتظر يوم الدينونة في سنة 2000م، خزنت أسلحة في مخابئ سرية بغية تنفيذ اعتداءات تستهدف قواعد للجيش الأميركي، ومكاتب الأمم المتحدة والمؤسسات اليهودية، والسكان السود في الولايات المتحدة، والأقليات العرقية فيها، ولذلك طلب مكتب التحقيقات الفيدرالي ( F. P.I) من أجهزة الشرطة المحلية مراقبة الميليشيات المتطرفة، والطوائف التي يمكن أن تستغل حلول عام ألفين للقيام بأعمال إرهابية أو عمليات انتحار جماعي. وفي تقرير من أربعين صفحة وُزِّع عبر العالم، أوضح مكتب التحقيقات الفيدرالي أنواع التهديدات، وفصّل المراجع التوراتية التي تستعملها هذه المجموعات.
وجاء في هذا التقرير أيضاً: أن هذه الحركات قد تستغل اقتراب عام ألفين من أجل التعجيل بـ (نهاية العالم)، وهي تعتقد أنها باتت قريبة. ويطلب التقرير من أجهزة الشرطة المحلية أن تكون بالمرصاد، وأن تبلغ عن أي تغيير في تصرفات هذه المجموعات، مثل استعدادات مشبوهة أو تخزين متفجرات ... وما إلى ذلك. ويخشى ( F.P.I) أيضا من حصول أعمال فردية يقوم بها أعضاء في هذه المجموعات. وأوضح مكتب التحقيقات الفيدرالي في بيان له، "أن (مشروع مجدو) يقدم (رؤية شاملة لأيديولوجيات متطرفة مختلفة، وخصوصاً تلك التي تدعم أو تدعو إلى القيام بأعمال عنف في عام 2000م". ومن بين هذه المجموعات المستهدفة، يعدد البيان خصوصاً (مناصرين أشداء لتفوق العنصر الأبيض)، الذين يسعون إلى شن حرب عنصرية، ويؤمنون ببدع تنتظر معركة كبرى نهائية عنيفة، وكذلك أعضاء متطرفون في(2/231)
ميليشيات يخشون أن تقوم الأمم المتحدة باجتياح الولايات المتحدة وإقامة نظام عالمي جديد (1).
هذا تقرير لمكتب التحقيق الفدرالي أعد منذ سنوات، ربما يفيد في تحديد المسئول عن التفجيرات، ولكن يبدو أن الإدارات الأمريكية السابقة والحالية، لا تروق لها هذه الأدلة، ولهذا لم تفتش عن السبب الحقيقي، بل لجأت إلى عدو وهمي وجاهز لإلصاق التهمه به، وهو العرب والمسلمين، من أجل إشعال هرجيدون وتحقيق النبوءات التوراتية.
وفي نفس الاطار يورد (بول فندلي) في كتابه (لا سكوت بعد اليوم) حادث مشابهه حيث يقول: "في الأيام الأخيرة من سنة 1999م، استعد العديد من الأمريكيين لمواجهة مزيد من العنف. كانت مجزرة اوكلاهوما سيتى حية في ذاكرتهم، حين جاءت بلاغات إدارة كلينتون التحذيرية، حول هجوم محتمل، قد يشنه إرهابي مسلم في يوم رأس السنة الجديدة، أو لاحقاً. وتعمقت المخاوف حين حاول جزائري مسلم، يسعى للدخول إلى الولايات المتحدة، تهريب ما وصف بأنه تجهيزات لصنع متفجرات، عبر نقطة جمارك، بالقرب من (سياتل) على الحدود مع كندا. واحتل نبأ اعتقاله صدارة عناوين الأخبار، لعدة أيام، في كافة وسائل الإعلام الأمريكية المرئية والمقروءة. وازداد قلق الأمريكيين، أكثر فأكثر، عندما اعتقل مسلمان آخران في مدينة نيويورك سيتى، وجرى استجوابهما بحثاً عن أي علاقة محتملة تربطهما بالمعتقل في سياتل أو بان لادن. وعلى الرغم من عدم مقاضاة هذين الشخصين، إلا أن الأنباء عن اعتقالهما التي أرفقت بصور ابن لادن الخطير، عززت خوف الأمة جمعاء من إرهاب يفد عليها من الخارج" (2).
من خلال مقارنه هذا الكلام بالتقرير الذي نشرته F.P.I، وقامت بتوزيعه على مراكز الشرطة والصحف، فإننا نلاحظ أن تقرير F.P.I لم يحظَ بالتغطية الإعلامية المناسبة، بل حصل العكس، حيث تم إسقاط التهمه على عدو جاهز خارج أمريكا يتمثل بالمسلمين، وتم تلفيق تهمه مزيفه لأشخاص عاديين، جريمتهم
_________
(1) سنعرض لافكار مثل هذه الجماعات عند حدثنا عن الارهاب الأمريكي الداخلي
(2) لا سكوت بعد اليوم - بول فندلى - ص102(2/232)
الوحيدة أنهم مسلمون، ليكونوا جاهزين ككبش فداء لما كان متوقعاً أن تقوم به الجماعات الأصولية الأمريكية المتطرفة. وبهذا ضربت الإدارة الأمريكية عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية تصدر مشاكلها إلى الخارج، حتى لا تضطر إلى مواجهة الجماعات الأصولية الأمريكية المتطرفة، مما سيؤدى إلى حالة اضطراب وفوضى داخل أمريكيا، ومن ناحية أخرى يتيح لها اتهام العرب والمسلمين تحقيق مخططها الصليبي في المنطقة.
"فالفاعل في احداث 11 سبتمبر -كما يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل- كانت تحركه دوافع نفسية مختلفة بالكامل عن التصور العربي للحركة المطلوبة إزاء الولايات المتحدة. بمعنى أن مطلب العرب من أمريكا أن تضغط على إسرائيل، وهذا الضغط في حد ذاته ـ لابد أن يكون بعيار ومقدار، بان مرات متعددة في عمليات سابقة سببت أضراراً جسيمة، ومع ذلك تركت قنوات مفتوحة! لكن الفاعل صباح الثلاثاء 11 سبتمبر لم يظهر راغباً في التأثير أو مباشرة الضغط بمختلف درجاته، بل لم يكن في شكل فعله انه يبعث بإشارة ـ حتى لو كانت دموية ـ إلى المستقبل، ولم يترك ثغرة لفرصة. وإنما كان الفاعل كما تقول كافة الإشارات غاضباً، وكان مصراً على الانتقام، وفي الغالب من شيء وقع (1). ولهذا فقد رجّح الدكتور (عصام العريان) أحد قيادات الإخوان المسلمين بمصر، أن يكون منفذ سلسلة الهجمات التي طالت مؤسسات صنع القرار الأمريكي في نيويورك جماعات من داخل الولايات المتحدة لا من خارجها. وقال العريان: إن هناك غضباً من المواطنين الأمريكيين تجاه عدم العدالة التي يعانون منها، وهو ما اعترف به من قبل "ماكفاي" مفجّر أوكلاهوما عام 1993م، حيث ذكر أنه نفّذ الحادث (لأن أمريكا دولة ظالمة) من وجهة نظره، و (لا تقيم العدل بين مواطنيها). وأشار القيادي الإسلامي إلى أن السياسة غير الرشيدة لإدارة بوش ومن سبقه قد تكون دفعت إحدى التنظيمات السرية إلى القيام بمثل هذه العمليات التي لم يسبق لها مثيل في العالم (2). يضاف إلى كثير من العمليات
_________
(1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص135
(2) "إسلام أون لاين. نت" الثلاثاء 11ـ 9ـ2001م(2/233)
الإرهابية التي حدتث في أمريكيا، ولم تولها وسائل الإعلام أي اهتمام، والتي سنعرض لبعضها ..
حوادث لها دلالات
في ظل سيطرت لاهوت هرمجيدون على صلب اهتمامات المتهودين البروتستانت ـ وعلى رأسهم كثير من صناع القرار الأمريكي ـ وفي ظل الانتشار الكبير للجماعات الأصولية المسيحية المتطرفة، يجب أن نتوقع تصعيد كبير في حملة أمريكيا الصليبية على العالم الإسلامي عن طريق افتعال واختلاق المبررات لإشعال الحرب في المنطقة. فبالرغم من أنه قد ثبت، وباعتراف الإدارة الأمريكية أن المسئول عن نشر بكتيريا الجمرة الخبيثة، هم جماعات يمينية أمريكية متطرفة، إلا أننا لاحظنا محاولات أمريكية لإلصاق هذه التهمة بالمسلمين كما فعلت في تفجيرات نيويورك.
فقد نشرت جريدة الملتقى الدولي في عددها 425 الصادر يوم الخميس 25/ 10/2001م تقريراً قالت فيه: اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية، أن منفذي العمليات الحقيقية في نيويورك وواشنطن ليست جماعة تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، وتوصلت أجهزة التحقيقات في المباحث الفيدرالية الأمريكية وجهاز الاستخبارات الأمريكية والمدعي العام التابع لوزارة العدل الأمريكية أن الجناة الحقيقيين لا علاقة لهم بتنظيم أسامة بن لادن، وأن جماعة أمريكية متطرفة هي صاحبة تدبير مؤامرة مركز التجارة العالمي .. وأن الذين نفذوا العملية عناصر من أحد جماعة تدعى U.P.A، وهي جماعة مسيحية بالغة التطرف تسعى للانقلاب على النظام العالمي الجديد، وتدعو إلى تدمير صور الحضارة العالمية بكل صورها .. وتعتقد تلك الجماعة أن الولايات المتحدة الأمريكية بتقدمها التكنولوجي تمضي على عكس ما تنص عليه المعتقدات الدينية لهذه الجماعة، ومن هنا وجب الانقلاب على الولايات المتحدة وتدمير قوتها وعظمتها الاقتصادية والعسكرية. وقد ألقت السلطات الأمريكية القبض على شابين أمريكيين بعد محاولة اختطاف طائرات مدنية، وتنفيذ عمليات إرهابية وقد منعت كل أخبار هذين الشابين الأمريكيين. لكن المقربين من(2/234)
التحقيقات كشفوا أن هذين المواطنين الأمريكيين اعترفا أمام رجال المباحث الأمريكية أنهم وجماعتهم وراء هذه الإنفجارات، لأنهم يعتقدون أن نزول المسيح لن يكون إلا بعد أن تدمر الحضارة المدنية بدءاً من أمريكا (1).
كما أنه بعد تفجيرات نيويورك حدثت العديد من محاولات اختطاف الطائرات والعمليات الإرهابية، التي قام بها أمريكيون من أتباع التيار اليميني المتطرف، حيث حاولت الإدارة الأمريكية التكتم على التحقيقات بشأنها أو الإيحاء بأنهم من أصول عربية، ولكن بسبب كثره هذه العمليات ووجود دلائل دامغة على منفذيها الحقيقيين لم تستطع اتهام العرب والمسلمين بها، نذكر منها:
1. بكتيريا الجمرة الخبيثة: حاولت الإدارة الأمريكية توجيه التهمه في البداية إلى تنظيم القاعدة والعراق، بسبب رغبتها في توسيع دائرة الحرب، ولكن بسبب اتضاح هوية الذين يقفون وراءها للجميع أضرت إلى الاعتراف بمسئولية الجماعات اليمينية المتطرفة عنها، وطي ملف هذا القضية الخطيرة، بدون اعتقالات أو ملاحقات أو حملات عسكرية!!؟.
2. في 9/ 1/ 2002م قالت الشرطة في إحدى مقاطعات ولاية كاليفورنيا: إن موظفاً سابقاً في محطة للطاقة النووية اعتقل بعد تهديده بتنفيذ عمليات إرهابية بالمحطة. كما أعلنت الشرطة اكتشاف عشرات من قطع الأسلحة في مخزن سري بمنزل المتهم، وتم احتجاز الرجل الذي لم يكشف النقاب عن اسمه في سجن في سانتا آنا, للتحقيق معه بتهمة التهديد الإرهابي. وكان المتهم (43 عاماً)، تعرض للطرد من عمله في محطة لتوليد الطاقة النووية تقع في شمال مقاطعة سان دييغو. وقالت أنباء إنه أعلن تهديدات ضد المحطة وضد أحد زملائه في العمل. ووجدت في بيت الرجل 150 قطعة سلاح إضافة إلى آلاف من الطلقات الحية. كما تم العثور على مواد كيماوية مختلفة تم إرسالها للفحص، وقال أحد المسئولين: "إننا نأخذ على محمل الجد أي تهديد خصوصاً من أولئك الذين كانوا يعملون سابقاً في منشأة نووية, كما أن وجود هذا الكم من السلاح في مخزن سري يجعلنا نعتقد أنه قادر على تنفيذ تهديده". وكان أحد أصدقاء المتهم قد أبلغ السلطات بفحوى التهديدات، التي
_________
(1) جريدة الملتقى الدولي -عدد 425 - الخميس 25/ 10/2001م(2/235)
صدرت عنه بحق العاملين في المحطة النووية. غير أنه لم يتم الكشف عن فحوى تلك التهديدات (1).
3. وقعت في تلك الفترة العديد من حوادث اختطاف وتفجير الطائرات، والتي قام بها أمريكيون منها:
- تحطم طائرة أمريكان ايرلاين بتاريخ 13 نوفمبر2001م بعيد إقلاعها من مطار نيويورك بدقائق، حيث أدى الحادث إلى مقتل 260 شخصاً كانوا على متنها إضافة إلى عدد من الأشخاص في المنطقة التي تحطمت الطائرة فوقها، ولم تعرف الأسباب الحقيقية لذلك وطوى ملف القضية.
- قام شخص بريطاني يدعى (ريتشارد ريد) بمحاولة إشعال مواد متفجرة كان يخفيها في حذائه داخل طائرة أمريكان ايرلاين، التي كانت متجهة من باريس إلى ميامى، حيث زعم في البداية أن المتهم ذو ملامح عربية، ولكن بعد التحقيقات الدقيقة اتضحت هوية هذا الشخص، فطوي ملف القضية ولم يعد يسمع عنها أحد!!؟
- بتاريخ 5/ 1/2002 م قام صبى أمريكي يدعى (تشارلز بيوش) (15عاماً) بالتوجه إلى مطار سانت بيترسبورج الدولي، لتلقى دروس الطيران، وبعد ذلك قام بالإقلاع بطائره صغيره ذات محرك واحد، بدون مدربه، ودون إذن من المطار، وقام بالتحليق فوق منطقة ممنوعة هي القيادة المركزية، التي تدار منها الحرب في أفغانستان، حيث لاحقته طائرات أمريكية مقاتلة، وطالبته بالهبوط ولكنه تجاهل ذلك، واصطدم بمبنى بنك اوف أمريكا المؤلف من 42 طابقاً وسط مدينة ميامى، حيث أسفر الحادث عن مقتل الصبي وأحداث أضرار بسيطة في المبنى. وحينها ادعت الشرطة الأمريكية أنها عثرت على رسالة في جيب الصبي تشير إلى تعاطفه مع أسامه بن لادن؟!! وهو الأمر الذي شكك في صدقه كثير من المراقبين الذين قالوا: إن الإعلان عن وجود رسالة في جيب الصبي يأتي في إطار المحاولات
_________
(1) موقع إسلام اون لاين(2/236)
الأمريكية لإلصاق أي تهمة بالعرب والمسلمين. والغريب في الأمر إن الشرطة الأمريكية رفضت اعتبار ما حدث على أنه عمل إرهابي (1).
- أجلت سلطات مطار سان فرانسيسكو الدولي بولاية كاليفورنيا الأميركية صباح يوم 30/ 1/2002م آلاف المسافرين من المطار، وأغلقت أحد مبانيه لنحو ساعتين ونصف بعد العثور على آثار متفجرات في حذاء مسافر أبيض في الأربعين من عمره، تمكن من الاختفاء بين حشود المسافرين قبل أن يتم استجوابه. وقد شن عناصر أجهزة الأمن في المطار عملية بحث عن المشتبه به - الذي لم يعثر عليه ـ بعد أن أمرت هيئة الطيران المدني الفدرالية في الولايات المتحدة بإغلاق بوابات الصعود إلى الطائرات، كما أمرت بإعادة الركاب الذين كانوا على متن الطائرات، وأخضعوهم لعملية تفتيش جديدة. كما أنه تم تعليق الرحلات من 30 بوابة في المبنى الثالث من المطار، وتأجيل 80 رحلة داخلية لشركة طيران يونايتد إيرلاينز (2).
- حاول شخص أمريكي يدعى (ادوارد كوبيرن) قيل: إنه مختل عقلياً، اقتحام قمرة لطائرة بوينج تابعة لشركة أمريكان ايرلاينز، كانت متجهة من لوس انجلوس إلى شيكاغو، وتحمل على متنها 153 راكباً. وقد تمكن الركاب من السيطرة على الرجل الذي كان بصحبة والده (3).
إنتحاريون من أجل هرمجيدون
تنتشر في أمريكيا العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة، التي تعتقد بهرمجيدون، حيث أقدم العديد من أتباع هذه الجماعات على الانتحار اعتقاداً منهم بأن نهاية العالم اقتربت، وان عليهم أن يسبقوا الجميع ليكونوا من الناجين من المحرقة الكبرى. وقد لعبت أفكار المفكر الديني المتطرف (سيروس سكوفيلد) دوراً رئيساً لانتشار هذه المفاهيم، حيث كان يقول: "إن المسيحيين المخلصين يجب أن
_________
(1) موقع إسلام اون لاين
(2) موقع إسلام اون لاين
(3) موقع إسلام اون لاين(2/237)
يرحبوا بهذه الحادثة لأنه بمجرد ما تبدأ المعركة النهائية فإن المسيح سوف يرفعهم إلى السحاب وأنهم ينقذون، وأنهم لن يواجهوا شيئاً من المعاناة التي تجرى تحتهم" (1). هذا المفهوم هو الذي شجع كثير من الجماعات المتطرفة على الانتحار الجماعي، لتنجوا من المحرقة الكبرى أو للتعجيل بحدوثها.
يقول الباحث المؤرخ (ديف ماك بيرسون): إن خطر عقيدة هرمجيدون يكمن في أنها عقيدة قاتلة ومعدية. مثال على ذلك، استطاع هيبربرت ارمسترونج في نهاية الستينات، وفي بداية السبعينات، أن يقنع الآلاف من أتباعه بتسليم ممتلكاتهم إلى كنيسته (كنيسة الله العالمية)، وذلك على أساس الاعتقاد بأن العالم يتجه نحو النهاية. ويقول (تيد دانيال) رئيس تحرير نشرة (تقرير نبوءات الألفية) في فيلادلفيا: "إن الناس الذين يعتقدون بنهاية العالم قريباً، يقومون بأعمال غريبة" فحتى 1999م سجل دانيال أكثر من 1200 حركة من هذا النوع من بين هذه الحركات الدينية في الولايات المتحدة وفي غيرها:
- حركة (هاى أوجو) وهى حركة ما ورائية توقعت أن يشهد عام 1992م نهاية الطريق السوي إلى الجنة، وبداية مرحلة جديدة لبقية العالم مبنية على النبوءة (في العهد القديم).
- الانتحار الجماعي لطائفة هيكل الشعب التي يتزعمها القسيس جيم جونز الذى قاد تسعمائة شخص من أتباعه إلى عملية انتحار جماعي طوعية (2)، حيث قال لهم حين كان يقودهم إلى الموت: إن النهاية ستصل بسرعة، لذلك دعونا نرافقها. دعونا نستبق الحشود.
- تنظيم مذبح الشمس، وهي جماعة ألفية (تؤمن بعودة المسيح وبسيادته لمدة ألف سنة على العالم) وقد نظمت هذه الحركة في عام 1994م عملية قتل، وانتحار جماعي، في كل من سويسرا وكندا، قتل من جرائها خمسون شخصاً، كان بعضهم يزين صدره بميداليات ترمز إلى الخيالة الأربعة، التي تشير إليهم نبوءة سفر
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 71
(2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 270(2/238)
الرؤيا، وهم يمثلون بصورة عامة المسيح والحرب والجماعة والموت.
- الداودية نسبة إلى رئيسها (دافيد كورش) وهي حركة كان أفرادها يعيشون خارج مدينة واكو - تكساس، وفي أبريل 1993م اقتحمت العناصر الفدرالية مجمعهم فأقدموا على الانتحار، فكانت الحصيلة مقتل 80 عضوا من هذه الحركة.
- جماعة بوابة السماء انتحر 39 عضواً من أعضاء هذه الحركة في عام 1997م في ضاحية مدينة سانتا جو، وتركوا وراءهم وثائق تقول: إن العالم كان شريراً وأنه محكوم عليه بالدمار الحتمي.
- صوت في البراري، وهي حركة ألفية في ميلفورد (نيوهامشير)، تدعو أتباعها إلى عدم زرع الأشجار، أو التخطيط للمستقبل، وذلك على أساس إن العالم لن يبقى بما فيه الكفاية، حتى يكون لمثل هذه الأعمال ما يبررها.
- مدينة الوهيم وهي مدينة أشبه بالحصن تقع بالقرب من مدينة ليتل روك (اركنساس)، حيث يعمل ويصلي ويقوم بأعمال ميليشياوية حوالي مائة من السكان المدججين بالسلاح، وذلك بانتظار وقوع عدد من الكوارث التي يعتقدون بأنها سوف تضع نهاية للتاريخ الإنساني. وكان (تيموني ماك فاي) الذي أدين بحادث التفجير في مدينة أوكلاهوما، قد اتصل هاتفيا بأصدقاء له في مدينة الوهيم في عام 1995م قبل تفجير المبنى الاتحادي في أوكلاهوما (1).
- في مطلع 1999م اعتقلت الشرطة الإسرائيلية مجموعة من القدريين الأمريكيين، الذين قدموا من دنفر بكولورادو، والذين يطلقون على أنفسهم المسيحيين المهتمين. وبعد أن وضعت الأغلال في أيديهم، وسجنتهم كمجرمين عاديين أبعدتهم إلى الولايات المتحدة، بتهمة التخطيط للقيام بنهاية دموية بهدف تسريع العودة الثانية للمسيح. وقيل إنهم خططوا لتدمير المسجد الأقصى (2).
_________
(1) يد الله - غريس هالسل ص19
(2) المصدر السابق ص64(2/239)
هذه أمثله بسيطة لبعض الجماعات الأمريكية ولطبيعة النبوءات المسيطرة على تفكير أتباعها ممن ينتمون للتيار الأصولي المسيحي المتطرف، الذي أصبح اكبر قوة مؤثرة في صناعة السياسة الأمريكية، من خلال تأثيره على كثير من صناع القرار في أمريكيا، وعلى جزء كبير من الشعب الأمريكي، والتي يمكن أن تساعدنا في تحديد المسئول عن أحداث 11 سبتمبر.
تيموثي ماكفي / اليمين المسيحي المتطرف
استدعت وكالات الأنباء ما صرح به (تيموثي ماكفي) منفذ انفجار أوكلاهوما، الذي قال قبل إعدامه: إنه يوجد في الجيش الأمريكي أكثر من عشرة آلاف يحملون نفس الفكر الذي نفذ بموجبه عمليته. وقد ذهبت تحليلات أخرى منذ البداية إلى أن ما حدث شبيه بما حدث في انفجار أوكلاهوما عام 1996م، وأن الإنفجارات يمكن أن تكون من داخل أمريكا، بل أن صحيفة (برلينر تسايتوبج) كتبت تقريراً أكد أن الإشارات تدل علي أن مدبر الهجوم من أتباع الجماعات والميليشيات العسكرية الأمريكية التي تنتمي لليمين المتطرف والتي تشعر بفخر وطني شاذ أو أن لديها تفويضاً إلهياً، وأشارت إلى أن (تيموثي ماكفاي) كان عضواً في أحد هذه الجماعات، بل أشارت أيضاً إلى جماعات أخرى مثل (كوكلوكوس كلان) و (أمة آريان) و (حليقي الرؤوس) و (النازيون الجدد)، و (المراقب الوطني)، المعروفة بثقافة العنف والعنصرية والانتحار.
كما أجرت صحيفة (ديرتاجيس شبيجل) حوارا مع (توماس جدومكه) الخبير في شئون اليمين الأمريكي، الذي أكد أن لديه معلومات بأن سلطات الأمن الأمريكية تقوى تحرياتها في اتجاه مسئولية اليمين المتطرف المعروف بالتعصب، وبالأيدلوجية المتطرفة اللازمة للقيام بمثل هذا الهجوم، ولديهم أيضا الإمكانيات الاستراتيجية الهائلة. مضيفاً أن الدقة غير العادية التي تم بها الهجوم تتجاوز قدرة المنظمات الإرهابية العادية، كما أنها تشير إلى استحالة إتمام هذه العمليات بدون مساعدة عديد من الأمريكيين، الذين يشغلون مناصب حساسة في الأجهزة الأمنية بصورة كاملة، وليس فقط عن طريق الدعم اللوجيستى الهائل، الذي يمكن من خطف(2/240)
طائرات في وقت واحد، بل أيضاً الهروب من أجهزة الرادار، وهذا أمر غير ممكن بدون خبرة تكنولوجية عالية من داخل المؤسسات الأمريكية نفسها، مضيفاً أنه لا يمكن المرور هكذا وبسهولة فوق البنتاجون بدون أن يشعر بك أحد!!
ويضيف (جرومكه) أن اليمين المتطرف متغلغل في الجيش بصورة كبيرة، ويحصلون علي تعاطف غير محدود مما يمكنهم من الحصول علي دعم لوجيستي كبير، كما يستبعد وجود تعاون بين هذه المنظمات ومنظمات شرق أوسطية، مؤكدا أن منظمة مثل (عنصر الآريان الأبيض) والمعروفة اختصارا باسم WAR ( أي الحرب) تعادى السامية بشدة. ويضيف أن (اليكس كورتس) مؤسس جماعة (المراقب الوطني) كان قد عرض على الإنترنت أدلة تشير إلي قدرته علي إنتاج أسلحة بيولوجية، بينما تم القبض منذ عامين علي أحد أعضاء منظمة (أمة آريان) وهو ينقل فيروسات (الجمرة الخبيثة) في سيارته (1).
والآن كيف تمت الجريمة؟
لما كانت الضحية موجودة .. فلم يعد سواها: العالم الإسلامي .. وكانت الخطة موضوعة تنتظر الذريعة لتنفيذها .. ذريعة يرجح الغربيون أنفسهم أنها مصنوعة .. فالمكاسب الناجمة عنها هائلة .. يضيق هذا الكتاب عن حصرها، فمن التواجد في مركز يتيح لها تهديد الصين وروسيا وباكستان والهند وإيران والعالم العربي، إلي اكتمال السيطرة على بترول العالم وخطوط مواصلاته، إلى إحكام الحصار النهائي حول العالم الإسلامي كله في آخر حرب صليبية، تمهيداً لإقامة إسرائيل الكبرى وهدم الأقصى، وبناء الهيكل كمقدمه لعودة المسيح المنتظر، ليحكم العالم من مقره في القدس.
ولتحقيق كل هذه المكاسب، قامت جماعة مسيحية أو يهودية متطرفة، أو حتى صناع القرار من اليمين المتطرف بتنفيذ الجريمة باعتبارها شيئًا مقدساً، وقدمت الأدلة العديدة لإلصاق التهمة بالمسلمين. ففي ذلك اليوم قامت بخطف عدد من الأشخاص العرب ـ ومن بينهم طيارون أو دارسو طيران ـ ثم قتلتهم، وأَخفتْ جثثهم،
_________
(1) المصدر: شبكة المعلومات العربية محيط - تقرير وليد الشيخ(2/241)
وقامت بعد ذلك بحجز أماكن على الطائرات بالأسماء العربية للضحايا، ثم صعد المجرمون إلى الطائرات، أو تم التحكم بها آلياً من الأرض، وقاموا بفعلتهم النكراء، وتم توجيه التهمه للمسلمين وتنظيم القاعدة بالذات، بعد أن تم دس عدد من العملاء الأمريكيين داخل هذا التنظيم (1)،
والذين اقنعوا ابن لادن بأنهم يقفون وراء تنفيذ التفجيرات، فوقع ابن لادن في الفخ، وأعلن مسؤولية تنظيمه عن التفجيرات، وهكذا تمت الجريمة وتحققت أهدافهم، كما تولّت باقي الجماعة مهمة إشعال نيران الغضب والإثارة والتهييج ضد العرب والمسلمين بمختلف الوسائل، ومن بينها إرسال آلاف التهديدات الكاذبة، كما قامت أجهزة الإعلام بدور خطير لاستفزاز المشاعر، وشحنها ضد المسلمين في كل مكان.
ولكن ربما يستبعد البعض مثل هذا السيناريو (2)،
ولكن ما عرضناه في هذا الكتاب وما سنعرضه لاحقاً على حقائق الإرهاب والعربدة الأمريكية حول العالم منذ
_________
(1) في مقال منشور على الانترنت بعنوان "الضربة الرهيبة .. ويليامز وإخوانه يتحركون ضد أمريكا بأوامر بن لادن" كشف احد أتباع تنظيم القاعدة، عن رسالة تلقاها أسامة بن لادن عن طريق الحمام الزاجل من رجل يدعى "ويليامز" بشأن هجوم جديد يستهدف أمريكا حيث يقول: الشيخ أسامة بن لادن ... خيمة صغيرة على إحدى الجبال الباكستانية , بداخلها سلاح عادى وآر بى جى , ومستلزمات حياتية بسيطة, وكتب فقهية وعقائدية, وراديوا صغير .. فجأة .. تصل رسالة مربوطة في رجل حمامة زاجلة, يقدم لها الشيخ بعض الحبوب, ويفتح الرسالة ... يتهلل وجه الشيخ ويعيد القراءة, ثم يسجد, ويبكى ويبكي وهو يقول: [يا رب أسألك نصرك الذي وعدت, فأنا عبد فقير لا أملك إلا قلب يحبك]. ويتابع الكاتب قوله: أتريد أن تعرف الرسالة أخي القاريء .. [وصلنا عبر إخواننا على الشبكة بأن الترتيبات شارفت على الانتهاء وهذه اللحظة هي اللحظة الوحيدة التي يمكن أن نتوقف فيها إذا ما قبلت الإدارة الأمريكية هدنة من طرفكم, لأن الدمار سيكون شاملا] سيكون شاملاَ ... سيكون شاملا ... لماذا دائما يبر الله قَسَمَ بن لادن؟؟ أتظنون أنها أضغاث أحلام .. بكل ثقة في الله , أقول لا .... إنها الحقيقة.
أما من هو ويليامز فحسب صاحب المقال فإن ويليامز يعنى في قاموسنا: الغربي المسلم, المجند في القاعدة, الذي لم يلتق يوما أسامة بن لادن, ولا أيمن الظواهري, ولم يذهب يوما إلى أفغانستان أو حتى الشيشان ... تجنيده من الدرجة الثالثة, أي أنه جندي من أفكار القاعدة لا من معسكراتها التدريبية .. وليامز له قدرات في كل المجالات, ويقدم للمسلمين كثير من الخدمات، لكنه عمّا قريب, سيقدم أكبر خدمة للبشرية المضطهدة من قبل دولة الغرور والكبرياء أمريكا ... ". واعتقد أن الكلام السابق يكشف صدق تحليلنا من أن القاعدة مخترقه من عملاء المخابرات الأمريكية الذين يخططون وينفذون وينسوب هذه الأعمال للقاعدة، وما على بن لادن والظواهري إلا إلقاء البيانات والخطب من جبال أفغانستان والتي تصلهم مكتوبة وجاهزة بالحمام الزاجل؟!!.
(2) هناك مقال منشور على الانترنت بعنوان "كيف قام المتآمرون بعملية الحادي عشر من سبتمبر؟ " يضع سيناريو مشابه لهذا السيناريو حيث جاء فيه: لقد تم توجيه الطائرات الأربع بأجهزة تحكم دون أدنى شك، لكن المشكلة هي كيف تتم العملية وإظهارها في الوقت ذاته بفعل فاعل؟. بمعنى آخر كيف تشير أصابع الاتهام إلي العرب والمسلمين دون غيرهم؟.
الأمر في غاية البساطة، فجهاز المخابرات المركزية الأمريكية قام بالتعاون مع العديد من الجماعات الإسلامية المتطرفة أثناء الوجود السوفييتي في أفغانستان، بل إن بعضهم هو صناعة أمريكية بحتة، بعد الانتهاء من الاتحاد السوفييتي، لم يكن صعبا على أجهزة المخابرات نفسها بأساليبهم المختلفة إقناع هذه الجماعات أن عدو الله الجديد الآن هو الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت الشعارات المعلنة هي العداء لأمريكا، وصار في داخل هذه الجماعات رجال مستعدون للتضحية بحياتهم في سبيل الله، وهم معروفون بالاسم للأمريكان، تلك الأسماء التي كتبت في التقارير ونتائج التحريات والتحقيقات، هذه المعرفة التي سهلت تلفيق الأدلة المزعومة، لم يكن هناك أية فائدة من الطلب من هؤلاء الرجال اختطاف طائرات وتفجيرها، فقط سجلت أسماؤهم في تقارير الطيارين المزعومة أيضا قبل إقلاع الطائرات، وتم توجيه الطائرات آلياً، ومن الطبيعي والبديهي أن توجد جثث لأشخاص عرب على الطائرات الأمريكية، تم إلصاق الأسماء المعدة سلفا إلى جثثهم. http://www.shamaleel.com/vb/archive/index.php/t-1321.html(2/242)
تأسيس أمريكا وحتى الآن، لا يدع مجالاً للشك في صدق هذا التفسير (1)، يضاف إلى ذلك الكمَّ الهائل من الأفكار والتوجيهات والإيحاءات التي تنادي بالاستعداد لعودة المسيح، وانتصاره على الشر، وإقامته للسلام في العالم، بالإضافة ـ طبعاً ـ إلى إعادة بناء هيكل سليمان، فانه من الطبيعي أن يفرز ذلك الجو المشحون جماعات مسيحية أو يهودية متطرفة تشبعت بتلك الأفكار المشوَّهة، والتي يمكن أن تصل إلى درجة عالية من التطرف، فتعمل على تحقيق نبوءات (التوراة) بقيام الحرب العالمية الثالثة للقضاء على المسلمين، لقدوم المسيح الجديد.
وخلاصة كل ذلك أن جماعة دينية متطرفة، وبالتعاون مع الإدارة الأمريكية الحالية الأكثر تطرفاً، قد نفذت هذه العملية، من أجل تحقيق هدف عزيز لديها، وهو إبادة المسلمين وقيام المسيح وبناء الهيكل، وكل هذه الغيبيات التي يمكن أن يضحي في سبيلها بالروح (بالانتحار). فالذين قاموا بالجريمة قادرون على الانتحار في سبيل تحقيق أهدافهم (2).
إن ما حدث في 11 سبتمر كان عملية محبوكة ومنظمه يديرها رجال تسللوا إلى مقاعد صنع القرار وجواسيس وأموال وزعامات سياسيه ورؤوس تفكر وتخطط
_________
(1) قال ضابط سابق في وكالة الامن القومي الأمريكي ويدعى وين ماديسون، إن وكالة الاستخبارات الأمريكية دبرت عملية اغتيال قرنق ورئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري ومسؤول جهاز الأمن السابق في القوات اللبنانية ايلي حبيقة. (جريدة الخليج - عدد 9982 - بتاريخ 17 - 9 - 2006). http://www.aljazeera.net/News/Templates/Postings/DetailedPage.aspx?NRORIGINALURL=%2fNR%2fexeres%2f13EA1ECC-12C1-4A88-B159-661B97D3977F%2ehtm&FRAMELESS=false&NRNODEGUID=%7b13EA1ECC-12C1-4A88-B159-661B97D3977F%7d&NRCACHEHINT=Guest - #
(2) التفجيرات الأمريكية: سيناريو مختلف .. لكنه ممكن جدًا - أ. د. أحمد حسن مأمون - اسلام أو لاين -2001/ 09/29 - http://www.islamonline.net/arabic/arts/2001/09/article17.shtml(2/243)
وعصابات تقتل وإرهاب يفجر، ولكن الجرائم لم يحدث قط أن ولدت كاملة وكل جريمة لا بد أن ينقصها شيء، والمجرم مهما بلغ ذكاؤه لا بد أن ينسى شيئاً ... شيئاً صغيراً تافهاً ينهار بسببه البنيان كله في الوقت المعلوم. وهذه الجريمة الصهيونية المحبوكة التي اشترك فيها مئات العقول الذكية وقد امتلأت بالثغرات سوف تفتضح وتنهار رغم حبكتها. فكل بنيان يحمل معه جرثومة فنائه، وكل أكذوبة تحمل معها جرثومة فضيحتها (1).
_________
(1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود- ص26(2/244)
الفصل السابع
أسامة بن لادن .. وصناعة صورة العدو
في روايته (في انتظار البراربرة) يتحدث الروائي الجنوب أفريقي (ج. م. كوتزي) (1) عن إمبراطورية لعلها جنوب أفريقيا، وتنطبق في أوصافها وظروفها ـ أيضاً ـ على الولايات المتحدة الأميركية، وغيرها من الدول التي يقسم سكانها بين مستوطنين (متحضرين) يملكون الحكم والسيطرة والسلاح والموارد والاستعلاء، وبين فئات من السكان الأصليين من البدو والفلاحين الفقراء البسطاء، الذين يعملون في الرعي والصيد والفلاحة. وتقوم في واحة على الحدود الممتدة أكثر من ألف ميل مدينة للمستوطنين هي آخر نقطة للدولة أو ما يسميها أهلها الحضارة لتبدأ بعدها صحارى وجبال يعيش فيها (البرابرة)، وهم السكان الأصليون من الصيادين، وبعض البدو الرعاة الذين يختلفون عن الصيادين والبرابرة، ولكنهم أيضا فئة ليست مرغوبة لدى الدولة (الحضارة). ويعيش أهل المدينة حياة هادئة وسعيدة، ويتبادلون مع السكان الأصليين المنتوجات والخدمات، فهم يبيعون في المدينة الجلود والفراء والثمار والحيوانات التي يصيدونها أو يربونها، ويشترون الملابس والأغذية والسكر والشاي وسائر احتياجاتهم في الريف والبادية والجبال.
ومن يسمون البرابرة هم في الحقيقة قوم هادئون ومسالمون، بل ويتعرضون غالباً للنصب والاحتيال من بعض أهل المدينة، التي يمرون بها في المواسم فقط، ثم يقضوا بقية السنة بين البادية والجبال والسهول وضفاف الأنهار والبحيرات، متتبعين مواسم الرعي والصيد والطقس البارد والحار.
_________
(1) مؤلف الرواية ج. م. كوتزي من جنوب أفريقيا، حائز على جائزة نوبل للآداب، ويعمل مدرسا لعلوم اللغة والأدب في جامعة كيب تاون، وقد حاز على جائزة بوكرز مرتين، بالإضافة إلى جوائز رابطة كتاب الكومنولث للأدب المكتوب بالإنجليزية و CAN والجائزة الأدبية الأولى في جنوب أفريقيا.(2/245)
وهذه الرواية تجعلك تتذكر فورا قصيدة (في انتظار البرابرة) للشاعر سي. بي. كفافي، والتي كتبها عام 1898م وتحمل نفس العنوان، ولكنك تستدعيها إن كنت قرأتها من قبل على نحو تلقائي (1).
"يتجه سكان مدينة قديمة إلى بواباتها بقيادة إمبراطورهم، لانتظار وصول البرابرة الغزاة، ولكن البرابرة لم يظهروا، ماذا كان يمكن أن يحدث؟ وما الذي يمكن القيام به؟
لم كل هذا الذهول المفاجئ، وهذا الارتباك؟
كم أصبحت ملامح وجوه الناس حادة
لماذا تخلو الشوارع والتقاطعات من المارة بسرعة
وكل يذهب إلى بيته غارقاً في التفكير لأن الليل أرخى سدوله ولم يأت البرابرة
وبعض رجالنا الذين وصلوا من الحدود قالوا
لم يعد هناك برابرة بعد الآن
والآن ماذا سيحدث لنا من دون برابرة
كان أولئك الناس نوعا من الحل."
وإذا لم يعد وجود للبرابرة في قصيدة الشاعر (كفافى)، إلا أنهم هنا في رواية (كوتزي) يتم خلقهم، حيث تتفتق عبقرية (المكتب الثالث) (المخابرات) والإمبراطورية عن خلق البرابرة، وليس انتظار مجيئهم تحت رحمة الصدف، فإذا كان البرابرة ضرورة فلابد من وجودهم أو إيجادهم (2).
القاضي والجنرال
تنسج الرواية على لسان قاض، لا يكشف المؤلف عن اسمه برغم أنه محور الأحداث، وتبدو كما لو أنه يتحدث لنا عن تجربته وفلسفته وأحداثه، ويدير القاضي
_________
(1) في انتظار البرابرة - تأليف ج. م. كوتزي -ترجم: ابتسام عبد الله عرض- المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء- ط2 - 2004 - عرض إبراهيم غرايبة--الجزيرة نت ـ24/ 6/2004 م
(2) في انتظار البرابرة -المؤلف: ج. م. كوتزي -ترجمة: ابتسام عبد الله عرض- المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء- ط2 - 2004 - عرض إبراهيم غرايبة--الجزيرة نت ـ24/ 6/2004 م(2/246)
شؤون المدينة التي يعمل فيها منذ أكثر من ثلاثين سنة، وينظم الحياة والإدارة في المدينة على نحو يضمن مصالح المستوطنين والأصليين من الصيادين والرعاة، ويسعى في خدمة المدينة وتطويرها وحمايتها، والعمل على الكشف عن آثارها، ودراسة تاريخها وتوثيقه، وهو عمل لا يبدو أنه يشغل أحدا في الإمبراطورية، وربما يشغل إدارتها على نحو يهدف إلى طمس التاريخ واحتقاره وتجاهله، وجعله يبدو قسراً، وقد ابتدأ بلحظة قدوم المستوطنين. وبعد عقود طويلة تأسست فيها المدينة وقامت بعيداً عن مركز الإمبراطورية يأتي إليها العميد (غول) من (المكتب الثالث)، وهي تسمية نفهم من قراءة الرواية أنها تطلق على وكالة المخابرات في الإمبراطورية، ويجتمع بالقاضي في فندق المدينة. وينشغل القاضي بضيافة الضابط، ويحدثه عن الصيد والزراعة في المدينة ومحيطها باعتبارهما الموضوع الرئيس الذي يشغل أهل المدينة والسكان، سواء للمعيشة أو الهواية أو التجارة. ولكن العميد غول يبدو مشغولاً وغير مهتم بحديث القاضي، وكأنه لا يستمع إليه، ويظهر احتقاراً مكتوماً للقاضي ومغلفاً بقدر واهٍ ومزيف من الاحترام والمجاملة.
يخبر العميد غول القاضي بأنه يريد أن يذهب في حملة لملاحقة البرابرة في مناطقهم وتأديبهم، واعتقال المتمردين منهم الذين يسيئون إلى الإمبراطورية. وتعتقل قوة الطوارئ بقيادة غول رجلاً كهلاً وابنه الصبي من السكان الأصليين، ولكن لا يوجد سجن في المدينة، ولا يكاد توجد جرائم كبيرة، ويتعامل القاضي عادة مع الجنح والمخالفات بعقوبات من قبيل العمل التطوعي. ولكن غول يعتقد أن المعتقلين خطران وأنهما من المتآمرين على نظام الإمبراطورية، ويجب أن يعد لهما سجن وحراسة لئلا يهربا، فيوضعا في مستودع للحبوب تحرسه ثكنة عسكرية.
يحاول القاضي أن يفهم المشكلة من الرجل المعتقل، ويفهمه أنه متهم بتنظيم غارات على أهالي المدينة وممتلكاتهم، ولكن الرجل يؤكد أنه لا يعلم شيئاً عن الغارة، وقد اعتقل في طريقه إلى المدينة لمعالجة ابنه الصبي المريض. يحاول القاضي أن يفهم المسألة في حديثه مع العميد غول، فالعجوز وابنه المريض لا يقدران على الغارة، ولا يصلحان في ظروفهما أن يكونا جزءاً من فريق أو عصابة للإغارة، ولا يبدو أن لشخصين بسيطين مثلهما فائدة في التحقيق أو جمع المعلومات. ولكن غول الصامت غالباً يقول: يجب أن أستجوبهما. ويتعرض العجوز في الليل(2/247)
لتعذيب وحشي حتى يموت تحته، ويقدم الحارس إفادة للقاضي -وفق تعليمات غول- بأنه هاجم المحقق وحاول قتله، هذا برغم أن يديه كانتا موثقتين، وهي الملاحظة التي نسي الحارس علاقتها بسؤال آخر عن كيفية مهاجمة عجوز مقيد لضابط شاب قوي ومدرب.
حروب البرابرة
بعد هذه الحادثة يقود العميد غول حملة عسكرية إلى مناطق (البرابرة) رافضاً نصائح القاضي بعدم ضرورة الحملة، فالسكان الأصليون ليسوا إرهابيين، ويمكن استيعابهم والسيطرة على المشاكل التي يسببونها بدون استعدائهم أو استفزازهم، كما أن المنطقة التي سيتوجه إليها الجنود منطقة مجهولة وصعبة، وبعضها لم يصلها أحد من المستوطنين من قبل. ولكن غول يصر على رأيه ويمضي بالحملة، ويعود بعد عدة أسابيع من الحملة وقد جلب عدداً كبيراً من السكان الأصليين. أعداداً كبيرة من الرجال والنساء والأطفال لا يعلمون شيئاً عن سبب مجيئهم، يحشرون في ساحات الثكنات، وتكون عمليات إيوائهم وحراستهم مرهقة جداً، وتؤدي عاداتهم في الطعام وقضاء الحاجة إلى فوضى عارمة في المدينة. ويقوم غول وأتباعه بعمليات تحقيق واسعة مصحوبة بتعذيب وحشي واغتصاب للنساء، ويموت الأطفال بسبب الإهمال، ويتحول السكان الأصليون إلى أعداء بالفعل، وهنا فقط يكتشف القاضي اللعبة!
فما كان يجري لم يكن عملية متابعة لعنف وإرهاب، ولكنه صناعة واعية للأعداء والكراهية، وما كان يبدو من عمليات قتل للموظفين وسرقة واعتداء على الأملاك لم يكن على أيدي البرابرة، الذين لم يرهم أحد، ولكن على يد جماعات الجنرال غول. وتنتهي الحملة العسكرية ويعود الجنرال إلى العاصمة، ويبقى عدد كبير من البرابرة الذين أطلق سراحهم في المدينة، ويتحولون إلى مشردين ومتسولين، والمحظوظون منهم يعملون في الخدمة والدعارة. واحدة من الفتيات المتبقيات في المدينة تعرضت للاغتصاب وقتل والدها وعذبت تعذيباً شديداً جعلهاً غير قادرة على المشي إلا بصعوبة، يشغلها القاضي في خدمته ويمضي شهوراً عدة(2/248)
في محاولة علاجها وإعادة تأهيلها، ولكنه يفشل فيقرر نقلها إلى أهلها. يحتاج تنفيذ القرار إلى مغامرة صعبة تتضمن المسير أياما طويلة في الثلوج والصحاري والجبال، وعندما يعود القاضي إلى المدينة يعتقل بتهمة الخيانة والتواطؤ مع الأعداء.
ويجري تحقيق مع القاضي تستخدم فيه الأخشاب والأعمال الأثرية التي عثر عليها أثناء عمليات البحث والتنقيب وأدلة مادية على رسائل سرية متبادلة بين القاضي والبرابرة. ويتعرض القاضي لتعذيب علني مهين يؤدي به إلى الجنون، ويتحول إلى متسول يمضي أيامه في الطرقات يتسول الطعام، ويقدم خدمات بسيطة في المنازل مقابل إطعامه. ويعيد غول حملته في العام التالي، حيث هيمن الجنود على المدينة ونهبوا متاجرها، وأجبروا الأهالي على خدمتهم والترفيه عنهم. ولكن البرابرة كانوا هذه المرة مستعدين ولم يباغتوا كما حدث في العام الماضي، لقد استدرجوا الجنود بدون قتال إلى الصحاري وغابات القصب والجبال البعيدة وتركوهم أسرى الجوع والخوف والتيه، وتشتت الحملة ولم يعد معظم أفرادها. ويجعل فشل الحملة من تبقى من الجنود عرضة لغضب الأهالي، وبدون أن يقول لنا المؤلف، نشعر أن غول هو الآخر تحول إلى مجنون متشرد ومتسول (1).
هكذا تقدم رواية (في انتظار البرابرة) تصويراً رائعاً ومدهشاً لحروب مفتعلة ووهمية تقوم بها الدول والإمبراطوريات والإدارات الحكومية لإظهار القوة وإرهاب الشعوب، وتعرض أفكاراً فلسفية عن الحياة وذهنية رجل المخابرات حامي الإمبراطورية، الذي يقوم بتدمير حياة هانئة وسعيدة باسم شعارات كبرى عن الوطن. فالامبراطورية تحتاج إلى الهياج والحرب لتبرز قوتها، وترهب شعبها قبل البرابرة باسم شعارات كبرى عن الوطن والاعداء. ففي رواية كوتز السابقة تتفتق عبقرية المكتب الثالث (المخابرات)، والإمبراطورية على خلق البرابرة، وليس انتظار مجيئهم تحت رحمة الصدف، فإذا كان البرابرة ضرورة فلابد من وجودهم أو إيجادهم، وهذا ربما يفسر كثيراً مما يسمى حرب الإرهاب، التي تخوضها واشنطن الآن؟ فالارهابيون ليسوا موجودين ولكن لابد من إيجادهم، ليكونوا مبرراً لعمليات
_________
(1) في انتظار البرابرة -المؤلف: ج. م. كوتزي -ترجمة: ابتسام عبد الله عرض- المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء- ط2 - 2004 - عرض إبراهيم غرايبة--الجزيرة نت ـ24/ 6/2004 م(2/249)
التدخل والنهب؟ ألا يمكن إعادة صياغة الرواية بواقعية وبدون ملكات أدبية تحت عنوان (في انتظار القاعدة)؟. (1)
في انتظار القاعدة .. وابن لادن
بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي، لم يعد بمقدور رعاة البلبلة في واشنطن أن يصرخوا قائلين: أن الروس قادمون، وان طول الواحد منهم يبلغ عشرة أقدام! (كحجة للتدخل)، ولذلك فإنه يتعين عليهم على الدوام أن يجدوا عدوا جديداً. فأمريكا تعز أعدائها، وبدون أعداء تتحول لأمة بلا هدف أو اتجاه. فبدلاً من المؤامرة الشيوعية الدولية، تخبرنا واشنطن حالياً ـ في يوم أو آخرـ أنها تخوض حرباً ضد المخدرات أو التجسس العسكري أو الصناعي، أو انتشار أسلحة الدمار الشامل أو الجريمة المنظمة، أو نيابة عن حقوق الإنسان، أو بصفة اخص ضد الإرهاب (2). وقد بدأت أمريكا بخوض هذه الحروب، وبالذات الحرب ضد الإرهاب، حيث مهدت لذلك بتشويه صوره الإسلام وإبرازه وكأنه الخطر الرئيس الذي يهدد العالم الغربي، ولهذا بدأ منذ ذلك الحين العمل على اتخاذ الإسلام كعدو بديل كما وضحنا سابقاً، وأصبح إبراز رمز بانتماء إسلامي، ليكون في صدارة أهداف الحملات ضد (الإرهاب الدولي) هدفا ملحاً بحدّ ذاته، وكان هذا من قبل أن يضع تنظيم القاعدة بزعامة بن لادن نفسه في هذا الموضع، لا سيما بعد إخفاق محاولات أخرى تركَّزت على منظمة (حزب الله) في لبنان، حيث أخفقت تلك المحاولات، نتيجة سياسته التي جعلت منه مقاومة إسلامية معترفًا بها وطنياً وعربياً. كما جرت محاولات للتركيز على منظمتي (حماس) و (الجهاد الإسلامي) في فلسطين، لكن مؤتمر (شرم الشيخ) ـ الذي انعقد لهذا الغرض ـ أخفق إخفاقًا ذريعًا على مذابح جرائم العدوان الإسرائيلي المستمرة. لهذا تم اختيار تنظيم القاعدة وزعيمه بن لادن ليكون الرمز الجديد للإرهاب الإسلامي.
_________
(1) في انتظار البرابرة - ج. م. كوتزي - ترجمة ابتسام عبد الله - المركز الثقافي العربي
(2) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد- ص 45(2/250)
فكل الوقائع تشير إلى أن التركيز على ابن لادن وتنظيمه، وإعطاءه مركز (الصدارة) بدأ من قبل أن يظهر هو نفسه بقوة على سطح الأحداث. بل بدأت ملاحقته - كما كان بإخراجه من السودان إلى أفغانستان ـ من قبل أن يتجاوز حدود الإعلام والاستثمارات المالية في التعبير عن معاداته للوجود العسكري الأمريكي في الخليج، ولكنه كان يجمع سائر المواصفات الأخرى التي تصلح لجعله رمزًا دولياً بانتماء إسلامي للإرهاب (1). فأسامة بن لادن نفسه هو شخصية يمكن فهمها بدون حاجة إلى دراسة عميقة في علم النفس، تغوص في النوازع والهواجس الداخلية لتصرفات البشر. والقصة فيما هو شائع قصة شاب من عائلة سعودية لها جذور يمنية تعمل بالمقاولات، وكان له مكتب يمارس نشاطه التجاري في أفغانستان، وعندما بدأت الحرب الخفية ضد الإلحاد في أفغانستان استعمل مكتب بن لادن واجهة لتوصيل الأموال بشكل يبدو مشروعاً إلى أوجه نشاط لم تكن وقتها مشروعة (2). أي انه عمل تحت إمرة المخابرات السعودية والأمريكية لمقاومة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان.
وهذه ليست المرة الأولى التي تستعمل فيها المخابرات الغربية والأمريكية الإسلام لتحقيق أهدافها .. فقد سبق أن جربته في مصر، عندما سعى (كيرميت روزفلت) مسئول الشرق الأوسط في المخابرات المركزية الأمريكية إلى تجميل صورة الملك فاروق، وحاول إقناعه بأن يكون أمير المؤمنين، وأن يتحالف مع الإخوان المسلمين لمنع الثورة الشيوعية في مصر. حيث يعترف كيرميت بأنه استوعب نظرية استعمال الإسلام استعمالاً سياسياً من نابليون بونابرت .. الذي حاول إقناع المصريين خلال حملته الشهيرة على مصر بأنه ولى من أولياء الله الصالحين .. وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ زاره في المنام، وباركه، وبشره بأنه سيصبح سلطاناً على الشرق. وراح نابليون يطوف بحلقات الذكر .. ويناقش مشايخ الأزهر في تفسير القرآن .. لكن الإسلام الذي استعمله هو نفسه الإسلام الذي أحرقه في ثورة القاهرة (3).
_________
(1) إسلام اونلاين
(2) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص130
(3) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص13(2/251)
قصة تنظيم القاعدة
في كتابه (باسم أسامة بن لادن) يعرض الكاتب الفرنسي (رولان جاكار)، مدير المرصد الدولي للإرهاب (باريس) والخبير في الإرهاب لدى مجلس الأمن، للعلاقة بين عائلة ابن لادن الثرية، والعائلة الملكية في السعودية، حيث يناقش المؤلف ما يشاع عن مشاريع البناء الضخمة، التي تولت عائلة ابن لادن تنفيذها في السعودية ومنها عمارات قطنها فيما بعد أفراد القوات الأميركية المتمركزة في السعودية، كتلك التي استهدفها انفجار الخبر .. وبطريقة غير مباشرة يضع صلة بين المنشآت التي أنجزتها عائلة ابن لادن والانفجارات التي اتهم فيها أسامة ابن لادن، والتي استهدفت بعضا منها .. ثم يتحدث عن تنامي مؤسسات عائلة ابن لادن المالية والاقتصادية في أوروبا (1).
أما عن الظروف التي تم بها إنشاء تنظيم القاعدة، والدور الأمريكي في ذلك، "فيكشف) بول. إل. ويليامس) في كتابه (القاعدة .. الإخوة الإرهابيون) عن اليد الأمريكية في تشكيل ما سمي حينها بـ (مكتب الخدمات) عام 1979م، وهو الجهة التي تطوّرت فيما بعد لتحمل اسم (القاعدة) عام 1988م (2). "ولكن مسار بن لادن الجهادي بدأ في العام 1980م، عندما كلفه (الأمير تركي الفيصل) (مدير المخابرات السعودية) بتنظيم مهمات (الأفغان العرب)، الذين كانوا يعبرون آنذاك عبر جدة إلى بيشاور (باكستان) للالتحاق بأفغانستان، حيث أصبح ابن لادن حجر الأساس في شبكة تجنيد وتدريب المجاهدين" (3).
وفي عام 1984م انتقل ابن لادن إلى باكستان حيث بدأ تنظيم الجهاد في أفغانستان من خلال الاتصال بزعماء المجاهدين، حيث "كان تنظيم القاعدة هو القيادة التي وضعت تحت تصرفها كل إمكانيات التكنولوجيا الأمريكية، وكل مقدرة العسكرية الباكستانية، وكل كرم التبرعات الخليجية والسعودية -صندوق دوار فيه
_________
(1) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - الناشر Paris, Jean Picollec éditeur - ط1 2001 - خدمة كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت
(2) القاعدة .. الإخوة الإرهابيون -المؤلف: بول. إل. ويليامس - ط1 2002 - الناشر: ألفا بوكس، بيرسون أديوكيشينال - كامبردج بوك ريفيو- الجزيرة نت
(3) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - خدمة كامبردج بوك ريفيوز(2/252)
دائماً (500 مليون دولار) - وكل نشاط التسليح والتجنيد المصري والسوري والمغربي وحتى الفلسطيني، بما وصل مجموعه الكلي على مساحة خمس سنوات إلى قرابة خمسين ألف شاب مسلم، نصفهم من العرب بينهم ستة آلاف مصري على أرجح التقديرات، وقد درب هؤلاء جميعاً بكل جد وشحنوا بطاقة إيمان مشبوبة بالنار" (1).
وبحلول عام 1985م أدرك ابن لادن نطاق المقاومة وبعدها الدولي، فبدأ بالانفتاح على المنظمات الإسلامية المتشددة في العالم للحصول على دعمها، واتصل بأصوليين مصريين وجزائريين، وأنشأ تنظيمه الخاص (القاعدة) الذي تولى نشاطات عدة منها تجنيد المقاتلين وإيصالهم إلى أفغانستان، حيث استقر عندئذ نهائياً في شرقي أفغانستان، وأخذ على عاتقه الأعباء المالية لعمل مخيمات للمجاهدين، بعد الانسحاب السوفيتي (1989م)، مستخدماً ثروته الشخصية، والتبرعات القادمة من المملكة العربية السعودية، والأموال التي تدفعها حكومات دول في الشرق الأوسط، تضاف إلى ذلك الأموال القادمة من تجارة الهيروين الذي ينتج في أفغانستان، كما يزعم بعض الكتاب الغربيين (2).
ولكن عندما انتهت الحرب الباردة، ورفعت الولايات المتحدة يدها عن الحرب الخفيفة في أفغانستان، وكفت المخابرات المركزية الأمريكية عن التخطيط للمعركة ضد الإلحاد الشيوعي، أصبح الاستمرار الأمريكي والعربي الرسمي غير مبرر، وغير مطلوب وبالتالي وقع الانسحاب (3). ففي عام 1990م، وبطلب من الأميركيين أوقفت السعودية دعمها للأفغان العرب واضعة بالتالي (نهاية لمهمة أسامة بن لادن الرسمية). وبعد عودة هذا الأخير إلى الرياض، حاول إقناع العائلة الملكية بضرورة مواصلة مساعدة المجاهدين في أفغانستان لكن بدون جدوى .. فشعر بالخيانة، وبدأ بعدها معارضته للسلطة والتحالف سراً مع معارضي العائلة الحاكمة في الخارج .. فكان أن انشق عن النظام وأخذ على عاتقه، دعم المجاهدين الأفغان رغم معارضة العائلة الملكية وواشنطن .. وزادت خلافاته مع العائلة الحاكمة إثر حرب الخليج، حيث ندد بوجود قوات غربية في الأراضي المقدسة، وغادر السعودية في 1991م واستقر
_________
(1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص130
(2) القاعدة .. الإخوة الإرهابيون -المؤلف: بول. إل. ويليامس - كامبردج بوك ريفيو
(3) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص130(2/253)
في السودان (1). وحاول تنظيم القاعدة أن يواصل ما يقضي به الإيمان، لكنه ما لبث أن تحول في نظر الذين قاموا على إنشائه، من كتائب جهاد إسلامي إلى عصابات إرهاب إجرامي (2).
ابن لادن في السودان
في السودان أحاط ابن لادن نفسه بأفغان عرب، وبدأ مجموعة من الاستثمارات الاقتصادية، التي اعتبرتها المخابرات الغربية وسيلة لدعم الإرهاب الأصولي في العالم، وعاش ابن لادن بوصفه رجل أعمال لمدة خمس سنوات في منفاه السوداني، حيث كانت علاقاته متينة مع حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الإسلامية .. ومول المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الذي جمع الحركات الإسلامية وبعض الحركات المعارضة بتنظيم من الترابي في الخرطوم .. كما حاول تطوير تنظيمه (القاعدة). ولكن نشاطاته سببت صعوبات للسودان، ودفعت بالأميركيين إلى الضغط على السعودية، لإصدار قرار توقيف بحقه فكان لهم ما أرادوا .. حيث اتهمته السعودية بدعم الإرهاب في الجزائر ومصر، وباتصالات مع معارضين دينيين حاولوا إنشاء منظمة مستقلة لحقوق الإنسان في المملكة في بداية 1996م .. وكانت السلطات السعودية قد جردته من جنسيته السعودية عام 1994م.
الالتقاء مع جماعات إسلامية والكفاح ضد أميركا
مع تزايد الضغوط السعودية والغربية على السودان، تخوف ابن لادن من احتمال تسليمه للسعودية، فغادر الخرطوم في مايو 1996م عائداً إلى أفغانستان .. وتزامن ذلك مع بروز حركة الطلبان ودخولها كابل في سبتمبر 1996م، حيث سهل ذلك استقرار ابن لادن في أفغانستان إذ أصبحت علاقته وطيدة مع الملا محمد عمر زعيم الطالبان. وفي منفاه الأفغاني، أعاد ابن لادن تنظيم شبكاته واتصالاته بقياديين إسلاميين، وباشر نشاطه السياسي بالاتصال والاجتماع إلى هؤلاء وفتح
_________
(1) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - خدمة كامبردج بوك ريفيوز
(2) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص130(2/254)
العديد من المخيمات التدريبية، كما واصل ووطد علاقاته بالجماعات الإسلامية في كثير من دول العالم، وهكذا أصبح ابن لادن على رأس شبكة إسلامية متعددة الحدود ومتفرعة وغير واضحة المعالم. ومن أفغانستان أعلن ابن لادن الكفاح ضد الوجود الأميركي في الأراضي المقدسة، وبدأت المعركة بينه وبين أميركا التي قصفت أحد مخيماته في أغسطس 1998م عقب تفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام .. ويعود إعلانه الجهاد ضد أميريكا إلى أغسطس عام 1996م، حيث شكلت تصريحاته فيما بعد سنداً للهجوم على المصالح الأميركية في السعودية، وفي كينيا وتنزانيا واليمن (1).
طريد المخابرات العالمية
منذ عام 1998م أصبح ابن لادن مركز اهتمام وكالات الاستخبارات الأميركية، حيث ظهرت (خلية أزمة) باسم ابن لادن تقتضي آثاره، وتتجسس عليه، وتحاول كشف معاقله ومخابئه وتطارد شبكاته المالية عالمياً، وهنا نتساءل، لماذا رفضت هذه الأجهزة التعاون مبكراً مع الدول العربية مثل الجزائر ومصر ضد بن لادن وأعوانه المزعومين؟، ولماذا رفضت الحكومات الغربية مطاردة الإسلاميين الجزائريين والمصريين من المتشددين، الذي يمولون ويدعمون الإرهاب في بلدانهم؟ لماذا انتظروا استهداف المصالح الأميركية ليتحركوا؟ (2). والإجابة على ذلك هو أن تنظيم القاعدة بعد أن انتهى دوره في الحرب على السوفييت، وجدت أمريكا أهمية استخدامه لتبرير حروبها المقبلة على العالم الإسلامي، من خلال تضخيم الخطورة التي يشكلها على أمريكا والعالم. فأمريكا أرادت أن تجعل من (القاعدة) قوة مستقرة وشريرة، لتبرر التدخل في أي مكان وفي أي وقت باسم الإرهاب (3).
_________
(1) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - خدمة كامبردج بوك ريفيوز
(2) باسم أسامة بن لادن: رولان جاكار - خدمة كامبردج بوك ريفيوز
(3) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز(2/255)
صناعة صورة العدو
بدأت الإدارة ووسائل الإعلام الأمريكية، تسلط الضوء على خطر ما أسموه (الإرهاب أو التطرف الإسلامي) على العالم وأمريكيا بالذات، من خلال نشر تقارير وأفلام وتحقيقات عن المنظمات الإسلامية المختلفة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة، لصناعة صورة العدو، أو الوحش الذي يهدد الحضارة والإنسانية، حيث رسمت وسائل الإعلام صوره قاسية لتنظيم القاعدة، ولأسامة بن لادن المدجّج بأسلحة الدمار الشامل، والذي يقود مجموعة من القتلة الذي يستخدمون الأسلحة البيولوجية والكيميائية للقضاء على أعداد كبيرة من الأميركيين وسواهم. وقد عززت هذه الصورة وساهمت في تضخيمها بعض قيادات التنظيمات الإسلامية، من خلال بعض تصرفاتها وتصريحاتها، المسيئة والساذجة والغبية، والتي لا تمت بأيه صله للإسلام (1).
ففي 21 نوفمبر 1994م أذاعت شبكة تلفزيون P.B.S الأمريكية برنامجاً عن الجهاد في أمريكا .. أعده وعلق عليه الصحفي المعروف (ستيفن امرسون)، الذي اشتهر بتحقيقاته عن الإرهاب الدولي. وفي البرنامج انطلقت حناجر المتطرفين الإسلاميين تصرخ وتزوم وتهدد بنسف الحضارة الأمريكية .. وسفك دماء غير المسلمين ... وإعلان الجهاد في سبيل الله من البيت الأبيض، والكونجرس ومجلس الأمن. وقال المعلق: أنهم يهدفون إلى مقاتلة الكفار وإقامة إمبراطورية إسلامية. وفي اليوم التالي لعرض برنامج الجهاد في أمريكا، عرضت نفس المحطة برنامجاً آخر بعنوان (الأصولية الإسلامية والديمقراطية) ندد فيه عمر عبد الرحمن بالديمقراطية الغربية ووصفها بالتدني والحقارة (2).
وبعد انقضاء أربع سنوات على انفجار اوكلاهوما سيتى، وخمس سنوات على بث شريط الجهاد في أمريكيا، بث فيلم وثائقي ثان، عزز القلق الشعبي إزاء المسلمين، وأظهر هذا الفيلم الأذى الذي لا يمكن أن يلحقه بسمعة الإسلام إلا أحد ادعيائه. ففي إنتاج بدا انه تتمه لفيلم الجهاد في أمريكا، قدمت شبكة ب. ب. س
_________
(1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص131
(2) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص11(2/256)
شريطاً يحمل عنوان (الإرهابي والقوة العظمى) تناول خطاب أسامة بن لادن، الذي قدم نفسه كمدافع عن الإسلام. حيث يزعم الفيلم ان بن لادن قام بدور رئيس عام 1998م في تفجيري سفارتي أمريكا في كينيا تنزانيا، كما قدم تحقياً عن عمليات القصف الانتقامي الأمريكي لأهداف في السودان وأفغانستان. وفي هذا الشريط الوثائقي أعطى بن لادن صورة مزيفه، بشعة، فاسدة عن الإسلام. فباسم الدين دعا المسلمين إلى قتل الأمريكيين أينما استطاعوا ومتى استطاعوا، وهى دعوة تنتهك مبادئ العدل التي تطبع الإسلام، انتهاكاً فاضحاً، وشدد على أن أمريكا هي عدو الإسلام الرئيس وقال: إنه يتوجب على المسلمين محاربتها.
ومها يكن الدافع الذي أدى إلى تفجر نقمة ابن لادن، فقد أظهره منتجو الشريط بصورة المسعور، إذ عمدوا إلى حذف المقاطع التي تضمنت عبارات متقدة، مشوبة بإحساسه بالظلم الواقع من جانب أمريكا (1). وفي البرنامج اعترف رجال المخابرات الأمريكية ورجال المباحث الفيدرالية: إن علاقتهم بالمتطرفين بدأت خلال الحرب الأفغانية .. أنهم دربوا منهم حوالي 20 ألف مقاتل ... والمعنى .. أن الأمريكيين هم الذين ربوا هذه الديناصورات التي استدعوها من أزمنة غابرة ليقاتلوا بها أعداء الله ... السوفيت الكفار في أفغانستان (2).
وينقل (بول فندلى) حديث دار بينه وبين أحد أصدقائه عن الأثر الذي تركته تلك المقابلة عن الإسلام حيث يقول صديقه: "يثير قلقي سعودي متطرف يعيش في أفغانستان، ويعد نفسه مسلماً، وهو متهم بأنه الدماغ المخطط للإرهاب. لقد أجريت معه مقابلة تلفزيونية الليلة الماضية. إنني لا أتذكر اسمه، غير انه بدأ على الشاشة كالممسوس".
سألته: هل يدعى أسامة ابن لادن؟ فأجاب: هو بعينه. لقد أظهرت نشرة الأخبار هذا الشخص، وأظهرت الإسلام، بمظهر سيء. قد يكون أصدقائك المسلمون أناساً رائعين، إلا أن صورة المسلمين التي عرضها التلفزيون في الأسبوع الماضي بعيده عن أن تكون جذابة. والواقع أنى وجدتها مقلقة ومهينة". ويعلق فندلى على
_________
(1) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى-.ص99 - 100
(2) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص9 - 19(2/257)
ذلك بقوله: "لم تفاجئني حدة كلماته، ولا ربطه لابن لادن بأفغانستان، فالتقارير التي تقشعر لها الأبدان عن الحكومة الأفغانية سيطرت على الأخبار، فالصور التي وصلتنا عبر التلفزيون، وعناوين الصحف، لقد بثوا صوراً عن نظام القهر الذي انتزع من رعاياه حقوقهم، وقمع النساء منهم، وقدم ملاذاً لثرى عربي أصبح إرهابياً خطيراً" (1). ومن أيامها ـ أي بعد تلك المقابلة ـ والإعلام الأمريكي والسياسة الأمريكية لا تنطلق إلا باسم ابن لادن، وكأن ذلك الرجل الذي قضى صباه وشبابه مقاولاً لبناء الطرق، ثم عاش ذلك النوع من الحياة التي يعيشها أقرانه من أبناء الغنى السريع في المملكة العربية السعودية، ثم حملته المصادفات إلى أفغانستان في ظروف شديدة الالتباس وقد حلت فيه فجأة روح (هولاكو) و (هتلر) و (جنكيز خان) و (ستالين) في الوقت نفسه" (2).
خرافة السوبر مان مقابل الدولة الأعظم
لان الأمريكيين يبحثون عن الأشباح التي ضربتهم واختفت .. فإننا نسمع ونقرأ في الأخبار والتصريحات والتعليقات عجباً .. بعضه حقائق مذهلة وبعضه كوميديا هزلية .. وأغلبه هلاوس وهذيانات! فمخابراتهم ومباحثهم الفيدرالية قد تعرف كل شيء .. ولكنها أبداً لم ولن تعرف حقيقة ما حدث يوم 11 سبتمبر (3). والولايات المتحدة الأمريكية تعجّ بأكثر أنواع الاستخبارات تعقيداً في العالم إلي جانب قدراتها الفائقة علي المستوي التقني، إلا أنها وقفت عاجزة أمام أسطورة ابن لادن وتنظيمه الذي يديره من احد الكهوف في أفغانستان، حيث استطاع إذلال القوه العظمى الوحيدة في العالم، واختراق كافة أنظمتها واستخباراتها وتقنيتها المتقدمة. هذه هي الصورة المغلوطة التي أريد لنا وللعالم أن نقتنع بها، من خلال عملية غسل دماغ منظمة مارستها الولايات المتحدة، بالرغم من أن الواقع يقول غير ذلك.
_________
(1) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى-. ص 141
(2) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص167
(3) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص182(2/258)
فالولايات المتحدة لا تملك وكالة استخبارات واحدة، بل إنها تقوم علي عدة وكالات للمخابرات تعمل علي المستويين المحلي والدولي، وتربطها أنظمة تعاون وتنسيق غاية في التعقيد، أثبتت كلها نجاعتها. ومن بين هذه الوكالات نذكر: وكالة المخابرات المركزية، وكالة استخبارات وزارة الدفاع، واستخبارات الجيش، واستخبارات البحرية، وخدمات استخبارات سلاح الجو، ووكالة الاستخبارات التابعة لوزارة الخارجية، وهو مكتب الاستخبارات والبحث، واستخبارات مفوضية الطاقة الذرية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وأخيراً وليس آخراً، وكالة الأمن القومي، وهي كبري وكالات الاستخبارات الأمريكية علي الإطلاق.
وتعمل وكالة الأمن القومي NSA بمراقبة كل الاتصالات الخاصة والحكومية في العالم، من خلال تقنيات عالية التطور والتعقيد، حيث تعتبر الذراع الالكتروني الذي يسترق السمع علي العالم لحساب الاستخبارات الأمريكية. وقد قامت هذه الاستخبارات بتحذير كلينتون من أن سفارة دولة أجنبية، معينة كانت تتنصت علي مكالماته الهاتفية مع مونيكا لوينسكي، ممّا دفعه إلي الكف عن تلك المكالمات. وعندما أنكر الاتحاد السوفييتي أنه قام بإعطاء الأوامر لإسقاط الطائرة الكورية المدنية، التي كانت تحلق فوق منطقة روسية، قامت وكالة الأمن القومي NSA بعرض الشريط الصوتي الكامل، الذي يحتوي الاتصالات التي دارت بين قائد طائرة الميغ MiG الروسية، وبين محطة القيادة الأرضية، حيث كانت محطة القيادة تعطي أوامرها للطيار بإطلاق النار علي الطائرة المدنية الكورية وإسقاطها.
وحتى في المراحل الأولي من عصر التقاط الصور بالأقمار الصناعية، كان بإمكان وكالة الأمن القومي أن تحصي الدبابات السوفييتية عدداً، ومن خلال تقنية الصور الأولية كان بمقدورهم أن يحددوا جاهزية تلك الآليات للعمل. وتمتلك وكالة الأمن القومي، سفن تجسس في المحيطات، وأقماراً صناعية وطائرات أواكس تجوب أرجاء السماء علي مدار الساعة، مغطية كل أنحاء العالم. ويتم اعتراض كل حركات الاتصال من الولايات المتحدة وإليها، كما تصنّف الرسائل التي يتم اعتراضها، ومن ثم تُوجّه لمن هم معنيون بها. وفي مقر وكالة المخابرات المركزية CIA، ثبت جهاز المقارن علي لوح من الغرانيت يزن 7 أطنان ليجعل آلية عمله الحساسة بمعزل عن(2/259)
اهتزازات المبني. أما العقل المدبر في مقر الوكالة في (لانجلي) فهو عبارة عن مزرعة ديسكات كمبيوتر في غرفة، تماثل مساحتها مساحة ملعب كرة قدم، إضافة إلي سبع صوامع عملاقة تحتوي كل منها علي (6) آلاف شريط كمبيوتر مغناطيسي، تقوم الروبوتات بتحميلها. وتتم تغذية عشرات الآلاف من صور الأقمار الصناعية في كمبيوترات فائقة السرعة، التي تعيد عرض رسوم كرتونية للشوارع والأسواق والبنايات أو أي شيء آخر تري الوكالة أو أي من عملياتها ضرورة لمراقبته.
وتستطيع وكالات الاستخبارات اقتحام أجهزة الكمبيوتر الشخصية، ونسخ المعلومات الموجودة عليها، دون الحاجة إلي اقتحامها فعليا في مواقعها. وباستخدام شعاع صغير غير مرئي يرسل من محوّل علي بعد مئات الأمتار من النافذة، يتم تضخيم اهتزازات النوافذ، وبالتالي تسجيل المحادثات التي تجري داخل الغرف. وهذا جزء لا يذكر إذا ما قورن بالمعجزات التقنية، التي لا يتم نشرها علي الملأ. ومع ذلك فقد أعلنت الولايات المتحدة مباشرة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، أن رجلاً يعيش في كهف علي مبعدة عنهم تقدر بنصف محيط الكرة الأرضية هو المسئول عن هذه الهجمات، وأن هذا الرجل الخارق قد تفوَّق علي جيوش وكالات الاستخبارات المذكورة في مهاراته وذكائه. وهذا الرجل هو أسامة بن لادن، ووفقاً للرواية الأمريكية الرسمية، فإن أسامة بن لادن من كهفه، قد تفوق علي القوة العظمي الوحيدة في العالم. وقد طالب هذا العالم أمريكا بتقديم الدليل، ولكن شيئاً لم يُقدَّم (1).
أحداث 11 سبتمبر
من المعلوم أن الولايات المتحدة اتهمت أسامة بن لادن وما أسمته هي تنظيم القاعدة ـ إن كان ثمة شيء اسمه تنظيم القاعدة ـ بالمسؤولية عن أحداث 11 سبتمبر بعد ساعات من وقوع الحادث دون دليل واضح ومقنع، بل إن اللجنة المكلفة بالتحقيق في الحادث خلصت إلى نتائج متهاونة على حد وصف مسئول مكافحة الإرهاب السابق في البيت الأبيض (ريتشارد كلارك)، الذي قال في مقال نشرته
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة -عبد الحي زلوم- القدس العربي 27/ 1 - 3/ 2/2003م(2/260)
صحيفة صنداي نيويورك تايمز: إن من بين الحقائق الواضحة الموثقة، ولم تذكرها اللجنة أن إدارة الرئيس جورج بوش لم تفعل الكثير بشأن الإرهاب قبل الهجمات (1). فالرغم من ان الولايات المتحدة الأميركية توافر لها ما لم يتوافر لأي دولة وقعت ضحية لجريمة كبرى من المعلومات خلال الثلاث سنوات الماضية، توافر لديها أفغانستان كلها بكل ما فيها من وثائق ومن مواقع للتدريب ومن معسكرات، توافر لديها أكثر من 600 شخص في غوانتانامو تحقق معهم خلال ثلاث سنوات، توافر لديها أكثر من ثلاثة آلاف شخص على مستوى العالم تم إلقاء القبض عليهم وصبت كل المعلومات في النهاية لدى الأجهزة الأميركية، كل هذه الأشياء لم تعط واشنطن حتى الآن أي مبرر لاتهام أي شخص في العالم سواء زكريا موسوي الذي يتم الآن التفاوض حول تخفيف الاتهام أو إلغائه هذا الأمر يلقي بالفعل كثيرا من الشكوك حول ما حدث (2). بل إن الإدارة الأميركية وعلى لسان وزير الدفاع الأميركي (رمسفيلد) أعلنت أنها لا ترغب في اعتقال ومحاكمة أسامة بن لادن، لأنها ببساطة لا تملك أدلة الاتهام، وهو ما حدث لمعتقلي غوانتانامو الذين لا يملكون معلومة ولا علاقة لهم بالأحداث، وإذا قدموا لمحكمة فإنه لا يوجد تهمة توجه ضدهم، فالولايات المتحدة تشن حربا على المجهول (3).
http://www.aljazeera.net/books/2003/5/ - TOP
ولأنها حرب على المجهول، ولا وجود لهذا الخطر المزعوم، فقد بدأت وسائل الإعلام في إيراد التهم التي ثم ألصاقها بالقاعدة، والتي كانت أداة مفيدة بيد الدعاية الأمريكية، لكنها لا تبدو معقولة في نظر القارئ المحايد، حيث بدأ الحديث عن الأسلحة التي تمتلكها القاعدة، وإنها تتكوّن من كميات هائلة من الأسلحة التقليدية التي تشتريها المنظمة من باكستان بصورة رئيسة، كما تمتلك أسلحة نووية تكتيكية يمكن استخدامها من قبل شخص واحد حصلت عليها من مصادر من الاتحاد السوفيتي السابق، إلى جانب ترسانتها من الأسلحة البيولوجية ومن بينها الإنثراكس، والطاعون، والسارين، وبكتيريا التسمّم العصبي.
_________
(1) الجزيرة نت- 25 - 7 - 2004
(2) أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005
(3) سفر الموت ... من أفغانستان إلى العراق - تأليف محمود المراغي- الجزيرة نت(2/261)
لكن الغريب على ضوء تلك الخطورة، أن يمر كل هذا الوقت على هجمات 11 سبتمبر دون أن يوضع أي من تلك الأسلحة موضع الاستعمال، حيث من الصعب تصوّر جماعة بهذه الدرجة من التسلّح تضم 20 ألف شخص في الحد الأدنى، أو 70 ألفاً في الحدّ الأقصى، من المسلّحين المدرّبين المنتشرين في جميع أنحاء العالم، لا تقدم على أي عمل مهم، في الوقت الذي تعرّض زعماؤها إلى تلك الهجمة العاتية، التي شنت عليهم، وهنا يبدو غريباً أنّ الهجوم البيولوجي الوحيد الذي وقع حتى الآن هو الهجوم المتفرّق بالإنثراكس، الذي لم تظهر للقاعدة علاقة به، بل كان من تدبير جماعة يمينية أمريكية متطرفة (1).
المسؤولية عن هجمات 11 سبتمبر في خطابات بن لادن
كان من اللافت للنظر أن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن لم يعلن مسؤولية تنظيمه مباشرة عن الهجمات التي تعرضت لها مرافق حيوية في الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر 2001، بل عمد إلى التدرج في إعلان هذه المسؤولية. فإثر الهجمات وتحديدا بتاريخ 16/ 9/2001 أصدر بن لان بيانا مطبوعاً أعرب فيه عن استغرابه لاتهام أميركا له وللقاعدة بالوقوف وراء تلك الهجمات، وأكد أنه لم يقم بهذا العمل معرباً عن قناعته بأن من قاموا بها إنما نفذوها بدوافع ذاتية. وذكر في البيان أنه يعيش في إمارة أفغانستان الإسلامية وقد بايع أمير المؤمنين فيها على السمع والطاعة في جميع الأمور، وهو لا يأذن بالقيام بمثل هذه الأعمال من هناك. وبعد ذلك تدرج بن لادن في بياناته وأحاديثه المسجلة والمصورة خلال السنوات الخمس من نفي المسؤولية عن الهجمات إلى التشجيع على القيام بها والإشادة بها، فالإشارة إلى ما يوحي بالمسؤولية عنها.
فبعد شن الولايات المتحدة حربها على أفغانستان بغرض الانتقام من الهجمات التي تعرضت لها، قال بن لادن في شريط مصور بثته قناة الجزيرة في 3/ 11/2001 إن أفغانستان وتنظيم القاعدة يتعرضان لقصف عنيف دون أن يثبت أي دليل على تورطهما في الهجمات التي تعرضت لها واشنطن ونيويورك، غير أنه أشاد في كلمته
_________
(1) القاعدة .. الإخوة الإرهابيون -المؤلف: بول. إل. ويليامس - كامبردج بوك ريفيو(2/262)
بالهجمات ووصفها بالضربات العظيم. وبعد ثلاثة أشهر من هجمات سبتمبر، وصف بن لادن في شريط مصور بث بتاريخ 10/ 12/2001 - الهجمات بالمباركة، وقال إنها شنت (ضد الكفر العالمي وضد رأس الكفر أميركا)، وأشار إلى أن أحداث 11 سبتمبر ما هي إلا رد فعل على الظلم المتواصل الذي يمارس (على أبنائنا في فلسطين وفي العراق وفي الصومال وفي جنوب السودان وفي غيرها كما في كشمير وآسام). ووصف في الشريط الذين قاموا بالهجمات بأنهم فتية فتح الله عليهم بأن يقولوا لرأس الكفر العالمي أميركا ومن حالفها أنتم على باطل وضلال، وضحوا بأنفسهم من أجل لا إله إلا الله، على حد تعبيره.
وبعد عام على الهجمات تطرق زعيم القاعدة لأحداث سبتمبر في شريط مصور بثته الجزيرة في 10/ 9/2002 فقال: "عندما تتحدث عن غزوتي نيويورك وواشنطن، تتحدت عن أولئك الرجال الذين غيروا مجرى التاريخ وطهروا صفحات الأمة من رجس الحكام الخائنين وأتباعهم، بغض النظر عن أسمائهم ومسمياتهم، نتحدث عن رجال لا أقول إنهم حطموا برجي التجارة ومبنى وزارة الدفاع الأميركية فقط، فهذا أمر يسير، ولكنهم حطموا هبل العصر، وحطموا قيم هبل العصر". وذكر بن لادن أسماء منفذي الهجمات وأشاد بهم فرداً فرداً. وفي الذكرى السنوية الثانية للهجمات بثت الجزيرة في 10/ 9/2003 شريط فيديو يظهر فيه كل من بن لادن ونائبه أيمن الظواهري وهما يسيران جنباً إلى جنب. وتضمن الشريط كلمتين للرجلين أشادا فيهما بمنفذي الهجمات وتوعدا الأميركيين بشن المزيد من الهجمات.
وفي 29/ 10/2004 وجه بن لادن رسالة إلى الشعب الأميركي، والتي حصلت عليها الجزيرة بالصوت والصورة للمرة الأولى منذ أكثر من عامين، حيث تحدث بن لادن في بدايتها عن الأسباب التي دعته لاختيار الولايات المتحدة لكي ينفذ فيها أحداث 11 سبتمبر. وهي المرة الأولى التي تحدث بن لادن فيها عن الدوافع التي جعلته يفكر في التخطيط لتلك الهجمات، مؤكدا أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 كان أول الأحداث التي جعلته يفكر في ذلك. وفي شريط بثته الجزيرة ناشد الرجل الثاني في القاعدة أيمن الظواهري المسلمين الاقتداء بمنفذي هجمات 11 سبتمبر، قائلاً: "إن العدو لا يفهم غير لغة الأبراج المحترقة والمصالح المدمرة. ووعد الظواهري بأخبار قال إنها ستثلج صدور المسلمين".(2/263)
وفي الذكرى الخامسة للهجمات حصلت الجزيرة على شريط مصور بثته في 7/ 9/2006 تضمن صوراً بثت لأول مرة عن أجواء الإعداد لضربة الحادي عشر من سبتمبر قبل خمس سنوات. وتظهر الصور التحضيرات التي سبقت الهجمات أو ما تسميه القاعدة غزوة منهاتن (1). ويرصد التسجيل الذي يذاع لأول مرة تفاصيل الحياة اليومية للمنفذين في أفغانستان وقت التحضير للتفجيرات (2).
لغز اختفاء بن لادن! (3)
مثل أي فيلم عنف أميركي سيئ الإخراج والحبكة، بقيت النهاية مفتوحة في الحملة الأميركية ضد تنظيم القاعدة، ولا يزال الأشرار (أسامة بن لادن والملا محمد عمر) هاربين من الرجال الطيبين (الولايات المتحدة بالطبع!)، الذين يريدون إحقاق العدل وسط تصفيق المشاهدين البلهاء. كيف اختفى أسامة بن لادن من جبال تورا بورا، ومن تحت الأقمار الصناعية الأميركية، ومن بين أعين المخابرات الأميركية، والمرتزقة الأفغان الباحثين عن مكافأة تسليمه؟ بكل بساطة اختفى (المجاهد) أسامة بن لادن، لأن الدور المطلوب منه لم ينته بعد، فقد سيطرت الولايات المتحدة على أفغانستان بالكامل، وحولتها إلى قاعدة عسكرية واستخباراتية أميركية في مواجهة إيران والصين وروسيا، وإبقاء الرقابة على الهند والباكستان وبرامجهما النووية، ولكن لا يزال لأسامة بن لادن دور آخر.
المفروض أن يظهر ابن لادن في مكان ما، ربما عن طريق وسائل الإعلام الأميركية أولاً، ومن ثم تسريبات الاستخبارات الأميركية، فهو سيظهر إما في الصومال أو اليمن أو الباكستان أو حتى الشيشان، ولا تستبعدوا الفلبين والسودان ولبنان، ولا سبب يمنع تسلله إلى السعودية أيضاً، فكلها موضوعة في لائحة مواقع الاستهداف، والحرب الأميركية القادمة، وقد قالها بوش بصراحة: "ربما لا نقبض عليه
_________
(1) ما سمي بالتحضيرات ما هى الا لقطات عامه لحياة مجموعه من المسلحين تشمل تدريبات روتينة وحوارات لا يمكن الادعاء بانها تحضيرات لهجمات 11 سبتمبر، بل يمكن وضع ما شئت من العناوين لهذ اللقطات.
(2) المسؤولية عن هجمات سبتمبر في خطابات بن لادن - شاهر احمد- 13 - 9 - 2006 - الجزيرة نت- http://www.aljazeera.net/channel/archive/archive?ArchiveId=337866
(3) مقال بقلم باتر محمد علي وردم منشور في جريدة الدستور بتاريخ 11/ 3/2002 م.(2/264)
اليوم أو غداً ولكننا سنفعل ذلك في النهاية"، وهذه النهاية لن تأتي قبل تدمير كل مقدرات الدول والتنظيمات التي يمكن أن تهدد أمن إسرائيل والولايات المتحدة.
يجب أن يكتشف العالم الإسلامي وبسرعة ظاهرة ولغز أسامة بن لادن وسيرة حياته غير العطرة، فلا يمكن أن يبقى هذا الشخص في نظر المسلمين إما بطلاً ومجاهداً ـ وهو أبعد ما يكون عن ذلك- أو مجرماً إرهابياً قاتلاً - وهو كذلك أكثر سذاجة من أن يكون كذلك- ولا شك أن هناك سراً وراء اختفائه المفاجئ وغير المفهوم من أنقاض أفغانستان، والذي ترافق مع تخفيف كبير للحملة الأميركية لإلقاء القبض عليه، فقد قضى الأميركيون تماماً على الشبان العرب من تنظيم القاعدة والأفغان من حركة طالبان، ولكن قيادات هذه التنظيمات لم يمسها أي شر، فهل يعقل أن يهرب هؤلاء جميعاً من ساحة المعركة بدون أثر؟ التفسير الوحيد هو أن أسامة بن لادن لم يكمل دوره بعد، فإما أنه يسير ضمن مخطط مرسوم لصالح الولايات المتحدة، أو أنه ترك ليهرب من أفغانستان تحت سمع وبصر القوات الأميركية تمهيداً للضربة الثانية، ولا نعلم ما هي الدولة المتعوسة التي سيهرب إليها ابن لادن ليعيث الخراب فيها من جديد؟.
في مثل هذه الأحداث نبقى جميعاً نشاهد ما يسمح لنا برؤيته ونحلل ونصفق ونشتم كما نريد، ولكن في الخفاء توجد الكثير من الأسرار التي لا يعرفها أحد، والتي لا يكشفها ابن لادن في خطبه العصماء على قناة الجزيرة، والذي لم يقل بوضوح فيما إذا كان قد خطط بالفعل لعمليات 11 أيلول أم لا؟، وفي كل التاريخ لم نر متهما يتجاهل الدفاع عن نفسه بهذه الطريقة المحيرة، وسيبقى لغز ابن لادن قائماً بينما يدفع المسلمون الثمن لواحدة من أكبر حماقات التاريخ، أو أكثر مؤامراته ذكاءً!!.
الزرقاوي .. لغز جديد
الزرقاوي مصاب .. الزرقاوي لم يصب وبخير .. مجرد بيانات على الانترنت مجهولة المصدر باتت تحتل صدارة الأخبار لتسارع الإدارة الأمريكية الحريصة على إيجاد مبرر لاستمرار احتلالها للعراق إلى التهوين من قيمة هذه البيانات، مؤكدة أن إصابة الزرقاوي أو حتى وفاته لن تؤثر في ما يسمى بـ (تنظيم القاعدة في بلاد(2/265)
الرافدين)، ولن يحول دون نشاط تلك الجماعة المسلحة في العراق حسب تعبير أحد جنرالات البنتاجون، الذي أكد أن ما يهم بلاده هو معرفة أين هو الزرقاوي وفي أي حالة، خصوصاً أن مكافأة ال 25 مليون دولار، التي رصدتها بلاده للقبض على الزرقاوي لم تعجل في تحقيق هذه الغاية.
وبالتزامن مع حديث الزرقاوي المطلوب الأول حالياً في العراق، فاجأنا الرئيس الباكستاني الجنرال (برويز مشرف) بعد مرور 24 يوماً على اعتقال المدعو أبو (الفرج الليبي)، الذي قيل إنه الرجل الثالث فيما يسمى بـ (القاعدة) ـ القيادة المركزية ـ إذا جاز الوصف لا يملك معلومات لها قيمة عن مكان قائده أسامة بن لادن، ومن ثم تراجعت واشنطن عن مكافأة العشرة ملايين دولار، التي سبق ورصدتها لمن يساعد على إلقاء القبض عليه. ويبدو أن واشنطن هي المستفيد من هذه الأشباح، التي جعلت البعض يقول ساخراً إن تنظيم القاعدة هو مجرد صناعة للدعاية الأمريكية، وأن مكان إقامة ابن لادن والزرقاوي .. ممن سمعنا وسنسمع بهم هو البنتاجون، لأن المستفيد الأول من استمرار بقائهما هي الإدارة الأمريكية الحالية، التي تحرص على اختراع عدو لاستخدامه فزاعة، وذريعة لحرب الهيمنة على العالم، خصوصاً المنطقة ومقدراتها، مهما اختلفت العناوين التي تطلقها على تلك الحرب، وأعتقد أن الملايين من أبناء المنطقة يتمنون وضع حد لهذه الأساطير اليوم قبل غدٍ وساعتها لا ندري ماذا ستقول أمريكا (1).
فيلم بريطاني: لا وجود دولياً لـ (القاعدة) .. الأمريكيين يصنعون أكاذيب الخطر الخارجي ويصدقونها
يؤكد الفيلم التسجيلي البريطاني (قوة الكابوس)، أن القاعدة لا توجد كشبكة منظمة ومنتشرة في العالم، وأن المتطرفين الإسلاميين في العالم والمتطرفين الأمريكيين ممثلين بالمحافظين الجدد يمثلان وجهين لعملة واحدة. ويجري الفيلم مسحاً شاملاً لنشوء الحركات الإسلامية ونموها وتطورها، في كل من مصر، والجزائر، ثم أفغانستان مدعماً بالوثائق، والتحليلات، وشهادات بعض رجال الاستخبارات، وتأكيدهم أن شبكة القاعدة غير موجودة كتنظيم دولي له امتداداته.
_________
(1) ذرائع الإرهاب الأمريكي- غريب صابر- جريدة الخليج - عدد 9506 - بتاريخ 29 - 5 - 2005م(2/266)
والفيلم الذي أنتجه تلفزيون الـ (بي بي سي) وعرض في إطار التظاهرة الرسمية لمهرجان كان السينمائي ال 58 خارج المسابقة هو للمخرج (آدم كورتيس). وينطوي الفيلم على تقنية فنية عالية إذ يعمد إلى استخدام الإعلانات الدعائية والتلفزيونية وصور الأفلام العربية والأمريكية القديمة للتخفيف من حدة الموضوع الذي يطرحه، عائدا بجذور القضية إلى خمسينات القرن الماضي.
وحلقة بعد حلقة وعبر معلومات مكثفة ومدروسة، يقود الشريط البريطاني مشاهده ليستنتج ان شبكة القاعدة غير موجودة أساساً، وإن كثيراً من الشبان المعتقلين في جوانتانامو لا علاقة لهم بالقاعدة، وهم أتوا إلى أفغانستان للتدرب على استخدام السلاح لأهداف وطنية مثل شباب الشيشان واذربيجان، الذين أرادوا تغيير أنظمة الحكم في بلادهم. كما يؤكد الفيلم أن التحقيقات والاعتقالات، التي تمت في الولايات المتحدة لم تفض إلى شيء ولم يُدَنْ فيها احد، في حين أكد الرئيس الأمريكي (جورج دبليو بوش) أن القاعدة موجودة في الولايات المتحدة وفي نحو ستين بلداً. ومن النقاط المهمة، التي يبرزها الفيلم الغني بالمعلومات أن أسامة ابن لادن ليس الزعيم الفعلي للقاعدة، وأنه كان فقط البنك الممول لكل هؤلاء الشباب، الذين أتوا إلى أفغانستان، ولا أيمن الظواهري، هو العقل المدبر. ويؤكد الفيلم أن الظواهري الذي تأثر بنظريات سيد قطب وجاء إلى أفغانستان بعد إطلاقه من السجن في مصر مع مجموعة من الإسلاميين المتورطين باغتيال السادات، هو الذي يكره الولايات المتحدة.
ويقول الفيلم: إن ابن لادن إضافة لكونه ممولاً، كان (ثرثاراً يدعي ما لم يقم به)، ويعطي بالتالي صدقية للدعاية الأمريكية. ويبين الفيلم كيف أن المسئول عن الوضع في العالم اليوم، هي آيديولوجيات متقابلة يكمل بعضها بعضا وتتسلح بفكرة الدفاع عن الخير ضد الشر، وان كلاً منها مقتنع بالشيء ذاته. ويوضح الفيلم أن فكرة الخطر الخارجي كان يستخدمها الأمريكيون منذ السبعينات، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي حين هوّل المحافظون القدرة العسكرية النووية لهذا البلد وأنشأوا فريقاً كاملاً للتحقيق في قدرته النووية وخرج التحقيق بنتائج تبين اليوم أنها كانت كاذبة(2/267)
بمجملها. ويتعقب الفيلم كيفية تحول الأكاذيب إلى حقائق يصدقها الأمريكيون وهم صانعوها (1).
تزويد الأنفاق بالظلام
إذا كان بن لاذن وتنظيم القاعدة ما هم الا صناعة امريكية، وينفذون بعلم أو بغير علم مخططات امريكية، فكيف استطاعوا في بداية ظهورهم الحصول عل تعاطف وتأييد كثير من المسلمين؟! ويجيب على ذلك العلامة (محمد حسين فضل الله) محاولاً القاء الضوء على الظروف، التي أحاطت بظهور بن لادن على ساحة العمل الإسلامي، والسبب الذي جعل الكثيرين ينظرون إليه كمخلص للأمة من أزمتها الخانقة حيث يبدأ بوصف حالة الإنسان العربي بعد انتفاضة الأقصى الثانية وأحداث سبتمبر فيقول: "ربما يشكو الإنسان من المظالم ويكتشف الكراهية لأميركا نتيجة سياساتها". ويرى أنها وصلت إلى درجة بات يشعر فيها الناس بالإحباط، ولا يرون فائدة من العمل، "ويأتي هذا مع حالة في المنطقة العربية يصادر فيها الشعب كله، وتسيطر فيها دوائر المخابرات وقوانين الطوارئ، ويشعر الإنسان بالرعب من الحرية والتفكير الحر، ويرى المرء عمليات التدمير، التي تلحق بفلسطين والفلسطينيين، وتبدو في نهاية النفق أميركا تسده بالظلام". وأمام هذا الضغط الاستكباري، قرأت بعض الاتجاهات الإسلامية، الإسلام وآيات الجهاد، والموقف من الكفار وربما قرأت بعض تاريخ العنف، فوصلت إلى نتيجة مؤداها أن الوصول إلى الهدف يكون بعمل عنفي يرضي الحالة النفسية، والشعور بالقهر الذي يسيطر على كثير من المسلمين، بغض النظر عما إذا كان يؤدي إلى نتائج في مستوى الهدف أم لا (2).
وهذه هي
_________
(1) الخليج - عدد 9494 ـ 17 ـ5 ـ2005م
(2) هناك امثلة كثيره في تاريخنا الإسلامي استغل فيها المستعمرين الحالة النفسية المهزومه للامه الإسلامية للدفع ببعض عملائهم أو بعض السذج لتصدر ساحة الدعوة أو القيادة ليكون اداه لتحقيق اهدافهم الخبيثة كما حصل في الهند .. فقد كان القضاء على مقاومة المسلمين للوجود البريطاني في الهند عن طريق محاربة الدين الإسلامي ومفهوم الجهاد، من أهم الأهداف التي سعى الاستعمار البريطاني إلى تحقيقها، حيث اتبع الاستعمار عدة أساليب لتحقيق ذلك، ولكن هذه الأساليب لم تأتي بثمارها المرجوة، مما دفع الانجليز إلى البحث عن وسيلة جديدة لتحقيق أهدافهم، فقاموا بالإستعانة بالمستشرقين المتخصصين في الدراسات الإسلامية وطلبوا منهم وضع تقرير عن الوسائل الكفيلة بإلغاء مفهوم الجهاد الذي يدفع المسلمين إلى المقاومة الدائمة. وفعلاً قامت لجنة من المستشرقين والمحررين الإنجليز، بزيارة الهند في عام 1969، حيث درسوا أحوال المسلمين هناك وسجلوا ملاحظاتهم وتوصياتهم في تقرير قدموه إلى الدوائر الإستعمارية في لندن في عام 1870، وقد خرج أعضاء اللجنة بقناعة مفادها: أنه لايؤثر في المسلمين وفي توجهاتهم مثل قيام رجل منهم بإسم منصب ديني رفيع يجمع حوله المسلمين ويخدم سياسة الانجليز، لهذا أكدت اللجنة في تقريرها على ضرورة الدفع بأحد المسلمين ليدعي أنه المسيح الموعود أو أنه نبي، ليصدر أوامره بإلغاء الجهاد وليدعوا المسلمين إلى طاعة الانجليز.
وفعلاً بدأ الانجليز بالبحث عن شخص يقوم بهذا الدور واستعانوا بالمبشرين لكي يساعدوهم في ذلك، فوجدوا في غلام أحمد الذي تربى في أحضان المبشرين وعمل في خدمتهم، والذي كان مضطرب الأفكار والعقيدة وكان طموحاً إلى تأسيس ديانة جديدة، هذا بالإضافة إلى انتماؤه إلى أسرة معروفة بعمالتها للإنجليز- وجدوا فيه أفضل شخص يمكن أن يقوم بهذا الدور. فأوعزوا لغلام أحمد لكي يدعي أنه المسيح الموعود الذي ينتظره المسلمون ليحقق لهم أهدافهم مستغلين في ذلك الشهرة الكبيرة التي نالها غلام أحمد من خلال مناظراته مع القساوسة والمبشرين في الهند. كما أنهم استغلوا الحالة النفسية للمسلمين والتي كانت مهيئة لتقبل هذه الفكرة في ذلك الوقت، حيث اجتاحت العالم الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حالة من اليأس في النصر على المستعمر الأوروبي، إذ بلغت سيطرته على البلاد الإسلامية ذروتها في ذلك التاريخ. فتوجه المسلمون إلى مصدر القوة التي لاتقهر. إلى الله سبحانه وتعالى، ولما كانت رسالة محمد (ص) هي خاتمة الرسالات السماوية فلن يبعث الله رسول برسالة أخرى. لهذا ترقبوا قرب نزول المسيح ليحكم بالقرآن ويكسر الصليب ويقتل الخنزير. فاستغل الانجليز هذا الوضع النفسي للمسلمين فدفعوا بعميل لهم هو الميزرا غلام أحمد إلى ساحة الدعوة الدينية ليحد من تيار الدعوة إلى الجهاد ضد المستعمر - لأنه فسره على نحو يبطل فرضيته - فادعى أنه المسيح الذي أخبر بنزوله وينتظره المسلمون ليخصلهم من الاستبداد وليمكن لدين الله في الأرض. (راجع كتابنا: "احمد ديدات بين القاديانية والإسلام - يوسف الطويل- مكتبة مدبولى - الطبعة الأولى - 2002).(2/268)
مشكلة هذه الاتجاهات في فهم التحرك نحو الأهداف الإسلامية، فهم يخلطون بين عنف الفكرة في مواجهة فكرة أخرى وعنف الوسيلة، فعنف الفكرة لا يعنى عنف الوسيلة، إلا أن الذهنية غير المثقفة وغير الواعية تخلط بينهما. ولهذا فقد كان من أكبر الأخطاء، ولعله خطأ متعمد أن يقع الخلط بين الاستنكار العربي للسياسة الأمريكية وبين ترجمة هذا الاستنكار على أنه الإعجاب بابن لادن، وربما ساعد على الترويح لهذا الخطأ المتعمد أن الأمة العربية لا تجد في هذه اللحظة قيادة معترفاً بها تتوافر لها المصداقية، ولا فكرة جامعة لها طاقة وحيوية أن تلهم وتحرك" (1).
فواقع الشرق أو العالم الثالث أمام الأزمات الخانقة، وأمام كثير من حالات الإحباط والسقوط يجعله يفتش عن بطل أو منقذ ثائر. فمن السهل أن تتحرك بعض الطموحات لتقدم نفسها في موقع البطل، سواء من خلال الموقف المتحدي الذي
_________
(1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص166 - 167(2/269)
يتسم بالعنفوان، أو من خلال حركة تقوم هنا أو هناك، ما يوحي بأن هناك قوة قادمة يمكن أن تحل المشكلة أو تخفف بعض أوضاعها. وشخصية ابن لادن توحي بالكثير من الإعجاب، بتضحياته وزهده بالدنيا رغم توافرها بين يديه، وتبدى عنفوانه بأعمال عنف حتى خيل أنه إسقاط لعنفوان القوة الكبرى أميركا، وحولت الحماسة التمنيات إلى واقع، وهكذا استطاع هذا الرجل أن يحصل على الإعجاب والتأييد في العالم الإسلامي على امتداده، وربما أمكنه أن ينفذ إلى مجموعات من المتعلمين، لأن المسألة كانت عندهم هي الثأر بغض النظر عن المضمون (1). http://www.aljazeera.net/books/2003/7/ - TOP
وهنا أعتقد من يسمون بالأفغان العرب، ودون دراسة للظروف الموضوعية التي تحقق فيها الانتصار في أفغانستان، أن انتصارهم على الاتحاد السوفيتي يمكن أن يحقق لهم انتصاراً على أميركا. وخلق هذا الانتصار حالة من العنفوان ابتعدت بهم عن الواقع، وكان أن حدثت هجمات سبتمبر، وكانت اللحظة الأولى بعدها، في العالم الإسلامي وغير الإسلامي وفي كل العالم المستضعف هي لحظة فرح، لأن العنفوان الأميركي سقط. وخاصة عندما رأى الناس ما لا يرونه إلا في السينما والمسرحيات، فرئيس الولايات المتحدة لا يملك أن ينزل بطائرته في واشنطن، ونائب الرئيس اختفى، وكذلك أغلب الإدارة الأميركية، حتى أن أمريكا مرت في ساعات من انعدام الوزن. كان هناك فرح ينطلق من معنى الثأر والشماتة، ولكن الولايات المتحدة استعادت المبادرة بسرعة، وعلمت كيف تستفيد من الأحداث وتحصل على أكبر مكسب من خلالها. وهذا ما حدث، فقد بادرت أميركا واتهمت الإسلاميين، واستغلت صورة ابن لادن الجاهزة في وسائل الإعلام، وكانت أفغانستان تحتضن ابن لادن والقاعدة، وبهذا أصبح كبش الفداء جاهزاً.
وكان يخيل للناس أن طالبان سوف تصمد، وأن أميركا سوف تغرق في وحول أفغانستان كما غرق الاتحاد السوفيتي. ولكن أميركا لم تدخل وحدها، فقد كان الأفغان المعارضون لطالبان جاهزين للعمل معها، في الوقت الذي انسحبت فيه باكستان، وتركت طالبان وحدها في مواجهة حرب عالمية فسقطت، ولا تزال الحرب
_________
(1) أظهر استبيان أجرته الجزيرة على مدى اربعة ايام خلال الفترة من 7 - 9 - 2006 إلى 10 - 9 - 2006 انقساما في موقف المشاركين تجاه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، حيث أيد 49.9% منهم بن لادن مقابل 50.1%، وهذا يعني ان الناس بدأت تدرك الحقيقة؟!(2/270)
العالمية موجهة ضد هذا العدو الأسطوري، الذي استطاعت أميركا بإعلامها أن تضخمه، ليكون انتصارها عليه بحجمها هي لا بحجمه الحقيقي هو. وهكذا قدم هؤلاء الإسلاميين خدمة لأميركا لو بذلت المليارات لما استطاعت أن تحصل عليها، في الوقت الذي أرادوا فيه أن يسقطوا أميركا (1). فجهل بعض رموز الحركات الإسلامية بالسنن الإلهية الكونية، وبموطئ أقدامهم فيها، وكذلك تسرع البعض الآخر من هذه الرموز، وسوء النية والطوية عند قسم ثالث منهم، جعل الإسلام والمسلمون يدفعون ثمنه مرتين: مرة من قبل هؤلاء المتسرعين والجهلة وذوي الأغراض الشخصية، إذ يعيقون بمواقفهم وسلوكهم حركة الإسلام وتقدمه. ومرة من قبل أعداء الإسلام، وأعداء توجهاته السياسية في الداخل والخارج، عندما ينسبون مواقف هؤلاء وأخطاءهم إلى الإسلام نفسه ولله الأمر من قبل ومن بعد (2).
وهذه ليست كل الصورة، حيث أن ما يفعله هؤلاء بجهالة في أفغانستان والجزائر والصومال والسودان وغيرها وراءه أشرار كبار، يخططون في الخفاء، ودول صاحبة مصلحة في إشعال النار تنفق وتسلح وتستعمل الجواسيس والعملاء، وتستغل حب الرياسة في هذا وذاك وحب المال في هذا وذاك ... نعم وراء كل قنبلة تنفجر هناك جيش من الشياطين يعمل، وأجهزة مخابرات تخطط، ليظل الجحيم مستعراً وليظل المسلمين سجناء تخلفهم إلى الأبد. فالصورة كلها صورة بوليسية، والعمل عمل جواسيس محترفين، لكن القيادات الإسلامية، والمسلمون الكبار ليسوا أبرياء فوقوعهم في مصيدة الفتنة، وفي أحابيل المكر الذي حاكته العقول الاستعمارية المحترفة هو ضعف وسذاجة، تحسب عليهم في آخر المطاف، فهم لم يكونوا بالنضج ولا بالوعي الكافي الذي تستلزمه الرسالة التي وهبوا أنفسهم من أجلها.
والتساؤل الأعجب، لماذا توجه هذه الفرق الإسلامية رصاصها إلى الفرق الإسلامية المنافسة ولماذا تكون العدوات بينها أشد؟ (حارب الأفغان بعضهم البعض
_________
(1) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت
(2) الإسلام .. والغرب .. وإمكانية الحوار - إبراهيم محمد جواد(2/271)
بأشنع مما حاربوا العدو السوفيتي) لقد غاب حب الرياسة في قلوبهم على حب الحق، وعلى حب الدين، الذي يدعون أنهم يحاربون من أجله، وكان سقوط المأجورين منهم بإغراء الدولارات أفدح وأخزى. لقد سقطوا في الاختبار رغم الشعارات الإسلامية التي يرفعونها، ولهذا اسقط الله الرايات من أيديهم، فالله لا يحابي في الحق أحداً، والله لا ينظر إلى بطاقة المقاتل وإنما ينظر إلى قلبه (1).
تنظيمات عبثية
مع أن المعركة في أفغانستان بعد الانسحاب السوفيتي لم تعد لها صلة ـ ولا حتى بالإدعاء ـ بين إيمان والحاد، وإسلام وكفر، لأنها أصبحت حرباً بين قبائل وعشائر ومشايخ، فإن أسامة ابن لادن ظل يقود تنظيماً بلا قضية في ارض بلا هوية (2)، ودخل في تحالفات مع مسلمين ضد مسلمين رافعاً شعار الجهاد ومقاتلة الكفار، حلفاء الأمس، في صراع مقيت جلب الدمار والخراب للمسلمين، وشوه صورتهم في كل مكان، ولا شيء هناك سوى قتال بدائي على السلطة، ومن وراء الكل هناك من يدفع ويمول ويلقى بالأسلحة والذخائر في أتون المعارك حتى لا يجتمع المسلمون على كلمة، وحتى لا ترتفع للإسلام راية في أي مكان، وحتى يصبح الإسلام محل الشبهة والاتهام ومنبع لكل مصيبة. فقد زين لهم جهلهم أسباباً ومبررات لقتالهم وهم لا يعرفون من الإسلام إلا ما قيل لهم، وما وضع في أفواههم ومن ورائهم شياطين اقدر وامكر يستعملونهم، والشريعة الإسلامية بريئة من كل هذا الهراء. فهذا الإرهاب الذي أسموه ظلما بالإرهاب الإسلامي له، في بنوك أمريكا وإنجلترا أرصدة دولاريه بالملايين .. وقد رأينا إنجلترا تحتضن هؤلاء الإرهابيين علناً، وتنظم لهم مؤتمراً كبيراً، ومائدة مستديرة ليجتمعوا عندها في لندن .. ثم رأيناها تنسحب في آخر لحظة خشية الفضيحة وخشية كشف المستور. فقد التقت إرادة الغرب وإرادة إنجلترا وأمريكا على هذا الأمر.
_________
(1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص38ـ39
(2) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص132(2/272)
وفي كتابه (علاقات خطره) يكشف مؤلفه (اندرولسلي كوكبيرن) عما يجري في كواليس المخابرات الأمريكيه ال C.I.A والموساد، ويفضح جانباً من ذلك التنظيم السري الرهيب بين الاثنين لتمويل كل البؤر المشتعلة في العالم لصناعة الانقلابات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولتجنيد العملاء وشراء الزعماء وإفساد الذمم، وتحريض الطوائف وإفقار الفقراء وقتل الأبرياء في مخطط دموي رهيب للهيمنة والسيادة على العالم بقوة السلاح (1).
فحرب أفغانستان تم خوضها بمساعدة المخابرات المركزية الأميركية من قبل متطوعين إسلاميين، دربوا على الحدود الباكستانية، ولكنه ومع نهاية الحرب أصبحت هذه المنطقة معقلاً للأممية المتعصبة المُشَّكلة من مجموعات صغيرة متشددة منفصلة عن المجتمع، والتي تتبع حصراً أهدافاً متطرفه، حيث تتحمل الولايات المتحدة جزءا من المسؤولية في قدوم هذا النمط الجديد من المتطرفين (2). فكثيرين بين العرب والمسلمين ساورتهم الشكوك من سنين عديدة حول هذا الذي يجري في أفغانستان باسم الجهاد، وضد الإلحاد. وهم في كل الأحوال لم يصنعوا بن لادن أو يكتشفوه، وإنما سمعوا باسمه لأول مرة على لسان الرئيس (بيل كلينتون) حين وجه إلى مواقعه في جبال أفغانستان دفعة من صواريخ كروز صيف 1998م عقاباً على تفجير سفارتين للولايات المتحدة في عاصمتين أفريقيتين. ثم عاد اسم ابن لادن يتردد على لسان الرئيس (جورج بوش) منذ ارتفع صوت الرئيس الأمريكي لأول مرة مساء 11 سبتمبر وهو يعلن الحرب عليه (3). كما تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في صناعة أسامة بن لادن الذي دربته ومولته واستخدمته في أفغانستان ضد السوفيات، كما أن الطالبان حظوا بدعم من العالم الأنجلوساكسوني (أمريكا وبريطانيا) (4) حيث أن سياسة واشنطن المناهضة لإيران وإستراتيجيتها
_________
(1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود - ص134
(2) َفرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة تأليف/ فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- كامبردج بوك ريفيوز
(3) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص166
(4) الكل أمريكيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - جون ماري كولمباني- كامبردج بوك ريفيوز(2/273)
دفعتها إلى تسهيل قيام نظام طالبان الذي شكل فيما بعد القاعدة السياسية المثلى لمواصلة معارك ابن لادن.
توظيف الدين بين بوش وبن لادن (1)
سؤال مشروع في ظل تزايد الحديث عن خطاب ديني (ديماغوجي) يدعو إلى تحقيق الأهداف بالعنف، وخطاب ديني مضاد (منظم) يدعو إلى أهداف موازية وبالعنف أيضاً!!! وبين الخطابين يقبع العالم المسكون بدهشة الصور، التي تلقمها له ماكنة إعلامية ضخمة منقسمة بين طرفي المعادلة الفظيعة. خيط رفيع .. لكنه بالغ الأثر يجمع بوش وابن لادن .. يضيق في أحدهم ليتسع في الآخر، ذلك هو توظيف الدين، (فصليبية) بوش الابن، جاءت في مقابل (جهاد) ابن لادن، وكل منهما كان يقسم العالم إلى ثنائية متضادة حدية، فسطاطي بن لادن (إيمان وكفر)، ومحوري بوش (خير وشر)، و (من ليس معنا ـ نحن الخير المطلق ـ فهو ضدنا). كان الموقف تمثيلاً للتناقضات الموجودة على أرضية دينية، المرتهنة إلى ثنائيات تبسيطية للعالم بأسره، واحد يستلهم القرآن، والآخر يستلهم الكتاب المقدس، وكلاهما يعيش مع الرب؛ ويقوم بتكليف إلهي! " (2).
الأصولية الإسلامية المتطرفة (وهي يمين متطرف بالضرورة)، تدعو إلى محاربة (الشيطان الأكبر) المتمثل في الغرب والولايات المتحدة خصوصاً، ومحاربة الشيطان الأكبر في عمق هذه الميثولوجيا الأصولية المتطرفة، تتطلب إيماناً شديداً بضرورة العنف، وإلغاء الآخر، بهدف الوصول في النهاية إلى عالم يوتوبي مثالي (دولة الشرع العالمية)، حيث يقيم (المؤمنون) دولتهم، وأيضاً في سياق نفس الميثولوجيا المتواترة، فإن هذه الدولة ستكون آخر إشارات (نهاية العالم)، حين تنتصر (قوى الخير)، في معركة ميدانها (فلسطين)، والتي ستسترجع بعد حرب تدميرية، يصرخ فيها الشجر مستنجداً بالمسلمين من يهودي مختبئ خلفه، ويتبع
_________
(1) الحرب العالمية الأخيرة -ما الفرق بين تنظيم القاعدة وطاقم الإدارة الأمريكية- بقلم مالك عثامنة- جريدة المرايا الالكترونية.
(2) الرجال الثلاثة .. والطريق إلى العراق! (الشبكة الإسلامية) - بقلم معتز الخطيب * كاتب وباحث سوري(2/274)
ذلك ظهور المسيح الدجال، ونزول المسيح إلى الأرض، وقيام معركة دموية بين الخير والشر، لتنتهي بانتصار الخير، وبعد زمن قليل ... ينتهي العالم!!!!
هذا الخطاب الأصولي، وفي سبيل تحقيق الرؤيا، يسعى إلى رفع (الظلم) عن المؤمنين من خلال نبوءات دينية بحتة، والمشكلة ـ الكارثة تكمن في التفسير العقائدي لهذا الحدث، والذي يزداد شرعية من خلال إعلام الكاسيتات، والتواتر التقني عبر الإنترنت، ليعزف على وتر العقيدة، مما يدخل (الاجتهاد الفردي)، بتفسير النص إلى خانة المقدس غير القابل للتأويل، ويسهل عملية تجييش البسطاء من (المؤمنين) في حرب تدميرية شاملة، طمعاً بجنة سماوية أو أرضية، وهذا في النهاية ـ حسب الخطاب الأصولي ـ أمر إلهي قادم من (الله) مباشرة، وعليه ... فلا يجوز النقاش فيه.
في الجهة الأخرى، هناك إدارة أميركية (جمهورية جديدة)، حوالي 90% من قاعدتها في معظم الولايات خاضعون للكنيسة البروتستانتية المجددة (التدبيريون)، وهم يؤمنون أيضا بضرورة محاربة الشيطان و (محاور الشر) في العالم، وتؤمن بالعنف و (إلغاء الآخر) الشرير بالمطلق، بهدف الوصول ـ حسب رؤيتهم ـ إلى عالم يوتوبي مثالي (مملكة الرب)، حيث يقيم (المؤمنون) دولتهم، وفي نفس السياق الميثولوجي الغريب، فلا بد من السعي إلى (إنهاء العالم)، وتجميع اليهود في فلسطين للوصول إلى المعركة الحتمية الفاصلة وميدانها سهل (مجيدون) في الأرض المقدسة، وهي أرض الميعاد لهذه المعركة التي وعد بها الرب، ولا خوف على (المؤمنين) من السلاح النووي، لأن المسيح سيبعث من جديد، ويحمي أتباعه.
فأصولية هؤلاء هي صورة مشابهة تماما لأصولية (ابن لادن) وهم يرون أن هجمات 11 سبتمبر هي بداية حرب دينيه ضد الكفر والكفار، وهذا ما تم تمهيد الأرض له من قبل الكنائس الراديكالية التي تروج لمقولة: "الأشرار يجب أن يعاقبوا والأخيار يجب أن يكافئوا. لقد جاء وقت العنف". ومثل هذه الأفكار هي التي أدت إلى الوصول إلى منطق: "من ليس معنا أي ضد الكفار- فهو ضدنا"، حيث كانت النتيجة الطبيعة هي حدوث خلط متطرف ولاعقلاني بين المقاتلين الإسلاميين المتطرفين، وبين الإسلام كدين وهذه ما جعل القس (فرانكلين جراهام) يذهب للاتفاق مع الرئيس بوش بصورة متطرفة واضحة حتى انه يصف الإسلام بكامله في خطبه "بأنه(2/275)
(أقصى أنواع الشر) وبأنه دين ذميم، فلسنا نحن من هاجمنا الإسلام بل هو الذي هاجمنا". بينما يقول زميله (جيري فينز) القس الأكبر لكنيسة بابست في فلوريدا في خطبه: "أن المسيحية تأسست على يد سيدنا المسيح عيسى الذي ولد كابن لله من امرأة عذراء، إنما الإسلام تأسس على يد محمد الذي تلبسه الجن وتزوج من 12 امرأة، أخرهن كانت في التاسعة من عمرها". مضيفاً بقوله: "أقول لكم: أن الله ليس هو يهوه، فان يهوه لم يرسل أي نبي إرهابي". ( ... (1)
أما القس (اندرو ستيوارت) فإنه يقوم بالدعوة في الكنائس بقوله: "اللهم دمر أعداءنا ودمرهم إلى الأبد وافرد شراعك على رئيسنا وصديقنا رجل تكساس جورج بوش". والمعروف أن هذا القس ينتمي إلى أحد اكبر الطوائف البروتستانتية هي (كنائس بابست) اليمينية المتطرفة، التي تقوم على أسس شديدة التزمت والكراهية والعنف. وفي كنيسة (توماس رود) في ولاية (فيرجينيا) يجتمع أسبوعيا ألف متدين ليس لسماع دروس دينية، بل للانفعال والدعاء لتطهير أمريكا من الكفار ويقوم فيها الواعظ المعروف تليفزيونيا (جيري فالويل) الذي يحظى بمتابعة الملايين لينادي بصراع الحضارات ووجوب الدفاع عن (القيم المسيحية) بأي وسيلة، ومهما كانت الظروف، لتسود العالم. بل انه يرى أن أحداث 11 سبتمبر كانت عقاباً إلهياً للعاصين من شعبه، وان الحل هو عودة المسيحيين لتحقيق كلمة الله بالقضاء على الأشرار. ويستخدم في ذلك الإنترنت الذي أصبح وسيلة سريعة لنشر التطرف بين هذه المنظمات، حيث يمكن القول أن الثقافة الأصولية الأمريكية في العشرين عاماً الماضية شكلها المقاتلون والمتعصبون الذين يزدادون نفوذاً (2). والمفارقة هنا أن هذا الخطاب المسيحي اليميني المتطرف كذلك، صادر من (الرب) مباشرة، وإستراتيجيته قائمة على .. "من هو ليس معنا، فهو معهم! " حسب تعبير سيد البيت الأبيض الواشنطوني جورج والكر بوش.
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص45أو صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003م - وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003 م
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص45أو صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003 - وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003م(2/276)
وفي الحين الذي يبدو ابن لادن خارجاً عن سياق كثير من المؤسسات الدينية التي أعلنت أن هذا ليس من الإسلام، وأن القرآن يحض على التسامح والخير، بدا بوش أيضاً كذلك، فالطوائف المسيحية الرئيسة كلها (باستثناء حزام التوراة الجنوبي) أعلنت موقفاً ضد الحرب، عبر عنه موقف البابا (يوحنا بولس الثاني) الذي عاد إلى مانوية بوش معكوسةً معتبراً أن "الخيار بين السلام والحرب هو خيار بين الخير والشر" (1).
ويغذي الأصولية الأولى، شيوخ (رجال دين) من أمثال (الملا محمد عمر)، و (أسامة بن لادن)، و (أبو حفص المصري)، ويغذي الأصولية الثانية قساوسة (وهم رجال دين أيضا)، من أمثال (بات روبرتسون) و (جيري فولويل)، و (ديك تشيني)!!! ... نعم، ديك تشيني، الملتزم حد التعصب بما يعتقد، والمؤمن بضرورة العنف للوصول إلى (الأرماجيدون)، في سبيل بعث المسيح مرة أخرى!! (ديك تشيني)، ونتيجة لأي حادث صدفة محتمل، قد يصبح رئيساً دستورياً للقوة الأعظم في العالم، وحينها، فإن (الله) وحده فقط يعلم ماذا يمكن لرجل مثله "يؤمن بخلاص العالم وراحة البشر؟، من خلال تدمير هذا العالم وقتل هؤلاء البشر! " أن يفعل، وطرف سبابته بعيد عن كبسة الزر النووي بضعة إنشاءات لا أكثر!! بلا مبالغة ... أعتقد أن العالم تحت رحمة مجانين! " (2).
حذارِ الحرب الصليبية الجديدة
كتب الاستاذ القدير / جورج حاوي مقالاً رائعاً في صحيفة السفير بتاريخ 15 سبتمبر 2001 بعنوان (حذار الحرب الصليبية الجديدة) تعليقاً على احداث 11 سبتمبر، جاء فيه: "نبدأ بالاستنكار، بل بالإدانة! ونستطرد بتقديم التعازي الحارة إلى أُسر الضحايا، والى الشعب الأميركي المنكوب، والمجروح في كرامته الوطنية وفي كبريائه!. ونعلن رفضنا للإرهاب بكل صوره وأشكاله، ولكل الأعمال الإجرامية التي تطال مواطنين مدنيين عزّلاً وأبرياء ... في كل زمان ومكان. فليس هكذا تحارَب
_________
(1) الرجال الثلاثة .. والطريق إلى العراق! (الشبكة الإسلامية) معتز الخطيب * كاتب وباحث سوري
(2) الحرب العالمية الأخيرة -ما الفرق بين تنظيم القاعدة وطاقم الإدارة الأمريكية- بقلم مالك عثامنة- جريدة المرايا الالكترونية.(2/277)
الامبريالية، ولا هكذا يمكن التصدي (للنظام العالمي الجديد) ولهجمته الهمجية ضد شعوب الأرض، وبلدان العالم. فمثل هذه الأعمال تخدم عتاة هذا النظام، إلى درجة تسمح باتهام هذه القوى الأكثر رجعية في التاريخ، بأنها، هي، وليس سواها، وراء مثل هذه الجرائم البشعة، أكان ذلك مباشرة، أم بصورة غير مباشرة.
ونوعية العنف بالذات تشير إلى انه عنف (أميركي) واخلاقيات أميركية، وأسلوب أميركي، أكان ذلك بفعل اختراق خطير في أعلى درجات القرار في الأجهزة الأميركية، أم بفعل عصابات وميليشيات الإجرام الداخلي، أم وحتى من قبل قوى نقيضة انتقلت اليها عدوى النظام، وعقلية النظام، وأساليبه الاجرامية. أوَلَمْ تصدر في أميركا عشرات الأفلام الشبيهة بما جرى؟ بل مئات لعب الأطفال على الكومبيوتر (والبلاي ستايشن) فيها أعنف مما جرى على الأرض!.
فعندما يصبح العنف المطلق وسيلة لتسلية الأطفال، هل نستغرب حصول مثله على أرض الواقع؟ إنه مجتمع العنف المطلق، والمتحرر من أي قيد أخلاقي أو رادع ضميري، أو قيم دينية أو إنسانية. عنف العولمة الذي يسحق شعوب الأرض كما يسحق الإنسانُ نملة أو صرصاراً أو وكر نمل. أوَلم نجد نماذج لهذا العنف حيال العراق، وليبيا، وفلسطين ولبنان ... وحيال غرينادا ونيكاراغوا وكوبا ويوغوسلافيا وكوسوفو ...
عبثاً نحارب الإرهاب أن لم نقلع عن نهج إرهاب الدولة (ونموذج ممارسته في تصرف حكام أميركا وحلفهم الأطلسي وأعوانهم الصهاينة)، وعن (عقلية الإرهاب)، و (ثقافة الإرهاب) و (حضارة الإرهاب).
أما بعد،
فقد أعلنت أميركا الحرب!. وبدأت تفتش عن الضحية، أو عن الضحايا: إنه تارة أسامة بن لادن، والطالبان، وطوراً العراق أو ليبيا. وتسارع إسرائيل إلى القفز على المناسبة، فتحشر اسم سوريا، وحزب الله، والفلسطينيين ... ويذهب شارون إلى أقصى الوقاحة ويحدد الهدف: السلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات!. وتسارع الأنظمة، أنظمة الخوف والذعر والإرهاب والقمع ... ليحشر كل واحد منها اسم عدوه(2/278)
الداخلي ... أو نقيضه. وتتحدد معالم هذا العدو الذي سيشن هذا (التحالف المقدس) حرب الإبادة ضده: إنه الإسلام، والعروبة، وحركات التحرر. وباختصار: انه (الحرية)!.
إننا على أبواب شن حرب صليبية جديدة، تقرع لها الطبول، وتحشد لها الأساطيل بحراً وجواً، ويجري نقل الجيوش براً في كل مكان. والعالم أمام مرحلة سوداء، من قمع الحريات، بحجة تدابير الأمن ومكافحة الإرهاب، حيث ستداس البقية الباقية من حقوق الإنسان، وكرامة المواطن، وسط سُعار نار العنصرية ضد (الغرباء) من رعايا دول الغرب بالذات: الجاليات العربية والإسلامية. إنها (الحروب الصليبية الجديدة) وسيلة نشر (النظام العالمي الجديد). ونتائجها ستكون بداية الإرهاب الحقيقي المعمم، وليس نهاية الإرهاب. حذار، وألف حذار قرع طبول الحرب الصليبية الجديدة. فلنقف صفاً واحداً في مواجهة الإرهاب، ندين معاً ما تم في نيويورك وواشنطن، ونبحث معاً عن سبل حقيقية لمعاقبة مسببيه، ومفتعليه، والمجرمين الذين نفذوه. ولنبحث عن سياسة جديدة لاستئصال الإرهاب.
ونحن، ضحايا الإرهاب، أَولى من سوانا بمواجهة الإرهاب. ندين الإجرام بشدة، نعم! ولكن لا نرتعب أمام هجمة الثور المجروح، الباحث عن تغطية عجزه الداخلي بانتقام جهنمي من شعوب العالم. نواجه، نقاوم الإرهاب القادم من الغرب متمسكين بثقافتنا وحضارتنا، وتعاليم أدياننا السماوية ومبادئنا الإنسانية. حضارتنا ... نعم حضارتنا، وقيمنا العربية، والإسلامية، والمسيحية المشرقية، تلك التي وقفت في وجه الغزوة الصليبية السابقة وأحبطت أهدافها، وستقف صفاً واحداً في وجه الهجمة الصليبية التلمودية الجديدة، وتحبط هدفها! " (1).
_________
(1) جورج حاوى- صحيفة السفير -15 أيلول - سبتمبر 2001(2/279)
الفصل الثامن
حرب الخليج الثالثة
بوش يركب الزوبعة .. ويوجه العاصفة لتدمير العراق
في عام 1998م افتعلت الإدارة الأمريكية مشكلة مع العراق لإيجاد مبررات لضربه وتدميره، فيما عرف وقتها بازمة القصور الرئاسية، حيث قوبلت هذه المحاولة الأمريكية برفض دولي واسع، تدخل على أثرها كوفي عنان وتوصل لحل لها. وفي حينها قمت بنشر دراسة في جريدة القدس العربي بعنوان (البعد الديني للضربة الأمريكية للعراق) بينت فيها الإبعاد الدينية لضرب العراق وحصاره، وتساءلت في نهاية الدراسة بالقول: نجاح مهمة عنان .. هل ينهى المشكلة؟؟ وقلت: "بعد الانتهاء من كتابة هذا الموضوع، تناقلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة نبأ توصل أمين عام الأمم المتحدة (كوفى عنان) لاتفاق مع القيادة العراقية، فيما يتعلق بالمشكلة القائمة، حيث رحبت جميع دول العالم بهذا الاتفاق، باستثناء أمريكيا وبريطانيا، حيث كان ذلك واضحاً من خلال تصريحات مسئوليها، الذين تلقوا نبأ الاتفاق بحذر وبوجوم شديد بدا واضحاً على وجوههم، مما يعنى أنهم إن قبلوا بالحل السلمي، فإنهم سيقبلونه على مضض، نتيجة الرفض الدولي المنقطع النظير لاستخدام القوة ضد العراق، ونتيجة لاقتناع دول العالم بأن قضية تفتيش القصور الرئاسية التي افتعلتها أمريكا، ما هي إلا حجة وذريعة استخدمتها لتحقيق أمر ما في نفس يعقوب.
وتابعت قائلاً: وهنا لابد من التساؤل، هل انتهت المشكلة التي افتعلتها أمريكيا مع العراق، وهل سيتخلص الشعب العراقي من الحصار الجائر المفروض عليه منذ سبع سنوات، وهل ستكف أمريكيا عن ملاحقة الدول العربية والإسلامية وفرض الحصار والعقوبات عليها!! بالتأكيد لا، وسنرى جميعاً في الأيام القادمة مشكلة جديدة ستفتعلها أمريكا لتنفيذ ما تريد سواء مع العراق أو مع إيران أو سوريا .. الخ (1). هذا ما كتبته قبل تسع سنوات، ثم جاءت الأحداث لتبرهن على صحته. وأنا
_________
(1) راجع الإعداد المنشورة في جريدة القدس العربي ـ أكتوبر 1998 م.(2/280)
هنا لا ادعى القدرة على التنبوء بقدر ما ادعي القدرة على معرفة الطريقة التي تفكر بها تلك العصابة التي تحكم البيت الأبيض، والتي أصبح دليلها تلك النبوءات والخرافات التوراتية التي عرضنا لبعضها سابقاً. فقد افتعلت أمريكا حربها مع أفغانستان ثم جاء دور العراق، والآن تتجه الأنظار إلى سوريا وإيران ثم مصر للأسباب ذاتها التي شرحناها في هذا الكتاب.
الحرب على العراق
منذ سنوات حينما تجمع العرب مع دول العالم لضرب العراق في حرب الخليج كتب د. عماد الدين خليل موجهاً كلامه للعرب: "إنكم تضربون العراق بأيد أمريكية، وسوف يكون النصر دامياً لنفوس الجميع، وسوف يكره كل واحد نفسه وأخاه وسوف تفتح جراح عربيه لا تندمل، وسوف تستنزف الثروات العربية بدون جدوى، وسوف يستبقى الأمريكان صدام حسين لاستعماله للتهديد والابتزاز كلما حلا لهم، وكلما احتاجوا إلى رشفة أخرى من المال العربي .. وقد حدث كل هذا وأكثر. لقد كانت مكيدة محكمة شربناها جميعاً وجاءت القواعد العسكرية الأمريكية لتحتل سواحل الخليج والجزيرة العربية تحت شعار معلن، هو حماية بترول العرب من أجل العرب، وبدأ الكل يدفع فواتير الاحتلال الجديد ونفقات الجنود الأمريكان بالدولار وبالبترول المرهون تحت الأرض إلى ما شاء الله، ونزلت بعض الميزانيات العربية إلى ما تحت الصفر والحسابات الدائنة أصبحت مدينه، والجيوب المليئة غدت خاوية. فأمريكا تقتلنا ثم تطلب منا أن نعطيها ثمن الرصاصات التي أفرغتها أو ستفرغها في رؤوسنا. وهذا الابتزاز الأمريكي للمال العربي لا يأخذ صيغة واحدة، وإنما يتدرج بين الاستلاب المباشر تحت مبدأ (حكم القوي على الضعيف) وبين التوظيف غير المباشر لرؤوس الأموال، والفائض المالي وفق صيغ مصرفيه واستثماريه شتى فيما هو معروف للقاصي والداني، وفي الحالتين فإن الذي يحدث هو أن (المال العربي) يستخدم أمريكيا ليس فقط ضد مصالح العرب أنفسهم، وإنما ضد دينهم ومصيرهم معا" (1).
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص75(2/281)
لقد كشف احتلال الأمريكان للعراق عن خسة ونذالة الأنظمة التى تحكم بلادنا والتى لم تقف موقفا واحدا مشرفا بل كانت مواقفها تتسم بالخيانة والعمالة ... لقد وعد الأحمق المطاع بوش أن يكون العراق نموذجا يحتذى به لكنه في الحقيقة صار عبرة لمن يعتبر ... فمن صدقوا وعود ذلك الأفاك الدجال سيكون مصيرهم وبال ... اذن فنحن نعيش في عصر اللاقانون واللاأخلاق واللامبادئ ... ونرى بوضوح أن التوحش الأمريكى لا يفله الا الحديد والمقاومة التى تنخر في عظام الاحتلال وتستنزف قواه حتى يخر صريعا وما ذلك على الله بعزيز ... لقد سقط الاحتلال الأمريكى قبل ذلك في فيتنام وتلاه الاحتلال الروسى فىأفغانستان ... اذن فهذا الكابوس ليس كابوسا أزليا وانما قد اقتربت نهايته باذن الله (1).
وبعد أن أسدل الستار على الفصل الأول من المأساة .. يرتفع اليوم الستار عن الفصل الثاني من المكيدة الأمريكية، والابتزاز الغربي ليضغط الدائنون الكبار على دول المنطقة الجريحة، التي تنزف دماً واقتصاداً ليقبلوا الأفعى الإسرائيلية في الحضن العربي، ويفسحوا لها مكاناً في أرضهم واقتصادهم ولقمة عيشهم ويوقعوا على سلام إسرائيلي بشروط إسرائيلية وذلك من أجل أن تتدفق الأرض لبناً وعسلاً، ويعم الرخاء على الجميع. واللبن والعسل والرخاء الموعود والجنة الإسرائيلية الفصل الأخير والختامي من المأساة، حينما تفتح إسرائيل نيران ترسانتها العسكرية في مشهد العشاء الأخير الذي يعود فيه يهوذا الاسخريوطي لينتقم من أولاد العم فيما يسمونه في الكتب القديمة معركة هرمجدون، وهي ليست سوى الصليبية الثانية، التي يحلم بها الغرب ليضع بها النهاية الخاتمة للإسلام وأهله وتلك أحلامهم. وقد تحقق منها الفصل الأول بحذافيره" (2).
نعم بدأ الفصل الثاني .. وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001م (أو بالأحرى جئ بها) لتكون ذريعة كافية لشن حمله صليبية على العالم الإسلامي. فعندما حصل (بوش) على إذن بالحرب بعد أحداث سبتمبر بثمانية أيام، جاءت تصريحات رسمية بأن الحرب قد تمتد إلى عشرة أعوام، ومن أفغانستان إلى مواقع أخرى، فهي حرب
_________
(1) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - مصطفى محمود ص1ـ8(2/282)
مفتوحة زمانياً وجغرافياً، ولم يكن العراق مستبعداً منذ اللحظة الأولى (1). ففي مساء اليوم التالي الثاني عشر من سبتمبر، جرى في إحدى غرف البيت الأبيض هذا الحوار العجيب بين الرئيس الأميركي جورج بوش وأشهر أميركي في مكافحة الإرهاب (ريتشارد كلارك) وفقا لما كشفه هذا الأخير.
جورج بوش: اسمع أعلم كم أنتم مشغولون الآن ... لكنني أريد منكم بأسرع ما يمكن أن تراجعوا كل شيء .. كل شيء ابحثوا لعل صدام فعل هذا ابحثوا لعل له صلة من أي نوع.
كلارك: ولكن سيادة الرئيس القاعدة هي من فعل هذا.
جورج بوش: أعلم هذا .. أعلم هذا ولكن ابحث فيما إذا كان صدام متورطاً فقط ابحث، أريد أن أعرف كل خيط.
كلارك: بكل تأكيد سنبحث من جديد.
وعندما غادر الرئيس حدقت إحداهن في كلارك متمتمة، يا إلهي لقد تمكن منه وولف فيتس" (2).
فحتى حينما كانت الحرب على أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة تخطط وتنفذ، حيث عجزت الولايات المتحدة، على الرغم من المجهود غير العادي، في العثور على أي روابط مقنعة بين (صدام حسين) و (أسامة بن لادن) أو شبكة القاعدة، مع ذلك فقد ظل جوهرياً في استراتيجية واشنطن أن يستهدف العراق. كانت في جانب منها مسألة (عمل لم ينته): لقد صمم بوش الثاني على إكمال الوظيفة التي كان قد بدأها بوش الأول (3).
http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP
_________
(1) سفر الموت .. من أفغانستان إلى العراق - تأليف محمود المراغي ـ الجزيرة نت
(2) أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005
(3) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - مركز دراسات الوحدة العربية ص18(2/283)
مسار أزمة العراق
منذ عام 1990م مرت المسألة العراقية بأحداث كثيرة، أهمها قرار مجلس الأمن رقم 661 الذي يقضي بفرض عقوبات اقتصادية على العراق، ثم الحرب الأمريكية مع حلفائها عام 1991م على العراق، وانسحاب العراق من الكويت، وإلزامه بتفكيك أسلحة الدمار الشامل والصواريخ بعيدة المدى، وتنظيم ما يسمى منطقة حظر الطيران في شمال العراق وجنوبه، ومواصلة ضربه بالصواريخ ومراقبة أرضه وأجوائه، ثم إطلاق (برنامج النفط مقابل الغذاء) تحت إشراف الأمم المتحدة عام 1996م، حيث استقال المشرف على البرنامج (دينس هاليداي) بعد سنه وبرر استقالته بالقول: "إننا في مسار تدمير مجتمع بكامله".
وفي عام 1998م أوقف العراق تعاونه مع (أونسكوم) بعدما رفض مجلس الأمن تأكيد أن العقوبات الاقتصادية سترفع في حال التثبت من نزع الأسلحة العراقية، وبعدها قصفت القوات الأمريكية والبريطانية العراق على مدى أربعة أيام في (عملية ثعلب الصحراء) من دون استشارة الأمم المتحدة أو إخطارها. وفي عام 1999م كشفت معاينات أجرتها اليونيسيف في جنوب العراق ووسطه أن معدل وفيات الأطفال تضاعف من 56 حالة وفاة لكل ألف ولادة عام 1989م إلى 131 حالة وفاة لكل ألف ولادة. وفي عام 2000م استقال منسق الشؤون الإنسانية (هانز فون سبونيك) احتجاجا على العقوبات الاقتصادية، وواصلت أميركا وبريطانيا قصفهما لمواقع عراقية ومحطات رادار بحجة خطورتها على الطيارين الأميركان والبريطانيين. وفي عام 2002م وضعت قائمة طويلة خاصة بالسلع المزدوجة الاستخدام التي لا يسمح للعراق باستيرادها، وقد جعلت هذه القائمة التي سميت (العقوبات الذكية) الوضع الإنساني في العراق أسوأ من قبل.
القضاء على التفتيش
لم تكن السياسة الأميركية والبريطانية معنية بالتهديد الناشئ عن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، فقد فعلت الولايات المتحدة الكثير لإتلاف نظام التفتيش وإفشاله، هذا بالرغم أن الأمم المتحدة أنشأت بقرارها رقم 687 وكالة(2/284)
التفتيش الخاصة بالعراق (أونسكوم) لمراقبة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية والتثبت من ذلك، تمهيداً لرفع العقوبات عن العراق. فبعد سبعة أعوام من أعمال التفتيش والمفاوضات والمراقبة والمواجهة حققت أونسكوم الكثير. وفي بداية عام 1998م رفضت بريطانيا والولايات المتحدة مناقشة إنهاء العقوبات على العراق إذا قررت أونسكوم أن العراق التزم بقرارات مجلس الأمن، وبدا واضحاً أن العقوبات ستبقى مفروضة على العراق في جميع الأحوال والاحتمالات. كما دفعت أمريكا العلاقة بين العراق وأونسكوم للانهيار بالإصرار على تفتيش مواقع حساسة لا صلة مباشرة لها بصناعة أسلحة الدمار الشامل، ويعتبرها العراقيون حساسة من زاوية أمنهم القومي وكرامتهم وسيادتهم الوطنية، مثل مرافق الحرس الجمهوري، ومكاتب الاستخبارات والأمن والقصور الرئاسية.
ورغم كل التعجيز الذي وضع في وجه تعاون العراق مع أونسكوم، فإن رئيس اللجنة قال في تقريره: إن الجزء الأكبر من عمليات التفتيش قد نفذ، ومن بين 300 عملية تفتيش كانت هناك خمس حوادث فقط اعتبرها تقرير (بتلر) مخالفة لقرار التفتيش. وكان (بتلر) يقدر ستة إلى ثمانية أسابيع لانتهاء مهمة أونسكوم، وبدلاً من ذلك خربت الولايات المتحدة وكالة التفتيش وأعاقت عمل لجنة أنموفيك (1)، حيث كان المسمار الأخير في نعش أونسكوم انكشاف سلسلة من الأسرار تتعلق باختراق الاستخبارات الأميركية للوكالة، وهذا ما اعترف به رئيس الوكالة (رولف إيكيوس) في يوليو 2002م و (سكوت ريتر) الرئيس التالي، وتبين أن فريق التفتيش يضم على الأقل تسعة عملاء سريين شبه عسكريين تابعين لوكالة الاستخبارات الأميركية، حيث استخدمت المخابرات الأمريكية وكالة أونسكوم في التجسس واختراق الشيفرة والاتصالات العسكرية والأمنية العراقية، وقال (ريتر): إنه زار إسرائيل مرات عدة واجتمع بقائد الاستخبارات الجنرال (أيالون)، وقدمت له إسرائيل آلات تسجيل وتصوير رقمية لتسجيل المكالمات المشفرة والمرسلة من أعمق مصادر القوة الأمنية والعسكرية العراقية.
_________
(1) خطة غزو العراق (عشرة أسباب لمناهضة الحرب على العراق) - ميلان راي ترجمة: حسن الحسن- بيروت: دار الكتاب العربي، 2003م - عرض/ إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت(2/285)
ويفصل (ديليب هيرو) في كتابه (العراق تقرير من الداخل)، كيفية توظيف المنظمة الدولية كأداة بيد واشنطن لتحقيق أهداف سياسية وأمنية واستخباراتية لا علاقة لها بعمل الأمم المتحدة، سواء عن طريق اختراق لجان التفتيش من قبل السي آي إي, أو عن طريق التلاعب بقرارات الأمم المتحدة, أو السيطرة على لجانها الخاصة بفرض الحصار على العراق، حيث نقرأ تفصيلات مذهلة تكاد تقترب من الأفلام السينمائية في بعض أجزائها (1). وقد أشار المحلل العسكري (وليام أركين) أن عملية ثعلب الصحراء استهدفت في الأساس الجهاز الأمني الداخلي في العراق اعتماداً على المعلومات التي جمعت من خلال أونسكوم، وكان اغتيال الرئيس العراقي أهم بالنسبة للولايات المتحدة من تأمين نزع أسلحة العراق.
أحداث 11 سبتمبر ـ بوش يعلن حرباً في كل الاتجاهات
بعد هجمات 11 سبتمبر على واشنطن ونيويورك اختيرت أفغانستان مره أخرى لهجوم عسكري أمريكي، ولكن هذه المرة كهدف لحملة قصف طويلة بالقنابل بغرض الإطاحة بنظام طالبان الحاكم وتشتيت شبكة القاعدة (2). وبعد سقوط طالبان تساءل الأمريكيون عن مسرح حربهم المقلبة لأنهم بحاجة لخوض حرب جديدة. وتعددت الخيارات (الصومال، الفلبين لضرب تمرد الإسلاميين، العراق .... ). حيث طغى على الخطاب السياسي الأمريكي مقاربة (هينغتون) لمّا استخدم بوش تعبير الحرب (الصليبية) ضد الإرهاب، ضد جهاد (بن لادن). وقد أظهر هذا أن فريق بوش يحبذ إعطاء الحروب القادمة صبغة دينية. لكن الصياغة الأكثر تخويفاً هي الرسالة الرئاسية حول حال الاتحاد في جانفي 2002م. "هذا الخطاب السنوي .. الملقى أمام الكونغرس .. أصبح أيضاً منذ رئاسيات عديدة خطاباً حول (حال العالم)، دلالة على اتساع النطاق الإمبراطوري.
_________
(1) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو - الطبعة: الأولى 2003 - الناشر: London, Granta Books- كامبردج بوك ريفيوز ـ الجزيرة نت
(2) استهداف العراق ـ العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية ـ جيف سيموند ـ مركز دراسات الوحدة العربية ص44(2/286)
ففي هذا الخطاب يعلن بوش حرباً في كل الاتجاهات، ومعركة معسكر الخير ضد معسكر الشر مشيراً بصريح العبارة إلى ثلاثة دول أعضاء في الأمم المتحدة، هي كوريا الشمالية، العراق وإيران، وهي متهمة بالسعي للتزود بأسلحة نووية، وبالتالي بقدرات ردعية كافية لا يمكن أن تتحملها الإمبراطورية الأمريكية إن قررت ضربها عسكرياً في المستقبل، حيث شكل خطاب بوش هذا (إعلان وفاة الأمم المتحدة)، هذا بالرغم من أن وفاة الأمم المتحدة قضية مفروغ منها في قول وممارسات إدارة بوش، التي تؤسس ل ـ "قدوم إمبراطورية كونية لا يمكنها أن تقبل أية قاعدة أعلى منها" (1).
وفيما كانت المرحلة الأولى من حرب الرئيس بوش المزعومة على الإرهاب ـ أي استهداف أفغانستان ـ ماضية بسرعة ـ وكانت غالبية الموجودات العسكرية الأمريكية في أماكنها وخلال أيام قليلة أخذت القنابل في التساقط لتدمر ما بقى من البنية التحتية الاجتماعية لأفغانستان التي مزقتها الحرب، لتسدل الستار على جهود الإغاثة، التي كان ملايين الناس يعتمدون عليها في بقائهم، ولتقتل ـ في أحد التقديرات ـ نحو 10 آلاف مدني، بينما كان كل ذلك يجرى لم يكن هذا كله كافياً لاستراتيجي واشنطن، بل كان يجرى التخطيط بالفعل للمرحلة الثانية من حرب بوش، كما كان يجرى الدعاية لها. فقد كانت بلدان عديدة تذكر باعتبارها تستحق نوع المعاملة التي كانت ستخص سريعاً أفغانستان، ولم يكن بوش قد ألقى بعد خطابه المثير للسخرية عن محور الشر (العراق وإيران وكوريا الشمالية)، ولكن (دولاً مارقة) عديدة، (الدول المثيرة للقلق) كانت تصطف لجذب الانتباه. إيران، العراق، كوريا الشمالية، سوريا، أفغانستان، السودان، الصومال، اليمن، كوبا، العالم كله كان بالتأكيد منطقة غنية بالأهداف. أفغانستان، هكذا اعلن خبراء الدعاية، سيتم التعامل معها. فأين يكون التوجه التالي لقوات الذين يملكون صولجان الصواب؟ لقد ظل العراق الخيار الأكثر ترجيحاً.
_________
(1) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة ـ ألان جوكس كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت(2/287)
فمع غياب عدو حقيقي في الخارج بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وعدم وجود خصم حقيقي في الداخل، أخذ معسكر الحرب يردد بصوت واحد النغمة المعروفة، التي كان مجلس الشيوخ في روما القديمة يرددها إزاء قرطاجه: (يجب تدمير بغداد) (1). إما لماذا فهذا لا يهم؟! .. فالسيناريو معد مسبقاً ومحتويات الشريط معروفة من قبل أن نشاهده. لا ينقص سوى العنوان. هل هو العودة إلى بغداد، أو بغداد 2، أو نهاية دكتاتور. أو العدالة الراسخة، أو الإمبراطورية تشن هجوماً مضاداً؟ فلنصبر، فإن اختصاصيي هوليود سيجيبون عن السؤال في الوقت المناسب. فقد أجريت كل الحسابات: عدد القتلى الأمريكيين الذين يمكن أن يتقبله الرأي العام، خليفة صدام، ردود فعل البلدان المجاورة .. كل شئ معلب أو يكاد (2).
وهكذا فقد تخلى بوش وطاقمه الإداري بعد سنة ونصف من أحداث 11 سبتمبر عن حربه على القاعدة وأسامة بن لادن، واتجه إلى العراق وصدام حسين، بالرغم من أن الإدارة الأميركية، لم تشر قبل عمليات الهجوم على برجي مركز التجارة في 11 سبتمبر 2001م إلى الخطر العراقي الداهم كما فعلت منذ أوائل عام 2002 م. وبينما كان العراق يتهيأ مجدداً لهجوم أمريكي ضار، ومسؤولوه، يسلمون بأنهم يتخذون عدداً من الاحتياطات غير المحدودة، كأن يجري نشر وحدات عسكرية في أنحاء البلاد، والطعام يتم تخزينه في مستودعات الحكومة، كان الرئيس بوش يعلن مجدداً أن دولاً أخرى ستستهدف بعد المرحلة الأولى من الحرب ضد الإرهاب: "اليوم نحن نركز على أفغانستان. ولكن المعركة أوسع. إن كل دولة تملك خياراً لاتخاذه. في هذا الصراع لا توجد أرض محايدة" (3).
_________
(1) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار ـ ترجمة ميشال كرم ص79 - دار الفارابي - ط1 2004
(2) المرجع السابق نفسه ص14
(3) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية ـ جيف سيموند ـ مركز دراسات الوحدة العربية ص 51ـ 52(2/288)
الهدف تغيير نظام الحكم
في شهر أبريل 2002م كشف بوش للمرة الأولى، أن تغيير نظام الحكم في العراق هو هدفه، وبدأت عمليات تصعيد كبرى تتوالى لدق طبول الحرب على العراق، وكانت إدارة المخابرات المركزية في غاية الحماس لعمليات سرية في العراق وذلك لتجاوز العجز الكبير الذي ظهرت فيه غداة هجمات 11 سبتمبر، وبخاصة أنه بعد عدة أشهر من الحرب على أفغانستان لم يمكن القبض على أسامة بن لادن أو اغتياله، وصار مغريا للإدارة الأميركية أن تتحول لتنقض على هدف جلي وواضح مثل العراق. http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP ولما كانت السياسة الأميركية الخارجية ليست موضع اهتمام الرئيس (بوش)، وهو ينظر إلى الموضوع العراقي على أنه اختيار سهل يجلب التأييد والإجماع ويجنبه قضايا شائكة وخطرة سياسياً مثل الضرائب والنمو الاقتصادي، فأنه وفي خطاب الاتحاد السنوي الذي يعرض السياسات العامة الأميركية كان منتظرا تقديم برامج وسياسات داخلية بعد انتهاء حرب أفغانستان، ولكن الخطاب توجه نحو حروب جديدة، وتوسعة لنطاق الحرب والعمليات العسكرية ليشمل برأي (بوش) شبكات الإرهاب في العالم، ودولاً اعتبرها محور الشر، مثل العراق وإيران وكوريا الشمالية. ولما كانت إيران وكوريا الشمالية لا علاقة لهما بأسامة بن لادن، فإن العراق وضعها غامض ويمكن الحديث عن علاقة ما من هذا القبيل (1).
محاولة ربط العراق بالقاعدة
كان فريق المحافظين الجدد الواصل إلى البيت الأبيض مهووساً بخلق مسوغات كافية للهجوم على العراق. وفي قلب عملية صنع القرار الأمني والإستراتيجي، كان هناك تياران يتنافسان في إثبات أيهما أكثر خطراً على مصالح الولايات المتحدة: الإرهاب العالمي وفي مقدمته القاعدة, أم العراق وشبكة الاتهامات ضده من امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وحتى مزاعم صلاته بالقاعدة والإرهاب وغير ذلك. كان (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأميركي، وأحد أهم صقور
_________
(1) حرب آل بوش ـ تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت(2/289)
المحافظين الجدد حامل راية الحرب على العراق وعرابها الأهم. فقد كان يستهزئ بالتقارير التي تريد لفت الانتباه إلى القاعدة عوضاً عن بغداد. ففي يوم 11 سبتمبر الذي وقعت فيه الهجمات الرهيبة، وبعد خمس ساعات من ارتطام الطائرات المختطفة بوزارة الدفاع الأمريكية، تلقى الجنرال المتقاعد (ويسلي كلارك) مكالمة غريبة من شخص يمثل البيت الأبيض (لم يصرح باسمه) وقال (كلارك) لمقدم برنامج مقابلة مع الصحافة (تيم راسيرت)، كنت أشاهد محطة ألـ سي. إن. إن، وتلقيت مكالمة في بيتي تقول: "ينبغي ربط الأحداث بعضها بعضاً. هذا إرهاب برعاية دولة. ويجب ربط الأمر بصدام حسين". قلت: "لكن أنا أرغب في قول ذلك، لكن ما هو الدليل لديك؟. ولم أحصل على أي دليل. ولم نحصل نحن على دليل كذلك" (1).
فقد كان (وولفويتز) ومجموعة قريبة منه يتبنون نظرية غريبة وهامشية، ظهرت في كتاب صدر بعد محاولة تفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك سنة 1993م لمؤلفة يمينية هي (لوري ميلروي). في ذلك الكتاب بذلت (ميلروي) (ص 95) جهداً خارقاً لمحاولة إثبات مسؤولية العراق عن ذلك التفجير, وأن (رمزي يوسف) الباكستاني المتهم الأول لم يكن سوى عميلاً للمخابرات العراقية, وليس أحد عناصر الحركات الإسلامية القريبة من زعيم القاعدة أسامة ابن لادن غير المشهور آنذاك. كانت النظرية تقول: "إن الرئيس العراقي صدام حسين أراد الانتقام من الولايات المتحدة بعد الحرب فنظم ذلك التفجير. لكن الـ CIA والـ FBI لم يكونا على قناعة بضلوع النظام العراقي بذلك, فظل الاتهام يحوم في هوامش المتطرفين اليمينيين، الذين كانوا حانقين على الرئيس (جورج بوش الأب) بسبب عدم إسقاطه لصدام حسين في حرب الخليج الأولى. لذلك فإن فكرة الحرب على العراق تذهب أبعد بكثير من سنة 1998م التي يراها كثيرون كنقطة ارتكاز في فهم تطور ونضوج مخطط الحرب وإسقاط النظام العراقي (2).
_________
(1) الكذبات العشر - بقلم كريستوفر شير - مدير تحرير موقع "الترنيت دوت اورج"ـ جريدة الخليج ـ 6ـ7ـ2003 ـ عدد 8813
(2) ضد كل الأعداء .. رؤية من داخل الحرب الأميركية ضد الإرهاب ريتشارد كلارك - ط1 2004 - الناشر: فري برس، الولايات المتحدة- عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت 10/ 4/2004م(2/290)
فبعد أحداث 11 سبتمبر تكررت محاوله اتهام العراق بالوقوف وراء هذه الأحداث من خلال محاولة ربطه بالقاعدة، وبدأت الإدارة الأميركية تفكر في الحرب عليه، حيث ألح المتشددون في الإدارة الأميركية مثل (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأميركي، (وريتشارد بيرل) على هذه الحرب، وبدأت المجموعة المتشددة وعلى رأسها وزير الدفاع (رامسفيلد) ـ الذي وصفه كيسنجر بأنه الذاهب دائماً إلى الحرب ـ في البحث عن أدلة تربط العراق بالقاعدة، منها ما قيل عن علاقة (محمد عطا) الذي زعم أنه رئيس المجموعة الفدائية التي نفذت هجمات 11 سبتمبر بأحد أفراد المخابرات العراقية، وعن لقائهما معا في براغ، بل إن (وولفويتز) ذكر من شواهد الإرهاب العراقي وفاة (أبو نضال) في بغداد في ظروف مشبوهة كأحد الأدلة ضد (صدام).
ونظراً لفشل مخطط ربط العراق بالقاعدة لجأت الإدارة الأمريكية إلى ذرائع أخرى. فلم يكن ثمة حاجة لدليل لتعلم الإدارة الأميركية أنه أقرب إلى المستحيل ربط العراق بشبكات القاعدة. ولكن أمريكيا يمكنها الإدعاء بأن أسلحة الدمار الشامل، التي يمكن أن ينتجها العراق، يمكن أن تصل إلى أتباع التنظيمات الإرهابية، ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى الانتظار حتى تقع هذه الأسلحة بأيدي الإرهابيين، بل عليها أن تتحرك وفق إستراتيجية جديدة معلنة لمنع وصول الأسلحة إلى الإرهابيين، وهي الإستراتيجية التي عرضها وزير الدفاع الأميركي السابق في عهد (كلينتون) (وليام بيري) في كتابه (الدفاع الوقائي) (1). ولهذا كانت إدارة بوش تعمل جاهدة للعثور على صلات بين النظام الحاكم العراقي والإرهاب، على الرغم من أن (كولن باول)، وزير الخارجية اضطر لأن يعترف بأنه لم يتم العثور على صلة واضحة.
وفي نهاية سبتمبر2001م كان ثمة هياج متصاعد في الولايات المتحدة تحريضاً على ضربه لإنهاء النظام العراقي دفعة واحدة وإلى الأبد (2)، وبأي طريقة وبأي مبرر. ولهذا فقد كان قرار إعادة عمل لجنة التفتيش عن الأسلحة في العراق مخالفا لرغبة الإدارة الأميركية، فهي تريد تفويضا بالحرب دون حاجة لقرار جديد من
_________
(1) حرب آل بوش ـ تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت
(2) استهداف العراق ـ العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند ـ مركز دراسات الوحدة العربية ص50(2/291)
مجلس الأمن، ولا تقرير من لجنة التفتيش، ولا تريد أن تتصور أي احتمال مهما كان ضئيلاً لمنع الحرب، ويبدو أنها كانت تدرك أن حربها غير منطقية من وجهة نظر العالم كله بما في ذلك أصدقاؤها وحلفاؤها في أوروبا والدول العربية والدول الأخرى، وفشلت الولايات المتحدة في إقناع مجلس الأمن بحربها غير المبررة على العراق، وكذلك حلف الناتو. وفي الوقت الذي قبل فيه العراق بعودة المفتشين دون قيد أو شرط، بدأت الولايات المتحدة بترتيب أوضاع عسكرية جديدة على الأرض بسرعة مذهلة. ووقعت الحرب كما يعلم الجميع (1)، حيث رفضت الولايات المتحدة إسناد دور للأمم المتحدة في مستقبل العراق، وهي ماضية في حربها دون مشورة أو تنسيق مع أحد حتى مع أقرب حلفائها (2). http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP
تدين بوش وخطة غزو العراق
تحدث كثيرون عن مجموعة (ريتشارد بيرل) وزملائه في (معهد الاسراتيجيات المتقدمة والدراسات السياسية) الذين هم أصل فكرة غزو العراق. فقد أعد ريتشارد بيرل منذ أعوام ضمن فريق ترأسه من مثقفي اليهود الأمريكيين دراسة عن (الاستراتيجية الإسرائيلية، إلى العام 2000م) قدموها إلى (بنيامين نتنياهو) فور نجاحه في الانتخابات الإسرائيلية، ودعوا فيها إلى دفع أمريكا إلى غزو العراق باعتبار ذلك جزءاً محورياً من الاستراتيجية الإسرائيلية لاستمرار التفوق العسكري والاستراتيجي في الأمد المنظور. كما دعوا إلى انتهاج سياسة هجومية عدائية ضد الفلسطينيين، والتخلي عن فكرة (السلام الشامل) لصالح فكرة (السلام القائم على ميزان القوى).
وقد ورد في سيرة حياة (ريتشارد بيرل) الذي ترأس فريق الدراسة آنذاك، أنه عمل عضواً في مجلس إدارة (المعهد اليهودي لدراسات الأمن القومي) ومديراً لصحيفة (الجروسالم بوست) الإسرائيلية. لكن الأهم والأغرب أنه ترأس (مجلس سياسات الدفاع) في الولايات المتحدة، وعمل مستشارا لوزير الدفاع (دونالد
_________
(1) حرب آل بوش - تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت
(2) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسن ـ عرض/ إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت(2/292)
رامسفيلد)، مع العديد من اليهود الأمريكيين المحيطين بوزير الدفاع الأمريكي، وليس أقلهم شأناً نائب الوزير (بول ولفويتز). وقد قدمت قناة "سي أن أن" (ريتشارد بيرل) في مقابلة معه، على أنه "الرجل الذي ينظر إليه باعتباره صاحب فكرة غزو العراق" .. ولا يترك (أفرايم كام) الباحث في (مركز جافي للدراسات الاستراتيجية) بجامعة تل أبيب، شكاً في أن إسرائيل هي صاحبة المصلحة الأولى والأخيرة في غزو العراق، وذلك في دراسة له منشورة بعنوان: (صبيحة ما بعد صدام).
لكن ما هي علاقة كل ذلك بتدين (جورج بوش)؟ الحق أن العلاقة وطيدة، لأن اليمين المسيحي الذي ينتمي إليه (جورج بوش) يؤمن بأن إسرائيل مشروع إلهي، ومحطة تاريخية لازمة لعودة المسيح. وكل رجال الدين الأقوياء الذين يقفون وراء (بوش) ويمثلون القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري معروفون بولائهم لإسرائيل في عقائدهم ومشاعرهم. وهذا المعتقد الديني الراسخ هو الذي يجعل رجلاً مثل (بوش) يتبنى الخطة الإسرائيلية لغزو العراق، حتى ولو عنى ذلك إشعال الحرب مع العالم الإسلامي، وانهيار العلاقات التاريخية بأوربا (1).
وهكذا فإن خطة العدوان على العراق هي خطة إسرائيلية وضعها الصهيوني الأمريكي (ريتشارد بيرل)، بمشاركة عناصر هامة من اللوبي اليهودي الصهيوني، وجرى إقناع الرئيس (بوش) بتبنيها باعتبارها بداية تحقيق الحلم الإلهي الكبير بقيام دولة إسرائيل الكبرى، التي ستمهد لعودة المسيح ونشر المسيحية في أنحاء العالم الإسلامي بعد القضاء على الإسلام. اقرأوا ما نشرته مجلة النيوزويك في عدد 10 مارس 2003 م عندما قالت: "إن أنصار بوش من الإنجيليين يأملون أن تكون الحرب القادمة على العراق فاتحة لنشر المسيحية في بغداد". فأمريكا تتحرك الآن وفي يدها الصليب الذي تحمله دعاوى زائفة، ومجموعة الهوس الديني داخل البيت الأبيض، قررت أن تشن حرباً دينية مرتبطة بمخطط استراتيجي هدفه القضاء على الأمة وعقيدتها، والسيطرة على كل مناحي الحياة على أرضها (2).
_________
(1) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية- محمد بن المختار الشنقيطي - الجزيرة نت 21/ 3/ 2004م
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ أحمد حجازي السقا125(2/293)
في مهمة إلهيه حرب جورج بوش الصليبية
في مقال منشور في جريدة الأسبوع المصرية في 24/ 2/2003م ما نصه: "التقرير الذي نشرته مجلة دير شبيغل الأولى في ألمانيا وإحدى أهم المجلات الأسبوعية الأوروبية والعالمية، كتبه كل من (هانز هو بنج) و (جيرهارد شبرول) ولأهميته، تم وضعه ليكون عنوان الغلاف في عددها الصادر يوم الاثنين 17 فبراير 2003م ويحمل عنواناً (في مهمة إلهيه حرب جورج بوش الصليبية)، بدأها الكاتبان بالتأكيد على أن الرئيس بوش لا يريد باجتياحه بغداد إلا أن يقوم بتنفيذ (تكليف إلهي) يقوم على أفكار مسيحية يمينيه متطرفة، وعلى ما يبدو فمن النادر أن تجتمع المصالح القومية المتطرفة، والأصولية الدينية الأمريكية بهذه القوة، كما هي اليوم إلى الحد الذي أصبح فيه المسيحيون المتحمسون يطالبون علنا بشن (حرب صليبيه) ضد الإسلام". وتضيف المجلة: "انه كلما اقتربت حرب العراق، ازداد الرئيس في الحديث عن معتقداته وقيمه. لذا فان تقواه الدينية لها تأثير كبير على تعامله مع هذه القضية، ورغم انه يعرف أن أمريكا في أزمة وطنيه إلا أن الرئيس يقدم نفسه كواعظ، بل ويتحدث عن أسس سياسته بطريقة اقرب إلى نبرة القساوسة".
فبوش يقول: "إنني مقتنع بأن الله وضعني في منصبي في هذه اللحظة التاريخية، أرجو أن أكون قبل الجميع قويا بما يكفي لتحمل هذه المهمة المقدسة". ويضيف قائلا: "لقد نادانا الله للدفاع عن بلدنا ولنقود العالم إلى السلام". وتعلق مجلة (دير شبيغل) على ذلك بقولها: "إن البيت الأبيض لا يمثل فقط قلب وعقل القوة العظمى اليوم بل هو أيضا مكان تجمع الأتقياء والمتدينين". وتنهي (دير شبيغل) تقريرها بعبارة قالها (بوش) للبحرية الأمريكية في فلوريدا يوم الخميس 13/ 2/2003م بقوله: "ترغب أمريكا في أن تكون بلدا فوق الجميع"، مستندة في ذلك إلى مفاهيم إنجيليه قد سبق لعديد من الرؤساء الأمريكيين الحديث عنها وهي أن: "البشرية بكاملها يجب أن تنظر لأمريكا كيوتوبيا واقعية لمدينة القدس السماوية كمدينة إلهية على الأرض". مثل هذه الادعاءات المفرطة غير المعقولة هي التي تهيمن على السياسة الخارجية الأمريكية، فحكومة بوش حاولت منذ البداية تبرير حربها ضد العراق بأسباب متناقضه مرة بسبب علاقة صدام حسين وابن لادن التي(2/294)
لم ينجحوا أبداً في إثباتها، ومرة لتغيير النظام العراقي المعادى لأمريكا، ومره لتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، ومره لضمان أمن احتياطي النفط في الشرق الأوسط، ثم مرة أخرى لتحرير الشعب العراقي من صدام حسين.
ورغم أن هناك أهداف معروفه لحربه ضد العراق مثل تدمير أسلحة الدمار الشامل، والسيطرة على النفط وتدمير منظمة الاوبك، إلا أن مهمته (التبشيرية) أو ما يسميه (التكليف الإلهي) لها اثر أعمق في هذه الحرب. فهو يؤدي إلى سيطرة نوع من الراديكاليه الورعة، كما أن هناك شائعات تقول: إن بوش يحكم ولا يحكم بمعنى أن الكلمة العليا للنظام الرئاسي الذي يضم وزير الدفاع (رامسفيلد) ووزير الخارجية (باول) ومستشارة الأمن (كونداليزا رايس) ونائب الرئيس (ديك تشيني)، الذي يزداد نفوذه كثيراً عن مجرد نائب للرئيس". وتضيف المجلة: "إن الرئيس الضعيف قد يكون خطراً، إلا أن الرئيس المؤمن ربما يكون أخطر على العالم، خاصة إذا أخفقت خططه لتحسين العالم (1).
وبعيداً عن المسوغات القانونية أو العقلانية للحرب, يلتقط (ديليب هيرو) في كتابه (أسرار وأكاذيب عملية تحرير العراق) أسبابا (غيبية) للحرب, وهي مدهشة. فهو أولاً يشرح التأثيرات المسيحية الأنجليكانية على الرئيس (جورج بوش) , وكيف قال ذات يوم لمجموعة من رجالات الدين اجتمع بهم في البيت الأبيض: "لولا الإيمان ولولا قوة الصلاة، لكنت الآن في بار بتكساس, وليس في البيت الأبيض". ثم يقتبس مقتطفات قالها لرئيس الوزراء الفلسطيني السابق (محمود عباس) في يونيو 2003م نقلتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية جاء فيه: "لقد أمرني الرب أن أضرب القاعدة وقد ضربتهم, ثم أمرني أن أضرب العراق وقد ضربته, والآن أنا مصمم على حل المشكلة في الشرق الأوسط". ويعلق (هيرو) ساخراً: "وحيث أن (جورج بوش) كان قد قرر ضرب أفغانستان ظهر يوم 11 سبتمبر نفسه, فيبدو أن الرب قد تحرك سريعاً حقاً لتزويده بالأوامر! " (2).
_________
(1) صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003ـ وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003م
(2) أسرار وأكاذيب .. عملية "تحرير العراق" وما بعدها ـ ديليب هيروـ ص 383 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ المصدر: الجزيرة.(2/295)
فالرئيس (بوش) يرى وفقاً لمعتقداته "أن الخطر الأكبر على ظهور المسيح سيكون من خلال العراقيين حيث أنهم الأكثر تأهيلاً لقتال إسرائيل، وان أي ضعف ديني أو سياسي لإسرائيل سيؤدي إلى تأخير عودة المسيح. وان كل يوم يمضي دون ظهور المسيح ستلعن فيه طائفة الميسوديت ـ التي ينتمي إليها بوش ـ وان هذه اللعنة ستجعلهم يعذبون يوم القيامة" (1). كما أن القس (دافيد بريكنر) يقول: "إننا نعرف أن تدمير بابل الذي ورد في الإصحاح 18 يعني تدمير العراق"، كما إن القس تشالز داير أستاذ اللاهوت في جامعة دلس يدعي "إن إصحاح اشعيا 13 يشير إلى قيام صدام حسين والى غزوة للكويت، وذلك لإقامة قاعدة للهجوم على إسرائيل". واعتبر القس داير في تفسيراته لهذه النبوءات " (صدام حسين) خليفة (نبوخذ نصر)، الذي هزم الإسرائيليين وسباهم إلى بابل ودمر الهيكل، وذلك بسبب عدائه لإسرائيل وبسبب نواياه لإعادة بناء بابل".
وهكذا تبدو عملية ربط الوقائع السياسية بالنبوءات الدينية عملية متحركة فإذا كان القس (داير) يعتبر العراق اليوم بمثابة بابل القديمة فان القس (سكوفيلد) وهو من اللاهوتيين المؤسسين لهذا الفكر الصهيوني الإنجيلي في الولايات المتحدة يرفض فكرة التماثل الحرفي بين العراق وبابل، ويقول: "إن المقصود ببابل وما تمثله من خطر على إسرائيل، هو الفاتيكان بسبب ما يكنه (سكوفيلد) وأمثاله من عداء للكاثوليكية وللبابوية" (2).
الصراع بين الخير والشر
لقد عميَ بوش عن رؤية الآثار السلبية التي قد تنتج عن حربه ضد العراق، ومنها: سقوط عدد كبير من المدنيين العراقيين والعسكريين الأمريكيين في القتال، ومزيد من الهجمات داخل أمريكا، وحدوث أزمة نفطية عالمية، وتعميق الجفوة بين العالم الإسلامي وأمريكا، واحتمال انهيار بعض الحكومات الموالية لواشنطن، وعزلة الولايات المتحدة في العالم، وبث الكراهية لها في أركان الأرض .. الخ. وبدلاً من الرد
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص192
(2) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص53(2/296)
على هذه الاعتبارات العملية بحجج عملية مناقضة، فإن (جورج بوش)، يصوغ خطابه بلغة المطلقات: صراع بين الخير (أمريكا) والشر (العرب والمسلمون)، ورسالة أمريكا التاريخية لنشر الحرية، منحة الرب المقدسة لكل البشر .. وهو خطاب يجذب اليمين المسيحي، ويرضي اليمين اليهودي، ولا يهم ما يحدث بعد ذلك.
فخطاب الرئيس (بوش) يذكر بخطاب المستعمرين في القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، وحديثهم عن (مسؤولية الرجل الأبيض) و (الهم الذي يحمله بين جنبيه) و (العبء الملقى على عاتقه) لنشر الحضارة، وتمدين الشعوب المتوحشة!! فالرئيس (بوش) الذي يعتقد بأنه رسول العناية الإلهية وأن جنوده هم جند الله على أرضه، قال في إحدى خطبه الملتهبة قبل الحرب على العراق واصفاً الأمة الأمريكية بأنها: "تلك الأمة الإلهية التي تقودها اعتبارات أخلاقية غير قابلة للتفاوض، وعلى فضائلها أن تنطبق على العالم بأسره" (1). فها نحن إذن إزاء نداء سماوي هبط على واشنطن في ليله ظلماء، فالمسيحي الذي جرى تهويده ينتظر الخلاص، وقد يتولاه بنفسه لأنه نافذ الصبر، متعجل من أمره، وأمر دمار العالم، وما كنا نتوقع من عصر القنابل الذكية، والانترنت، الذي يطرح نفسه بديلاً لجملة حضارات دفعة واحدة، أن يفرز هذا الغباء، الذي حاول عدد من الأمريكيين رصده، وهم يكتبون سيرة آخر الرؤساء. فالسانت (بوش)، لم يكن يعرف شيئاً عن السياسة الدولية، وظل يتصور حتى العام الماضي أن (جوزيف بروز تيتو) على قيد الحياة والرئاسة في يوغسلافيا. ومن يقرأ ما كتبه الساخرون عن رئيسهم تأخذه الدهشة، وقد يعيد النظر بما كان للتو مسلمات في المشهد الثقافي الأمريكي" (2)!
بوش و معركة هرمجدون كما جاءت في سفر اشعياء
يأخذ البعض على بوش النظرة الجبرية التي تسم رؤيته الشخصية والسياسية، إذ تشير الكاتبة (دانا ميلبانك) إلى أن الحرب على العراق، "يراها كثيرون مغامرة، لكن بوش يعتبرها حتمية تاريخية"، وتضيف الكاتبة: "إن هذه الثقة رغم
_________
(1) جريدة الخليج 3ـ5ـ 2003 م
(2) افق آخر- خيري منصور - سانت بوش ـ الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695(2/297)
المخاطر ورغم قوة المعارضة للحرب، تكشف الكثير عن شخصية (بوش) ورؤيته للعالم. ويعبر الرئيس (بوش) عن هذه الحتمية التاريخية بقوله: "إننا نؤمن بأنفسنا. لكن ليس بأنفسنا وحدها. إننا لا نزعم أننا نعرف كل الطرق التي تعمل بها العناية السماوية، بيد أننا نثق بها ونضع كل ثقتنا في الله المحب الذي يقف وراء كل التاريخ". فالله له دور فعلاً في أفعال بوش .. ) كما يعتقد المبشر (ستيف كلارك) (1). وقد قام المؤرخ (بول س. بوير) وهو أستاذ في التاريخ في جامعة ويسكونسن، بتحليل خطاب (حال الاتحاد) الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي: "أنه يمكن لصدام حسين أن يثير يوم رعب لم يعرفه أحد". وخلص من خلاله أن بوش في كلامه هذا "يعود إلى ذكرى الحادي عشر من أيلول مستعملاً مفردات مرمزة وقديمة، تذكرنا برؤيا القيامة وتتضمن رسالة محددة تطال المؤمنين وتعلن عن نهاية قريبة ليس نهاية صدام حسين فحسب، بل نهاية التاريخ البشري كما عرفناه حتى يومنا هذا" (2).
فقد ظن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) أنه مبعوث العناية الإلهية فزعم أنه في حربه على العراق إنما ينفذ مهمة إلهية مقدسة، وأن الله يبارك هذه الحرب. وبوش في تبريره للحرب يزعم: "أن ما جاء في العهد القديم ولا سيما في سفر اشعياء النبي الفصول 10،13،47، وهي الفصول التي تتحدث عن أشور وبابل وخرابهما، لا بد أن يتحقق في العراق اليوم". وبوش بتفسيره الخاطئ لنبوءات الكتاب المقدس، إنما ينتمي إلى بعض الجماعات المسيحية الأصولية، التي تربط بين مجيء المسيح ثانية، وبين دولة إسرائيل الحالية. فبوش يظن أنه عندما يحارب أعداء إسرائيل فهو يتمم نبوءات الكتاب المقدس، ويعجل بنهاية العالم، ومجيء المسيح ثانية. وما يؤكد هذا: أن (جورج بوش الأب) أثناء غزو العراق للكويت، كان يستمع للواعظ الشهير (بيلي جراهام) في موطنه بولاية Miame ووعظ (بيلي جراهام) عن المعني الكتابي لبابل وقال لسامعيه: إن الأحداث التي تجري الآن في الخليج قد تكون لها دلالة روحيه فإن الموقع الجغرافي لبابل هو الآن في العراق".
_________
(1) جريدة الخليج 11ـ3ـ 2003 م
(2) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص20(2/298)
وقال (جراهام): "إن هذا المكان هو الذي ابتدأ فيه التاريخ وان الكتاب المقدس يعلمنا أن التاريخ سينتهي من حيث ابتدأ. ويبدو أن (بوش الابن) ينتمي إلى نفس المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها أبوه، فهذه المدرسة تخلط بين الحقائق الدينية والأحداث السياسية، وتخرج باستنتاجات حول نهاية العالم ومجيء المسيح ثانية. وهذه المدرسة عندما تفسر نبوءات الكتاب المقدس لا تطبق مبادئ علم النفس فلا تراعي النص الأصلي، ولا تاريخه، ولا ظروف كتابته، ولا القرائن المختلفة للنص. كذلك لا تركز هذه الجماعات على التفسير التاريخي للنبوءة بل تعطيها بعداً مستقبلياً وتربطها بالأحداث السياسية المعاصرة. الأمر الذي يشبع الفضول البشري، لذلك فإن بوش عندما يقرأ سفر اشعياء ويفسره بما يتماشى مع أهوائه وأغراضه السياسية يرى في نفسه أنه متمم هذه النبوءات، وأنه مبعوث العناية الإلهية، وأنه بتدميره العراق إنما ينفذ مهمة إلهية مقدسة" (1).
مما تقدم يتضح أن بوش يعتبر نفسه موضوعاً على جدول أعمال الله، وبالتالي فكل ما يفعله ـ بما في ذلك الحرب على العراق ـ يعتبر تجسيداً لمشيئة العناية الإلهية وإرادتها .. كما يقول (جيم كودي) المبشر البروتستانتي البارز. يقول (سانت بوش) في خطاب الأمة في 29 يناير عام 2003م: "الحرية التي نناضل من أجلها ليست هدية أمريكا إلي العالم، بل هي هدية الرب إلى البشرية". وهنا هل يمكن لعاقل أن يرى بالعبارة التي وردت علي لسان (السانت)، وهي الحروب الصليبية مجرد زلة لسان؟ خصوصاً إذا تذكرنا ما قاله بالحرف الواحد في خطاب ألقاه في حفل تخريج في أكاديمية (ويست بوينت) العسكرية: "بعد الآن ستسمى أمريكا الشر باسمه". وأول ما يمكن استخلاصه من هذه الجملة هو أن أمريكا هي الخير الخالص، والنور المحض مادامت تقع علي النقيض التام من الشر غير المسمى بعد! " (2).
لقد أعلن (جورج بوش الصغير) أن العالم بات مقسوماً بين الخير والشر وبين المؤمنين والكفار، والمؤمنون هم أولئك الذين يرتضون القيم الأمريكية للرأسمالية
_________
(1) مجلة روز اليوسف 12ـ4ـ2003 القس/ رفعت فكرى سعيد راعى الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف ـ شبرا مصر
(2) أفق آخر خيري منصور ـ سانت بوش ـ الخليج ـ 10ـ3ـ2003 م ـ عدد 8695(2/299)
الانكلو ـ ساكسونية برمتها، أما الكفار فهم الذين يرفضونها، ويجب على الأمم الآن أن تقرر ما إذا كانت مع هذه القيم أو ضدها، وعليها كذلك أن تقرر إن كانت مع الحرب الأمريكية على الكافرين بهذه القيم. وهنا تصبح الدول التي لا تقبل بالقيم الأمريكية والغربية دولاً شريرة بشّرها (بوش) بعذاب أليم (1). وهنا يبدو أن تقسيم بوش للعالم إلى محورين لا ثالث لهما، وهما محور الشر ومحور الخير، قد جاء تلبية لنداء ليلي، فالملائكة تحرس الإمبراطورية، وتملي على الرئيس قائمة بأسماء الأسلحة التي يريد تجريبها في لحوم الأطفال العرب والأفغان، حيث أعلن (بوش) أن الحرب ستكون طويلة ضد الإرهاب .. ويا لها من حرب غريبة لا مثيل ولا سابق لها!.
لقد بدأت الحرب الأمريكية الجديدة ضد حركة طالبان في أفغانستان، وضد أسامة بن لادن وضد صدام حسين في العراق .. وفي الانتظار قائمة طويلة من الأشرار والدول المارقه التي وردت في ذلك النداء الليلي الذي ترائي للسانت بوش. فكيف يمكن لهذا الجنون أن يكون توأم التكنولوجيا في ذروة عبقريتها؟ وأية كيمياء سياسية هذه التي تمزج الثلج بالنار؟ فيبقى الثلج ثلجاً، وتبقى النار ناراً! لو ادعى أي زعيم في العالم الثالث كل هذا، لوصف بالشعوذة والجنون، وكتبت عنه مئات الكتب التي تحشره في خانه واحدة مع الشيطان، لكن الأمريكي مؤمن ومحروس معصوم، مادامت القوة هي المنطق البديل، ومادام الآخرون لا يفتحون أفواههم إلا ليقولوا نعم، أو ليتثاءبوا"! (2)
لاري فلايشر يهدد صدام بما كتب على الحائط
بعد كل هذه الخرافات والهوس الديني الذي يسيطر على تفكير رئيس أكبر دولة في العالم، فإنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون التهديد الذي أطلقه المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض (آري فلايشر) في يوم السبت 15مارس 2003م قبيل بدء الحرب بأيام على العراق، على شكل رسالة ملغزة إلى الرئيس العراقي صدام حسين يؤكد فيها على ما يلي: "لا يزال هناك وقت لكي يرى صدام
_________
(1) إمبراطورية الشرالجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م
(2) أفق آخر خيري منصور ـ سانت بوش ـ الخليج ـ 10ـ3ـ2003 م ـ عدد 8695(2/300)
حسين ما كتب على الحائط ويرحل عن العراق". وهنا يستخدم (آري فلايشر) قصة من قصص العهد القديم (التوراة)، وبالتحديد من سفر دانيال، لتهديد الرئيس العراقي ومعناها: أن الملك (بيلشاصر) عمل حفلة ودعا إليها ألفا من عظمائه من الرجال والنساء، وأمر بإحضار آنية الذهب والفضة التي استولى عليها أبوه من هيكل سليمان بأورشليم، وشربوا فيها الخمر. وفي لحظة ابتهاجهم، ظهرت يد إنسان على الحائط وكتبت ثلاث كلمات غامضه المعنى وهي: 1ـ (منا) 2ـ (تقيل) 3ـ (فرسين). فذهل الملك عندما رأى هذه الكلمات، وطلب منجميه لفك رموز هذه الشفرة، ولم يتمكن واحد من التفسير. وعندئذ أرشدته أمه إلى دانيال النبي الذي كان سجيناً في بابل من أيام غزو والده نبوخذ نصر لفلسطين، وسبى اليهود إلى العراق فاستدعاه، وفسر له دانيال هذه الكلمات على النحو التالي: كلمة (منا) تعني أن الله قد أحصى أيام مملكتك، ووضع لها حداً. كلمة (تقيل) تعني، لقد وضعت في الميزان ولم يعد لك وزن. كلمة (فرسين) تعني: أن مملكتك قد قسمت وتم تسليمها إلى الفرس والميديين. ويستطرد دانيال قائلاً: إنه في تلك الليلة تحقق ما كتب على الحائط (1).
ولما كان بوش ورفاقه يستدلون بنبوءات التوراة والإنجيل على أخذ العراق بالقوة بالتفسير الذي يرونه للنصوص، رأينا أن نوضح نبوءة دانيال عن تشبيه (نبو خذ نصر) رئيس مملكة (بابل) برأس تمثال من الذهب، وقد سحب بوش ورفاقه التشبيه في عصرنا هذا على أهل العراق برئاسة (صدام حسين)، فشبهوا (العراق) ورئيسه (صدام حسين) بـ بابل، ورئيسها (نبوخذ نصر) بالتمثال الذي رآه في الحلم. وعلى كل الأحوال فإن هذه النبوءات ليست إلا دعوة صريحة للانتقام من العراق
_________
(1) 1).
إلى هنا تم معنى كلام دانيال وقد هدد به (آري فلايشر) الرئيس صدام حسين ليرحل من العراق، لأنه في تلك الليلة قد تم اغتيال الملك بيلشاصر ملك بابل، على يد ملك الميديين البالغ من العمر 62 عاما، والملك (بيلشاصر) هو ابن الملك نبوخذ نصر الذي أنهى ملك اليهود في بابل، وكان (صدام حسين) يشبه نفسه به" عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - أحمد حجازي السقا ص 5(2/301)
بسبب نبوخذ نصر المشبه بالرأس من ذهب، ولذلك صرح (بوش) في بدء المعركة مع العراق أنها معركة الرأس، ويقصد بذلك: أن صدام مثل نبوخذ نصر المشبه بالرأس من ذهب في حلم التمثال والحجر في الإصحاح الثاني من سفر دانيال. فكأصولى مسيحي ولد من جديد، يعلم بوش جيداً خطايا بابل القديمة (أحد مواضيع العهد القديم المفضلة) ويعلم الأشعار المصاحبة لسرد تلك الخطايا (1).
الصدمة والرعب
مما يدل على أن بوش ورفاقه يحاربون المسلمين حرباً دينية، أنهم يقتبسون عبارات وردت في التوراة لتطبيقها على العصر الحاضر كما لاحظنا في المثالين السابقين، بل إن الخطط العسكرية سميت بأسماء من التوراة: مثل (الصدمة والرعب)، التي سميت بها خطة غزو العراق. ففي الإصحاح الثاني من سفر اشعياء: "إنه في آخر الأيام سيظهر النبي المنتظر، وسيحارب اليهود الكافرين به والأمم الكافرة في (يوم الرب)، في أرض (هرمجدون) في الساعة التي قال عنها المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ إنه لا يعلمها إلا الله وحده. وقال اشعياء مهدداً بهذا اليوم: "ويسمو الرب وحده في ذلك اليوم وتزول الأوثان بتمامها ويدخلون في مغاير الصخور، وفي حفائر التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته، عند قيامه ليرعب الأرض" (2). وفي الإصحاح الثامن من سفر اشعياء: "هيجوا أيها الشعوب وانكسروا، واصغي يا جميع أقاصي الأرض. احتزموا وانكسروا. تشاوروا، فتبطل. تكلموا كلمة، فلا تقوم لأن الله معنا. فإنه هكذا قال لي الرب بشدة اليد، وأنذرني أن لا أسلك في طريق هذا الشعب قائلاً: لا تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب: فتنة ولا تخافوا خوفه، ولا ترهبوا. قدسوا رب الجنود، فهو خوفكم وهو رهبتكم. ويكون مقدساً وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل. وفخاً وشركاً لسكان أورشليم. فيعثر بها
_________
(1) بوش في بابل (إعادة استعمار العراق) - طارق على ترجمة د. فاطمة نصر ص46 - دار سطور- ط1 2004
(2) سفر اشعياء - الإصحاح الثامن.(2/302)
كثيرون ويسقطون، فينكسرون ويعلقون فيلقطون عصر الشهادة. واختم الشريعة بتلاميذي" (1).
النسر النبيل
كلنا يعلم ما سقط من لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش عشية غزو أفغانستان حين اعتبر الغزو حرب صليبية جديدة، بل سمى إحدى حملاته العسكرية تلك بعملية (النسر النبيل) أو العظيم مستوحياً تلك التسمية من الكتاب المقدس، حيث يقول يوحنا اللاهوتي: "ولما رأى التنين انه طرح إلى الارض اضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر. فأعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلى البرية إلى موضعها حيث تعال زماناً وزمانين ونصف زمان من وجه الحية. فالقت الحية من فمها وراء المرأة ماء كنهر لتجعلها تحمل بالنهر. فاعانت الارض المرأة وفتحت الارض فمها وابتلعت النهر الذي ألقاه التنين من فمه. فغضب التنين على المرأة وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله وعندهم شهادة يسوع المسيح (2) ".
فحملة الثأر لضحايا يوم الرعب الأمريكي في نيويورك وواشنطن تأتي تحت عنوان (النسر النبيل) و (العدالة المطلقة). ولكي يتطابق العنوان الموضوع مع الفعل المأمول لا بد ان تتسيد الحكمة منطق المعالجة لكي تبقي العدالة قائمة بعيدا عن الارهاب. فان لم يكن الامر كذلك لن يتم القضاء علي الارهاب بسلاح الاهداف السياسية. وعندها قد تنتهي عدالة القوة المحمولة علي اجنحة النسر النبيل أو العظيم كما تنبأ بها يوحنا اللاهوتي الي القضاء علي نمط محدد من الارهاب، الا انها لن تجتث جذوره. وعندها سنكون بانتظار انماط جديدة ووسائل مبتكرة توقظ الارهاب من مضاجعه.
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - أحمد حجازي السقا ص166
(2) نبوءة يوحنا اللاهوتي الاصحاح 12 - (13 - 18)(2/303)
الصلاة مع ومن أجل الرئيس بوش
عندما ترشح الحاكم (جورج بوش) للرئاسة، أكد أن يسوع المسيح كان فيلسوفه السياسي المفضل، واليوم بعد أن أصبح رئيساً، يبدأ كل اجتماعاته الوزارية بصلاة (1). فواشنطن صارت مدينة التقوى والورع، والنفوذ الديني المسيحي اليميني، بدأ يسيطر عليها بصورة غير معقولة، بل إن الشعائر الدينية تقام حتى في البيت الأبيض إلى الحد الذي تبدأ فيه جلسات الحكومة بالصلاة، حيث يطلب الرئيس (بوش) من وزرائه التمتمة بعبارات دينيه بتركيز شديد يقوم فيه جميع من في المكان بتشبيك أيديهم وإغلاق أعينهم وخفض رؤوسهم إلى الأسفل انحناء وورعاً، بينما يقوم المقاتل العجوز (دونالد رامسفيلد) بالتضرع إلى الله. ليس ذلك فقط، بل نجد أيضاً حلقات لقراءة الإنجيل بصورة يوميه في البيت الأبيض. ورغم عدم وجود أي إجبار للعاملين في البيت الأبيض إلا انه يتم تسجيل الحاضرين والغائبين عن هذه الحلقات. فالسباب هناك ممنوع والتدخين والشراب، ليس ذلك فقط، بل إنه لا أحد مسموح له بالعمل هناك دون ملء استمارة تنص على إتباعه جميع الأوامر والنواهي الدينية المنصوص عليها. فحركة الإنجيليين الجديدة تكتسح البيت الأبيض، وتسيطر عليه تماماً، فالقس (ديفيد فروم) الذي كان يقوم بكتابة الكلمات التي يلقيها الرئيس (بوش) في خطبه يقول: "إن بوش يقرأ الإنجيل يومياً (2)، ويتحدث عن (أشياء جديده) تعطيه القوة بصورة دائمة. ويؤكد (بوش) ذلك قائلاً: "إنني اصلي لأحصل على القوة والإرشاد والغفران، أرجو من الله الودود الكريم أن يقبل شكري له" (3).
وهذه الدرجة العالية من التدين تعكسها العبارات الدينية التوراتيه في كلام الرئيس الأمريكي خاصة عندما يتحدث عن الشرق الأوسط، حيث أن كاتب خطاباته وتصريحاته هو القس (مايكل جيرسون) الذي حل في هذا العمل محل كاتب آخر هو (دافيد فروم)، الذي اضطر للتخلي عن عمله لأنه لم يكن يشارك الرئيس إيمانه
_________
(1) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - أسعد أبو خليل ص33
(2) تاريخ بوش السري الاسود ورجال البيت الابيض- انيس الدغيدي- ص12 - دار الكتاب العربي- ط1 2004
(3) صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003 م ـ وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003م.(2/304)
بالولادة الثانيه. ويذكر (فروم) في مذكراته التي نشرها أخيراً: "إن أول سؤال كان يواجهه في الصباح هو لماذا تغيبت عن الدرس الديني؟ ذلك أنه صباح كل يوم وقبل بدء العمل في البيت الأبيض، يتجمع كبار الموظفين والمستشارين مع الرئيس (بوش) للاستماع إلى موعظة دينيه يقدمها أحد القساوسة تعقبها صلاة ودعاء، ثم يتوجه الجميع إلى مكاتبهم" (1). وهكذا تبدو الرئاسة في الولايات المتحدة أشبه بقاعة للصلاة يقوم فيها المعنيون بين قراءتين جماعيتين للعهد القديم أو العهد الجديد بإدارة شؤون أميركا والعالم (2).
ويبرر مساعدو بوش ومستشاروه عادة الصلاة اليومية بالقول: "ان الرئيس الأمريكي يرتاح حين يؤدي الصلاة لأنها تعطيه قوة داخلية وإيماناً عميقاً" (3). وربما لهذا السبب سعى هؤلاء المستشارين لإجبار الجنود الأمريكيين في العراق للدعاء والصلاة للرئيس. فبالرغم من أن الجنود الأمريكيين الذين يشاركون في القتال ضد العراق هم الذين يواجهون الخطر في ارض المعركة، إلا أنه طلب منهم الدعاء من اجل رئيسهم (جورج بوش). حيث وزعت كتيبات علي آلاف من رجال مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) تحمل عنوان (واجب المسيحي)، وتحتوي علي أدعية كما تحتوي علي جزء يتم نزعه من الكتيب لإرساله بالبريد إلى البيت الأبيض، ليثبت أن الجندي الذي أرسله كان يدعو من أجل (بوش). وطبقاً لأحد الصحفيين المرافقين للقوات الغازية فان هذا الجزء يقول: "لقد صليت من أجلك ومن اجل عائلتك وموظفيك وجنودنا في هذه الأوقات التي تسودها حالة عدم اليقين والإضطراب. ليكن سلام الله دليلك". ويقدم الكتيب الذي وضعته جماعة تسمى (ان توتش منيستريز) صلوات يومية من اجل الرئيس الأمريكي. وتقول صلاة يوم الأحد: "ادع من أن يلجأ الرئيس ومستشاروه إلى الله وحكمته كل يوم ولا يعتمدون علي فهمهم الخاص". أما صلاة الاثنين فتقول: "ادع أن يكون الرئيس ومستشاروه أقوياء وشجعاناً لعمل الصواب بغض النظر عن النقاد" (4).
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - احمد حجازي السقا ص126
(2) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص19
(3) جريدة الخليج - 11ـ3ـ2003 عدد 8696
(4) جريدة الخليج الأحد 30/ 3/2003م عدد 8715(2/305)
استغلال المسيحية لتبرير الغزو
ليس جديداً علي التاريخ أن يضيف المحاربون إلى غزواتهم جرعة سماوية، ويزعمون بأنهم يلبون نداءً سماوياً، فتلك حيلة لاذ بها غزاة عديدون ادعو الإلهام ... فالطغاة الكبار لديهم وهم كبير أيضاً، فهم يتصورون أنهم خالدون وليسوا من البشر الفانين (1). وهنا يعبر القس (فريتس ريتسش) في مقاله له بالواشنطون بوست، عن قلقه من هذه الظاهرة التي تقلب العلاقة التقليدية بين الكنيسة والدولة في التاريخ الأمريكي رأساً على عقب، وتجعل رجل الدين في خدمة رجل الدولة، بكل ما يعنيه ذلك من استغلال المسيحية في تبرير الغزو والاستعمار، وإشعال الحروب مع ديانات أخرى وخصوصاً الإسلام. فالعلاقة بين الرئيس بوش والقاعدة الدينية اليمينية التي حملته إلى الرئاسة ليست علاقة صحية، ذلك أن: "أنصار بوش المتدينين يتصدرون المصفقين له. وبدلاً من أن يقدموا له الهداية الأخلاقية، فإنهم يرضون بأن يكونوا تلاميذ ومريدين له حسب تعبيره. ويقصد القس (فريتس) بذلك قادة اليمين المسيحي من أمثال بيلي غراهام وابنه فرانكلين، وجيري فالويل، وبات روبرتسون، وغيرهم .. وكلهم معروف بصداقتهم الحميمة للرئيس (بوش) ودعمهم المطلق له، وكلهم معروف بعدائه السافر للمسلمين، وهجومه على الإسلام ومقدساته، وبإيمانهم الراسخ بالدولة اليهودية.
ويعترف القس (فريتس) بحقيقة تأثير الدين في السياسة الأمريكية اليوم أكثر من أي وقت مضى، فيقول: "لم يحدث في التاريخ أن كانت أمريكا مسيحية سياسياً وبشكل علني مثل ما هي اليوم". لكنه يحذر، "بأن اقتناعنا بأن الرب إلى جانبنا، يجعل الحاجة إلى مراجعة الذات وإلى التواضع أقل". ويختم القس فريتس مقاله العميق بدعوة رجال الدين المسيحيين إلى بث رسالة التواضع والإنصاف، ويحذر قائلا: "إن التكبر الأمريكي في العصر النووي، ليس انحرافاً أخلاقياً فقط، بل هو يحمل بين جنبيه أيضا بذور الكارثة" (2).
وفي كتابه الجديد (القيم الأمريكية تتعرض للخطر) يتناول الرئيس السابق
_________
(1) أفق آخر خيري منصور - سانت بوش ـ الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695
(2) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية/بقلم محمد بن المختار الشنقيطي - الجزيرة نت 21/ 3/2004م(2/306)
(كارتر) العلاقة بين الدين والحكومة في ظل إدارة بوش، فيقول: "أن من أعجب الخلطات بين الدين والحكومة، النفوذ القوي لبعض الأصوليين المسيحيين على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. إن كل شخص في أمريكا قد سمع بسلسلة روايات (المخلفين Left Behind) ، تأليف (تيم لاهاي) و (جيري جنكينز)، وهي اثنا عشر كتاباً سجلت رقم مبيعات لم يسبق له مثيل. ومنطقها قائم على اختيارات منتقاة بعناية من آيات الكتاب المقدس، ومعظمها من سفر الرؤيا، وهي تصف سيناريو يوم القيامة، أو نهاية العالم. فعندما يعود المسيح، سوف يرفع المؤمنون إلى السماء، حيث يرقبون مع (الرب) تعذيب معظم البشر الآخرين الذين خلفوهم وراءهم. وسوف يكون هذا الحدث فورياً وفي وقت لا يمكن التنبؤ به". ويتابع (كارتر) قائلاً: "إن هنالك ملايين من زملائي المعمدانيين الذين يؤمنون إيماناً تاماً بكل كلمة في هذا التصور، على أساس تمجيد الذات الذي تكنه القلة المختارة لنفسها، إلى جانب الإدانة والتخلي، خلال فترة (المحنة)، عن أفراد العائلة، والأصدقاء، والجيران الذين لم يقع عليهم الاختيار للخلاص".
ويتابع كارتر قائلاً: "إن حقن هذه المعتقدات في سياسات الحكومة الأمريكية مبعث للقلق. فهؤلاء المؤمنون مقتنعون بأنهم يتحملون مسؤولية تعجيل حدوث هذا (الاختطاف)، من أجل تحقيق النبوءة التوراتية. ويدعو جدول أعمالهم إلى شن حرب في الشرق الأوسط ضد الإسلام (العراق؟) واستيلاء اليهود على (الأرض المقدسة) كافة (احتلال الضفة الغربية؟)، مع الطرد التام للمسيحيين والأغيار الآخرين. ومن المفروض أن يتلو ذلك استيلاء الكفار (المناوئين للمسيح) على المنطقة، ثم انتصار المسيح نهائياً. وفي هذا الوقت من الاختطاف، إما أن يتحول جميع اليهود إلى المسيحية، وأما أن يحترقوا.
ويقول كارتر متابعاً: "بناء على هذا المنطق، أصبح بعض كبار الزعماء المسيحيين في طليعة المؤيدين لحرب العراق، وهم يقومون بزيارات متكررة إلى إسرائيل، لكي يدعموها بالتمويل، ويحشدوا التأييد في واشنطن لاستعمار الأرض الفلسطينية. وكان الضغط القوي من قبل اليمين الديني عاملاً رئيساً في قبول أمريكا الخانع بقيام إسرائيل، بعملية بناء هائلة للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية، وإقامة شبكة واسعة من الطرق في الضفة الغربية المحتلة. وقد أفاد(2/307)
بعض الزعماء الإسرائيليين من هذه المساعدة بينما غضوا الطرف عن نبوءة محنة جميع اليهود في نهاية الأمر" (1).
اعتراضات من داخل المسيحية
لعل أعمق تحليل ونقض لفلسفة بوش وحماسه الديني، الذي يطغى على حكمته السياسية، هو ما كتبه القس (فريتس ريتسش) في مقاله في الواشنطون بوست (عن الرب والإنسان في المكتب البيضاوي). فقد تتبع القس فريتس المصطلحات الدينية في خطاب جورج بوش، والنزعة الوثوقية في أحاديثه بأن الرب إلى جنبه دوماً. مثل قول بوش: "إن الحرية والخوف، العدل والفظاعة، ظلا دوماً في صراع، ونحن نعرف أن الرب ليس حيادياً في هذا الصراع". ومن ذلك تكراره الدائم أن أمريكا "أمة مؤمنة وخيِّرة ومثالية"، وأحيانا "أمة رحيمة وسخية". وبالطبع فإن أطفال العراق وفلسطين يعرفون عن تلك الرحمة وذلك السخاء أكثر من غيرهم!!
ويعلق القس (فريتس) على ذلك داعياً إلى قدر أكبر من التواضع وقدر أقل من التبجح، فيقول: "إن أغلب المصلين الذين يحضرون إلى كنيستي الصغيرة لا يعتبرون أنفسهم، ولا يعتبرون الأمة الأمريكية، مجموعة من القديسين، وهم ليسوا مستيقنين من الورع الأمريكي الذي يتحدث عنه (جورج بوش). وهم يرون أن انتصارنا على صدام حسين ليس دليلاً كافياً على فضيلتنا أمام الناس ولا أمام الله، وهو لا يبدو حتى دليلاً كافياً على انتصارنا على الإرهاب". فتقديم (جورج بوش) تبريرات دينية لحربه على العراق لأمر مقلق بل مرعب للكثيرين حسب تعبير القس (فريتس). وهو بدون نزاع أكثر جرأة من أي رئيس سبقه في هذا المضمار، باتفاق الجميع. ثم يقدم القس (فريتس) خلفية تاريخية لما يبدو حماساً دينياً متأججاً لدى الرئيس (بوش)، فيجد جذوره في تراث المستوطنين الأوربيين الأوائل في القارة الأمريكية، الذين كانوا متدينين لحد التعصب، يؤمنون بأن أمريكا هي صهيون الجديدة، والأرض الموعودة. والأمريكيون ـ اليوم ـ هم ورثة أولئك روحياً". وهو يشير
_________
(1) القيم الأمريكية تتعرض للخطر ـ تأليف: جيمي كارتر - الناشر: سايمون وشوستر - ط1 2005 - عرض: عمر عدس ـ جريدة الخليج الإماراتية - عدد 9709 بتاريخ 18ـ12ـ2005 م(2/308)
إلى أن الأمريكيين الحاليين مثل أجدادهم السابقين "يؤمنون بأنهم محط عناية إلهية وقدر إلهي محتوم".
لكن اليمين المسيحي الذي ينتمي إليه (جورج بوش) صاغ هذه الأفكار الثيولوجية صياغة سياسية عملية. حيث يرى أن (بوش) ومَن ورائه من الأصوليين المسيحيين واليهود في أمريكا، يمثلون فلسفة دينية أساها العنف والكراهية والتكبر، في وقت تحتاج فيه البشرية إلى التواضع والإنصاف واعتماد النسبية في تقويم الأفراد والأمم، فلا يوجد بين البشر من هو شرير بشكل مطلق ولا مَن هو خيِّر بشكل مطلق، ولا يوجد في البشرية (محور شر) و (محور خير) كما يريد بوش أن يقنعنا بذلك اليوم" (1).
كما أن الكنائس الأمريكية الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية المختلفة، بدأت ترفع صوتها منددة بالتوظيف السياسي للدين، الذي يتناقض مع ما تقول به العقيدة المسيحية حتى أن القس (ملفين تالبيرت) رئيس الكنيسة الميثوديه، التي يعتبر الرئيس (بوش) أحد أبنائها قال في مقابلة تليفزيونية أجريت معه: "إن سياسة إدارة الرئيس بوش في الحرب على العراق ستنتهك الشريعة الإلهية كما تنتهك تعاليم السيد المسيح". كما أطلقت مجموعة ضغط مسيحية ليبرالية في واشنطن نشاطاً مكثفاً، لمنع إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي (بوش) ومواجهة نفوذ المحافظين الجدد من المسيحيين اليمينيين، والصهاينة الذين يرسمون لبوش سياساته واستراتيجياته. وقالت (بريندا بترسون) مديرة (شبكة الزعامة الكهنوتية): "إن الإدارة تتلاعب بالدين بمستويات غير مسبوقة ومثيرة للغضب. ونددت بما سمته (عقلية رعاة البقر) التي تنتهجها إدارة (بوش). ويقول رئيس المنظمة (البرت بينيباكر): "نحن هنا لتشجيع التغيير في القيادات الفاشلة وسياساتهم الأكثر فشلاً. وعملنا يركز على تجميع الليبراليين ليتحدوا في مواجهة إدارة بوش وسياساتها الخارجية والاقتصادية وهي الإدارة التي تحاول تمييع أساسيات الفصل بين الدولة والكنيسة،
_________
(1) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية/بقلم محمد بن المختار الشنقيطي - الجزيرة نت 21/ 3/2004(2/309)
وتنتهج سياسات خارجية تعتمد على البطش وتهديد الدول الأخرى، وسياسات داخلية تكافئ الأغنياء على حساب الفقراء والأطفال" (1).
ولا شك في أن اشد عبارات التنديد المسيحية بسياسة الرئيس (بوش) وردت على لسان البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني)، الذي قد أوفد الكاردينال (اتشيجارى) أوائل فبراير إلى بغداد في مبادرة مسيحية لافته، حيث أعلن بابا الفاتيكان خلال صلاته الأسبوعية، أن الخيار بين السلام والحرب في الوضع الدولي الراهن هو أيضاً الخيار بين الخير والشر، وكأنه يرد على تقسيم (بوش) للعالم إلى أخيار وأشرار. وقال للمصلين المحتشدين في ساحة القديس بطرس: "في الإطار الدولي الراهن: نشعر بقوة بضرورة تطهير الضمير واهتداء القلب إلى طريق السلام الحقيقي. ففي أعماق قلب كل شخص يتردد صوت الله وصوت إبليس الماكر". وقال وهو يعلن مناسبة الصوم والبدء بأسبوع رياضات روحية: "خلال أسبوع التأمل والصلاة هذا، ستكون مطالب الكنيسة ومشاغل البشرية جمعاء حاضرة في مخيلتي، ولا سيما بالسلام إلى العراق والأرض المقدسة". وكان البابا قد دعا قبل ذلك مسئولي العالم أجمع إلى (فحص ضمير) من أجل تجنيب البشرية نزاعاً مأساوياً آخر" (2).
كما أن البيان الذي صدر في الخامس من فبراير 2002م عن المؤتمر المشترك لمجلس الكنائس العالمي، ومؤتمر الكنائس الأوروبي، والمجلس الوطني لكنائس المسيح في الولايات المتحدة، ومجلس كنائس الشرق الأوسط يعتبر عن حق (البيان المسيحي) المبدئي الرافض للحرب على العراق، باعتبارها حرباً غير مبرره أخلاقياً أو دينياً، وقد ندد البيان بمبدأ اللجوء إلى القوة العسكرية بدلاً من المساعي السياسية لحل الخلافات (3). كما وجه الرئيس الألماني (يوهانس راو) انتقاداً شديداً إلى نظيره الأمريكي (جورج بوش) بسبب تبريره الحرب على العراق بأنها (مهمة إلهية)، وقال (راو) في مقابلة تلفزيونية: "أن استشهاد (جورج بوش) بالله في خطاباته حول الحرب في العراق يولد سوء تفاهم هائلاً، اذ يتحدث (بوش) عن
_________
(1) جريدة الخليج - العدد 5993ـ بتاريخ 2/ 1/2004
(2) جريدة الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695
(3) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص29 أو جريدة الأهرام 12ـ2ـ2003م(2/310)
(مهمة إلهية) أوكلت إليه لتبرير الهجوم الأمريكي على العراق". وأضاف (راو): "إنها رسالة تخفي نيات مبيتة يوجهها بوش". وأكد (راو) "أن الإنجيل لا يأتي إطلاقاً على ذكر أي حملة صليبية، وقال:"لا أعتقد أن شعباً ما يمكن أن يتلقى أمراً إلهياً بتحرير شعب آخر" (1).
رفض الحلول والسعي للحرب
لقد كان الأمر أكثر تعقيداً مما يتصور الرئيس الأمريكي، الذي غطى الحماس الديني على بصيرته السياسية، وأعماه عن الصراعات الدينية والسياسية القادمة، التي سيفتح لها الباب بحربه على العراق، وبرجوعه إلى عصر الاستعمار المباشر بعد أن أصبح الضمير البشري يرفض هذا النمط من الاستعمار. ولكن الذي يبشر بالخير أنه لا يزال في أمريكا اليوم أصوات ـ مثل صوت القس فريتس ـ تدعو إلى التواضع والإنصاف، وهي أصوات قد يكون لها شأن في المستقبل، لكن من المحزن أن هذه الأصوات لا تكاد تسمع الآن بسبب طبول الحرب وصخب الأصولية المسيحية وأختها اليهودية. وفي محاولة يائسة لمنع الحرب، أصدرت جماعة من المثقفين الأمريكيين نداء بعنوان (ليس باسمنا)، رد فيه موقعو البيان على قول الرئيس بوش: "إما أن تكونوا معنا، أو تكونوا ضدنا"، بقولهم: "نحن نرفض إعطائكم الحق بان تتكلموا باسم جميع الأمريكيين. نحن لن نتنازل أبداً عن حقنا في المساءلة. نحن لن نقدم لكم ضمائرنا لقاء وعود أمنية فارغة. ونقول لكم: ليس باسمنا. نحن نرفض أن نشارك في هذه الحروب، ونرفض كل افتراض بأنها تخاض باسمنا أو لأجل خيرنا" (2).
وبالرغم من هذه المعارضة الداخلية والخارجية للحرب، "أعلن الرئيس (بوش) في يناير 2002م عن نيته توسيع حربه على الإرهاب إلى ما يتعدى تدمير شبكة القاعدة إلى كوريا الشمالية وإيران والعراق، وربما أعداء رسميين آخرين للولايات المتحدة. واستبعدت كوريا وإيران في جملة واحدة وركز بوش على العراق، ودلت خطب متوالية لشخصيات بارزة في إدارة بوش على أن واشنطن عازمة على شن
_________
(1) الخليج 2/ 4/2003م عدد 8718
(2) خطورة أمريكا (مفات حربها المفتوحة في العراق- نويل مامير، باتريك فاربيار- ترجمة ميشال كرم- ص 252 - دار الفارابي - ط1 2004(2/311)
هجوم كبير على العراق" (1). وهكذا تحولت آلهة الحرب من جبال الأولمب إلى واشنطن، لكي تبدأ صفحة جديدة من سفك الدماء، متذرعة هذه المرة بمبررات مقاومة الإرهاب وحماية السلام .. وهي الحجة نفسها التي سفكت الشيوعية تحت مظلتها أنهارا من الدماء" (2). ولكن التحضيرات للحرب على العراق كشفت عن هموم عميقة لحلفاء بوش، فقد جاهر قسم كبير من وزارة حرب (بوش الأب) بمعارضة الحرب على العراق، مثل جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وبرنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي الأسبق.
ولكن الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق وربما غيرهما في المستقبل، كانت مطلباً ملحاً للإدارة الأميركية التي تسعى وتخطط لتحقيقها وتهيئ الظروف المواتية لإشعالها، فقد كان يمكن على سبيل المثال تسلم أسامة بن لادن قبل عام 1998م، وأبدت قيادة طالبان في أفغانستان استعدادها لتسليمه إلى السعودية، وكان ثمة مفاوضات قطعت شوطا مهما مع (تركي الفيصل) المدير السابق للمخابرات السعودية، ولكن قصف أفغانستان والسودان قوض المشروع، بل إنه حتى بعد أحداث 11 سبتمبر كان ثمة فرصة لتسليم أسامة بن لادن لباكستان ومحاكمته هناك. وكان من المحتمل أن تفضي هذه المحاكمة إلى تسليمه للولايات المتحدة، أو يطبق عليه حكم لن يقل عما يفترض أن تسعى إليه الولايات المتحدة، وبخاصة أن باكستان دولة حليفة لأميركا، ولكن بريطانيا والولايات المتحدة تجاهلتا الاتفاق وعملتا على هدمه (3).
وحتى الحرب الأمريكية البريطانية الأولى على العراق كان يمكن تجنبها، حيث أبدى صدام حسين استعداده للانسحاب من الكويت بشرط ضمان عدم تعرضه لضربه أمريكية، كما جاء في مذكرات (بريماكوت) المبعوث الروسي لبغداد، والذي لم يستطع أن يعطي أي تعهد بضمان عدم إقدام أمريكا على ضربه، وحتى حرب احتلال العراق الأخيرة، كان يمكن الوصول إلى حلول كثيرة ومخارج لها ولكن أمريكا تريد الحرب ولا تريد غيرها مهما حدث. وهنا يطرح (فليب هيرو) في كتابه (العراق تقرير
_________
(1) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسنـ عرض/ إبراهيم غرايبةـ الجزيرة نت
(2) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص110
(3) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسن ـ عرض/ إبراهيم غرايبة ـ الجزيرة نت(2/312)
من الداخل) مجموعة من الأسئلة الحادة, ويقول: إن الولايات المتحدة لا تستطيع تفادي الإجابة عنها أمام الرأي العام العالمي, وهي: لماذا قامت الولايات المتحدة بالحرب على العراق مع أن تقارير لجان التفتيش التابعة للأمم المتحدة أكدت أنه تم نزع ما بين 90 إلى 95% من أسلحة الدمار الشامل العراقية؟ وأين الدليل على صلة العراق بتنظيم القاعدة؟ ثم ما دور جهازي الاستخبارات الأمريكية (سي آي إي) والبريطانية (أم آي سكس) في محاولات الانقلاب الست الفاشلة التي نظمت للإطاحة بنظام حكم صدام حسين منذ عام 1991م؟.
فالمؤتمر الوطني العراقي برئاسة (أحمد جلبي) الذي تأسس برعاية أميركية عام 1990م، وثم ترسخه في اجتماع فيينا عام 1992م وموله جهاز (السي آي إي) , كان الهدف منه قلب نظام الحكم في بغداد، حيث وضعت مخططات انقلابات عسكرية بين عامي 1995م و1996م أشرفت عليها السي آي إي بالتعاون مع المؤتمر الوطني والأحزاب الكردية في شمال العراق من أجل التخلص من النظام في بغداد، لكن الفشل كان حليفها. ومن المثير هنا أنه عندما اقترب انقلاب سنة 1995م من النضوج، أرسل مدير جهاز (السي آي إي) آنذاك (جون ديتش) إلى رئيس محطة عمان التابعة للجهاز فريقاً خاصاً للتنسيق مع المخابرات الأردنية بشأن الانقلاب (1). ومن الجدير بالذكر أيضاً ان ولفويتز كان وراء محاولات الاغتيال المتكررة التي استهدفت الرئيس العراقي صدام حسين، كما طور إلي جانب -ديك تشيني- خطة عام 1991، أطلق عليها عملية العقرب، للقيام بغزو بري للعراق. ومرة أخري، خطط (ولفويتز) لغزو شمال العراق انطلاقاً من تركيا، حيث أطلق علي تلك العملية عملية المطرقة. وفي عام 1997م، وضع (ولفويتز) والجنرال (وين داوننغ) مسودة خطة ضد العراق باستخدام المعارضة العراقية التي تتخذ من لندن مقراً لها (2).
_________
(1) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت
(2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـالقدس العربي ـ 28/ 2/2003م(2/313)
أسباب رفض العالم للحرب
حملت الصفحة الأولى لجريدة واشنطن بوست بتاريخ 24/ 2/2003م مادة تقول: إن كثيرين في العالم يعدون الرئيس (جورج دبليو. بوش) تهديداً للسلم العالمي أكثر من صدام حسين. ليس هذا تطوراً حديثاً ناجماً عن الجدل الدائر حول ما يمكن عمله بشأن العراق، بل حقيقة وهاكم ما تقوله الغارديان اللندنية: باتت أمريكا، تلك الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها، توشك أن تشبه الدولة المارقة المطلقة. فبدلاً من قيادة أسرة الأمم والدول، تبدو أمريكا بوش مياله أكثر فأكثر إلى مجابهة هذه الأسرة. فبدلاً من مدينة مشعة على تلة .. ثمة جلجلة قومية: نحن نفعل ما نريد .. وإذا لم يرق لكم ذلك، فلكم إن تنطحوا الجدار (1). وهكذا لم تكن صورة الأمريكي في التاريخ بمثل بشاعة الصورة التي صنعتها إدارة الرئيس بوش، وفي ذلك ظلم لقطاع مهم من الشعب الأمريكي الذي عبر عن حقيقة مشاعره وقناعاته من خلال المسيرات ضد الحرب، ومن خلال بيانات المجالس الكنسية الأمريكية التي اعتبرت الحرب خروجاً على تعاليم المسيح وانتهاكا لقيمها (2).
وهنا يرى (ميلان رأى) أن هناك عشرة أسباب لرفض الحرب الأمريكية، فالعراق لم يطور أو يمتلك أسلحة دمار شامل بحسب المعلومات، وعمليات التفتيش والمراقبة التي أجريت، ولا يوجد رابط بين العراق وهجمات 11 سبتمبر، وهذه الحرب ليست من أجل الديمقراطية، بل ولا تستهدف تغيير سوى شخص الرئيس العراقي صدام حسين، ويمكن أن تؤدي إلى كارثة إنسانية وتدمر كردستان العراق، وهي حرب غير مشروعة ولا تغطيها الأمم المتحدة، وستعرض جيران العراق للخطر وهم يعارضونها. كما يعارض الحرب معظم القادة العسكريين في الولايات المتحدة، ويعارضها أغلب الناس في بريطانيا، ومن شأنها أن تسبب ركوداً عالمياً (3). أما (دبليب هيرو) فيقول: لقد نجح (جورج بوش الابن) عن طريق شن هجوم وقائي ضد العراق، في استفزاز صدام حضارات بين الإسلام والغرب, وهو الأمر الذي فشل فيه أسامة
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص10
(2) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص92
(3) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسنـ عرض/ إبراهيم غرايبةـ الجزيرة نت(2/314)
بن لادن. وبهذا فإن (هيرو) يحمل (بوش) والإدارة الأمريكية اليمينية المتطرفة التي يرأسها، بالتسبب في تشجيع وتكريس مقولات صدام الحضارات بسبب تبني سياسات هجومية هوجاء (1).
أما الكاتب الأمريكي (روبرت كيغان) فله رأى آخر حيث يرى أن العالم خارج أوروبا ما زال، يعيش (في التاريخ). وأن العالم ما يزال مليئاً بالإرهابيين و الدول المارقة. فصدام حسين كان خطراً حقيقياً وداهماً هدد سلامة الغرب، وأن ما يراه الأوروبيون خلاف ذلك ليس سوى الرد الطبيعي الذي اقترن بالضعفاء الذين دأبوا عبر التاريخ على دفن رؤوسهم في الرمال، كلما برز لهم خطر على الطريق. ويرى كيغان أن الموقف الأوروبي كان دافعه الجبن لأن الأوروبيين حسبوا أن المخاطر التي كانوا سيتعرضون لها في حالة تصديهم لإزاحة صدام تفوق المخاطر التي تنجم عن تركه وشأنه (2).
معارضة فرنسا للحرب
إن التوتر الذي نجم عن الأزمة العراقية ليس ظاهرة استثنائية في العلاقة بين باريس وواشنطن، فقد كان الفرنسيون دوماً ابطال معاداة أمريكا في اوروبا الغربية (3). ذلك أن هذه العلاقة لم تكن قط منسجمة سواء خلال الحرب الباردة أم بعدها. فالرفض الفرنسي للانفرادية الأمريكية قضية مبدأ، حيث أن هذه الانفرادية توجه ضخم وعميق في سياسة أميركا التي بقوتها المتزايدة لم تعد تتحمل الضغوط الخارجية والالتزامات المتعددة الأطراف. وهذه الانفرادية سابقة على انتخاب بوش وإن كان هذا الأخير قد عمقها. ولهذا جاء استهداف أميركا لفرنسا والتهديد بمعاقبتها دون سواها بسبب الدور الأساسي الذي لعبته في معارضة السياسة الانفرادية الأمريكية. ففرنسا هي الوحيدة التي بإمكانها تجسيد سياسة كونية مختلفة عن
_________
(1) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت
(2) الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديدـ روبرت كيغان ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت
(3) العدو الأمريكي (اصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا) - فليب روجيه - ترجمة بدر الدين عرودكي- المشروع القومي للترجمة عدد 816 - ط1 2005(2/315)
النموذج الأمريكي، فهي لم تعارض فقط أميركا، بل دافعت عن تصور لمجتمع دولي مبني على أساس القانون وتعدد الأطراف، فحالت دون تمتع أميركا بأغلبية في مجلس الأمن، بل وفي العالم أيضاً.
فهي أثبتت أن عالما آخر كان ممكناً، لذا فهي مستهدفة من قبل أميركا، لهذا السبب ففرنسا لا تتمتع بشعبية في أميركا، لكنها للسبب نفسه لها شعبية في العالم لأن عملها حال دون ظهور عالم أحادي القطب. ففرنسا وضعت على رأس أولوياتها احترام إجراءات الأمم المتحدة، فبالنسبة إليها وإلى روسيا أيضاً الذي كان مهماً في المسألة العراقية هو المنظمة الأممية، وهذا من باب القناعة بضرورة العمل في إطار المنظمات الدولية واحترام القانون الدولي. وهكذا فإن الفشل هو فشل أميركا أكثر منه فشل المنظمة الأممية، فهذه الأخيرة لم تكن حقيقة فعالة في السابق، ذلك أن واشنطن رغم الضغوط والإمكانات لم تفلح في الحصول على أغلبية. ويعني طلب أميركا عون الأمم المتحدة للخروج من المستنقع العراقي اعترافاً ضمنياً بفشل عملها الانفرادي وفوقية الإجراءات المتعددة الأطراف. فالعالم الأحادي القطبية غير موجود، وحرب العراق أعطت الدليل على ذلك، حيث أن مفهوم القوة تغير وأنه في عالم معولم يميزه تعدد الفاعلين فمن غير الممكن أن يتحكم بلد وحده في مجمل بقية الدول (1).
بيلير وتشرشل .. التاريخ يعيد نفسه
تبدو مسألة التأييد الدولي مهمة لدى الرأي العام الأمريكي، الذي وإن كان يؤيد عملاً عسكرياً ضد العراق، فإنه يفضل أن تكون هذه الحرب تحت غطاء دولي. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية في أغسطس 2002م أن 20% من الأميركيين فقط يؤيدون حرباً أميركية منفردة على العراق، في حين أعرب 65% عن اعتقادهم بضرورة الحصول على تأييد من الحلفاء للحرب، وتفويض من الأمم المتحدة. ولذلك فقد كان (بلير) هو حبل النجاة لبوش لتسويق الحرب
_________
(1) فرنسا ضد الإمبراطوريةـ باسكال بونيفاس - ط1 - 2003الناشر روبير لافون باريس - عرض/ كمبردج بوك ريفيوز
الجزيرة نتـ23/ 2/2004م.(2/316)
وإعطائها طابع التحالف الدولي، ولكن بلير كان مكشوفاً على نحو خطر، فأغلبية حزبه (العمال) تعارض الحرب وحتى من داخل وزارته، بالإضافة إلى أغلبية الرأي العام البريطاني. ولذلك كان يجب أن تسوق الحرب على النواب والرأي العام على أنها حرب خاطفة، لن يكون لها ضحايا كثيرون ولن تستغرق وقتا طويلا (1).
لهذا فقد كان لاستماتة (جون بلير) في الدفاع عن مزاعم (بوش) لتبرير الحرب على العراق، وحملة الأكاذيب التي قادها، أصداء واسعة على المستويين البريطاني والعالمي، حيث بدت بريطانيا وكأنها تابعة بالكامل لأمريكا، ووصف البعض (بلير) بأنه كلب بوش المدلل وغيرها من الأوصاف، بسبب تحمسه الكبير للحرب على العراق ووقاحته في افتراء الأكاذيب والدفاع عنها، ورحلاته المكوكية حول العالم لجلب التأييد لهذه الحرب. وهنا يجب أن نشير إلى أن (بلير) ليس ظاهره شاذة في التاريخ البريطاني، فقد سبقه إلى مثل هذا الأمر من الكذب المكشوف والفج والوقاحة في الدفاع عن الحرب كثير من الزعماء البريطانيين، أمثال: بلفور ولويد جورج وتشرشل وتاتشر وغيرهم، ولكن تشرشل كان أشدهم في هذا المجال. فقد كان تشرشل منذ فترة قصيرة بطلاً لا يبارى ولكن الشعوب تعيد فتح سيرة أبطالها وأحياناً ما تكشف أخطاء تاريخية قاتلة، وهنا ظهر المؤرخ الإنجليزي (ماكولي) وأكد أن ظهور ونستون تشرشل في المجتمع يعود لتهتك شقيقية ودعارتها، كما أنه أتصل بأكثر العاهرات فسقاً وكانت حياته دناءة ليس لها نظير وخسة ليس لها مثيل (2).
أما عن دوره في إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية، فتشير الحقائق إلى أن تشرشل لم يكن يريد سوى القضاء على القوة الألمانية الناشئة حتى لا تقوم لها قائمة من جديد وتنافس انجلترا وفرنسا في العربدة في أوروبا والعالم، فأخذ يفترى ويختلق عليها الأكاذيب حتى يهيج الشعب عليها فيطالب بحرب معها. ولهذا يعتبر مجرم الحرب تشرشل من أسوء شخصيات القرن الماضي بسبب امتداد شروره تشرشل إلى كل العالم وذلك بإشعاله للحرب العالمية الثانية. فقد كانت ألمانيا تحرر أراضيها المغتصبة، وظل تشرشل يحرض النواب في البرلمان الإنجليزي على الحرب
_________
(1) خطة غزو العراق - تأليف ميلان راي- ترجمة حسن الحسن ـ عرض/ إبراهيم غرايبة
(2) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص 36(2/317)
ضد ألمانيا ويقلب منطق الأمور، ويزعم أن ألمانيا هي المعتدية ثم دفعه أصحاب الاحتكارات إلى قمة السلطة في انجلترا ليقوم بجرائمه الكبرى أثناء الحرب العالمية (1).
يقول (وليم جاى كار) في كتابه (أحجار على رقعة الشطرنج): لا احد يستطيع أن ينكر أن (هتلر) حاول مره بعد مره الوصول لحل عادل لمشكلة (دانزج)، لكن المرابيين العالميين لم يسمحوا له بذلك وذلك بإيهام تشمبرلين بإنذارات هتلر المزورة وتحريك جيوشه وكان هذا الخداع والكذب قد جعل تشمبرلين ينصح متردداً الحكومة بإعلان الحرب على ألمانيا. فعلى مدى 6 شهور طلب هتلر من بولندا إعادة مدينة دانزج ومنطقة الممر التي تحتلها بولندا، ورفضت بولندا بإيحاء إنجليزي وقدم (هتلر) مبادرتي سلام، ولكن بولندا رفضت النقاش (2) ... فكان أن بدأ (هتلر) حرب التحرير، فأعلنت انجلترا وفرنسا الحرب على ألمانيا. يقول تشرشل: "ها نحن نعود مرغمين إلى حمل السلاح دفاعاً عن دولة صغيرة، انتهكت حرمتها وتعرضت لعدوان لغير سبب يدعو لذلك، وهكذا أصبح علينا أن نحارب دفاعاً عن كياننا وشرفنا ضد غضبة الشعب الألماني وقوته" (3). أليس هذا ما حدث عندما احتل العراق الكويت، حيث سارعت بريطانيا وأمريكا لنصرة الدولة الضعيفة الكويت، وأيضاً دفاعاً عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ولا يهم إن أدى ذلك إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين، كما فعل تشرشل الذي كان هو أول من بدأ بضرب المدنيين .. وكان يقول لا ينبغي لنا أن نقف مكتوفي الأيدي بسبب مبادئ حمقاء.
ومن الجدير بالذكر هنا أن بريطانيا استخدمت الأسلحة الكيماوية في عام 1919م عندما تدخلت قواتها في شمال روسيا ضد الثورة البلشيفية، محققة نجاحاً باهراً، حسب القيادة البريطانية. حيث كان رئيس الوزراء البريطاني تشرشل وزيراً للحرب في عام 1919م، وكان متحمساً بشدة لاستخدام الغاز السام ضد القبائل الهمجية من الأكراد والأفغان. وفوض تشرشل سلاح الجو الملكي في الشرق الأوسط
_________
(1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص 7
(2) اعتقد أن هذا الموقف يذكر بالمقدمات التي سبقت غزو الكويت.
(3) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص 49(2/318)
باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد العرب المتمردين، على سبيل التجربة، متجاهلاً اعتراضات مكتب الهند ومعتبراً إياها (غير مقبولة) ومستهجناً الحساسية المفرطة حول استخدام الغاز. وأوضح تشرشل أيضاً "أننا لا نستطيع تحت أية ظروف أن نقبل الاستسلام لعدم استخدامنا الأسلحة المتوفرة لدينا التي تستطيع أن تحقق لنا النصر الأكيد وتنهي أعمال الشغب المندلعة على الحدود". وأضاف كذلك، "أن الأسلحة الكيميائية ما هي إلا "تطبيق العلم الغربي على الحرب الحديثة" (1). ومن سخريات القدر أن بريطانيا وأمريكا حاربت العراق وتريد محاكمة قادته بدعوى استخدام أسلحة كيماوية ضد الأكراد، هذا في حين أن البريطانيين كانوا أول من استخدمها ضدهم، وهم الأولى بالمحاكمة. ويلقى كتاب (الإمبراطورية .. كيف صنعت بريطانيا العالم الحديث) الضوء على كيفية نشوء الإمبراطورية البريطانية؟ حيث يبين كيف أنها توسعت من خلال القرصنة وافتعال الحروب، وممارسة الإبادة العنصرية ضد الشعوب التي احتلتها (2).
التخطيط لضرب العراق
كان التحسن المطّرد للعلاقات العراقية العربية عاملاً محفزاً على تسريع مسار المواجهة والحرب معه، إذ إن آخر ما كانت تريده واشنطن هو أن يتصالح العرب مع النظام في العراق مهما كانت أرضية ذلك التصالح, حتى لو كان اعتذار بغداد للكويت عن غزو سنة 1990م، حيث أن مؤتمر قمة القاهرة في أكتوبر 2000م قطع خطوة مهمة في ذلك الطريق. كما أن أهمية العراق الدائمة تكمن في نفطه، فالعراق يحتوي على ثاني أكبر مخزون للنفط في العالم بعد السعودية, ويعتبر النفط العراقي من أنظف وأجود أنواع النفط. ولا يمكن للغرب أن يتسامح مع وجود نظام غير مؤيد له يسيطر على ذلك المخزون (3). وهنا يميل الكاتب والروائي البريطاني
_________
(1) الدولة المارقة - حكم القوة في الشؤون الدولية ـ نعوم تشومسكي - ترجمة محمود على عيسى ص39
(2) الإمبراطورية .. كيف صنعت بريطانيا العالم الحديث؟ ـ نيل فيرغسون - ط1 2003 - الناشر: بنغوين, لندن- كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت ـ 16/ 2/2004م
(3) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو كامبردج بوك ريفيوز(2/319)
(جون لوكاريه) إلى الاعتقاد أن العراق لا يشكل تهديدا لجيرانه، ولكن سوء حظه يقع في النفط الذي يتوافر في أراضيه بكميات هائلة مغرية للشركات الأميركية، وأما مسألة حقوق الإنسان فهي لا تحتاج إلى نقاش، فمعظم حلفاء أميركا المهمين يمارسون انتهاكات بشعة للحريات والديمقراطية وأبسط حقوق الإنسان (1).
ولكن أياً كان التحسن في علاقات بغداد مع جوارها الإقليمي, أو الاعتراف بأهمية نفطها, فإن أحداث 11 سبتمبر وفرت للولايات المتحدة الفرصة التاريخية، لتحاول الحسم مع العراق بالقوة العسكرية هذه المرة. لكن الخطط الأميركية للقيام بعمل عسكري ضد العراق سبقت قدوم إدارة (جورج بوش الابن) وتفجيرات سبتمبر 2001, وتعود إلى (رؤى) قدمها صقور أميركيون عام 1998م إلى الرئيس السابق بيل كلينتون تدعو إلى الإطاحة بصدام عسكرياً. وكان من سخريات القدر أن أولئك الصقور الذين كانوا خارج إدارة كلينتون, صاروا من أعلى القيادات في إدارة جورج بوش الابن, مثل دونالد رمسفيلد وريتشارد بيرل وبول وولفويتز. وهكذا فقد سارعت تلك المجموعة إلى تفعيل (المسار العراقي) البعيد وغير الموصول بكل قصة (الحرب ضد الإرهاب) أو بتنظيم القاعدة أو أسامة بن لادن. وتم الإعلان عن محور الشر الذي ضم بالإضافة إلى العراق إيران وكوريا الشمالية (2).
ولكن كيف تحول المشروع الإمبراطوري الأمريكي من الحرب على الإرهاب إلى الحرب على العراق؟ وكيف انتقلت بؤرة الحوادث في ما جرى يوم 11 سبتمبر 2001م من نيويورك إلى كابل، ثم من كابل إلى بغداد؟. يجيب الأستاذ (محمد حسنين هيكل) على ذلك بقوله: "لقد وجدت الإدارة الأمريكية بعد تدمير برجي مركز التجارة مباشرة أنها بحاجة إلى ضرب العراق، لأن الشعب الأمريكي برأي الرئيس بوش كان بحاجة إلى عمل كبير، وليس معركة واحدة، ولكن حرب ممتدة يشعر بها الشعب
_________
(1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ ـ جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجارـ الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي
(2) العراق .. تقرير من الداخل ـ المؤلف: ديليب هيرو كامبردج بوك ريفيوز(2/320)
الأميركي، ويتأكد أن الإدارة الأميركية تدافع عنه حتى أقاصي الأرض، واتخذ قرار الحرب على العراق بعد الأحداث بأيام قليلة" (1).
وفي الحقيقة فإن الحرب على العراق بدأت عام 1991م، ولم يكن الغزو عام 2003م إلا استكمالا لهذه الحرب، ولا علاقة له بالحرب على الإرهاب، وقد شنت الولايات المتحدة أربع حروب متتالية على العراق منذ العام 1991م، وهي حرب الخليج وتدمير البنية التحتية المدنية العراقية، وحرب الاستنزاف الطويلة والعملية الاستخبارية المتواصلة بالتعاون مع لجان التفتيش، وحرب العقوبات الجماعية الخطيرة، وأخيرا غزو العراق في 20 مارس 2003م، حيث شنت الولايات المتحدة في مساء 19 مارس 2003م هجوماً على العراق، وأسقطت في الساعات الثلاث الأولى لحربها على العراق 3000 قنبلة وصاروخ معلنة حرباً لاحتلال العراق استغرقت 20 يوماً وانتهت بسقوط بغداد في 9 أبريل (2).
ودخلت الولايات المتحدة فوراً في ترتيب الغنائم وإحصائها والسيطرة عليها، وأهمها بالطبع هو النفط، ثم السيطرة الإستراتيجية على المنطقة وتهديد جميع الأنظمة السياسية والدول, وربما يكون التحول في السلوك والمواقف العربية، والإعلان عن مشروعات لتغيير مناهج التعليم في الدول العربية من تجليات ونتائج الحالة الجديدة الناشئة بعد احتلال العراق. وقدرت خسائر الدول النفطية بسبب غزو العراق عام 2003 بعشرات المليارات من الدولارات، وتكبدت الدول المجاورة للعراق خسائر فادحة، وتدهورت أسعار النفط، وتضررت السياحة العربية والقطاعات الحليفة لها كالطيران والفنادق والمطاعم والصناعات الحرفية، وتراجعت بل انحسرت الاستثمارات الأجنبية الموجهة إلى البنى التحتية، وعمليات الخصخصة في الدول العربية. وتقدر الخسائر الملموسة بـ 400 مليون دولار يومياً، وقدرت الخسائر
_________
(1) الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق ـ محمد حسنين هيكل - دار الشروق- ط5 200 - عرض/ إبراهيم غرايبةـ الجزيرة نت ـ 12/ 2/2004م
(2) زلزال في أرض الشقاق العراق (1915ـ2015) ـ ـ كمال ديب ـ عرض/ إبراهيم غرايبة ـ المصدر: الجزيرة ـ19/ 2/2004م(2/321)
العربية حتى نهاية العام 2003 م بـ115 مليار دولار، وهذا المبلغ يساوي 15% من الناتج العربي العام البالغ 750 مليار دولار سنويا (1).
هكذا سوقت أمريكا حربها ضد العراق
اتخذ بوش وفريق اليمين المتطرف في مارس 2002م، قرار الحرب على العراق، ومنذ ذلك الوقت عمل ذلك الفريق على (التجميع القسري) لمبررات ومسوغات الحرب. حيث كان الهدف واضحاً لكن طريق الوصول إليه كان شائكاً, إذ أن الرأي العام العالمي لم يكن مقتنعاً بالحرب, ولهذا كان لابد من حشد كل الأسباب وتضخيمها والتمهيد للحرب. فمحاولات الربط المتعسف بين العراق والقاعدة على خلفية تفجيرات 11 سبتمبر, كان بسبب نجاحات الأمم المتحدة في نزع سلاح العراق, حيث كانت تلك النجاحات تثير بشكل غير مباشر المحافظين الجدد, والذين أرادوا قطع الطريق على فرق التفتيش الأممية التي كانت تقاريرها تشير إلى عدم بقاء أية قوة معتبرة لدى العراق, خاصة على صعيد أسلحة الدمار الشامل. ولهذا يرى (هيرو) أن الغزو (الأنغلو أميركي) للعراق ـ كما يسميه إذ يرفض قبول تعبير (التحالف) ـ يمثل ظاهرة فريدة في الحروب الحديثة، إذ إن ذلك الغزو أول حرب وقائية منذ قرن تقريباً، ولا يماثله إلا غزو الإمبراطورية النمساوية الهنغارية لصربيا عام 1914 م. ويمثل أيضاً أول حرب أميركية - بريطانية مستندة كلياً على معلومات مضللة، وكاذبة, ولا أساس لها من الصحة (2).
فأي دولة مهما بلغت قوتها لا يمكنها أن تدخل في صراع مسلح دون أن تتسلح بمساندة الشعب أولاً. ويجب على هذه الدولة أن تمعن في إقناع شعبها من خلال الأوساط الإعلامية، بأن هذه الحرب التي تخوضها, إنما هي من أجل العدل والشرف. وفي سبيل ذلك لا تدخر الدولة جهداً في إظهار الخصم بمظهر الشيطان الأكبر، كما وتحاول أن تقلل من أهمية الخسائر التي يمكن أن تقع بين جنودها, أو في صفوف
_________
(1) زلزال في أرض الشقاق العراق (1915ـ2015) ـ ـ كمال ديب ـ عرض/ إبراهيم غرايبة ـ المصدر: الجزيرة ـ19/ 2/2004م
(2) أسرار وأكاذيب .. عملية "تحرير العراق" وما بعدها ـ ديليب هيروـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ المصدر: الجزيرة(2/322)
السكان العزل من جهة الخصم. وإلى جانب ذلك لا تفتأ هذه الدولة توجيه الانتقادات الشديدة للخونة، واستخدام كافة الوسائل الممكنة لإنجاح حربها ضد عدوها، ومن هنا نرى أن الحرب الأخيرة ضد العراق كانت نموذجاً للأمريكيين يحتدا به على مستوى العالم، وذلك لمن أراد أن يبيع الحرب للشعب على الطريقة الأمريكية (1).
حملة أمريكا الإعلامية لتمرير الحرب
لم يكن أحد يتوهم فيما يخص النوايا الحقيقية لأميركا، فالمبررات الأميركية للدخول في الحرب لم توقن بها أغلبية الحكومات وشعوب العالم. ويكشف عن ذلك تصريح (بول ولفوفيتز) في مايو 2003 م لما أعلن أن الأميركيين اتفقوا على قضية أسلحة الدمار الشامل، لأنها السبب الوحيد الذي كان محل اتفاق الجميع. وهكذا فإن (ولفوفيتز) يعترف رسمياً بأن المبرر الرسمي, الذي على أساسه بررت الحرب على العراق منذ صيف 2002 م لم يكن إلا ذريعة، بل أكثر من ذلك أكذوبة تم التفوه بها لإقناع الرأي العام. وهنا يلاحظ منطق الكيل بمكيالين في سياسة واشنطن التي تختار الحرب على العراق, الذي خضع للتفتيش, وأكد خلوه من أسلحة الدمار الشامل، فيما تحبذ التفاوض مع كوريا الشمالية, التي صرحت علناً وبقوة بقدرتها النووية وطردت المفتشين الدوليين من ترابها وقامت أخيراً بإجراء تجربه نووية.
إن عدم عثور الأميركيين على الأسلحة, التي شنوا باسمها الحرب على العراق يكشف إنه تم تلفيق المعلومات, وإسكات كل الأصوات التي تقول العكس، بل تم التغاضي عن بعض التقارير الأميركية مثل تقرير وكالة الاستخبارات التابعة للبنتاغون في سبتمبر 2002 م الذي أكد عدم وجود معلومات موثوق بها تثبت وجود هذه الأسلحة في العراق، حيث دفع عجز الأميركيين عن العثور على هذه الأسلحة مجلة (تايم ماغزين) في يونيو 2003 م إلى تسمية أسلحة الدمار الشامل (العراقية) بـ (أسلحة الاختفاء الشامل). أما العلاقة بين القاعدة وعراق صدام حسين، فقد أكدت المخابرات المركزية الأميركية عدم وجود معلومات لديها حول هكذا علاقة. ولكن الإدارة الأمريكية أصرت على أن عناصر من القاعدة أقاموا في العراق. لكن هؤلاء
_________
(1) جريدة الخليج العدد 8949ـ19/ 11/2003(2/323)
أقاموا في حوالي خمسين بلداً بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا، دون أن يستدعي ذلك ضرورة قلب أنظمة كل هذه الدول.
ولكن الإطاحة بصدام كانت هدفا أميركيا سابقا على أحداث 11 سبتمبر، حيث إن (ريتشارد بيرل) تحدث عنه عام 1996م (لبنيامين نتنياهو) و (رمسفيلد) , وحث (كلينتون) عام 1998 م على جعل إزاحة صدام هدفا لسياسته الخارجية (1). ... فالعراق احتل لأنه لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل يدافع بها عن نفسه ويردع من تسول له نفسه مهاجمته ... وأمريكا لم تتجرأ على مهاجمة كوريا الشمالية التى أعلنت وأقسمت بأغلظ الأيمان أنها تمتلك أسلحة دمار شامل في الوقت الذى كان فيه العراقيون يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم لا يمتلكون تلك الأسلحة فكان الغزو للعراق و الحوار مع كوريا (2)!!!
تضليل الرأي العام
لم تكن الحرب على أفغانستان كافية، ولم تكن هي المقصودة، حيث نجحت الإدارة الأميركية مرة أخرى في إقامة (بنية تحتية) من الأكاذيب والاختلاقات, التي أُريد من ورائها تسويغ الحرب وتسويقها على مستوى الرأي العام الأميركي والغربي أو العالمي؟ up وفي كتابه (خطة غزو العراق) يناقش (ميلان راي) الدعاوى الأميركية والبريطانية في الحرب، ويقدم حقائق تواجه برأيه التشويه والكذب الرسمي الذي يتعرض له شعبا الولايات المتحدة وبريطانيا في سياق حملة علاقات عامة مذهلة, وهائلة لتسعير حمى الحرب على العراق. حيث أن (بوش) (وبلير) استغلا معاناة 11 سبتمبر, لتبرير اندفاعهما نحو الحرب وإسكات الأفواه عن توجيه الانتقادات لمريدي الحرب تحت غطاء الوطنية، وأصبح إظهار الخصم بصورة الشيطان وإثبات أن الحرب ضرورية لا مفر منها، جزء من المبادئ الأساسية التي يتبعها مروجي الحملات
_________
(1) فرنسا ضد الإمبراطوريةـ باسكال بونيفاس ـ الجزيرة نت ـ23/ 2/2004معرض/ كمبردج بوك ريفيوز
(2) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872(2/324)
الإعلامية الحربية (1). وقد لخصت المؤرخة البلجيكية (آن موريلي) القوانين الأساسية لإطلاق حملة حربية في عشر نقاط هي:
1 - نحن لا نريد الحرب. 2ـ المعسكر المعادي هو المسؤول الأول عن الحرب. 3ـ رئيس المعسكر المعادي هو بمثابة الشيطان 4ـ ما ندافع عنه يتعلق بشيء نبيل وليست لنا مصالح معينة 5ـ العدو يثير القلاقل والأعمال الوحشية وإذا اضطررنا إلى ارتكاب بعض التجاوزات فإنما سيكون ذلك لا إرادياً وعن غير قصد. 6 - العدو يستخدم أسلحة محظورة 7ـ خسائرنا قليلة جداً مقارنة مع الخسائر الفادحة في صفوف العدو. 8 - جميع المثقفين والفنانين يؤيدون الحرب. 9 - كل الذين يشككون في حملتنا هم خونة. 10 - قضيتنا تحمل طابعاً مقدساً.
والمتتبع للأحداث يلاحظ أن النقاط السابقة تم ترديدها بحذافيرها من قبل الإدارتين الأمريكية والبريطانية, وعلى رأسهما الرئيس (جورج بوش) (وطوني بلير) (2)، حيث ساهمت وسائل الإعلام التي تخلت عن وظيفتها الحقيقية, وتحولت إلي بوق دعائي للحكومة في عملية التضليل المنظمة للرأي العام. كما تكشفت المواقف تجاه الديمقراطية بوضوح تام في أثناء التعبئة للحرب، إذ صار من الضروري التعامل بطريقة أو بأخرى مع المعارضة الشعبية الكبيرة، وداخل ائتلاف أصحاب الإدارات، وكان الجمهور الأميركي تحت السيطرة بفعل الحملة الدعائية التي أطلقتها الحكومة. أما في بريطانيا فكان الجمهور منقسماً حول الحرب، ولكن الحكومة حافظت على وضعية الشريك الأصغر التي قبلتها على مضض بعد الحرب العالمية الثانية، والتصقت بها حتى وهي ترى القادة الأميركيين يستهينون بمخاوف بريطانيا في لحظات كان فيها مصير البلاد نفسه في مهب الريح. كانت أغلبية الأوروبيين العظمى تعارض الحرب، ولكن الإعلام كما الإدارة تجاهل الرأي العام، وقدمت تغطية
_________
(1) خطة غزو العراق تأليف: ميلان راي ترجمة: حسن الحسنـ عرض/ إبراهيم غرايبة
(2) جريدة الخليج العدد 8949ـ19/ 11/2003(2/325)
صحفية للموضوع مبعثرة وملتوية، وتصور المعارضة للحرب على أنها مجرد مشكلة تسويقية بالنسبة لواشنطن (1).
وحتى قوى المعارضة في هذه الدول لم تكن فعاله بالدرجة المطلوبة، فالمعارضة الرئيسة للحرب قادتها قوى شعبية وليست أحزاب. فالحزب الديمقراطي، مع بعض الاستثناءات، انضوى تحت جناح الرئيس في عرض جبان لوطنية زائفة. فعندما تلقي نظرة على الكونجرس تلمس دلائل اللوبي الصهيوني أو اليمين المسيحي أو التجمع العسكري - الصناعي ثلاث أقليات متطرفة بالغة النفوذ، يجمع بينها العداء للعالم العربي وقناعة خرقاء بأنهم من أنصار الملائكة. كما تحول الإعلام إلى مجرد جناح لبذل الجهود التي تتطلبها الحرب. وبتنا لا نسمع في أي من المحطات صوت المعارضة أو حتى ما شابه المعارضة. فوظفت كل محطة كبرى الجنرالات المتقاعدين وعملاء الاستخبارات المركزية الأمريكيين السابقين، وخبراء الإرهاب، ومحافظين حديثي العهد (مستشارين) يتقنون اللهجة المقززة, التي صممت كآلية موثوق بها، لينتهي بها الأمر إلى تأييد كل ما تقوم به الولايات المتحدة، من مجلس الأمن حتى المنطقة العربية. فنحن لا نقرأ أية مقالة معارضة ولا نسمع صوت أي من المعارضين في وسائل الإعلام الكبرى في هذا البلد ... وعندما تذكر هذه المؤسسات خرق العراق لسبعة عشر قراراً لمجلس الأمن كذريعة للحرب، لا نجدها تذكر قط القرارات الأربعة والستين التي ضربت بها إسرائيل عرض الحائط بدعم من الولايات المتحدة، ناهيك عن مآسي الشعب العراقي خلال السنوات الإثنتي عشر المنصرمة ... ويجعل هذا الواقع من التوبيخ الذي يوجهه بوش وأمثاله إلى الأمم المتحدة بضرورة تقيدها بقراراتها أمراً مضحكاً للغاية.
وهكذا نشهد نية متعمدة على خداع الشعب الأمريكي، فقد شوهت مصالحه وبترت من عقالها، وطمست الأغراض الحقيقية لحرب (بوش الابن) الخاصة طمساً يلامس حد الغطرسة. فزمرة المتغطرسين أمثال (وولفويتز) ومساعديه المدعوين للإدلاء بشهادتهم دعماً للحرب من نتائج وتكاليف أمام الكونجرس المخدر, في
_________
(1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـترجمة سامي الكعكي ـ بقلم/ إبراهيم غرايبة29/ 7/2004م(2/326)
أغلبيته، قد سمحوا لهؤلاء بملازمة الصمت حيال الكثير من التجاوزات ... فيخدعون الشعب الأمريكي أكثر مما هو عليه، هذا الشعب الذي لم ينشد وجودهم أساساً. ديمقراطية مطعونة ومخدوعة، ديمقراطية محتفى بها ولكن غارقة بالذل، وقد داست عليها مجموعة صغيرة من الرجال الذين بكل بساطة استولوا علي مقاليد الأمور في هذه الجمهورية (1).
صناعة الأكاذيب وحمايتها - لعبة الترويج والإسكات والتضليل (2)
في أمثالنا يقال: (حبل الكذب مقطوع). ويعرف دارسو التاريخ الذي لا يكتبه إلا المنتصرون أن حبل الكذب موصول .. بحلقات من الخديعة، والتزييف، والحكايا المتقنة تحت تلك المظلة الواسعة، تتشابك علاقة الصحافة بالأنظمة وأجهزة المخابرات. تتلاحم حيناً بالتواطؤ أو بالمصادفة , وتتلاطم في معظم الأحيان. الموساد أزعجه تقرير ألـ (بي بي سي) الشهير الذي طرح الأسئلة البديهية مباشرة، ببساطة وبوضوح. في زمن أصبحت فيه البديهيات تتسول من يطرحها. فضلأ عن أن (يسمعها) وسط كل هذا الصخب المتلاحق الإيقاع, الذي لا يدع فرصة حقيقية للنظر في (الأمر) بدلاً من مجرد النظر (إليه). والنظر في الأمر مطلوب لندرك، فنحسن (الوصف) وندقق (التعريف)، وهما كذلك ضروريان (للفهم) الذي هو مقدمة لابد منها "للتفسير.
ألـ (بي. بي. سي) طرحت الأسئلة البسيطة: من يملك حقاً أسلحة للدمار الشامل في الشرق الأوسط؟! الإسرائيليون ولا نعرف من أعطاهم الحق ـ احتجوا على الأسئلة معتبرين أنهم غير مطالبين، بل حتى غير معنيين بمناقشة الأجوبة. وإنما ككل (السادة) في مجتمع غير متوازن رفعوا عصا العقاب. فالـ (بي بي سي) باتت ممنوعة في الكيان الصهيوني. وشارون قاطع الإذاعة العريقة في زيارته للندن.
_________
(1) من يدير الدفة في الولايات المتحدة؟ إدوارد سعيد جريدة الخليج - 10ـ3ـ2003 ـ عدد 8695
(2) صناعة الأكاذيب وحمايتها - لعبة الترويج والإسكات والتضليل ـ بقلم/ ايمن الصياد - الخليج عدد 8845ـ 7 أغسطس 2003(2/327)
والاتهام المعلب (معاداة السامية) تم توزيعه على نطاق واسع (إرهاباً فكرياً) لكل ذي صلة ليخرس من يعرف، وليتجنب المشكلات من بوسعه ذلك.
ديفيد كيلي
أسئلة أخرى في موضوع آخر، ولكن أيضاً لمحطة (بي بي سي) , وأيضا بحثاً عن الحقيقة، غزلت خيوط دراما من نوع آخر، (ديفيد كيلي) ذو الشعر الأشيب والصوت الهادئ, وسنوات العمر الستين (مات) بالبساطة نفسها التي كان يجيب بها على أسئلة التحقيق الفظة, حول لماذا أخبر (اندرو جيليجان) صحافي المحطة بالحقيقة التي لا يحبها عادة السادة الأقوياء. مات؟! ديفيد كيلي بهدوء على زاوية الغابة القريبة من بيته بجرح في رسغه, وبجواره أقراص مهدئة ومشرط، كأنما الانتحار لا يصلح (درامياً) إلا في الهواء الطلق وظلال الزيزفون. تتفق الروايات أو تتشابه وتتقاطع الشكوك، أو تتناثر، ويبقى الثابت فقط أن الرجل مات، وإن لم يكن عقاباً، فبالضرورة نتيجة لبحث الصحافة عن الحقيقة، وأن أسمه سيضاف على الأرجح إلى قائمة الذين غيبهم الموت في سحابة داكنة من الظنون، والغموض. ليس بدءاً (بجون كنيدي) ولا نهاية (بديانا) الجميلة في النفق الباريسي الشهير.
هدد الإسرائيليون محطة (بي بي سي) ومات (ديفيد كيلي)، وقتل (طارق أيوب) مراسل الجزيرة عشية دخولهم بغداد .. فهل يعادي سادة العالم الجديد الصحافة؟ ليس دائماً ولكنهم ككل السادة، يكرهون أن يقول الآخرون غير ما يقولونه هم. فالحقيقة ككل شئ ملكهم, وينبغي أن تظل كذلك. وبغض النظر عن الواقع على الأرض، يبدو أنه في الزمن الأمريكي (أحادى القطب) تصبح الحقيقة أيضاً (أحادية الجانب). ويصبح على الجميع شاءوا أم أبوا أن يتعاملوا معها، حتى وإن كانت في واقعها (أكذوبة كبرى).
حماية الأكاذيب
حماية الأكاذيب في الزمن الأمريكي/ الإسرائيلي, اقتضت بحكم الخبرة والمهارة, إشهار كل أسلحة الإرهاب الفكري، قديمها (معاداة السامية) أو جديدها(2/328)
(التحريض) , أو (التعاطف مع الإرهاب) بغض النظر عن (تعريفه)، أو (تشجيع العمليات الإستشهادية) بغض النظر عن المعتقدات الدينية وحريتها، إن "دفع أموال الزكاة لجماعات إسلامية " قد تصبح "إرهابية" في المستقبل, أو "لأسر الشهداء" وبغض النظر عن أنها أحد مصارفها الشرعية. والحبل - كما يقولون - على الجرار. ففي كل الأحوال، ليس مهماً "توصيف التهمة" أو الاتفاق على أنها كذلك. كما أنه ليس مهماً - أيضا - تحديد من يملك صلاحية الاتهام. المهم هو إيجاد حالة من الإرهاب الفكري تصبح كفيلة بحماية منظومة القيم الجديدة في زمن يمسكون بعقاربه كما يتصورون. نتذكر كيف نجحوا يوماً في إسكات (روجيه جارودي)، لأنه تساءل؟! ونعرف أنه في وسط سحابات الأكاذيب تغيب الحقيقة. وتحت غيوم الأباطيل يكون طبيعياً أن ينزلق الجميع في أوحالها، فلا تبقى ثوابت ولا تستقر بديهيات.
نستعرض عناوين الصحف وتصريحات المسؤولين فنستخلص أنه في الزمن الأمريكي ومع بداية القرن الحادي والعشرين ما عاد شيء بديهياً، فالذين يقاومون المحتل، إن في الفالوجة أو خانيونس "إرهابيون" بعد نصف قرن من الأوسمة والنياشين, وأوصاف البطولة لأولئك الذين قاوموا المحتل النازي مثلاً في أوروبا. والأمريكيون المبشرون بالديمقراطية, والحداثة يقولون: " إنهم لن يسمحوا بأن يحكم الإسلاميون العراق "حتى وإن كان ذلك عن طريق انتخابات حرة". ومجلس العراقيين يعتبر أن يوم سقوط عاصمتهم هو يوم عيدهم الوطني الوحيد.
عشر سنوات من الكذب والتحدي
في 12 سبتمبر 2002 م وقف (جورج دبليو بوش) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مدشناً حملته التمهيدية لترويج الحرب، وليلقي تقريره الشهير الذي حمل عنواناً دعائياً: (عشر سنوات من الكذب والتحدي). يومها انصب التقرير كله على اتهام العراقيين (بالكذب). وكانت أدلة الاتهام الرئيسة كما يلي: العراق يقيم علاقات وثيقة مع القاعدة ... العراق يهدد أمن الولايات المتحدة والعالم .... العراق يملك أسلحة دمار شامل. اليوم بعد الحرب وآلاف الضحايا, وبلايين الدولات يتضح أن لا دليل أبداً على ذرائع الاتهام الثلاث. ويصبح السؤال: من الذي كان حقيقة يكذب؟!. نعرف أن السيف سبق العذل. ونعرف أن العراقيين الضحايا في الحرب وبدونها، والذين يعيشون الآن حالة من الزئبقية السياسية غير مسبوقة لم يعد يهمهم لماذا(2/329)
قامت الحرب؟. إلا أن السؤال يظل مشروعاً ثم مطلوباً عندما نسمع من قادة البنتاجون يقولون: إننا نستخلص الدروس من العراق لجعل احتلالنا لأى بلد آخر أكثر إتقاناً!!.
الكذبات العشر (1)
لم يوافق الأمريكيون على إعطاء مفتشي الأمم المتحدة مهلة للتأكد من وجود أسلحة الدمار الشامل. وقرروا أن يذهبوا بأنفسهم ليحضروا الدليل الذي لم يكن موجوداً أبدا. ولكنهم لم يجدوا حرجاً في أن يقولوا بعد أن وقعت الواقعة وبعد أن عادوا بلا دليل: لقد اعتمدنا إبراز موضوع خطر أسلحة الدمار الشامل لأنها تشكل الحجة الوحيدة التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع. (بول وولفويتز 30 مايو 2003 م). واليوم، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على إعلان الحرب المثير، من قبل الرئيس (بوش)، لم يعثر على أي أسلحة كيماوية، أو بيولوجية أو نووية، ولا على أية وثائق تدل على وجود تلك الأسلحة، أو أية إشارة إلى أنها قد نشرت في الميدان. وتقوم وسائل الإعلام السائدة، بعد سنيين من الجبن، بلفت الأنظار الآن بصورة متأخرة إلى المستوى المفرط من الخداع الإداري. وتبدو متعجبة إذ تجد فيما يتعلق بالعراق، أن إدارة بوش لا تلجأ إلى الكذب النفعي بين الحين والآخر، بل هي في حقيقة الأمر، لم تقل الحقيقة أبداً تقريباً. وليس ما نسوقه فيما يلي، إلا الأهم والأكثر إثارة للغيظ بين عشرات الأكاذيب الصريحة, التي أطلقها بوش وكبار موظفيه على مدى أكثر من سنة، ضمن ما يرقى إلى مرتبة الحملة المنظمة لإرهاب الجميع:
الكذبة الأولى: "تشير الأدلة إلى أن العراق يقوم حالياً بإعادة بناء برنامج أسلحته النووية, وقد يحاول شراء أنابيب ألومنيوم شديدة القوة ومعدات أخرى تلزم في صنع أجهزة الطرد المركزي الغازية، التي تستخدم في تخصيب يورانيوم الأسلحة النووية". (الرئيس بوش، 7اكتوبر 2002 م، سينسيناتي).
_________
(1) الكذبات العشر - بقلم كريستوفر شير -مدير تحرير موقع "الترنيت دوت اورج" والنص منشور في هذا الموقع ـ جريدة الخليج ـ 6 ـ7ـ2003 ـ عدد 8813(2/330)
الحقيقة: هذه الحكاية، التي تم تسريبها إلى (جوديت ميللر)، التي سارعت إلى نشرها في صحيفة (نيويورك تايمز) تبين أنها هراء محض. ويقول المسؤولون في وزارة الطاقة، الذين يقومون بمراقبة المصانع النووية، أن الأنابيب لا يمكن استخدامها لتخصيب اليورانيوم. وقد صرح أحد محللي المعلومات الاستخبارية، الذي كان عضواً في فريق التحقيق في موضوع الأنابيب، لصحيفة (ذي نيو ريببليك)، بقوله غاضباً: "لدينا مسؤولون أمريكيون كبار مثل (كوندوليزا رايس)، يقولون: إن الإستخدام الوحيد لهذا الألومنيوم هو أجهزة الطرد المركزي لليورانيوم. وقد قالت ذلك على شاشة التلفزيون. وذلك كذب محض.
الكذبة الثانية: "علمت الحكومة البريطانية أن (صدام حسين) سعى مؤخراً للحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم في إفريقيا". (الرئيس بوش، 28 يناير في خطاب حال الاتحاد).
الحقيقة: كانت هذه الفرية مبنية على وثيقة كان البيت الأبيض يعلم أنها زائفة بفضل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وكانت الوثيقة التي بيعت إلى المخابرات الإيطالية من قبل أحد النصابين، تحمل توقيع موظف رسمي كان قد ترك منصبه قبل عشر سنوات، وتشهد بقانون لم يعد معمولاً به. وقد استشاط السفير السابق الذي أرسلته وكالة المخابرات الأمريكية للتحقيق من صحة الحكاية غضباً، وقال لصحيفة (ذي نيو ريببلك) دون أن يصرح باسمه: إنهم يعلمون أن حكاية النيجر كانت كذبة صريحة .. وكان البيت الأبيض غير مقتنع بشأن أنابيب الألومنيوم، وقد أضاف ذلك لدعم قضيته.
الكذبة الثالثة: "نحن نعتقد بأن صدام حسين، قد أعاد بناء أسلحته النووية حقاً". (ديك تشيني نائب الرئيس في 16 مارس 2003 م، ضمن لقاء مع برنامج لقاء مع الصحافة).
الحقيقة: ليس لهذا التصريح، ولم يكن له، أي أساس من الصحة. فلم تظهر تقارير المخابرات المركزية الأمريكية خلال سنة 2002 م أي دليل على وجود برنامج أسلحة نووية عراقية.
الكذبة الرابعة: "تتوافر لدى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تقارير دامغة حول اتصالات على مستوى رفيع بين العراق وتنظيم القاعدة، تعود إلى عقد مضى(2/331)
من الزمن". (مدير المخابرات المركزية الأمريكية، (جورج تنيت)، ضمن تصريح مكتوب أدلى به في 7 أكتوبر 2002 م وتردد صداه ضمن الخطاب الذي ألقاه الرئيس بوش ذلك المساء).
الحقيقة: كانت وكالات المخابرات تعلم بوجود اتصالات متقطعة بين صدام وحركة القاعدة في أوائل التسعينات، لكنها لم تعثر على دليل على استمرار العلاقة. وبكلام آخر، وبلغة مضطربة، أدار (تينت وبوش) موقف المخابرات 180 درجة لتقول عكس ما كان قد قيل تماماً.
الكذبة الخامسة: "علمنا أن العراق قد درب أعضاء حركة القاعدة على صنع القنابل والسموم والغازات الفتاكة، وقد يتيح التحالف مع الإرهابيين للنظام العراقي أن يهاجم أمريكا دون أن يترك أي بصمات". (الرئيس بوش، 7 أكتوبر)
الحقيقة: لم يقم أي دليل على ذلك، ولم يتسرب أي دليل. وقد قال: (كولن باول) في الأمم المتحدة إن هذا التدريب المزعوم قد حدث في معسكر في شمال العراق. لكن ما ينبغي أن يحرجه أشد الحرج، أن المنطقة التي أشار إليها، كما كشف مؤخراً، كانت تقع خارج سيطرة العراق، وأن طائرات التحالف كانت تقوم بدوريات فوقها.
الكذبة السادسة: "اكتشفنا كذلك من خلال أجهزة المخابرات, أن العراق لديه أسطول متعاظم من العربات الجوية المأهولة, وغير المأهولة التي يمكن أن تستخدم لنشر الأسلحة الكيماوية والبيولوجية عبر مناطق واسعة. ونحن معنيون بأن العراق يقوم باستكشاف طرق لاستخدام هذه العربات الجوية غير المأهولة في مهمات تستهدف الولايات المتحدة". (الرئيس بوش، 7 أكتوبر/ تشرين الأول).
الحقيقة: لا تستطيع الطائرات من دون طيار المزعومة، والتي تسمى (اليعسوب)، أن تطير أكثر من 300 ميل، ويبعد العراق عن السواحل الأمريكية نحو 6000 ميل. يضاف إلى ذلك، أن برنامج العراق لبناء طائرات اليعسوب، لم يكن أكثر تقدماً من الطراز الأمريكي المتوسط. ثم، أليس استعمال تعبير (عربات جوية مأهولة) مجرد طريقة مخيفة للحديث عن (طيارة)؟
الكذبة السابعة: "رأينا معلومات استخبارية على مدى شهور عديدة تقول: إنهم يملكون أسلحة كيماوية وبيولوجية، وأنهم قد نشروها، وأنهم مسلحون، وأن إجراءات(2/332)
القيادة والسيطرة قد اتخذت في واحدة من الحالات على الأقل". (الرئيس بوش، 8 فبراير 2003 ضمن خطاب في الإذاعة الوطنية).
الحقيقة: على الرغم من البحث الشامل على مستوى الدولة الذي أجرته القوات الأمريكية والبريطانية، لا توجد علامات، أو آثار أو أمثلة على نشر الأسلحة الكيماوية في الميدان، أو في أي مكان آخر خلال الحرب.
الكذبة الثامنة: "إن تقديراتنا المتحفظة هي أن العراق اليوم يملك مخزوناً يتراوح بين 100 و 500 طن من مواد الأسلحة الكيماوية. وهذا يكفي ليملأ ألف صاروخ ميداني". (وزير الخارجية كولن بول، 5 فبراير 2003 م، ضمن ملاحظات مقدمة إلى مجلس الأمن).
الحقيقة: بعيداً عن الحقيقة الساطعة التي تقول: إنه لم يعثر على نقطة واحدة من هذا المخزون الهائل، كما ذكر آنفاً، فإن معلوماتنا الاستخبارية الخاصة تبين أن هذه المخزونات إذا كانت موجودة في السابق قد تجاوزت مدة صلاحيتها، ومن ثم أصبحت لا تنفع في إعداد الأسلحة.
الكذبة التاسعة: "نحن نعلم أين توجد أسلحة الدمار الشامل العراقية. إنها في المنطقة الواقعة حول تكريت وبغداد، وفي الشرق والغرب والجنوب والشمال بعض الشيء". (وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد 30 مارس 2003 م).
الحقيقة: غني عن القول، إنه لم يعثر على مثل هذه الأسلحة، لا في الشرق، ولا في الجنوب أو الشمال، بعض الشيء أو غيره.
الكذبة العاشرة: "نعم، لقد عثرنا على مختبر بيولوجي في العراق محظور من قبل الأمم المتحدة". (الرئيس بوش ضمن تعليقات أدلى بها في بولندا، ونشرت على نطاق دولي في الأول من يونيو 2003 م).
الحقيقة: كانت تلك إشارة إلى اكتشاف اثنين من العربات المقطورة التي ادعت المخابرات المركزية الأمريكية احتمال أن تكونا مختبرين للأسلحة البيولوجية متحركين. لكن الخبراء البريطانيين والأمريكيين بما فيهم جناح الاستخبارات في وزارة الخارجية أعلنوا منذئذ أن ذلك غير صحيح. وبناء على ما قاله الخبراء البريطانيون، وأثار الضيق والإحراج لدى رئيس الوزراء (توني بلير)، فإن المقطورتين(2/333)
كانتا ما قاله العراق عنهما تماماً، وهو أنهما تستعملان لملء بالونات تحمل أدوات لقياس حالة الطقس، وأنه اشتراهما من البريطانيين أنفسهم.
وبعد ان عرض (كريستوفر شير) للكذبات العشر يقول: هكذا، بعد انقضاء سنوات على الحرب، ها نحن الآن نعود إلى النقطة التي بدأنا منها بالكثير من الخطاب والبلاغة، ودون دليل على الإطلاق يثبت هذا الخطر الداهم، والذي قتل (اوجيه سميت) في سبيل درئه، ولكن إدارة بوش تندفع الآن لتلقى تبعة أكاذيبها على عاتق المعلومات الاستخبارية الخاطئة، في حين أن المعلومات الاستخبارية لم يكن بها أى بأس، بل يكمن الخطأ في سوء استخدامها. وبدلاً من الاعتذار عن قيادتنا نحو حرب استباقية قائمة على (معلومات استخبارية) مشوهة بشكل مستحيل، أو محرفة بطريقة لا تعرف الخجل، أقول ـ بدلاً من الاعتذار أو تقديم الاستقالة ـ ها هو مجنوننا الخبيث القابع في البيت الابيض- يلعب الجولف منشرحاً، بينما يعد بأن (يطارد القتلة الحقيقيين) ويقسم (بوش الابن) على البحث عن المدى الحقيقي لبرنامج أسلحة (صدام حسين)، مهما استغرق ذلك من وقت" (1).
أكاذيب (باول) وتوني بلير وازنار
حسب رواية (الهيرالدتريبيون) في 5 حزيران 2003 م، كانت شكوك لدى (باول) في مصداقية الخطاب الذي ألقاه أمام مجلس الأمن قبل أسابيع من الحرب. ولذا حرص على أن يجلس (جورج تنت) مدير سي آي إيه خلفه ليشاركه مسؤولية ما يقول. وربما حرص على ذلك مخططو حملة الترويج الأمريكية ليقولوا لأولئك المحدقين في شاشات العرض الضخمة والمنبهرين بتقنيات العرض المتفوقة، أن وراء كل ذلك إمكانيات الاستخبارات الأقوى في العالم غير المشكوك فيها. أيا كان الأمر. وبالاعتذار (لبيل جيتس)، فقد ثبت أن تقنياته استخدمت في ترويج أكاذيب إضافية. فالشاحنات التي قالوا أنها مختبرات بيولوجية متنقلة لم يعثر عليها أبداً الجنرال (دايتون) الذي ذهب إلى هناك على رأس فرقة من 1400 مفتشاً. والمواقع
_________
(1) الكذبات العشر - بقلم كريستوفر شير - مدير تحرير موقع "الترنيت دوت اورج"ـ جريدة الخليج ـ 6ـ7ـ2003 ـ عدد 8813(2/334)
التي قيل أنها مصدر للخطر (الكيماوي) على العالم أجمع اكتشفوا بعد الحرب أنها خاوية إلا من بعض الحطام والبراميل الفارغة. ولم تكن محاضرة (كولن باول) ذات الوسائط المتعددة أمام مجلس الأمن وأمام الملايين في العالم اجمع، متفردة في نوعها، فما أن بدأ عام 2003 م واقتربت ساعة الحقيقة حسب توقيت (بوش)، حتى كانت الآلة الإعلامية قد دارت بلا هوادة مستمدة وقودها من تصريحات رسمية صارخة لبوش وإدارته وحلفائه.
وفي 24 سبتمبر 2002 م لم يتردد (توني بلير) أن يعلن أمام النواب في مجلس العموم البريطاني, أن العراق يملك أسلحة كيماوية وبيولوجية، وأن في إمكانه نشر صواريخه خلال 45 دقيقة. وفي 5 فبراير 2003 م كانت لهجة (ماريا ازنار) رئيس الوزراء الأسباني قاطعة, حين أكد أمام برلمانه: "نعلم جميعاً أن (صدام حسين) يملك أسلحة دمار شامل، كما نعلم جميعاً أن لديه أسلحة كيماوية". ولم يكن غريباً وسط طبول الحرب التي كانت دقاتها تعالت فعلاً أن تخرج أوروبا الجديدة مخدوعة بالضجيج الدعائي، أو متملقة باعتبارات السياسة، ببيان الثمانية الشهير في 30 يناير 2003م، الذي يختصر الحملة في الشعار الذي ردده الجميع: (أسلحة الدمار الشامل العراقية تشكل تهديداً للأمن العام).
تاريخ الدولة الأمريكية العريق مع الأكاذيب والتضليل الإعلامي
(انياسيور رامونا) محرر الـ (لوموند ديبلوماتيك) استعرض في دراسة موثقة ومطولة, تاريخ الدولة الأمريكية العريق مع الأكاذيب والتضليل الإعلامي، مصدراً دراسته مقولة (جورج واشنطن) "إني افضل الموت على أن أنطق بكلام غير دقيق". ولكن يبدو أن زعماء الدولة الأمريكية لم يأخذوا بهذه النصيحة، وفضلوا عليها نصيحة (لينين) مؤسس الاتحاد السوفيتي المعروفة: "اكذب واكذب حتى يصدقك الناس"، غافلين عن المثل العربي الذي يقول: "إن حبل الكذب قصير، وأن للحقائق قوة ذاتية تمنحها القدرة على اجتياز حاجز الأكاذيب والإعلان عن نفسها في نهاية الأمر" (1).
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص191(2/335)
ويحكي (رامونا) القصة المثيرة للتضليل الإعلامي، وكيفية نسج (الأكذوبة الكبرى) التي ارتبطت بحادث تدمير البارجة الأمريكية (ماين) في خليج هافانا عام 1898 م، وهو ما اتخذ ذريعة كي تدخل أمريكا الحرب ضد أسبانيا, ولضم كوبا, وبورتريكو, والفلبين, وجزيرة جوام. وما حدث، أنه في 15 فبراير من ذلك العام تعرضت (ماين) لانفجار عنيف فغرقت البارجة في مرفأ هافانا وعليها 260 رجلاً. وسرعان ما اتهمت الصحافة الأمريكية (المدعومة من رجال أعمال لهم استثمارات كبيرة في كوبا ويحلمون بطرد الأسبان منها) بأنهم دسوا لغماً تحت هيكل السفينة منددة ببربريتهم ومعسكرات الموت لديهم, وحتى بممارساتهم (كأكلة لحوم البشر) , وفي جو من الحماسة والهوس ومطالبة الصحافة بالثأر من الأسبان أعلن الرئيس (ويلم ماكمنلي) الحرب. وبعد ثلاثة عشر عاماً كاملة استنتجت لجنة تحقيق مستقلة أن وراء تدمير البارجة انفجاراً عرضياً وقع في حجرة المحركات. فالكذب الذي هو قديم ـ قدم البشرية ذاتها ـ يصبح خطيراً إذاً، عندما يكون معجوناً بأهواء الساسة الذين يملكون قرار الحرب. وبالأخص عندما يجلس هؤلاء على مقعد السيد الأوحد للعالم الجديد (1).
أمريكا تخفي خسائرها في العراق
لم يقف مسلسل أكاذيب الإدارة الأمريكية عند حد فبركة مسوغات الحرب على العراق، بل امتد إلى الحرب نفسها والمعلومات المضللة والكاذبة, التي كانت تذيعها على وسائل الإعلام، ولكن لما بدأت وسائل الإعلام تكشف هذه الأكاذيب والتضليل المتعمد، شنت الإدارة الأمريكية هجوماً كاسحاً على وسائل الإعلام والصحفيين وكل صوت حر سعى إلى قول الحقيقة، بل وصل الحد إلى اغتيال صحفيين وقصف مقراتهم. وهذا ليس غريباً من إدارة تتصرف كعصابة سطو مسلح، لا تتوانى عن استخدام أحط الوسائل وأحقرها للوصول إلى أهدافها الدنيئة. بل إن مسلسل الأكاذيب والتضليل والعنصرية وصل إلي أبعد حد من خلال إخفاء الحجم الحقيقي
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص191(2/336)
للخسائر الأمريكية في العراق، واستخدام المرتزقة وحاملي (الغرين كارت) والسود كوقود للحرب لتضليل الرأي العام.
المرتزقة - قوات (غرين كارد)
كشفت مصادر في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) النقاب عن أن نحو 40 ألف جندي من قواتها العاملة في العراق, إنما هم من المقيمين في الولايات المتحدة, ويحملون ألـ (غرين كارد) وليسوا من المواطنين الأميركيين. حيث يأمل هؤلاء الجنود ـ ومعظمهم من أصول لاتينيةـ عبر مشاركتهم في الحرب بتسريع إجراءات حصولهم على الجنسية. http://www.aljazeera.net/news/america/2003/9/ - TOP
وقد دفعت هذه الأنباء النائب البريطاني (جورج غالاوي) المعروف بانتقاداته اللاذعة لغزو العراق واحتلاله لمهاجمة الولايات المتحدة, واتهامها باستخدام ما أسماها (قوات غرين كارد) , لتكون وقود حرب، حيث أشار (غالاوي) إلى أن استخدام الأقليات وغير المواطنين والطبقات السفلى بالمجتمع، جزء من تقاليد الولايات المتحدة ليكونوا في الخطوط الأمامية للجبهة بالحروب الأجنبية, التي تخوضها لضمان جزء من تقليد تستخدمه منذ فترة طويلة. وأوضح النائب البريطاني أنها سمة للحكومة, التي تستعمل (المهمشين) لخوض معركتها، حيث أن نسبة السود في الجيش كانت تشكل 40%, بينما هم يشكلون ربع هذا العدد طبقا لكشوفات عدد سكان أميركا. كما أن الطبقات السفلى أصبحت تزداد الآن، وأصبح اللاتينيون أكثر من السود، وربما هذا يفسر حقيقة أن معظم القتلى في العراق يحملون أسماء لاتينية. وقال: "إنه شارك في برنامج إذاعي أميركي حيث كرر المتصلون بالبرنامج أقوالا تشير إلى أن السود واللاتينيين وقود حرب يأتي من خلفهم المتطوعون".
ويعتمد الجيش الأميركي على المتطوعين الذين يعود لهم الفضل في تحرير أبناء وبنات الذين يملكون الثروة, والمال, والنفوذ من الخدمة العسكرية. ويدافع البنتاغون عن هذا بقوله إنه لا يوجد قرار رسمي في الموضوع، لذا فإنه لا تمارس أي ضغوط على أي شخص للانضمام إلى الجيش. وحتى لو كان هناك قرار رسمي فإن صناع القرار يبقون بعيداً عن المشاكل، حسب (غالاوي) الذي قال: "إن أبناء البيض(2/337)
من حكام أميركا بمن فيهم (جورج بوش) دائماً يجدون الطرق للالتفاف على القرارات" (1). وهنا يرى الكاتب (اناتول لييفين) أن النقص في الحماس لدى الجماهير الأمريكية من فكرة القيام بتضحيات مهمة من أجل الإمبراطورية ليس جديداً، حيث كانت الإمبراطوريات السابقة تجد وسائل أخرى للتعويض: إلى حدود الحرب العالمية الأولى كانت الإمبراطورية البريطانية تعتمد في الحفاظ على هيبتها بكلفة بخسة (في قسم كبير بفضل السكان المحليين) وهو ما يذكِّرنا بحالة الأمريكيين في أفغانستان بعد 2001 م، وهي أيضا حالة العديد من الإمبراطوريات الأخرى، حيث أن "الحكومات الأوروبية الذكية كلما كان ذلك ممكناً كانت تلتجئ إلى متطوعين وإلى مرتزقة أجانب وليس إلى الجنود للقيام بحروب كولونيالية" (2).
دول مرتزقة
لم تكتفِ أمريكيا بتجنيد جنود مرتزقة في جيشها، بل إنها تسعى إلى تحويل جيوش الدول الأخرى إلى جيوش من المرتزقة تحت مسميات (الحلفاء والقوات متعددة الجنسيات). وإذا كانت أمريكا تستخدم الاغراءات لتجنيد الجنود المرتزقة، فهي تفعل نفس الشيء مع الدول المرتزقة من خلال عقدها صفقات مشبوهة مع زعماء هذه الدول وقادتها، سواء عن طريق الرشاوى المالية, أو الضغوط السياسية والاقتصادية والمساعدات المالية (3)، فأمريكا تريد خوض الحروب وكسبها بدون فقدان أي جندي من مواطنيها الأصليين (الانجلوسكسون) , ولهذا تستخدم الزنوج والمرتزقة في جيشها من ناحية، ومن ناحية أخرى تريد من الغير خوض الحروب عنها وتحت رايتها. ولهذا حاولت أمريكا جاهدة إقناع كثير من الدول للمشاركة في حربها على العراق كما حدث في حربها الأولى عام 1990م، ولكن أغلب دول العالم رفضت ذلك إلا بعض دول ما أسمتها أمريكا بـ (أوروبا الجديدة) وبعض الدول الكرتونية من هنا
_________
(1) الجزيرة نت ـ الاثنين 1/ 9/2003م
(2) القومية الأمريكية الجديدة .. ـ اناتول لييفين ـ عرض بشير البكر ـ جريدة الخليج ـ 30ـ6ـ2005 ـ العدد 9538
(3) انظر الامبراطورية الاستباقية (الدليل إلى مملكة بوش) - سول لاند - تقديم جورجمككفرن- تعريب ليلى النابلسي-ص 204 - الحوار الثقافي- ط1 2005(2/338)
وهناك، بالإضافة إلى بعض عملائها الدائمين الذين قدموا خدمات اكثر من إرسال القوات، والذين كانوا يتحركون ويصرحون وفق سيناريوهات الإدارة الأمريكية. ونتيجة لإحجام دول رئيسة محترمة عن المشاركة في هذه الحرب، أجرت الولايات المتحدة مشاورات في مجلس الأمن, لاستقدام قوات متعددة الجنسيات إلى العراق. وتعكس الخطوة الأميركية أزمة حقيقية تواجهها إدارة بوش في ضوء خسائرها البشرية المتصاعدة في العراق والتي ألجأتها إلى عرض جزء من الكعكة في العراق على من كانت تريد معاقبته على معارضته الحرب (1).
البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق
لا يزال السجال بشأن دور الإعلام الغربي قبل وخلال وبعد الحرب على العراق على أشده. وربما جاز القول إن النقد الراهن لهذا الإعلام, الصادر عن مؤسسات ومؤلفين ومختصين غربيين, هو من أشد ما تعرض له هذا الإعلام خلال نصف القرن الأخير. ويأتي هذا النقد بعد التطور الهائل في وسائل الإعلام الغربي واختراقها لأسقف عالية, تسنمها موقع السلطة الرابعة في الديمقراطيات الحديثة، حيث هي الراصد والمراقب اليومي عن كثب لأداء السلطات الثلاث الأخرى. لكن هذا كله في وقت السلم، أما في وقت الحرب فإن هذا الإعلام يتردى ـ كما يبدو لمعظم المساهمين في كتاب (اكذب علي) ـ ليصبح مجرد ماكينة من الكذب تعيد إنتاج الخطاب الرسمي وتحتفي به. فهذا الكتاب يشكل صفعة قوية لأداء الإعلام الأميركي والبريطاني في الحرب على العراق, وهو وثيقة إدانة حقيقية. ويبدو أنه كلما بدأت المؤسسة الرسمية في الولايات المتحدة وبريطانيا تأمل بإغلاق ملف مبررات الحرب على العراق, تفاجأ بضربة جديدة تعيد فتح الملف من الصفحة الأولى, وهذا الكتاب ليس سوى إحداها.
الإعلام يؤيد التوسع الإمبريالي: وقف الكاتب البريطاني (جون بلجر) ضد الحرب دون هوادة, ويراها غطرسة إمبريالية أميركية تعكس عجرفة القوة, ولا علاقة لها بأي مسوغ من المسوغات التي سيقت لتبريرها. وهو يلحظ كيف انجرف الإعلام
_________
(1) الجزيرة نت ـ ماجد ابو دياك الأحد 18/ 7/1424هـ الموافق 14/ 9/2003م(2/339)
وراء الشهوة الإمبريالية الإمبراطورية؟ , وعمل على جعل ما هو خارج عن نطاق التصور وكأنه أمر عادي، أمر عادي أن يدمر بلد وتنتهك سيادته, ويحتل دون قرار من مجلس الأمن, ويتم ذلك كله ضد رأي الغالبية الكاسحة من العالم. في خضم ذلك التمدد الإمبريالي يغدو تصنيع الرأي العام في البلدين, وفي العالم, وتهيئته للحرب, وتسويق مسوغاتها أمراً حيوياً. ولتحقيقه كانت المؤسسة الرسمية قد عمدت إلى ممارسة الكذب الصريح, وتشويه الحقائق عن طريق تضخيم صغيرها, وإغفال كبيرها, وأحياناً تخليق جديدها من الصفر. والتساؤل الذي يتوقف عنده (بلجر) وغيره كثيرون, هو إلى أي مدى يمكن للرأي العام في الغرب أن يمرر عمليات التسويغ تلك, ويقبل إغلاق ملف الحرب بالسرعة التي يأملها السياسيون (1).
الإعلام وإستراتيجية الحرب: في معمعمة عملية الحرب, احتل الإعلام موقع القلب, وكان أن نظر له باعتباره رديفا إستراتيجياً لا يمكن التعامل معه بخفة. لم يتم الاعتراف بمركزيته فقط في دعم المجهود الحربي, بل اعتبر جزءاً لا يتجزأ وأساسياً من ذلك المجهود. لذلك فإن محاكمات أداء ذلك الإعلام التي أعقبت قيام الحرب وانتهاء مرحلتها العسكرية المباشرة, توازت ـ ولا تزال تتوازى ـ مع المحاكمات التي تقام لإعادة النظر والتشكيك في الحرب نفسها, وبناء على الاعتبارات والذرائع التي شنت بسببها. لكن الانطباعات العامة التي ترددت في معظم بقاع العالم كانت تحوم حول اتهام مركزي موجه إلى الإعلام الغربي, أو بدقة أكثر الإعلام الأميركي والبريطاني والمتلفز منه على وجه التحديد, مفاده أن هذا الإعلام انحاز بتياراته الرئيسة إلى منطق الحرب, ولم يسأل القائمين عليها كما هي أصل مهمته: (المساءلة والتشكيك). بل عوض ذلك ضحى بالمهنية والموضوعية, داس على كل المدارس الإعلامية التي كان ريادياً في تكريسها في حقل الإعلام, وتمترس في خندق الحكومات.
كسر الاحتكار الإعلامي: في التغطية الإعلامية للحرب واستكمالا لفرادة تلك الحرب, اخترع البنتاغون فكرة (الصحفيين المرافقين) , الذي رافقوا وحدات الجيش,
_________
(1) اكذب عليّ: البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق تحرير: ديفد ميلر-الناشر: فيرسو, لندن-ط1 2004 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز 4/ 3/2004م الجزيرة نت(2/340)
وكانوا محكومين بتغطية تمليها عليهم الضرورات العسكرية وإستراتيجيتها، وقد بلغ عددهم أكثر من 700 صحفي. ونتيجة لذلك فإن الرأي العام الأميركي والبريطاني رأى في البداية صورة زاهية عن الحرب وكأنها (ألعاب نارية). رأى حربا نظيفة ليس فيها قتلى, إذ كانت الصور الموحشة للحرب يتم التخلص منها من قبل الرقابة العسكرية, وهكذا لم ينقل الإعلام الأنغلوأميركي حقيقة الإصابات بين المدنيين والدمار الذي ألحق بالعراق. وفي المقابل كان المشاهدون في بقية دول العالم يرون صورة أخرى للحرب, فيها معاناة العراقيين وموتهم, والإهانات التي تعرضوا لها، وهي الصورة التي كانت الفضائيات العربية تنقلها إليهم. فقنوات الإعلام العربي ـ وخاصة قناة الجزيرة ـ تمكنت من كسر الاحتكار الغربي لتغطية الحرب, بخلاف ما حصل في حرب الخليج الأولى 1991م, عندما كانت CNN تنقل حصرياً صور القصف الجوي متوائمة مع الإستراتيجية الأميركية. فهنا, انتشرت تغطيات الجزيرة, وكانت تعتمد في تلفازات القارات جميعاً, من أميركا اللاتينية وأفريقيا إلى آسيا والصين. ولهذا فقد اعتبرت تلك التغطيات معادية وتصب ضد الحرب, وكانت النتيجة استهداف الجزيرة وضرب مكتبها في بغداد. لكن بالمجمل, فإنه ولأول مرة في تاريخ الحروب الحديثة, تمكن الناس العاديون في معظم بقاع العالم من متابعة وحشية الحرب على ما هي عليه من دون رتوش, وكما تحدث على الأرض. ولكن ذلك تم على حساب الصحفيين, حيث أن عدد الصحفيين الذين قتلوا في هذه الحرب فاق أي حرب أخرى, وهو عدد غير مسبوق, وهذا يدلل على أمر هام هو حجم الكذب الذي كان يراد له أن يمر دون انكشاف, حتى تظل أسطوانة (اكذب علي) هي السائدة (1).
الإعلام والحرب النفسية
في تحليل له تناول (مارك كيرتز) بشكل مركز مسألة تعزيز دور الإعلام الغربي في الحرب كآلة ضرورية لتطبيق الحرب النفسية, أي أنه تخلى تماماً عن دور المعلم الذي يكون همه اللحاق بالمعلومة والخبر والبحث عن الحقيقة. وهنا يرصد
_________
(1) أسرار وأكاذيب ... عملية "تحرير العراق" وما بعدها ـ ديليب هيروـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ المصدر: الجزيرة(2/341)
(كيرتز) كيف كانت التلفازات الغربية تنقل أخبار انتصارات التحالف في الأيام الأولى, والانهيارات العراقية المتتالية رغم أنها لم تكن حقيقية, وكل ذلك بهدف تحطيم معنويات الخصم. وللإشارة إلى الأهمية الفائقة لدور الإعلام والدعاية, فإن نظرة واحدة إلى ميزانيات الدبلوماسية العامة لا تدع مجالا للشك, في أن مسألة الإعلام تقع في قلب الجهد الإستراتيجي الأميركي. فالميزانيات المرصودة من قبل البيت الأبيض لنشر وجهة النظر الأميركية, وتحسين صورة الولايات المتحدة في العالم, وخاصة الإسلامي منه, تزيد عن مليار دولار سنوياً. أما الميزانية المناظرة في بريطانيا فتبلغ نصف مليار دولار (1).
الإعلام بين الوطنية والموضوعية المهنية: تعتبر مسألة الموضوعية ونقل الأخبار كما هي من دون رتوش, وتحري الحقيقة ما أمكن، من أهم القضايا الإعلامية. صحيح أن الحقيقة هي أولى ضحايا الحروب كما يقال دوما, لكن هذه المقولة المعروفة يجب أن تدفع بالإعلام إلى محاولة كسر القيود, التي تفرض عليه للحيلولة دون الحقيقة, وليس للاستسلام لما تتضمنه. والمعلومات المتوفرة تدلل بالمعلومة والرقم والتسجيل, كيف أن محطات كبرى مثل (سي إن إن) , و (بي بي سي) و (فوكس نيوز) , و (سي بي إس) لم تبذل جهداً كافياً لاختراق الحصار الرسمي, ولتمحيص المقولات الرسمية المسوغة للحرب. وليس أدل على ذلك تسويق ما أسماه (ديفيد ميلر) (الكذبة الكبرى) , وهي ـ برأيه ـ تلك التي كانت تقول: إن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل, وبإمكانه أن يضعها قيد التنفيد خلال 45 دقيقة. وهذا الزعم الذي ردده (توني بلير) و (جورج بوش) لم يخضع للمساءلة الحقيقية من قبل الإعلام, بل تم ترديده وكأنه مسلمة. ويذكر أن أسلحة الدمار الشامل العراقية المدعاة, وخطرها المزعوم على المدن الغربية, كان أهم عنصر من عناصر الدعاية للحرب والمؤثرة في الرأي العام البريطاني والأميركي.
وهناك قضية أخرى مهمة على قدر كبير من الخلافية, هي مدى وطنية أو مهنية وسائل الإعلام خلال الحرب. فالجدل الذي احتدم قبيل الحرب في أوساط
_________
(1) اكذب عليّ: البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق تحرير: ديفد ميلر-الناشر: فيرسو, لندن-ط1 2004 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز 4/ 3/2004م الجزيرة نت(2/342)
أميركية كثيرة, كان يدور حول هذه التقابلية. أي في ما إن كان مطلوباً من الإعلام أن يسير خلف الحكومة, ويدعم رأيها الأخير حتى وإن لم يكن ذلك الرأي هو الصواب, أم يلتزم بالمهنية والموضوعية, ويظل يخضع الرأي وما نتج عنه للنقاش والشك. ونشير هنا إلى أن الأمر حسم باكراً, وإلى أن توجيهات صدرت من أعلى مراكز صنع القرار في واشنطن, وأرسلت إلى أهم محطات التلفزة الأميركية, تطالبها بأن يكون موقفها وبثها الإعلامي خلال الحرب (وطنيا) ومنسجماً مع المصالح الإستراتيجية الأميركية. والغريب في الأمر أن تلك المحطات التزمت الأوامر بحذافيرها, وكأن الأمر يتم في دولة عالم ثالثة من طراز أول. طبعاً ليس في مقدور أي إدارة أميركية أن تصدر مثل هذه الأوامر من ناحية قانونية وتشريعية, لكنها رسمت حدوداً للوطنية والخيانة ما كان بإمكان أي شبكة إعلامية كبرى أن تتجرأ وتتخطاها حتى لا تتهم بأنها تضر بالمصلحة القومية العليا (1).
_________
(1) اكذب عليّ: البروباغاندا والتشويه الإعلامي في الحرب على العراق تحرير: ديفد ميلر-عرض/ كامبردج بوك ريفيوز 4/ 3/2004م الجزيرة نت(2/343)
الفصل التاسع
تدمير حضارة العراق
غزو العراق بين هولاكو وبوش
عندما حرق (هولاكو) عواصم وأباد شعوبًا جاءت (عين جالوت) لتصيب قلب الشر وتخلعه من صفحات الزمان ممجدةً (قطز) الذي أنقذها من وحوش متدثرةً بملامح البشر. واليوم يدور التاريخ ليبني (بوش الابن) من هجمات سبتمبر المزعومة منصةَ القفز نحو حلم السيطرة، ويعلن (سوف أعلنها حربًا صليبية)، ولما راعه انفلات لسانه راح يُطلق على أمانيه صفة (العدالة المطلقة)، ثم عدّل وبدل مستعيرًا اسم إحدى الحملات الصليبية القديمة ليكون عنوانًا لصليبيته الجديدة على الإسلام (حملة النسر النبيل) (1).
وما بين هولاكو وبوش من فروقات في الزمن الا ان نظره متمعنه فيما جرى يكشف عن تشابه بل تطابق بين الحملتين الهمجيتين. فحينما دخل (هولاكو) بغداد في شهر صفر عام 655 للهجرة، 1258 للميلاد, قام جنوده باستباحة المدينة، فمارسوا القتل والسلب وارتكاب المنكرات، فقتلوا حوالي مليون مسلم من النساء والأطفال والشيوخ والبالغين، حتى كانت الميازيب تجري بدماء الناس ـ كما يقول ابن كثير في تاريخه ـ ثم ركزوا على تخريب القصور وإتلاف الكتب, التي كانت تعبر عن حضارة الأمة وثقافتها، حيث كانت بغداد آنذاك عاصمة الخلافة ومهد الحضارة ومدينة النور. وقد وصل حقد التتار إلى حد أنهم ملئوا نهر دجلة بالمخطوطات، ليجعلوا منها جسراً لعبور خيلهم إلى الضفة الأخرى من النهر، حتى أن مياه النهر تحولت إلى اللون الأسود بعد ما صبغها المداد الذي صيغت به المخطوطات. واستمروا على هذا الحال أربعين يوماً, وهذا ما جعل المؤرخ العريق (ابن الأثير) صاحب كتاب (الكامل في التاريخ) , يقول: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فكنت أقدم رِجْلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه
_________
(1) انها حرب على الإسلام- رسالة محمد مهدي عاكف المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين - موقع اخوان اون لاين - 23 - 9 - 2004(2/344)
أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً" (1).
"وما حدث على يد (هولاكو) قبل حوالي 745 عاماً في بغداد, يتكرر اليوم ولكن تحت رعاية (بوش) وجنوده، فقد استُبيحت ونُهبت ودُمرت متاحف بغداد, والموصل, وكركوك, والبصرة, وجامعاتها, ومكتباتها, وحضارة خمسة آلاف عام، وإذا كان (الطبري) و (ابن الأثير) و (ابن كثير) وعشرات آخرون من مؤرخي المسلمين قد أرخوا بألم وأسى لهجمة هولاكو، فلا ندري ما الذي سيسطره مؤرخو اليوم للأجيال القادمة عن حملة بوش، حيث تُستباح حضارة العراق وثقافته وتاريخه تحت سمع العالم وبصره؟ " (2).
يقول المؤرخ المنغولي (بيرا) في إحدى المقابلات: "أن المغول اكتسحوا بغداد في أربعة أيام فقط وعاثوا فيها تدميراً وحرقاً, مما ترك المدينة دون ملامح, والسكان في غاية الرعب، ونهبوا الخزينة, وقتلوا ما بين 200 ألف و800 ألف. واستطاع الجنرالات المغول بث الرعب في الخليفة في بغداد بما أجبره على تسليم كنوزه, وتقديم 700 أميرة هدية إلى المغول في مقابل النجاة بحياته". أما قوات التحالف الأميركية ففشلت في إثارة الرعب في عراق القرن الواحد والعشرين، فبعد اكتساحهم بغداد، بقي مغول القرن الثالث عشر الميلادي ينهبون المدينة لمدة سبعة عشر يوماً، أما في عراق القرن الواحد والعشرين فإن النهب والسلب قام به مرتزقة بإشراف ومباركة القوات الأمريكية. ومن المفارقات الغريبة كما يقول الخبير التاريخي (ميكل كون) إلى أن العراق تعرض لحملتين من كل من المغول والأميركيين. والفترة الفاصلة بين الهجومين المغوليين استمرت 13 سنة عانت بغداد خلالها من الفيضانات التي أضعفتها، كما فصلت بين الهجومين الأميركيين 12سنة تخللتها عقوبات اقتصادية أنهكت العراق" (3).
_________
(1) الكامل في التاريخ - ابن الأثير ـ حوادث سنة 617 وما بعدها ج9 ص329ـ387 - - دار الكتاب العربي للطباعة والنشر والتوزيع
(2) قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003 ـما وراء الأحداث/ تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- شارك في الندوة (نداء كاظم: فنان تشكيلي عراقي ـ د. هاشم يحيى الملاح: أستاذ التاريخ بجامعة الموصل ـ د. طالب البغدادي: خبير دولي في الآثار والتراثمنير بوشناق: المدير العام المساعد لشؤون الثقافة باليونسكو.
(3) أولان باتور (منغوليا) ـ خلدون الأزهري ـ الحياة ـ 2003/ 05/30(2/345)
ويصل التشابه بين الحملتين ذروته بمقارنه أسباب سقوط بغداد في الحملتين، حيث يرجع كبار مؤرخي ذلك العصر هزيمة الخليفة (المستعصم) أمام المغول إلى عدم الإعداد، وإلى الصراعات الطائفية المريرة بين قادة الشيعة والسنة. فيزعم بعضهم أن حاكم الموصل، والوزير العلقمي (وزير البلاط الأكبر) , وكان شيعياً، قد خانا البلاد، حرفياً، وخدعا حاكمهم لصالح المغول. ويتهم ابن الأثير الوزير بأنه أشار على الخليفة بأن يقلل من حجم الجيش بحيث لم يتبق سوى عشرة آلاف جندي للدفاع عن المدينة في مواجهة مأتي ألف من فرسان المغول. ويشير آخرون بأصابع الاتهام إلى الأكراد الذين كانوا قد دعموا حملة مغولية سابقة (1). واعتقد أنه لا حاجه بنا إلى التأكيد إلى أن نفس الخيانة والتآمر من الشيعة والأكراد, حصل خلال حملة بوش الجديدة طمعاً في تحقيق أطماع طائفية ضيقه، وليذهب بقية العراقيين إلى الجحيم.
بل إن قراءة المفردات المستعملة في خطب وتصريحات الرئيس (بوش) حول قوة أميركا العسكرية, وحول التهديدات الموجهة إلى الرئيس العراقي (صدام حسين) تشبه إلى حد بعيد المفردات التي استعملها (هولاكو) في القرن الثالث عشر الميلادي في رسالة الإنذار التي وجهها إلى الملك (قطز) ملك مصر في عهد المماليك, في تلك الرسالة, قال هولاكو: "إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، واسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء وتندموا على الأخطاء، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، وقد سمعتم أننا فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد. فعليكم بالهرب, وعلينا بالطلب, فأي أرض تأويكم؟ وأي طريق ينجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما من سيوفنا خلاص، وما من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق, وسهامنا خوارق, وسيوفنا صواعق, وقلوبنا كالجبال، وأعدادنا كالرمال، فالحصون لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع .. " (2).
_________
(1) بوش في بابل (إعادة استعمار العراق) - طارق على ترجمة د. فاطمة نصر ص49
(2) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص95(2/346)
وقبل أن يصدر (رمزى كلارك) وزير العدل السابق كتابه عن جرائم أمريكا ضد الإنسانية في حربها على العراق، كانت الفرقة الجوية القتالية السابعة والسبعون, قد أنتجت ووزعت كتاب أناشيد تصف فيه ما ستفعله الفرقة في الخليج، وتنذر هذا (المتوحش القميء .. (خذن الأفاعي) بأن يستعد للإبادة فيما ينتهي أحد هذه الأناشيد بخاتمة تقول: "الله يخلق, أما نحن فنحرق الجثث". والكتاب كما يصفه (كريستوفر هيتشنس) في The Nation خليط من السادية والفحش، ومعظمه تشنيع وتشهير وشتائم بذيئة للعرب والمسلمين, باعتبار أنهم أعراق منحطة, و (حشرات) و (جرذان) و (أفاع)، وهي بذاءات مقتبسه بالتأكيد من كتاب (حياة محمد) (لجورج بوش) (الجد الأكبر 1796 - 1859) الذي يضم أشنع ما كتب عن العرب والمسلمين والنبي محمد في الولايات المتحدة، وقد اعترف (نورمن شوارزكوف) في عدة مقابلات تلفزيونية, بأنه كان يريدها معركة فناء وأشار إلى أنه كان يخطط لأن تكون على شكل معركة (كاناي) القرطاجية, التي يطلق على موقعها اليوم اسم (حقل الدم) , ومن يدري ما ستكشف عنه وثائق هذه الحرب وما تلاها من حصار, حين ترفع السرية الكاملة عنهما يوماً, يتطاير فيه الريش مع رؤوس من تبقى من هذا الجنس اللعين" (1).
فهولاكو لم يترك سلاحاً إلاّ وأستخدمه في سبيل إركاع العراقيين الذين كانوا يتصدون له, فبقر البطون وقطع الرقاب وجزّ الرؤوس و أحرق الأجساد, كما قسمّ الجغرافيا العراقيّة إلى قسمين المنطقة الجنوبية و كانت تابعة لبغداد والمنطقة الشماليّة وكانت تابعة للموصل و عينّ على رأس المنطقتين حاكمين مغوليين بمساعدة تركمان من الدول المجاورة للعراق - وما أشبه الليلة بالبارحة.
بقى ان نشير إلى ان القائد المغولي هولاكو هو حفيد الطاغيّة المعروف (جنكيزخان) - مع الإشارة إلى أنّ جنكيزخان كان له شأن مع العراق تماماً كما كان جورج بوش الأب الرئيس الأمريكي الأسبق قائد الحلفاء ضد العراق في أزمة الخليج الثانيّة. و ها هو إبنه جورج بوش الإبن يكمل مسيرة أبيه تماماً كما أكمل هولاكو مسيرة أبيه جنكيزخان - وقد زحف هولاكو غرباً بإتجاه بغداد وقتل عندما وصل إلى بغداد الخليفة العباسي المعتصم وأستولى على قصره وقتل كل رجاله و بعد أن
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص96 - رياض الريس للكتب والنشر- ط1 2002(2/347)
أستتبّ له الأمر في العراق توجّه إلى سورية وغزا حلب وقتل رجال حلب الأشاوس الذين تصدوا له - مع الإشارة هنا إلى أنّ بوش الإبن وجه تهديده لسوريا في وقت سابق, ويهدف إلى إضعاف سورية بدولة عراقية متأمركة ودولة الكيان الصهيوني و عندما تصبح سوريا بين فكي الكماشة الأمريكية يسهل الإجهاز عليها حسب إستراتيجيي البنتاغون - ولولا ظهور السلطان قطز الذي لقنّ المغول درسا مؤلماً وألحق بهم هزيمة نكراء لوصل هولاكو إلى مصر, تماماً كما رددّ إستراتيجيو البنتاغون أنّ العراق تكتيك وإستراتيجيتنا السعودية ومصر، ولكن يبدو أنّ هولاكو المعاصر قرأ بدايات هولاكو القديم ولم يقرأ مصيره ونهايته, و على الباغي تدو الدوائر" (1).
مقارنه بين غزو التتار والمغول لبغداد , والغزو الأمريكي البريطاني الحالي (2)
المغول - التتار ... أمريكا
سبق للمغول اجتياح مملكة خوارزم في طريقهم لبغداد. ... سبق للأمريكان اجتياح أفغانستان في طريقهم إلى العراق.
تحالف المغول والتتار في حربهم على بغداد. ... تحالف أمريكا وبريطانيا في حربها على العراق.
حصار بغداد من الشرق والغرب. ... حصار بغداد من الغرب والشرق.
بدأ غزو بغداد - الخلافة 16 محرم سنة 656هـ. ... بدأ غزو العراق 16 محرم.
دخول بغداد 7 صفر. ... دخول بغداد 7 صفر.
انهيار المقاومة ودخول بغداد يوم الأربعاء. ... انهيار المقاومة ودخول بغداد يوم الأربعاء.
_________
(1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm
(2) المصدر www.arab7.com أو ساحة حوار المركز الفلسطيني للإعلام.(2/348)
مدة الغزو 21 يوماً حتى سقوط بغداد - الخلافة. ... مدة الغزو 21 يوماً حتى سقوط بغداد - العراق.
تفوق عسكري هائل. ... تفوق عسكري هائل.
تنازع بين السنة والشيعة أدى إلى ضعف الخلافة. ... تنازع بين الطوائف أدي لضعف الدولة.
استباح المغول والتتار بغداد مع قوم جاءوا من عدة أنحاء سلباً ونهباً, وحرق لمكتباتها وضياع العلوم وسفك الدماء وقتل الرجال والشيوخ والأطفال والنساء. ... استباح الأمريكان العراق مع عملاء لهم سلب ونهب, وحرق المكتبات, والمؤسسات, والعلوم, والمتاحف, وسفك الدماء, وقتل الرجال, والشيوخ, والأطفال, والنساء.
تآمر ابن العلقمي والعقربيين وقومه مع المغول والتتار, وحرضوهم على غزو بغداد وزينوا لهم ذلك. ... وكذلك فعلت الشيعة العراقية مع الأمريكان من تحريض على غزو العراق وزينوا لهم ذلك.
توقف الناس خوفاً من أداء صلاة الجمعة في أول جمعة. ... توقف الناس خوفاً من أداء صلاة الجمعة في أول جمعة.
استولى المغول والتتار على أموال طائلة من الخلافة العباسية. ... استولت أمريكا على آبار النفط وثروات العراق الطائلة.
واصل المغول والتتار زحفهم نحو الشام لغزوها. ... تهديد أمريكا لسوريا بالغزو.
بعد سنتين في رمضان سنة 658هـ خسر المغول والتتار في الشام كل شيء من هيبة, وتفوقهم العسكري في معركة عين جالوت في معركة كاسحة على أيدي المسلمين من الجيش المصري وما تبقى من جيش الشام والمتطوعين. ... نحن واثقين في أن الله عز وجل سيضرب أمريكا ضربة قاضية ويسلط جنده لاكتساح تفوقها العسكري وهيبتها, وإفشال مخططاتها في حربها على الإسلام - فمتى تكون عين جالوت المعاصرة ... !؟(2/349)
تدمير حضارة العراق
تقول كاتبة غربية: "إنه ليس من الممكن أن ترمى قنبلة على العراق دون أن تصيب مكانا أثريا. ولئن صدقت في كلامها, فعلينا أن نمسح دموعنا دائما على الموروث الحضاري الكبير, خصوصاً إذا عرفنا أنه في بغداد ينتصب أقدم قوس حجري في العالم، ويعد العراق من أثرى مناطق العالم أثرياً، ففيه بدأت الحضارة قبل حوالي ستة آلاف عام, وفيه ظهرت الكتابة المسمارية, كما تطورت فيه الرياضيات, وعلم الفلك, وتم اختراع العجلة. وفي منطقة (أور) الجنوبية, ولد النبي إبراهيم ـ عليه السلام ـ وشيدت أولى الأحجار هناك, كما وضعت في بقايا عاصمة الإمبراطورية البابلية على يد ملوك مثل (نبوخذ نصر) و (حمورابي) أولى القوانين, بالإضافة إلى أن الآشوريين, والسومريين, والأكديين, تركوا بصماتهم في تلك المنطقة" (1).
وبالرغم من هذه القيمة الكبيرة للآثار العراقية, وأهميتها للحضارة الإنسانية، فقد مثل ما حدث من نهب, وسلب, وتدمير لهذه الآثار مأساة عظمى ليس للعراق فقط، بل للحضارة الإنسانية. وهنا يصف الفنان التشكيلي العراقي (نداء كاظم) الذي كان شاهداً على ما حدث من تخريب وحرق وهدم وسرقة للمتحف الوطني في بغداد, ولكثير من المكتبات منها، المكتبة الوطنية التي نُهبت وحُرقت, فيقول: "بدأ النهب والسلب, وحرق كل مظاهر الحضارة والثقافة، وذلك بأيدي خفية ومنظمة ومدفوعة، الفوضويون يسرقون المواد والحلي وما شاكل ذلك، أما الذين يسرقون الفكر ويحرقوه ويدمروه فهذه مسألة أخرى. لقد سُرق المتحف الوطني والأعمال التي لم يستطيعوا سرقتها بدءوا يهشمونها، ثم سُرقت المكتبة الوطنية، وفي الليل حُرقت، ودخلها ناس متسترين وحرقوها، وسُرقت مكتبة الوثائق والمخطوطات وحُرقت، وسُرقت مكتبة الأوقاف، وهذه من أهم المكتبات النفيسة، وحُرقت ـ أيضاً ـ .. إن عملية حرق بغداد منظمة .. منظمة وورائها ناس من خارج البلد .. حُرق مركز صدام
_________
(1) الاثار في العراق بين ايدي لصوص الحضارات - محمد سيدي - الجزيرة نت(2/350)
للفنون، وسُرقت كل الأعمال الفنية، أعمال (فايق, وجواد) والفنانين الآخرين، والأعمال التي لم يستطيعوا سرقتها هشموها وحرقوها".
ويصف (د. هاشم يحيى الملاح) - أستاذ التاريخ في جامعة الموصل- ما حدث من نهب وسلب في الموصل, فيقول: "في الحقيقة, في الليل هجمت مجموعة على متحف الحضارة في الموصل، وكانت الآثار مخزنة في أماكن حصينة، فقام هؤلاء المخربون بتحطيم جدران هذه الغرف الحصينة، وقاموا بسرقة الآثار الموجودة فيها. أما جامعة الموصل, فقد دخلت مجموعة من المخربين جامعة الموصل, وسرقوا كل ما فيها من سيارات كخطوة أولى, ثم بدءوا بسرقة مباني الجامعة, فسرقوا المختبرات والمكتبات، ثم أخذوا يسرقون الأثاث، وقاموا بتشجيع الغوغاء على دخول الجامعة .. حيث لم يبقَ في الجامعة شيء .. الحقيقة هاجموا مكتبة الجامعة, وحطموا أجزاء كبيرة منها, وسرقوا منها الكتب, وكذلك دخلوا إلى مكتبات الكليات, وفعلوا مثل ذلك .. لقد أصبحت الجامعة خراباً" (1).
أما السيدة (نبيهة الأمين) مديرة المتحف الوطني العراقي فقد ذكرت: "أن عدد التحف الأثرية والتاريخية, التي سرقت أو دُمرت في المتحف الوطني العراقي, تصل إلى 170 ألف قطعة أثرية تغطي تاريخ خمسة آلاف عام من تاريخ العراق". وحول ما تشكله هذه الآثار والتحف، من قيمة إنسانية قال (د. طالب البغدادي) الخبير في الآثار والتحف: "نعم، والله أرجو من الله أن يساعدني في أن أقدر أتكلم, بعد أن سمعت ـ خصوصاً ـ الأخ نداء، وتحية له كيف صبر؟ وكيف تجرأ على أن يذكر هذه الحقائق المؤلمة والمبكية والمحزنة، حاولت أن أبتعد عن العواطف، .. حينما ذكرت السيدة (نبيهة الأمين) - مديرة المتحف الوطني العراقي- أن عدد التحف الأثرية والتاريخية التي سرقت أو دُمرت في المتحف الوطني العراقي تصل إلى 170 ألف قطعة أثرية, تغطي تاريخ خمسة آلاف عام من تاريخ العراق، العدد لا يهمني، بقدر ما يهمني ما تحتويه هذه المؤسسات، وما يحتويه المتحف العراقي ... كل المحتويات فيها نفيسة، ولكن أنفس المحتويات في قناعتي أنك تجد في هذا المتحف كيف استطاع الإنسان
_________
(1) ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003(2/351)
أن يخترع الكتابة ولأول مرة في الكون؟ ويقدم للبشرية كيف يُكتب الفكر وكيف تُنقل الفكرة على الطين وعلى الرُقم الطينية السومرية؟! ".
"تجد في هذا المتحف أول قيثارة صنعها الإنسان في التاريخ برأس العجل الذهبي المثبت عليها، تجد في هذا المتحف ملحمة (جلجامش) , وهي مسطرة ومكتوبة ومحفورة على لوحات من الرخام، ملحمة جلجامش ماذا تعني؟ تعني فكر كامل يناقش إلى حد اليوم .. فكرة الموت والحياة، فكرة الخلود والفناء، فكرة صراع الإنسان مع الطبيعة, الذي يؤدي إلى التطور الحضاري، في الرُّقم الطينية في المتحف العراقي, تجد شرائع (أورنمو) و هي أقدم من شرائع (حمورابي) بحوالي ألفي سنة، وتجد ما تجد، هذه هي القيمة الإنسانية الموجودة في هذا المتحف، تجد في هذا المتحف أول مولِّد عرفه الإنسان على ما أتذكر 25 وات كهربائي تكتشفه الحضارة العراقية قبل آلاف السنين، تجد المعادلات الرياضية في الزمن البابلي, تجد مكتبة (آشور بانيبال) الملكية التي تحوي على آلاف مؤلفة من اللوحات المرمرية والمنحوتة، أنا لا أتكلم عن التماثيل، أتكلم عن ما تحتويه من فكر, عما تحتويه من أشياء ساهمت في تطور الإنسانية, وفي قناعتي في .. في تطور الكون بأكمله" (1).
ثم لخص (د. هاشم يحيى) الملاح ما حدث بقوله: "في الحقيقة, إن ما حصل هو تعريض لجهود هيئات علمية كبيرة, بدأت نشاطها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هذه البعثات الأثرية, التي قامت بالتنقيب في كل جزء من أجزاء العراق، ساهم فيها آثاريون فرنسيون وإنجليز وأميركان وعراقيين وآخرون، لقد بُذلت جهود جبارة في جمع هذه الآثار, وساهمت هذه الآثار في التعرف على نقاط غامضة من تاريخ الإنسانية، وتاريخ العراق وتاريخ المنطقة العربية، إن ما حصل هو نكبة ليس للعراق وحده, وإنما هي نكبة للإنسانية كلها, ولكل الجهود الحضارية التي بذلت من أجل زيادة معرفتنا بتاريخ الإنسان على هذه الأرض" (2).
_________
(1) ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003
(2) ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003(2/352)
تحذيرات قبل الحرب
يقول خبراء الآثار: "إن المتاحف العراقية تعرضت لثلاثة أنواع مختلفة من السرقة، وهي أعمال التخريب والنهب الفردية، وسرقات لقطع أثرية محددة بتكليف من عصابات إجرامية، إضافة لما وصفوه بأعمال تخريب ثقافي متعمد بدوافع دينية أو سياسية. ولكن أهم عمليات السطو التي تعرضت لها المواقع الأثرية في العراق, تتمثل في هجوم قام به مائتي مسلح بمدافع رشاشة على مدينة نمرود الأثرية ومتحفها في نينوى شمال بغداد ونهب محتوياتها, وتقطيع تمثال ثور ذي جناحين في موقع شورباك بالمحافظة ذاتها.
ورغم تحذيرات عدة جهات من نقابات ومؤسسات من أن وضع الآثار العراقية لا يسر في حالة الحرب, ومطالبتهم بحمايتها خاصة من قبل اليونسكو, التي أصدرت بياناً في بداية العمليات العسكرية طالب فيه أمينها العام بالمحافظة على المواقع الأثرية من التدمير والنهب, فإننا شاهدنا متحف بغداد الأثري تصله أيدي لصوص الحضارات والتاريخ. وهنا يقول (جيريمي بلاك) المتخصص في الآثار العراقية في جامعة أوكسفورد: "لقد تم تنبيههم -أي الأمريكيين ـ إلى ذلك وكان من الممكن تفادي ما حدث", مشيراً إلى استقبال مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية علماء آثار أميركيين, جاءوا لتنبيه المسؤولين العسكريين من احتمال تعرض المواقع الأثرية للنهب, وحددوا نحو خمسة آلاف موقع أثري تحتاج إلى الحماية. كما قام (جيسون ماكجير) ـ وهو عالم آثار من جامعة شيكاغو ـ بإطلاع القادة العسكريين الأميركيين على الأهمية التاريخية للعراق, حيث أبلغ العلماء أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ستعمل على تشكيل مجموعة عمل لدراسة مشكلة التعرض المحتمل لهذه الآثار للتدمير (1).
كما شدد المجلس الأعلى للآثار بمصر على أهمية الحفاظ على التراث الحضاري العراقي في خضم الحرب الدائرة هناك, باعتباره تراثاً عالمياً، وحملت اللجنة الدائمة للآثار المصرية الولايات المتحدة وبريطانيا مسؤولية الحفاظ على الممتلكات الثقافية العراقية, تنفيذاً لاتفاقية لاهاي الصادرة عام 1954 م واتفاقية
_________
(1) الاثار في العراق بين ايدي لصوص الحضارات - محمد سيدي - الجزيرة نت(2/353)
التراث العالمي الصادرة في باريس عام 1972م بشأن حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة. ولكن خبراء الآثار أصيبوا بالقلق حينما وجدوا أن الولايات المتحدة وبريطانيا لم تصدقا على معاهدة لاهاي لعام 1953م, التي تلزم الأطراف الموقعة عدم مهاجمة المناطق الحضارية أثناء الحروب إلا إذا كان هناك وجود لمنشآت عسكرية. ولهذا طالبت اللجنة في بيان أصدرته قبل الحرب الولايات المتحدة وبريطانيا بالإمتناع عن قصف الأهداف العراقية المدنية, خاصة المنشآت والمواقع والمتاحف الأثرية والتاريخية, حيث نبه البيان إلى أن استخدام القنابل ذات القدرات التدميرية الهائلة, التي تخترق باطن الأرض, من شأنه تدمير الآثار المدفونة تحت سطح الأرض التي لم تكتشف بعد. وأشار البيان إلى المخاطر التي تهدد متحف بغداد الأثري الذي يضم حوالي 100 ألف قطعة أثرية من كنوز الحضارات العراقية المتعاقبة منذ ما قبل التاريخ, وحتى الألف الأول الميلادي. وأهابت اللجنة بالمنظمات الدولية كالأمم المتحدة واليونسكو والمنظمات غير الحكومية للتدخل الفوري, لوقف عمليات القصف واتخاذ الخطوات (1).
كما بعث مدير عام اليونسكو إلى السيد (كوفي عنان) رسالة في شهر نوفمبر 2002 م أبلغه بأهمية التراث الثقافي العراقي, وضرورة المحافظة عليه، وعندما بات وقوع الحرب وشيكاً بعتت اليونيسكو رسالة إلى السلطات الأميركية بينت فيها خارطة المواقع الأثرية والتاريخية, وقائمة المتاحف العراقية المعروفة لدى المنظمة الدولية للمتاحف. حيث رد على الرسالة الميجور (فارولا) من الجيش الأميركي وقال: "إن السلطات الأميركية ستأخذ الإجراءات اللازمة، ولكن في أرض الواقع (2). وطبعاً أخذت الإجراءات اللازمة، كما رأى الناس كلهم على شاشات التلفزة الجنود الأميركيين يقفون, والناس تنهب وتسرق كل شيء، حيث علق وزير الدفاع الأميركي (رامسفيلد) على ذلك بقوله: "إن ما حدث في العراق يتحمل مسؤوليته النظام الديكتاتوري التسلطي الذي كان قائماً هناك". أما (بول وولفويتس) نائب وزير الدفاع الأميركي
_________
(1) موقع الإسلام أون لاين.
(2) قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003 ـ ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور(2/354)
فقد كان له وصف مميز لما حدث من عمليات سلب ونهب في بغداد، حيث قال: "إن عمليات النهب والسطو في بغداد وكركوك والموصل هي تعبير عن الحرية؟ " http://www.aljazeera.net/programs/backstage_events/2003/4/ - TOP.
الأمريكيون .. متفرجون أم متواطئون؟
في الندوة التي نظمتها قناة الجزيرة حول الآثار العراقية سأل (أحمد منصور) أحد ضيوفه بقوله: "هل تعتقد أن تدمير هذه الحضارة بهذا التاريخ وبهذه العراقة وبهذه الموروثات كان تدميراً متعمداً؟ ". فرد (د. طالب البغدادي) قائلاً: "بالتأكيد .. بالتأكيد متعمد". وكرر أحمد منصور سؤاله للأستاذ (نداء كاظم) بقوله: "هل تعتقد حرق المكتبة الوطنية التي تحوي أهم الوثائق الرسمية في تاريخ العراق، نهب وحرق المتحف الوطني العراقي الذي يحوي حضارة الإنسانية لأكثر من خمسة آلاف عام، المكتبات التي ذكرتها، مكتبة الأوقاف بمخطوطاتها وبما تحتويه من آثار, ودار الوثائق, وغيرها من عشرات المكتبات, والمراكز الثقافية الأخرى؟ هل نهب هذه الأشياء وحرقها، تم من أناس فوضويين عاديين, أم أن هذا الشيء كان منظماً ومرتباً, ومن يقف وراءه؟ ". فأجاب (نداء كاظم) قائلاً: "منظم .. منظم أستاذ. هذا منظم تنظيم جيد، وهذا التنظيم مُسبق التنظيم".
وحول ما إذا كان الأميركيون مسؤولين عما حدث قال (د. هاشم يحيى الملاح): "نعم .. نعم، هم المسؤولون بلا شك، كانوا يستطيعون أن يحموا كل هذه المراكز، مثلما حموا وزارة النفط، ومثلما حموا المراكز التي هم يقصدوها، ليش حموها؟ ليش المركز الثقافي ما يقدرون يحموه؟! المكتبة الوطنية ما يقدرون يحموها؟! ". كما اتهم مستشار وزير الثقافة العراقي السابق (مؤيد سعيد الدمرجي) القوات الأميركية بالسماح للصوص بنهب متحف بغداد, ودعا الولايات المتحدة والأمم المتحدة إلى إنقاذ الثروة الأثرية في البلاد. وقال (الدمرجي): "إن الدبابات الأميركية كانت تقف أمام الباب الرئيس للمتحف الوطني العراقي, عندما دخل اللصوص إلى المتحف من باب آخر على مسافة قصيرة منها, ولم يتحرك الأميركيون". وأضاف (الدمرجي) وهو أستاذ علم الآثار في جامعة بغداد: "توجهنا إلى الجنود وطلبنا منهم المساعدة, فقالوا لنا: إنهم لم يتلقوا الأمر بالتدخل"، موضحاً أن اللصوص دخلوا كل القاعات دون(2/355)
استثناء, وحتى إلى المستودعات تحت الأرض ودمروا كل ما كان حجمه كبيراً جداً ولا يمكن حمله.
وأعلن رئيس قسم الآثار في العراق (جابر خليل إبراهيم) أن الضباط الأميركيين الذين زارهم في مقرهم العام بفندق فلسطين في وسط بغداد, وعدوه بحماية الآثار، وقال: "لقد مضى على ذلك ثلاثة أيام ولم يحصل شيء، وعدوا بإرسال دبابات وقوات ولا نزال ننتظر". كما أكد ذلك حارس المتحف (محسن كاظم) بقوله: "إنه طلب من القوات الأميركية قبل نهب المتحف بيوم ـولم يكن قد اقترب شخص واحد من المتحف ـ طلب منهم أن يحموا المتحف, ولو بجنديين فقط، ولكنهم رفضوا، وفي اليوم التالي تدفق اللصوص والفوضويون إلى المتحف, وقاموا ونهبوا محتوياته دون أن يفلح حارس واحد, طبعاً غير مسلح في أن يمنع الناس منه (1). http://www.aljazeera.net/programs/backstage_events/2003/4/ - TOP
إدانة عالمية لوقوع الآثار في العراق بين أيدي لصوص الحضارات!!
أثار تدمير ونهب المتحف الوطني استنكاراً دولياً وتعبئة واسعة من أجل منع تشتيت هذا التراث, الذي يمثل ذاكرة البشرية. وقال مدير بعثات الآثار الأميركية في العراق (ماكغاير غيبسون): "علمنا للتو أن متحف تاريخ العراق الذي يعتبر من (المواقع) الأكثر أمناً تعرض للنهب". حيث: "إن متحف الآثار في بغداد نهب على دفعتين, الأولى ليلاً من قبل عصابات منظمة استفادت من التسهيلات للوصول إلى المحفوظات، حيث تخزن أجمل القطع, والثانية: أكثر عفوية من قبل أناس غاضبين بسبب ظروفهم المعيشية التعيسة. وأضاف (غيبسون): "نعلم أن مجموعة الألواح المسمارية المصنوعة من الطين, والبالغ عددها 80 ألفا فقدت من متحف الآثار في بغداد, كما فقدت القطع الصغيرة من متحف الموصل والتي كانت وضعت في مأمن في بغداد". وتحدث ـ أيضاً ـ عن فقدان التماثيل الكبرى لموقع الحضر (في الشمال) , التي أدرجت على لائحة التراث العالمي لليونسكو. وتابع أنه تم إحراق مجموعات عديدة لمخطوطات الأرشيفات الوطنية, بينها جميع أحكام المحاكم الإسلامية منذ
_________
(1) ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور- قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003(2/356)
القرن السادس عشر الميلادي، كما تحولت مكتبة القرآن في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى رماد وكذلك المكتبة الوطنية".
ومن الجدير بالذكر أن ثلاثين خبيراً دولياً من الأخصائيين في تراث الشرق الأوسط وآثاره, أعربوا عن صدمتهم الشديدة من الأضرار الخطيرة وعمليات النهب التي لحقت بالتراث العراقي الثقافي, عقب سقوط نظام صدام حسين. ونشر الخبراء في مؤتمر صحفي عقد بمقر اليونسكو في باريس, لائحة مطالب موجهة إلى كل المسؤولين عن الحفاظ على النظام لإعادة القطع الثقافية المسروقة, أو التي تم تصديرها بطريقة غير شرعية من العراق. كما اتهم علماء آثار بريطانيون القوات الأميركية والبريطانية بإهمال حماية المتاحف, والمواقع الأثرية, مقابل حرصها على تأمين حقول النفط, وأبدوا أسفهم الشديد لضياع آثار عراقية لا تقدر بثمن. ويقول (ألكس هنت) الباحث والأمين على الآثار في مجلس الآثار البريطانية في يورك ـ شمالي بريطانيا: "إن حماية وزارة النفط وإهمال حماية متحف الآثار في بغداد يعكس موقف التحالف من التراث الثقافي". كما نشر عدد من علماء الآثار المعروفين مقالاً في صحيفة غارديان البريطانية, شجبوا فيه موقف المتفرج الذي وقفته القوات الأميركية والبريطانية من أعمال النهب, التي استهدفت الآثار والأعمال الفنية لا سيما في مدينة الموصل والبصرة وبغداد. وعبر علماء الآثار عن استيائهم إزاء الضغوط التي مورست في الولايات المتحدة بهدف تخفيف القوانين الهادفة إلى حماية الإرث الثقافي العراقي, والتي تحظر بيع أعمال فنية في الخارج بحجة أن هذه القطع ستكون في مأمن في الولايات المتحدة, الأمر الذي قال عنه (ألكس هنت): "إنها الإمبريالية الثقافية بعينها".
وإزاء هذا الموقف اللامسئول والهمجي للقوات الغازية إزاء ثروات العراق وحضارته، قدم ثلاثة من المستشارين الثقافيين للرئيس الأمريكي (جورج بوش)، استقالاتهم من مناصبهم احتجاجاً على فشل القوات الأمريكية في منع نهب متحف بغداد. وقال أحد المستشارين واسمه (ريتشارد لانيير): "إن الولايات المتحدة تعرف ثمن النفط ولكنها لا تعرف قيمة الآثار التاريخية". وأضاف "إن الجنود الأمريكيين أظهروا لامبالاة تامة حيال التراث الثقافي للعراق". أما رئيس اللجنة الاستشارية(2/357)
للبيت الأبيض للشؤون الثقافية (مارتن ساليفن) فقد استقال يوم 14 أبريل 2003، معتبراً أن نهب متحف بغداد كان مأساة يمكن توقعها ومنعها، وفي ذلك إشارة مباشرة على تواطؤ متعمد من قبل القوات الأمريكية لنهب وتدمير الآثار العراقية.
أيد إسرائيلية
هناك سؤال مهم طرحه (أحمد منصور) على ضيوفه في الندوة المشار إليها فقال: "ما هي مصلحة الولايات المتحدة وهي دولة كل حضارتها 300 سنة تقريباً، ما هي مصلحتها في أن تدمر حضارة العراق وثقافتها وتاريخها الذي يمتد إلى خمسة آلاف سنه؟ ما هي مصلحة الولايات المتحدة في ذلك؟ ". فاجاب على ذلك (د. طالب البغدادي) موضحاً أن ذلك في مصلحة إسرائيل وأمريكا حيث قال: "والله لمصلحة الطرفين مثل ما قلنا، لمصلحة أمريكا في أهداف معينة، ولمصلحة إسرائيل في أهداف أخرى ... لمصلحة أمريكا أنها حطمت ودمرت بغداد, التي يعتبرها كل العرب العاصمة الثقافية تاريخياً للأمة العربية, وكذلك للأمة الإسلامية بشكل عام، وهذا معروف وما أريد الإسهاب به".
فرد عليه (أحمد منصور) قائلاً: "هناك اتهامات يا دكتور لأيدٍ خارجية في الموضوع، وهناك بعض التقارير ألمحت إلى وجود أيدٍ إسرائيلية من وراء هذا الأمر، على اعتبار وجود ثروة من التاريخ، كما تسعى إسرائيل إلى تغيير هوية وتاريخ فلسطين، يُقال ـ أيضاً ـ إن هناك أيدٍ صهيونية تحاول أن تلعب في تغيير تاريخ وهوية العراق, والدليل على ذلك أنه ليس هناك نهب وسرقة فقط، وإنما حرق وتدمير وإزالة، وبعض الأشياء تقول: أن هذا يعود إلى تصورات تلمودية وتوراتية قديمة، يعني أما يعتبر ذلك مبالغة إلى حد ما؟ ".
(د. طالب البغدادي): "لا أعتقد أن هناك مبالغة، لاسيما إذا أخذنا التاريخ اليهودي .. تاريخ الديانة اليهودية، تاريخ إنشاء دولة إسرائيل، لماذا قامت دولة إسرائيل؟ يعني قيام دولة إسرائيل له علاقة كاملة وعلاقة تامة مع التعليمات التوراتية والتعليمات التلمودية، فـ (دانيال) أوصى بقيام مملكة إسرائيل، أوصى كل اليهود وبنى إسرائيل بالذات بإقامة دولة إسرائيل متى تسنى لهم ذلك، وأوصى أيضاً(2/358)
بصب اللعنة على شعب بابل، نحن لا ننسى أن التوراة كتبت في العراق كتبت في مدينة (الدعة) على نهر الفرات في شمال وسط العراق, وأن التوراة جُمعت وكتبت هناك".
أحمد منصور (مقاطعاً): "يعني هل هذه هي الفرصة التاريخية .. لتدمير كل ما يمكن أن يصيغه الآخرون من تاريخ عن العراق؟ ".
د. طالب البغدادي: "بالتأكيد هذه الفرصة التاريخية اللي ما سنحت لهم، بالرغم من أن العراق شهد أحداث عنيفة كثيرة وشهد حروب كثيرة .. لكنه لم يشهد مثل هذا الدمار، هناك حملة منظمة لتدمير الهوية الثقافية للشعب العراقي، وتدمير الهوية الثقافية يعني وضع الوجود القومي للشعب العراقي موضع الشك، لأنه أنا في اعتقادي لو أسرد لك بعض .. بعض الشيء عن .. اللي ذكره في شارع حيفا يعني ماذا أحرقوا فيه؟ يعني يقشعر بدني أو تقشعر حواسي, إذا أقول لك أن هناك نسخ من القرآن الكريم قد حُرقت، أي نسخ؟ ابن البواب وابن مقلة، وياقوت المستعصمي وحمد الله الأماسي، و .. علي التبريزي هؤلاء الذين وضعوا أسس الخط العربي والحرف العربي، ناهيك عن .. عن القرآن الذي خطته أيادي الإمام علي بن أبي طالب بالخط الكوفي الجميل، ناهيك عن النسخ الأخرى من القرآن، لكن ابن البواب في بغداد, وابن مقلة في بغداد, وحمد الله الأماسي، كل هذه النسخ من القرآن الكريم موجودة ومحفوظة في مكتبة المخطوطات" (1).
العمق الحقيقي للحرب ـ مقصلة الكبرياء
بعد هذا التدمير المنظم للعراق ولحضارة العراق, وتعمد الإساءة لشعب العراق العريق، وإظهاره وكأنه حفنة من قطاع الطرق واللصوص, الذين انقضوا على نهب وسرقة كل ما وقعت عليه أيديهم، كتبت الكاتبة (حياة الحويك عطية) مقالاً في جريدة الخليج بينت فيه البعد الحقيقي, فقالت: "هذا هو العمق الحقيقي للحرب، أمر أبعد بكثير من نظام صدام حسين: كسر الكبرياء الوطنية، وتدمير وطنية الحضارة والثقافة، وإذلال الروح, وسحق كل شيء. حرام، وألف حرام! فلنوقف هذه المجزرة!
_________
(1) قناة الجزيرة 14ـ4ـ2003 ـ ما وراء الأحداث / تدمير حضارة العراق/- تقديم احمد منصور(2/359)
إنها مجزرة أخطر من مجزرة الأرواح والأجساد والممتلكات والمؤسسات! إنها مجزرة رقبة الكبرياء العراقية، ومن ورائها العربية كلها، تحت مقصلة الحقد اليهودي الأمريكي، إنها تشويه وجه الشهيد وتمثيل بجثته، أوقفوا التمثيل بجثة العراقيين.
حرام، حرام! هذه بلاد سومر التي اعترف لها (كرومر) بأن التاريخ بدأ بها، وكل شيء بدأ فيها .. كلنا مدينون لما بين النهريين، ايه (نا) .. (نا) العرب، ام (نا) الإنسانية كلها، بل كلتاهما معاً. حرام! حرام! هذه بلاد آشور بانيبال، وسرجون، واسرحدون، ونبوخذ نصر، والرشيد، والمأمون والمعتصم وصلاح الدين. ولكن ألا يعني كل اسم من هؤلاء ثأراً مراً حاقداً لدى هؤلاء الغزاة الصهاينة؟ أو ليس هذا التشويه انتقاماً حارقاً من السبي, وعمورية, وحطين، وفيما هو أعمق: انتقام من مكتبة نينوى, وألواح آشور ومسلة حمورابي, وقصيدة أبى تمام ... من تمثال جواد سليم, وارث السياب .. بل من شهداء الجيش العراقي على تخوم وأرض فلسطين؟.
هذا هو العمق الحقيقي للحرب، أمر أبعد بكثير من نظام صدام حسين: كسر الكبرياء الوطنية، وتدمير وطنية الحضارة والثقافة، وإذلال الروح, وسحق كل شيء، لأجل بداية جديدة، لا مكان فيها إلا لما يرسمه (ريتشارد بيرل) و (بريمر) ولفيفه، من إسرائيل إلى الولايات المتحدة. إذلال لن تنعكس آثاره على العراقيين وحدهم، على مستقبلهم وحدهم، بل على هذه الأمة بكاملها، للقضاء على آخر بؤر الكرامة فيها, وتحويلها إلى جمع من الدلالين والسماسرة، من الباعة والمبيعين، أما البضاعة فكل شيء، ولا حرمة لشيء في غياب الكرامة (1).
نعم هذا هو البعد الحقيقي للحرب .. الانتقام والثأر من السبي, وآشور, وسرجون, وصلاح الدين, وكل الذين وقفوا في وجهه الشعب المختار وأحقاده وأحلامه في تأسيس مملكة الرب من النيل إلى الفرات ... من نبوخذ نصر وبابل (أم العاهرات) التي توعدتها التوراة الحاقدة بأشد أنواع الدمار ... "يا بنت بابل المخربة، طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا. طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة ... سيبكي وينحب عليها ملوك الأرض الذين زنوا بها واترفوا معها، حين يرون دخان
_________
(1) مقصلة الكبرياء ـ حياة الحويك عطية ـ الخليج 18/ 4/2003(2/360)
لهيبها, وعلى بعد يقفون خوفاً من عذابها ويقولون: يا ويلتاه يا ويلتاه أيتها المدينة العظيمة, بابل المدينة القوية، لأنه في ساعة واحدة أتي الحكم عليك" (1).
هذا هو البعد الحقيقي للحرب, الذي على أساسه فعلت (الصهيونية المسيحية) فعلها وتأثيرها في كل من بريطانيا وأمريكا، ووصل بها الأمر إلى استخدام أكبر المحرمات الدولية ضد العراق على مختلف الصعد, ولتفرغ ضده كل سموم الأحقاد المزمنة والحديثة، حيث عجزت كل العصور والأزمان الماضية أن تقتص منه، كما يجب أن تقتص - يهودياً ـ ولم يجد يهود العالم وصهيونيوه ـ اليهود منهم وغير اليهود - مناسبة (لمحق العراق) - كما قال الجنرال الأميركي شوارزكوف- أفضل من الحقد الأخير في القرن العشرين، للولوج إلى القرن الحادي والعشرين يهودياً وصهيونياً, وبدعم أميركي دون أن تكون (عقدة بابل) حاضرة في هذا القرن، كما في القرون والعصور الماضية ... وليس أسلوب تدمير العراق، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ونفسياً، ثم خنقه وقطع أنفاسه، إلا الدليل الحي على ما وصل إليه الحقد اليهودي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ... مجنداً كل طاقاته وإمكانياته وحلفائه في هذا الخصوص، عبر توكيل رسمي لأمريكا وبريطانيا .. من أجل محق العراق البابلي، ومحو عقدة بابل من قاموس يهود العالم وتوراتهم ..
وإذا كانت (عقدة بابل) عقدة حية في نفوس اليهود, ويريدونها أن تبقى كذلك حتى (محوها) من الوجود, ألا يحق لعاصمة (الشريعة ألام) الحمورابيه أن تبقى حية في نفوس أبناءها، وفي تاريخ الإنسانية باعتبار أن الحضارة والاكتشافات ليست ملك شعب بمفرده, بل هي ملك للإنسانية جمعاء؟ أليست شريعة حمورابي وقوانينه ملكا للبشرية كلها وقد استفادت منها كلها؟ أليست بابل هي أهم وريثة شرعيه لأول وأهم حضارة وهي سومر؟؟ ...
شاء اليهود أم أبوا ... وشاء الصهاينة - على اختلافهم - أم أبوا ... سيبقى العراق بتاريخه وحضارته، كما ببابله وسومره، صفحة مضيئة في سجل التاريخ، على امتداد عصوره وأزمانه، مهما حاول اليهود والصهاينة والأمريكان, وكل أعداء
_________
(1) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان- ص214 - بيسان للنشر والتوزيع- ط1 2000(2/361)
الحضارات الإنسانية محو هذه الصفحة من الوجود، ومهما كانت قوة (ممحاتهم) التكنولوجية المتطورة فعالة في تغيير المعالم الجغرافية إلا أنها ستعجز عن تغيير (التاريخ) , لأن حقائقه ووقائعه وآثاره ومكتشفاته الناطقة بالحق، ليست قابلة (للمحو) من التاريخ ذاته, ومن الحضارات نفسها .. وهي أكبر من أية قوة متغطرسة لا تستند لقوة الحق في ميزان المعادلات والمقاييس والقيم (1).
وماذا بعد
بعد أن احتلت أمريكا العراق, ودمرت بنيته التحتية والفوقية -المدمرة أصلاً ـ ودمرت, ونهبت تراثه وآثاره، فإنه من حقنا إعادة السؤال مرة تلو الأخرى، هل انتهت المشكلة التي افتعلتها أمريكيا مع العراق؟ وهل سيتخلص الشعب العراقي من الاحتلال الأمريكي الغاشم؟ وهل ستكف أمريكيا عن ملاحقة الدول العربية والإسلامية وفرض الحصار والعقوبات عليها؟! وهل سيتخلص الشعب الفلسطيني من إرهاب الدولة الصهيونية، وينعم بالسلام وبدولته المستقلة كباقي شعوب الأرض؟؟!. بالتأكيد لا, وسنرى جميعاً في الأيام القادمة مشكلة جديدة ستفتعلها أمريكا لتنفيذ ما تريد سواء مع إيران أو سوريا أو السودان .. الخ. فقائمة المطلوبين كبيره -ستون دولة - والقاسم المشترك في القائمة هو الإسلام والعروبة، والأهداف المعلنة التي رشحت من تصريحات المسئولين الأمريكيين مخيفة، وما خفي كان أعظم.
يقول الأستاذ (شفيق مقار) في كتابه (المسيحية والتوراة): "في ضوء تعلق المسيحيين الغربيين المؤمنين، وبخاصة في أميركا، بكل ما يمليه الإيمان عليهم من خطوات عملية، هل قام هؤلاء بكل ما هو مطلوب منهم، أم أنه ما زال عليهم أن يضطلعوا، تحقيقاً للحلم الصهيوني، بما هو أكثر مما اضطلعوا به حتى الآن؟ ".
ويجيب على ذلك بقوله: "ما لم نتخل عن الإيمان بحرفية كل كلمة في العهد القديم وسفر الرؤيا، يجب أن ندرك أنه ما زال على المؤمنين الثقاة, الذين جعلوا (الحلم الصهيوني) حقيقة واقعة أن يقوموا بالكثير مما دعاه قادة أميركا الزمنيون بـ
_________
(1) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق - د. صالح زهر الدين - ص22 ـ 24 - المركز العربي للابحاث والثوثيق- ط1 1999(2/362)
(عمل الله على الأرض) , وما يدعوه قادتها الروحيون بالخطوات اللازمة للتعجيل بمجيء المسيح. وما لم نتخل عن الواقعية، يجب أن نسلم بأن الشيء الوحيد الذي يقف في وجه التحقق المكتمل للخطوة الأولى اللازمة لخلق الظروف المطلوبة لمجيء المسيح , يتمثل في وجود كل تلك الملايين الضالة من الجوييم, التي يمثل (المحمديون) أغلبيتها، على الأرض (المملوكة لليهود) الممتدة من النيل إلى الفرات. وما لم نتناس الأمر الإلهي ببناء الهيكل الثالث, وإخلاء الأرض من كل ما هو ليس يهودياً، يجب أن نتوقع حتمية السير قدماً في مشروع إزالة مسجد عمر, وقبة الصخرة من القدس, وبناء الهيكل الثالث على الموقع بكل تلك الأموال, التي تجمع في أميركا تعجيلاً باستكمال تلك الخطوة الأخرى الضرورية للمجيء" (1).
ويقودنا كل هذا، على ضوء ما هو متوافر من معطيات، إلى محاولة الاستبصار، عن طريق القياس، بما يمكن أن يفضي إليه فعل هذا العامل الديني بالنسبة للبشر في منطقة الشرق الأوسط، الساحة الراهنة لانطلاقة المشروع الصهيوني، وما سوف يلي تلك المنطقة من ساحات أوسع للمشروع الكوكبي. ففيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، شهدت المنطقة وستظل تشهد فيما هو مرجح:
أولاً: التصميم الأميركي الذي لا يحيد على تأمين التفوق التقني والعسكري الإسرائيلي ابتداءً من المجال التقليدي, ووصولاً إلى مجال القدرة النووية, وقدرات الدمار الشامل. والذي ينبغي ألا يغيب عن الذهن ـ هنا ـ أن موقعة هرمجدون اتخذت في الوعي الأمريكي باستمرار منذ بدأ التبشير الأصولي بها بعد 1945 م صورة القصف النووي (2)
المكثف, الذي ستباد فيه كل تلك الجيوش الشريرة (الصاعدة) من
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار -ص441
(2) في تقرير سري نقلته صحيفة لوس أنجلوس تايمز، أطلعت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الكونغرس على خطة لاستخدام محتمل للأسلحة النووية ضد دول يعتقد أنها تهدد أمن الولايات المتحدة. ويشكل هذا تحولاً سياسياً في مجال الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل حيث أنه سيزيد من احتمالات قيام الإدارة الأميركية باستخدام هذه الأسلحة المحظورة. يشار إلى أن سياسة الولايات المتحدة كانت تنص في السابق على عدم استخدام الأسلحة النووية إلا عند الرد على هجوم نووي مماثل أو في ظروف الحرب الاستثنائية. http://www.aljazeera.net/news/america/2002/3/ - TOP وذكرت الصحيفة أن إدارة الرئيس الأميركي بوش طلبت إعداد خطة لاستخدام أسلحة نووية ضد سبع دول على الأقل عند الطوارئ, وأنها أصدرت توجيهات للجيش بإنتاج أسلحة نووية صغيرة لاستخدامها في ميادين قتال معينة. وقالت الصحيفة إن الدول التي وردت أسماؤها في التقرير السري الذي قدم للكونغرس في الثامن من يناير/ كانون الثاني هي الصين وروسيا والعراق وكوريا الشمالية وإيران وليبيا وسوريا. وقالت الصحيفة إن التقرير أبلغ الكونغرس بأن البنتاغون يجب أن يكون مستعدا لاستخدام أسلحة نووية في إطار الصراع العربي الإسرائيلي أو في حرب بين الصين وتايوان أو في هجوم من كوريا الشمالية على الجارة الجنوبية, وقد يكون ضروريا إذا هجم العراق على إسرائيل أو أي دولة مجاورة أخرى. 10/ 3/2002م الجزيرة نت ..(2/363)
صفحات سفر حزقيال وسفر دانيال وسفر يوحنا اللاهوتي على (المدينة المحبوبة) يروشاليم، و (الأمة المقدسة)، إسرائيل. وإلى وقت قريب، كان الاتحاد السوفيتي المرشح الأول لدور (جوج) الشرير قائد كل تلك الجيوش المكونة, لزحف (أبناء الظلام) , على (أبناء النور) إسرائيل وأنصارها من الأصوليين المسيحيين. لكن الاتحاد السوفيتي انسحب الآن من الساحة، وبانسحابه سوف يتعين على (أبناء الظلام) ليكونوا هدفاً لما سوف يوجهه (أبناء النور) من ضربات وقائية بغية تأمين استمرار وضع إسرائيل كقوة عظمى بالمنطقة.
ثانياً: في ظل هذا التصميم الأميركي على تأمين التفوق الإسرائيلي, يرجح أن تشهد منطقة الشرق الأوسط تكثيفاً متصاعداً للدعم التقني والتسليحي الأميركي لإسرائيل, التي يترنم الأميركيون كل صباح معلنين (أنهم يحبونها لأن الله يحبها) , وبالمقابل لذلك التصعيد في قدرات إسرائيل العسكرية والنووية تصعيد للتصدي الأميركي لكل ما يمكن الاشتباه في أنه قد يشكل تحدياً للتفوق الإسرائيلي, أو حتى مجرد (إخلالا بالتوازن) المفروض لصالح التفوق الإسرائيلي تحت رايات التوجه صوب تحديد الأسلحة ونزع السلاح" (1). وما نشهده الآن من حملة على إيران وسوريا وليبيا حول أسلحة الدمار الشامل ما هو إلا خطوة ستفضي إلى ما أفضت إليه في العراق.
ثالثاً: هذا الحشد من العنصرية العمياء والخرافة والتأييد الأمريكي الأعمى, والإعلام الموجه, والدعايات المرسومة, والترسانات المجهزة للنسف والخسف, وأكداس السلاح, وأكوام المليارات, وتلال الأكاذيب, والتضليل المنسق للعالم كله, والاتهامات المسمومة لكل من يتعرض لفضح مخططها, هي ما ينتظرنا في الأعوام القليلة القادمة (2).
فهي حرب صليبيه مجنونة يقودها رجال يؤمنون بأن إسرائيل مشروع إلهي لا بد أن يسيطر ويتحكم، وأن علوها محطة تاريخية لازمة لعودة المسيح, وأن هذه
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار -ص446
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - مصطفى محمود ص23(2/364)
الحرب لا بد أن تجتاح العالم الإسلامي بأسره. بالأمس كانت أفغانستان واليوم العراق، وقبل ذلك فلسطين (1)، وغذاً ايران وسوريا وبعدها السودان والسعودية ومصر ... الخ.
فهل سترضى دول العالم بهذا الأمر؟ وهل سيرضى المثقفون والمفكرون ومؤيدو حقوق الإنسان بهذا الواقع الجديد الذي يراد فرضه على الجميع ـ رغم أنوفهم ـ؟ وهل ستبقى الشعوب العربية والإسلامية خامدة مستكينة لتقودها زعاماتها إلى مصيرها المظلم؟. بالتأكيد لا .. فانهيار الطغيان الأمريكى لم يعد مجرد أضغاث أحلام بل له شواهد يراها العقلاء وأصحاب البصائر بجلاء ... فالتخبط والتناقض وانكشاف الأكاذيب الملفقة وفقدان المصداقية هى أدلة واضحة على ذلك الانهيار فضلاً عن المبالغة في القتل و الابادة الوحشية وانفلات الأعصاب وسوء السمعة.
لقد بلغ اجرام الصليبيين الجدد مداه ولم تعد هناك حجج جديدة تبرره بل لقد فاضت سجلات جرائمهم وفاحت رائحتها الكريهة في كل أرجاء المعمورة ... وبدأت أصابع الاتهام توجه لأساطين الاجرام و شاهد العالم على شاشات التلفاز صحافية شابة وهى تصرخ في وجه رامسفيلد وتصفه بمجرم الحرب وتلك حادثة لها دلالات واضحة! .. لقد سقط عامل الرعب والصدمة والترويع وبدأ الناس يتجرأون على التعبير عما رأته عيونهم ووعته اذانهم من سفك للدماء وابادة للمدنيين الأبرياء وتعذيب للمعتقلين واهدار لكرامتهم الانسانية ولم يعد أحد يهتم بالتقارير الأمريكية عن انتهاك حقوق الانسان بعد أن رأوه واضحاً للعيان!!!
لقد فقد الصليبيون الجدد الحجة في ميادين المنطق والبيان كما فقدوا المبادرة في ساحات القتال وأصبح استمرارهم في الاحتلال يمثل نزيفاً مستمرا لقواتهم وميزانياتهم كما أن اعلان الانسحاب سيكون بداية الحساب على اجرامهم ووتعرية فضائحهم بالقاء المسئولية على بعضهم البعض ولن تنفعهم معذرتهم كما لم تنفع كولن باول ... وما كان اجرامهم ليتكشف للعالم لولا المقاومة العنيدة
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - أحمد حجازي السقا ص124 - دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة - ط2 2003(2/365)
التى فتحت عيون العالم على حقيقة زيف الديمقراطية والحرية التى كانوا يفتخرون بحقوق نشرها واحتكار توزيعه (1) ا!!!
_________
(1) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872(2/366)
الباب الرابع
أمريكا ... تاريخ من الغزو والإرهاب
الفصل الأول
الارهاب الأمريكي في ظل العهد القديم
الإرهاب .. صناعة أمريكية
اعتاد العالم كله على تلقي النصائح والتوجيهات من أمريكا، في القضايا التي تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، باعتبارها الدولة الرائدة في العالم في هذين المجالين. بل أن كثيراً من الأمريكيين يحلو لهم وصف بلادهم بـ (مهد الحريات والديمقراطية والحقوق الإنسانية) وهو وصف يصح بشكل نسبي، وفي بعض المواقف فقط، لكن لا يمكن أن ينسحب على أمريكا بشكل عام والدليل ما تبوح به وقائع التاريخ القريب التي يعرفها الأمريكان أكثر من غيرهم. فتاريخ هذه الأمة بنى على مآسي إنسانية يشيب لها الولدان، بداية من الاستيلاء على أراضى الهنود الحمر بالقوة، ثم دحرهم بدلاً من شكرهم أو حتى التعايش السلمي معهم، ثم بعد أن انتهوا منهم تحولوا إلى أفريقيا، للبحث عن عبيد يصلحون لهم أراضيهم، ويمهدون سبل الحياة المرفهة لهم، وهى فترة من التاريخ لا يكاد يوجد أحد في العالم لا يعرفها، ويعرف ما حدث فيها من ظلم، هو النموذج الذي يمكن لأي ظالم أن يستمده منه (1).
وفي محاولتها تبرير حملتها الصليبية على العالم الإسلامي، لجأت أمريكا وطوال سنوات عديدة إلى استخدام مبررات مختلفة، مرة بدعوى محاربة المد الشيوعي، وأخرى بدعوى الحرص على تطبيق الديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان، وأخيراً جاء الشعار الجديد، وهو محاربة التطرف الإسلامي أو الأصولية الإسلامية التي وجدت، أفضل تعبير لها فيما تسميه أمريكا الآن بالحرب على الإرهاب. والمدقق في التاريخ الأمريكي يجد أن مثل هذه المبررات والدعاوى ليس الأولى من نوعها، بل تكررت على مدار التاريخ الأمريكي لتبرير النهب والسلب، وحق
_________
(1) أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية / إعداد وسام الأسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684(3/6)
التدخل لفرض سيطرتها على العالم، على اعتبار أن ما تقوم به ما هو إلا تنفيذاً لمشيئة إلهية، لتنوير العالم، والأخذ بيده إلى التقدم والحرية. يقول (جون آدمز) أحد الرؤساء الآباء المؤسسين: "أن الله ما أوجد أمريكا إلا لتنفيذ مشيئته المتمثلة في القيام بعبء تنوير وقيادة الشعوب الرازحة تحت نير الجهل والتخلف والعبودية، والأخذ بأيديها صوب التنوير والتقدم والحرية" (1). ونفس المعنى كرره (هرمان ملفيل) بقوله: " إننا نحمل على كواهلنا حريات العالم" (2).
وبناء على هذا الإيمان تصرفت أمريكا مع العالم، فعلى الصعيد الداخلي تم إبادة الهنود الحمر بدعوى أنهم متوحشون وغير حضاريين، وتم استعباد السود، بتلك الدعوة العنصرية، التي تزعم تفوق الجنس الأبيض. وعلى الصعيد الخارجي، تم نهب ثروات أمريكا اللاتينية ومحاربة دولها باسم الدفاع عن النفس مرة، وباسم الحرية مرة أخرى، مما دفع (سيمون بولفار) أحد أبطال تحرير أمريكا اللاتينية في منتصف القرن التاسع عشر إلى القول: "يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتعذيب وتقييد القارة باسم الحرية" (3)، هذا ناهيك عما يسميان بالحرب العالمية الأولى والثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والحرب على أفغانستان والعراق .... الخ القائمة الطويلة.
نعم هذا هو واقع الحال قديماً وحديثاً منذ أن استعمر الانجلوسكسون أمريكا، وأبادوا سكانها الأصليين، ومروراً بالحروب المختلفة التي خاضتها أمريكا خلال القرنين الماضيين، وانتهاءً بحربها الصليبية على العالم الإسلامي، حيث نجحت أمريكيا في السابق، في تضليل العالم ببعض الشعارات البراقه، وتمكنت من نهب ثرواته، وسلب إرادته تحت شعار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها وفي الآونة الأخيرة بدأت تفقد مصداقيتها، وبدأت تتكشف أهدافها الحقيقية الخبيثة تجاه الإنسانية. ففي الأزمات تسقط دائماً أوراق التوت وتظهر الأمور على حقيقتها دون زيف، ويبدأ التاريخ يظهر من جديد ليشكل مرآة تعكس حقيقة أمة، يؤكدها الحاضر،
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص408
(2) الحلم والتاريخ - مائتا عام من تاريخ أمريكا _ كلود جوليان - ترجمة نخلة كلاس- ص 17 - دار طلاس, 1989
(3) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص51(3/7)
وتعززها الممارسات. فمنذ عقود طويلة والعالم ينظر للولايات المتحدة الأمريكية على أنها دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، ولكن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة، بدأ يظهر في الأزمات ليذكر العالم بتاريخ الأمة الأمريكية، وتاريخ الدولة الأمريكية التي أنشئت أساساً على جثث السكان الأصليين للقارة، وبنت اقتصادها على حساب الشعوب المستضعفة.
أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية
إن المتتبع لتاريخ الولايات المتحدة لن يندهش بكل تأكيد من العربدة الأمريكية الحالية، ومن أسلوب القرصنة الذي تنتهجه لنهب مقدرات الشعوب الأخرى باسم محاربة الإرهاب. ففي دراسة لها، ذكرت (اليزابيت مارتينيه)، أستاذة الدراسات العرقية في جامعة كاليفورنيا، وناشطة في مجال حقوق الإنسان، إن الولايات المتحدة الأمريكية كأمة بنيت على ثلاث حقائق أساسية كلها، تؤكد أن فوقية الرجل الأبيض، كفكرة عنصرية هي الأساس الذي شكل الدولة الأمريكية وهذه الحقائق هي:
الحقيقة الأولى وهي: إن الولايات المتحدة الأمريكية دولة وجدت بالاحتلال العسكري، الذي تم على مراحل عدة، المرحلة الأولى تمثلت بالاحتلال الأوروبي للأراضي، التي كان يقطنها سكانها الأصليين، حيث كان يقطن أمريكا قبل الغزو أكثر من 100مليون شخص، ومع نهاية حروب الهنود الحمر، كان هناك 250 ألف نسمه فقط من السكان الأصليين، ويطلق (أنيت جيمس) على هذه الحروب في كتابه (الدولة الأمريكية الأم) حروب الابادة الجماعية، حيث اعتبر أن هذه الحروب هي التي مهدت لبناء الولايات المتحدة الأمريكية، بمعنى أن الأمة الأمريكية بنيت أساساً على ابادة السكان المحليين واغتصاب أراضيهم.
الحقيقة الثانية تقول: إن الأمة الأمريكية لم تكن لتتطور اقتصادياً دون استعباد العمالة الإفريقية، فعندما بدأت الزراعة والصناعة بالازدهار في العهد الاستعماري، ظهرت الحاجة لعدد كبير من العمال، فكان الحل هو استقدام أعداد(3/8)
كبيرة من العمالة الإفريقية كعبيد لدعم القوة العاملة الضرورية، لإحداث النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما العامل الثالث في بناء الأمة الأمريكية، وتبعاً (لإليزابيت مارتينيه) فيتمثل في قيام الولايات المتحدة بالاستيلاء على نصف المكسيك بالحرب، الأمر الذي مكن الولايات المتحدة من التوسع إلى المحيط الهادي، وبالتالي فتح باب التجارة على مصراعيه مع آسيا، وفتح الأسواق لتصدير بضائع واستيراد بضائع لبيعها في الولايات المتحدة الأمريكية، وأطلقت الولايات المتحدة على الجزء الذي أخذته من المكسيك اسم تكساس، عام 1836م، ومن ثم حولت هذا الجزء إلى ولاية عام 1845م. وفي العام الثالث، اجتاحت الولايات المتحدة المكسيك ثانية واغتصبت جزءاً من أراضيها بمعاهدة عقدت عام 1848م. وفي عام 1853، حصلت الولايات المتحدة على جزء ثالث هو اريزونا. وبذلك تكون قد استكملت الحدود الإقليمية لما يعرف الآن بالولايات المتحدة الأمريكية.
هذه كانت الدعائم الأساسية التي بنيت عليها الأمة الأمريكية، وفي عام 1898م أخذت خطوة إضافية تمثلت في اغتصاب الفلبين، وبورتوريكو، وجوام، وكوبا، عبر الحروب الأسبانية الأمريكية، ومنذ ذلك الحين بقيت جميع هذه الدول، باستثناء كوبا مستعمرات أمريكية توفر للدولة الأمريكية موارد الثروة والقوة العسكرية. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد استكملت مرحلة الاحتلال والاستعمار المباشرين اللذين ابتدأتها بالسرقة الدموية للأراضي الأمريكية الأصلية قبل خمسة قرون (1).
مصادر الهوية الوطنية الأمريكية
بالاضافة إلى الدعائم السابقة فإن (صموئيل هنتيجون)، يرى أن الهوية الأمريكية استفادت تاريخياً من ركيزتين أساسيتين، أولاهما الأعداء الذين حاربهم الأمريكيون على مدى التاريخ، بداية من الهنود الحمر والمستعمرين الفرنسيين، ثم
_________
(1) أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية / إعداد وسام الأسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003 م عدد 8684(3/9)
المستعمرين البريطانيين، مروراً بسعي الأمريكيين التاريخي المتواصل لتمييز أنفسهم، والحفاظ على استقلالهم عن القارة الأوروبية بشكل عام، وعن القوى الاستعمارية الأوروبية بشكل خاص، وانتهاءً بالحرب الباردة. وهنا يعبر هنتنغتون بصراحة عن اعتقاده، بأن العداء للآخر يلعب دوراً أساسيا في تشكل هوية أي جماعة، ويرى أن الحروب التي خاضها الأوروبيون في العصور الوسطى، وقبل بداية عصر الدولة القومية كانت ضرورية لتشكيل هوية الدول الأوروبية المختلفة. أما ثانية الركيزتين الإضافيتين، فهي عقيدة الأمريكيين السياسية. فلكي يميز الأمريكيون أنفسهم عن أجدادهم البريطانيين سعوا ـ كما يعتقد هنتنغتون ـ لنشر ثقافة سياسة مستقلة ومتميزة عن ثقافة الأوروبيين الإقطاعية والتمييزية، التي اضطرتهم إلى ترك أوروبا للأبد والفرار بمعتقداتهم إلى الولايات المتحدة. ومن أهم عناصر هذه العقيدة السياسية، مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية النيابية واحترام الحقوق والحريات الدينية والمدنية وسيادة حكم القانون، والتى استمدت جذورها من الإثنية البريطانية والعرق الأبيض والدين المسيحي والثقافة الإنجليزية - البروتستانتينية (1).
وبكلمات قليلة يلخص الكاتب والصحفي المعروف (بيار سالينجر) في تقديمه لكتاب (أميركا التوتاليتارية) صورة الأمريكي المفعم بالعقيدة الكالفينية، فيقول عن هذه العقيدة: إنها تقرر ما يلي: "لئن كان الله قد سمح بأن يجتمع في أرض أميركا شعب من رجال ونساء مميزين، فذلك لأنه منح هذا الشعب رسالة حكم العالم ذات يوم" (2). فأمريكا التي خرجت من رحم الثورة على الحكم الإمبراطوري البريطاني، حملت في طياتها بذورها الإمبراطورية الخاصة من البداية، حيث أقدم نوعان من الناس على اقتحام العالم الجديد لبناء المستعمرات أوائل القرن السابع عشر الميلادي، كانا، كلاهما، يبحثان عن مصيريهما. إلى فرجينيا مع الكابتن (جون سميت) ذهب المغامرون والحرفيون سعياً وراء الثروة. وإلى ماساتشوستش مع حاكم الولاية
_________
(1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية: صموئيل هنتنغتون ـ عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل - ط.1. - بيروت، لبنان: دار الساقي، 2002 - المصدر: الجزيرة نت(3/10)
(جون ونثروب) ذهب الحجاج والطهريون (البيوريتانيون) بحثاً عن الفردوس. هذان الدافعان ظلا يحركان عملية التوسع الأمريكية منذ ذلك التاريخ (1).
أما كيف تم ذلك، فهذا ما وضحه (ميشال بوغنون) في كتابه (أميركا التوتاليتارية)، عندما تمسك بالتعريف البسيط للتوتاليتارية، والتي يرى أنها تتمثل في "قوة احتوائية بمعنى أنها تنوي امتلاك مجمل مكونات الكيان الذي تعيش فيه". ولما كانت أميركا مدفوعة بهاجس السيطرة على العالم وأمركته. فإن (بوغنون) ينبش لإثبات هذه الرؤية في التاريخ والضمير الأمريكي، ويرصد بنظرة عابرة، ولكن ثاقبة لحظات تكونهما التي أخرجت ما يعرف بالأمة الأمريكية إلى الوجود، الأمة المختارة باختيار القدر فحسب (2).
أرض الميعاد والدولة الصليبية
في كتابه (أرض الميعاد والدولة الصليبية) يتناول (والتر ماكدوجال) معضلة السياسة الخارجية الأمريكية بين المثالية والنفعية التجريبية، حيث يستعرض دور الولايات المتحدة في السياسة العالمية خلال القرنين الماضيين. وكما هو واضح من عنوان الكتاب (أرض الميعاد والدولة الصليبية) يلجأ المؤلف إلى الاستعارة الدينية، فتعبير أرض الميعاد مستعار من العهد القديم (اليهودي)، وتعبير الدولة الصليبية قصد به الإشارة إلى العهد الجديد، والى الصليب، كرمز للتبشير وللتضحية من اجل خلاص البشرية، ومن ثم فان أمريكا ارض الميعاد تعكس فكرة المهاجرين الأوائل، وكذلك الأمريكيين حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي عن أمريكا، إما فكرة الدولة الصليبية فتعكس تصور الأمريكيين عن أنفسهم، وسلوك أمريكا في الشؤون العالمية خلال القرن العشرين، من منطلق أن أمريكا لها رسالة لخلاص البشرية .. رسالة لنشر الحرية والتقدم. وبمعنى آخر فان أمريكا القرن التاسع عشر الميلادي وظفت سياستها الخارجية من اجل الحرية في أرض الميعاد، أما أمريكا ـ القرن
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص43
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل - المصدر: الجزيرة نت(3/11)
للعشرين ـ فكانت سياستها الخارجية توسعية لنشر الحرية في العالم. ولجوء (ماكدوجال) إلى الاستعارة الدينية، لا يعني انه يقدم رؤية دينية لدور أمريكا في العالم، ولكنه يشي بدور العامل الديني في السياسة الخارجية الأمريكية، والذي استهدف الحرية في الداخل، والعهد الذي حاولت فيه أمريكا توسيع دورها في العالم، ثم قيادته.
ففي العهد القديم الأمريكي، اعتبر مؤسسو أمريكا أنها (إسرائيل الجديدة التي هاجروا إليها من أجل الحرية ـ وأرسوا قواعد السلوك الأمريكي الخارجي من أجل أن ينعموا بالحرية في الداخل، وفي العهد الجديد الأمريكي بعد عام 1898م (عام اكتمال الاستيطان حتى الساحل الغربي) تحرك الأمريكيون من أجل تشكيل العالم وفق تصورهم، من خلال قواعد جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية، يأتي ضمنها تبرير التوسع واستخدام القوة في شكل أقرب إلى الحملة الصليبية، لتحضير العالم (على الطريقة الأمريكية) (1). فهذا الشعب الأمريكي المقدام يحمل على كتفيه رسالة كلفته بها العناية الإلهية، بمنح نعم الحرية والديمقراطية للشعوب الهمجية، التي مازالت محرومة بسبب همجيتها من تلك النعم. ونتيجة لتلك الرسالة الآلهية لم ينج شعب من شعوب العالم حتى الآن من نتائج اضطلاع أمريكا بحمل مشعل الحضارة والحرية والديمقراطية، إلى كل ركن من أركان كوكب الأرض (2).
العهد القديم الأمريكي (الإرهاب ضد الهنود والزنوج)
يحدد (والتر ماكدوجال) ثمانية تقاليد للسياسة الأمريكية منذ نشأتها وحتى الآن. فخلال العهد القديم الأمريكي أي حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حكمت السياسة الخارجية الأمريكية أربعة تقاليد هي:
- الحرية في الداخل، أي أن توظف السياسة الخارجية للدفاع عن حرية أمريكا.
_________
(1) ارض الميعاد والدولة الصليبية ـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص7
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص291(3/12)
- العزلة، أي أن يكون لأمريكا الحرية في صنع سياسة خارجية باستقلال عن مطامع القوى الأوروبية، وان تقف موقف الحياد من الحروب الأوروبية، إلا عندما تتعرض الحرية الأمريكية للخطر.
- مبدأ (مونرو)، الذي نص على انه لا يجوز لأي دولة أوروبية أن تعد القارتين الأمريكيتين مكاناً صالحاً للاستعمار، أي عدم تدخل أوروبا في القارتين الأمريكيتين (1).
- التوسعية، وهي تقليد قام على مقولة (المصير المبين) (لجون أو سوليفان) بمعنى أن القدر فرض على الأمريكيين، أن مصيرهم الاستكشاف والغزو باتجاه الساحل الغربي وصولاً إلى المحيط الهادي (2).
وقد تميز العهد القديم لأمريكا الذي انتهى عام 1898 م باكتمال غزو (أرض الميعاد) في شمالي أمريكا، بين ساحل الأطلنطي شرقاً، وساحل الهادي غرباً، بعملين أساسيين، الأول: ذبح وإبادة الهنود الحمر للاستيلاء على أراضيهم، والثاني استعباد الزنوج لاستخدامهم في المزارع والمناجم (3).
إبادة الهنود الحمر
عندما وصل الأوروبيون إلى أمريكا، وجدوا فيها شعوباً ذات حضارات عريقة، كونوا فوق أرض القارة ممالك وإمارات منذ آلاف السنين، ولهم عاداتهم الخاصة بهم وأديانهم وأزيائهم، وكان هؤلاء السكان الذين سماهم الأوروبيون هنوداً حمراً يعيشون في رغد من العيش، ويمارسون الأنشطة الحضارية من زراعة وصناعة وتعدين، يرتادون البلاد شرقاً وغرباً، ويكتشفون المناجم ويستغلون ما بها من معادن مثل الحديد والنحاس والذهب والفضة، حتى أن بعض المدن الأمريكية القديمة كانت شوارعها مرصوفة بمعدن الفضة مثل بعض مدن الأرجنتين، لذلك
_________
(1) الحياة والمؤسسات الأمريكية - دوغلاس ك. ستيفنسون - ترجمة امل سعيد- ص 178 - الدار الاهلية للنشر والتوزيع، ط1 2001
(2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص8
(3) أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى ص112(3/13)
اشتق الاسم الأوروبي الجديد لهذه البلاد من لفظ ARGENT اللاتيني، ومعناه الفضة. كما أقام حكام هذه البلاد من الهنود الحمر الهياكل والمعابد والقصور الشاهقة، ومنها أهرمات تشبه أهرمات الجيزة إلى حد ما، وان لم تكن في ضخامتها. وكان هؤلاء السكان يعرفون الفنون المتطورة من حفر ونقش وإقامة للنصب والتماثيل، كما كان لهم باع طويل في أساليب الزراعة، واستغلال الأرض، واستئناس وتربية المواشي، وكان من هذه الشعوب ـ أيضا بدو رحل وظيفتهم الصيد والترحال (1).
وتشير المعطيات التاريخية إلى أن الهنود الحمر كانوا أول من سكن القارة الأمريكية منذ القدم، حيث كانت لهم ثقافة مزدهرة، عاشت في ظلها القبائل الهندية المختلفة بسلام ووئام، وظلوا بعيدين عن التأثر بالعالم الخارجي بسبب وجودهم على الطرف الآخر من المحيط. ولكن ذلك لا يعنى أنهم كانوا بمعزل كامل عن العالم كما يعتقد البعض، وكما يروج الغرب لذلك لأسباب استعمارية ليعطي نفسه الحق في نهب هذه البلاد لأنها من اكتشافه هو ـ أي الغرب. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العرب المسلمين قد وصلوا إلى أميركا، قبل كولومبوس بخمسمائة سنة، حيث وصل الملاح (خشخاش بن سعيد القرطبي) إلى جزر البحر الكاريبي عام 889م، ثم وصل بعده الملاح (بن فروخ الأندلسي) إلى جزيرة جامايكا عام 999م. وعندما وصل كولومبوس إلى ميناء بالوس في كوبا عام 1492م لم يجرؤ على النزول في تلك المنطقة، عندما شاهد قبة مسجد بالقرب من الشاطئ فحول اتجاهه إلى جزيرة صغيرة، وقد كان يظن نفسه متجها إلى الهند في طريق التفافي لا يسيطر عليه العرب والمسلمون.
وكولومبوس نفسه كان عام 1467م بحاراً مغموراً في سفينة عربية أبحرت على سواحل أفريقية، ثم وصلت البرازيل دون أن يعرف أنه وصل إلى قارة جديدة، وعندما أبحر بعد ذلك بربع قرن بتمويل وتشجيع من الملكة (إيزابيلا) ملكة أسبانيا، كان ثلث بحارته من العرب ويعتمد على خرائط وأدوات عربية. أما أول من وصل إلى القارة الأمريكية فهو الملاح الفينيقي (ماتو عشتروت) عام 508 ق. م، ثم الملاح
_________
(1) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 39(3/14)
القرطاجي (روتان) عام 504 ق. م. وتدل الآثار المتبقية والدراسات على اندماج وتأثر واضح لسكان أميركا بالعرب دون أن تطمسهم الحضارة العربية أو تفنيهم (1).
وفي كتابه عن الهنود الحمر، قام الكاتب التشيكي (فلاديمير هلباتش) بجمع حكايات الهنود الأميركيين وأساطيرهم متيحاً نافذة نادرة لمعرفة ثقافة أمة لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ، ومراجع الأنثروبولوجيا، حيث كان للهنود الأمريكيين ثقافة مزدهرة، مفعمة بالمعاني الإنسانية الراسخة، وكان وصول الأوروبيين بداية لانحسارهم، بل وانقراضهم. فمن أبرز ما محاه تاريخ المنتصر إعجاب الغزاة بروعة ما شاهدوه لدى الهنود من أفكار وتقنيات وشرائع وعادات وفنون وفلسفه حياة وأساليب بلاغيه وفصاحة لسان. ولكن تاريخ المنتصر وحش لا يسمن ويقوى إلا بلحم الفرائس الآدمية. لقد محا الحسنات وأباد أهلها المحسنين، ولم يترك منهم إلا تلك الصورة الهوليووديه المشوهة لكائنات عراة متوحشين، ينبت في رؤوسهم الريش، ويعوون في البراري كما تعوي الضباع (2).
مفارقة التوماهوك
يلاحظ على قصص الهنود وحكاياتهم، أنها قريبة من قصص الشرق، وبعضها قد يكون يقترب كثيراً من قصص وردت في الكتب السماوية، مثل الحياة في السماء والنزول إلى الأرض، وهي أيضاً منسجمة كثيراً مع تراث الشرق المفعم بالدعوة إلى الخير، والرفق بالناس والحيوان، مثل قصة (توماهوك)، التي هي في الأصل فأس هندية كان الهنود الحمر يحملونها لقتل أعدائهم ونزع فراء رؤوسهم، ولكن زعيم هندي عظيم شعر بقسوة الحرب ووحشيتها فتقدم بمبادرة صلح وسلام بين القبائل، حيث أقيم احتفال كبير وحفر خندق دفنت فيه فؤوس التوماهوك ليعيش الناس في سلام أبدي (3) ... ولكن ذلك الزعيم الهندي الطيب لو كان يدرى إن التوماهوك (4) الذي
_________
(1) حكايات الهنود الأمريكيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة ـ المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول - ومراجعة د. زبيدة أشكناني - الجزيرة نت
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص174
(3) حكايات الهنود الأمريكيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة -المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول
(4) أصبح التوماهوك اسم لصاروخ أمريكي فتاك يمكنه حمل رؤوس نووية، ويمكنه إصابة الهدف بدقة على بعد آلاف الأمتار. وقد استخدمته أمريكا في حربها على أفغانستان والعراق بكثافة مما أدى إلى قتل الألوف من الأبرياء.(3/15)
دفنه سيأتي من سيخرجه إلى الوجود ثانية وسيستخدمه في إبادة ألوف البشر، لما فعل ذلك، ولأبقاه على الأقل لمواجهه عنصرية المهاجرين الأوربيين إلى أمريكا. ولكن يبدو أن هؤلاء الهنود الحمر الطيبين الذين كانت ثقافتهم وحضارتهم تقوم على المثل العليا لم يدركوا طبيعة المغتصب الجديد الذي لا يكتفي بالسلب والنهب، بل أيضاً يعشق القتل ورائحة الدم، حيث كانت سياسة الإذلال والترويع التي انتهجها الحجاج، ومن قبلهم مستعمرو فرجينيا أفضل تعبير عن شكرهم للضيافة الهندية.
فكثيراً ما كانوا يقتلون الهنود الذين يحملون إليهم الطعام والهدايا، بل كانوا يقدمون لهم المغريات الكثيرة لزيارتهم من أجل أن يكمنوا لهم ويقتلوهم، وكانت الوسيلة المحببة لاستدراجهم، واستخراج ذهبهم خطف أولادهم لما لاحظوه من تراحم الأسرة الهندية فيما بينها وتكافلها ورعايتها لأطفالها (1).
كما عمد المحتلون البيض إلى تدمير حضارة الهنود العالمية وثقافتهم، التي كانت من حيث مستواها الأخلاقي ـ الروحي، أعلى بكثير من الثقافة التلمودية ـ اليهودية وتقترب من الأفكار المسيحية. فالوحشية المرضية والجشع، السمتان المميزتان للمحتلين البيض في أمريكا الشمالية، كانتا بعيدتين تماما عن الهنود الحمر الذين رأوا في الغزاة البيض أناساً شاذين ضارين، ولا يستحقون سوى الشفقة (2). وفي حديث لزعيم قبائل الهنود الحمر ويدعى (بوهاتن) مع (جون سميث) قائد مستوطنه جيمس تاون قال: لماذا تصرون على أن تأخذوا منا بالقوة ما يمكن أن تأخذوه بالمحبة؟ لماذا تصرون على تدميرنا، ونحن الذين قدمنا لكم الغذاء؟ ما الذي تستطيعون الحصول عليه بالحرب؟ إننا نستطيع أن نخفى تمويننا، ونفر إلى الغابات وعندها سوف تقاسون من الجوع بسبب سوء معاملتكم لأصدقائكم (من الهنود الحمر). ما هو سبب غيرتكم وحسدكم؟ ها أنتم تشاهدوننا فنحن غير مسلحين،
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص40
(2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص24(3/16)
ولدينا الاستعداد لنمدكم بما تحتاجون إليه إذا جئتم بطريقة ودية، وليس بالسيوف والبنادق كما لو كنتم قادمين لغزو عدو (1).
كما تكشف قصة احد الهنود الحمر ويدعى (سكوانتو) مع الحجاج الأوربيين، التفوق الأخلاقي والعقلي والحضاري للهنود، وتروي عشرات الكتب التي أرخت لهذا الفتى الأسطورة وعشرات الأفلام وقصص التبشير التي استلهمت سيرة حياته، وجنت منها الملايين، كيف انتشل سكوانتو أسطورة أمريكيا من الموت في شتائها الأول، حين احضر للحجاج الطعام، وعلمهم كيف يزرعون الذرة واليقطين وأنواع الحبوب والقرعيات؟ وأين يصطادون السمك ويسمدون الأرض ببعض أنواعه؟ بل وكيف يغتسلون ويتخلصون من قذارتهم وروائحهم الكريهة عبثاً (2). وثمة قصص أخرى كثيرة عن الأخلاق الحميدة والشجاعة والكرم التي تحلى بها الهنود الحمر، والتي تحذر من الظلم. وقد اعتبر (كولمبوس) الهنود أكثر شعوب العالم سخاء، مقدماً بذلك مساهمة في أسطورة المتوحش النبيل. "إنهم لا يعرفون اشتهاء ما لدى الغير من خيرات .. إنهم لا يعرفون المكر، ويجودون بما يملكون إلى درجة أن أحد لن يصدق ذلك إلا إذا كان قد رأى شيئاً كهذا" (3).
ولكن وبالرغم من هذه الحضارة الراقية والاخلاق الحميدة التى تميز بها الهنود الحمر، فقد جاء شاحبو الوجوه (الأوروبيون)، وأطلقوا نيران بنادقهم عليهم بلا رحمة، وحاصرهم الموت والجوع والبرد، وطردوا من أراضيهم ودنست مقدساتهم، ولكن بقيت قصصهم تروى وتشهد.!! (4). حيث بدأت سياسة التدمير الشامل لكل أسباب الحياة الهندية في العالم الجديد، منذ اللحظة الأولى لشروق الشمس الانكليزية على جزيرة روانوك، التي استقبلهم أهلها عام 1580م بالترحاب فاقطعوهم ما شاءوا من الأرض وآووهم وكسوهم وأطعموهم الطعام على حبه، وعلموهم أسباب البقاء في هذه الطبيعة الغريبة عنهم. لكن ما إن اشتد ساعدهم قليلاً حتى راحوا يخترعون
_________
(1) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص26
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص41
(3) فتح أمريكا (مسألة الآخر) -تزفيتان تودوروف - ترجمة بشير السباعي- تقديم فريال جبوري غزول- ص 55 - الناشر: دار العالم الثالث- ط2 2003
(4) حكايات الهنود الأميركيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة - المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول(3/17)
الأعذار للقتل العشوائي، ويتحينون الفرص لإتلاف المحاصيل، وإحراق القرى والحقول، وقطع أسباب الحياة عن الهنود عمداً وكان الهنود قد لاحظوا منذ الأيام الأولى أن المستعمرين ينبشون القبور لسرقة ما فيها، أو لآكل جثثها الطازجة أحيانا. ثم تصاعدت خطة التجويع والتدمير الاقتصادي، وازدادت تنظيماً وتركيزاً واستهدافاً على مدى القرنين التاليين (1).
ففي بداية الهجرة وصل إلى شواطئ القارة الشمالية نزلاء السجون البريطانية والألمانية الذين أفرجت عنهم السلطات، ودفعت بهم إلى الأرض الجديدة ليبحثوا عن مكان جديد يعيشون فيه ويجربون حظهم في جمع الثروة، وكان هؤلاء مسلحين بأحدث الأسلحة، فكونوا فيما بينهم عصابات مسلحة راحت تداهم قرى الهنود الحمر وجماعاتهم، وتسلب ما بأيديهم من ذهب وجواهر، ثم تفتك بهم و تطردهم من ديارهم، وتستولي على أراضيهم لتقيم عليها مستوطنات أوروبية، ثم تتوسع كل مستوطنه شيئاً فشيئاً بقدوم مهاجرين جدد إليها، وتضم إليها أراض جديدة بعد طرد الهنود الحمر منها أو إبادتهم (2). وفي نهاية القرن السابع عشر الميلادي زاد الزحف نحو الغرب بعد الثورة (1783ـ1800) ولكن حرب 1812م مع بريطانيا، وكذلك غارات الهنود كانت قد أبطأت هذا التقدم بين عام 1800ـ1815م. وهذا الزحف نحو الغرب يمكن وصفه كالآتي: في المقدمة أصحاب الصيد وتجار الفراء والمستكشفين، ويتبع هؤلاء موجه الرواد المزارعين، وعندما تزداد كثافة هؤلاء المستوطنين، فإن موجة أصحاب الصيد وتجار الفراء تتقدم للأمام .. وهكذا تعاد الكرة. وقد تلا الصلح مع بريطانيا عام 1815م، موجه هجرة داخلية عارمة يطلق عليها في التاريخ الأمريكي اسم الهجرة الكبرى (3).
لقد كان الاستيلاء على الأرض هو الهدف الأول والأخير للمستعمرين الأوربيين في أمريكا الشمالية. وكان إنجاز هذا الهدف مرتبط بشرط آخر، هو إبادة الهنود الحمر، والتخلص منهم بكل الوسائل الممكنة. لذلك أخذت هذه العملية صوراً
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص33
(2) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 43
(3) إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص159 - دار الفارابي/ بيروت - ط1 2004(3/18)
مختلفة منها الحروب الشاملة والمناوشات المحدودة والقتل الفردي، حتى أن إبادة الهنود بالسلاح الجرثومي كانت سياسة رسمية عبر تقديم بطانيات ملوثة بالجراثيم لهم (1). كما كانت الحكومة البريطانية في عصر الملك (جورج الثالث) تعطى مكافأة مالية لكل من يحضر فروة رأس هندي من الهنود الحمر، قرينة تدل على أنه قتله. وبعد استقلال الولايات المتحدة بعد ذلك بنحو خمسين عاماً، أي منذ 1830م استمر هذا التقليد، بل تصاعد حين اصدر (جاكسون) قانون ترحيل الهنود الذي تم بمقتضاه تجميع خمسين ألفاً من هنود (الشيروكى) من جورجيا، وترحيلهم سيراً على الأقدام في برد الشتاء القارس إلى معسكر خصص لهم في اوكلاهوما، فمات أكثرهم قبل أن يصلوا، وسمى الطريق الذي مشوا فيه: ممر الدموع!! كان ذلك عام 1835م، واستمرت حرب الإبادة ضد الهنود الحمر حتى تقلص عددهم من 6.5 مليون عام 1500م إلى نصف مليون عام 1890م!! (2).
لقد كان المهاجرين الأوربيون من أفظع أنواع المجرمين، وأشدهم قسوة وإجراماً وميلاً إلى سفك الدماء، وفي سبيل المغامرة وجمع الذهب أو التنقيب عنه كانوا لا يبالون بشيء، وأصبح قتل الهنود الحمر وتعذيبهم من أعمالهم الروتينية، بل أن العصابات الأوروبية كثيرا ما كانت تهاجم بعضها بعضاً للسلب والنهب، ولا يتورعون في سبيل الحصول على الذهب أو الماشية من فعل أي شيء (3). وكان (اوليفر هولمز) وهو من اشهر أطباء عصره، "قد لاحظ في عام 1855م إن إبادة الهنود هو الحل الضروري للحيلولة دون تلوث العرق الأبيض، وان اصطياد الوحوش في الغابات مهمة أخلاقيه لازمه لكي يبقى الإنسان فعلاً على صورة الله". وهكذا بدأت دعوات الإبادة الشاملة تعلو عندما لم يكن في كل الشمال الأميركي سوى ألفى إنكليزي، ثم ازدادت هذه الدعوة حدة وجنوناً حين تأكد الإنكليز أن الهنود قد يرحبون بهم ضيوفاً، ويكرمونهم بما يكفيهم من الأرض والرزق، ويعيشون معهم بسلام، لكنهم لن يتنازلوا طوعاً عن أراضيهم، ولن يتقبلوا فكرة السخرة والاستعباد، وكانت
_________
(1) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص25
(2) الإخطبوط الصهيوني وخيوط المؤامرة لابتلاع فلسطين - تأليف سيناتور جاك تنى - تعليق وترجمة هشام عوض- - دار الفضيلة للنشر والتوزيع
(3) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 44(3/19)
كل بادرة لمقاومة هذا الجشع والتعصب المقدس برهاناً إضافياً على صدق أسطورة أميركا، وعلى صدق الدعوى بأن الهنود متوحشون عدوانيين لا تنفع معهم إلا الإبادة، لأن التسامح مع الشرير ليس إلا تشجيعاً للشر، وليست هناك خطيئة أعظم من هذا. ومع تقدم الزمن صارت شيطانية الهندي الأحمر بديهية لا تحتاج إلى دليل مثلما إن إنكليزية الله وتفوق شعبه من البديهيات، التي لا تحتاج إلى دليل. لقد سكنت شيطانية الهنود أحلام الملائكة حتى إن (ميرسي شورت) التي زعمت أن الشيطان تلبسها وصفته على شكل هندي له أظلاف شيطانية (1).
وبالرغم من ضخامة عدد الهنود الحمر، الذين تمت إبادتهم، إلا أن أحد الباحثين يرسم صورة أكثر مأساوية فيقول: "لقد بلغ عدد الهنود الحمر في الولايات المتحدة عام 1901م حوالي 269 ألف نسمة، بينما قدر عددهم قبل أربعة قرون من هذا التاريخ بما يتراوح بين عشرة ملايين وأثنى عشر مليون نسمة، ومن هنا يتبين لنا هول عمليات الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر بعد وصول الأوربيون إلى أمريكا. ففي المعدل فإن من بين كل عشرين شخصاً من الهنود الحمر بقى شخص واحد (2). مفارقه عجيبة وحزينة، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، حيث إن المستوطنين المتوحشون استمروا في الاستيلاء على أراضي الهنود الحمر، الذين نفذ صبرهم فقاوموا المستوطنين، وهاجموا مستعمرة جيمس تاون. وعلى أثر ذلك وضع قادة شركة فرجينيا الإنجليزية ـ التي تشكل جيمس تاون أحد استثماراتهاـ تقريراً جاء فيه: "إن الخلاص من الهنود الحمر أرخص بكثير من أية محاولة لتمدينهم، فهم همج برابرة عراة متفرقون، جماعات في مواطن مختلفة، وهذا يجعل تمدينهم صعباً، لكن النصر عليهم سهل، وإذا كانت محاولة تمدينهم سوف تأخذ وقتاً طويلاً فإن إبادتهم تختصره، ووسائلنا إلى النصر عليهم كثيرة، بالقوة بالمفاجأة بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة المطاردة بالجياد السريعة، والكلاب المدربة، التي تخيفهم لأنها تنهش جسدهم العاري" (3).
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص61
(2) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية ـ ص21
(3) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص47(3/20)
لقد قدم كثير من المؤرخين الأدلة والبراهين على المجازر التي ارتكبتها المستوطنات الأمريكية بحق الهنود الحمر، وكيف أبيدوا، وكيف كانوا يطاردون ويقتلون. ففي كتابه (سنة 501 الغزو مستمر) يعرض (نعوم تشومسكي) شهادات ذات دلالات إنسانية حول ما قام به الأمريكيون، حيث يقول: "سلك مستوطنو شمال أمريكا نفس الطريق، الذي سلكه سابقوهم في البلد الأم. فقد كانت فرجينيا منذ الأيام الأولى لاستيطانها مركزاً للنهب والقرصنة، وقاعدة للإغارة على التجارة الاسبانية وسلب المستوطنات الفرنسية على ساحل (مين)، ولابادة (عبدة الشياطين) و (البهائم الأجلاف)، الذين مكن كرمهم المستوطنين الأوائل من البقاء إحياء، صائدين إياهم باستخدام الكلاب المتوحشة، وذابحين النساء والأطفال ومتلفين المحاصيل، وناشرين مرض الجدري بينهم بواسطة توزيع بطانيات حاملة للعدوى، وكل الوسائل الأخرى الحاضرة في أذهان أولئك البرارة والآتية من تجربتهم التي مازالت طازجة في ايرلندا" (1).
الحرب الجرثومية
في أواخر ما يسمى بالحرب الهندية ـ الفرنسية ظهرت أول وثيقة دامغة تثبت استخدام الغزاة للسلاح الجرثومي عمداً، وتؤكد إن إبادة الهنود بالسلاح الجرثومي، كان سياسة رسميه، ففي سيناريو كلاسيكي منقح لقصة تسميم الزعيم (تشيسكياك) ومن معه بأنخاب (الصداقة الجماعية) على ضفاف نهر البوتوماك، كتب القائد الإنكليزي العام اللورد (جفري امهرست) في عام 1736م أمراً إلى مرؤوسه الكولونيل (هنري بوكيه) يطلب منه أن يجري مفاوضات سلام مع الهنود، ويقدم لهم بطانيات مسمومة بجراثيم الجدري (لاستئصال هذا الجنس اللعين). وقد اشتركت (قوى الحضارة) في حرب ضارية لإخفاء هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق المشابهة عند اكتشافها في أواخر الثلاثينات (2).
_________
(1) الولايات المتحدة من الخيمة إلى الإمبراطورية - إعداد ديب على حسن ص17
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص47(3/21)
ففجأة رأت ذاكرة الزنابير صورتها في المرآة: الإمبراطور عارياً تطارده أشباح 112 مليون آدم وحواء، ينتمون إلى أكثر من أربعمائة شعب كانوا يملأون (مجاهل) العالم الجديد بضحكة الحياة (لم يبق منهم في إحصاء 1900 سوى ربع مليون) وتلوح لعينيه مشاهد 93 حرباً جرثومية شاملة (1)، آتت على حياة الملايين من هذه الشعوب. هذه الإبادة الجماعية الأعظم والأطول في تاريخ الإنسانية والتي حاول التاريخ المنتصر محو ذكراها من وجه الأرض أيقظتها حالات (الجمرة الخبيثة) بكل أهوالها في مخيلة الزنابير، التي بدأت ترى مستقبلها في صورة ضحاياها، الذين أبيدوا بجراثيم الجدري في خليج مساشوستس أو بمبيد الأعشاب البرتقالي، وغاز الخردل، واليورانيوم المستنفد في كوريا وفيتنام، وما بين الرصافة والجسر (2).
هكذا تأسست أمريكا بلد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهكذا كانت أخلاق روادها الأوائل ورعيلها الأول الذين لازال الأمريكيون وكثيرون في العالم، يتغنون بإنجازاتهم العظيمة .. !؟ وقد لاحظ (هوارد سيمبسون) في مقدمة كتابه الرائع عن دور الأمراض في التاريخ الأمريكي إن المستعمرين الإنكليز لم يجتاحوا أميركا "بفضل عبقريتهم العسكرية أو دافعهم الدينية، أو طموحاتهم، أو وحشيتهم، بل بسبب حربهم الجرثومية التي لم يعرف لها تاريخ الإنسانية مثيلاً (3).
وحتى إعلان الاستقلال الأمريكي، الذي أقر مبادئ الحرية والمساواة، وصف الهنود بأنهم "متوحشون بغير رحمة وسيلتهم المعروفة هي شن الحرب وذبح الجميع". هكذا تكلموا عن السكان الأصليين حتى يبرروا مسبقاً المذابح ونهب الأراضي، واعتبار تلك الجرائم البشعة نوعاً من الدفاع الشرعي، كما لو كان الهنود غزوا أراضى المهاجرين، بينما هؤلاء الأوربيين كانوا ينهبون أراضى الهنود ويدمرون حياتهم بصفة مستمرة. ومنذ ذلك الحين، ومنذ تلك الخطيئة الأساسية وضع حجر الزاوية الأساسي للسياسة الأمريكية، حيث شهد (توكفيل) بربرية المستعمرين ضد الهنود الحمر، الذين يملكون أسلحة لا تتوازن مع أسلحة الغزاة، ووصف بسخرية
_________
(1) الامبراطورية الأمريكية البداية .. والنهاية - منصور عبد الحكيم - ص 30 - دار الكتاب العربي - ط1 2005
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص16
(3) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص23(3/22)
لاذعة وإنسانيه، ذبيحة ذلك النصر، الذي حققته الحرية، وهذه المسيرة المنتصرة للحضارة عبر الصحراء، بينما في قلب الشتاء كان البرد قارصاً وكان ثلاثة أو أربعة آلاف جندي يطاردون السكان الأصليين الرحل، الذين يخطون آخر خطواتهم نحو الانقراض، وهم يحملون جرحاهم ومرضاهم وأطفالهم الرضع وعواجيزهم إلى حافة الموت ... مشهد مؤثر لا يمحى أبدا من الذاكرة (1).
لقد كان المستوطنون الجدد الأمريكيون البيض بمنتهى الغدر والجحود تجاه مساعدة الهنود لهم، ولولا هذه المساعدة لما أمكنهم البقاء، ولما تم لهم ذلك ومع هذا لم يكونوا يشعرون بأي دين تجاههم أو أي واجب أخلاقي، بل أن هؤلاء الوافدين جاهروا بازدراء عقائد الهنود واحتقارهم، بل ذهب (كوتون ماذر) أحد أبرز المفكرين الأميركيين إلى اتهام الهنود بأنهم يعملون تحت إمرة (إبليس)، وإنهم قدموا إلى الولايات المتحدة لكي يمنعوا الأناجيل من فرض سلطانهم المطلق عليها (2).
استعباد الزنوج
لم يكن البيض الذين هاجروا من بريطانيا بمحض إرادتهم العنصر الوحيد في مجتمع المهاجرين الذي نما في المستعمرات، بل كانت هناك مصادر أخرى في مقدمتها تجارة الرقيق، وترحيل المستعمرين المساجين أصحاب السوابق إلى أمريكا وأستراليا، حيث كانت المشكلة الأساسية، التي واجهت المهاجرين الأوربيين في العالم الجديد، هي توفير الأيدي العاملة لهذه المساحات الشاسعة من الأرض، التي استولوا عليها بالقوة من السكان الأصليين. فقد كان هناك الهنود الحمر بالطبع، ولكن أنفتهم تأبى الاستعباد، ولذلك كان لابد من توفير العمال من بين فقراء الإنجليز، ومن أصحاب السوابق، ولكن ثبت أن العمال البيض أقل صلاحية للعمل في الولايات الجنوبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وقسوة المناخ على عكس الرقيق السود الذين كانوا أكثر تحملاً وأسهل قياداً (3).
_________
(1) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص52
(2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص74ـ75
(3) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية -ص34(3/23)
ولهذا بدأت الشركات التي تعمل في الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة ـ حيث نزلت أولى موجات الهجرة واستقرت، ومضت تزرع وتتاجر وتغتني وتراكم الثروة ـ تواجه مشكلة تحجم نشاطها بالرغم منها، بسبب مشكلة اليد العاملة. ذلك أنه حتى قرابة سنة 1700، لم يزد عدد المهاجرين من أوروبا عبر المحيط عن ربع مليون مهاجر، وكلهم يريد المال والأرض والعقار، وليس فيهم أحد يريد أن يكون أجيراً. والا فلماذا ركب جبال الموج وجاء إلى أرض الميعاد. إلى جانب ذلك فإن سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر، وممن تتم عملية إبادتهم (لأنهم همج، لا يصلحون للتمدين ولا للتدين)، ليسوا على استعداد للعمل، ولا لخدمة هؤلاء الذين انقضوا عليهم من أمواج المحيط (1).
والحل العملي الذي يطرح نفسه هو الإتيان عن أي طريق بيد عاملة تشتغل ولا تشارك، وتقبل بالقليل ولا تنتظر زيادة. والحل هو العبودية، أي عضلات تعمل بطعامها وليس أكثر، وطاعة تقبل الأمر لأنها لقنت تحت الأسر درس الطاعة بالسلاسل والسياط. وهذا الوضع أدى إلى قيام شركات في أمريكيا (شركات مساهمة أيضاً) نشاطها تجارة العبيد، حيث ازدادت ما بين ستينيات القرن السابع عشر الميلادي ونهاية القرن التاسع عشر الميلادي أعداد العبيد الذين تم استيرادهم من أفريقيا، وبيعهم في أميركا، من 50 ألفا في العقد الواحد إلى حوالي 450 ألفا، مع هلاك أعداد مخيفة منهم أثناء السفر (2).
فقد كان المغامرون الأوروبيون المسلحون يجوبون أنحاء القارة الأفريقية خصوصاً غرب وشرق القارة، وتقوم العصابات الأوروبية بالهجوم على القرى الأفريقية والتجمعات السكنية. يقتلون الكبار ويسوقون أمامهم الشبان والفتيات والأطفال مكبلين في الأصفاد، ثم يسيرون بهم وهم حفاة عراة في طريق طويل بين الغابات والأحراش، يسمى طريق العبيد حتى يصلون إلى شاطئ المحيط الأطلسي في غرب إفريقيا. ومن هناك يحشرون في السفن التي تنقلهم إلى الأرض الجديدة، وفي أثناء هذه الرحلة البرية داخل إفريقيا، كان نصف العبيد يموتون من
_________
(1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص48
(2) الإمبراطورية .. كيف صنعت بريطانيا العالم الحديث؟ ـنيل فيرغسون ـ كامبردج بوك ريفيوز ـ الجزبرة نت ـ 16/ 2/2004م(3/24)
الجوع والإرهاق، وفتك الحشرات والأمراض بهم، ومن يمت منهم في أثناء الرحلة، كان يفك قيده وتترك جثته على جانب الطريق، لتنهشها الوحوش والطيور. لذلك كان طريق العبيد هذا الذي يمر من شرق القارة الأفريقية إلى وسطها حتى الشواطئ الغربية تتناثر على جانبيه العظام البشرية والجماجم في شكل مخيف، ويقدر عدد من يستطيعون الوصول إلى الشاطئ أحياء بنحو نصف المستجلبين (1).
ويورد (جيمس هيدجر) الذي قام بكتابة بحث خاص (بالتجارة في الأرواح) كما سماها، مجموعة من أوراق إحدى الشركات المساهمة في هذا المجال، وقد ركز فيها على سجلات سفينة الشحن (سالي) وقبطانها (أيسيك هوبكنز). وفي سجلات السفينة (سالي) توجيه من الملاك (نيكولاس وبراد)، شركة مساهمة يقولا للقبطان: إننا نثق فيك وفي إخلاصك لنا وخدمتك لمصالحنا، ونحن نفوضك بأن تذهب إلى شواطئ أفريقيا (شاطئ غينيا) وتشحن سفينتك بمن تستطيع أن تجلبهم من العبيد بالوسائل التي تراها، وأنت مخول أن تبيع وتشتري منهم كما تشاء في طريق رحلتك إلى أمريكا عندما تتوقف في جزيرة باربادوس، ونذكرك طبقاً للعقد بأن حصتك هي 4 عبيد لك مقابل كل 100 عبد للشركة مضافاً إلى هذا نسبة 5% من ربح الحمولة عندما يتم بيعها، ونريد أن نذكرك بأن السرعة في هذه التجارة مطلوبة لأن الحاجة إلى اليد العاملة ماسة.
وضمن سجلات السفينة (سالي) يوميات قبطانها (هوبكنز) وهو يكتبها بالتفصيل لتكون في علم المساهمين عندما يتحاسب معهم على حصيلة أرباح رحلته، حيث كتب القبطان الآتي:
- قدمت لشيخ القبيلة (جالون) من مشروب الروم مقابل عبدة (فتاة).
- دفعت سبع جنيهات لشراء صبي.
- اشتريت خمسة عبيد صالحين للعمل هذا اليوم بعد الظهر، مقابل بصل وسكر وروم الجلاب.
- حمولتنا الآن 196 عبداً.
_________
(1) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية - احمد لطفي عبد السلام ص 47 - مكتبة النافذة - ط1 2005(3/25)
- واحدة من العبيد شنقت نفسها.
- ثلاثة عبيد قفزوا إلى البحر، ولم نستطيع إنقاذهم من الغرق، وقررنا حبس الباقين في العنبر الأسفل للسفينة، وكنا نخصصه لبقرتين معنا وربطنا الأسرى بالحبال (1).
هذه مشاهد يومية حيه لتجارة الرقيق، كما عبر عنها قبطان السفينة وصاحبها، تكشف إلى أية درجة بلغت عنصرية هؤلاء واحتقارهم للرقيق، ومعاملتهم معاملة الحيوانات والمواشي، مما دفع الكاتب الساخر (برناردشو) للقول: "إن هؤلاء يعتبرون قتل الآخرين شجاعة، وتجارة الرقيق فرعاً من فروع التجارة". فالمسألة عندهم لم تخرج عن كونها تجاره ونهب وسرقة أنفس، بعيده كل البعد عن أي معنى أخلاقي إنساني. وقد أوضح نفس هذا المعنى أستاذ جامعي من المؤيدين لنظام الرق اسمه (توماس ديو)، عندما قال: "إن القيمة المالية لرقيق فرجينيا تساوي مائة مليون دولار، أي ما يساوي ثلث ثروة الولاية، وقال ديو: "إن ولاية فرجينيا تصدر كل سنة ستة آلاف رقيق إلى الولايات المتحدة الأخرى، وإن فرجينيا في الواقع ولاية لتربية الرقيق مثل تربية الماشية للولايات الأخرى، وأنها تنتج ما يكفي حاجتها منهم، وتعرض ستة آلاف للبيع". وفي مكان آخر من حديثه قال: "إن الستة آلاف رقيق الذين ترسلهم فرجينيا إلى الجنوب كل عام، هم مصدر ثراء لفرجينيا". وقد حذر ديو من التوقف عن هذه العملية والقضاء على الرق، لأن فرجينيا ستفقد مصدر ثرائها. ويتحدث طبيب قبيل الحرب الأهلية الأمريكية عن زوجين من الرقيق، قد أنجبا لمالكهما رقيقاً باعهم بمبلغ خمسة وعشرين ألف دولار خلال أربعين سنه (2).
هكذا سيق من سموا بالعبيد إلى مصيرهم التعس رغماً عنهم، ورحلوا إلى بلد لم يختاروه في ظروف لا إنسانية همجية، حيث كان الطريق الملاحي الممتد عبر المحيط الأطلسي، والذي يمتد من سواحل غرب إفريقيا إلى جزر الهند الغربية، هو طريق الآلام الذي تمخره السفن التي تقوم بنقل الرقيق الأسود، حيث كانت أيدي وأرجل الرقيق توثق ويشدون إلى بعضهم البعض بالسلاسل، ويحشرون في مخازن
_________
(1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل49ـ50
(2) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية -ص53(3/26)
السفن في ظروف صحية سيئة إلى جانب التعذيب وسوء المعاملة، مما أودى بحياة عشرات الملايين منهم كما يشير إلى ذلك المؤرخ (وليم دوبوا) في كتابه (القضاء على تجارة العبيد الأفريقيين) الذي نشر عام 1896م.
ففي أثناء الرحلة البحرية كانت السفن تتكدس بهؤلاء البؤساء الذين لا ينالون من الطعام والشراب إلا ما يسد الرمق، لذلك كان يموت نصفهم في أثناء هذه الرحلة، ويلقى بجثث الموتى في مياه المحيط. فإذا ما وصل الناجون إلى الشواطئ الأمريكية كان التجار يشترونهم في مزادات للجملة ثم يبيعونهم بعد ذلك في الأسواق الأمريكية. وبعد وصول العبيد إلى المشتري، كان يقوم فوراً بإعداد حظيرة لاستقبالهم ليبدأ تسخيرهم في أعمال الزراعة وغيرها من الأعمال الشاقة، وذلك نظير إمدادهم بما يسد رمقهم من الغذاء والشراب. وكان هؤلاء المساكين محرومون من كل الحقوق، يعاملون من قبل السيد الأبيض كما تعامل الحيوانات ويتعرضون للجلد والتعذيب لأتفه الأسباب، ولا يستطيع أي منهم أن يغادر إقطاعية سيده إلى مكان آخر، وإذا ما بيعت الإقطاعية تبع ما بها من عبيد السيد الجديد. ويقدر بعض العلماء أن نصف سكان القارة الإفريقية قد تعرضوا للاختطاف ليستعبدهم الرجل الأبيض في القارة الجديدة (1).
ولم تقف معاناة السود عند هذا الحد، بل عاملهم أسيادهم الجدد معاملة وحشية عنصرية كشف عن أجزاء منها (توماس دي موريس)، الذي تحدث عن عهد العبودية، الذي امتد في الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من مائتي عام، حين كان الأثرياء البيض يشترون عبيداً لهم من السود يسخرونهم لخدمتهم ولحرث أراضيهم، وعندما يموت صاحب العبيد، يتقاسمهم ورثته بالقرعة، كما يتقاسمون رؤوس قطيع الغنم دون أي اعتبار للعلاقات الأسرية. فحين كان يوزع العبيد علي الورثة لم يكن يفكر الرجل الأبيض بأن يبقي علي أفراد العائلة الواحدة معاً كأن يبقى الزوج والزوجة والأبناء في خدمة رجل واحد، بل كان يوزع أفراد العائلة على مجموعة من
_________
(1) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 47(3/27)
الورثة فيفصل أفراد العائلة كل في منطقة، وقد لا يلتقي الأخ بأخيه والأم بأولادها لسنوات طويلة، وقد لا يلتقون أبداً (1).
لقد كتب الكثير عن المعاناة التي قاساها السود في ظل حياة العبودية في الولايات المتحدة، كالإبادة والتعذيب والأعمال الشاقة وتشتيت العائلات، وبيع الأطفال، والاستغلال الجنسي، والعقاب الوحشي، فالجلد بالسوط، والوشم ـ أي إحداث علامة على جسم الرقيق باستخدام الحديد المحمى على النار لإثبات ملكية للشخص الذي يسميه ـ كلها من التجارب التي عاناها السود الإفريقيين في عهد العبودية، والتي يصل بعضها إلى حد القتل إذا حاول الرقيق تعلم القراءة والكتابة على سبيل المثال (2).
ولكن برغم هذا الظلم والاستعباد، التي تعرض له الأمريكيون السود، فإنهم لم يستسلموا للعبودية، فقد ثبت من التجارب التاريخية انه حيثما وجدت العبودية كانت هناك محاولات للتحرر، وان حب الحرية ليست قاصرة على البيض وحدهم، وكان من الطبيعي أن يثور السود على من استعبدوهم وسرقوا حريتهم. ففي صيف عام 1831م قامت عصبة من الرقيق بقيادة (نات تيرنر) بذبح ستين شخصاً من البيض، قرب ساوثمبتون في فرجينيا (3). واستمرت عمليات مقاومة السود للظلم والعبودية على مدى التاريخ الأمريكي، من اجل نيل حقوقهم والظفر بالحرية والمساواة. وهنا يمكن ملاحظة كيف أن إعلان استقلال الولايات المتحدة الصادر في 4 يونيو عام 1776م الذي يعد إرهاصاً لـ (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) في فرنسا عام 1789م، يعطى مثالاً صارخاً للنفاق عن الحرية بمعناها الأمريكي، حيث ينص الإعلان في سطوره الأولى على ما يلي: "لقد خلق الناس جميعا متساوين ومنحهم الله حقوقاً لا تقبل التنازل عنها، كالحياة والحرية والبحث عن السعادة"، ومع ذلك فقد استمرت عبودية الزنوج مع هذه الحرية قرناً من الزمان وكان لا بد من أن
_________
(1) العبودية الجنوبية والقانون 1619ـ1860"ـ أنيت جوردون ريد ـ جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684
(2) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية -ص52
(3) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية -ص55(3/28)
تنفجر حرب أهليه عام 1865م لإنهاء ما كان يسمى حتى ذلك الوقت بالمؤسسة الخاصة أو (نظام العبيد) (1).
وحتى بعد تلك الحرب لم يكن للزنوج مكان في المجتمع الأمريكي، فقد نشأ بعد ذلك إرهاب المنظمات السرية مثل (كوكلوكس كلان) التي اثبتت، خلال ما يزيد على مائة عام من وجودها، فاعليتها كسلاح للارهاب الموجه ضد الزنوج بسبب محاولتهم الحصول على حقوقهم الطبيعية. "ففي عام1946 مارست (كلان) موجة عاصفة من الإرهاب لمنع الزنوج من الذهاب إلى صناديق الاقتراع. ففي عشية الانتخابات طافت الصلبان ارجاء الولاية. وعلقت على كنائس الزنوج تحذيرات من هذا القبيل: "ان أول زنجي في جورجيا يتجرأ على التصويت سوف يكون ميتاً. (ك ك ك). وارسلت مثل هذه التحذيرات بالبريد (مع طلقة مسدس في بعض الأحيان)، لا بل القيت من الطائرات فوق احياء الزنوج. وفي يوم الانتخابات استيقظ آلاف الزنوج ليجدوا لدى أبواب منازلهم دمى على شكل توابيت" (2).
يضاف إلى ذلك ان القوانين السوداء استبعدت العبيد القدامى من الحياة السياسية، كما استبعدتهم من الحياة المدنية. واستمر التمييز العنصري حتى يومنا هذا، برغم تضحيات بذلها عظماء مثل (مارتن لوثر كنج)، وغيرهم من دعاة الحقوق المدنية، وظل السكان السود وغيرهم يعانون من نتائج التمييز العنصري الذي انعكس على حياتهم الصحية والاقتصادية، حيث أن أكثر الأجناس معاناة من العوز الاقتصادي هم السود وذوي الأصول الأسبانية، والمواطنون الأصليين (الهنود الحمر) بالذات، حيث يعانون من الفقر المدقع، ويقل متوسط أعمارهم عن متوسط أعمار البيض بمقدار عشرين عاماً، ومعدلات البطالة بينهم مرتفعة جداً، ونسبة الفقراء بينهم تتجاوز50%، ففي حين تبلغ نسبة الفقر بين البيض 11% (3).
و قد يستغرب الناس خارج الولايات المتحدة أن يكون الفقر في هذه البلاد ظاهرة اجتماعية تفرخ كثيراً من المشاكل والمآسي التي يعاني منها ملايين
_________
(1) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص50
(2) تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) - ر. ف. إيفانوف، أي. ف. ليسينفسكي- ترجمةغسان رسلان- اللاذقية: دار الحوار، 1983
(3) أمريكا وأزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص100(3/29)
الأمريكيين، وإن المعاناة من الفقر مستمرة منذ أن وجدت أمريكا. فمع أن الدخل القومي بلغ سبعة آلاف وخمسمائة وثمانين مليار دولار 7580 مليار دولار في عام 1996م، إلا أن هناك ملايين الفقراء من الأمريكيين، الذين لا يتوقع أحد زوال الفقر عنهم في وقت قريب. ففي الفترة ما بين عامي 1970م و 1988م إزداد عدد الفقراء في الولايات المتحدة بنسبة 26% حيث وصل عددهم في عام 1996م 5، 36 مليون نسمة، وأن خمسي هذا العدد أي ما يصل إلي 4، 14 مليون نسمة يعانون من شدة الفقر حيث بلغ دخلهم أقل من نصف معدل الفقر. وهذا يعنى أن عهود العبودية السوداء لم تنته بعد في الولايات المتحدة، وإنما أصبحت تأخذ أشكالاً جديدة مع احتفاظها بالمعايير نفسها، وتقول الدراسات التي قام بها مركز (ابوليش) المناهض للرق أن هناك آلاف العبيد الذين يعيشون حالياً في (أرض الحرية)، ولكن بالطبع دون أن تجري مزادات لبيع الرقيق علي الملأ، فالعبودية المعاصرة في أمريكا أصبحت تتم في الخفاء وتعتمد أساليب الخداع والتهديد، ولكن ممارستها لا تقل قسوة عن ممارسات (مؤسسات الرق) التي انتشرت لعقود مضت (1).
التبرير الديني للنهب والسلب والإبادة
في كتابه عن نظريات الاستعمار الإنكليزية يعتقد (كلاوس كنور): "إن الإنكليز أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة وتعمداً للإبادة وان هدفهم النهائي في العالم الجديد كما في استراليا ونيوزيلانده وكثير من المناطق التي يحتاجونها هو إفراغ الأرض من أهلها، وتملكها، ووضع اليد على ثرواتها. فخلال هذه المسيرة التي بدأت بايرلندا ولن تنته بعد، تحكمت عقدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي بسلوكهم وبنادقهم، واستحوذت على أخلاقهم وعقولهم .. وهذا ما أوهمهم بأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت لكل من عداهم، وأنهم أيضا في حل من أي التزام إنساني قانوني تجاه الشعوب، التي يستعمرونها لا باعتبار أنها أعراق منحطة وحسب، بل لأنها في الغالب مخلوقات متوحشة لا تنتمي للنوع الإنساني. ولم ينج من هذا
_________
(1) أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية ـ إعداد وسام الاسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684(3/30)
التصنيف البيولوجي أقرب الناس إليهم وجيرانهم في الجزيرة وشركاؤهم في البياض والنضارة. فلطالما لازمت الايرلنديين صفة التوحش wild Irish وقالوا عنهم إنهم يعبدون الشيطان، وأنهم أجلاف عراة أحلاس الغابات والمستنقعات، يعيشون على نوع من لحم البشر، أو من لحم أمهاتهم اللواتي كانت لهن أذناب طويلة، وكن متوحشات يأكلن أطفالهن (1).
وعندما نزلت أول دفعة من المستوطنين الإنجليز من سفنهم الثلاث عام 1607م إلى اليابسة على شاطئ فرجينا في أمريكا الشمالية، فإنهم لم يقوموا فقط ببناء مستوطنة تقوى مركز إنجلترا في مواجهة جارتها الأوربيات، بل جلبوا معهم أفكاراً وعادات شكلت الأساس، الذي قامت عليه ممارساتهم العرقية في المجتمع الأمريكي. وأول ما جلبوه معهم إحساسهم كإنجليز بالتفوق العرقي والثقافي، واعتقادهم بأن البروتستانتية هي التعبير الحقيقي عن الإيمان المسيحي، وإيمانهم بأن التطهيريين (البيوريتان) هم خير من يمارسها في شكلها الصحيح. واعتبر الإنجليز كل من يختلف عنهم بأنه من مرتبة أدنى منهم. وقد ساد هذا الموقف وترك أثره على كل التفاعلات التي حدثت في المجتمع الأمريكي (2)، حيث أعطى الأميركيون البيض معركتهم من الهنود الطابع الديني وكأنهم يخوضونها بالنيابة عن الله والمسيح، ليبرروا اضطهادهم وسرقة أرضهم. فعندما زحف (أبناء الرب) من جزيرة روانوك في اتجاه الغرب لم تكن حروب الإبادة والتطهير العرقي وحرق المحاصيل، ومصادرة الأراضي، وإطعام الأطفال الهنود للكلاب إلا مظاهر (إرادة الله ـ يهوه) في العهد القديم (3).
وهذه العقلية المتعالية - التي لم تر في الآخرين (وهم الهنود في هذه الحالة) سوى وثنيين مجردين من إنسانيتهم، ومن حقوقهم، ولا يستحقون المواطنيه، لأنهم بكل بساطة تحت (قبضة الشيطان)، ويتربصون بالولايات المتحدة شراً، ويريدون لها أن تصير أرضاً نظيرة للجحيم - هذه العقلية المتعالية، ليست بعيدة عن فكرة (شعب الله المختار)، وهي رؤيا كانت كافيه لاستعباد السود والدعوة إلى استحالة دمجهم في
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص58
(2) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص24
(3) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص152(3/31)
الأمة الأميركية، لذلك تركوا على هامش الحياة وتم التعامل معهم كأدوات خادمه للآلة الاقتصادية الأميركية. ولقد استند التطهيريون الإنكليز لتبرير مطاردتهم للهنود وسرقة أراضيهم إلى سفر (يشوع) ومنطق الإبادة المقدسة في العهد القديم، وكتب أحدهم يقول: "بديهي أن الرب يدعو المستوطنين إلى الحرب، فالهنود اعتمدوا على عددهم وأسلحتهم كما فعلت قبائل النقب القديمة: العمالقة والفلسطينيون متحالفين مع غيرهم ضد شعب إسرائيل". هكذا وفي ظل هذه الذهنية مورست الإبادة الجماعية ضد الهنود، وكأن هؤلاء الهنود هم الذين غزوا أراضى المستوطنين، فيما كان المهاجرون ينهبون أراضيهم ويدمرون حياتهم (1).
يقول (ميشال بوغنون) في كتابه (أميركا التوتاليتارية): "إن استيطان أميركا كان يجري في الأصل في سياق أيديولوجي ثنائي القطب، أولاً: الاغتناء المادي، وثانياً: تمجيد الإنجاز الإلهي. فالأمة الأميركية ورجال الكنيسة والمثقفون الأوائل هم شعب الله المميز، الذي جاء على قدر، فـ (وليام مستوغتون) (1631ـ1701م) "يرى أن الله اختار مواطني أميركا بعناية، فغربلهم كما تغربل الحبوب لفصل البذرة الصالحة عن غيرها". و (جون وينثروب) حاكم مستوطنة ماساشوستس عام 1629 م حتى وفاته في العام نفسه، "ذهب إلى وصف نفسه وأصحابه بأنهم في خدمة المسيح وأنهم يرتبطون معه بميثاق، وأنهم أعضاء جسم فريد موحد، وهم شعب الله المختار وإله إسرائيل بينهم" (2).
وكان هؤلاء الغزاة الأوائل يسمون بالحجاج أو القديسين، وكانوا يعتبرون هذا العالم الجديد بديلاً عن (أورشليم)، والأراضي المقدسة، ولهذا فقد سموه بكل الأسماء التي أطلقها العبرانيون على بلاد كنعان، وما يزال التاريخ الأميركي إلى الآن يضفي على هؤلاء الحجاج قداسة طوباوية، ويعتبرهم أول نموذج للاستثناء الأميركي الذي فضله الله على العالمين، وأورثه ما أورث بني إسرائيل من قبل، وجعل العهد الذي عقدوه مع الله على متن سفينتهم الأسطورية Mayflower من اللحظات النادرة الخالدة في التاريخ الإنساني، كما يقول الرئيس الأميركي (جون
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص74ـ75
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل(3/32)
آدامس). فعهدهم مع الله جب عهد الإسرائيليين القدامى، وتأسيس مستعمرتهم على صخرة (بليموث) ضاهي تأسيس الكنيسة على صخرة بطرس. قضية هؤلاء (الحجاج) هي الأصل الأسطوري، لكل التاريخ الأميركي ومركزيته العنصرية وما يزال كل بيت أميركي يحتفل سنوياً في (عيد الشكر) بتلك النهاية السعيدة، التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و (خروجهم) من أرضه و (تيههم) في البحر و (عهدهم) الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع يهوه ووصولهم في النهاية إلى (ارض الميعاد) " (1).
ويعتبر هذا العيد الطقسي (عيد الشكر، الذي يبجله الأميركيون، وطنياً ودينياً أكثر من أي عيد آخرب ما في ذلك عيد الاستقلال)، من أكثر أعياد أميركا قدسية. ففي هذا العشاء الطقسي الذي يذبحون فيه سنوياً بين عشرين وثلاثين مليون (ذبيحة) قرباناً لله الذي وقف منذ اللحظات الأولى لاستعمار أميركا إلى جانب شعبه الإنكليزي المختار، يستعيد الأميركيون أسطورة تاريخهم بكل ما يعنيه طقسية الاحتفال بالاسطوره. فهو طقس يتضمن تقديس فتح الاستعمار الاستيطاني، والتأكيد على التفوق الطبيعي والأخلاقي للمستعمرين، وهو تأكيد على صدق الأسطورة وحياتها المتجددة، وهو احتفال برعاية الله لكل عناصر أسطورة الولادة المقدسة للتاريخ الأميركي، وهو من خلال هذا الطقس الاحتفالي ـ يؤكد على التسامي بالأسطورة ومعايشتها كدين (2).
فأمريكا تعزو بشكل جزئي هويتها الوطنية إلى انتشار مثل هذه الأساطير القوية التي انبثقت في أوائل تاريخها، حيث يرتبط كثير من هذه الأساطير (بالآباء المؤسسين)، الذين أسسوا هذه البلاد، بينما يرتبط بعضها الآخر بخبرات بناء الأمة. وقد تكون أقوى هذه الأساطير، تلك التي تطورت من جراء خبرة الرياديين وانبثاق الأمة وأن بيان المصير ـ كما يسميه علماء التاريخ ـ هو الاعتقاد بأن الاستيطان في تلك الأراضي الشاسعة غير المسكونة وترويضها من قبل المستوطنين الأوروبيين، كان حدثاً تم بموجب مقاصد إلهيه. فالله اصطفى الأمة الأمريكية من بين الأمم
_________
(1) الامبراطورية الأمريكية البداية .. والنهاية - منصور عبد الحكيم - ص 37 - دار الكتاب العربي - ط1 2005
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص39.(3/33)
والشعوب وفضلها عليهم، وجعلها شعبه المختار وذلك من أجل قيادة العالم وتخليصه من الشرور (1). وقصة هذا الاصطفاء يمكن روايتها كالآتي: "هرب أناس رياديون شجعان من الاضطهاد الديني والسياسي في أوروبا، وواجهوا عقبات كبيرة في تحقيق أحلامهم بوجود سكان أصليين (متوحشين) استخدموا وسائل إرهابيه لإحباط مقاصد الرياديين، ولكن بمعونة الله استطاع هؤلاء المستوطنين الشجعان أن يهزموا (المتوحشين)، ويطردوهم خارج تلك الأراضي، على الأقل تلك الأراضي الجيدة، هكذا مهدوا الطريق لهؤلاء الذين كانوا قادرين على استغلال المصادر، التي أعطاهم إياها الله في تلك الأراضي بشكل أفضل.
ولكن هذه القصة غير المحبوكة فضحتها العلوم والمعارف الحديثة، عندما ركزت على وحشية هذا التطهير العرقي القديم وعواقبه السلبية. غير أن بعض العناصر الأساسية في هذه القصة والمتعلقة بالأسطورة ـ أي الرياديين الشجعان الذين هربوا من الاضطهاد وعملوا على إنشاء دولة حره ـ لا تزال تشكل الهوية الذاتية الأمريكية، ويبدو هذا واضحاً في الطريقة السهلة التي يستطيع بها السياسيون ومن بينهم الرئيس (جورج بوش) في هذه الأيام أن يبحثوا عن الدعم لمغامرات سياساتهم الخارجية باقتباسهم عناصر رئيسة من هذه الأسطورة (أن أي هجوم على أمريكا هو هجوم على الحرية) (2).
ففي التعابير التي كانت تدور على السنة سكان المراحل الأولى من تاريخ فيرجينيا على سبيل المثال، أعلن أوائل المستوطنين عن أنفسهم بجرأة أنهم على حد قول (جون رولف) بأنهم "شعب له خصوصيته، أشار إليه واختاره إصبع الله لامتلاك تلك الأرض لأنه معنا دون شك". والواقع أن مستعمرة فرجينيا في أقدم سنواتها كانت أشبه شيء بمدينة أسستها شركة، وتشبه قاعدة أمامية أو مركزاً متقدماً في أقاصي حدود الاسكا. وقد حافظ المؤسسون بدقة على الشكليات الدينية المعروفة آنذاك بما فيها القوانين التي تتطلب التردد على الكنيسة (3).
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص149
(2) عندما تختلط الأساطير بالنبوءات ـ جون هيوبرزـ منسق الإرساليات للشرق الأوسط وجنوب آسيا في الكنيسة المصلحة - جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 م
(3) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ص25(3/34)
ولكن هذا الورع الزائد للمؤسسين الأوائل، باعتبارهم شعب له خصوصية، كان يعكس عنصرية بشعة، ونظره دونية للآخرين باعتبارهم أقل درجه منهم، حتى لا يجوز هدايتهم. وهنا يقول القس (كوتون ماذر) (1663ـ1728م) وهو أحد أهم الآباء المؤسسين لأمريكا: "من الكفر بالله والمسيح أن يحاول أحد هداية أهل البلاد الأصليين، الهنود الحمر، لأنه وجدهم مخلوقات بشعة لا يجوز أن تدخل في ديانته المقدسة" (1). وقال كوتون ماذر أيضاً: "إن أميركا كانت قبل مجيء الحجاج الأوائل أرض الشيطان، وإنه ـ أي الشيطان ـ سيستعمل كل حيله للحول دون استيطان المستوطنين". وبهذا تكونت صورة الهندي الشرير والبربري المسكون بالشيطان، في مقابل الرجل الأبيض المختار المسكون بالخير المتصف بالتحضر. وأيضا في مقابل الأسود الجاهل الذي لا يجيد التمتع بالحرية كما هي في الولايات المتحدة" (2).
فهؤلاء المهاجرون المتدينون الهاربون من النظام الطبقي البغيض، ومن كل سلطة دنيوية أو دينيه بحثاً عن حياة جديدة اغفلوا ضمائرهم، أو استطاعوا أن يوفقوا بين معتقداتهم وبين إبادة الهنود الحمر مسترشدين في ذلك ببعض الأساطير التوراتية، التي أباحت لغزاة فلسطين الأول من اليهود إبادة سكان أرض الميعاد ليحلوا محلهم (3). فقد كانت قصص اجتياح كنعان في العهد القديم تمدهم بالأسس الأخلاقية اللازمة لتماسك هذه السيكولوجية الاستعلائية، ولتبرير عنصريتها وعنفها المميت، ولم يكونوا واثقين إلا من شيء واحد: إن الله فضلهم واصطفاهم على العالمين، وأعطاهم الأرض وحق تقرير الحياة والموت والرزق لكل من يعيش فوق هذه الأرض، هكذا حمل شعب الله سيف (الجلاد المقدس)، ولم يساوره الشك في إن الإبادات لم تكن إلا تدبيراً إلهياً مباركاً ورسالة في المجاهل عهدها الله إليهم (4).
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص314
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون، ترجمة: خليل أحمد خليل ـ المصدر الجزيرة نت
(3) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 52
(4) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكشص59(3/35)
وهنا يلاحظ الدكتور (عبد الوهاب المسيري) أن ثمة عناصر تسم التشكيل الحضاري الغربي الحديث جعلت الإبادة كامنا فيه وليست مسألة عرضية، وقد قام الإنسان الغربي بكثير من عمليات الإبادة لا على الرغم من حضارته الغربية وإنما بسببها!!. فقد طورت الرؤية الغربية الحديثة للكون رؤية للبشر بحسبانهم مادة بشرية يمكن توظيفها، أما من لا يمكن توظيفه فكان يشار إليه بحسبانه مادة بشرية فائضة وأحيانا غير نافعة، ولا بد من معالجتها, فهي إما تصدر وإما أن تعاد صياغتها وإما أن تباد إن فشلت معها كل الحلول السابقة (1).
وهكذا فإن أي قراءة في العقل الأميركي ورؤيته المتعالية للأمة الأميركية، تبين بوضوح من خلال استعادة آراء منظري الكيان الأميركي، الذين يرون أن أحداث التاريخ وإنشاء الولايات المتحدة أمر صادر عن إرادة قوة، وعن قناعة بأن القدرة الربانية كلفت هذا الكيان الوليد والجديد برسالة تسيير شؤون العالم وإدارته، وان عليهم أداء هذه الرسالة والقيام بواجباتها. إنه إذاً عقل مسكون بيقين تجسيده لأمر الهي، إنها صورة يؤكدها العشرات من المفكرين والمؤرخين الأميركيين، ويرون من خلالها أنهم ملزمون في التبشير بها بل أن مؤرخاً أميركيا مثل (دانيال مورستين) وصل في مغالاته إلى القول: ًأن شعبا في العالم لم يكن أكثر يقيناً في سيره على الصراط المستقيم كالشعب الأمريكي". هذه الرؤية وهذا اليقين والوهم بأداء (رسالة ربانية) هما محرك السياسة الأميركية باتجاه فرض سيطرتها على العالم (2).
وبناء على هذا الموقف العنصري المتعالي، المغلف بالمعاني الدينية المستمدة من التوراة اليهودية، لم يجد المؤسسون الأوائل لأمريكا أية حرج، في إبادة الهنود الحمر واستعباد الزنوج ماداموا أجناس اقل مرتبه ومتوحشون، وهو نفس الموقف الذي لجأ لاستخدامه اليهود قديماً وحديثاً مع الفلسطينيين والشعوب المجاورة. وقد صارت هذه الأخلاق الإبادية بنفاقها وبسماتها الانكليزية المسمومة عقيدة وأيديولوجيا، بل صارت النواة الصلبة للقومية الأميركية التي ما تزال تخصب الأدب والفن والسينما وصناعة الجريمة والموت وتعطي أوضح صوره لمفهوم الأميركي عن
_________
(1) دفاع عن الإنسان (دراسة نظرية و تطبيقية في النماذج المركبة) ـ د. عبد الوهاب المسيري - دار الشروق، القاهرة 2003 ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت
(2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص72ـ73(3/36)
نفسه وعن العالم. هذه الأخلاق التي ضربت جذورها في عقدة الاختيار وكراهية الكنعانيين، ورافقت بناء أميركا لحظة لحظه وجبهة بعد جبهة هي التي جعلت (الأميركيين يعتقدون اليوم، كما كان أجدادهم المستعمرين الأوائل يعتقدون قبلهم بأن لهم الحق المطلق في إن يقتحموا أي غرب) في أي مكان من الأرض (1). http://www.aljazeera.net/books/2004/2/2-9-1.htm - TOP#TOP
وإذا كان قساوسة الإمبراطورية الرومانية قد وفروا الفتاوى ذات المسوح والمبررات الأخلاقية اللازمة لحكام نظام العبودية الروماني لشن حروبهم العدوانية واللاأخلاقية، فان أباطرة روما الجدد من ممثلي اللاهوت البروتستانتي الأمريكي المتهود وبعض ممثلي المشيخة الفكرية الأمريكية (من أمثال صموئيل هنتنجتون ومن هم على شاكلته) المندمجة المصالح مع رأس المال، ومراكز السطوة والنفوذ في المجتمع الأمريكي، قد وفروا فتاوى العصر الراهن لحكام بلادهم لتنهض مبررات ومسوغات أخلاقية وحضارية ودينيه لشن حروبهم التوسعية العدوانية ضد البلدان والشعوب الآمنة المغلوبة على أمرها (2). وهكذا فقد كان التبرير الديني للسلب والنهب والقتل، حاضراً على الدوام في التاريخ الأمريكي، حيث استهل الأمريكيون وجودهم كأمه بعملية إبادة جماعية لشعب بأكمله، كان شعب الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، باعتبار أن تلك الإبادة كانت من (اجل المسيح) وقياماً بعمل الله على الأرض (3). وهنا يجب أن نشير إلى أن ما أمرت به القصص الكتابية وفقاً للمعايير العصرية للقانون الدولي وحقوق الإنسان هو (جرائم حرب)، و (جرائم ضد الإنسانية). وهنا على المرء أن يعترف بأن أجزاء كثيرة من التوراة، ومن سفر التثنية بشكل خاص، تحتوى على عقائد مخيفة وميولاً عنصرية وكراهية للغرباء ودعماً للقوة العسكرية (4).
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص138ـ139
(2) حول علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة - محمد الصياد - جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد 8672
(3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص409
(4) الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى ص 22(3/37)
أمريكيا ولاهوت الاستعمار العبراني
ألقى القس (ونثروب)، موعظة في الحجاج على متن السفينة الاسطوريه (اربيلا)، أكد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوه، وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل ارض كنعان الجديدة قائلاً: "إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأبهته، وعندها يتوجب علينا أن نجعل من (نيوانغلاند) مدينة على تل ( city upon a hill) . وهذا التعبير رمز لأورشليم (ولصهيون أيضاً)، وما يزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الإسرائيلي لأميركا، وقد (استخدم) آخر أربعة رؤساء أميركيين هذا الرمز في مناسبات مختلفة: ريغان، بوش الأب، كلينتون، بوش الابن (1).
ولو عدنا إلى الوراء قليلاً وتوغلنا في التاريخ الأمريكي، لوجدنا كثيراً من وجوه التشابه في إنشاء الوطن الأمريكي، وإنشاء دولة إسرائيل، وخير ما يوضح هذا التشابه هو كتاب (مورتن) المسمى (كنعان الجديدة الإنجليزية)، فإنه يعبر أصدق التعبير عن روح فكرة أمريكا، التي هي الفهم الإنجليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية، حتى أن قصة هؤلاء الحجاج الإنجليز، الذين أسسوا أول مستعمرة فيما سمي بعد ذلك الولايات المتحدة، إن هي ألا تجسيد لإنجلترا الجديدة الأصل الأسطوري للتاريخ الأمريكي ومركزيته الانجلوسكسونية. وفي كل عام يحتفل كل بيت أمريكي بعيد الشكر، وهو تعبير عن النهاية السعيدة الناجحة (لمن هرب) من ظلم الفرعون البريطاني ونجاتهم وخروجهم من أرضه والتيه في البحر، ولذلك صنعوا (العهد) الذي أبرموه على ظهر السفينة، التي حملتهم إلى أمريكا الجديدة مع (يهوه)، حتى وصولهم إلى أمريكاـ التي في نظرهم أرض كنعان الجديدة.
ويمكن ملاحظة أن كل تصورات (العبرانيين القدامى) وأفكارهم عن الحياة والتاريخ والأرض والسماء قد زرعها هؤلاء الإنجليز، الذين هاجروا إلى أمريكا، حتى الأسماء التي سموا بها المدن في أمريكا هي أسماء عبرانيه قديمة كالتي أطلقها اليهود على ارض فلسطين أبان السيطرة اليهودية عليها، ومنها: ارض الميعاد ـ
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص127(3/38)
صهيون ـ إسرائيل ـ واستعاروا كثيراً من سلوك اليهود عند إبادتهم سكان كنعان فشبهوا إبادة الأمريكان للهنود بإبادة اليهود لسكان كنعان. كما أن هناك كثير من التشابه القصصي والتقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين أرض كنعان (ارض فلسطين). لقد كانوا يبيدون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون قد اختارهم الله لهذه المهمة وفضلهم على العالمين. وأكثر من ذلك أعطاهم تفويضا بقتلهم (1).
يقول (منير العكش) في كتابه (حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والإبادات الجماعية): "إن فكرة إنشاء أمريكا قامت على فكرة إسرائيل التاريخية، وإن ما يعانيه الفلسطينيون هو ما عانى منه الهنود الحمر. فالرواد الأمريكيين الأوائل وصفوا أنفسهم بأنهم الإسرائيليون، وأطلقوا على السكان الأصليين الكنعانيين. واتهم المستوطنين الأوائل بإبادة 112 مليون هندي أمريكي بالسلاح والتجويع وحتى بالأوبئة". وتحت عنوان المعنى الإسرائيلي لأمريكا يقول (العكش): "أن فكرة أمريكا .. فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة عبر الاجتياح المسلح وبمبررات غير طبيعية، هي محور فكرة إسرائيل التاريخية. فعملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة بشخصيات أبطالها .. الإسرائيليون .. الشعب المختار .. والعرق المتفوق وضحاياها الكنعانيون .. الملعونون .. المتوحشون .. البرابرة. ومسرحها ارض كنعان وإسرائيل. ومبرراتها الحق السماوي، أو الحضاري. وأهدافها الاستيلاء على أرض الغير، واقتلاعه جسدياً وثقافياً" (2).
ولما كان المجتمع الأمريكي، مثل المجتمع العبراني، مؤسساً على اجتياح أرض الغير (الأمريكيون اجتاحوا أرض الهنود الحمر، والعبرانيون أرض كنعان)، كان لابد من تشريع هذا الاجتياح واقتلاع الشعب من أرضه بزعم الحق الإلهي، عن طريق استبطان أسطورة ارض الميعاد، بالزعم أن ما يبدو اغتصاباً، إنما هو تنفيذ لإرادة إلهية. وقد تشابهت في هذه العقدة النفسية، التي احتاجت إلى نظرية ارض الميعاد، مجتمعات عديدة يجمعها اجتياح أرض الآخرين، ومحاولة إبادتهم عنها، وهى أمريكا وإسرائيل والنظام العنصري البائد في جنوب إفريقيا (3). ولهذا يرى (منير العكش) أن
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص 9
(2) حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والإبادات الجماعية - منير العكش ـ الدستور الأردنية - 18ـ8ـ2002م
(3) تاريخ تطور علاقة المسيحية باليهودية / د. فكتور سحاب - جريدة الخليج عدد 8674(3/39)
النازية والصهيونية والعبرانية الانجلوسكسونية استعانت في صناعة فرائسها بمنطق واحد، يتجدر ويستمد كل أخلاقه من لاهوت الاستعمار العبراني.
ولما كانت فكرة قيام أمريكا وهي (استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة) عبر السطو المسلح وبمبررات غير طبيعية، هي نفسها فكرة (إسرائيل التاريخية)، التي أوحت إلى أمريكا بأن هناك قدراً خاصاً بها. فإنه يمكن ملاحظة مثل تلك المبررات من خلال تصريحات (بوش) والمسئولين الأمريكيين إبان غزو العراق، وإلغاء دور الأمم المتحدة وإعطاء الصبغة الشرعية لأمريكا من وجهة نظر مسئوليها كمبررات (السلام العالمي ـ الأمن الوقائي ـ الإرهاب الدولي أسلحة الدمار الشامل- رخاء شعب العراق أو شعوب المنطقة وديمقراطيتها). فكل هذه المبررات بحسب الظاهر لاحتلال وغزو منطقة بتاريخها، والسيطرة عليها وعلى ثرواتها، حسب الاعتقاد الأمريكي هو قدر خاص بأمريكا، وبمشيئة الرب، (ولها) جذور تاريخية واعتقاد راسخ يضرب جذورا عميقة في الذاكرة الأمريكية. وهو واضح أيضا في معظم المناسبات الدينية والوطنية، وكل خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأمريكيون، الذين يصرحون بعبارات منها: أن إرادة الله ـ القدر ـ حتمية التاريخ .. الخ، قد اختارت الأمة الأمريكية (ألانجلوسكسونية المتفوقة) وأعطاها التاريخ دور المخلص في حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان العالم، ومن هذه العبارة القدرية أجريت الجراحة التجميلية المزيفة للمعنى الإسرائيلي لأمريكا وفكرة الاختيار والتفضل الإلهي (1).
وبناء على ما تقدم فإننا لا يجب أن نندهش حين يرحب الأمريكيون بالمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال حالياً على أرض فلسطين، فهذا النعل من ذاك الحذاء. يجب أن لا نندهش وان نعلم أن الأمريكيين يربطون ربطاً لازماً بين مصير الهنود الحمر ومصير الفلسطينيين. يقول (وليم فوكسويل) في كتابه (التوحيد وتطوره، من العصر الحجرى إلى المسيحية): "ان فيلسوف التاريخ وهو القاضي النزيه، يرى على الاغلب ان من الضروري زوال شعب متخلف، ليخلى مكانه لشعب آخر ذي ملكات متفوقة ... فقد يؤدى الاختلاط بين العروق البشرية إلى نتائج مدمرة". وهذا ما اتاح لصاحبنا ان يخلص فيما يخص الكنعانيين إلى ما يلى: "كان من حسن حظ التوحيد
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 12ـ13(3/40)
ومستقبله ان الاسرائيليين المجتاحين، كانوا شعباً متوحشاً يملك تلك القوة البدائية مع ارادة للحياة لا نظير لها، فابادة الكنعانيين قد حالت دون الانصهار التام للشعبين المنحدرين من اصل واحد، ولو قدر لهذا الانصهار ان يقع لعمل دون شك على اضعاف ديانة (يهوه) إلى حد بعيد" (1).
وفي كتابه (فلسطين الجانب الإنساني) أورد (ويكفيلد) عبارة للبروفيسور (راينهولد نيبر)، يقول فيها: "إن الزعم بأنه من غير الأخلاقي دولياً أن تؤخذ فلسطين من العرب وتعطى لليهود، زعم عار من الصحة، اللهم إلا إذا صح الزعم بأن المستوطنين الأوربيين لم يكن من حقهم أخذ الأرض من الهنود الحمر ليستوطنوها، ويجعلوا منها القارة الأمريكية العظيمة" (2). ويقول الحاخام المؤرخ (لي ليفنجر): "أن مؤسسي أمريكا كانوا أكثر يهودية من اليهود أنفسهم، وهم على حسب ما يزعمون (يهود الروح) الذين عهد الله إليهم كما عهد إلى يهود (اللحم والدم)، قبل أن يفسدوا ويتخلوا عن أحلام المملكة الموعودة". ويضيف مخاطباً المهاجرون الأوائل قائلاً: "أن يهوديتكم أيها المهاجرون إلى العالم الجديد هي التي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الأمريكي في كل محطاته:
1 - المعنى الإسرائيلي لأمريكا.
2 - عقيدة الاختيار والتفضيل الإلهي والتفوق العرقي والثقافي والفكري.
3 - الدور الخلاصي للعالم.
4 - قدرية التوسع اللامحدود.
5 - حق التضحية بمن سواهم وإبادتهم واعتبارهم، كما تقول التوراة والتلمود جنساً محتقراً لا لزوم له ما دام ليس يهوديا (3).
وهكذا فقد اقتدى الأمريكان في المبادئ الخمسة بعلماء اليهود وبحرفية كل ما جاء من في التوراة. فالتفسير النزيه للتقاليد الكتابية التي تأمر بالأعمال الفظيعة، وجرائم الحرب، قد قدمت العزاء والسلوى لأولئك المصممين على استغلال الأراضي
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص38
(2) حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والابادات الجماعية - منير العكش ـ الدستور الأردنية - 18ـ8ـ2002م
(3) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 10(3/41)
الجديدة على حساب الشعوب المحلية. وهناك دليل وافر بأن الكتاب المقدس كان ولا يزال إلى حد ما، المثل الأعلى الذي يسعى إلى استلاب الأرض بالفتوحات (1).
من هنا يتضح أن سياسة أمريكا تجاه شعب أمريكا الأصلي هي نسخة طبق الأصل عن الموديل التلمودي اليهودي لعلاقة اليهود بالغرباء، حيث يطالعنا الموقف عينه من الناس كأنهم دواب، والوحشية الفظيعة نفسها، والشعور بأن كل شيء مباح ـ السمات المميزة لليهود المتعصبين ـ كما أن أراضى الهنود وأملاكهم لا تخص أحداً مشاعاً يعيد إلى الأذهان أحد معايير التلمود الرئيسة، الذي يعتبر ملكية غير اليهود (بحيرة شاغرة). وانطلاقاً من هذا المبدأ اتخذت الحكومة الأمريكية في عام 1899 م إجراء جديدا لنهب أراضى الهنود، التي كانت قد سجلت ملكاً لهم (إلى الأبد) منذ عهد ليس بالبعيد، لقد قررت الحكومة الأمريكية، مصادرة أراضى الهنود من جديد وهكذا بدأ تنفيذ حملة (السباق) لعموم أمريكا.
وقد جاء في نداء حكومة الولايات المتحدة الأمريكيه: "أن على كل مواطن أمريكي أبيض يرغب في الحصول على أرض مجانية الحضور في الثاني والعشرين من نيسان 1899م إلى خط محدد مسبقاً. ففي الثامنة من صباح ذلك اليوم ستعطى إشارة الانطلاق. ولسوف يحصل كل متسابق على تلك القطعة من الأرض التي يستولي عليها قبل غيره، دون أي مقابل وسوف يربح ـ أكثر من يجري (أسرع). لقد شارك في هذا (السباق) الآلاف من البيض الراغبين في الإثراء على حساب الهنود. كان كل متسابق يحمل قطعة من القماش الأبيض، وكانت قطعة من الأرض الهندية نصيب أول من يصل إليها، ويركز قطعة القماش عليها. وعلى هذا النحو حققت الروح التلموديه النصر على الأرض الأمريكية (2).
ثقافة أهل الحدود
في ظل اعتقاد الأمريكيون أن ما يقومون به من احتلال ونهب لأراضي الغير، ما هو إلا تنفيذاً لإرادة إلهية، وان الله منحهم هذا الحق، فإنه كان طبيعياً أن تنشأ
_________
(1) الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى ص 24
(2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 23(3/42)
لديهم ثقافة جديدة سماها بعضهم بثقافة أهل الحدود، والتي لا تضع حداً لأطماع الأمريكيين في أراضى الغير. ويصف هذه الحالة (جارودى) بقوله: "فبالنسبة للعلاقة مع الطبيعة لم تكن لـ (الحدود) طوال أكثر من قرن نفس المعنى، الذي كانت تعنيه في أوروبا. كانت الحدود الأمريكية دائماً مساحة مفتوحة حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، ولم تغلق تلك الحدود رسمياً إلا بالوصول إلى المحيط الهادي" (1). "فقدر أميركا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنها مثل عصا هارون (موسى)، التي صارت أفعى وابتلعت كل الحبال، هكذا ستغزو أميركا الأراضي وتضمها إليها أرضاً بعد ـ أرض، ذلك هو قدرها المتجلي، أعطها الوقت، وستجدها تبتلع في كل بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا، ذلك هو معدل توسعها" (2).
فمنذ العهد الاستعماري، تعود الأمريكيون على الاستيطان واستمرارية الزحف من الساحل الشرقي إلى الغربي في اتجاه الأرض البكر ـ غير المستغلة ـ ممارسين التجارة والزراعة. وباستمرار هذه الظاهرة أصبحوا يفكرون بأن ضم أراض جديدة إنما هو عمل طبيعي عودتهم الأحداث عليه (3). يقول (اى. ا. بيلينكتون) أستاذ التاريخ في جامعة نورث ويسترن ومؤلف (تاريخ الحدود الأمريكية) و (الحدود الغربية القصوى): "إن الأساس الذي قامت عليه حياة أهل الحدود هو الذي يميز، حتى يومنا هذا، اتجاهاتنا وميولنا نحو المجتمع والعالم الذي يحيط بنا. نحن شعب متنقل، نسير إلى الأمام قدماً، ولا تربطنا بالموطن والمجتمع إلا رابطة هينة. وهذا عكس ما هو عليه الإنجليز أو الفرنسيون أو الإيطاليون. إن أسلافنا من أهل الحدود كانوا متنقلين، وأننا دوماً على استعداد للتبدل والتغيير بنحو ما هو أحسن وأفضل لحياتنا" (4).
والاستعداد للسير إلى الأمام والتبدل نحو الأفضل، لا يعنى للأمريكان سوى أن تظل تلك المساحة الشاسعة داخل أمريكا ـ وبعد ذلك في العالم ـ مسرحاً للنهب والسلب وتدمير الغابات الكثيفة بحثاً عن مناجم الذهب والفضة، وكانت العلاقة مع
_________
(1) أمريكا طليعة الانحطاط ـ جارودى ـ ص49
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص105
(3) المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية - ج1ـ د. محمد النيرب - ص190
(4) حضارة العالم الجديد من عصر الاستكشاف إلى عصر الذرة- ارل شينك ـ ترجمة فؤاد جميل- ص290 - مطبعة شفيق / بغذاد - ط1 1958(3/43)
الآخرين ـ أيضا ـ ذات طبيعة خاصة بدأت أولاً بطرد الهنود للاستيلاء على أراضيهم ووضعهم بين خيارين: أما الإبادة، وإما النفي والانسحاب إلى المعزل، وبعد ذلك كانت العلاقة بين البيض أنفسهم خاضعة لأحكام قانون الغاب، لنهب الثروات المسروقة من الهنود أرضاً كانت أم ذهباً. فقد كان النيوانجلانديون ميالين لاعتبار كل ما هو محيط بهم على أنه برية تنتظر حضارة منظمة تستنقذها (1). وبالطبع فإن تلك الحضارة، هي الحضارة الأمريكية صاحبة الرسالة الخالدة، التي بشر بها قادة الفكر الأمريكي، وأكدوا بأن أمتهم قادرة بإمكانياتها أن تحقق رسالتها الخالدة وحلمها الأعظم، الذي تعبر عنه أسطورة حكاها (جون فايسك) فيلسوف التاريخ، عضو النادي الميتافيزيقي مهد البراجماتية، إذ رسم (فايسك)، أو رسمت الأسطورة على لسانه، حدود الولايات المتحدة الأمريكية.
تروى الأسطورة، التي استهل بها (فايسك) إحدى محاضراته، قصة حفل غذاء في باريس ضم أربعة من المغتربين الأمريكيين. تحدث كل منهم عن مستقبل الولايات المتحدة وحدودها وأمجادها. إلى أن جاء دور المتحدث الرابع الذي لم يقنع بما رسمه سابقوه من حدود تسع الكرة الأرضية وشعوبها وبلدانها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، وانبرى وقال: "لماذا نترك أنفسنا أسرى هذه الحدود الضيقة. أن الولايات المتحدة هي تلك التي يحدها الشفق القطبي شمالاً، والاعتدالين جنوباً، والعماء البدائي شرقاً، ويوم القيامة غرباً" (2).
ومن الجدير بالذكر أن (جون فسك) كان من فلاسفة الدارونية، الذين استعملوها لتبرير الاستعمار حيث كتب يقول: "إن العنصر الانجلوـ سكسوني هو أصلح الأجناس البشرية، وانه في المستقبل سوف ينتشر هو ولغته وثقافته في أربعة أخماس الكرة الأرضية، وسوف يحيل إفريقيا إلى بلد متقدم ملئ بالمدن والمزارع ومظاهر التكنولوجيا". وقد كرر هذه الآراء في عدد من المؤلفات، حيث كانت الآراء المقابلة في القارة الأوروبية في أمثال: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، تسير
_________
(1) تاريخ الحياة الثقافية في أميركا يرويه لويس بيري ـ ترجمة أحمد العنانيـ ص 58
(2) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص227(3/44)
في نفس الاتجاه وتبرر حركة الاستعمار والتوسع إلى أن أفرزت حركات عنصريه متطرفة من أمثال: النازية والفاشستية، وأشعلت حربين عالميتين في فترة لا تتجاوز نصف القرن" (1).
ولم يكن (جون فايسك) هو أول من عبر عن طموح الولايات المتحدة مجسداً في رسالتها الخالدة التوسعية، وإنما عبر عنها آخرون من رجال الدولة والزعماء السياسيين، مما يؤكد أنها جزء من ثقافة اجتماعية سائدة، وإن صيغت الرؤية في عبارات متباينة. ذلك أن فكرة: "الأمريكيون هم شعب الله المختار"، عبر عنها صراحة (توماس جفرسون) في خطابه الرئاسي الأول عام 1801م. وسبقه أيضاً (جورج واشنطون) أول رئيس للولايات المتحدة، إذ قال في خطاب رئاسته: "أنه موكل بمهمة عهدها الله إلى الشعب الأمريكي"، وذلك في عام 1789م، ومن بعده قال (جون آدمز) الرئيس الأمريكي الثاني: "إن استيطان أمريكيا الشمالية تحقيق لمشيئة إلهية". وقال (تيودور روزفلت): "أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا" (2). وقد لاحظ المؤرخ الأمريكي (فريدريك جاكسون تورنر) أن: "أمريكا كانت، منذ أيام إبحار كولمبوس إلى عمق مياه العالم الجديد، اسماً آخر للفرصة، وما لبث شعب الولايات المتحدة ان استمد مزاجه من التوسع المتواصل، الذي لم يكن مفتوحاً وحسب، بل بقى مفروضاً عليهم عنوة .. وستظل الطاقة الأمريكية دائمة التطلب لميدان أوسع تتجلى ممارستها في إطاره" (3).
فالشعب الأمريكي كما وصفته وكالة الإعلام الأمريكية، "دائم النزوح والتنقل من جزء من البلاد إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ومن المزرعة إلى المدينة، ومن المدينة إلى الضواحي" (4). فكما يقول الكاتب الأمريكي (والف وايتمان)::إننا لم نعش أهوال الماضي، ونعبر المحيط ونأتي هنا لنتوقف". فالزحف نحو الغرب وعدم الالتزام بأي حدود هي السمة المميزة للشخصية الأمريكية، فقد اندفع المهاجرون غربا على
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص13
(2) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص227
(3) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص52
(4) هذه هي أمريكا - وكالة الإعلام الأمريكية ـ ص11 - الولايات المتحدة الأمريكية(3/45)
ظهور العربات التي تجرها الجياد نحو حدود جديدة حتى وصلوا إلى شواطئ المحيط الآخر، ثم نزلوا جنوباً حتى اصطدموا بأول عائق بشرى قوى في دولة المكسيك، فحاربوها واخذوا مساحة كبيرة من أراضيها. والترجمة الحقيقية للتعبير الأمريكي THERE IS NO FRONTIERS ( لا توجد حدود)، هي البحث عن مناطق جديدة للغزو وضمها وهو نفس منطق إسرائيل. ولما اكتملت الحدود، اندفع الأمريكي نحو ارتياد حدود وآفاق جديدة تشمل السيطرة الجغرافية على مناطق من العالم القديم، وكذلك الريادة العلمية، والسياسية والاقتصادية؟ أن هذه المنطق يذكر الأمريكيين بآبائهم المؤسسين باندفاعهم وديناميكيتهم في مضمار التنافس للاستفادة من كل الفرص المتاحة للكسب المادي (1). فقد كان شعار (انطلق نحو الغرب أيها الرجل الشاب)! هو الحل المقدم خلال الأزمة الاقتصادية 1840م من هوراس غريلي صاحب جريدة نيويورك تريبيون (2).
ان ميتافيزياء (اقتحام الغرب) التي نسفت نظام البوصلة واعدت العصر الذهبي لنظرية الإنكليزي (مالثوس) جعلت الغرب الأميركي في كل الجهات وفي كل الأرحام، إنه (الغرب) اللانهائي اللامكان وأنه كل مكان. انه فضاء الزنابير، الثقب الأسود الذي يمتص كل شيء، الأرض التالية، وراء الجبهة التالية، وراء الغرب التالي، وراء المجاهيل التالية، وراء الإبادة الجماعية التالية. إن عالمنا كله يعيش اليوم تحت رحمة (مافيا كولومبس) (3). http://www.aljazeera.net/books/2004/2/2-9-1.htm - TOP#TOP لقد حلم (جيفرسون) ببلد قارة ترث الأطلسي والباسيفيكي، أرض مبذولة "كبيرة جدا كافية لآلاف الأجيال". وفي سنة 1803م قام الرئيس الأمريكي بشراء لويزيانا الشاسعة (تغطي ثلث مساحة الولايات المتحدة حاليا، من خليج المكسيك وحتى الغابات الكندية. من ضفاف الميسيسيبي وحتى صخور المونتانا) من نابليون، وفي السنة الثانية أرسل المستكشفون لفتح طريق الشمال ـ غرب. كانت تلك روحية الحدود: ادفعوا الحدود، اذهبوا دائما نحو البعيد، وبذلك تكونون الثروة. هناك المزيد من الغنى، متوافر للجميع. إن الذي يخاطر
_________
(1) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 55
(2) إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص146
(3) حق التضحية بالآخر (أمريكا والابادات الجماعية ـ تأليف منير العكش- ص138ـ139 - رياض الريس للكتب والنشر- ط1 2002(3/46)
ويعمل يجد مخرجاً على الدوام .. كان يريد من ذلك دفعهم نحو الغرب، وتغذية العقلية الطموحة والفردية إلى حد كبير. لذا فإن ما ينتظر من الحكومة هو الحد الأدنى من القواعد، والحد الأقصى هو الحرية. أما بالنسبة إلى الفقراء فليس من المستغرب اعتبارهم مسئولين عن أسباب شقائهم (1).
وهذه الرغبة المستمرة في التوسع والسيطرة وجدت لها مبررات في نظرية (الجغرافيا الحيوية) التي تزعم بأن: "المكان الجغرافي للدولة المتفوقة كائن حي ينمو باستمرار (ولا يموت طبعاً)، ونظرية (القضاء والقدر الجغرافي)، أو الزعم بان يد القضاء هي التي ترسم الحدود الجغرافية للأمم (لا تعترف الولايات المتحدة كإسرائيل إلى الآن بحدود جغرافية، لها وليس في دستورها إشارة إلى ذلك). ومنذ أن أطلق (جون اوسوليفان) هذا الاصطلاح في مقاله له بعنوان (التملك الحق) تحول (القدر المتجلي) إلى عقيدة سياسية مفادها، إن هذا العالم كله (مجاهل)، وأن قدر أميركا (الانكلوسكسونيه) الذي لا ينازعها فيه أحد، إن تتملك منه ما تشاء من أرض لأن ذلك حقها الطبيعي، ولأن إله الطبيعة والأمم هو الذي أورثها هذه الأرضة، وجعلها ـ مثلما جعل ألمانيا النازية بعدها ـ كائناً حياً لا يتوقف عن النمو (2).
ولكن النتيجة الطبيعية لهذا النمو الطفيلي لهذا الكائن المتوحش، كانت كارثية، حيث تقلص معنى الحياة إلى هذا التوسع الكمي للملكية والأرض وكنوزها، وكان (الوست) أو (أقصى الغرب البعيد)، يعني ـ باستثناءات قليلة ـ تقديس هذه الملحمة العنصرية، وقانون الأقوى في حرب الجميع ضد الجميع، ولم تلعب التطهيرية المسيحية أو الييوريتانيه أي دور سوى دور المبرر لتلك الأفعال والعلاقات الاجتماعية بل والمحرك لها. وأصبح العنف الأكثر دموية والتحريض عليه بنفاق المتدينين ملمحاً دائماً في تاريخ الولايات المتحدة منذ نشأتها. فلقد قدم المتطهرون من الإنجليز الأوائل إلى الولايات المتحدة حاملين معهم العقيدة الأكثر دموية في تاريخ البشرية، ومسلحين بفكرة (الشعب المختار)، مقننين فكرة الإباده وكأنها حسب روايتهم أوامر إلهيه. كانوا يسرقون أراضى الأهالي الأصليين طبقاً لتعاليم يهوا (إله
_________
(1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكرـ جريدة الخليج الإماراتية - 15ـ12ـ2005م
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص133(3/47)
الحرب) في العهد القديم، هذا الإله الذي أمر شعبه المختار، بإبادة وذبح السكان القدامى في أرض كنعان واغتصاب أرضهم (1).
وبعد أربعة قرون من مواكبة (العناية الإلهية) لحركة التوسع الاستيطاني نحو الغرب، أعلن (فردرسيك تيرنر) أحد أبرز فلاسفة (الثغور) أن الجبهة القارية الداخلية انتهت ووضعت أوزارها، وبانتهائها ختمت أمريكا حقبتها التأسيسية اللازمة للتوسع وراء المحيط ولبناء إمبراطوريتها الكونية. وعندما نشر كتابه (مشكلة الغرب) أكد على أن التوسع، والحرب كانا أساس النماء الاقتصادي الأمريكي، ولابد لاستمرار هذا النماء من استمرار التوسع، وعدم إطفاء نار الحرب. ودعا (تيرنر) إلى شق قناة لهذا التوسع عبر المحيط والاستفتاح بضم الجزر والبلدان القريبة. إنها حتمية الولادة الأبدية للثغور التي تتقدم باستمرار، وحتمية الولادة الأبدية للحياة الأمريكية على هذه الثغور والجبهات التي ستصل الغرب بالشرق، لتكمل شمس الحضارة الانكلوسكسونية دورتها حول الأرض. "فقد نجا شعب الله الجديد من ظلم فرعون لندن، وخرج إلى كنعان الجديدة فقهر قديسوه مجاهلها. وظل الغرب يفر أمام زحوفهم ويتراجع إلى أن لم يبق أمامهم من غرب، والى أن صار عليهم أن يخترعوا لزحفهم غرباً ولو في أول الشرق" (2).
السير على هدى وصايا يهوه
قرنت نصوص التوراة والعهد القديم باستمرار وبإلحاح لافت للنظر، بين الثراء والوفرة المادية لدى الفرد ولدى الجماعة، وبين (السير على هدى وصايا يهوه)، باعتبار الثراء والوفرة نعمة، ينعم بها يهوه على من يطع أوامره ويلتزم بنواهيه، وباعتبار الفقر والجوع والشقاء الدنيوي عقاباً، يعاقب به يهوه ممن يعصِ أوامره ولا يلتزم بنواهيه، وهذا ما يوضحه بجلاء بالغ هذا النص: "فإذا سمعتم لوصاياي أعطي مطركم في حينه المبكر والمتأخر. فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك .. فتأكل وتشبع. فاحترزوا لئلا يحمى غضب يهوه عليكم ويغلق السماء فلا يكون مطر ولا تعطى
_________
(1) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص49
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص137(3/48)
الأرض غلتها. فتبيدون سريعاً .. انظر .. أنا واضع أمامك اليوم بركه ولعنه. فالبركة إذا سمعتم لوصايا يهوه إلهكم .. واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب يهوه (1) " (التثنية11:11ـ15 و 26ـ28).
ولما كان المتطهرون هم ورثة الصلاح البروتستانتي، لذلك كانوا يعلمون أنها كانت غلطة رومانية كاثوليكية، أن يظن بأن الأعمال الطيبة والصدقات يمكنها أن تمحوا وشم الخطيئة، لان هدف الدين هو تمجيد الرب ذي الجلال والإكرام. وحيث أن أوامره ـ جل جلاله ـ ليست سهلة التنفيذ لذلك فإن رحمته لا تحل إلا بالمؤمن (2). وعندما أخذت البروتستانتية ذلك الكلام من عجزه، فقالت: إن كل من لم يتصف بالمبادأة، ولم يجد لديه القدرة على أن يقوم بأمر نفسه اقتصادياً، مثلما تعين عليه القيام بأمر نفسه دينياً، فابتلى بالفقر والجهل والمرض وداسته الأقدام، لا حق له في أن يلوم أحداً إلا نفسه، لأنه شرير وسيئ وخاطيء ورديء وإلا لما كان جلب على نفسه فراغ خزانته، والخيبة في كل ما يفعل، وما تمتد إليه يده، كانت البروتستانتية بذلك مستنده بظهرها الورع بقوة وتمكن إلى أخلاقيات العهد القديم، الذي زودها بكل ما افتقدته من سند إلهي في التعاليم المتسامحة للسيد المسيح، الذي لم يكتف بأن دعا إلى الرحمة والتراحم وصنع السلام، بل تمادى في نقضه للناموس، الذي ادعى أنه جاء ليكمله وقال: "ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبره أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (3) (لوقا 18:24).
هكذا قدمت البروتستانتية الكثير من الأفكار، التي حملها الأوروبيون إلى العالم الجديد، حتى أن بعض المؤرخين اعتبروها المكون الرئيس في حوافز المستوطنين الجدد في أميركا، حيث كانت حملات الدعاية لمعظم المشروعات الإنجليزية الاستعمارية، عبارة عن فقرات تناشد أوائل المستعمرين بتقديم العون السياسي أو المالي، أو مواعظ كنسية تدعو للمسافرين بالتوفيق من الله، أو قصص تفاؤل عن مغامرات البحار ـ كانت تؤكد عظمة العناية الإلهية أكثر من أمجاد البشر. كذلك تعكس تلك المقتطفات أن رجال الإنجليز في القرن السابع عشر الميلادي
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص78
(2) تاريخ الحياة الثقافية في أميركا يرويه لويس بيري ـ ترجمة أحمد العناني ـ ص 71
(3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص 79(3/49)
كانوا يحبون تبرير أعمالهم بعبارات فضفاضة من علم الكونيات الديني. كما كان واضحاً بأن هناك توجها للعناية الإلهية يسري في سائر كتابات أصحاب ذلك المشروع الاستعماري. فهم يتكلمون عن أنه رغم كون الجميع من الناس مشاركين في خطيئة آدم، إلا أنهم يحتفظون بموهبة العقل، التي تمكنهم من استغلال الحيوان والنبات وممالك المعادن. وهم بأعمالهم الأنانية كانوا ينفذون خطة مقدسة تفضي إلى الوفاق النهائي، وهكذا فإن الله تعالى ـ على حسب ما يراه الكتاب الإنجليز ـ قد أخر استعمار العالم الجديد إلى ما بعد الإصلاح الديني البروتستانتي لكيلا تقع أميركا بغير منازع في حضن الظلام البابوي (1).
هذه الخلفية الدينية المستمدة من العهد القديم، والتي تمسك بها المسيحيون البروتستانت، باعتبارهم رسل العناية الإلهية، التي يجب أن يلتزموا بحرفية تعاليمها، لكي يحصلوا على البركة والرخاء، ولكي لا تحل عليهم النقمة، هي التي يمكن أن توضح لنا سبب الجشع والطمع وحب المال الذي يتمتع به الأمريكان، باعتبار أن ذلك هو إطاعة لأوامر الله. وقد اكتشف (توكفيل) هذه الحقيقة، وكان أول محلل ومراقب ثاقب البصيرة للولايات المتحدة منذ عام 1840م في كتابه الأساسي عن هذه الدول، وكانت ـ لا تزال ـ وليدة حين قال: "لم أعرف شعباً مثل هذا الشعب استولى فيه حب المال على قلوب البشر، انه شعب من شراذم المغامرين والمضاربين". واليوم ـ أيضا نستطيع أن نتعرف في تاريخ هذا الشعب على أسس انحطاط ثقافته (2).
التباين في الثروات
لم يكن غريباً أن (مارتن لوثر) مؤسس المذهب البروتستانتي، اعتبر الملكية معياراً للتفريق بين الإنسان والحيوان، ولهذا اتهم القديس الاسيزي بأنه مختل العقل، طائش أحمق شرير لمجرد أنه كان يطلب من أتباعه إن يتخلوا عما لديهم للفقراء. ومنذ نزولهم في جيمستاون عام 1607م، لم يستطع القديسون أن يميزوا
_________
(1) تاريخ الحياة الثقافية في أميركا يرويه لويس بيري ـ ترجمة أحمد العناني ـ ص 12
(2) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص48(3/50)
بين السماء وعجل الذهب "لقد وجدنا أرضاً واعدة أكثر من أرض الميعاد، فبدلاً من اللبن وجدنا اللؤلؤ، وبدلاً من العسل وجدنا الذهب" (1).
فمنذ وطأت أقدام المستعمرين الأوربيين أمريكا، ودخلوا في صراع دموي مرير مع الهنود الحمر سكان ـ القارة الأصليين ـ وجد رجال الدين أنفسهم في خدمة الحرب الجديدة. وعندما انطلقت دعوة الدارونية الاجتماعية ـ وجدت الكنيسة فيها مبرراً لهذه الخدمة العسكرية. وكان من بين رجال الدين الأمريكيين الذين اعتنقوا الدارونية الاجتماعية عدد غير قليل، منهم الكاهن (جوسيان سترونج)، الذي قال: "إنه طبقا لصراع وتفوق النوع الانجلو ـ سكسوني، يظهر في أمريكا نوع من الناس كبار الأجسام أقوياء فارعو الطول". وقال: "أن العنصر الأمريكي سوف يملأ القارة ويزحف نحو الأقطار الأخرى في أمريكا الجنوبية وإفريقيا، وما ورائها وستكون نتيجة هذا الزحف تفوقه والقضاء على الأجناس الأخرى لان البقاء للأصلح" (2).
ولما كانت الحيوانات ـ في نظرية دارون ـ غير متساوية وأن أفضلها هو أقواها واقدرها على التكيف مع متطلبات البيئة، فكذلك أفراد الجنس البشري، هم مختلفو القدرات، وأفضلهم هم أقدرهم على التكيف خلال عملية (الصراع من أجل البقاء)، ولذلك فإن المساواة فكرة خاطئة تكرس التخلف والمرض في المجتمع. أما (حرية الصراع) فإنها تولد الشجاعة والتدريب والذكاء والعمل. وهكذا لعبت القيم الدينية المستمدة من التوراة دوراً رئيساً في تبرير الطبقية والغنى والفقر، والذي انعكس بدوره على القيم التى يقوم عليها النظام الرأسمالي برمته، ومن أبرز الناطقين بلسان هذا الاتجاه (وليم جراها صومنر) الذي كانت آراؤه الاقتصادية تطبيقات لنظرية الانتقاء والبقاء للأصلح، وخلاصة آرائه في هذا المجال ما يلي:
1ـ التنافس المطلق الذي لا تقيده قيود، أساس الحياة الاقتصادية، والذين ينجحون في جمع الثروة هم أفضل العناصر في المجتمع، والذين يفشلون هم العناصر السيئة، ولذلك لا تجوز الصدقة على الفقراء لان معناه تكريس الضعف في المجتمع.
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص117
(2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص19(3/51)
2ـ إن تنافس بني البشر في ميادين الثروة، كتنافس الحيوان في جمع الغذاء، ولذلك لا داعي للفقراء أن يلوموا الأغنياء، وإنما هم مسئولون عن عجزهم عن التكيف والنجاح في ميدان الصراع، لأن الحقيقة الأولى في الحياة هي الصراع من أجل البقاء، وأعظم مظاهر هذا الصراع هو توفير رأس المال والثروة.
3ـ إن أصحاب الملايين هم حصيلة الانتقاء الطبيعي، الذي يعمل في المجموعة البشرية كلها لانتقاء أولئك الذين لديهم قدرات الإنجاز (1).
وبالرغم من ما أحدثه الإيمان بهذه الأفكار، من تفاوت متزايد في الثروات وبالتالي في السلطات، داخل أمريكا، والذي كان أحد أسباب ظهور الطبقية، وتجمع الثروة في أيدي حفنة قليلة من الأفراد، أفقرت الآخرين ثقافياً ومادياً، الا ان الأمريكيون الأصوليين يعتقدون أن ما تتمتع به أمريكا من رخاء وثراء وتفوق دليلاً لا يدحض على أن الله ذاته يوافق الأمريكيين على إيمانهم بأنهم هم العالم، وأنهم المكلفون بتنفيذ مشيئته والقيام بعمله على الأرض، ويكافئهم على ذلك بالرخاء والثراء والقوة (2). فالرئيس المؤمن (رونالد ريجان) أعلن، أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها (أمة مباركة من الله)، ولكن أحد رجال الدين الأسبان تجرأ على استهجان ما قاله (ريجان) واصفاً إياه بأنه (تجديف وهرطقة)، لأن ثروة وقوة الولايات المتحدة لا تأتي من مباركة الله، ولكنها ترجع إلى استغلال العالم وبخاصة العالم الثالث، عبر التبادلات غير المتوازنة وغير المتعادلة، وفرض استيراد المنتجات الأمريكية بالقوة وغزو رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض بها المرتبات، وعبر الفوائد الاستغلالية للقروض (3).
وهكذا أوجد الإيمان بهذه الأفكار تبايناً صارخاً في الثروات، جعلت واحداً في المئة فقط من الشعب الأمريكي يهيمنون علي ثروات تزيد أضعاف المرات علي ما يمتلكه ثمانون في المئة من الشعب مجتمعين. ويمتلك (بيل غيتس) من الثروة ما يعادل ثروة مدينة أمريكية تعداد سكانها نصف مليون نسمة. ومع ذلك، فقد صنّف المكتب الأمريكي العام للإحصاء في مطلع القرن الواحد والعشرين حوالي 40 مليون
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص7ـ8
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص414
(3) أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى - ص109(3/52)
أمريكي كفقراء كثير منهم مشردون دون مأوي. وفي كل مدينة أمريكية كبيرة توجد أحياء فيها فقر مدقع، وبذلك توجد عوالم ثالثة في أمريكا نفسها. وقد وصف (روبرت إي دافولي) المدير التنفيذي لإحدى الشركات الأمريكية العملاقة، النظام الأمريكي بقوله: إن الرأسمالية هي انحراف وتضليل. لدينا أعلي معدلات الجريمة في العالم، ولدينا أناس يعيشون علي قارعة الطريق دون أن يلقي أحد لهم بالاً. فقد أفرز نظام الرأسمالية الاستعمارية المستمد من القيم الدينية البروتستانتية، تفاوتاً وعدم مساواة بين الأمم علي صعيد العالم كله، وهو أمر آخذ في التزايد. وهناك 358 مليارديرا يتربعون علي ثروة مجمعة تعادل إجمالي ما يملكه أفقر 2.5 مليار إنسان علي ظهر الأرض (1).
أمريكا تقف في صف الله وتنفذ إرادته
لم يقف أثر الأفكار الدينية عند هذا الحد، بل ساعدت التقاليد البيوريتانية في تشكيل فهم الأمريكيين لأنفسهم فهماً جماعياً، إذ لدى الأمريكيين استعداد ـ على سبيل المثال ـ للاعتقاد بأن الازدهار الوطني الدائم الذي ينعمون به يعود إلى ما يتحلون به من فضيلة. ويشكل يوم عيد الشكر الوطني بقية من هذا التقليد الميثاقي. أما النظير المقابل لذلك، وهو أيام الصيام والتوبة التي تمارس على الصعيد الوطني، فكان أقل شعبية لديهم رغم أن الرؤساء احتفوا بهذه الأيام بين الحين والآخر حتى في القرن العشرين. وعندما تبدو الأمور وكأنها تسير نحو الأسوأ درج القوم على تقليد وطني قديم يزعم أن الأمة تواجه المصائب لان الناس فقدوا الفضائل المفترضة التي تحلى بها أجدادهم. وقد أطلق على هذا النوع من التفجع الوطني اسم (الارميادة) نسبة إلى النبي أرميا، الذي ورد في العهد القديم من الكتاب المقدس، وما يحمل السفر المسمى باسمه من نذر وتشاؤم بسبب ابتعاد إسرائيل عن الله، وعن قواعد الأخلاق القويمة. وظهرت الارميادة في المواعظ البيوريتانية
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم - المؤسسة العربية للتوزيع والنشر- ط1 2003 القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م(3/53)
لأول مرة قبل نهاية عقد السبعينات من القرن السابع عشر الميلادي وذلك حال ظهور الجيل الثالث من المستعمرين (1).
ففي منتصف القرن السابع عشر الميلادي ساد اعتقاد بان الله عاتب على شعبه الجديد، وان هناك بوادر خصومه عبر عنها (ميخائيل ويغل وورث) أحد أكبر شعراء عصره في قصيدة ملحمية بعنوان (خصومة الله مع نيو انغلند) ندب فيها فشل المستعمرين في أداء واجبهم الرسالي، وتبدأ الملحمة بمقدمة طويلة تصف شيطانية الهنود وظلاميتهم ووحشيتهم، وكيف أن هؤلاء العماليق والكنعانيين الملعونين تنطحوا لمحاربة رب إسرائيل ثم انهزموا مذعورين أمام جنوده؟! وهناك عشرات المحاولات لتقليد هذه القصيدة الملحمية من قبل شعراء ثانويين، كلهم ردوا غضب الله إلى خيانة العهد معه، ودعوا إلى تجديده كما فعل العبرانيون القدامى (2).
وهكذا منذ ظهرت أمريكا، كان التبرير الديني حاضراً، ليبرر كل ما تقوم به، من خلال الاعتقاد بأنها، في كل ما تفعل ـ حتى وان كان ما تفعله جريمة إبادة جماعية لشعب بأكلمه ـ تقف في صف الله وتنفذ رغباته. فالهنود الحمر، مثلاً، كانوا أشباه بشر، وأبالسة من أعماق الجحيم، وأعداء للمسيح، ولذا، فإن أبادتهم كانت عملاً خيراً من اجل المسيح وضد الشيطان إبليس عليه لعنة الله. ودائماً بشكل لحوح مستمر ومتواصل كان كل من استهدفته أمريكا شيطاناً (إبليس) أو من زبانية الشيطان (إبليس). وبالتالي كان قتال أمريكا له عملاً مقدساً من أعمال الله على الأرض. فالإمبراطورية الأسبانية، مثلاً، عندما اندفعت أمريكا إلى ما وراء حدودها الوطنية لتأخذ من تلك الإمبراطورية مستعمراتها في أمريكا الجنوبية، والبحر الكاريبي، والمحيط الهادي، كانت (إبليس)، وكانت أمريكا بمحاربتها أسبانيا لأخذ مستعمراتها منها قائمة بعمل الله على الأرض، وقائمة بدور الملاك جبرائيل في قتاله مع إبليس ... وعندما اعتبرت الولايات المتحدة الاتحاد السوفيتي، بعد الحرب العالمية الثانية، منافساً خطراً لها .. بات الاتحاد السوفيتي هو إبليس وقامت أمريكا بدور جبرائيل، دفاعاً عن المسيح (3).
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ص27
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص127
(3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص415(3/54)
وبالضبط فانه كما سمي الأسبان حربهم لإبادة الهنود في جنوب القارة الأمريكية تبشيرية، استند المتطهرون الإنجليز على أوامر يهوا بالإبادة المقدسة للهنود، لتبرير طردهم وسرقة أرضهم أحياءً للعهد القديم، ولهذا كتب أحدهم يقول: "واضح أن الله يدفع المستوطنين للحرب، بينما يعتمد الهنود بعدتهم وعددهم على ارتكاب الخطأ مثل القبائل القديمة، يتحينون الفرصة لفعل الشر تماماً مثل قبائل (الاماليسيت) القديمة والفلسطينيين الذين كانوا يتحدون مع آخرين لقتال إسرائيل" (1).
ولما كان تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر هو في الأساس تاريخ القضاء على الهنود، واستغلال العبيد الزنوج، فقد ظهر خلال هذه الفترة أبشع أنواع النفاق فيما يخص الهنود، كما ظهر لأول مرة ما أصبح المبدأ المحرك لكل الاعتداءات المستقبلية التي ستقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية عبر العالم اجمع، ويتمثل هذا المبدأ في اعتبار كل عدوان أو إباده تقوم بها الولايات المتحدة نوعاً من (الدفاع الشرعي)، وحق مقدس للرجل الأبيض، لتنفيذ الرسالة الإلهية الملقاة على عاتقه. فالرسالة التي ألقيت على عاتق الأمة الأمريكية التقية، هي رسالة إلهية .... فهذه الأمة التي وصفها ايزنهاور بأنها، "تحب الله كثيراً ويبادلها الله حباً بحب"، مكلفه تبعاً لذلك بتنفيذ مخطط الله للخليقة، ذلك المخطط الوارد بحرفيته في التوراة، وسائر أسفار العهد القديم (2).
فتعابير مثل (شعب أخص) و (شعوب مختارة)، هي تعابير مهمة وحاسمة، لا توجد فقط في الأدبيّات السياسية لليمين الأمريكي، ولكنها توجد ـ أيضاً ـ في الثقافة الأمريكية عموماً، وهو الإيمان بأمريكا مختارة بشكل خاصّ، وهو ما يصبح عند السيدة (مادلين أولبرايت)، هو الإيمان بـ (أمّة ضرورية)،سواء كانت منتخَبَة من الربّ أم من (القَدَر) أم من (التاريخ)، أو بكل بساطة أمريكا مدعوَّة إلى العظمة وإلى القوة، لأنه مفروضٌ أنها تمتلك أكبر وأقدم ديمقراطية وأكثرها تطوّراً. هكذا سيقول (ويلسون) إن أمريكا لَهَا الامتياز اللامتناهي لأداء قدَرِهَا وإنقاذ العالَم. والأمثلة كثيرة
_________
(1) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص50
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص409(3/55)
على هذه المكانة التي يمنحها الأمريكيون لبلدهم، وهي مكانة تتجاوز المنطق، وتذهب بعيداً في مسار نبوئي وتبشيري. وهناك مقطعا لـ (هرمان ميلفيل): "نحن الأمريكيين شعب مختار مميز ـ إسرائيل هذا الزمان، إننا حاملون لتابوت عهد حريات العالم" (1). لقد صوَّرَ الربّ أشياء كثيرة لِعِرْقِنَا، والبشرية تنتظر هذه الأشياء. إننا في قلوبنا نحسّ بهذه الأشياء. أمّا باقي الأمم فسَتَسير، قريباً، خلفنا. إننا روَّاد العالَم، الطليعة التي تم إرسالهَا من خلال غابة الأشياء التي لم تتحقق، لِشّقّ طريق في هذا العالَم الجديد الذي هو عالَمنَا" (2).
أرض الحرية مسكونة بـ كوابيس العنصرية
في دراسة حديثة لإحدى ناشطات حقوق الإنسان في أمريكا هي (اليزابيت مارتنيه)، التي تعمل في نفس الوقت أستاذة الدراسات العرقية في جامعة كاليفورنيا تؤكد (مارتينية) على أن فكرة (فوقية الرجل الأبيض) و (العنصرية) هي الأساس الذي شكل الدولة الأمريكية. وتسوق أمثلة متعددة على أن مجد أمريكيا الاقتصادي الذي يتباهى به حكامها الآن لم تصنعه إلا بسرقة الموارد الاقتصادية للدول الأخرى واستعباد العمالة اللازمة ثم ـ وهذا هو الأكثر أهمية ـ تبرر جرائمها بدونية ضحاياها!! ثم ترصد الباحثة قناعة أمريكية أخرى، وهي أنها أمة قدر الله لها أخذ أراضي الغير والسيطرة على شعوبها من أجل تحقيق الحرية والحكم الفدرالي! وأخيراً تصل الباحثة إلى اخطر ما في الأمر، وهو أن الرق والعبودية لم ينتهيا في أمريكا، وإنما مازال هناك عبيد يباعون ويشترون داخل حدود الدولة الأمريكية دون أن تذكر (صحافة الحريات) شيئاً عن الموضوع.
تقول (اليزابيت): أن جذور العنصرية الأمريكية أو ما يعرف بـ (الفوقية البيضاء)، تكمن في الاستغلال الاقتصادي عن طريق "سرقة الموارد الاقتصادية واستعباد العمالة"، وتبرر هذا الاستغلال فيما بعد (بدونية، ضحاياها). وكان أول تطبيق
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص28
(2) القومية الأمريكية الجديدة ... ـ تأليف: اناتول لييفين ـ عرض: بشير البكرـ جريدة الخليج 23ـ6ـ2005م - الحلقة الرابعة.(3/56)
للفوقية البيضاء أو العنصرية قد تمثل في الاحتلال الأوروبي الأمريكي للأراضي الأمريكية بإبادة سكانها الأصليين، ثم جاء عهد (العبودية السوداء)، ثم عهد (العمالة المستعبدة). وباختصار فإن الفوقية البيضاء والقوة الاقتصادية، ولدتا جنباً لجنب. فالولايات المتحدة الأمريكية هي أول أمة في العالم تولد عنصرية، وأول أمة ـ أيضاً ـ تولد رأسمالية، وهذه ليست مصادفة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يظهر التاريخ أن الرأسمالية والعنصرية يسيران جنباً لجنب.
فمنذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، عززت الحملات الاستعمارية الأوربية الشعور بـ (فوقية الرجل الأبيض) وظهر في الولايات المتحدة مبدأ (القدر الواضح)، الذي يقول إن "الولايات المتحدة قدر لها الله أن تأخذ أراضي الغير وتسيطر على شعوبهم". واستخدم هذا المصطلح للمرة الأولى عام 1845م في إحدى المجلات الأمريكية التي ذكرت "لقد منحنا الله حق التوسع وامتلاك القارة بأكملها من أجل تحقيق التجربة العظمى من أجل الحرية وتطبيق الحكم الفيدرالي". ويمثل مبدأ (القدر الواضح) سياسة عنصرية واضحة انتهجتها الولايات المتحدة منذ زمن بعيد، حيث سهلت عليها التوسع الجغرافي والتطور الاقتصادي على مبدأ أحقيتها في ذلك بسبب تفوقها العنصري الأبيض، وكانت نظرتها للشعوب الأخرى وراء نجاحها في الوصول إلى ما تريد. فقد نادى البيض منذ زمن بضرورة إخراج السود من أمريكا لتجنب التلوث، الذي تسببه تلك الشعوب السوداء. وكان قبل ذلك السكان الأصليين قد عانوا من معتقدات الفوقية البيضاء، التي لم تكتف باعتبارهم قذرين، وهمجيين، ولكنها اعتبرتهم دونيين في معتقداتهم وقيمهم. وتؤكد (اليزابيت) إن عنصرية (الفوقية البيضاء) وما تمثله من عنجهية مازالت تسيطر علي المجتمع الأمريكي، ومازالت تحتفظ بعدوانيتها العنصرية، وما يحدث للمسلمين الآن خير مثال على ذلك.
ولكن هل توقف الأمر في الولايات المتحدة عند العوامل التي تحدثت عنها (اليزابيت) من عنصرية وفوقية بيضاء، ورغبة جامحة منذ البداية بإقامة مجتمع رأسمالي يمثل شركة كبيرة همها الأوحد الربح والخسارة دون اعتبار لأي قيم؟ شركة تقوم فقط على الانقضاض علي موارد الشعوب أينما وجدت علي اعتبار أن هذه(3/57)
الشعوب غير قادرة علي حماية مواردها والاستفادة منها؟ (1). هذا ما حاول المفكر (روجيه جارودى) الإجابة عليه في كتابه (أمريكا طليعة الانحطاط) بقوله: "أصبحت الولايات المتحدة هي منظومة الإنتاج التي يقودها المنطق التكنولوجي والتجاري، والتي يشارك فيها كل فرد منتجاً أو مستهلكاً، في غاية وحيده هي تنمية مستوى المعيشة كمياً. وهكذا كانت كل هوية ثقافية أو روحيه أو دينيه تعتبر مسألة شخصيه فرديه تماماً لا تتدخل مع مسيرة النظام ... واتسع المجال بذلك أمام تفشي الخرافات وانتشار الطوائف والهروب إلى المخدرات أو الشاشة الصغيرة، بينما غطى كل ذلك صبغة تدعى الدينية، وهي (الببوريتانيه) الرسمية أو التطهيريه الرسمية، التي تتعايش مع كل أنواع انعدام المساواة وكل المذابح والجرائم، بل وتمدها بالتبرير والغطاء الديني" (2).
النازية في ثوب جديد
في كتابه (الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديد)، يشير الكاتب الأمريكي (روبرت كيغان) إلى وجود ما يدعوه بـ (سيكولوجيات القوة والضعف)، دون أن يقر بأن بعض تلك السيكولوجيات يمكن أن تتعارض مع مباديء السلوك الحميد، حيث يرى أن الاحترام والتأثير الذي يجب أن تحظى به الأمم في العالم يجب أن تكون متوازية بالضبط مع قدرتها العسكرية وقوتها، من دون أن تكون تلك القوة مقادة ببوصلة أخلاقية. وهذه المعالجة التي تذكرنا بفجاجة الفكر الواقعي السياسي الذي كان الأميركيون رواداً في تعميمه على العالم، وهو الفكر الذي يحيد المعايير الأخلاقية في السياسة الدولية, ويعلي من شأن القوة وما تفرضه (3). وبالتالي فإن الكاتب يمجد القوة والتسلط مثلما ذهب مفكرون أمريكيون سابقون إلى القول: "أن القانون الطبيعي ليس هو المساواة! بل عدم المساواة،
_________
(1) أمريكا .. تاريخ من العنصرية والمآسي الإنسانية ـ إعداد وسام الأسدي جريدة الخليج 27ـ2ـ2003م عدد 8684
(2) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص48.
(3) الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديدـ روبرت كيغان ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز(3/58)
وحرية المشروعات الفردية، وأن البقاء للأقوى، والقوة صانعة الحق وسنده ومبرره. وان هناك من جاء إلى الحياة ليعانوا الظلم عدلاً وحقاً لان هذا قدرهم ومكانهم، وأن ثورتهم أو تمردهم ثورة وتمرد على الطبيعة ونكران للحق وتحد له".
وهنا يرى (بويل) إن (الهوبزيه) نسبة إلى (توماس هوبز) كان لها أثر كبير في الفكر القانوني الدولي الغربي عموماً، والأمريكي على وجه الخصوص، و (هوبز) هو مؤلف كتاب (لويا تان) والعنوان مأخوذ من الكتاب المقدس ويعني وحشا بحريا يرمز إلى الشر، ثم استعير إلى اللغة السياسية ليعني الدولة ذات القبضة الرهيبة القاهرة والقادرة على تأكيد سلطتها في كل الأوقات والظروف. ويعد (هوبز) مؤسس الواقعية القانونية الحديثة، وملهم النظريات السائدة في الغرب، وتتلخص نظريته في إن "الطبيعة البشرية في أساسها نزاعه إلى الغلبة والتسلط والجشع، ولذا فانه لا معنى لوجود قوانين لا تقف وراءها لفرضها قوة غالبه قاهره لان طاعة القانون لا يمكن إن تتحقق إلا قسراً" (1). ويزيد الأمر إيضاحاً "فريدريك سكينر" (2) رائد الفكر الفلسفي التربوي في أمريكا بقوله: "إن الأقوى هو الغالب، وصاحب الحق والحرية .. ؟؟ ويؤكد أن الحرية قرين السلطة أو القوة، فإن من يملك القوة أو السلطة لابد له، وحقه ـ أيضاً ـ في مجال الممارسة الاجتماعية أن يمارس هذه السلطة، وطبيعي أن يمارسها. ومعنى هذا أن الأقوى له البقاء، وهو الأحق بالسلطة، وقوته تصنع حقه وتبرره ..
إذن لتكن شريعة الغاب هي دائماً وأبداً الحكم بعد سقوط كل المعايير الأخلاقية وغلبة اللاعقلانية، وتمجيد القوة. وهنا لابد لنا أن نتساءل، هل نجد بعد ذلك أي فارق بين فكر نيتشه، الذي كان ركيزة وتبريراً للعنصرية النازية، ونزعة التفوق العرقي وبين (سكينر) الذي يبرر هيمنة ثقافة الأقوى سلاحاً أو ظلفاً وناباً؟ (3).
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص61
(2) بورهوس فريدريك سكينر (1904م) الأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف العديد من الكتب في علم النفس والتربية والفكر الفلسفي، ويقال عنه انه أول عالم بز نجوم السينما شهرة. واقترن اسمه بمنهج تربية وتعليم الأطفال، وهو مؤلف رواية اجتماعية فلسفية حازت شهره عالمية تحمل اسم "فالدن 2"، ومن أكثر كتبه رواجاً في مجال الفكر الفلسفي كتابه "ما وراء الحرية والكرامة"، وهو كتاب شبيه بكتاب فريدريك نيتشه فيلسوف النازية (1844ـ1940م) "ما وراء الخير والشر"، حيث يتفق سكينر مع نيتشه في نقده للحرية من منطلق عدمي
(3) العقل الأمريكي يفكر ـ من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص160(3/59)
بالطبع لا، ولهذا كان (سكينر) لا يطيق الحرية، ويراها من الموروثات الثقافية البالية، والتشبت بوهم الحرية ركض بالإنسانية إلى هاوية الجحيم. كذلك كان رأى نيتشه فيلسوف النازية قبله، حين قرر أن إرادة القوة لها الأولوية الأخلاقية. وأعرب عن حبه للقسوة والحرب والكبرياء الأرستقراطي. وأكد نيتشه، مثلما أكد من بعده فلاسفة أمريكا ولسان حال رسالتها إلى العالم، أن الأخلاق في خدمة الأقلية الأرستقراطية وهي أداة لتمييز الأقلية، ولها حق الادعاء المستقل في الاستمتاع بالسعادة والرفاهية .. أما العامة فإنهم سقط متاع، عليهم أن يعانوا من أجل إنتاج إنسان عظيم (1).
وقد وصف (جوزيا سترونج) في كتابه الأكثر مبيعاً (بلدنا) في عام 1885م أن الأمريكيين باعتبارهم: "عنصر ذو طاقة ليس لها مثيل، بكل ضخامة الأعداد وعظمة الثروة ورائهاـ الممثلين ـ للحرية الأوسع، والمسيحية الأنقى، والحضارة الأعلى ـ ينمون بتميز شمائل فذة، تجذب أعرافها كل البشر، لتنشر في كل أرجاء الأرض. وهل يستطيع احد أن يشك في أن هذا العنصرـ إذا لم يضعف حيويته بالكحول والتبغ ـ فإنه مقدر له أن يتملك عدة أعراق اضعف، ويذيب آخرين، ويعيد تشكيل الباقين، حتى ـ في معنى حقيقي ومهم جداً ـ يجعل البشرية انجلوساكسونية؟ ". وفيما بعد هز (سترونج) فرضية (تيرنر) مصراً على أن قساوات الحدود كانت طريق الرب، لتدريب العرق على قيادة العالم، وبعد إغلاق الحدود جاء الدور على (المنافسة النهائية بين الأعراق). ولم يأتِ مثل هذا الخطاب، فقط من القوميين المخادعين، مثل (روزفلت) الذي قال: "إذا لم نحتفظ بفضائل البربرية، فإن اكتساب الفضائل الحضارية سيكون قليل الجدوى"، ولكن أيضاً من المتحدثين الدينيين، الذين اقترحوا على المؤرخين مقولة أن اندفاع أمريكا وراء الإمبريالية، كان نتيجة لفكر الدارونية الاجتماعية. وآخرون فتشوا في أحداث 1889م لاسترداد تفكير "المصير المبين" مترجماً على المسرح العالمي (2).
_________
(1) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص157ـ158
(2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص 156(3/60)
الفصل الثاني
الإرهاب الأمريكي في ظل العهد الجديد
منذ البداية، كان الأمريكيون يرون أنفسهم استثناء من المسار الطبيعي للأمم، لنجاحهم في إقامة الجمهورية الأولى منذ العصور الكلاسيكية، حيث اعتبروا أنفسهم واضعي اللبنات الأولى لتاريخ إنساني جديد كلياً. وبوصفة كذلك كان لا بد من حمايته من التلوث بالتعويل على ـ أساليب شعوب التاريخ القديم أو تبنيها. وفي الوقت ذاته كان الأمريكيون مقتنعين أنهم طليعة البشرية، وما لبثوا أن أصبحوا يرون أنفسهم، حسب كلام (ملفيل)، "الشعب المختار المميزـ إسرائيل هذا الزمان". وإذا كان الأمريكيون هم الشعب المختار، فإن أمريكا هي الأرض الموعودة. وكانت عبارة (القدر المكتوب)، هي عنوان العقيدة القائلة بوجوب قيام الأمريكيين بإيجاد دولة ممتدة من البحر إلى البحر. ومع حلول سنة 1885م أصبح ذلك واقعاً. كان بالطبع واقعاً تحقق على حساب المكسيك، التي خسرت نصف أراضيها في حرب أشعلتها أمريكا، وعلى حساب الهنود الحمر من السكان الأصليين الذين تمت إبادتهم إبادة شبه كاملة. غير أن ذلك الواقع مر دون إثارة اهتمام ذي شأن في ذلك الوقت، مغلفاً بالخطاب الذي أطلق عليه الرئيس (اندرو جاكسون) اسم (توسيع مساحة الحرية) (1).
فقد ضمنت الولايات المتحدة بواسطة الإبادة الخالصة للهنود الحمر، وبالاستعباد الاجتماعي والسياسي للسود، دائرة أولى تمكنها من الانطلاق نحو غزو أوسع، حيث كانت أهم تواريخ التوسع في هذه الدائرة، تعاظم "الأمة حين ابتيعت لويزيانا من نابليون، عام 1808م". وفي العام 1823م حدد الرئيس (مونرو) المبدأ الذي يحمل اسمه، مبدأ الحياد ذو الطابع الدفاعي الموجه ضد أي تدخل أجنبي في شؤون القارة الأميركية، واستعملت هذه العقيدة لاحقاً لتعميم التوسع الإقليمي، وأن للولايات المتحدة وحدها حق حراسة الأمريكيين، والتي كانت تعني بكلمات واضحة
_________
(1) لدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص44(3/61)
"خضوع أميركا اللاتينية لمصالح الولايات المتحدة ثم لقراراتها" (1). فالمبدأ الأساسي لهذه السياسة التي تبيد الهنود، وتستعبد السود، وتطرد الدول الأوروبية، حدده الرئيس (مونرو) في رسالة إلى الكونجرس جاء فيها: "فللأوروبيين القارة القديمة وللأمريكيين القارة الجديدة". وهذا يوضح أن فكرة الأرض الموعودة ليست سوى ارض محتله بالقوة، من قبل شعب مسكون بحقيقة مفادها أنه يجسد أمراً إلهياً قاده إلى الاستيطان، وإبادة الشعب الأمريكي الأصلي، واستعباد الشعب الأسود، ثم دفعه لبدء السيطرة والهيمنة على العالم (2).
وهكذا وخلال العهد الجديد لأمريكا، الذي بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، أي بعد الانتهاء من فرض السيطرة على أرض الميعاد كما أسلفنا، "وجد الأمريكيون أنفسهم أمام سؤال مهم كما يقول (والتر مكدوجال) وهو كيفية التصرف خارج حدودنا .. هل يتطلب منا تراثنا المبارك كأرض للحرية أن نشن حملة صليبيه في الخارج من اجل الآخرين وفقا لما يطلبه عهدنا الجديد للسياسة الخارجية؟ أم أن الخضوع لإغراء أن نفرض إرادتنا في الخارج ينتهك مبادئ العهد القديم، التي جعلت من أمريكا أمة عظيمة؟ باختصار، هل بإمكان الولايات المتحدة أن تكون دولة صليبية وتظل ارض الميعاد؟ " (3).
ويبدو أن إجابة الأمريكيين على ذلك كانت، لخيار شن حمله صليبية في الخارج، من اجل السيطرة على ثروات ومقدرات الشعوب الأخرى، وفرض نمط التفكير الأمريكي عليها. ففي 10 مايو 1867م، تحركت عاطفة وزير خارجية الولايات المتحدة (وليام سيوارد) ليكتب قصيدة شعرية، تنبأ فيها بمستقل آمته، قائلاً: "امتنا ذات المصالح المتحدة المباركة، غير راضية الآن عن السكون، سوف تحكم الباقين، وإمبراطوريتنا في الخارج لن تعرف حدوداً، وإنما هي مثل البحر سوف تتدفق في
_________
(1) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل ـ الجزيرة نت.
(3) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776م ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص24(3/62)
دوائر لا نهائية" (1). والقصيدة لم تكن تبالغ في عرض آمال سيوارد في التوسع اللامحدود للنفوذ الأمريكي، بل إنها كانت تعبر عما كان يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية والتي حكمتها أربعة تقاليد كما يقول (مكدوجال) وهي:
- الامبريالية التقدمية، بمعنى أن الأمريكيين مختارون لتحضير البشرية ونقل التقدم إلى الشعوب الأخرى.
- مبدأ ويلسون أو الليبرالية العالمية، وهو التقليد الذي اتبعه الرئيس (ودرو ويلسون) من اجل أن يكون العالم أكثر سلماً وديمقراطية بعد الحرب الأولى، وتمثل في النقاط الأربع عشرة الشهيرة لويلسون.
- الاحتواء، وهو التقليد الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية لمواجهة التهديد الشيوعي دون قيام حرب عالميه.
- تحسين العالم، أي التعبير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في رسالة أمريكا لجعل العالم أحسن، وقد تجسد في مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، ثم التدخل الأمريكي في فيتنام الذي كان مثالاً لمحاولة أمريكا وإخفاقها في أن تكون لها رسالة عالميه، وان تكون شرطي العالم (2).
وبالرغم من الصياغة الجميلة لبعض هذه التقاليد كما عبر عنها مكدوجال، إلا أننا يجب لن ننخدع بكلامه حول الرسالة العالمية للشعب الأمريكي لتحضير العالم، ونشر الحرية والديمقراطية والتقدم وغيرها من المصطلحات البراقة، التي تمكنت أمريكا من خلالها ممارسة إرهابها المنظم على العالم، حيث تقول الحقائق المتوفرة عن تاريخ (الإرهاب الأمريكي) تجاه العالم، انه بزغ مع بدايات القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ العام 1833م، حيث كانت ملامحه الأساسية هي التحايل بإبعاد القارة الأمريكية عن أسبانيا والبرتغال لفرض سيطرة الولايات المتحدة وتغلغلها الاقتصادي والسياسي على القارة، وكذلك إقصاء إنجلترا وفرنسا لاستغلال البترول بدلاً منهما (3)،
_________
(1) من الثروة إلى القوة - الجذور الفريدة لدور أمريكا العالمي - فريد زكريا - ترجمة رضا خليفة ص 57 - مركز الاهرام للترجمة والنشر ط1 1999
(2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776م ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص8ـ9
(3) أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى ص52(3/63)
وذلك تطبيقاً لرأى بعض الساسة الأمريكيون خلال عهدهم القديم الذين كانوا يرون أنه، من الخير أن تبقى القارة في قبضة العرش الإسباني حتى تكتمل لشعبنا القوة ليأخذها منه قطعة بعد قطعه، حيث إن الإمبراطورية الاسبانية كانت غنية بكثير من الثروات وذات موانئ ممتازة، مما فتح شهية الأمريكان لشن حملة صليبية في الخارج.
فقد برزت عدة اتجاهات على الساحة الأمريكية في تلك الفترة حول ماهية السياسة الخارجية الأمريكية التي يجب أن تتبعها أمريكا تجاه العالم الخارجي، حيث رأى البعض انه آن أوان خروج أمريكا من إطارها القاري المعزولة فيه كعزلة الناسك والوصول إلى القواعد البحرية البعيدة والاستيلاء على المستعمرات، مبارية في ذلك الدول العظمى الأخرى. وقد عزز هذه الرؤية أنصار مذهب داروين، الذين يرون أن التقدم لا يتم إلا بالكفاح في سبيل الوجود، وبقاء الأصلح، فانتقال المزايا التي تمكن الإنسان من النصر تنحدر إلى أخلاقه. فعلى الولايات المتحدة أن تنغمر في الصراع العالمي، فلشعبها من المزايا ما يضمن له النصر والبقاء ... وهذا هو التقدم بعينه. وهناك الاتجاه الرسمي الذي كان يدعى أن التفوق مقصور على الشعب النورديكى، ولاسيما الألمان والانجلوسكسون منه. فلقد كان هؤلاء اقدر الناس على الحكم، فدعهم إذن يأتون بأفضل أنواعه إلى أكثر الأصقاع العالمية المتأخرة في هذا المضمار.
وهناك اتجاه آخر أكد على أهمية القوة البحرية في جعل الأمة عظيمة قوية. ولم يكن يقصد بذلك الأسطول والسفن التجارية فحسب، ولكنه كان يدخل فيها المستعمرات والقواعد البحرية في الأقسام النائية من العالم. وقد تبلورت كل هذه الآراء السابقة عند اندلاع الحرب ضد اسبانيا، حيث اعتبرها البعض، إنها الفرصة الذهبية للانغماس في الصراع العالمي للحصول على السطوة ثم نشر الحكم الأمريكي المبارك في المستعمرات التي أساءت اسبانيا حكمها لمدة طويلة. بالإضافة إلى الحصول على مستعمرة غنية في الفلبين وقواعد بحرية أخرى في جزائر الكريبيان والأطلسي من اسبانيا. وشاع بين الناس استعمال مصطلح قديم انحدر من الحرب المكسيكية (المصير المحتوم) ويراد به التوسع في الجهتين المذكورتين (1).
_________
(1) حضارة العالم الجديد - ارل شينك ميرزـ ترجمة فؤاد جميل ص298ـ299(3/64)
ففي الخمسينات من القرن التاسع عشر، في أعقاب الحرب المكسيكية، تعلق قادة أمريكا في حماس شديد بفضائل التوسع وضرورته، وأعلن الرئيس (فرانكلين بيرس) في خطاب بدء ولايته عام 1853م إن إدارته، لن تتحكم فيها أية هواجس شريرة رعديدة تحول دون التوسع. وأعلن جيمس بوكانان، الذي خلفه، إن التوسع هو سياسة المستقبل لبلادنا (1). ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر حيث كان الخطاب الرسالي التبشيري لا يزال قوياً ومسلحاً بحجة حماية القارة الأميركية ومساعدتها على إنهاء الاستعمار الأوروبي، خاضت أميركا حوالي 14 حرباً باسم الدور الرسالي والأخلاقي، لعبت دوراً رئيسياً في انحسار الدور الأوروبي في تسيير شؤون العالم واستبداله بدور أميركي صاعد (2).
وهكذا بدأت أمريكا بالتخلى عن سياسة العزله، وبدأت التدخل في شؤون القارة والعالم، وبدأ غزو الولايات المتحدة لأميركا اللاتينية في منتصف القرن الثامن عشر، ضمن مشروع تحرير أميركا اللاتينية، وهو المشروع الذي لقي تجاوباً من بعض دول أميركا اللاتينية نفسها، وهو من أفدح أخطاء تلك الدول كما يقول (سالينغر)، لأنه أعطى الأميركيين الفرصة للتدخل في شؤونهم. بدءاً من احتلال هاواي وضمها للولايات المتحدة، ومروراً بكوبا والهيمنة على بورتوريكو وهندوراس وغواتيمالا، ثم الأنموذج الأنصع للإمبريالية الأميركية في بنما (3).
ففي عام1833م قامت القوات الأمريكية بغزو نيكاراجوا، وفي عام 1835م دخلت هذه القوات إلى بيرو، وفي عام 1846م احتلت القوات الأمريكية أرضاً طالبت بها المكسيك ـ وهي ما تعرف الآن بولاية تكساس ـ وبهذا أثيرت الحرب المكسيكية، وفي أعقاب انتصار سنة 1848م ضمت الولايات المتحدة تلك الأرض بالإضافة إلى كاليفورنيا ونيومكسيكو. وفي سنة 1854م دمر المارينز الأمريكي ميناء جراى تاون في نيكارجوا انتقاماً من أبعاد الوزير الأمريكي الذي كان في زيارة لتلك البلاد، وبعد ذلك بعام غزت القوات الأمريكية اورغواى، ثم قامت بغزو قناة بنما، وفي عام
_________
(1) من الثروة إلى القوة - الجذور الفريدة لدور أمريكا العالمي - فريد زكريا - ترجمة رضا خليفة ص 70
(2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص77
(3) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل(3/65)
1857م تدخلت القوات الأمريكية في نيكاراجوا لإفشال محاولات (وليم روكز) وهو مغامر من تنيسي، حاول تولي السلطة في نيكاراجوا. ثم قامت القوات الأمريكية بغزو كولومبيا عام 1873م بعدة انزالات عسكريه تتابعت في الأعوام 1885م و 1893م و 1899م. وفي عام 1888م تدخلت القوات الأمريكية في هايتي، وفي عام 1891م في تشيلي وفي عام 1894م تدخلت القوات الأمريكية مرة أخرى في نيكاراجوا (1).
وهكذا فإنه في حين أن أمريكا ارض الميعاد تمسكت بان محاولة تغيير العالم كانت غبية (وغير أخلاقية)، فإن أمريكا الدولة الصليبية تمسكت بأن الأحجام عن محاولة تغيير العالم كان غير أخلاقي وغبيا" (2). ولهذا ازدادت حدة التدخلات الأمريكية في شؤون القارة الأمريكية، وانطلق الإرهاب الأمريكي تجاه العالم الخارجي انطلاقاً سريعاً، وكان استخدام القوة العسكرية استخداماً عدوانياً ولا يزال هو الوسيلة الرئيسية التي تعتمدها الولايات المتحدة في توسعها الاستعماري، أو ما سمته زيادة مساحة الحرية، حيث كانت هذه المساحة موشكة على تحقيق قفزة ملموسة مع حلول نهاية القرن التاسع عشر. ومع تحقيق قدرها المكتوب تحولت روح أمريكا التوسعية نحو الشواطئ الأجنبية، حيث لم تكن الولايات المتحدة في حقيقة الأمر، غريبة في الخارج، إذ كانت قد خاضت حروباً فيما وراء البحار في أكثر من مئة مناسبة (3).
واعتباراً من 1898م شنت الولايات المتحدة حرباً استعمارية لإعادة تقسيم العالم (4) وبدأ منذ ذلك الحين النوع الأول من الأخلاق في إفساح الطريق للنوع الثاني، فعندئذ قدس أنبياء الدولة الصليبية عهداً جديداً للسياسة الخارجية، وقام الامبرياليون التقدميون بدور يوحنا المعمدان الذي بشر بالمسيح ومملكة الرب، ولعب
_________
(1) قرآن وسيف (من الأفغان .. إلى بن لادن) (من ملفات الإسلام السياسي) - رفعت سيد أحمد ـ ص184 - مكتبة مدبولي.
(2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ـ ص288
(3) لدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص45
(4) أعمدة الاستعمار الأمريكي / مصرع الديمقراطية في العالم الجديد - فيكتور بيرلو و البرت ا. كان - تعريب منير البعلبكى ص14 - الطبعة رقم: 1، الناشر: دار العلم للملايين.(3/66)
ويلسون دور المخلص، الذي صلب في التو، كما كتب مهندسو الاحتواء وتحسين العالم، الرسائل المقدسة التي علمت الأمريكيين كيف يعيشون إيمانهم الجديد. واعتقدوا كذلك إن سياستهم كانت استجابات أخلاقية وبرجماتية للعالم الذي خبروه في زمنهم (1).
(ويليام ماكنلى) أول رئيس امبريالي
في عام 1896م نجح (وليام ماكنلي 1896ـ 1901م) المنتمي للحزب الجمهوري، في أن يصبح الرئيس الخامس والعشرين للولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيطر الجمهوريون على الكونجرس بأغلبية 197 مقعداً مقابل 151 للديمقراطيين، مما أعطى الرئيس حرية واسعة نحو اتخاذ القرارات. وماكنلي هو المؤسس الحقيقي للإمبراطورية (الإمبريالية) الأمريكية، ففي عهده احتلت الولايات المتحدة الأمريكية أول مستعمرات لها خارج حدودها، وذلك تأثراً بالدعوة التي أطلقها المؤرخ (فريدريك تيرنر) في معرض شيكاغو 1893م حيث قال: "سيكون القرن القادم هو أول قرن تشهده أمريكا بلا حدود للفتوحات الأمريكية"، كما أرسى العميد بحري (ألفريد ثايرماهان) مذهب التوسعية الأمريكية في 20 كتاباً وعدة مقالات، حفلت باقتباسات توراتية طويلة، وأكد فيها أنه لا توجد أمة عظيمة دون مياه (تحميها كحاجز طبيعي)، وأسطول تجاري متفوق، ومستعمرات فيما وراء البحار. ولهذا فقد جاءت سياسة ماكنلي تطبيقاً أميناً لهذه النصائح والوصايا الإمبريالية، وخاض حروباً في كوبا، الفلبين، والصين، حروباً احتاجت إلى نفقات مولها من الجمارك والضرائب التي تميز عهده بفرض الكثير منها (2).
أمريكا ترمي إسبانيا في البحر
لنخرج بتصور واضح عما فعله (وليام ماكنلي) علينا أن نعود إلى خريطة العالم عام 1898م، وسنرى بريطانيا العظمى (المحكومة بروتستانتياً) تسيطر على العالم
_________
(1) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ـ ص 289
(2) إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص120(3/67)
القديم فيما قنعت فرنسا بالنصيب الأقل من الكعكة، وهناك: إيطاليا والبرتغال وهولندا المشاركة من بعيد، أما ألمانيا فكانت تلعب دور: القوة الاقتصادية والعسكرية الآخذة في الصعود. أما في العالم الجديد (الأمريكتين) فكانت الولايات المتحدة الأمريكية (المحكومة بروتستانتياً .. كذلك) هي الدولة الأكثر قوة، مع مناوشة ـ لا منافسة ـ من جانب (إسبانيا)، القوة الاستعمارية الكاثوليكية العجوز، التى سبق لبريطنيا ان دمرت اسطولها (الارمادا) كخطوه مهمه لافساح المجال اما التوسع الانجلوسكسوني الاستعماري في العالم، حيث يمكن القول ان التنافس البحري بين الاسبان والانجليز، كان تناقساً كاثوليكياً بروتستانتياً، وكان انتصار انجلترا وتدميرها للاسطول الاسباني البحري ارمادا عام 1855، تعبيراً عن ذلك. اذ كان الامر بالنسبة للانجليز حملة صليبية بروتستانتية. ... وحتى قبل تدمير اسطول الارمادا الاسباني بعقد، فإن السير (همفوت جلبرت)، كان قد اقترح على الملكة البروتستانتية اليزابت الأولى، ان على الانجليز البروتستنانت، استغلال كل فرصة تجعل من اعدائهم الاسبان الكاثوليك فقراء وضعفاء، ومن انفسهم اغنياء واقوياء، في اشارة إلى استعمار أمريكا (1).
فقد كان الأسبان مازالوا يحتفظون بمستعمراتهم في أمريكا الوسطى والجنوبية، وفي الفلبين، وكان الأمريكيون (الولايات المتحدة) لم ينسوا ثأرهم مع إسبانيا التي طاردت البروتستانت واليهود، منذ أربعة قرون تقريباً، والتي رأوا أن وقت الثأر منها قد حان، هكذا .. وبدعم يهودي سياسي ومالي قوي .. تعمد الرئيس الأمريكي أن يتحرش بإسبانيا ويجرها إلى حرب قضت على قوتها وأخرجتها من معادلة (العالم الجديد) .. حتى اليوم، حرب نجحت فيها الولايات المتحدة الأمريكية في أن ترمي إسبانيا في البحر (2).
وفي 1895م، دعمت أمريكا الثوار الكوبيين الذين قادوا تمرداً دامياً ضد إسبانيا، ومارست ضغوطاً سياسية واسعة لإجبار إسبانيا على التخلي عن كوبا. وإذ بدا واضحاً أن هذا التخلي لن يتم دون حرب، أعلن الرئيس الأمريكي حالة الحرب متذرعاً
_________
(1) المسيح اليهودي - رضا هلال - مكتبة الشروق الدولية- ص171
(2) رؤساء أمريكا .. قادة صهاينة في البيت الأبيض - محمد القدوسي ـ دراسة منشوره على الانترنت(3/68)
بالمساندة الإنسانية و"المسؤولية التي وضعها الرب على عاتق أمريكا"، وهو ما علق عليه (دي لومي) السفير الإسباني لدى أمريكا في رسالة قال فيها: "إن ماكنلي "ضعيف ومزايد لاستقطاب الإعجاب الجماهيري"، وقد وقعت الرسالة في يد (راندولف هيرست) محرر وناشر مجلة شعب نيويورك، فنشرها في مجلته مما أغضب القراء. وبعدها بأسبوع واحد، وفي 15 من فبراير (شباط) 1898م نجح الأسبان في تفجير السفينة الأمريكية (مين) التي كانت تقف في ميناء هافانا ـ العاصمة الكوبية حالياً ـ وقتلوا 266 من طاقمها، فطلب ماكنلى تفويضاً لاستخدام القوة لحماية مصالح أمريكا ضد اسبانيا، فوافق الكونغرس على إعلان الحرب بأغلبية ساحقة في 11 من ابريل نيسان، بشرط أن تكون الحرب من اجل الإنسانية، وتبرأ من أية نية لضم الجزيرة: "نحن نتدخل ليس من اجل الغزو". وقال السناتور (شلبي كولوم): "انه سيساند الحرب فقط إذا كانت تخاض باسم الحرية، التي ـ في هذه الحالة ـ سوف تكسب الولايات المتحدة ثناء كل محب للحرية والإنسانية عبر العالم" (1).
وفي كتابه (إمبراطورية الحرية) يعلق انطونيو (بلتران هرنانديز)، على هذه الحرب تحت عنوان الحملة الصليبية الجديدة الأولى باناما (1989م) بقوله: "قبل ست ساعات من تلقى الأمر بمهاجمة مدينة باناما، مساء الاثنين من 16 ديسمبر عام 1989، كان الملازم أول (دوغ روبن) يصلى مع رجاله: كانت هذه الحرب في نظره، الصراع التقليدي بين الخير والشر، في الطريق القويم، مما كان قد قرأه في العهد القديم. كان يعتبر مركبته المصفحة كجزء من خزانة الأسلحة الإلهية ممتدة ضد مبعوث الشيطان الجديد. ما زال رجاله لا يعرفون النار أبداً، ويريد أن يقنعهم بأن الله معهم. إنني أجهل ماذا تفكرون بالفكرة التي بموجبها يختار الله معسكره، قال لهم، ولكن ما هو مؤكد، انه يرغب في اقتلاع الشر من على سطح الأرض" (2).
وفي أول مايو نجح العميد بحري (جورج ديوي) في تحطيم الأسطول الاسباني في المحيط الهادي بخليج مانيلا. قضى على الأسطول كاملاً دون أن يخسر واحداً من رجاله، وهكذا سقطت كوبا في يد الأمريكيين، الذين نجحوا ـ بسرعة ـ في اجتياح
_________
(1) أرض الميعاد والدولة الصليبية ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص163
(2) إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص270(3/69)
(مانيلا) واحتلال الفلبين، ـ وضم جزر هاواي. وبقيادة العقيد (تيودور روزفلت) ـ الذي سنراه فيما بعد نائباً للرئيس ثم رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية ـ ثم احتلال سانتياغو، وقام عميد الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي (وليام سايمسن) بتحطيم أسطول إسبانيا الأطلسي في المياه بين كوبا وجامايكا واحتلال بورتريكو. ولم يعد أمام إسبانيا بعد تحطم كامل قواتها وانتزاع أهم مستعمراتها إلا طلب الهدنة بعد ثلاثة أشهر دامية، وفي 12 من أغسطس تم إعلان وقف إطلاق النار بعد حرب خسرت فيها إسبانيا أسطولها الحربي كاملاً، ومئات الآلاف من رجالها، ولم يخسر الأمريكيون أكثر من 400 رجلاً مات كثير منهم بسبب الملاريا أو الغذاء المسمم، حسب المزاعم الأمريكية! (1).
وفي 10 من ديسمبر 1898م تم توقيع معاهدة باريس التي سلمت فيها إسبانيا دون قيد ولا شرط، وأكدت الولايات المتحدة وجودها بين القوى الاستعمارية حيث حصلت على بورتريكو، وكوبا (التي ظلت محمية أمريكية حتى 1934) والفلبين ـ التي تمردت في 1902م، لكن الأمريكيين قمعوا التمرد وقتلوا 200 ألف فلبيني ـ وهذا ينسف ما قاله (ماكنل) بعد ليلة صلاة: "لم يبق لنا شيء لعمله إلا أن نأخذهم جميعاً، ونعلم الفلبينيين، نرقيهم ونحولهم إلى المسيحية. وبعون الرب نفعل أفضل شيء نستطيعه لهم كرجال أصحاب لنا، فمن اجلهم أيضاً مات المسيح" (2). وبعد (تحريم) ـ أي (إبادة) بالمصطلح التوراتي ـ الوجود الاسباني في القارة الأمريكية، أصبح الطريق مفتوحاً إلى الصين، وهو الطريق الذي حرص ماكنلي على ريادته سعياً وراء فتح الطريق التجاري، وخوفاً من الحلف (الياباني الألماني) الذي كان يهدد الطموحات الأمريكية، وبحثاً عن (موطئ قدم) مع بريطانيا العظمى في جنوب شرق آسيا. وفي هذا الخصوص، فإن سياسة (الباب المفتوح) التي أوعز وليام ماكنلي إلى وزير خارجيته بإعلانها، تشكل الأساس النظري لتعامل الولايات المتحدة مع هذه
_________
(1) في إطار النظرة الدونية للآخر، فإن الأمريكان يحاولون قدر استطاعتهم التقليل من شأن أعدائهم وتحقيرهم، حيث لا يعترفون لهم بأية قدرة على إلحاق الأذى بالجيش الأمريكي، وهذا ما حدث قديماً وحديثاً، حيث لاحظنا في حرب الخليج الثالثة كيف كانت أمريكا تنسب كافة الإصابات والقتلى في صفوفها إلى أخطاء داخلية ونيران صديقة، وليس إلى الطرف الآخر.
(2) ارض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص 165(3/70)
المنطقة من العالم حتى اليوم، ولا يمكن فهم تحركات ومناورات كلينتون وجورج بوش شداً وجذباً مع الصين إلا بمراجعة سياسة الباب المفتوح" (1).
روزفلت وسياسة العصا الغليظة
"لا أعرف ما الذي يؤمن به الناس، أعرف ما يجب أن يؤمنوا به". بهذه الصرامة كان تيودور روزفلت (1901 ـ1909م) يفكر ويتحدث ويتصرف". وبهذه الصرامة دخل (روزفلت) ـ المصنف بين أقوى 6 رؤساء في تاريخ أمريكا، والملقب بالرئيس الذي لا يقهرـ البيت الأبيض- بوصفه حاكم نيويورك القوي، تسانده سمعته كقائد حربي فذ ومنتصر في الحرب ضد الأسبان. كان روزفلت أول من أطلق تعبير (النظام العالمي الجديد)، وأول من رسم صورة أمريكا باعتبارها (شرطي العالم) في نصف الكرة الغربي مطبقاً مبدأ (مونرو)، الذي أعطت به أمريكا نفسها حق التدخل في شؤون الآخرين بمنتهى الفجاجة. وفي عهده تمددت الإمبراطورية الأمريكية لتشمل كوبا وهايتي والدومينيكان وبورتريكو، وسيطرت على قناة بنما، مما جعل التجارة الأمريكية تتقدم على نحو واضح. وجاء في تفسيره للسياسة الخارجية الأمريكية قوله: "إن تاريخنا هو تاريخ التوسع .. وهذا التوسع ليس أمراً يستدعي الاعتذار عنه، ولكنه يدعو للفخار" (2).
وقد امتاز أداء روزفلت بحزم واضح، عبرت عنه كلماته التي ما فتئ يرددها مثل: "لا أحد فوق القانون ولا أحد تحته، ولا نطلب تصريحا من أحد عندما نطلب منه الطاعة". وقوله: "تكلم بهدوء وأحمل عصا غليظة .. وستنجح إلى أبعد مدى". وانطلاقاً من هذه المقولة حرص روزفلت على دعم أسطوله، وتبنى ـ في نفس الوقت ـ سياسة (التحكيم الدولي في النزاعات)، وهي نفس السياسة التي تتبعها أمريكا حتى اليوم وتكسب بها كل معاركها دون أن تطلق رصاصة واحدة، حيث تعتمد على (الرهبة) من قوتها الكبيرة في فرض رأيها. وقد حصل روزفلت على جائزة نوبل بعد مساعيه لفرض مفاوضات مباشرة بين روسيا واليابان لإنهاء الحرب بينهما. تلك
_________
(1) رؤساء أمريكا .. قادة صهاينة في البيت الأبيض - محمد القدوسى - دراسة منشوره على الانترنت
(2) من الثروة إلى القوة - الجذور الفريدة لدور أمريكا العالمي - فريد زكريا - ترجمة رضا خليفة ص 216(3/71)
الحرب التي قضت على الأسطول الروسي، ووضعت حكم القيصر على طريق النهاية، والتي كان إيقافها عند هذه النقطة مطلباً صهيونياً، درءاً لاحتمال أن تنهض روسيا القيصرية مرة أخرى أو تستعيد توازنها. ويجمع المؤرخون على أن هزيمة قيصر روسيا (الذي أذل اليهود ولم يرضخ للتهديدات الأمريكية) أمام الأسطول الياباني كانت أهم عوامل ضعف دولته، وسقوطها بعد ذلك لقمة سائغة في يد الثورة البلشفية، وهي الهزيمة التي عمد روزفلت إلى تكريسها، مستعينا بتعبيرات توراتية وهو يتحدث عن (مسؤولية الرجل الأبيض) و (دوره كمسيحي).
حرب كل عام
كما أسلفنا كانت في عام 1898م الحرب الأمريكية الأسبانية، حيث افتعلت الولايات الأمريكية حادثة كوبا، وقد حاصر على أثرها الأسطول الأمريكي الموانئ الكوبية بينما قام الجيش والمتطوعون بما فيهم رجال تيودور روزفلت بسحق القوات الأسبانية على الشواطئ، وبعد ثلاثة أعوام جعلت الولايات المتحدة من كوبا وكراً أمريكياً للقمار، كما ضمنت الحق في قاعدة بحريه في خليج (جوانتا نامو) (1)، ومازالت تحتفظ بها حتى الوقت الحاضر. وفي عام 1901م و 1902م تدخلت القوات الأمريكية في كولومبيا، وفي عام 1902م تدخلت في هندوراس، وفي عام 1906م خلال الحرب الأهلية في كوبا انتظمت القوات الأمريكية في جيش التهدئة الكوبية لاستعادة النظام وإقامة حكومة مستقلة خلال ثلاث سنوات. وفي عام 1907م تدخلت القوات الأمريكية واستولت على ست مدن في هندوراس، وفي عام 1914 م دخل الماينز الأمريكيون إلى هايتي في عملية إنزال، حيث سرقوا البنك المركزي استرداداً لبعض الديون، وبعد سنة واحده ـ أي في عام 1915م دخلت القوات الأمريكية إلى هايتي واحتلت البلاد عام 1934. وفي عام 1914م أمر الرئيس ولسون بحريته بقصف واحتلال فيركروز، وفي عام 1916م وبعد غارات مكسيكيه على الأراضي الأمريكية أرسل قوة بقيادة بيرشينغ دخلت المكسيك لمطاردة زعيم
_________
(1) جزيرة جوانتانامو هي القاعدة العسكرية التي تحتجز فيها أمريكا مئات المسلمين الذين تزعم بارتباطهم بالإرهاب، حيث مضى أكثر من ثلاثة سنوات ونصف على اعتقالهم بدون أن توجه لهم أية تهمة، وهذا هو إرهاب الدولة بعينه الذي يكشف زيف دعاوى حقوق الإنسان الأمريكية.(3/72)
الثوار بانكوفيلا، وفي عام 1916م تدفقت القوات الأمريكية إلى (الدومينكان) لتهزم الثوار وتسيطر على البلاد بحكومة عسكريه حتى عام 1924م.
ويلسون والخضوع لحقنا باستغلالهم ونهبهم
في بداية القرن الماضي، في عام 1908 م، تطرق (أناتول فرانس) في كتابة (جزيرة البطاريق) إلى هذا العالم الخالي من الروح، عالم الحسابات السياسية والأمريكية. وذلك عندما حضر البروفيسور اوبنوبيل إحدى جلسات الكونجرس الأمريكي وسجل ما حدث.
"لقد انتهت الحرب لفتح أسواق (زيلندة الثالثة) بإرضاء الولايات، واقترح عليكم إرسال الحساب إلى اللجنة المالية .... لا توجد معارضة ... لقد أخذنا بالاقتراح. "أحقا ما سمعت؟ (يتساءل البروفيسور أوبنوبيل) ماذا أنتم؟ إنكم بلا شك شعب صناعي، إنكم تتورطون في كل هذه الحروب".
بلا شك، (رد المترجم): "إنها حروب صناعية. إن الشعوب غير الصناعية التي لا تملك تجارة ولا صناعة ليست مرغمة على التورط في حروب، ولكن مصير شعب يقوم على الأعمال هو الاعتماد على الغزو. إن عدد حروبنا يتزايد بالضرورة بحجم تزايد أنشطتنا الإنتاجية. وعندما تعجز صناعة عن تصريف منتجاتها لابد من حرب، لفتح آفاق جديدة لها، وهكذا كانت لنا في هذا العام حرب الفحم، وحرب القطن. لقد قتلنا في زيلنده الثالثة ثلثي السكان لنرغم الباقين على شراء الشماسي والحمالات منا! ".
في هذه اللحظة صعد رجل ضخم كان جالساً في وسط المجلس إلى المنصة، وقال: "أنا أطالب بحرب ضد جمهورية (الزمرد) التي تنافس ـ بوقاحةـ هيمنة لحم خنازيرنا ومنتجاتنا من السجق في كل أسواق العالم".
من هذا النائب (تساءل البروفسور أوبنوبيل) ... إنه تاجر خنازير. لا توجد معارضة؟ (سأل رئيس المجلس). سأعرض الاقتراح للتصويت. لقد قبل المجلس اقتراح الحرب ضد جمهورية "الزمرد" بأغلبية ساحقة.(3/73)
كيف (سأل البروفسيور أوبنوبيل) تصوتون على حرب بهذه السرعة وبعدم اكتراث؟! ... أوه! أنها حرب بلا أهمية، لن تكلفنا سوى ثمانية ملايين دولار بالكاد. ... والرجال؟! .... إن المبلغ يشمل ـ أيضاً ـ الرجال)!! (1).
بهذه الطريقة شنت أمريكا حروبها المختلفة، لتحدد مهمتها الخاصة بأنها تلقين كل شعب مستعمر النظام وضبط النفس والتدريب على القانون والطاعة. ومعنى ذلك من الناحية الواقعية على حد تعبير (ودرو ويلسون): "الخضوع لحقنا في استغلالهم ونهبهم". ويشرح ودرو ويلسون في مذكراته السرية الدور الذي تقوم به سلطة الدولة في هذا المشروع فيقول: "بما أن التجارة لا تعرف حدوداً قوميه .. وبما أن المنتج يحتاج إلى العالم ليصبح بأجمعه سوقه التجاري، فلا بد إذن من أن يسبقه علم بلاده، حتى يوفر له فرصة اختراق كل الأبواب المغلقة، ولا بد أن يحمى رجال الدولة الامتيازات التي يحصل عليها رجال المال حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير سيادة الأمم التي تحاول التصدي. لذلك يجب إقامة المستعمرات أو ضمها حتى لا نترك أي ركن في العالم". وهذه المذكرات السرية توضح المعنى الحقيقي لمثل ويلسون العليا في الحرية والحكم الذاتي، وهي المثل العليا التي يثرثر بها كثيراً مثقفو العرب. وقد طبق ويلسون عقيدته في الحكم الذاتي عندما أصبح رئيساً، فغزا المكسيك وهايتي والدومينكان واعمل جنوده الذبح والقتل والدمار، ليضعوا البلاد في قبضة رجال الأعمال الأمريكيين (2).
الحرب العالمية الأولى والسيطرة على أوروبا
بنفس الطريقة ولنفس الأسباب حصل إعلان الرئيس (ويلسون) بدخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى في 1917م على تأييد شبه كامل من الجماعات الدينية، حتى تلك الملتزمة عادة بالسلامية. ومما سهل تقبل الأمر، وصف (ويلسون) دخول الولايات المتحدة النزاع بأنه لم يكن إلا لدعم حقوق الإنسان. وحتى من أيد ألمانيا مسبقاً في النزاع الأوروبي تحول عن ذلك. ونظر للحرب على أنها شر لا
_________
(1) أمريكيا طليعة الانحطاط - روجيه جارودى - ص229
(2) أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى ص53ـ54(3/74)
بد منه وأنها الطريق الوحيد للسلام. وانشغلت المنظمات الدينية وزعماؤها بتأييد محموم لجهود الحرب، مما جعلها تبدو كحملة صليبية. "فقد دعا الرب الأمة لدخول المعركة لإحراز النصر النهائي (للحضارة المسيحية) ومجد المحاربين كأبطال الحق ضد أتباع الشيطان" (1).
مره أخرى يتم تمويه الأهداف الحقيقية للحروب الأمريكية بعبارات رنانة، مع إغفال متعمد للأهداف التوسعية والرغبة في السيطرة ونهب ثروات الشعوب المغلوبة. فأمريكا عملت على الاستفادة من الحرب إلى أقصى درجة، حيث كانت الحرب العالمية الأولى من عام 1914م إلى عام 1918م والتدمير المتبادل بين الدول الأوروبية، بمثابة منجم من الذهب للولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تسرع إلى النجدة والانتصار إلا في نهاية الحرب عام 1917م. حيث خرجت الولايات المتحدة من الحرب في وضع هيمنة كليه، وضع لا مثيل له في التاريخ. فمنافسوها الصناعيين قد دمروا أو اضعفوا إلى حد كبير، بينما تضاعف إنتاج أمريكيا الصناعي أربع مرات تقريباً خلال سنين الحرب.
وإذا كان الصراع الأوروبي ـ الأوروبي كلف أوروبا خسارتها لكثير من مستعمراتها ومواقع نفوذها، فإن هذا الصراع كان سبباً في تعاظم النفوذ الأميركي وتغلغله إلى داخل القارة نفسها. ففي الحرب ما بين (1914ـ1916م) لم يتورع الأميركيون عن تزويد المتحاربين بالأغذية والأسلحة والمنتجات مقابل المال، مما زاد من حصتها التجارية في التعامل مع عدد من الدول الأوروبية، ولم تتدخل أمريكيا في الحرب إلا للمحافظة على التوازن العالمي وللدفاع عن التجارة البحرية التي هددتها الغواصات الألمانية. وقد جنت أميركا الكثير من الأرباح والفوائد من الحرب، بينما كانت مذبحة لأوروبا فدفعت الثمن من دمائها واقتصادها.
ولكن هذا الحال لم يستمر طويلاً حيث بدأت الدول الأوربية وعلى رأسها ألمانيا تنهض من كبوتها، وبدأت تشهد ازدهاراً اقتصادياً، في الوقت الذي بدأ الاقتصاد الأمريكي يعاني من وضع انهيار اقتصادي وانكماش وجمود، وصل معه عدد العاطلين عن العمل عام 1931م إلى سبعة ملايين ليرتفع عام 1932م إلى 11 مليون عاطل
_________
(1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة - ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص127(3/75)
عن العمل، عدا عن إفلاس مئات البنوك والمؤسسات والشركات (1). ونتيجة لهذا الوضع الاقتصادي الصعب كان الحل هو مزيد من التدخل والحروب. ففي عام 1932م تدخلت القوات الأمريكية في السلفادور بمساعدة السفن الكندية، وبعدها بسنوات تكررت مأساة الحرب العالمية الأولى، وتكرر المشهد الانتحاري الأوروبي مرة ثانية في الحرب العالمية الثانية (2)، التي كانت فرصة ذهبية أخرى للاقتصاد الأمريكي، الذي أنتج في الفترة ما بين عامي 1939م و 1945م: 86330 دبابة، و 296400 طائرة و 6500 سفينة بحرية (3)، هذا بالإضافة إلى تزويد المتحاربين باحتياجاتهم من الأغذية وباقي المنتجات.
زعامة العالم
من خلال متابعة إنجازات الرؤساء الأمريكيين خلال القرن التاسع عشر ثم إنهاء الاستعمار وتطويره وفي هذه النقطة برز بشكل خاص تصميم الرئيسين ويلسون وروزفلت، فالشعوب لها الحق بتقرير مصيرها فكان من الطبيعي أن تتوصل شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى اختيار مصيرها بأنفسها. ولكن يبدو واضحاً هنا خبث المقولة، إن مقولة إزالة الاستعمار بالنسبة للولايات المتحدة تعني دائماً الآخرين ولا تعنيها هي أبداً. وهكذا ومن عام 1945 حتى عام 1962 منحت فرنسا الاستقلال لكل أراضيها القديمة ما عدا جيبوتي ومن عام 1945 حتى عام 1957 كانت إنكلترا مرغمة على فعل الشيء ذاته وفي عام 1949 تحررت إندونيسيا من وصاية هولندا وتحررت المستعمرات الأفريقية من الانتداب الإسباني والبرتغالي والبلجيكي ونالت استقلالها. أليس من الصدفة إذاً أن تتحرك الولايات المتحدة في نفس الوقت ببيادقها في كل مكان من آسيا وأفريقيا وتعزز سيطرتها على أمريكا اللاتينية «دائرتها الثانية»؟!! أليس من الصدفة أيضاً أن يحل الدولار مكان الفرنك والجنيه والبيزتا في المستعمرات الأوروبية القديمة المحررة وأن تتخذ سياسات
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص78
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل.
(3) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي ـ 1/ 2/2003م(3/76)
اقتصادية وعسكرية مقتبسة عن النموذج الأمريكي وأن تحل اللغة الإنكليزية مكان اللغات الأجنبية الأخرى؟ (1)
وهكذا وفي منتصف القرن العشرين بعد انهيار ودمار أوروبا بأسرها من الأطلنطي إلى جبال الاورال في أعقاب حربين أوروبيتين (سميتا بالعالميتين لان الأوربيين استخدموا أبناء الشعوب المستعمرة في القارات الثلاث كطعام للمدافع)، انقلب محور العالم: الولايات المتحدة الأميركية ـ التي اغتنت بفضل احتضار كل الشعوب، ولم تهب لنجدة المنتصرين إلا في اللحظة الأخيرة (عام 1917م بعد معركة فردان وعام 1944م بعد معركة ستالينجراد)، وجدت نفسها على رأس نصف الثروة العالمية، هذه الثروة سمحت لها بأن تجعل من الدولار معياراً للنقد العالمي على قدم المساواة مع الذهب، كما سمحت لها بأن تدعم (بشرط خضوعها السياسي) أوروبا عبر مشروع مارشال كي تجعلها من جديد سوقا رائجة، بعد دمارها (2).
وعلي النقيض مما حصل بعد الحرب العالمية الأولي، فإن الاقتصاد الأمريكي الضخم تمكن من المضي قدماً لقيادة النظام الاقتصادي العالمي الجديد ليكون هو الرائد له، وليعكس صوره لأمريكا ليس فقط كأرض ميعاد، ولكن كدولة صليبية، رسالتها إنقاذ العالم (3)، كما جاء ذلك على لسان الرئيس الأمريكي (هارى ترومان) الذي أعلن في 1952م: "إن الولايات المتحدة استجابت لإلحاح العناية الإلهية فقبلت أن تأخذ عبء زعامة العالم على عاتقها". وهذا الإعلان الذي جاء على لسان الرئيس الذي ألقيت بأمره أول قنبلة من قنابل الدمار الشامل في التاريخ على هدف مدني، كان استمراراً لسلسة من تصريحات الساسة ورجال الدولة الأمريكيين، أفصحت عن اتجاه الولايات المتحدة الذي لا رجعة فيه صوب وضع الدولة الحاكمة لكوكب الأرض، وهذا ما أوضحه أيضاً الرئيس الأمريكي، بطل الحرب العالمية الثانية، (دوايت ايزنهاور) بقوله: "إن الشعب الأمريكي شعب يحب الله محبة عميقة، وانه لما كان الله
_________
(1) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 213 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001
(2) كيف نصنع المستقبل- روجيه جارودي ـ د. منى طلبه ـ ص59
(3) ارض الميعاد والدولة الصليبية - أمريكا في مواجهة العالم منذ 1776 - والتر أ. مكدوجان ترجمة رضا هلال ص24(3/77)
يبادله حباً بحب، فإن الله انعم على ذلك الشعب التقى بنعمة الحرية وكلفه ـ في الوقت نفسه ـ بتوصيل تلك النعمة لغيره من الشعوب، وتنفيذ مشيئته على أرضه" (1).
الحرب البارة
تركز تاريخ القرن العشرين في نظر أمريكا على ثلاث حملات صليبية (ثلاثة حروب مقدسة) خاضتها أمريكا لإنقاذ العالم من النزعة العسكرية أولاً، ومن فاشية إبادة الجنس البشري ثانياً، ومن النظام الشيوعي الشمولي أخيراً (2). فنتيجة للحرب العالمية الثانية، والدمار الذي أحدثته، شملت الفوضى كثير من الدول، مثل، اليابان والصين والاتحاد السوفيتي وأوروبا، حيث أصابها الانهيار في جميع المجالات وعانت من العجز والبطالة والتضخم، وأصبحت على حافة الإفلاس، بينما كان لها أثر معاكس في أميركا. فقد أنهت الأزمة الاقتصادية وامتصت البطالة وكشفت طاقات إنتاجية غير متوقعة، وكان لابد من الاستمرار في استغلال هذا الوضع، وتكريسه من خلال رؤية رسم أهدافها (بول نيتز)، احد الصقور في الإدارة الأمريكية، بقوله: "تمتلك الولايات المتحدة قوة عالميه ومن الضروري أن نحدد لها عدواً إجمالياً ـ وهو في ذلك الحين الاتحاد السوفيتي ـ وتجسيد أخطاره وتجسيمها بحيث يبرر ذلك كل تدخل من الولايات المتحدة أو هجوم منها كرد فعل على تهديد شامل تتعرض له كطليعة للعالم الحر". هكذا حددت أهداف الحرب الباردة بوضوح، إمبراطورية الشر هي الاتحاد السوفيتي والنزاع "بين قوى النور وقوى الظلام لا يهدد فقط جمهوريتنا، وإنما الحضارة نفسها والهجمة على مؤسسات العالم الحر شاملة، وتفرض علينا من اجل مصلحتنا الذاتية مسؤولية ممارسة الزعامة العالمية" (3).
وهكذا فقد استطاعت أميركا أن تستثمر تفوقها في الحرب وازدهارها نتيجة لها، واستفادت من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي لاقتياد الدول الأوروبية إلى
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص403
(2) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص226
(3) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص8(3/78)
توقيع معاهدات ستؤدي كما يقول (ميشال بوغنون): "تدريجيا إلى نسج شبكة عنكبوتيه سياسية اقتصادية مالية إستراتيجية ودبلوماسية، ستوقع فيها واشنطن العالم الحر الأوروبي على مراحل" (1).
فعلى الصعيد الاقتصادي كانت بنية صندوق النقد الدولي تؤسس لهيمنة أميركية لا رجوع عنها، فأميركا تمتلك فيه حق النقض وأكثرية فعلية يسمحان لها بألا يجري التصويت إلا على ما تريد تمريره. وكذلك في المصرف الدولي الذي يتلخص دوره بتأمين الانتقال من الاقتصاديات الوطنية إلى الاقتصاد المعولم، وأميركا تهيمن عليه وتملك الأغلبية فيه. وقد شن (جوزيف سيلتزر)، الحائز علي جائزة نوبل، هجوماً عنيفاً علي صندوق النقد الدولي وبرامجه التي تحمي المجتمع الرأسمالي لبارونات المال، تلك البرامج التي جلبت الخراب والدمار لتلك الدول التي كان الصندوق يفرض عليها القبول بشروط الاقتراض والتداوي بوصفاته العلاجية المميتة. حين أجبر كلينتون إندونيسيا علي القبول بالوصفة القاتلة لصندوق النقد الدولي وكأنها منزلة من عند الله؟. وهنا يجب على (سيلتزر) أن يعلم جيداً أن المأساة لا تكمن فقط في صندوق النقد الدولي، بل في النظام الذي أوجده وأخرجه للعالم، حيث تحول الحلم الأمريكي إلي كابوس أمريكي وأوهام أمريكية. وفي نظام كهذا، فإن رأس المال أو الاقتصاد يتحكم بأرواح الأفراد والجماعات ويطغي علي أية قضايا سياسية، واجتماعية وأخلاقية أكثر أهمية لهم (2).
وعلى الصعيد العسكري، فإن الحلف الأطلسي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية يقوم برقابة عسكرية على أوروبا، وكان قد بدأ في العام 1949م كأي حلف كلاسيكي يتساوى فيه الأعضاء، غير أن الولايات المتحدة فرضت نفسها كقائد وحيد للحلف بما كانت تقدمه من مساعدات ولاحتكارها السلاح النووي، حيث اتخذت أمريكا العديد من الإجراءات والوسائل للهيمنة المطلقة على الحلف، رغم الممانعة الفرنسية ولا سيما الديغولية لهذه السياسة، حيث إن أميركا كانت تتبع سياسة (فرق تسد) بين الدول الأوروبية لتنال بغيتها، وقد استعملت هذه السياسة في مواضع عدة.
_________
(1) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل
(2) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي ـ 1/ 2/2003م(3/79)
أما الشق الدبلوماسي من الشبكة الأميركية فتجسده منظمة الأمم المتحدة، التي وصفها السيناتور جوزيف بال في مؤتمر بكاتدرائية سان جون، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بقوله: "إن التوجه الراهن لقيام منظمة عالمية يمثل أضخم حملة صليبية منذ أن بعث السيد المسيح بحوارييه الإثنى عشر لتعليم الأخوة الإنسانية" (1). فميثاقها المعمول به الآن، هو ثمرة إستراتيجية أنجلوسكسونية، حيث أن جميع مهمات الأمم المتحدة ذات الصلة بالأمن الجماعي قد فشلت، لأنه لا يتم التوصل إلى قرار سياسي حقيقي بين الأعضاء الخمسة الدائمين، "بل يسود إجماع رخو قلما تترتب عليه نتائج. لكن، عندما تمس مصالح الولايات المتحدة كما هو الحال في حرب الخليج، لا يواجه الأميركيون أي صعوبة لإقناع شركائهم حتى يعرجوا أمامهم" (2).
ونتيجة لهذه القوه الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي حصلت عليها أمريكا بعد الحرب العالمية الثالثة، فقد استمرت أمريكيا في إرهابها العالمي. وقياماً بمهمة فرض الحرية على شعوب العالم، أطاحت الولايات المتحدة بحكومة (غواتيمالا) في عام 1954م، وفي عام 1961م غزت أمريكا خليج الخنازير في كوبا بواسطة جيش من المبعدين الذين تبنتهم وانتهى هذا الغزو إلى الفشل، وفي عام 1962م فرض الرئيس كنيدي حصاراً جوياً وبحرياً على كوبا لإجبار السوفيت على إبعاد صواريخهم الذرية من الجزيرة، وفي عام 1967م ساعدت المخابرات المركزية الأمريكية (سي اى ايه) في قتل (جيفار) في بوليفيا، وفي هذه الأثناء اشتدت التدخلات الأمريكية في فيتنام وكوريا، والتي كانت نتائجها مرعبه، حيث تكلفت حرب فيتنام لوحدها220 مليار دولار، وفقدت 5 آلاف طائرة هليكوبتر، وتم قصف فيتنام ب 6.5 مليون طن من القنابل، وأدت لمقتل 58 ألف جندي أمريكي، وما يزيد علي 2 مليون فيتنامي وآسيوي!!!
_________
(1) ارض الميعاد والدولة الصليبية - أمريكا في مواجهة العالم منذ 1776م - والتر أ. مكدوجان ترجمة رضا هلال ص218
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل(3/80)
الصراع العربي الإسرائيلي
في عام 1967م أمدت الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل بالمال والعتاد والأسلحة، ونتج عن ذلك هزيمتها للعرب في نكسة 1967م، واستيلائها على مساحات واسعة من الأراضي العربية. وعندما حاولت الدول العربية استعادة حقوقها وقفت لها أمريكا بالمرصاد من خلال دعمها اللامحدود لإسرائيل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. وفي عام 1973م تدخلت الولايات المتحدة عن طريق وزير خارجيتها (هنري كيسنجر) وأوقفت مد النصر العربي على إسرائيل في حرب 10 رمضان المجيدة، حيث كان هذا التدخل بداية دخول مصر تحت المظلة الأمريكية وتوقيع أول معاهدة سلام مع إسرائيل.
وبالرغم من أن انتصار أكتوبر وما تبعه من حظر تصدير النفط للدول الغربية حقق للعرب فائض مالي كبير، إلا أن هذا الأمر كانت له نتائج خطيرة على المستويين العربي والدولي. فعلى المستوى العربي احدث النفط فساداً في الواقع العربي وفي المجتمع العربي، وتحولت هذه النعمة التي أنعم الله بها على العرب إلى نقمة عليهم بسبب أنانية بعض الدول النفطية وضعفها وخضوعها لمصالح الغرب، بدلاً من استخدام هذه النعمة كوسيلة ضغط للحصول على حقوق الأمة أو لتنمية اقتصاديات إخوانهم العرب على الأقل.
أما على المستوى الدولي فقد استغلت أمريكا هذا الأمر لإيقاع دول العالم الثالث في شرك الدين، حيث تمخضت الزيادة المفاجئة في أسعار النفط أوائل السبعينيات عن زيادة هائلة في الفائض من العملات الأجنبية المتحصلة للدول المصدرة للنفط من خلال مبيعاتها في الخارج والتي أودعت في البنوك الغربية الكبرى الرئيسية، التي توظف تلك الأموال من خلال منح القروض للدول النامية بأسعار فائدة مرتفعة. وعادة ما تكون معدلات النمو في الدول المدينة أدني من معدلات الفائدة التي يتعين علي هذه الدولة دفعها، فتبدأ العناصر الإنتاجية ومقومات الاقتصاد في ذلك البلد بالعمل فقط لتوفير خدمات الديون والقروض. ولما(3/81)
كان متعذراً في هذه الحالة تسديد الدين الأساسي فإن الدولة ستستمر في دفع فوائد الديون إلي الأبد (1).
ريجان والأمة المباركة
تبين دراسة لحالات التدخل الأمريكية الكثيرة التي عرضنا لكثير منها، بوضوح أن الإخلاص لأي نوع من الأخلاق ليس هو وقود محرك للسياسة الخارجية الأمريكية، وإنما الوقود هو ضرورة خدمة سادة آخرين (2). فبالرغم مما أحدثته الحروب وعمليات النهب من إفقار للدول النامية، واغتناء لبارونات أمريكا، إلا أن الرئيس المؤمن (رونالد ريجان) أعلن أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها (أمة مباركة من الله). ففي عهد (ريجان) وصلت نقطة الامتزاج الروحي بين إيديولوجيا اليمين المتطرف الذي يمثل مصالح كبريات شركات السلاح والنفط في أمريكا وبين المرجعيات الدينية المسيحية البروتستانية المتهودة، إلى ذروتها، حيث أفسح هذا الحلف المقدس المجال إلى تنامي الشعور بالفوقية، وتبلور فكرة ونزعة السيطرة على العالم، باعتبار أن الأمة الأمريكية هي الأمة الأنقى والأميز والأرقى قيماً وحضارة، والأجدر بقيادة العالم على الطريقة الأمريكية الرائدة في إشاعة الخير ومحاربة الشر.
وحيث أن الرئيس الأسبق ريجان وضع معركة (تل مجدو) نصب عينيه فقد وجد من واجبه الديني العمل على زيادة الجبروت العسكري الأمريكي استعدادا للمعركة الرهيبة، وليس من شك في أن عقيدة ريجان بقرب انتهاء التاريخ في تل مجدو كان لها الأثر الأكبر في توجيه سياسته الاقتصادية، وسياسة التسلح العسكري الأمريكي، وقد انبثقت سياسة (ريجان) الاقتصادية المبنية على الإنفاق التضخمي من اعتقاده بعدم وجود مبرر للقلق من تفاقم الدين العام ما دامت (الخطة الإلهية) اقتضت نهاية التاريخ العاجل، ثم أن الإنفاق تركز على التسلح باعتباره الوسيلة المثلى لضمان المستقبل. ولهذا فإن أمريكا ومنذ تولي الرئيس ريجان للسلطة عام 1980م وهي ترسل المساعدات والمستشارين عملاء (السي اى ايه) إلى مختلف بلاد العالم. وفي
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي ـ 29/ 2/2003م
(2) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 43.(3/82)
عام 1981م و1982م بدأت أمريكا بتعزيز أساطيلها العسكرية في الخليج العربي ونشر الصواريخ في أوروبا، وفي عام 1983م دخلت القوات الأمريكية في لبنان بدعوى حفظ السلام، وغزت جرينادا، وهي احدى دول أمريكا اللاتينية. وفي عام 1986م شنت القوات الأمريكية غارة على ليبيا لقتل الرئيس (معمر القذافي)، وضربت الأسطول الليبي في خليج سرت. وفي عام 1986م قامت باختطاف الطائرة المصرية، وفي عام 1988م ضربت القوات الأمريكية في الخليج طائرة الركاب الإيرانية، وفي عام 1990م كانت جريمة أمريكا في الخليج وتدمير العراق والكويت معاً (1).
جذور الحرب
من سوء الحظ أن الرأسمالية الانكلوسكسونية لا تزدهر إلاّ في ظل الحروب، التي تمثل بدورها فرصاً سانحةً للبارونات اللصوص الأثرياء، بينما تمثل بالنسبة لبقية شعوب العالم الموت والدمار. فقد أفرزت الحضارة الغربية وقيمها أكثر الحروب ضراوة في التاريخ، حيث أودت الحرب العالمية الثانية لوحدها بحياة 50 مليون شخص، وسمحت أخلاقيات هذه الحضارة الغربية العنصرية بإلقاء قنبلتين نوويتين علي المواطنين في مدينتين يابانيتين في وقت كان واضحاً فيه أن الاستسلام الياباني وشيك (2). وهنا يتساءل (جورج. ف. كنان) في (كتابه الدبلوماسية الأمريكية) عن جدوى هذه الحروب فيقول: "لئن أجريتم الحساب في ما أدت إليه الحربان (الأولى والثانية) قياساً على الهدف المقصود منهما لرأيتم الكسب منهما أن وجد، أضأل من أن تبينه عين العقل" (3). ولكن ربما يكون هذا الكلام صحيحاً من وجهة نظر الكثيرين حول العالم، ولكن ذلك ليس صحيحاً من وجهة النظر الأمريكية، التي طبعت على الحرب والتدمير والإبادة، التي تعلمتها من يهوه (رب الجنود).
يقول (كلايد برستوفنر) في كتابه (الدولة المارقة): "إن الشعب الأمريكي، لم يكن مؤسساً على قاعدة الحرب فقط، بل ظل على نحو شبه متواصل منخرطاً في
_________
(1) قرآن وسيف -د. رفعت سيد أحمد ـ ص185
(2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م
(3) الدبلوماسية الأمريكية - تأليف: جورج. ف. كنان - ترجمة عبد اللاله الملاح ص 80 - دار دمشق- ط2 1989(3/83)
الحرب أو الإعداد لها منذ ولادته. وحسب ما أعلم لم تكد سنه تمر، منذ توقيع الدستور في 1789م وحتى اليوم، لم تكن الولايات المتحدة فيها متورطة في عملية عسكرية ما فيما وراء البحار ... حتى قبل حرب الاستقلال كان الأمريكيون منخرطين في قتال السكان الأصليين. فمنذ تأسيس البلد وحتى إغلاق الحدود بعد مائة سنه، لم تكد سنه واحدة تمر دون نشوب صراع بين الولايات المتحدة والقبائل المختلفة. ومهما يكن الأمر فقد كان الهنود الحمر قد باتوا جميعاً، لدى حلول سنة 1890م في القبور أو في معسكرات الاحتجاز" (1).
وبعد تطهير أرض الميعاد من الهنود، توجهت آلة الحرب الأمريكية إلى الخارج فكانت حروبها الصليبية في أمريكا اللاتينية والمكسيك والفلبين وأوروبا والعالم الثالث. وهنا يلاحظ (ريتشارد بارنت) في كتابه (جذور الحرب)، أن تدخلاً عسكرياً أمريكياً في العالم الثالث كان قد حدث كل سنه بين 1945م و1967م. ومنذ ذلك الوقت، ما تزال الولايات المتحدة ناشطة نشاطاً مؤثراً بلغ أوجه أثناء حرب الخليج عام 1991م ... كما يلاحظ (بارنت) أن مثل هذه التدخلات تملك جميع مقومات مذهب امبريالى قوى يقوم على: "إحساس بالرسالة، والضرورة التاريخية، والحميا التبشيرية"، التي حذر رجال الكنيسة من التخلي عنها: "ويل لأي أمة تدعو لهداية شعب ضعيف لمستقبله، وتتردد خوفاً على مصالحها ومستقبلها من ذلك الواجب الإنساني الذي لا يخطئه العقل" (2). فالولايات المتحدة وقد حبتها الطبيعة بما لم تحب به غيرها من ثروات تفوق الوصف، ومن تاريخ استثنائي، لتقف فوق النظام العالمي، لا ضمنه. وإذ تشمخ سيدة فائقة بين الأمم، فإنها تقف مستعدة أيضاً لتكون رافعة لواء حكم القانون (3).
وفي كتابه (الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية) يوضح (د. مايكل كوربت) الموقف الأمريكي الديني من الحروب، فيشير إلي الحرب الصليبية، وهي الحرب التي تستحضر الحروب الصليبية في العصور الوسطي، وتستند إلي نصوص
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص224 - شركة الحوار الثقافي- ط1 2003
(2) أرض الميعاد والدولة الصليبية ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص 165
(3) الثقافة والإمبريالية - ادوارد سعيد - تعريب كمال أبو ديب ص 342 - دار الآداب/ بيروت - ط1 1997(3/84)
دينية من التوراة أو الإنجيل. ومن ثم وصف الرئيس الأمريكي للحرب علي أفغانستان بأنها حرب صليبية لم تكن زلة لسان، وإنما هي تعبير عن الثقافة الأمريكية في الموقف من الحرب، كما أن ما يسمى بالحرب العادلة، هي أيضاً تستند إلي مبررات أخلاقية ذات جذور دينية. ولذا فكلمات الشر والخير التي نسمعها من الرئيس الأمريكي وصناع القرار لتبرير الحرب الراهنة ضد العالم الإسلامي وبعض دول العالم هي جزء من الثقافة الدينية الأمريكية حيث الخير هو الحق المسيحي، والشر هو الباطل الذي تحاربه أمريكا، وهو هنا الإسلام (1). "فإذا كانت إرادة الرب الأعظم، انه بالحرب ينزاح الأثر الأخير لوحشية الرجل تجاه الرجل في نصف الكرة الغربي، فلندعها تأتى". و"إذا توجب علينا أن نذهب إلى الحرب، فان دافعنا سيكون صائباً. كل واعظ ميتودى سيكون داعياً للتجنيد" (2).
هكذا تستمر أمريكا في محاولة فرض آراءها بالقوة والسلاح عبر العالم بأسره مستخدمة كافة الأساليب. والمدهش في هذا الأمر لا يتمثل في محاولة تحقيقه، بل في أنها تتم بهذه الدرجة العالية من الإقرار وبإجماع شبه تام، حيث تؤدى أجهزة الإعلام دوراً خارقاً في (صناعة الموافقة والتسليم)، كما اسماها (تشومسكى)، وفي جعل الأمريكي العادي يشعر بأنه يقع على عاتقنا نحن (الأمريكيين) أن نصحح ما يقترفه العالم من أخطاء وآثام، وإلى الجحيم بكل ما ينشأ من تناقضات وعدم اتساق واطراد. لقد سبقت التدخل في حرب الخليج سلسلة من التدخلات (بنما، غرينادا، ليبيا) تمت مناقشتها كلها، وإقرار معظمها، أو على الأقل عدم ردعها، بوصفها من اختصاصنا (نحن) بحكم الحق، وبعبارة (كينان): "لقد أولعت أمريكا بالاعتقاد بأن كل ما ترومه، هو بالضبط يرومه الجنس البشرى برمته" (3).
فإذا لم تكن المنظمة الدولية تعمل على خدمة مصالح الولايات المتحدة فلا مبرر لاستمرارها، لان الرئيس بوش وبطانته من المحافظين يؤمنون بأن ما يصلح لأميركا يجب أن يصلح للعالم أجمع، بغض النظر عن كل الكلام عن (الحريات) الذي
_________
(1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت، ـ ترجمته د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي ص121
(2) أرض الميعاد والدولة الصليبيةـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال - ص 165
(3) الثقافة والامبريالية - ادوارد سعيد - تعريب كمال أبو ديب ص 343(3/85)
يغلفون به هذه القناعة. وهنا يتعرى مأزق الليبرالية العالمية الممزقة بين الدعوة العالمية لنشر الحريات والديمقراطية, والحيرة إزاء الاختطاف الراهن للشعار الليبرالي من قبل المحافظين الجدد، الذين يزعمون أنهم يريدون نشر الليبرالية بالقوة العسكرية والإمبريالية إن لزم الأمر (1). وقد سبق أن فندت إدارة الرئيس (ريجان) أسباب إقصاء المعايير الدولية عندما كانت محكمة العدل الدولية تنظر بالتهم التي وجهتها نيكاراجوا ضد الولايات المتحدة، وسخر وزير الخارجية الأمريكي (جورج شولتز) من أولئك الذين يؤيدون الوسائل اليوتيبية، مثل تسوية الخلافات من قبل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، بينما يتجاهلون عنصر القوة الفاعلة في المعادلة. كما ابلغ الرئيس (كلينتون) الأمم المتحدة في عام 1993م بان الولايات المتحدة ستتصرف (جماعياً عندما يكون ذلك ممكناً) وستتصرف (أحادياً عندما يكون ذلك ضرورياً) (2).
وبالرغم من المعارضة العالمية لهذه العربدة الأمريكية، حتى من حلفائها الأوربيين، الذين يحاولون حل المشاكل الدولية سياسياً، إلا أن أمريكيا تصر على تنفيذ ما تريد، تحت شعار (إما معنا أو ضدنا)، معتبرة أن السعي الأوروبي لحل المشاكل سياسياً ناجم عن ضعفهم عسكرياً، وأن استخدام أميركا القوة يعكس قوتها. وهنا تتساءل (صوفي جندرو) في كتابها (المجتمع الأميركي بعد 11 سبتمبر) فتقول: "هل القوة وحدها هي الحل؟ ألا يتعين تسوية المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية كأولوية؟ أليست أميركا مقيدة من الداخل من قبل اللوبيات القوية؟ ". وتضيف موضحة جذور هذه العربدة الأمريكية فتقول: "أن ما يقوله اليوم الأميركيون عن قوة الولايات المتحدة وضرورة الحفاظ على الهيمنة الأميركية ليس بجديد، فالمسألة تعود إلى مبدأ (مونرو) عام 1823م ثم سياسة (العصا الغليظة) التي تبناها (ثيودور روزفلت) عام 1901م، الذي كان يقول: "في هذا العالم، أن الأمة التي تدرب نفسها على حياة لا تتسم بالطابع الحربي هي أمة محكوم عليها بالزوال، قبل
_________
(1) الإرهاب والليبراليةـ بول بيرمان ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الطبعة: الأولى 2003 ـ الناشر: نورتون، نيويورك ولندن
(2) الدولة المارقة - حكم القوة في الشؤون الدولية ـ نعوم تشومسكي - ترجمة محمود على عيسى ص9 - دار الكتاب العربي - نينوى للدراسات والنشر - ط1 2003(3/86)
الأمم التي لم تفقد مزايا الرجولة والمغامرة" (1). وترى (جندور) أن الإشارة في خطاب بوش عن حال الاتحاد في يناير/ كانون الثاني 2002 للخير والشر، تندرج ضمن هذه الاستمرارية الفكرية (2).
وفي الوقت الحاضر ابتدع (صامويل هنتنغتون) إلي جانب كثيرين آخرين من شاكلته، معظمهم جاءوا من رحم قوي الظل العالمية، رسالة يشرح فيها التبرير الأخلاقي للحرب التي من أجلها أوصلوا (جورج دبليو بوش) إلي البيت الأبيض. وتروج الرسالة إلي وجوب اعتناق القيم الأمريكية والغربية واعتبارها قيما عالمية، حيث زعم الموقعون علي تلك الرسالة، أن من قاموا بهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) إنما كانوا يهاجمون تلك القيم، وأعلنوا أن العالم أصبح قرية واحدة، وأن عملية العولمة المستمرة لا بد وأن تحمل في ثناياها مجموعة واحدة من المبادئ العالمية، وقرروا نيابة عن العالم بأن هذه المفاهيم والقيم يجب أن تكون المبادئ الغربية (3). وقد تناسى هؤلاء الجرائم وحروب الإبادة التي افرزها الإيمان بهذه القيم، عندما حاول رؤساء أمريكا الحديثة التوسع في غرب (الغرب الأميركي)، وحيثما شاء (القدر المتجلي). حيث أنهم في كل خطوة من هذا التوسع (لم يتخلوا قيد أنملة عن السياق التاريخي العنصري والدموي) حيث تحكمت عقدة الاختيار والتفوق بسلوكهم وبنادقهم فأوهمتهم بأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت لكل من عداهم، وأنهم في حل من أي التزام إنساني أو قانوني تجاه الشعوب التي يستعمرونها، لا باعتبار أنها أعراق منحطة وحسب، بل لأنها في الغالب مخلوقات متوحشة لا تنتمي للنوع الإنساني. إن ميتافيزياء كراهية الهنود (لدى الزنابير) ـ كما يقول (هرمان ملفيل) استحكمت بطقس (التضحية بالآخر)، وهذا ما جعل أميركا تعيش بضحاياها. ولا يمكن فهم حروبها وعلاقاتها الدولية إلا بالبحث عن ينابيع طقوسها الخاصة بالتضحية بالآخر (4).
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص13
(2) المجتمع الأمريكي بعد 11 سبتمبر ـالمؤلف: صوفي بودي جندروـ كامبردج بوك ريفيوز
(3) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م
(4) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص90(3/87)
لقد أنتج مؤرخو الثقافة الأمريكيون ما يكفى من الدراسات لكي يفهم منابع الدافع إلى السيطرة على نطاق عالمي، والطريقة التي بها يتم تمثيل هذا الدافع وجعله موضع قبول. وهنا يطرح (ريتشارد سلوتكين)، مثلاً، في كتابه (التجدد عن طريق العنف)، منظومة أن التجربة المكونة للتاريخ الأمريكي هي الحروب المديدة ضد الهنود الأمريكيين الأصلانيين، وقد أنتج هذا بدوره صورة للأمريكيين لا كمجرد قتله (كما وصفهم دى. اتش لورانس)، بل كعرق جديد من البشر، مستقلين عن الميراث الإنساني الذي لطخه الإثم بالسواد. يرومون علاقة جديدة وأصيلة تماماً مع الطبيعة النقية كصيادين، ومستكشفين، ورواد، وباحثين. وتتكرر مثل هذه الصور مراراً في أدب القرن التاسع عشر الميلادي، وهى تبزغ بزوغها، الأشد التصاقاً بالذاكرة في رواية (هرمان ملفيل)، (موبى دك)، حيث يجسد القبطان آهاب، تمثيلاً ترميزياً للبحث الأمريكي الكوني. فآهاب مهووس، يفرض نفسه بقوة، لا يصد، ملفع بتبريراته النظرية الشخصية وبإحساسه برمزيته الكونية" (1).
فمنذ البداية كما رأينا أنها حتى قبل أن تصبح ولايات متحدة كانت أمريكا تطمح إلى عولمة نمط أنظمتها، ولم يفتش مفكروها الأوائل من أساتذة وكتاب وقساوسة ورجال دولة عن لحظة لاخفاء هدفهم النهائي ألا وهو: فرض نموذجهم للمجتمع على العالم أجمع. وقبل كل شيء ومن أجل تقديم المثال عرضت للآخرين لدرجة التفاخر الصورة الرائعة لأمة جديدة مختارة من الله لهدف واحد هو توزيع رسالة وحيدة لمستقبل تراه مشرقاً لكل الشعوب. إلا أنه وفي وقت مبكر جداً زالت إرادة إثارة الرغبات أمام اليقين بخضوع الآخرين بالإكراه لأنه بدا أمام هذه المقاومة أو تلك أمراً لا مفر منه. لقد اعتقدت أمريكا وأرادت لنفسها أن تكون كياناً كلياً لا شبيه له. ولذلك رأت نفسها أعلى من كل المناطق التي يعيش فيها الأفراد والأمم، المناطق التي تعتبر أن من واجبها ضمها، فهي العالم بأسره لأن الإرادة السماوية أرادت ذلك ولأنها تجسد نموذج العالم الأتي حسب المخططات الإلهية، فالقدر حملها مهمة الإملاء على الأمم والشعوب لقانون واحد ما هو إلا قانونها.
_________
(1) الثقافة والإمبريالية - ادوارد سعيد - تعريب كمال أبو ديب ص 345(3/88)
وإذا كانت بعض الشعوب والأمم خلال التاريخ اعتقدت أيضاً بأنها مكلفة بمهمة حضارية وهذا لا نقاش فيه ولكن ما يميز أمريكا التي أصبحت فيما بعد الولايات المتحدة هو التأكيد الشرعي بالثقة بالذات وبشخصية غير مألوفة أخذت عندها شكلاً مرضياً. وإن كان من الطبيعي كما يحدث في أي جهاز حي بأن تعبر أي أمة دون مراوغة عن إرادتها بالسيطرة أما فيما يخص أمريكا فهي تشعر بهذه الإرادة لها جذور إلهية. لقد ظهرت ثقتها بنفسها منذ البداية بشكل تأكيد مضخم لاستعلاء مطلق وفي الوقت نفسه بشكل شخصية قومية مصابة بمرض العظمة (1).
إرهاب التسعينيات وحرب العراق الأولى
منذ (ترومان) وحتى (بوش)، حاول رؤساء أمريكا الحديثة التوسع في غرب (الغرب الأميركي) وحيثما شاء (القدر المتجلي). لقد حاولوا التصدي للشيوعية والتوسع الصيني وبسط سيطرتهم على منابع النفط العربية. وخلال حقبة التسعينيات، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وولادة نظام أحادى القطبية، عملت أمريكا على عولمة إرهابها وسيطرتها على العالم في ظل ما سمى بالنظام العالمي الجديد، الذي هو تسمية بديله للهيمنة على العالم، حيث صاغت أمريكيا إستراتيجيتها الانفرادية التي تحوي ثلاثة عناصر أساسية:
1. عدم تسوية أي مشكلة نهائياً لتبرير عمل عسكري في أي زمان ومكان تختاره أمريكيا.
2. تطوير أسلحة جديدة يفترض أن تضع أميركا في تسابق نحو التسلح يجب ألا يتوقف أبداً.
3. التركيز على ميكروـ قوى (العراق، كوريا الشمالية ... ). لأنها "الطريقة الوحيدة لإبقاء السيطرة الأمريكية على العالم من خلال (مواجهة) فاعلين من الدرجة الدنيا للرفع من شأن القوة الأميركية، "وهذا مفيد لمنع أو على الأقل لتأخير وعي
_________
(1) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 216 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001(3/89)
القوى الأساسية التي ستتقاسم مع أميركا التحكم في العالم: أوروبا، اليابان وروسيا على المدى القصير، والصين على المدى البعيد" (1).
فأميركا لم تعد الأمة الكبرى كما كانت في السابق، لان نظامها الديمقراطي في أزمة، ولذا فهي تحاول أن تحافظ وتبرر هيمنتها وشرعيتها باستهدافها بلداناً قليلة الأهمية اقتصادياً وعسكرياً. ولهذا فقد مارست الولايات المتحدة إرهابها على منطقة البلقان وتحديداً (يوغوسلافيا سابقاً)، وفي السودان وليبيا، ومارست ضغوطاً شديدة على العرب في حربهم وانتفاضتهم ضد الاحتلال الصهيوني، سواء في الجنوب اللبناني أو في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (87 ـ93م) أو الثانية.
أما الحرب على أفغانستان والعراق فحدث ولا حرج .... فالملاحظ أن الإمبريالية الأمريكية الأصولية بلغت، في إعادة تنظيم الشرق المتوسطي، مستوى جديداً من العدوانية لم تبلغه من قبل، تمثل في السياسة الجديدة التي تعود بالعالم إلى أساليب الاستعمار الكولونى القديم، والاحتلال الفج الصريح، والتهديد بالمدافع والأساطيل الحربية، التي كشفت عن تفاقم سياسات العنف والعدوان، مقنعاً أو صريحاً، من جانب الامبريالية، وخاصة الامبريالية الأمريكية في السنوات الأخيرة. والواقع أن حرباً لم تكشف من قبل، بهذا الوضوح والعراء، حقيقة التناقضات والصراعات التي تهز عالم اليوم من الأعماق، كما كشفتها حرب الخليج بخاصة. فقد فضحت محاولات الإمبريالية، وفي مقدمتها الأمريكية، استغلال الظروف الجديدة، لمزيد من النهب للعالم الثالث الغنى بثرواته، والمنهوب سلفاً حتى القاع.
فلم يكن تحرير الكويت سوى ذريعة، لم تكن تستدعى كل هذا الحشد الهائل من القوة العسكرية التي لم يسبق لها مثيل. كما لم تكن لتبرر التدمير الشامل للعراق، شعباً وبنية أساسية وصناعية، فضلاً عن كافة المرافق الحيوية والحياتية. لقد كان الهدف الأمريكي الصهيوني المدبر، بعيداً عن تحرير الكويت، انتهاز الفرصة المواتية لتدمير العراق نفسه، كقوة عربية اقتصادية وعسكرية نامية، من بلدان العالم الثالث المتخلف، التي تتطلع إلى الخروج من طوق التخلف، والى امتلاك أسباب
_________
(1) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأمريكي ـ المؤلف: إمانيول طود - ط1 2002 - الناشر: غاليمار - باريسـ كامبردج بوك ريفيوز(3/90)
التكنولوجيا، مما يهدد بخلل في ميزان القوى في المنطقة المشمولة بالحماية والرعاية الأمريكيتين، بين الدول العربية وبين إسرائيل. لقد كان المقصود في الدرجة الأولى من حرب عاصفة الصحراء أن تكون درساً لا ينسى للدكتاتوريات الصغيرة لكي تفهم أن ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية يتم برضي الله، ولتذهب العدالة والحقيقة والأخلاق إلى الجحيم. درساً لبلدان العالم الثالث ولكل من تحدثه نفسه بالتمرد على النظام العالمي الجديد، الذي رسمته الولايات المتحدة. درساً لكل من يراوده الأمل أو يتطلع إلى اللحاق بركب الحضارة، واكتساب التكنولوجيا الحديثة المتطورة، والتنمية المستقلة والتقدم.
فبعد تضخيم الإمكانيات العراقية وبعد تحرير الكويت حدد خيار أميركي جديد، الانخراط في أكبر عدد من الصراعات مع قوى عسكرية مثيرة للسخرية والتي تنعت بـ (الدول المارقة). وقد أثبتت أحداث حرب الخليج بأجلى بيان أن النظام العالمي الجديد يعنى الزعامة المنفردة لأمريكا في العالم. بعبارة أخرى فرض الهيمنة الأمريكية المطلقة على مصائر العالم، وقد عبرت عن ذلك بصدق (الوموند ديبلوماتيك) بقولها: "أن انهيار الاتحاد السوفيتي حرم العالم من الحماية ضد نزعة المغامرة الأمريكية (1)، التي كانت تبحث عن حرب جديدة. فقد انتهت الحرب الباردة وحربا الخليج و حرب (كوسوفا) بعد حرب البوسنة والهرسك، فالحروب يجب أن تستمر، ومصانع الأسلحة يجب ألا تتوقف طالما أن كل ذلك يتم علي حساب الآخرين، سواء كانوا الأوربيين أو اليابان، أو حتى الدول العربية النفطية!! ولهذا كانت حربها الجديدة ضد ما يسمى بالإرهاب، والتي بدأتها بأفغانستان والعراق، ووضعت على قائمتها أكثر من ستون دولة، حيث لم تكن أحداث 11 سبتمبر سوى ذريعة لها، ولم تكن تستدعى كل هذا الحشد الهائل من القوة العسكرية التي لم يسبق لها مثيل لضرب أفغانستان ذلك البلد الفقير والممزق، والذي عانى اشد المعاناة من الحروب، التي كانت تحركها أمريكا.
_________
(1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجى كنعان ـ ص181ـ183(3/91)
الألفية الثالثة والدولة المارقة
ما إن انتصر قادة الولايات المتحدة في الحرب حتى بدأوا يسيئون إدارة السلام. وواصلوا التصرف كما لو أن الحرب الباردة والقرن العشرين لم يكونا قد انتهيا (1). فقد أكد كثير من المراقبين علي أن حكومة بوش قامت في خلال ثمانية أشهر فقط منذ تسلمها السلطة، بمعاداة معظم الدول، بل ومنظمات العالم بصورة غير مسبوقة، حيث اصطدمت بروسيا فيما يتعلق بحرب طرد الجواسيس، ثم بمظلة الصواريخ الدفاعية، واصطدمت بالصين في موضوع الطائرة الصينية، ومع معظم دول العالم ومنظماته في تصرفات استفزازية، بدأت بإعلان الانسحاب من اتفاقية الحد من الصواريخ الباليستية، والإصرار علي مشروع مظلة الصواريخ الدفاعية، والانسحاب من اتفاقية كيوتو لحماية المناخ، والانسحاب من اتفاقية وقف إنتاج الأسلحة البيولوجية، ورفض اتفاقية الحد من إنتاج الأسلحة الصغيرة وغيرها من القرارات التي أدت لتذمر عالمي حتى بين أقرب حلفائها الأوروبيين، الذين ساعدوا علي طردها من لجنتي حقوق الإنسان ومكافحة المخدرات في حرب دبلوماسية واضحة، عبر عنها المحلل الألماني الشهير (جوزيف جوفه) بعبارة (أمريكا التي لا شريك لها)، مؤكداً أنها تتعامل حتى مع دول أوربا والناتو بغطرسة، تعتمد علي إصدار القرارات، ثم إجبار هذه الدول بإتباعها بلا مناقشة، وهذا ما يؤكد أن أعداء أمريكا ليسوا فقط العرب والمسلمين، أو في شرق ووسط أسيا بل إن العداء أصبح عالمياً بصورة واضحة!
فالأوروبيين كما يقول (جوفه) يريدون دعم الولايات المتحدة ومنعها في نفس الوقت من أن تتحول (آخر قوة عظمي) إلى قوة أكثر تجبراً وغطرسة، بعد أن صارت تتعامل حتى مع حلفائها الأوروبيين بطريقة الآمر النهائي، وعلي الجميع إطاعته. وربما هذا ما يجعلنا نفهم السبب في تمرد السياسة الأمريكية على النظام العالمي بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث يذكر (فرانسو هايزبور) في كتابه (فرط الإرهاب) ببعض المعطيات العالمية وتطوراتها عشية هجمات 11 سبتمبر، والتي يمكن من خلالها فهم مغزى انعكاسات أحداث 11 سبتمبر، حيث يرصد على سبيل المثال
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص295(3/92)
الانحراف الأحادي الجانب في السياسة الأميركية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، والذي تأكد مع تسلم الرئيس الحالي جورج بوش الابن السلطة. ويسوق سلسلة من المواقف الأميركية حول هذا الانحراف الأحادي الجانب مثل المواقف الأميركية في البوسنة بين 1992م و1995م عندما رفضت واشنطن التدخل والاستجابة لمطالب حلفائها الأوروبيين، والقوانين الأميركية التي تعاقب الشركات الأجنبية ـ بما فيها الأوروبية ـ التي تستثمر في (الدول المارقة)، كوبا، إيران، ليبيا ... ، وأعلنت نيتها عدم المصادقة على اتفاقية إنشاء محكمة الجزاء الدولية، وعزمها الانسحاب من معاهدة الصواريخ الباليستية لعام 1972م (انسحبت منها فعلاً) (1).
وقد أشار (د. برهان غليوم) في لقاء مع قناة الجزيرة إلى تقرير اسمه (المبادئ الأساسية للردع بعد الحرب الباردة) قدم لـ (قيادة القوة النووية)، يوضح إلى أي مدى تحترم أمريكيا القوانين الدولية حيث يقول التقرير: "إن من الخطر الشديد أن نظهر أنفسنا، أننا نحترم أموراً صبيانية سخيفة، مثل: القانون والمعاهدات الدولية، ولابد أن تكون في حكومتنا عناصر تظهر مستعدة للتصرف بجنون وغير قادرة على ضبط أعصابها، فذلك هو الذي يساعد على بث الخوف وتعميقه في قلب خصومنا". ويضيف التقرير: "على أميركا أن تستفيد من قوتها النووية حتى تعطي عن نفسها في المواجهات صورة لا عقلانية وإتهامية عندما تتعرض مصالحها للتهديد". وفي تصريح آخر يقول (جورج شولتز) وزير الخارجية السابق: "إن كلمة مفاوضات لا تعني شيئاً آخر سوى الاستسلام إذا لم يسبقها عرض للقوة". هذه هي شريعة الغاب التي تحكم أمريكا، والتي حولتها إلى اكبر دوله إرهابية سفاك للدماء على مر التاريخ، ابتداء من مذابحها ضد الهنود الحمر، ومروراً بجرائمها في أمريكيا اللاتينية وأوروبا وآسيا والمنطقة العربية.
_________
(1) َفرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة تأليف/ فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- ط1 2001 وديل جاكوب-باريس كامبردج بوك ريفيوز(3/93)
أمريكا .. ذلك الوجه الآخر!
في إحدى الغزوات اكتشف أحد صيادي الأرواح إمكانية استخدام الأعضاء الذكرية أكياساً للتبغ، ثم تطورت الفكرة المثيرة من هواية فرديه للصيادين إلى صناعة رائجة, بعد إن صار (كيس التبغ) هذا مثل الشاربين، من أبرز علامات الرجولة والفروسية والأرستقراطية الاستعمارية، وصار الناس يتهادونه في أعيادهم وأفراحهم، لكن هذه الصناعة لم تعمر طويلاً في داخل أميركا, بعد أن انخفض عدد الهنود في عام 1900م إلى ربع مليون، وضاق وجه الأرض الأمريكية بالسلخ وقطع الرؤوس, ولم يعد أمام الحضارة إلا أن تبحث وراء المحيط عن مجاهل جديدة ووحوش طازجة في باناما, والفيليبين, واليابان و وهاييتي, وكوريا, وفيتنام, وبلاد العرب (1). فكانت النتيجة أن القرن العشرين كان هو القرن الأكثر دموية في تاريخ الجنس البشري، حيث قتل في هذا القرن 120 مليون شخص في 130 حرباً، وهذا العدد يفوق عدد من قتلوا في كل الحروب فيما قبل سنة 1900 م (2)، وقد كان لأمريكا نصيب الأسد في ذلك. وهناك إحصائية موثقة في سجلات هيئة الأمم المتحدة تشير بوضوح بأن عدد الناس الذين قتلوا من قبل أميركا فقط ـ بشكل مباشر ـ بحروبها منذ الحرب العالمية الأولى, وحتى نهاية حرب أفغانستان بلغوا أكثر من 60 مليون إنسان، وهنا علينا أن نتخيل ما هي الديمقراطية التي تطالب بها الولايات المتحدة؟!. وهنا يحاول كل من (جيف سيمون) و (نعوم تشومسكى) بيان الوجه الآخر للديمقراطية الأمريكية عبر مسح الجرائم, التي قام بها الأمريكيون في التاريخ القريب وفيما يلي أبرز محطاته:
في إفريقيا: " ... في ليبيريا قتل في أوائل عقد التسعينيات أكثر من 150 ألف شخص، وقتل الآلاف في زائير (أرغم نصف مليون شخص على هجر منازلهم بسبب التطهير العرقي)، وشرد مليون نسمة في سيراليون، ومات زهاء60 ألفا في الحرب والمجاعة عام 1990م وحده، وفي أنغولا مات عشرون ألفا أثناء حصار منظمة يونيتا لمدينة كويتو, الذي استمر ثمانية أشهر، وهو حدث بين أحداث مماثلة عدة
_________
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص79
(2) 1999م نصر بلا حرب - ريتشارد نيكسون - تقديم المشير/ محمد عبد الحليم أبو غزالة ص23. مركز الاهرام, 1989(3/94)
للسياسات الاستراتيجية الأمريكية في إفريقيا التي لا يكشف عنها ... حيث طورت الولايات المتحدة (التي نشأت عبر التطهير العرقي والإبادة الجماعية)، قدرتها على التطهير العرقي والإبادة الجماعية باستعمال تقنية لم يسبق لها مثيل. وقد تطورت معظم براعة واشنطن في ارتكاب الإبادة الجماعية أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها (1).
ضرب المدنيين
لقد أثار القصف الألماني مدينة غويرنيكا قبل الحرب، وهو حدث مهم في الحرب الأهلية الإسبانية، احتجاجاً شديداً في الولايات المتحدة, ومن الرئيس (فرانكلين روزفيلت) نفسه. وعندما نشبت الحرب الأوروبية عام 1939م أعلن (روزفيلت): "أن القصف الوحشي من الجو للمدنيين في مراكز سكانية غير محصنة أثناء العمليات الحربية التي دارت في أنحاء مختلفة من العالم في السنوات القليلة الماضية، وأدى إلى تشويه وموت آلاف الرجال والنساء والأطفال العزل، قد أدمى قلوب كل الرجال والنساء المتمدينين, وهز ضمير الإنسانية هزاً عميقاً". وفي عام 1940م حث (روزفيلت) الأطراف جميعاً على الإحجام عن قصف المدنيين، وفي الوقت نفسه ذكر بفخر "أن الولايات المتحدة قد أخذت زمام المبادرة في الدعوة إلى حظر هذه الممارسة اللاإنسانية".
هوريشيما وناغازاكي
وقبل مضي زمن طويل استدارت واشنطن دورة كاملة، وأصبحت القوة الجوية الملكية والقوة الجوية للجيش الأمريكي راعيتي القصف الاستراتيجي, ومضيتا في إتقان أسلوب التدمير الواسع للمدن باستعمال القنابل الحارقة. كان الجنرال (جورج مارشال)، رئيس الأركان، قد أمر مساعديه في الواقع بتخطيط هجمات حارقة "تحرق الهياكل الخشبية والورقية للمدن اليابانية الكثيفة السكان". وفي إحدى الليالي دمرت
_________
(1) أمريكا .. ذلك الوجه الآخر! جيف سيمون ونعوم تشومسكى - الشبكة الإسلامية- http://www.islamweb.net/pls/iweb/misc1.Article?vArticle=13700(3/95)
334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعا من طوكيو بإسقاط القنابل الحارقة، وقتلت 100 ألف شخص وشردت مليون نسمة. "ولاحظ الجنرال (كيرتس لوماي) بارتياح أن الرجال والنساء والأطفال اليابانيين قد أحرقوا، وتم غليهم وخبزهم حتى الموت". كانت الحرارة شديدة جداً, حتى أن الماء قد وصل في القنوات درجة الغليان, وذابت الهياكل المعدنية, وتفجر الناس في ألسنة من اللهب. وتعرضت أثناء الحرب حوالي 64 مدينة يابانية، فضلاً عن هيروشيما وناغازاكي، إلى مثل هذا النوع من الهجوم. ويشير أحد التقديرات إلى مقتل زهاء 400 ألف شخص بهذه الطريقة. وكان هذا تمهيداً لعمليات الإبادة التي ارتكبتها الولايات المتحدة ضد أقطار أخرى لم تهدد واشنطن.
أما ما حدث في هيروشيما وناغازاكي فقد فاق كل تصور. ففي توان أحترق الآلاف الذين كانوا يسيرون في الشوارع والحدائق من جراء الحرارة الهائلة, التي ولدها الانفجار، بينما وقع الكثيرون على الأرض صارخين من الألم الناتج من الحروق الشديدة, وتهدم كل شيء من منازل ومصانع, وانتزعت القطارات من خطوطها الحديدية, وارتفعت في الهواء كأنها لعب أطفال, واختفت الأشجار في اللهيب وكان انهيار المباني شبيهه بانهيار بيوت الكرتون (1).
حرب فيتنام
بين عامي 1952م و 1973م ذبحت الولايات المتحدة في تقدير معتدل زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامى ولاوسي وكمبودي. وذكر الراهب البوذي الفيتنامي (ثيتش ثين هاو) أنه بحلول منتصف عام 1963م سببت حرب فيتنام مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، ونزعت أحشاء 3000 شخص وهم أحياء، وأحرق 4000 حتى الموت، ودمر ألف معبد، وهوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة. . الخ. وأدى القصف الأمريكي لهانوي وهايفونغ في فترة أعياد الميلاد وعام 1972م إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم. وبعد الحرب بينما عانى الأمريكيون الكرب بسبب 2497 جندياً مفقوداً (بحسب أحد التقديرات) , كافحت العوائل الفيتنامية للتكيف مع 300 ألف
_________
(1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص 69(3/96)
مفقود. وربما بلغ عدد القتلى في فيتنام 4 ملايين فضلاً عن ملايين كثيرين آخرين من المعوقين والمصابين بالعمى والصدمات والتشويه. وتقلصت فيتنام إلى بلد للقبور, ومبتوري الأعضاء, والأرض المسممة, واليتامى, والأطفال المشوهين. ولعل مجموع الموتى والمشوهين، ضحايا الأيديولوجيا الأمريكية، يصل إلى 22 مليوناً، إلا أن الكآبة الأمريكية بسبب (مرض فيتنام) لا علاقة لها بذلك (1).
عولمة الإرهاب الأمريكي
إن دماء الكوريين والفيتناميين واللاوسيين والكمبوديين ليست وحدها التي لوثت الأيدي الأمريكية, التي لا يمكن محو الدماء عنها، فقد شاركت الولايات المتحدة على نحو مباشر وغير مباشر في عمليات التعذيب والتشويه والقتل في أقطار كثيرة أخرى في أنحاء العالم. وثمة تواطؤ أمريكي واضح في المجازر الإندونيسية والحروب ضد الناس المكابدين في أمريكا الوسطى, (نيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا وهندوراس): قتل مئات الآلاف الآخرين عن طريق الأسلحة الأمريكية, والتدريب, والمشورة الأمريكيين. ونيابة عن أمريكا في الاضطرابات المدنية الأمريكية (الصراع الدامي في أنغولا, وموزمبيق, و ناميبيا وغيرها)، وفي أعمال القمع التي ارتكبها الطغاة الذين دعمتهم أمريكا عبر العقود (سوموزا, وبينوشيه, وماركوس, وموبوتو, وباتيستا, ودييم وكي, وري, ودوفاليه, وسوهارتو, وسافيمبي وغيرهم). ثمة مثال واحد من أمثلة كثيرة: ذبح الجنود الذين دربتهم الولايات المتحدة في الوزوتي عام 1981م حوالي ألف فلاح أعزل منهم 139 طفلا، وقتل الجيش الأمريكي المدرب في غواتيمالا أكثر من 150 ألف فلاح بين عامي 1966م و 1986م.
وبالرغم من أن هذه الجرائم الوحشية هي جرائم ضد الإنسانية وإرهاب دوله منظم، إلا أن أمريكا تضعها تحت مسميات نشر الديمقراطية وتوسيع مساحة الحرية، ولا تعتبرها إرهابية لان الذين فعلوها أمريكيون. وأيضاً قُصفت مدينة دريسدن في فبراير 1945م، وهذا عمل وحشي ارتكبه البريطانيون. فمدينة دريسدن لم تكن ذات أهمية صناعية أو عسكرية. وقد لقي أكثر من 100,000 ألماني من غير
_________
(1) أمريكا .. ذلك الوجه الآخر! جيف سيمون ونعوم تشومسكى - الشبكة الإسلامية(3/97)
العسكريين مصرعهم خلال الغارة، وكانت تلك الجريمة انتهاكاً صريحاً لمعاهدات جنيف، ولكن الذين ارتكبوها هم البريطانيون, وهم ليسوا بإرهابيين!. وهناك أيضاً القصف العشوائي في فيتنام، واستخدام المواد الكيماوية المحظورة، وهذا عمل وحشي وانتهاك فاضح لمعاهدات جنيف، ولكن، ومن جديد فالأمريكيون ليسوا بإرهابيين! وهناك قصف بلجراد وتدمير الجسور والإنشاءات المدنية، وكلها أعمال تعارضت مع معاهدات جنيف، ولكن دول حلف شمال الأطلنطي (ناتو) ليست إرهابية!!
ولا ننسى قصف العراق، والتدمير التام لمحطات المياه والكهرباء, وموت أكثر من مليون ومائتي ألف طفل عراقي, وآلاف من العراقيين قضوا نحبهم نتيجة للحصار الاقتصادي, الذي فرضه الأمريكان على بلادهم .. الخ (العدد الإجمالي أكثر من الذين قتلوا في هيروشيما ونكازاكي) .. ثم القتل الذي يمارسه اليهود ضد الفلسطينيين, الذي تستخدم فيها السكينة الأمريكية من سلاح ومال .. والدعم السياسي والاقتصادي والعسكري واستخدام الفيتو خصوصاً ضد الإسلام والمسلمين, وهي جرائم تتنافى ومعاهدات جنيف، ولكن إسرائيل والتحالف المناوئ للعراق لم يكن إرهابياً!! وأخيراً وليس آخراً .. غزو أفغانستان ذلك البلد الفقير، واحتلالها وقتل الآلاف من شعبها باستخدام أبشع أنواع الأسلحة المحرمة دولياً التي لا تقتل البشر والناس فقط، بل تدمر كافة مناحي الحياة في البقعة المنكوبة (1).
هذه بعض الجرائم الأمريكية بحق البشرية, والتي تكشف إلى أي حد وصلت بربرية وهمجية هذه الدولة المارقة والتي تدعى الفضيلة والحرص على حقوق الإنسان وتطبيق القانون الدولي ... إنها فضيحة في القانون الدولي المعاصر، إنه في حين يعتبر (التدمير المتعمد للبلدان والمدن والقرى) جريمة حرب قديمة العهد، فان قصف المدن بالقنابل والطائرات لا يمضى فقط دون عقاب، بل ودون توجيه اتهام أيضاً. إن القصف بالقنابل من الجو هو إرهاب دولة، إرهاب الأغنياء. لقد أحرق وفرق أشلاء أبرياء في العقود الماضية أكثر مما فعله الإرهابيون المناوئون للدولة على مر
_________
(1) بلا حدود ـ أحمد منصورـ ضيف الحلقة - د. عاصف دراكوفيتش: مدير المركز الطبي لأبحاث اليورانيوم - واشنطن ـ 21ـ5ـ2003م(3/98)
الزمن (1). ولكنه حكم القوى على الضعيف قديماً وحديثاً ... وهنا يحكى أن أحد القراصنة وقع في أسر الإسكندر الكبير، الذي سأله: "كيف تجرؤ على إزعاج البحر، كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره أيها اللص؟ فأجاب القرصان: لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيره فحسب ادعى لصاً، وأنت الذي يفعل ذلك بأسطول ضخم تدعى إمبراطوراً .. !! (2). إنها ازدواجية المعايير وشريعة الغاب قديماً وحديثاً.
الحرب على الإرهاب
هذه محطات مختلفة للإرهاب الأمريكي حول العالم، تكشف بجلاء ذلك الوجه القبيح لهذا البلد, ولتلك العصابة العنصرية التي تقوده وتقود العالم نحو الهاوية، بدعوات وشعارات مخادعة وكاذبة، مرة باسم نشر الديمقراطية والحرية والدفاع عن حقوق الإنسان .. وأخرى بدعوى مكافحة الإرهاب، حيث يبقى ما يجري منذ بدء الحرب على الإرهاب ماثلاً في الذاكرة. فالحرب الحالية على ما يسمى بالإرهاب هي في حد ذاتها إرهاب .. إرهاب دوله منظم نشأ مع نشأة أمريكيا ذاتها، واستمر في حصد الأرواح والدمار في كل مكان حل به، وهذا ليس جديداً على أمريكا كما سبق وأكدنا ـ إذا علمنا أن أمريكيا قد خصصت ميزانية لممارسة الإرهاب قدرها 2 مليار دولار، منذ العام 1969م وازدادت الآن إلى 10 مليار، لتنفقها مبكراً جداً على فريق خاص (20 ألف مجند) للعمليات الخاصة بالاغتيال السياسي والتصفية الجسدية, لمن تسميهم بأعداء الولايات المتحدة خارج الحدود ـ حتى لو كانوا حركات تحرر وطني ـ وهم في الغالب كذلك ـ تصفيتهم دون انتظار قرار دولي أو إذن من مجلس الأمن تماماً, كما حدث في حرب الخليج الثانية، وكما يحدث في الحرب الراهنة ضد أفغانستان والعراق. وإذا علمنا أيضا أن لدى الولايات المتحدة فرقاً خاصة للإرهاب (3) المنظم تتلخص
_________
(1) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 139
(2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص35
(3) راجع مقال للكاتب البريطاني (جورج مونبيوت) منشور بصحيفة الجارديان بعنوان (الحكومة الأمريكية تصنع الإرهابيين منذ 55 عاما) - عرض / إيمان محمد ـ إسلام أون لاين. نت/30ـ10ـ2001م(3/99)
مهمتها في تمشيط أرض من يسمونهم بأعداء أمريكا تمهيداً للاقتحام كما حدث في أنجولا (1).
لاهوت الهيمنة الأمريكية (2)
صرح الرئيس (تافت) في عام 1912م: "يجب أن نحمي شعبنا وأملاكه في المكسيك، إلى أن تفهم حكومة المكسيك بأن هناك إلهاً في إسرائيل، وأن الواجب يحتم طاعته". هذه العبارة شائعة الانتشار: "إسرائيل مملكة الله الجديدة على الأرض"، ظهرت برواج في التاريخ الأمريكي منذ مايفلاور وإقامة مستعمرة بلايموث (1620م).
تاريخ جميل وقوي. شعب في المنفى، شعب صغير، هارب من السيطرة القمعية وباحث عن بداية جديدة. تستدعي للذاكرة علاقة يهوه مع شعبه المختار على جبل سيناء: لقد أعطى يهوه لليهود في المنفى مكانة خاصة (الأمة المفضلة)، اليهود هم (الشعب المختار) بأرض موعودة. كما وعدهم - إذن بأن لهم دوراً مهماً لقيادة شعوب أخرى. كذلك اعتبر الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية البيوريتانيون (المتطهرون) أنفسهم شعباً مختاراً منذ قرون بقراءة الكتاب المقدس، ليس فقط من قبل يهوه، ولكن أيضا ًمن خليفته الرب المسيحي. فلماذا لا تكون هذه الأرض إذن الأرض الموعودة؟ ويكونون هم بذلك النور والإرشاد للشعوب الأخرى، لأنهم الشعب المختار من الله؟ ... لكن الأرض الموعودة لم تكن قفراً.
الفكرة الرئيسة هي أن الله يساعد المختار، أما نجاحه فلا يبدو لنا مبرراً في عيون الرب فحسب، بل والطرق المستخدمة لتحقيق هذا النجاح يجب ـ أيضاً ـ أن تكون مبررة. وكما أعطى العهد القديم تشبيهاً يتماشى مع البيوريتانيين الأوائل في تنكيلهم بالهنود، عاد هؤلاء البيوريتانيون بدورهم، إسقاط التشبيه الذي ينسجم وتنكيل الإسرائيليين بالفلسطينيين.
_________
(1) قرآن وسيف ـ د. رفعت سيد أحمد ـ ص186
(2) هذا المقال كتبه يوهان جالتون، وعرض في كتاب" أمريكا طليعة الانحطاط - روجيه جارودي - ص241ـ244(3/100)
هكذا اتفقنا على تكوين جبهة ضد الإسلام. إن الاقتناع بكونهم الشعب المختار، قد سبقه الاقتناع بأن الولايات المتحدة هي الأمة الأقرب إلى الله من أي أمة أخرى، وذلك موضح على شعارهم المدون على كل دولار (إننا نثق بالله) ... من ثم، فإن الدولة الأقرب إلى الله هي ـ أيضاً ـ ممثلة الله على الأرض طبقا لثلاث خصائص رئيسية، من صفات الله: امتلاك كل العلوم، والقوة الشاملة، والإحسان.
بالتالي، يعني هذا رقابة اليكترونية على العالم، وعلى الذين يشك في كونهم ممثلي الشر وحملته. وتستأثر الولايات المتحدة لنفسها بمعرفة من يدخلون تحت هذا التصنيف فلا توجد محاكمة لهم، بما أن الولايات المتحدة تحتكر مسألتي الثواب والعقاب، بالإضافة لحق الإدعاء. هكذا تمارس هيمنة ثقافية, وتمتلك قوة اقتصادية وعسكرية تحت إدارة البنتاجون, وجهاز الاستخبارات لتنفيذ أحكامها.
تستحق) إمبراطورية الشر) أن تسحق حتى تعود إلى العصر الحجري، إنه الواجب.
أي ديانة يمكنها التفوق على الإيمان اليهودي المسيحي؟ أي أيديولوجية يمكنها التفوق على الليبرالية المحافظة على طبعتها الرأسمالية؟ لا يمكن حتى لمنظمة سوبر عالمية أن تكون فوق الولايات المتحدة. وهذا يعني بالنسبة إلى الأمم المتحدة ألا تكون سوى وسيلة للولايات المتحدة لتنفيذ هيمنتها على العالم بأسره.
وتحتل الولايات المتحدة القمة في تسلسل الأمم، وهي محاطة بمن يمثلون مركز العالم: الحلفاء الذين تنطبق عليهم سمتان أو السمات الثلاث الخاصة: اقتصاد سوق حرة، إيمان بالله يهودي ـ مسيحي، انتخاب حر. على الكفة الأخرى لهذا العالم الموزع بين الخير والشر، إمبراطورية الشر تتمثل في البلدان التي لا تتبع اقتصاد سوق حرة، ولا إيماناً يهودياً مسيحياً، ولا ديموقراطية على الطريقة الأمريكية. فللولايات المتحدة اتحاد مع الله، وتتحالف الأمم الأخرى معها من موقع التبعية لها والخضوع، كالعلاقة بين الأطراف والمركز. فالأمم الغربية ملك الولايات المتحدة، والولايات المتحدة في حلف مع الله. هذا هو اللاهوت المستتر للسياسة الخارجية لأمريكا.(3/101)
الفصل الثالث
الارهاب الأمريكي الداخلي
دأبت الحكومات الأمريكية المختلفة على إتباع أسلوب فريد في إخفاء وتبرير عدوانيتها وعنصريتها وإرهابها على العالم، بإسقاط مثل هذه الصفات على دول وشعوب أخرى. والمتأمل للتاريخ الأمريكي سيلاحظ هذا الأمر بسهولة. فقد بررت أمريكا ذبح الهنود الحمر واستعباد الزنوج بالقول بهمجيتهم ووحشيتهم، وبررت حروبها في أمريكا اللاتينية بدعوى نشر الحرية والديمقراطية ... وفي العصر الحديث بررت حروبها المختلفة مره بدعوى محاربة الشيوعية والأصولية وأخيراً بدعوى محاربة الإرهاب.
وبالرغم من هذه الشعارات البراقة التي استخدمتها أمريكا لتبرير جرائمها بحق الإنسانية، إلا أن الحقيقة والواقع يقول أن أمريكا نفسها هي التي بحاجه إلى من يعلمها معاني حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، وحتى التطرف الأصولي التي تدعي أمريكا أنها تسعى لمحاربته، لم يظهر وينمو إلا في أمريكا حتى تمكن هذا التيار من حكم أمريكا والعالم، وما عرضناه وما سنعرضه خير دليل على ذلك. أما الإرهاب الذي اتخذت منه أمريكا هدفاً وعدواً جديداً، تشن بسببه الحروب هنا وهناك وتقتل وتعتقل وتمنع وتحاصر وتعاقب .. هذا الإرهاب ليس إلا صناعة أمريكية من ألفه إلى يائه. ولكن لأن أمريكا تدرك أن خير وسيله للدفاع هي الهجوم، لهذا بادرت باتهام الغير بالإرهاب، حتى لا تدع لهم مجالاً للتفكير في الإرهاب الأمريكي قديماً وحديثاً داخلياً وخارجياً، والذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
النشاط الإرهاب الداخلي
بدأت أجهزة الإعلام الأمريكية في منتصف الثمانينات تسلط الضوء على الحركات اليمينية المتطرفة، والتي تحمل أسماء غريبة، مثل الأمم الآرية وحليقي الرؤوس وغيرها ممن ترتبط أسماؤها بحوادث إرهابية، مثل قتل رجال الشرطة، واغتيال أصحاب الرأي المخالف، والقيام بعمليات السطو، والسرقات الكبيرة. وكان كل(3/102)
ما تقوم به أجهزة الإعلام هو الربط بين هذه الحوادث والجماعات المتطرفة، التي تقوم بها دون التعمق في البحث في معتقدات هذه الجماعات التي تجيز وتدفع إلى ارتكاب مثل هذه الحوادث الفظيعة. وفي كتابه التضليل الشيطاني يعلق (تيرى ميسان) على هذه الظاهرة بقوله: "إن تاريخ الولايات المتحدة المعاصر يبين لنا أن الإرهاب الداخلي هو من الممارسات التي تشهد نمواً متزايداً. فمنذ العام 1996م ينشر الـ اف. بي. آي تقريراً سنوياً عن النشاط الإرهابي الداخلي كانت حصيلته: أربع عمليات في 1995م، ثمانية في 1996م، خمسة وعشرون في 1997م، سبعة عشر في 1998م وتسعة عشر في 1999م، نفذ معظم هذه العمليات مجموعات عسكرية وشبه عسكرية، تنتمي إلى اليمين المتطرف (1). وبالطبع فإن هذا العدد لا يشمل العمليات اليومية التي تشهدها كافة المدن الأمريكية من سرقة واغتصاب وقتل، وجرائم أخرى لا تحصى، والتي جعلت أمريكيا من أكثر دول العالم في نسبة انتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة.
وبعد أحداث 11 سبتمبر التي سارعت أمريكا لإلصاقها بالعرب، نشرت في ذلك الوقت كثير من التقارير الصحفية التي توجه إصبع الاتهام للجماعات الإرهابية الأمريكية المتطرفة، وهنا يذكر تقرير للمركز العربي للمعلومات بثته الصحف اللبنانية الأربعاء 12 - 9 - 2001م أن على أمريكا إذا أرادت أن تبحث عن مرتكب إنفجارات 11 سبتمبر، أن تفتش داخل أمريكا نفسها عن المنظمات الإرهابية، فهناك منظمات متطرفة يمكن أن تقوم بهذه الانفجارات، مثل: (فريمان)، (الأمم الآرية)، (الباتريوت) (مليشيا ميتشيغان)، (أريزونا باتريوتس)، (جيش تحرير ميامي). وهذه التنظيمات أنتجتها الأرض الأمريكية الخصبة، وبعضها قديم قدم الجمهورية الأمريكية ذاتها، وإن تغير معناها ومغزاها خلال التاريخ الأمريكي القصير، فقد كان للميليشيات في البداية معنى إيجابي، إذ كانت تشمل القوات الشعبية التي شاركت في حرب الاستقلال. وفي وقت لاحق، استمر وجود هذه الجماعات الصغيرة التي كانت تحاول قدر المستطاع أن تحكم نفسها محلياً، وخاصة في ولايات الغرب، أو في
_________
(1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان ص 142(3/103)
الجنوب (كلوكلاس كلان) (1)، إلا أنها كانت معزولة وبقيت على هامش الحياة السياسية، لكن الوضع تغير اليوم بفعل التطورات التقنية، التي تسهّل صنع القنابل وتهريب الأسلحة، وكذلك تطور وسائل الاتصال التي تسمح لهذه التنظيمات بالاتصال الفوري بعضها ببعض، إما عبر البرامج الإذاعية أو الفاكس، وأخيرا عبر الإنترنت (2).
وحسب تقرير مركز المعلومات العربي، ففي منتصف التسعينيات، اتسع انتشار هذه التنظيمات في ولايات الوسط والغرب. وتظهر الأرقام الرسمية الأمريكية أنه في عام 1994م وحده، تم تسجيل 2438 محاولة تفجير، أو تفجير لم يتبعه حريق، معظم المسئولين عنها من الشبان الذين يعتمدون على كتب مثل: (دليل الفوضوي)، و (جيمس بوند للرجل الفقير) أو (يوميات تونر)، الذي يعتبر الكتاب المقدّس للميليشيات. ويعتبر مكتب التحقيقات الاتحادي (إف بي آي) أن كتاب (يوميات تونر)، الذي صدر في عام 1987م استند إليه (ماكفاي) مفجّر أوكلاهوما، ومؤلفه هو (أندرو ماكدونالد)، ويعمل أستاذا جامعياً. والكتاب عبارة عن رواية سيطرت على خيال هواة اقتناء الأسلحة والشبان البيض المتعصبين عرقياً، وصار واسع الانتشار. وهناك من يقول: إن اسم المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب هو (وليم بيرس). وقد تنبهت وزارة العدل الأمريكية لهذا الكتاب عام 1989م، عندما قامت مجموعة إرهابية أمريكية معادية للحكومة الاتحادية، أطلقت على نفسها اسم (النظام) بعمليات اغتيال وسطو على مصارف، أملاً منها في إطلاق ثورة عنيفة.
أفراد الميليشيات وأفكارها
تجذب هذه الميليشيات أساساً عناصر أمريكية يعيش معظمها على هامش المجتمع، وينتمي أعضاؤها إلى العرق الأبيض، وهم في غالبيتهم من الطبقة العاملة، ومن العاطلين عن العمل، ومن الذين يعتبرون أنفسهم متدينين. وتعكس قيم هذه التنظيمات مزيجاً غريباً من الدين المسيحي، وتقديس الحرية الفردية
_________
(1) لمزيد من التفاصيل حول هذه المنظمة العنصرية راجع كتاب "تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) " - ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- ترجمة غسان رسلان.- اللاذقية: دار الحوار، 1983
(2) إسلام أون لاين. نت/12 - 9 - 2001(3/104)
للمواطن، والقيم العسكرية، وخاصة حرية اقتناء وحيازة الأسلحة النارية، والخوف من السلطة المركزية، والرغبة في مقاومة تدخّلها في حياة المواطن. ولذلك فإن الطابع العقائدي الغالب على هذه التنظيمات هو الطابع اليميني، الذي يصل في أحيان كثيرة إلى الشوفينية والعنصرية والحقد على كل ما هو غير أبيض أو مسيحي.
ويقوم أعضاء هذه التنظيمات خلال العطلات بارتداء الزي العسكري، والتدرب على إطلاق النار بالأسلحة النارية والمتفجرات الحية في معسكرات أو مزارع خاصة، (لضمان عدم تدخل رجال الأمن) أو في الغابات. وهناك نسبة كبيرة من الأعضاء من الجنود السابقين. فعلى سبيل المثال، فإن المتهم الرئيس بتفجير أوكلاهوما (تيموثي ماكفاي) خدم في حرب الخليج، ونال ميدالية النجمة البرونزية. لكن من بين أعضاء الميليشيات ـ أيضاً ـ مجموعة من المحامين والمثقفين البارزين والأساتذة الجامعيين، بالإضافة إلى ضباط متقاعدين من ذوي السجل العسكري المثالي.
ويعتبر بعض أعضاء هذه الميليشيات أنفسهم في حالة حرب مع السلطة الاتحادية، التي يرون أنها تحاول حرمانهم من حقوقهم الدستورية (الفردية)، وهم يرفضون دفع الضرائب. أما المتطرفون منهم فيؤمنون بوجود مؤامرة تشارك فيها الحكومة الاتحادية، والمصارف العالمية والأمم المتحدة، وعناصر يهودية عالمية وغيرها من القوى المعادية للمسيحية، تهدف إلى إقامة حكومة عالمية، أو كما هو شائع الآن (النظام العالمي الجديد). ويدّعي هؤلاء أنهم يملكون معلومات، أو وثائق تثبت صحة ما يقولون، منها ظاهرة تحليق طائرات مروحية سوداء في ولايات الغرب، يعتقدون أنها لرصد تحركاتهم، ويقولون: إن أمريكا ستستعين بقوات روسية أو صينية لنزع أسلحتهم. وهذه الميليشيات مختلفة عن الميليشيات المتنازعة في الدول التي تشهد الحروب الأهلية. فهي تنتمي عقائدياً إلى المدرسة ذاتها، وليس بينها تنافس أو عداء، وما يحدد توجهها وبرامجها هو خوفها وعلاقتها المتوترة بالسلطة الاتحادية .. أي إن لهذه الميليشيات عدواً أساسياً هو السلطة الاتحادية (1).
_________
(1) إسلام أون لاين. نت/12ـ9ـ2001م(3/105)
الميليشيات المسيحية الأمريكية .. هواية القتل اللذيذ
"ماذا نفعل؟ نعلم أن الضحايا مجرد رهائن لدى الإدارة الأمريكية وأنهم لم يتبنوا الفلسفة المريضة والأهداف المدمرة التي يتبناها النظام .. ولكن ما من طريقة تتفادى سقوط الأبرياء في سبيل تدمير هذا النظام .. ما من طريقة فلا بد أن يسقط ضحايا"!! ليست هذه تصريحات لأعداء تقليديين لأمريكا .. ليست لأحد ـ الصرب أو الشيوعيين أو الكوبيين أو الكوريين الجنوبيين ولا حتى لأحد أتباع بن لادن، لكنها لأمريكي أبيض من ميليشيا ولاية ميتشجان، فهو لا يهتم بالدماء مهما كانت درجة تدفقها في سبيل القضاء على الإدارة الأمريكية، مهما كان حجم الضحايا والأبرياء!!
قد تتعجب إذا علمت أن هذا كان تعليقه للنيويورك تايمز إثر حادثة أوكلاهوما، التي نفذتها الميليشيا وراح ضحيتها 166 قتيلا .. ولكن عجبك قد يزول إذا قرأت لأحد هؤلاء المهووسين في أحد مواقع الميليشيات يعرفنا بنفسه أن هوايته إطلاق الرصاص على الحيوانات، والأمريكان الوافدين (يقصد الأفارقة والآسيويين والأسبان)، وأن الحكمة التي تنير دربه في الحياة: "بمجرد أن أملك بندقية فحتماً سوف تقع جريمة". وسينتهي تعجبك تماماً إذا علمت أن ثمة إعلانات تُنشر في جرائد أمريكا الكبرى والمحلية على حد سواء يرد فيها عبارات من قبيل "يجب ألا نسمح للحكومة بإدارة شئوننا وحياتنا .. يجب أن نعود إلى أيام الثورة الأمريكية الأولى .. نحن ثوريون أمريكيون" .. ثم يردف الإعلان بالطريقة الأمريكية النمطية "تعالوا مع أسلحتكم وأصدقائكم ... ". وهذه الإعلانات المتنوعة والكثيرة تقف وراءها مجموعة ضخمة من الميليشيات الأمريكية المسلحة. فهذا الإعلان مثلاً نشرته ميليشيا ولاية أريزونا، التي تهدف إلى فصل الولاية عن أمريكا الأم وإعلانها دولة مستقلة. وهذه الميليشيا يقودها (ديفيد إبسي) الذي يُسمي نفسه (الكابتن الثوري)، ويدعو إلى إعلان ثورة جديدة كالتي أعلنها الأمريكان الأوائل ضد الاستعمار البريطاني.
وهذه الميليشيات تنتشر في شتى الولايات الأمريكية، ولها أنصارها الذين يشكلون فكرهم الغريب والمختلف، ولكل ميليشيا منطقة نفوذ، وتحترم الميليشيات فيما بينها مناطق نفوذها. ورغم أنه لا توجد مؤشرات تدل على نوع من الوحدة في الهدف أو الرؤية، فإنه من المؤكد أن ثمة خلفيات مشتركة أدت إلى تكوُّن مثل هذه(3/106)
البؤر الفكرية المسماة بـ (الميليشيات)، سواء أكانت هذه الخلفيات اجتماعية أم سياسية أم دينية أم عسكرية، كما أن تشابهًا في الوسائل يلحظه المتابع لهذه الميليشيات. فالعدد المعلن لهذه الميليشيات 41 منظمة، و22 ميليشيا، غير تلك التي تفضل العمل السري ولا تعلن عن نفسها، بل تغلق العضوية على من يصطفيهم القائد (1).
قائمة بأهم الميليشيات الإرهابية الأمريكية
ميليشيا ولاية ميتشجان: تعتبر هذه المليشيا من أقوى الميليشيات وأكثرها عدداً، حيث يقدر عدد جنودها بـ50 ألف جندي. وقد اشتهرت هذه المليشيا بعد الانفجار في مدينة أوكلاهوما، لأن الاثنين اللذين اعتقلا عضوان فيها. ورغم أن قائد الميليشيا ادعى أنه طردهما، لأنهما متطرفان أكثر مما يجب، الا إن القس (نورمان أولسون) قائد (الجيش الأول) أحد قطاعات الميليشيا، أيَّد فكرة أن يذهب الآلاف من الجنود بالملابس العسكرية وكامل الأسلحة لإنذار كلينتون أن هذه ستكون بداية الثورة الأمريكية الثانية.
والميليشيات تملك دبابات وعربات مصفحة ومدافع مضادة للدبابات، وتتدرب على حرب العصابات وبعض تدريباتها تتم في الليل، وتُستعمل فيها نظارات تسمح بالرؤية في الظلام. وفي جنوب الولاية فرع للميليشيا، يتدرب عسكريًا بأقنعة واقية من الغازات السامة، لاعتقاده بأن الجيش الأمريكي سيستعملها ضدهم.
ميليشيا ولاية كولورادو: اسمها الرسمي هو حراس الحريات الأمريكية، العضو فيها يطلق على نفسه لقب حارس وطن، وأسلحة أعضائها كثيرة ولا يكتفي الواحد بأسلحة لنفسه، إنما يخزن مجموعة أخرى للمتطوعين الذين ربما لن تتوفر لهم أسلحة كافية عند قيام الحرب. كما يخزن أعضاء هذه المليشيا ـ أيضاً ـ كميات كبيرة من الطعام وضروريات الحياة، ليعيشوا أسابيع بل شهوراً إذا فرضت عليهم الحكومة
_________
(1) الميليشيات المسيحية الأمريكية .. هواية القتل اللذيذ - أحمد زين- موقع إسلام أون لاين- 13 - 9 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/famous/2001/09/article3.shtml(3/107)
الحصار. وميليشيا كولورادو عندها جريدة ودار نشر. ومن مطبوعاتها: النظام العالمي الجديد.
وبداخل هذه المليشيا لجنة تشرف على التمارين العسكرية وتخزين الأسلحة، كما ترسل مستشارين عسكريين لمساعدة الميليشيات في الولايات الأخرى، وعلى رأس قائمة أعدائهم ـبالإضافة إلى الحكومة الفدراليةـ البنوك العالمية التي يسيطر عليها اليهود. وهذه الميليشيا تحمل اليهود مسئولية فساد النظام البنكي العالمي بما في ذلك سقوط بنك الاعتماد.
ميليشيا ولاية فلوريدا: تتكون هذه الميليشيا من 6 ميليشيات فرعية، ولها جنود في كل مقاطعة ومدينة في ولاية فلوريدا. ففي مدينة تاميا يوجد فرع للمتطوعين المسلحين، وفي مقاطعة هيلزبورو المجاورة جيش وجهاز حكومي وجهاز قضائي، وعلى رأس الجهاز القضائي المحكمة الدستورية التي أرسلت أخيراً أوامر إلى المسئولين في المقاطعة لإطاعة قوانينها. وفي مقاطعة سانت لوشي يحمل الجنود مسدسات وبنادق ومدافع رشاشة إلى اجتماعات التدريب.
ميليشيا ولاية إيداهو: تستفيد هذه الميليشيا من المناطق الجبلية الوعرة، في ولاية إيداهو. ومن الذين يقودون هذه الميليشيا الكابتن (صمويل شيرود)، الذي يقول: ستشهد أمريكا الحرب الأهلية مرة أخرى، ونحن هنا في ولاية إيداهو سنبدأ بالهجوم على مبني برلمان الولاية ونقتل كل النواب رمياً بالرصاص.
أما (جيمس جرينز) ـ وهو كولونيل متقاعد من فرقة القبعات الخضراء التي اشتركت في حرب فيتنام ـ فهو يظهر وجهاً آخر من وجوه الميليشيات التي لا تنظر إلى أمريكا بالكراهية فحسب، وإنما توجه عنصريتها للعالم كله من حولها، فيقول: "الجنس الأبيض هو سيد الأجناس، والأفارقة ـوالآسيويون مثلهم ـ أقذر الناس وفي أسفل قائمة الأجناس ... " (1).
ميليشيا ولاية إنديانا: ترأس ميليشيا ولاية إنديانا امرأة هي جنرالة سابقة بالجيش الأمريكى وتدعى (ليندا طومسون)، وعندها مكتب محاماة في إنديانا بولس
_________
(1) جعل بعض النقاد من الخوف من الأجنبي وازدرائه عجله قيادة التاريخ الأمريكي كله(3/108)
عاصمة الولاية، وهي تقول: إن يوماً ما ستهجم فيه على الكونجرس وتعتقل كل أعضائه وتدمرهم.
ميلشيا ولاية ميسوري: هذه الميليشيا أقل حجمًا ونشاطًا من ميليشيا ولاية ميتشجان، لكن لها فروعاً في خمس مقاطعات. وهذه تجمع بين العملين العسكري والسياسي. فبالإضافة إلى تسليح أعضائها فإنها ترشحهم في الانتخابات المحلية لعُمُد المدن الصغيرة واللجان التعليمية.
والبرامج السياسية لهؤلاء تدعو إلى الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة "خوفًا من سيطرتها على الحكومة الأمريكية"، وإلى إنهاء النظام الدولي الجديد. وشنت هذه الميليشيا هجومًا شخصيًا على الرئيس كلينتون، وخاصة على زوجته هيلاري، التي وصفت بأنها تقود شبكة شيوعية للسيطرة على أمريكا. وهذه الميليشيا تتحدث عن طائرات تجسس تابعة لشرطة التحقيق الفدرالي (إف بي آي)، تحلق فوق معسكراتها للهجوم عليها، وعن صواريخ جو ـ أرض، وقنابل عنقودية رغم أن الشرطة الفدرالية لا تملك مثل هذه الأسلحة.
ميليشيا ولاية مونتانا: لأن ولاية مونتانا في أقصى شمال الولايات المتحدة (تجاور كندا)، فأن الميليشيا تريد فصلها لتكون دولة بيضاء، حيث ان عدد كبير من قادة هذه الميليشيا مشهورون بآرائهم العنصرية والإرهابية. وهذه الميليشيا تطبع مجلات وجرائد تتحدث عن عظمة الجنس الآري ... إلخ. ومن أشرطة الفيديو التى تنتجها شريط عنوانه: (إرهاب كلينتون ورينو)، في إشارة إلى وزيرة العدل الأمريكية ودورها في القضاء على الجماعة الدينية المتطرفة، في ولاية تكساس خلال عهد كلينتون.
ميليشيا ولاية أريزونا: حديثة وصغيرة الحجم بالمقارنة مع غيرها، ومن قادتها (ديفيد أبسي) الكابتن الثوري، و (جارى هانت) الثوري الأول، وهما يريان أن على الأمريكيين إعلان ثورة جديدة مثل التي أعلنوها ضد الاستعمار البريطاني قبل أكثر من مائتي سنة، ثم إعادة تأسيس الولايات المتحدة. ولأن هذه الميليشيا جديدة فإن أسلحتها فردية وهي عبارة عن أسلحة أعضائها (الواحد منهم يملك مجموعة من المسدسات والقنابل). تقوم هذه المليشيا عادة بنشر إعلانات في الصحف الأمريكية، تدعو المواطنين للانضمام إليها، واسمها الرسمي هو (منظمة أبناء الحرية)، وأحد(3/109)
إعلاناتها يقول: "يجب ألا نسمح للحكومة بإدارة شئوننا وحياتنا، يجب أن نعود إلى أيام الثورة الأمريكية الأولى، نحن ثوريون أمريكيون". ومن أهدافها فصل ولاية أريزونا عن الولايات المتحدة. وفي إعلانات اجتماعاتها تدعو الميليشيا المواطنين حسب الطريقة التالية: (تعالوا مع أسلحتكم وأصدقائكم).
ميليشيا ولاية نيو هامبشير: تستفيد هذه الميليشيا من قانون في الولاية، يسمح بتشكيل فرق عسكرية تطوعية لكل من يزيد عمره عن 18 سنة. وهدف القانون هو الاستفادة من هؤلاء في حالات الطوارئ وتحت إشراف حاكم الولاية، لكن الميليشيا تسلح نفسها بضمان أنها ستطيع أوامر الحكومة. وولاية نيو هامبشير من الولايات التي بدأت فيها الثورة الأمريكية ضد الاستعمار البريطاني، لهذا ترى الميليشيا نفسها استمرار لهذا التقليد، لكن عكس ميليشيات الولايات في الغرب والوسط، فإن هذه الميليشيا تعتمد على أسلحة فردية، وإستراتيجيتها العسكرية تقوم على حرب العصابات أكثر من مواجهة مباشرة مع القوات الحكومية.
ميليشيا ولاية أوهايو: هذه الميليشيا صغيرة الحجم، لكن لها فروعاً في عدد مقاطعات الولاية، مثل مقاطعة بايك الريفية في جنوب الولاية. لكن حتى في مدينة كبيرة في الولاية، مثل سنسناتي يوجد فرع للميليشيا، ويجتمع أعضاؤها تحت اسم أبطال أوهايو، وأحيانًا يجتمعون في ولاية كليرمونت الريفية المجاورة لإجراء تمارينهم. كما يوجد في مقاطعة بايك الريفية عدد من المنظمات العنصرية مثل كوكلكس كلان والنازيين، وأصحاب الرؤوس المحلوقة، والمنظمات الدينية المتطرفة، حيث أن الانضمام إلى الميليشيا يسهل على هؤلاء الحصول على التدريب العسكري.
منظمات إرهابية أمريكية
بالاضافه إلى هذه المليشيات توجد في أمريكيا كثير من المنظمات الارهابية التى لها فروع في كثير من المدن والولايات نذكر منها: كوكاكس كلان (98 فرعا) ـ اللجنة الأمريكية الأولى (فرع واحد) ـ الحزب النازي الأمريكي (فرع واحد) ـ الشعب الآرى (18 فرعا) ـ الحزب الثورى الآري (فرع واحد) ـ المشروع الآرى (فرع واحد) ـ(3/110)
الأخوان (فرع واحد) ـ التحالف الأمريكي الأوربي (فرعان) ـ المنظمة الأمريكية الأوروبية (فرع واحد) ـ التحالف الوطني (10 فروع) ـ الحزب الألماني الوطني الاشتراكي (3 فروع) ـ الحزب الاشتراكي الوطني (فرعان) ـ حزب العمل الأبيض (فرعان) ـ الحزب الاشتراكي الأبيض (فرعان) ـ المجموعة النازية الألمانية (5 فروع) ـ النازيون الأمريكيون (فرع واحد) ـ محاربو الحرية البيضاء (فرع واحد) ـ المقاومة الآرية البيضاء (5 فروع) ـ المقاومة البيضاء (فرع واحد) ـ الجيش الثورى الأبيض (فرع واحد) ـ حزب أمريكا الأول (فرعان) ـ زمالة مسيحيي المستقبل (فرع واحد) ـ الجناح الآري (فرعان) ـ الإخوان الأمريكيون المتمردون (فرعان) ـ مؤيدو الإنجيل المسيحيون (فرعان) ـ عصبة الدفاع المسيحي (فرع واحد) ـ طلائع الوطنيين الاشتراكيين (3 فروع) ـ جيش المسيح في إسرائيل (فرع واحد) ـ كنيسة إسرائيل (فرعان) ـ جمعية عيسي المسيح (3 فروع) ـ جمعية للخالق (4 فروع) ـ الجمعية الدولية الانفصالية (3 فروع) ـ الميليشيا البيضاء (5 فروع) ـ الاتحاد القومي لتقدم البيض (9 فروع) ـ اتحاد حقوق البيض (فرع واحد) ـ اتحاد النساء البيضاوات (فرع واحد) ـ الجبهة العالمية للخطر الملون (فرعان) ـ تحالف الطلاب البيض (فرع واحد) ـ التحالف ضد الأجانب (فرعان) ـ جمعيات أصحاب الرؤوس المحلوقة (35 فرعا).
من تكساس ظهرت منظمة الكوكلاكس كلان وجورج بوش (1)
لا يسمع المرء اسم "تكساس" إلا ويقفز إلى ذهنه صورة راعي البقر المتوحش، الذي يضرب بقدميه الأبواب مقتحماً حقوق الآخرين، ومنتهكا القوانين بالبندقية والرشاش. فمنذ قيامها وهذه الولاية تعتبر المرادف الرئيس للقتل والعنف والإرهاب بأنواعه، وبالتالي كانت الجماعات الخارجة منها هي الأشهر، والأشد فعالية في هذا المجال. ولم تختلف الشخصيات التي أفرزتها كثيراًً عن جماعات الإرهاب من أبنائها، فهذه الولاية التي كانت الرحم الطبيعي لمنظمة " كوكلاكس كلان" الإرهابية، هي ذاتها الولاية التي قدمت جورج بوش على طبق من الموت للعالم.
_________
(1) من تكساس ظهرت منظمة الكوكلاكس كلان وجورج بوش- مجلة البديل- http://www.albadel.com/tariag/7/m2.html(3/111)
تعتبر مشكلة الزنوج أكثر المشكلات حدة في المجتمع الأمريكي الذي يتفشى فيه داء العنصرية العضال، وباتت حالة الزنوج الاميركيين مغالطة كبرى يعتبر القضاء عليها ضرورة تاريخية، اقتصادية، سياسية واخلاقية ملحة. وعليه، فإن العنصرية هي المفهوم الأكثر ثباتاً وقدرة على الاستمرار من بين جميع المفاهيم الايديولوجية للامبريالية، والاعظم تغلغلاً في شتى مجالات الحياة في الولايات المتحدة الأميركية.
ويعتبر الإرهاب الجماعي من أهم الوسائل لبلوغ هذه الغاية حيث يمكن أن تتبدل اشكاله تبعاً للموقف السياسي في البلاد، وتبعاً لتناسب القوى الطبقية والسياسية. ولابد لممارسة هذا الإرهاب من منظمة متخفية لا يلقي نشاطها ظلاً على المؤسسات الحكومية والسياسية الرئيسية في البلاد، كما لا تسيء إلى الأسس الاقتصادية ـ الاجتماعية للديمقراطية البورجوازية. ولعل كو ـ كلوكس ـ كلان أو (ك ك ك) هي المنظمة التي توافرت فيها هذه الشروط خلال ما يزيد على مائة عام من وجودها، وربما كانت فاعليتها كسلاح للارهاب الموجه ضد الزنوج هو السبب في أن هذه المنظمة المشؤومة قد تجاوزت الحقبة التي ظهرت فيها، واستمرت في البقاء حتى ايامنا الحاضرة؛ على أمل أن تتحول إلى نموذج لنمط الحياة الأمريكي. ولهذا تلعب كو ـ كلوكس ـ كلان الدور الأكثر نشاطاً وتأثيراً بين جماعات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية
التأسيس:
و"كو ـ كلوكس ـ كلان هي المنظمة البروتستانتية المسيحية البيضاء والأمريكية الخالصة الوحيدة التي يرفع أعضاؤها شعاراً مفاده: " الكلانيون ـ انقى واكمل الناس على الأرض وقسمها هو منع تحقيق المساواة لذوي البشرة السوداء". وأول ظهور أو تشكل للكلان كان في عام 1866. حيث تأسست من قبل المحاربين القدامي في الجيش الكونفدرالي و كانت مهمة هذه المنظمة مقاومة إعاد التأسيس و معارضة تحرير العبيد التي حدثت عقب الحرب الأهلية الأمريكية. وسرعان ما طورت هذه المنظمة أساليب عمل عنيفة. عندئذ كانت ممارسات الكلان عذرا لحلفاء الجنوبيين لمتابعة القوات الفيدرالية فعالياتها في الجنوب. انحسرت منظمة الكلان(3/112)
بين عامي 1868 و 1870 و تم تدميرها بالكامل في بدايات السبعينات من القرن التاسع عشر على يد الرئيس أوليسيس غرانت في عملية الحقوق المدنية لعام 1871 (تعرف أيضا بعملية كو كلوكس كلان) (1).
ويليام جوزيف سيمون مؤسس جماعة الكلان الثانية عام 1915
الظهور الثاني لكلان كان في عام 1915 عن طريق جماعة تبنت نفس الاسم، حيث أعلن عن تأسيس هذه الجماعة في ولاية جورجيا الأميركية بوصفها "جمعية أخوية اجتماعية خيرية وطنية في 28 أكتوبر (تشرين الأول) من العام 1915. وقد جاء أول ظهور علني للمنظمة يوم عرض فيلم "ميلاد أمة" The Birth of a Nation في اطلنطا، وتتركز الفكرة الرئيسية للفيلم على إظهار "الطبيعية الحيوانية للزنجي"، و"النبل" الذي تتحلى به عناصر كو ـ كلوكس ـ كلان، والبرهان على ان تحرير الزنوج كان مأساة، وذلك ان حرمانهم من حق الانتخاب واستعبادهم ومعاملتهم بالعنف ـ هي أمور نابعة من "طبيعة الافريقي".
كانت الجماعة الثانية من (ك. ك. ك) منظمة رسمية تتألف من عضوية رسمية ذات بنية قومية، مما دفع الكثير من الرجال لتأسيس فروع محلية في كافة أرجاء الولايات المتحدة. فبعد وقت قصير ظهرت كو ـ كلوكس ـ كلان في الولايات المجاورة لجورجيا مثل الآباما وفلوريدا. وتشير إلى ان عدد أعضاء "الإمبراطورية الخفية" قد بلغ في عام 1916. 100ألف عضوا تم تجنيدهم من الضباط والجنود السابقين في جيش المتمردين. كانت "الإمبراطورية الخفية" تؤكد باستمرار ولاءها "للقانون والنظام" مما أدى إلى اقتناع قسم كبير من الأمريكيين بأن ك ك ك هي فعلاً منظمة أمريكية سياسية دينية اخلاقية رفيعة المستوى، وأن الانتساب إليها شرف لكل إنسان ما دام "الهدف الوحيد لكلان هو خدمة الوطن وإنقاذه" (2).
_________
(1) l تاريخ الإرهاب الأمريكي- ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- الكوكلاكس كلان - ترجمة غسان رسلان- دار الحوار ـ سورية ـ اللاذقية ـ الطبعة الأولى 1983
(2) l تاريخ الإرهاب الأمريكي- ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- الكوكلاكس كلان - ترجمة غسان رسلان- دار الحوار ـ سورية ـ اللاذقية ـ الطبعة الأولى 1983(3/113)
لذلك دخل في صفوفها الكثيرون طمعاً في رفع اعتبارهم الاجتماعي بالنظر إلى أن "العضوية فيها أصبحت رمزاً اجتماعياً من نوع خاص. . ولهذه الغاية وسعت ك ك ك نشاطها الخيري مما اضفى عليها، وهي المنظمة الرجعية "مسحة الوقار" ولكنها كانت في الحقيقة تمثل مبادىء عنصرية بيضاء ضد الزنوج وتنفذ أهدافها بطرق سرية.
فقد صرح غوفارد مدير "مكتب المحررين" في إحدى وسائل الإعلام الأمريكية الشهيرة انه تم تسجيل 100 ألف عملية إرهابية في كارولينا الشمالية وحدها خلال عام واحد. وكانت تتم بالدرجة الأولى تصفية أبناء الزنوج الأكثر تطوراً ووعياً واستقلالية، وأضاف: "كانوا يكرهون الزنوج، ويخشون وعيهم ومواهبهم".
واستهدفت ك ك ك في ارهابها ضباط وجنود القوات الفدرالية المرابطة في الجنوب، والزنوج منهم بشكل خاص لأنها رأت فيهم حملة أفكار وتطلعات ثورية تهدد الأوليغارشية الزراعية عدوة الثورة. ولم توفر الشماليين المؤيدين للافكار الراديكالية.
ولذلك كان نشطاء هذه المنظمة يهاجمون بلا رحمة كل من رأت فيه مواهب وقدرات غير عادية، من مختلف القطاعات وقد بلغ عدد ضحايا رجال كلان الملايين. وقد أعلنها صراحة ر. هـ. سوير، أحد محاضري كلان، بعد ذلك حين قال: "الزنجي مريض بجرثومة الجنون التي تتجلى في مطالبته بالمساواة الاجتماعية والعرقية .. ان عليه، وسوف يكون، ان يوضع تحت المراقبة .. " وفي عام 1918 وحده أعدم 70 زنجيا حيث استغل الكلانيون موجة العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى بنجاح. وفي العام الذي يليه اشتدت حدة المشكلة العنصرية حيث شهدت البلاد 26 عصياناً جماعياً قام بها العنصريون (حوكم خلالها 77 من السود امام محكمة لينتش).
بلغت هذه المنظمة الذروة في العشرينات من القرن العشرين حيث ضمت حوالي 15% من التعداد الرسمي للسكان في الولايات المتحدة. [1] ففي عام 1919 أيضاً نظم الكلانيون حملة قمع جماهيري ضد الزنوج والفلاحين الفقراء منهم في فيليبس (مقاطعة آركانساس) وخلال 1919 ـ 1922 اعدم دون محاكمة 239 زنجياً. كان الكلانيون في بيولاسكي يلبسون الاقنعة البيضاء ذات الثقوب للعينين والانف،(3/114)
وقبعات عالية خيطت بحيث تطيل قامة الذين يرتدونها، ورداءاً يخفي اشكالهم. وتُوجت هذه التجهيزات بصفارة يحملها الكلانيون لتبادل الاشارات، وقد أعد لذلك قواعد خاصة ليصبح تخويف السكان السود الذين يؤمنون بالخرافات الشغل الشاغل لدى "مهرجي" مدينة بيولاسكي؛ نظراً لأن الزنوج الذين اعتقوا قد اعتقدوا في البداية أن هؤلاء هم أرواح الكونفدراليين الذين قتلوا.
وقد روى حاكم فلوريدا فلمنغ ان الكلانيين قتلوا أحد الزنوج ورموا جثته في مرجل خاص لتحضير السكر؛ وبعد ذلك جمع الجراح هيكله العظمي حيث علق على مفترق الشوارع لتخويف السكان. إلى أن أصبح العنف في الجنوب امراً مألوفاً جداً حتى أنه لم يعد يثير الاهتمام إلاّ في بعض مظاهره الأكثر فظاعة، ووحشية.
لقد كانت سادية اعداء الثورة نتيجة حتمية لبربرية ملاك العبيد. ورغم كل شيء تملك الذعر الجنوب أمام هذه القوة الغاشمة. وفي كثير من الحالات كان يكفي تهديد أولئك الذين لا ترضى عنهم "الإمبراطورية الخفية" كي يهاجروا من المنطقة التي يعيشون فيها. إلا أنه وبعد مضي وقت أخذت شرطة الزنوج تطلق النار على رجال كلان وتقتلهم مثل البشر العاديين، وتلاشي الخوف من أولئك الذين كانوا يمثلون "قوى خارقة".
لقد كانت المنظمة الثانية للكلان تعتنق أفكارا عنصرية و معادية للسامية و معادية للكاثوليكية إضافة للشعور القومي و معظم هذه الجماعات قامت باعمال تندرج ضمن العقاب اللينشي lynching و غيرها من العمال العنيفة وشعبية هذه الحركة انخفظت بشكل كبير خلال فترة الكساد الكبير Great Depression ثم انخفضت أعداد العضاء أكثر خلال الحرب العالمية الثانية نتيجة فضائح نتجت عن جرائم الأقادة البارزين و دعمهم للنازيين.
النشاط السياسي
أدى الإرهاب الشامل إلى اعطاء كلان قوة هائلة لا حدود لها في الجنوب، الأمر الذي ترك أثره داخل الحزب الديمقراطي، مما جعل علاقته مع كو ـ كلوكس ـ كلان شديدة الترابط وأكثر من وثيقة، ولم تقتصر هذه العلاقة على التطابق التام في(3/115)
الأفكار؛ بل تعدته إلى وحدة تنظيمية وثيقة بينهما .. فكان الحزب الديمقراطي يبادر في الحال إلى حل الشرطة الزنجية فور استلامه السلطة في أي من الولايات التي يعاد بناؤها.
"من ناحية أخرى انتشر عدد الكلانيين في صفوف الجيش الأمريكي وكان هؤلاء الضباط يمثلون في اغلبيتهم الساحقة الاوساط الأكثر عدوانية ورجعية في الصفوة التي تحكم البلاد وقد طرحت "كلان" الجنرال ج. براون المعروف بعنصريته، مرشحاً لها لمنصب الرئاسة في عام 1976. وعلى صعيد النشاط الإعلامي فإن كلان فرضت فاعليتها في هذا المجال فهي تُصدر صحفها ومجلاتها الخاصة، وتشارك في برامج الإذاعة والتلفزيون، والمناقشات والندوات في الكليات والجامعات، وتنظم معارضة خاصة بها، وتدعو الكلانيين إلى اجتماعات يرافقها احياناً مراسم احراق الصليب التي يدعى إليها الغرباء أيضاً. كذلك شاركت كلان بنشاط كبير في فترة الانتخابات الفدرالية. وقد قدمت إليها الاحتكارات النفطية دعماً مالياً كبيراً في عام 1922، ففي إحدى الدورات رصد أحدهم مبلغ 100 ألف دولار لدعم مرشحي كلان لمنصب السناتور في الحملة الانتخابية في تكساس. وفي عام 1924 خصصت ك ك ك 500 ألف دولار من أجل إعادة انتخاب صنيعتها هاريس نائباً عن جورجيا.
"كلان" مازالت تتغلغل في أوصال المجتمع الأمريكي، وهي فاعلة ومتنفذة، وفي موقع القرار من الحكم، وقد باءت حتى الآن كل الجهود الرامية إلى تحجيمها، فلقد بيّن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية ان العنصرية أكثر المفاهيم الايديولوجية الامبريالية ثباتاً واستمرارية وهي تدمغ كل أزمنة المجتمع الأمريكي (1).
الجذور الفكرية للجماعات المتطرفة
رغم أن معظم أدبيات الميليشيات المتطرفة تُعد من قبيل الهلوسة المرضية المحضة والأفكار الشاذة، فإن المتابع عن قرب يستطيع تلمس عدد من الجذور لهذه الاتجاهات المتطرفة، والتي يمكن حصرها بالآتي:
_________
(1) من تكساس ظهرت منظمة الكوكلاكس كلان وجورج بوش- مجلة البديل- http://www.albadel.com/tariag/7/m2.html(3/116)
الجذور الدينية
يجب أن نلاحظ أن المعتقدات الدينية البروتستانتية المستمدة من العقيدة اليهودية هي المصدر الأساسي لكل الدعوات العنصرية والتفوق العرقي في الغرب، ويعود ذلك إلى أثر التوراة على الفكر البروتستانتي، الذي استقى فكرة شعب الله المختار اليهودية، وتقمصها منذ البدايات الأولى لانتشار البروتستانتية في أوروبا، ومن تم انتقالها مع البوريتانيون إلى أمريكيا. وقد ساعد على ترسيخ هذه النظرة العنصرية لدى البروتستانت تشابه تجاربهم أثناء غزوهم للعالم الجديد بما ورد بالتوراة عند خروج بنى إسرائيل من مصر ومحاولة غزوهم لفلسطين في العصور القديمة. ولهذا تقمس البروتستانت القيم اليهودية العنصرية بحذافيرها، وحاولوا إعادة إخراج المشهد التوراتي بحذافيره، ويكفى أن نتأمل مشاهد القتل والحقد الواردة في التوراة بما قام به الانجلوسكسون في أمريكا من إبادة جماعية للهنود الحمر. وحتى النازية تسمتد فكرها من التوراة، ولكنها استبدلت الألمان بدل اليهود باعتبارهم الشعب المختار أو العرق النقي، فعندما "سئل هتلر عن سبب معاداته لليهود، كانت إجابته قصيرة بقدر ما كانت قاسية: لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران. ونحن وحدنا شعب الإله المختار" (1).
يضاف إلى ذلك ان بعض الكتاب والمحللين اتجه إلى الربط بين اليمين الثوري الجديد، وبين إحدى الحركات الدينية البروتستانتية التي تعتقد أن البريطانيين هم سلالة القبائل الإسرائيلية العشر المفقودة، وإنه بالإضافة إلى تعاطف اليمين الأمريكي المتطرف مع النازية وإيمانه العميق بتفوق العنصر الأبيض أو الآري، فإن أفراده ملتزمون بموقف ديني متميز يدخل في إطار عام يسمى الهوية المسيحية، لكن هؤلاء الأفراد غير منظمين في طائفة دينية محددة، وليس لديهم كتب يمكن الرجوع إليها للتعرف على تعاليمهم، ولكن الاتجاه العام لهذه الجماعة يتمثل في
_________
(1) الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ - عبد الوهاب المسرى ص132 - دار الشروق - ط1 1997. راجع في هذا المجال أيضا كتاب (الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني) - تأليف الأب مايكل بزير ـ ترجمة احمد الجمل و زياد منى(3/117)
كراهية الأجانب والعمل على التخلص من المؤسسات السياسية الأمريكية القائمة (1).
كما أن المتابع لأدبيات الحركة الأصولية المسيحية التي انبثقت عنها مثل هذه المليشيات، يلاحظ مدى تقديسها للمادة والعنف وتأليه القوة وفصل الروح عن الطبيعة والشخصية عن الأنا الإنسانية الحقه، حيث أفرزت هذه الاتجاهات المتهودة ثقافة شعبيه تعتبر (العنف فضيلة)، حتى بات الدين المسيحي يفسر لديها ويقدم وكأنه يعظم العنف ويقدسه، وتحولت المسيحية على أيدي هؤلاء إلى تاريخ للحروب تحت شعار (لاهوت العنف الشرعي)، وقد أتاح هذا اللاهوت لهؤلاء أن يعلنوا، أن الله يقف إلى جانبهم، وان الحروب التي خاضتها أمريكا داخلياً وخارجياً هي حرب عادلة وتلبية للإرادة الإلهية، هذا في الوقت الذي يتمحور فيه الإنجيل بكليته حول اللاعنف والمسامحة والمسالمة، فمسخوا حلم المسيحية ألحقه بمصالحة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع الطبيعة والنفس مع العقل. وهكذا تدهورت في ظل هذه الاتجاهات المتهوده القيم الأخلاقية الدينية إلى درجة القول انك تقتل عدوك بمحبة. أنها اتجاهات مشوهة ومغشوشة وخطره وقد آن أوان كشفها وإحباطها (2). وفي دراسة قام بها كريستوفر اليسون و (مارك ميوزيك) (من علماء الاجتماع) نشرت سنة 1993م، لخصا المبادئ الأساسية للعقيدة الأصولية في أربعة مبادئ:
1ـ الكتاب المقدس وحده هاد ومرشد كاف، وبه حلول جميع مشكلات الحياة، ويجب أن يؤخذ بحرفيته لا بتأويلاته.
2ـ الإله شخص هرمي التنزل .. فعال في حياة الناس .. إليه المآب وهو القاضي يوم الحساب.
3ـ الخطيئة البشرية كلية الوجود.
4ـ الخلاص الشخصي هو المخرج الوحيد من اللعنة الأبدية، على يدي الرب العادل المنتقم.
_________
(1) أمريكيا - أزمة ضميرـ محمد جلال عناية ص105 - ط1 2002
(2) الصهيونية المسيحية .. أصولها ونشأتها د. يوسف الحسن - جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 م عدد 8672(3/118)
ويلف هذه المبادئ اعتقاد جازم، بأن نهاية الكون قد أزفت، وان هذه النهاية سيسبقها تجمع اليهود في الأرض المقدسة، وأن معركة كبرى ستقع في موضع بهذه الأرض يسمى (هرمجيدون) بين قوى الخير وقوى الشر، سينتصر فيها المسيحيون الأتقياء وتتم إبادة الكفار الأشرار، ثم ينزل المسيح ليحكم العالم من القدس عصراً ذهبياً، قوامه العدل والسلام يستمر ألف عام. وهناك ما يشبه الإجماع بين كثرة من علماء النفس الاجتماعي والسياسي، أن الأصولية الدينية وامتداداتها في السياسة الأمريكية متمثلة في اليمين المتطرف ترجع في جذورها العميقة إلي أسلوب التنشئة القائم على العقوبات البدنية القاسية، والى العنف وسوء المعاملة التي يتلقاها الأطفال في سنوات العمر الأولى في حياتهم. في هذا المجال يلعب الآباء غير الأسوياء أخطر دور في تشكيل شخصية هؤلاء الأطفال، ولكن التوجيه الديني الأصولي يوفر خلفية ثقافية تستند إليها قيم التنشئة، ونماذج السلوك السائد في تنشئة الأطفال. فالأصوليين البروتستانت عموماً يعتقدون أن ضرب الأطفال ضرورة لازمة لإنقاذ أرواحهم من عذاب جهنم (1).
ومما يؤكد الجذور الدينية لهذه المليشيات، هو أن كثيراً من قادتها هم من رجال الدين المتعصبين، مثل القس (نورمان أولسون)، الذي يترأس أحد جيوش مليشيا ولاية ميتشيجان، كما أننا إذا استعرضتا أسماء هذه المنظمات لطالعنا: (مؤيدو الإنجيل)، (جيش المسيح في إسرائيل)، (كنيسة إسرائيل)، (جمعية عيسى المسيح)، (جمعية الخالق)، (عصبة الدفاع المسيحي)، (زمالة مسيحيي المستقبل) .. الخ. وهذه الأبعاد الدينية في منتهى الخطورة على من يحمل هذه الأفكار المريضة، لأنها تدفعه إلى عمل أي شيء، ظنًا منه أنه على صواب، وأنه ذاهب إلى الخلد. وأهم الميليشيات التي تعتمد على العنصر الديني ميليشيا فرجينيا، التي ينتمي أغلب أعضائها إلى منظمات مسيحية متطرفة، وبعض الوجوه المشهورة دينيًا أعضاء أساسيين في هذه الميليشيا.
_________
(1) جماعة أصولية تسيطر على السياسة الأمريكية / محمد يوسف عدس جريدة الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695(3/119)
الجذور الاجتماعية
ثمة بعداً اجتماعياً لا بد أن يُشار إليه في هذا السياق، وهو يتجلى في ملامح كثيرة أبرزها النظرة إلى (الآخر) بازدراء واحتقار، والرغبة في إبادته (1)؛ فالفكرة الأساسية التي تدعمها هذه الميليشيات بهدف اجتذاب أعضاء لها، هي أن الحكومة ستشن حرباً على الأمريكيين البيض، خصوصاً (الأنجلوساكسون)، الذين يسمون أنفسهم (المسيحيين الحقيقيين)، ويدّعون أن هذه الحرب ستكون لصالح الزنوج والأقليات والمهاجرين والروس والصينيين ... بل ويتمادون في تخيل أن "الحكومة تبيع البلاد لسلطة عالمية تنفذ مؤامرة، هدفها تدمير الرجل الأبيض". ولهذا أخذت هذه المليشيات على عاتقها مهمة الدفاع عن أمريكيا، لأنها تزعم أنها أكثر حرصاً على أمريكا من الحكومة نفسها، التي يرون أنها عميلة خائنة حتى النخاع .. تستحق ما يحدث لها، لأنها تصل في خيانتها إلى حد (إعلان الحرب على الأمريكيين).
كما أن وجهاً آخر من وجوه الدور الاجتماعي لنشأة هذه التيارات، أنها تلجأ ـ أو هكذا تستشعر حقيقةـ إلى تخويف الأمريكان على مستقبلهم وأولادهم ... "إنكم أيها الأمريكيون لا تسيطرون على حياتكم وأطفالكم وبيوتكم، فالحكومة تسحقكم، وتُحكِم سيطرتها على كل شيء ... استعدوا للدفاع عن حريتكم، فيوم قريب سيأتي سيكون الرصاص في نفاسة الذهب والفضة" (2).
وفي سبيل تكريس هذا التصور يعمد كثير من أعضاء هذه الميليشيات إلى الانعزال عن المجتمع، وتكوين مجتمعات صغيرة منعزلة في الضواحي والقرى، وداخل أماكن مغلقة يتناوبون الحراسة عليها، وتضم زوجاتهم وأولادهم، الذين تصدر لهم أوامر واضحة بمقاطعة برامج التليفزيون، لأنه يمثل رمزاً للمجتمع الأمريكي البغيض ... فجيمس جريتز يعيش وسط ولاية إيداهو مع مجموعة من
_________
(1) هذه النظرة إلى الآخر ليست قاصرة على هذه المنظمات الإرهابية، بل إنها جزء أساسي من الثقافة الأمريكية، التي تقوم على القتل والإرهاب واحتقار الآخر وعدم احترام القانون مادام لا يحقق المصالح الأمريكية.
(2) تستخدم الإدارة الأمريكية الحالية نفس الخطاب الغوغائي لإقناع الأمريكيين بالخطر الذي يهددهم من دول مثل العراق وإيران وكوريا وسوريا .. الخ أو ما أطلق عليه الرئيس بوش "محور الشر" وأيضاً من بعض المنظمات الإسلامية، وذلك لتبرير رغبتهم في الحرب والابادة.(3/120)
المسلحين، ويحكمون هذه المدينة ويحرسونها، وهو يقول: "إننا مستعدون تماماً للشرطة الفيدرالية إذا احتكَّت بنا".
وفي هذا الصدد نشير إلى الجماعة المتطرفة التابعة (لتكساس) التي صدرت أوامر وزيرة العدل الأمريكية (رينو) عام 1993م بنزع أسلحتها، ورفضت الجماعة الإذعان، وقرروا الانتحار الجماعي بدلاً من الإذعان للفيدراليين، ولم يُضِع جنود الميليشيات هذه الفرصة هباءً، لكنهم نشروا شريط الانتحار بعنوان (إرهاب كلينتون ورينو)، بل وشنوا عليها حملة إعلامية واسعة النطاق، ادعوا فيها أن (رينو) شاذة جنسية، ولها علاقات مشينة متعددة مما أثر على مستقبلها السياسي.
الجذور الاقتصادية
يرى البعض أن تطبيق (ريجان) لسياسات (مالتون فريدمان) الاقتصادية كان أحد أسباب انتشار هذه الأفكار نظرًا لأن أفكار (مالتون) كانت تركز على إطلاق العنان لقوى السوق وتخفيض الضرائب على الأغنياء، وهو ما أدى لتركز الثورة في أيدي القلة، ففي نهاية الثمانينيات أصبح دخل 5% من الأمريكان يفوق دخل 40% من الشعب، وأصبحت ثروة 1% تفوق ثروة 90% من الأمريكان، وهو ما أدى لثورة هذه القطاعات، وتولد أحقادها على الحكومة الفيدرالية، فهذه الميليشيات ترى أن على الحكومة أن تكف عن فرض الضرائب؛ لأنها (سرقة للمواطن)، وأن الفيدراليين يحاولون حرمانه من الأمن بوضع قيود على السلاح، تمهيداً لإذلاله ونهبه وتجريده من قوته.
ولا يسفر هذا النموذج من الرأسمالية ذات القيم المادية عن شيء إلاّ الجريمة، والجريمة المنظمة، وما شاكلهما. وقد أوردت شركة الإذاعة الوطنية NBC عام 1997م في تقرير لها عن مدينة لوس أنجيلوس، ما يفيد أن أغلبية ال 150 ألفا من أعضاء العصابات المسلحة من المراهقين. ويلقي حوالي 9000 شخصاً سنويا حتفهم علي أيدي تلك العصابات، منهم 25 في المئة من المارّة الأبرياء. وفي ثقافة المادة والنمو الاقتصادي والرغبات المباحة، يغذي هؤلاء المراهقين بالثقافة، التي تشجعهم على العنف وتحرضهم علي الجريمة لأنها تجارة مربحة، فالمال في النظام الانكلوـ ساكسوني الرأسمالي هو المقياس النهائي للنجاح. وقد باعت شركة إنتر ـ سكوب(3/121)
ريكوردز)، التي تتخذ من لوس أنجيلوس مقراً لها والمملوكة جزئياً لشركة سيغرام أكثر من مليون نسخة من ألبوم لفرقة الروك أند رول الشيطانية، الذي يحمل عنوان "نجم المسيح المزيف". وتستمد (مارلين مانسون) صاحبة الألبوم اسمها من المغني الرئيس فيها الذي يتكون اسمه من مقطعين هما (مارلين) و (مانسون)، حيث المقطع الأول يشير إلي (مارلين مونرو) التي أنهت حياتها بالانتحار، بينما يشير الثاني إلى (تشارلز مانسون) السفاح الذي عرف بارتكاب جرائم جماعية. وتقوم كلمات الأغاني في الألبوم علي الجريمة والانتحار واليأس، كما أن كثيراً منها لا يمكن طباعته (1).
أما الجانب السياسي والعسكري، فيأتي هو الآخر في قائمة الأسباب التي أدت لتكون هذه الميليشيات، إذا أخذنا في الاعتبار أن نسبة لا بأس بها من قادتها، ممن لهم مواقف معينة من سياسات أمريكا، خاصة فيما يخص تدخل جيشها في العالم الخارجي، سواء في فيتنام أم العراق وكوسوفا، ومن أشهر هؤلاء كولونيل جيمس جريتز، وهو من فرقة (القبعات الخضراء)، التي اشتركت في فيتنام، وأعمق من ذلك أنهم يجدون لأنفسهم عمقاً تاريخياً؛ فهم يرون أنهم امتداد للمنظمات المسلحة، التي حاربت الاستعمار البريطاني منذ 200 عام تقريبًا، وقاتلت الهنود الحمر حتى توسعت أمريكا إلى المحيط الهادي. والأخطر من هذه وتلك أن يجدوا سياسيين يلتقون معهم في أفكارهم المتطرفة؛ (فنيوت جينجرتش)، الذي يوصف بـ (الجمهوري المتطرف) يقول في أحد برامجه الانتخابية - وذلك في تصريح للتايم: إن واشنطن مكان بشع ويجب أن يُنسف بالديناميت، وإننا نملك الثقاب ومستعدون لإشعال الفتيل ونسف الكونجرس!!!.
ولا يتصور أن تنبت هذه الأفكار المهووسة من فراغ، لكنها تحتاج إلى تربة خصبة ـربما يكون (جينجرتش) أحد النبت الزاهر فيهاـ، لكن الأكيد أنه ليس إلا نبتاً خبيثاً. ولكن من هذه التربة نستطيع قياس مدى اشتعال قلبها بالأفكار المجنونة إذا علمنا أن الـ (سي إن إن) والتايم قد نظمتا استطلاع رأي بعد 9 أيام من انفجار أوكلاهوما 1995م فكانت النتائج تعبر عن (البارانويا)، التي تنتشر بين نسبة كبيرة من الأمريكيين المشاركين في الاستطلاع، ففي حين أيَّد 36% فقط تفكيك
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م(3/122)
الميليشيات، فإن 21% وصفها بأنها وطنية تماماً، و30% بأنها حسنة النية، ودافع 27% عن حق الميليشيات في اقتناء السلاح وتخزينه. وقد تكتمل الصورة إذا علمنا أن كلينتون في حديث له مع التليفزيون الأمريكي في خضم الغضب، الذي ساد الشارع الأمريكي عقيب تفجيرات أوكلاهوما لم يجرؤ على إدانة هذه الميليشيات، وإنما أثبت حقهم في ارتداء أزياء عسكرية وتكوين ميليشيات وحمل السلاح، لكنه فقط طالب باستعطاف هذه الميليشيات ألا تتصدى للسلطات حين تطبق القانون!!. ورغم أن كلينتون نفسه كان قد أحس خطر هذه الأفكار حين كان حاكماً لولاية (أركنسو)، وحاول حظر تكوينها، إلا أنه وُوجه بمقاومة شديدة من المجلس التشريعي للولاية والأهالي فأعلن تراجعه.
إذن الأمر ليس ميليشيات بعينها ولا فئات أو شراذم، لكنه يقترب من أن يكون تياراً أصيلاً داخل المجتمع الأمريكي يستشعر خطراً غامضاً، ويبحث عن عدو، ويحاول أن ينطح الصخور، فيُدمي قرنه الوعل!. وقد عرض (روجيه جارودى) في كتابه (أمريكيا طليعة الانحطاط) لموعظة ساخرة اقترحها كتاب (مليفان) حول (تكلفة التنمية) سماها (موعظة طاحونة الشيطان) حاول خلالها توضيح العلاقة بين تطور الاقتصاد، وتطور الإنسان في ظل النظام الأمريكي، والذي افرز ما يمكن أن نسميه ثقافة العنف. فالعنف في المجتمع الأمريكي يفوق مثيله في المجتمعات الأخرى, فوفقا للإحصائيات الأخيرة فقد كان هناك أكثر من مئتي مليون قطعة سلاح موزعة بين أيدي المدنيين في الولايات المتحدة أي ما يوازي قطعة سلاح لكل مواطن أمريكي وقد فاق عدد متاجر بيع الأسلحة المئة ألف, كل هذا وغيره من الأدلة التي ساقها الكاتب تدل من وجهة نظره على مدى النزعة العنفية لدى الأميركيين (1).
وفي سياق تناوله بدأ الكاتب استعراض الموضوع منذ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية وأول أبناء العم سام "كريستوفر كولومبس" والذي بمجرد أن وطأت قدماه أرض الهنود الحمر - والتي عرفت بأمريكا فيما بعد - أخذ يكتب في مذكراته عن مدى تخلف هؤلاء القوم وعدم معرفتهم بأي نوع للأسلحة سوى العصي والحراب, ثم
_________
(1) حضارة الدم وحصادها .. فصول من تاريخ الإرهاب الأمريكي- د. نزار بشير - الزهراء للإعلام العربي - القاهرة - طبعة أولى - 2003 - العرب اليوم 2005 - 11 - 19(3/123)
كتب كولومبس"أستطيع أن استولي على كل هذه الأراضي بخمسين فقط من رجالي وأن أحكمها كيفما أشاء".
ولم يفت كولومبس أيضا أن يصف مدى الكرم الذي لاقاه من جانب هؤلاء القوم الذين لم يضنوا عليه وعلى من معه بأي شيء من المتاع الذي كانوا يملكونه. ولكن كيف يرد كولومبس لهم المعروف? أخذ يقتل ويعذب فيهم هو ومن معه بغية إبادتهم والاستيلاء على أرضهم (1).
موعظة طاحونة الشيطان
في أحد البلاد "المتقدمة جداً" سارت الحكومة في اتجاه اليمين، وتمشياً مع الحرية الشخصية، سمح للأفراد بحق حمل السلاح، وشهدت صناعة الأسلحة الخاصة رخاء غير مسبوق، وتنافس المنتجون في السوق الحرة بخيال وإعلانات هائلة تنشر وتوزع عدد غير معروف ولا نهاية له من المسدسات والمتروليوزات والبندقيات الآلي منها واليدوي، من الطراز الفاخر، حتى الطراز الشعبي، الذي يمكن أن يكون في متناول الجميع. ومن الأسلحة كاتمة الصوت، حتى الأسلحة المسماة بـ "الرادعة"، والتي يفضي الانفجار الذي تسببه إلى سحق المعتدي المحتمل دون تعيين هدف خاص.
إن حرية الاختيار أمام المستهلك مؤمنة. وأصبحت السوق فعلياً غير محدودة، لأن العصبية التي تسببها ضغوط العمل، والزحام في المدينة ومعارضة " القيم المقدسة " عبر الإثارة الإباحية أو المادية، جعلت الرجال حتى المسالمين منهم ـ بل النساء ـ حتى الأقل جمالاً وغير المرغوب فيهن - جعلتهم كلهم يحملون على الأقل سلاحاً أو سلاحين ناريين، والعديد من الذخائر وفضلاً عن ذلك، وصل ارتفاع "مستوى المعيشة" إلى أعلى معدلاته بفضل التوسع الملازم لهذه الإثارة الاقتصادية. وسمحت لكل فرد بشراء العديد من الأسلحة. لقد مضى عصر الندرة والبؤس الآدمي.
_________
(1) حضارة الدم وحصادها .. فصول من تاريخ الإرهاب الأمريكي- د. نزار بشير - الزهراء للإعلام العربي - القاهرة - طبعة أولى - 2003 - العرب اليوم 2005 - 11 - 19(3/124)
لقد ولدت صناعات جديدة، وهي تؤكد هذه الديناميكية الحيوية الرائدة، ومنها: صناعة السترات الواقية من الرصاص، الخوذ، أحذية ذات شبك معدني، أقنعة واقية من الغاز، هياكل سيارات مصفحة، زجاج مضاد للرصاص، وشراعات من الصلب للمنازل. "الطفرة" في صناعة الحديد، هي مؤشر صحة الاقتصاد القومي. لقد انفجرت روح المبادرة عند المعلنين عن الصناعات، وظهرت قيم الشركات الخاصة، دليلاً للفكر الثاقب للحكام. تلك الغبطة وهذا السرور اللذان أحدثهما هذا الرخاء أنهيا كل الأحزان. كما استقبلت كل فروع النشاط القومي نبضات منعشة: إنه العصر الذهبي لشركات التأمين وللعيادات الخاصة، والمعامل الدوائية التي تلبي ـ بالكاد ـ طلبات المهدئات التي لا تنتهي. إنها سوق مضمونة، فالعروض لا تنتهي للشباب حتى للخاملين فيهم، إذ لهم فرصة عظيمة بل مضمونة لإيجاد أعمال مربحة وبنزاهة، ولا تتطلب سوى معرفة سطحية لبعض الأشياء، ككيفية نقل الموتى أو جمع المصابين.
يتم نقاش الميزانية، لهذا الاقتصاد المتنامي، حسب منطق "رد الفعل" الذي أخرج العلوم المستفيدة من "نتائج" التسليح الخاص غير المباشرة: فالاستهلاك العالي للحديد وما تنتجه المناجم، وجه الاقتصاد إلى البحث والاستكشاف في المواد المركبة الأشد صلابة والأكثر مقاومة، من أجل صناعة الدروع، مما أنتج تقدماً هائلاً في صناعة المقذوفات. وكما قال أحد أبرز خطبائنا البرلمانيين في هذه المناسبة: إن بوابة التقدم انفتحت إلى ما لا نهاية. كما استشرف الطب والطب النفسي والجراحة، آفاقاً عظيمة واستعراضية عبر شفائهم لأمراض مجهولة وجديدة: لقد عبروا بر الأمان بالدروع المحكمة، التي غيرت مفهوم التغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية، وذلك التغيير الخاص بالسلاح، شجع على استكشافات في مناخ الاضطراب والعدوانية، مما سيؤثر في مستقبل علم النفس.
يا له من تغيير في الثقافة، وبخاصة في العلوم الإنسانية، لقد انفتح علم الاجتماع الإيجابي أمام ذلك، لاستخدام وسائل وقواعد جديدة بلا نهاية، لأنها تلعب دوراً محركاً ورائداً في وصل العلوم المتعددة، ووسائل البحث المتباينة "المسدسية"، وعلماء الإحصاء أتقنوا تكنيك الحساب العاقل الرزين، كما استطاعوا أن يحسبوا تاريخ اليوم، الذي سيصل فيه حجم ووزن الأسلحة إلى التساوي مع حجم الأرض. لقد حسب أحد العلماء البارزين السابقين أنه في عام حدده بعد بضع سنين. لن تترك(3/125)
زيادة السكان لأي فرد أكثر من متر مربع واحد في الكون. أما اليوم فقد اختلف الأمر تماماً، وانقلبت الآية، وظهر "قانون اللوغاريتمات" للإبادة، والذي سمح بالتنبؤ باليوم الذي سيكون في مجال النظر للرجل الأخير في العالم، قلب جاره، وسيتمكن من إطلاق الرصاص القاتل عليه. من هذا المنظور العلمي أصبحت "المستقبلية" الإيجابية للمسدساتية ملكة العلوم، وتمتاز بالشدة والصرامة والدقة، كالفيزياء أو علم الصوتيات اللغوية.
"مؤسسة راند" ومنافسوها، ممن يمتازون بخبرة كبيرة في "نظريية الألعاب" الإستراتيجية، يلعبون دورهم الرائد كمستشارين وأنبياء لدى كبار مديري صناعة الموت. لقد توصل أحد باحثينا ـ وربما يكون أحد أعظم عباقرة قرننا هذا، لما يمتاز به من بعد نظر ـ إلى اقتراح جديد يغير أسلوب العمارة والإنماء، والفن بصفة عامة، لكي يتناغم مع عصر "المسدساتية": شوارع منحنية لتخفيض مرمى التراشق بالرصاص. ومن هنا قامت "الثورة" في عالم الأشكال، والتي نهضت على تلك الضرورة الأساسية. هكذا، بفضل الالتصاق الداخلي للنظام، الذي ميز كل الحضارات الكبرى في ذروتها، بزغت ثقافة مبدعة جديدة، كلاسيكية جديدة ستزدهر وذكرت الحكومة بزهو شرعي وبافتخار بالآفاق، كل مرة يتم فيها تقييم للتوسع، الذي شجعت عليه: معدل نمو أعلى من أي دولة أو بلد آخر، مصحوب بكل نتائجه: عملة قوية، والعمل للجميع، وميزان المدفوعات رائع بكل المقاييس ورابح، والغزو للأسواق الأخرى لا ينتهي من أجل تصدير السلاح، لأن الإشباع الداخلي لمنتجاتنا "المسدساتية" النارية جعلت أسعارنا منافسة للغاية.
قد تضاعف الناتج القومي الصافي للفرد، في عشر سنوات. وتبرز كل المؤشرات صحة وقوة الاقتصاد وتوحده. لقد تم استكمال كل أحلام الاقتصاد والتنمية، ويمكننا بكل عدالة أن نطالب بحقنا في الهيمنة العالمية ليس فقط بفضل ثرائنا وقوتنا، ولكن بفضل حكمتنا (1).
_________
(1) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى - تقديم كامل زهيري- تعريب عمرو زهيري - ص 245ـ 249 - دار الشروق- ط3 2002(3/126)
تيموتى مكفاي نموذجاً! (1)
"لا أخاف الموت فإن كانت هناك حياة بعد الموت فسأجد ما أقوله وأتأقلم وأتغلب على الأمر .. تماما كما علمتني العسكرية، وإن ذهبت إلى الجحيم فسيكون برفقتي الكثيرون" .. (تيموثي جيمس مكفاي).
في 19 إبريل 1995م، وصباح يوم مشمس في مدينة أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية، دخلت شاحنة صفراء إلى جراج المبنى الفيدرالي (ألفريد بي موراه). وفي تمام الساعة التاسعة صباحا غادر السائق الشاحنة، وفي التاسعة ودقيقتين انفجرت الشاحنة مفجّرة المبنى الفيدرالي معها. بعد الحادث توجهت الاتهامات المعلّنة للإرهابيين من المسلمين والعرب، واتجهت جهات البحث والتحقيق كلها في هذا الاتجاه، حيث كانت الهتافات من قبل السياسيين والمحللين والإعلام تعلو مطالبة بإخراج (السرطان) الإسلامي من أمريكا.
وبينما كل ذلك يحدث كان هناك خط آخر من الحقيقة يتكون دون أن يدركه أحد، فبعد مضي حوالي ساعة ونصف من الانفجار، كان تيموثي مكفاي البالغ من العمر 27 عاماً يقود سيارته على بعد 75 ميلاً من الحادث، حين أوقفه شرطي لاحظ أن السيارة التي يستقلها ليس عليها لوحة أرقام معدنية، وعند سؤاله عن ذلك قال مكفاي: إن السيارة جديدة ولم ترخص، وسلّم رخصته الشخصية. عندها لاحظ الشرطي انتفاخاً بسترة مكفاي ففتشه ليجد معه مسدساً، فاقتاده إلى قسم الشرطة، وبعد التحري وجد أن ملف مكفاي نظيف تماماً، إلا أنهم أعلموه أن رخصة السلاح في نيويورك لا يعتد بها في أوكلاهوما. كان من المفترض أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، إلا أن القاضي الذي كان من شأنه النظر في القضية كان مشغولاً في قضية طلاق شائكة لن ينتهي منها قبل 21 مايو، وهكذا دخل مكفاي السجن لأول مرة في حياته.
كانت الأحداث تتوالى خارج سجن مكفاي؛ حيث تمكنت الشرطة من التعرف علي شركة التأجير صاحبة السيارة، وتوجه المسئولون من مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى شركة تأجير السيارات المذكورة، وبعد أخذ المواصفات وتمريرها على الفنادق الصغيرة تمكنوا من الوصول لمرتكب الحادث، وحين وصلت صورته وبياناته
_________
(1) لبنى سعيد: 27/ 9/2001 م موقع إسلام أون لاين(3/127)
إلى قسم الشرطة، تعرف عليه المسئولون، مفيدين أنه مسجون عندهم بالفعل لكن في تهم مختلفة!!
من هو مكفاي
ولد مكفاي في 23 إبريل 1968م، وكان الابن الأوسط بين ابنتين لأسرة مسيحية في بلدة بندلتون الريفية، في ولاية نيويورك. عمل والده (بيل) في معمل لأجهزة تبريد المحركات تابع لشركة (جنرال موتورز)، إلا أن (إيدي) الجد كان صاحب التأثير الأقوى على الطفل (تيموثي)، فهو من علّمه الصيد وعرّفه على البنادق، واشترى له أول بندقية عيار 0.22 عندما كان تيموثي في الثالثة عشرة من عمره. أما والدته (ميكي) فبعد تمزق بين العائلة ومتعتها الشخصية تركت البيت وهو في أوائل سن المراهقة، آخذة معها ابنتيها، بينما فضّل تيموثي البقاء مع أبيه وجده. وفي عام 1986م، تم الطلاق رسمياً بين أمه وأبيه، وكان هذا هو نفس عام تخرجه في المدرسة الثانوية بمرتبة الشرف، حيث أثبت مكفاي جدارة كبيرة في الدراسة، كما اكتسب تقدير المحيطين في الحي والمدرسة، حتى أن مُدرسة اللغة الأسبانية بمدرسته تقول: (لن تجد أحداً قط يذكره بسوء).
بعد تخرجه في المدرسة عمل مكفاي بـ (برجر كينج)، وزاد اهتمامه بالبنادق والرشاشات والقوانين الخاصة بالتجارة فيها، إلا أنه تحت ضغط والده التحق بالجامعة، وما لبث أن تركها وعاد لعمله بعد أن أجبروه على دراسة الفنون الليبرالية (سينماـ مسرح ... )، وهو يدرس علوم الكمبيوتر. استمر مكفاي في التدريب على أسلحته الخاصة، واشترى قطعة أرض ليسكن بها ليتمكن من التدريب بحرية، وكان قد بدأ في قراءة المجلات، التي تصدرها الميليشيات اليمينية حين انضم إلى الجيش الأمريكي لتحسين قدراته على استخدام السلاح، ويقول زملاؤه في الجيش: إنه كان جنديا مثالياً، فبالإضافة إلى التهذيب العالي والفعالية تميز مكفاي بالاهتمام بتنظيف مسدساته وبنادقه كما تميز بالطاعة والشجاعة.
وجاءت حرب الخليج عام 1991م وشارك فيها مكفاي، وكانت نقطة فاصلة بالنسبة له .. حيث تبادر إلى ذهنه العديد من التساؤلات، ففكر مكفاي في القوة التي(3/128)
تتمتع بها الولايات المتحدة مقارنة بعامة الناس في بغداد وقتلها لهم بلا مبالاة، وجاءه الرد بأن حكومة بغداد ـ رغم أن الولايات المتحدة هي التي دعمتها في حربها ضد إيران ـ تمثل الآن (تهديداً للأمن)، وأن الضحايا من البشر هم (خسائر لا بد منها). وتحول حب مكفاي للرصاص إلى رغبة عارمة في القتال حتى جاءت عاصفة الصحراء عام 1992م، ونال مكفاي ميدالية المشاة والنجمة البرونزية لقتله قائد دبابة عراقية على بعد أكثر من 1.6 كيلومتر، ولبراعته في القتال. وبعد رجوعه إلى أمريكا حاول مكفاي أن يلتحق بما يعرف في الجيش الأمريكي بـ (القبعات الخضر)، وهي قوات خاصة داخل الجيش، إلا أنه لم يتمكن من اجتياز الاختبار الخاص بها بعدما أرهقته حرب الخليج. على أثر ذلك ترك مكفاي الجيش وداخله سخط ما عليه، وعمل بتجارة السلاح، وزاد اهتمامه بالميليشيات وكتبها، وكان كتابه المفضل رواية (يوميات تورنر) للكاتب النازي (ويليام بيرسن)، وهي تتحدث عن رجل أشعل ثورة في الولايات المتحدة وفجّر مبنى الـ (إف بي آي) في واشنطن، أما فيلمه المفضل فكان (الفجر الأحمر) الذي لعب بطولته (باتريك سوايزي) في عام 1984م، ويدور حول مجموعة شباب تحولوا إلى محاربين عندما غزا جيش أجنبي أمريكا.
وفي عام 1993م حاصرت الشرطة الفيدرالية مركزاً لأتباع المذهب الداودي المسيحي الأصولي المتعاطف مع الميليشيات في بلدة (واكو) في تكساس، واشتعلت النار بعدما حاولت الشرطة تفريق المجتمعين من خلال إلقاء عدد كبير من قنابل الغاز المسيل للدموع، وهو ما أدى إلى موت 82 شخصاً، بينهم 21 ولداً، وكان مكفاي بين الناس الذين شاهدوا العملية من خارج الطوق الذي نصبته الشرطة، وشعر فيها بأنه يجب إشعار الحكومة بأن هناك حدوداً لاستغلال السلطة، وفي الذكرى الثانية للحادث في تكساس نفذ مكفاي عملية التفجير في أوكلاهوما، حيث أعرب (بروس هوفمان) ـ الخبير في قضايا الإرهاب ـ في الشهر ذاته أن انفجار أوكلاهوما كان من المفترض له أن يكون شرارة للثورة المرتقبة، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، لذلك يعمد المعادون للحكومة المركزية اليوم إلى الاكتفاء بعدم دفع الضرائب أو تسجيل المركبات ... بدل اللجوء إلى حمل السلاح.(3/129)
التفجيرات
تفجرت شاحنة مكفاي داخل المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما، وكانت تحتوي على 2.2 طن من المتفجرات المصنوعة يدوياً، حيث استدعى خبراء الإرهاب ليحللوا أسباب ذلك الحادث المروع، وانطلقت الأسئلة في طول الولايات المتحدة وعرضها: من فعلها؟ وأخذت أصابع الاتهام تتجه بالإشارة إلى العرب والمسلمين في غيبة العقل والضمير، ودون دليل، وعاش الأمريكيون من أصول عربية ظروفاً عصيبة، ولكن سرعان ما أخرست الحقائق الاتهامات الباطلة والانفعالات الهوجاء التي حركها الحقد والتعصب الأعمى عندما ألقى القبض على جنديين سابقين شاركا في حرب الخليج. لقد أصيب الأمريكيون بصدمة شديدة عندما عرفوا أن الذي فعلها كان من الأمريكيين أنفسهم، وانطلقت أسئلتهم في ذهول: هل يعقل أن يستهدف الأمريكيون مواطنيهم الأمريكيين؟ ما الذي يدفع شخصاً ما لقتل العزل من الرجال والنساء والأطفال؟ لماذا يرتكبان هذه الجريمة النكراء بحق الإنسانية؟ وكانت الإجابات على هذه الأسئلة تخرج مضطربة فلقد كان أسهل على الأمريكيين استيعاب هذه الحادثة، والتعامل مع نتائجها لو أن الآخرين هم الذين فعلوها (1).
أما ماذا فجرت الشاحنة فالكثير .. ونذكر منه:
1. المبنى الفيدرالي، وهو ما أسفر عن مقتل 168 شخصاً، بينهم 19 طفلاً كانوا في روضة أطفال داخل المبنى، إضافة إلى ما يزيد عن 500 جريح، هذا إلى جانب تفجير أحلام المئات من الأقارب والأصدقاء وآمالهم وتوليد حزن داخل قلوب الملايين.
2. براءة أمريكا، كما أشار الكاتب الأمريكي (تيد آوتلي)، موضحاً أن الجميع كان يبحث عن مجرم من خارج الحي ليكتشف أن المسئول عن الحادث ابن الجيران الذي يسكن في الجوار، وأنه بينما كان ينظر الجميع بريبه لذوي البشرة الملونة والشعر الداكن .. ظهر مكفاي ليجدوا أنه ليس سوى شخص يحمل ملامحهم، وهكذا فقدت أمريكا براءتها مع تفجيرات الشاحنة الصفراء، واكتشف الأمريكيون أن المتهم ـ الذي كانوا يبحثون عنه في الخارج، مرجّحين أن تكون ملامحه عربية ـ من بني
_________
(1) أمريكيا - أزمة ضميرـ محمد جلال عناية ص103(3/130)
جلدتهم، وموجود، بينهم ويتحدث لغتهم، وله ملامحهم نفسها، ويلف نفسه بالعلم الأمريكي ويقدّس الدستور ذاته.
3. قضية الميليشيات الأمريكية، حيث أظهر الحادث خطر الميليشيات المعادية للحكومة المركزية، والذي بلغ عددها قبل الحادث 858 ميليشيا علنية، أما جذورها فتوجد في الكنائس المسيحية الأصولية واليمينية المتطرفة التي بدأت بالظهور في الولايات المتحدة في أربعينيات القرن العشرين. إلا أن الحكومة الأمريكية لما لم يلحق حادث أوكلاهوما حوادث أخرى مماثلة، أعلنت في إبريل 2001م أن الميليشيات ـ بإعدام مكفاي ـ لفظت أنفاسها الأخيرة.
4. قضية العرب والمسلمين داخل أمريكا .. أرض الحريات والمساواة، ونذكر هنا ما كتبته (راي حنانيا) في إبريل 2001م وهي أمريكية عربية ـ من أن الجميع بإعدام مكفاي نالوا حظهم من العدالة كل بطريقته الخاصة: الأمة التي صُدمت بأسوأ حادث إرهابي في تاريخها، شعب أوكلاهما، أقارب وأصدقاء الضحايا، الحكومة الأمريكية التي كانت هدف مكفاي، وحتى مكفاي الذي تمكن من توضيح دوافعه لارتكاب الحادث على الصفحات الأولى من كل وسائل الإعلام الأمريكي .. أما الفئة الوحيدة التي تُركت بعيدا عن عملية تضميد الجروح هذه فهم الأمريكان العرب، الذين كانوا الأهداف الأولى للغضب الأمريكي بعد الحادث. وأضافت أن المصادفة وحدها هي التي قادتهم إلى مكفاي، بل إنه وحتى بعد القبض عليه استمروا في البحث عن تورطه مع ما سموه الجهات العربية المتطرفة .. وختمت حنانيا كلامها بأنه يتعين على أحد الاعتذار للعرب الأمريكان كذلك!
ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وهنا يتساءل (بول فندلي) في كتابه "لا سكوت بعد اليوم" عن مغزى الحادث بالنسبة للمسلمين فيقول: لو لم يعتقل ماكفاى لاستمر "امرسون" وغيره، ممن ينتحلون لقب خبراء الإرهاب، بتوزيع مقولاتهم المعادية للمسلمين، على محرري نشرات الأخبار لاستمرت الأمة تستجيب للشائعات الكاذبة، ولبقيت "بنية الإرهابيين التحتية العاملة في البلاد والتي سبق لامرسون منذ البداية إلصاق نشاطها بالمسلمين، تحتل الصدارة بين عناوين الأخبار، ولكان الأمريكيون الخائفين ابقوا المسلمين في دائرة الشك، باعتبارهم الأنذال الذين ارتكبوا مجزرة اوكلاهوما سيتى المروعة. وكان يمكن للآلاف المؤلفة من المواطنين الأبرياء أن(3/131)
يجدوا أنفسهم في موقف المرتعد اليائس، الذي يحاول دفاعاً، فلا يستطيع. وأمام هذا الواقع، ونزولاً عند إلحاح الجماهير المرتاعة، كان يمكن للكونغرس، أن يسن قانوناً أوسع واخطر من قانون مكافحة الإرهاب (1).
اللحظات الأخيرة
كان من المقرر أن يُعدم مكفاي في مايو 2001م، إلا أن مكتب التحقيقات الفيدرالية اعترف أن هناك وثائق تخص القضية لم يطلع عليها محامو مكفاي وقت المحكمة عام 1997م، وهكذا، تقرر تأجيل حكم الإعدام شهراً آخر ليطّلع المحامون على 4000 وثيقة خاصة بالقضية، وإن أكد وزير الدفاع الأمريكي (أشكورفت) أن الوثائق المكتشفة ليس بها ما يفيد مكفاي، الذي اعترف بمسئوليته عن الحادث. وبالفعل لم يتغير الحكم بعد انقضاء الشهر، وتم إعداد العدة لإعدام مكفاي. وتواجد حوالي 300 شخص، منهم 232 من الناجين وأسر الضحايا، لمشاهدة مكفاي عبر شاشات الفيديو، وهو مقيد في كرسي الإعدام، وتمّ حقنه إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وبعد الحادثة بأكثر من ثلاث سنوات، ذكرت إحدى الصحف اليومية أن القاضي (ريتشارد ماتش) الذي نظر في قضية التفجير قد أصدر يوم الخميس 28 مايو 1998م حكماً بالسجن مدى الحياة على تيري نيولز المتهم الثاني في حادثة التفجير، ووصف (نيكولز) بأنه عدو للدستور، وقال القاضي (ماتش): إن المؤامرة كانت أكبر من عمل عنف مدبر ضد العاملين في مبنى (الفريد موراة الحكومي الفيدرالي)، إنها لم تكن جريمة موجهة ضدهم بقدر ما كانت جريمة ضد دستور الولايات المتحدة، الدستور هو الضحية.
لقد ذاع بين الناس إثر انفجار أوكلاهما أن (ماكفي) و (نيكولز) ناشطان في الحركة القومية، وهي حركة شبه سرية تضم أشخاصاً ينتمون إلى قطاعات عريضة من المجتمع. ويضم الجانب المعتدل من الحركة مسيحيين محافظين، يشعرون بالاستياء من الطريقة التي تسير بها السياسة الأمريكية، ويركز هؤلاء المعتدلون
_________
(1) لا سكوت بعد ـ اليوم ـ بول فيندلى ـ ص98(3/132)
جهودهم على تغيير الحكومة بالأساليب السياسية، أما الجماعات الأمريكية الأكثر تطرفاً والتي تضم مسيحيين وغير مسيحيين، فهم ممن يرفضون جنسيتهم الأمريكية ويقودون سياراتهم دون رخصة قيادة، لأنهم يستنكفون عن استخراج هذه الرخص من دوائر الحكومة ويرفضون دفع الضرائب ليؤكدوا أنهم يعيشون خارج النظام القائم (1).
وعن اللحظات الأخيرة نذكر أقوال من رأى ومن سمع:
الرئيس الأمريكي جورج بوش: "ضحايا التفجير لم يأخذوا الثأر فقط بل العدل. لقد قابل هذا الشاب اليوم المصير، الذي اختاره لنفسه منذ ست سنوات ... على مكفاي أن يكون شاكراً، لأنه في بلد نزيه مثل هذا. لقد تأجل إعدامه شهراً لظهور وثائق جديدة رغم أنها لن تغير من الأمر شيئاً .. لكنه العدل".
مشاهدو الإعدام من أقارب الضحايا: "لقد تُوفي مفتوح العينين ... لقد رفع رقبته للنظر إلى الشهود واحدا تلو الآخر ... لقد حدق إلينا بنفس الطريقة التي تجعلني أشعر بأنه حصل على ما يريد. كنت أعتقد أنه خائف فعلاً، وأنه شرير حقاً ... أعتقد أنني رأيت وجه الشر اليوم".
تيموثي مكفاي: "كنت أتمنى لو أنني قمت بسلسلة من الاغتيالات لعدد من رجال الشرطة ومسئولين في الحكومة الأمريكية بدلاً من قيامي بعملية التفجير ... عندما تُدمي أنف زميلك ويعلم أنه سيُلْكم مرة أخرى فلن يعاود مضايقتك .... إنني أشعر بالأسف الشديد لموت هؤلاء الأشخاص، إلا أنه كان على الحكومة الأمريكية أن تعرف تماماً مغبة العبث بالأرواح البشرية .. ما فعلته كان أمراً ضرورياً للدفاع عن حرية المواطن الأمريكي، وفي نفس الوقت انتقاماً للكارثة، التي تسببت بها السلطات الفيدرالية .... أنا لا أخشى الموت وآمل أن يتم تذكري كمقاتل للحرية مثل (جون براون) ... أريد إخفاء بقايا جثتي في مكان سري؛ وذلك بعد إحراقها في مراسم مقصورة على عدد من أفراد عائلتي ... موت الأطفال كان خسارة لا بد منها ... كنت أدرك قبل تنفيذ العملية حجم الخسائر البشرية ... لو لم يكن ما حدث في (واكو) قد
_________
(1) أمريكيا - أزمة ضميرـ محمد جلال عناية ص104(3/133)
حدث لكنت قد استقررت في مكان، أو لما كنت قد تزعزعت بهذه الصورة؛ بسبب حقيقة أن حكومتي .. هي تهديد لي".
وصية مكفاي لم تكن سوى قصيدة للشاعر النازي (ويليام أرنست هنلي) كُتبت عام 1875م بعنوان: (الذي لا يُقهر) تقول أبياتها: من الظلام الذي يغطيني أسود كالحفر العميقة بين عمودين ...
أشكر أية آلهة كانت لروحي التي لا تُقهر ...
تحت وطأة الواقع القابضة لم أجفل أو أصرخ ...
تحت مطرقة الأقدار رأسي ينزف، لكن غير محني ...
بعد عالم الغضب والأحزان هذا ...
هناك أطياف ليس بينها طيف الخوف، وتهديد السنوات يجدني وسيجدني غير خائف ...
لا يهم مدى ضيق الباب ...
مدى حفّة الدرج بالعقوبات ...
أنا سيد مصيري ..
أنا مالك روحي.(3/134)
الفصل الرابع
الكابوس الأمريكي
بعد هذا التحديد والإيضاح لتاريخ الولايات المتحدة منذ افتراس وذبح سكان شبه القارة الأصليين, وإلى أيامنا هذه، يجب تقييم ما يسمى بـ (الديمقراطية الأمريكية) والعمل على إزالة الأوهام, واكتشاف أوهام وأكاذيب الحرية التي تزعم أمريكا أنها الحامية الأولى لها في كل مكان في العالم، بل يجب تقييم التجربة الأمريكية برمتها، أو ما يحلو لقادة أمريكا بتسميتها بالحلم الأمريكي. فهذا الحلم تحول إلى كابوس مرعب ليس للعالم, بل لبعض الأمريكيين أنفسهم، الذين لم يحتملوا جنوح بلادهم إلى حافة الهاوية والانحطاط. "فمادية المجتمع الأمريكي وعسكريتاريته, كما يقول (رو برت دول) في كتابه (الكابوس الأمريكي)، تدعوان إلى القرف اليوم أكثر من الأمس". ولهذا فقد قرر أن يكتب كتابه الجديد بلغة (مولبير) الفرنسية, وليس بلغة شكسبير، ليكشف عن انتمائه الطوعي الجديد، هذا بالرغم من أنه يجيد سبع لغات ويكتب بها جميعاً. وهو لن يجرؤ على ترجمة كتابه إلى الإنجليزية لأنه يخاف من ردة فعل اليمين الأمريكي المتطرف، ويعرب عن سروره لان تعلم اللغات الأجنبية لا يشكل جزءاً من عادات وتقاليد هؤلاء الفاشيين الأمريكيين.
يقول (روبرت دول): "إن العقلية الأمريكية هي انعكاس لبيوريتارية القرن السابع عشر الميلادي، حيث يرى أن هناك أربع آثار للبيوريتارية تبدو واضحة اليوم في السلوك الأمريكي المعاصر, وهى: الفردانية المتوحشة - الاعتقاد بأنهم شعب الله المختار على الأرض - الفظاظة المتأسسة, وتقليد الاعتراف العلني". وبالرغم من أن دول هو كاتب أمريكي بيوريتانى من حركة المتطهرين الأمريكية، إلا أنه مع ذلك لم يستطع العيش في ظل القيم المادية التي تحكم المجتمع الأمريكي، ولهذا اختار كندا منفى نهائياً له منذ عام 1977م. حيث يقول: "إن هربه إلى الخارج ليس خيانة لبلده وأسرته، بل كان بحثاً عن السلام الداخلي لانه لم يستطع إيجاد أرضية مشتركة بين قيمه الشخصية، وقيم المجتمع الأمريكي في نهاية القرن العشرين. ولأنه يحب وطنه كثيراً فإنه يأبى مشاهدته وهو يسير مسرعاً في طريق الانحطاط".(3/135)
ولهذا يدعو (روبرت دول) إلى عدم تكرار التجربة الأمريكية أو الاقتداء بها في أي مكان في العالم (1).
وإذا كان هذا هو رأي كاتب أمريكي عاش في صميم المجتمع الأمريكي، ولاحظ عوامل انحطاطه وتحوله إلى كابوس رهيب يهدد الشعب الأمريكي نفسه، بنفس الدرجة التي يهدد بها العالم، فإننا سنستغرب ما يقوله (جورج سورس) الملياردير الأميركي ذو الأصول الأوروبية الشرقية الذي يفاجئنا في كل مرة يكتب فيها، فهو وإن كان مديناً بامتياز للعولمة التي جمع من خلالها ثروته الهائلة، فقد كتب بشراسة ضدها وضد إنفلاتاتها وآثارها على الدول النامية في كتابه عن العولمة. وإن كانت أمواله قد طافت الأسواق المالية في العالم أجمع فتضاعفت عبر الطواف ذاك, وخاصة في أسواق شرق آسيا، واتهم بأنه كان وراء انهيار بعضها، فقد كتب بضراوة ضد هشاشة النظام المالي العالمي, ودعا إلى ضبطه ومراقبته في كتابه عن إصلاح النظام المالي المعولم. والآن وهو الذي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة بلد الفرص والأحلام، وحقق فيها ربما ما لم يحلم به أصلاً، فإنه يكتب بلا هوادة ضد نظامها الداخلي وسياستها الخارجية، ويحمل حملة شعواء على يمينها المحافظ الحاكم اليوم، ويشرح أوجه الخراب التي ألحقتها إدارة بوش الجمهورية بالولايات المتحدة داخلياً وخارجياً. http://www.aljazeera.net/books/2004/3/ - TOP
الداروينية الأميركية الحاكمة
في السطر الأول من كتابه يقول (سورس): "إنني أعتبر سياسة بوش التي تتبنى الضربة العسكرية الوقائية مدمرة، وكذا يعتبرها كثيرون حول العالم". وقاعدة انطلاق سورس في نقده لأميركا بوش وإدارته, هي ما يراه من أن حكومة أقوى دولة على وجه الأرض وقعت في يد من يراهم "مجموعة من المتطرفين, الذين تقودهم الصيغة الفجة من الداروينية الاجتماعية". وهو يفضل استخدام وصف (الداروينية الاجتماعية) للإشارة إلى اليمين الأميركي الحاكم, عوضاً عن وصف (المحافظين
_________
(1) الكابوس الأمريكي ـ روبرت دول - عرض غسان العزى- الناشر ف-ال-بي، كيبك -جريدة الخليج 13 يونيو1997(3/136)
الجدد). فالداروينية تعني (البقاء للأصلح)، وهي متوحشة وتعبر عن توحشها في الاقتصاد عن طريق حصر التنافس, بين الشركات الكبرى, وقتل الصغرى. وفي السياسة تحصر التنافس بين الدول فتطيح الكبرى بالصغرى ـ أيضاً. ويرصد (سورس) جذور الداروينية الأميركية الحاكمة في (مشروع القرن الأميركي الجديد) , الذي صاغته عام 1997 م مجموعة من المحافظين الجدد دعوا فيه إلى انتقال أميركا إلى مرحلة الهجوم والسيطرة العالمية من دون تحفظ، من أجل الحفاظ على الموقع القيادي لها في القرن الحادي والعشرين.
أميركا ـ بحسب المشروع ذاك ـ يجب أن تنطلق لتحقيق أهدافها غير آبهة باعتراض الأمم الأخرى، وهي لن تتوقف كثيراً عند مسألة التعاون مع الدول أو الأمم المتحدة, إن هي رأت أن مصالحها يمكن أن يتم تحقيقها من دون ذلك. وعلى أميركا أن تواجه بالقوة العسكرية والحزم أي دولة تتحداها، وعليها أن تثبت أن بمقدورها القيام بذلك من دون تردد. وتوج المشروع بوثيقة يوردها (سورس) في كتابه عنوانها (بيان المبادئ). ولا تتمثل خطورتها في نبرتها الهجومية والشبق نحو السيطرة فحسب، بل في مجموعة الأسماء الموقعة عليها. فهي تحتوي على شخصيات أصبحوا فيما بعد هم الحكام المباشرين للولايات المتحدة في إدارة بوش، ومن ضمنهم: نائب الرئيس (ديك تشيني)، ووزير الدفاع (دونالد رمسفيلد)، ونائبه (بول ولفويتز)، وغيرهم ممن أصبحوا مستشارين ومقربين، إضافة إلى عدد من مفكري اليمين المشهورين مثل (فرانسيس فوكوياما) (1) و (دونالد كيغان) (2).
ولكن بيان (المبادئ) والمشروع الذي يحمله، كان بحاجة ماسة إلى ظرف تاريخي كي تقتنصه, فتنقل من أفكار على الورق إلى تطبيق على الأرض، وهذا ما وفرته تفجيرات 11 سبتمبر على طبق من ذهب (3). فالذي حدث كما يقول (سورس) أن (داروينيي) إدارة بوش لم يضيعوا دقيقة واحدة وهم يفركون أيديهم غبطة على
_________
(1) في كتابه الاخير "أميركا على مفترق الطرق"-ينقلب فرانسيس فوكوياما على المحافظون الجدد ويوجه نقداً لاذعاً لسياسات بوش - الناشر: يال ينيفرسيتي برس/نيويورك- الطبعة: الأولى/2006
(2) فقاعة التفوق الأميركي ـ جورج سورس- ط1 2004 - الناشر: ويدندفيلد ونيكولسن، لندن- عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت ـ 22/ 3/2004م
(3) هذا يؤكد افتراضنا السابق من أن أحداث 11 سبتمبر هي من فعل قوى متطرفة من داخل الحكومة الأمريكية، بل إن هذه القوى هي مجموعة الموقعين على "بيان المبادئ" المشار إليه.(3/137)
توفر الفرصة السانحة، لذلك كانت ردة الفعل الأميركي على تلك التفجيرات مفاجئة للجميع، لأنها في الواقع لم تكن خاصة بالتعامل مع حدث ظرفي بقدر ما كانت معنية بتطبيق إستراتيجية جاهزة, كانت تنتظر لحظة نضوج ظرفها الموضوعي. ويلحظ (سورس) كيف أن (مبادئ) وشعارات (المشروع الأميركي للقرن الجديد) سيطرت وطغت على الخطاب الرسمي السياسي والإعلامي في حقبة ما بعد 11 سبتمبر. فقد كرر (بوش) بلا ملل أن قيم الحرية هي القيم الأميركية, وهي التي يجب أن تنتشر، وساوى بين مصالح أميركا الخاصة ومصالح العالم بأسره، بما يعني أن السير نحو تحقيق المصلحة الأميركية يخدم بالتوازي المصلحة العالمية. وهذا الفكر الإمبريالي قيمياً والمطبق عسكرياً في أفغانستان والعراق, هو الإطار العام (لفقاعة التفوق الأميركي) كما يراها (سورس)، الذي يرى ايضاً أن نهاية تفوق أميركا وفقدانها لموقعها القيادي في العالم سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذا الفكر. ولهذا السبب فإنه يستشعر "ضرورة أن يهب هو والمخلصون من الأميركيين، لوقف هذا الانحطاط السياسي, وإنقاذ أميركا من العصبة اليمينية الحاكمة". ففي عهد (بوش) وحروبه (الإلهية والتبشيرية والوطنية) تحول نقاد السياسة الخارجية والمعارضون لها إلى خونة ولا وطنيين يُشك في ولائهم للوطن. وصار التقييم يعتمد مبدأ (معنا أو ضدنا) من دون تفاصيل أو لكن.
يقول (سورس): "إن أحداث 11 سبتمبر كان يجب أن تُعامل على أنها جريمة ضد الإنسانية, وليس عملاً يستدعي إعلان الحرب في كل مكان. فتلك الجريمة تم التنديد بها من قبل كل دول ومجتمعات العالم، وحظيت الولايات المتحدة والأميركيون على أوسع قدر متخيل من التعاطف العالمي, وبدت الولايات المتحدة بلا أعداء. فالرئيس مرحب فيه في كل مكان (1). وكان بالإمكان استثمار ذلك التعاطف لتقوية العلاقات الأميركية بكل دول ومجتمعات العالم وتجييشها برغبتها للعمل ضد الإرهاب، على قاعدة التعاون المتكافئ وليس الفرض الفوقي القسري. لكن ما حدث هو أن أميركا أرادت أن تتحرك بانفرادية معتمدة سياسة فرض لا نقاش فيها، مما
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص294(3/138)
أفقدها لحظة التعاطف التاريخية, تلك التي كان بالإمكان جعلها نقطة مفصلية للحد من العداء المتبادل بين أميركا والعالم. والخلاصة لذلك كله هي ـ كما يجملها (سورس) ـ أنه لم يمر وقت على الولايات المتحدة تدهور فيه وضعها في العالم في وقت قياسي وقصير جداً كما هو في عهد (جورج بوش الابن) (1). http://www.aljazeera.net/books/2004/3/ - TOP
أزمة أمريكا الأخلاقية
في كتابه الجديد (القيم الأمريكية تتعرض للخطر)، يحذر (جيمي كارتر) بشدة من الاتجاه الذي تسير به الولايات المتحدة حالياً، حيث اختلطت معالم السياسة والأصولية الدينية الجامدة. ومنذ السطور الأولى في الكتاب، يعترف الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر)، بأن هنالك تغيرات واسعة جارية على قدم وساق، داخل الولايات المتحدة، على صعيد القيم الأخلاقية الأساسية للأمة الأمريكية، وخطابها العام، وفلسفتها السياسية. ويقول: "إن الشعب الأمريكي، كان يفخر بأن يرى قوة أمريكا ونفوذها، يستخدمان لحفظ سلام الأمريكيين وسلام الآخرين، وتعزيز العدالة الاقتصادية والاجتماعية، ورفع شعار الحرية وحقوق الإنسان عالياً، وحماية نوعية البيئة في الولايات المتحدة، وتخفيف المعاناة البشرية، وتدعيم حكم القانون، والتعاون مع الشعوب الأخرى". ويقول (كارتر)، إن الأمريكيين، الذين يملكون مجتمعاً هو الأكثر تنوعاً وابتكاراً على وجه البسيطة، أدركوا قيمة تزويد المواطن الأمريكي بالمعلومات الصحيحة الدقيقة، والتعامل مع الأصوات المعارضة والمعتقدات المخالفة باحترام، وتوفير الحوار الحر والمفتوح في القضايا الخلافية. وقد ظل معظم قادة أمريكا السياسيين، يمجدون استقلالية الولايات المتحدة والمقاطعات الأمريكية، ويحاولون السيطرة على عجز الإنفاق، ويتجنبون نزعات المغامرة الخارجية، ويحافظون على الفصل بين الكنيسة والدولة، ويحمون الحريات المدنية والخصوصية الشخصية". ولكن (كارتر) يرى أن "جميع هذه الالتزامات يجري تحديها الآن".
_________
(1) فقاعة التفوق الأميركي ـ جورج سورس ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت ـ 22/ 3/2004م(3/139)
ويضيف قائلا: "إن معظم القضايا الحساسة والمثيرة للجدل التي يواجهها الأمريكيون اليوم، قد جرت مناقشتها قبل أن يصبح رئيساً بوقت طويل، حيث أن هذه الخلافات طبيعية، ولا يمكن تجنب معظمها. ويرى (كارتر) أن هذه القضايا الخلافية، كانت تناقش بحرية وانفتاح ودون إثارة للمشاكل، ولكن نقاشها الآن بات يثير انقسامات داخل المجتمع الأمريكي لا سابق لها، حيث يعتمد الحزبان الديمقراطي والجمهوري على الإعلانات التجارية التشهيرية لكسب الانتخابات، وحيث تتسم مداولات الكونجرس بعداء متحيز، وحيث أصبح سكان أمريكا جميعاً يتبنون كلمات مثل (أحمر و أزرق) في وصف العلاقات بين الولايات الأمريكية، بل داخل الولاية الواحدة (1).
ويتساءل كارتر: ما الذي أثار هذه الخلافات الحادة، وولد في الوقت ذاته ذلك الابتعاد السحيق عن قيم أمريكا التقليدية؟ ويجيب عن هذا التساؤل، قائلاً: "إن أحد العوامل لذلك هو رد فعل الأمة الأمريكية على هجوم 11 سبتمبر 2001 م الإرهابي، حيث أدركت شدة الإرهاب، وديمومته، وطبيعته الكونية. ولكن هذا العامل ليس الوحيد في نظر (كارتر)، بل هناك عوامل أخرى منها: حقن الأموال الطائلة في شريان العملية السياسية، والنفوذ غير المسبوق للشركات والمصالح الخاصة في مداولات الحكومة, التي باتت تتجه إلى السرية بصورة متزايدة. ولكن العامل الأهم، كما يقول (كارتر)، هو أن الأصوليين أصبحوا بصورة متزايدة متنفذين في شؤون الدين والحكومة، كما أفلحوا في تغيير الفوارق الدقيقة في النقاش التاريخي، ليصبح جامداً متصلباً يختزل الأمور إلى أبيض أو أسود، حيث يلقى كل من يجرؤ على المخالفة الازدراء والاحتقار الشخصي. وفي الوقت ذاته يقول (كارتر): "وحّد هؤلاء المحافظون الدينيون والسياسيون جهودهم، وأزالوا المسافة التي كانت تحترم في السابق، بين الكنيسة والدولة. وقد عزز ذلك قوة نفر من (المحافظين الجدد) المتنفذين، الذين تمكنوا من تطبيق فلسفتهم التي طال احتباسها، على صعيدي السياسة المحلية والسياسة الخارجية. حيث جرى تبني تفسير ضيق للمعتقدات
_________
(1) القيم الأمريكية تتعرض للخطر ـ تأليف: جيمي كارتر عرض: عمر عدس ـ جريدة الخليج الإماراتية - عدد 9709 بتاريخ 18ـ12ـ2005(3/140)
الدينية، واعتماد هذا التفسير باعتباره الأجندة الصارمة لحزب سياسي. وقامت الجماعات الضاغطة القوية، سواء داخل الحكومة أو خارجها، بتحريف الإيمان الأمريكي المثير للإعجاب بمشروع حر، أصبح حقاً للمواطنين الأثرياء ثراء فاحشاً، يخولهم تكديس المزيد من الثروة وتمريرها جميعها إلى أحفادهم. حيث يجري منح الفوائد من تجارة الأسهم والدخل المتأتي من حصص الأرباح وضعاً ضرائبياً مميزاً، بالمقارنة مع الأجور التي يتقاضاها معلمو المدارس ورجال الإطفاء".
ويقتطف كارتر وصف أحد أصدقائه للفلسفة الاقتصادية الجديدة لواشنطن، الذي يقول فيه إنها فلسفة تقوم على أن المد المتصاعد يرفع على سطحه جميع اليخوت.
ويصف المؤلف ما فعلته الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، فيقول: "إنها أعلنت الاستقلال عن القيود التي تفرضها المنظمات الدولية، وتنكرت للعديد من الاتفاقيات الدولية القائمة منذ زمن طويل، بما في ذلك قرارات قضائية، واتفاقيات أسلحة نووية، وقيود على الأسلحة البيولوجية، وحماية البيئة، ونظام العدل الدولي، ومعاملة السجناء الإنسانية". ويتابع قائلاً: "وحتى مع انخراط قواتنا في القتال، ومواجهة أمريكا خطر المزيد من الهجمات الإرهابية، أهملت الولايات المتحدة التحالفات مع الدول التي تحتاج إلى الانضمام إليها في الحرب الطويلة الأمد مع الإرهاب. وكانت جميع هذه الأعمال السياسية بتنسيق من أولئك الذين يعتقدون أن الاستخدام الأمثل للقوة والنفوذ الأمريكيين الهائلين، يجب ألا يخضع لقيود يمارسها الأجانب. وبصرف النظر عن التكاليف والنفقات، يتحرق بعض الزعماء شوقاً، وبصورة علنية، إلى خلق إمبراطورية أمريكية مهيمنة على العالم برمته. حيث لم يعد يعتبر ضرورياً مراعاة قيود تحد من مهاجمة دول أخرى عسكرياً، شريطة أن تدْعي مصادر استخبارية غالباً ما تكون غير مؤكدة، إن السياسات العسكرية أو السياسية لهذه الدول يمكن أن تكون خطرة على الولايات المتحدة في نهاية الأمر. فما أن يتم وصم هذه الدول بأنها (محور شر)، حتى تصبح منبوذة، ولا يعود ممكناً القبول بها شريكة في التفاوض، وتصبح حياة أفراد شعوبها غير مهمة من ثم" (1).
_________
(1) القيم الأمريكية تتعرض للخطر- جيمي كارتر- عرض عمر عدس ـ جريدة الخليج - عدد 9709 - 18ـ12ـ2005(3/141)
قناع أبيض للعالم كله
لكي نفهم أكثر مظاهر الرعونة والعنجهية التي تحكم سلوك الولايات المتحدة الأمريكية, التي وقعت في قبضة أصولية المحافظين الجدد تجدر بنا العودة إلى (فرانز فانون) الذي حين كتب (بشرة سوداء .. أقنعة بيضاء) , كان يدرك أن الانفجار لن يحدث لحظتها، لعل الوقت كان متقدماً جداً أو متأخراً جداً, كما أومأ هو بنفسه إلى ذلك. ولم يكن الرجل يدعي التواضع أو يتظاهر به، وإنما كان يتصرف كأي عالم حقيقي لا يركن إلى اليقين أبداً: "أنا لا أصل البتة مسلحاً بحقائق حاسمة .. وعيي لا تخترقه ومضات جوهرية". لكنه يرى، وبكل صفاء، أنه من المفيد أن تقال بعض الأمور, وهو يحلل كيف يتصرف الرجل الأبيض، الذي خلق لنفسه دوماً صورة المنتصر والفاتح والمنقذ، إزاء البشر الآخرين من الملونين والسود؟ ثم يحلل كيف يتصرف هؤلاء الملونون والسود تحت وقع ذلك الشعور بالانسحاق الذي جلبه لهم الأبيض السكران بنشوة التفوق؟.
إن الأمريكيين هم الشعب الوحيد الحديث، تبعاً لأقصى ما تتيحه ذاكرة إنسان، الذي (كنس) عن الأرض, التي استوطنها السكان الأصليون. يمكن لنا العودة إلى النص المدهش (لمحمود درويش) (الخطبة الأخيرة للهندي الأحمر) لندرك هول الكارثة. و (فانون) يرى أن أمريكا وحدها كانت تستطيع أن تكون ذات إحساس قومي بالخطأ وتسعى للاعتذار عنه، لكنها لم تختر هذا السبيل، إنما سعت لتهدئته من خلال اختراع صورة الهندي الأحمر السيئ، لكي تتمكن لاحقاً من إعادة إدراج للصورة التاريخية لصاحب البشرة الحمراء, الذي يدافع بلا نجاح عن ترابه الذي خلق من عجينته بمواجهة الغزاة المسلحين بكتب مقدسة وبناءة.
بعد ذلك بقرون سيأتي الفتيان السود يرددون في المدارس نشيد: (آباؤنا الغاليون) وهو نشيد يتماهى مع المستكشف، مع الرجل الذي يزعم أنه جلب الحضارة، جلب الحقيقة (البيضاء) تماماً، صافية. يراد من هؤلاء الفتيان نسيان أن تلك الحضارة البيضاء إنما شيدت بعرق ودماء أجدادهم. فالآباء الغاليون في النشيد ليس هم أولئك الأجداد, ولا أولئك الهنود الحمر الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم تقريباً لحظة أتى المغامرون البيض بحثاً عن الذهب في العالم الجديد.(3/142)
لم تكن أمريكا قد بلغت ما بلغته اليوم من جبروت وطغيان, حين حلل فانون سلوك الرجل الأبيض، لكنه كان يضع قاعدة فيها نبوءة رجل العلم, الذي يهجس بأن هذا السلوك سيغدو كونياً. إن ذات الذهنية التي حكمت سلوك المغامرين الأول, الذين استباحوا براءة القارة الأمريكية مترامية الأطراف، ستؤسس لنهج أكثر شمولاً حين يتصل الأمر بالعالم كله. الهدف من حيث الجوهر واحد لم يتبدل، ولكن نسبة القوى تغيرت جوهرياً لتجعل من هذا السلوك سلوكاً يستهدف العالم كله، على غير الأمريكي، أبيض كان أم أسود، أن يغدو أمريكياً لا بالنسبة وإنما بالخضوع، بالتماهي مع (ثقافة) تعلن نفسها ثقافة منتصرة على العالم كله، بحيث يغدو من واجب الفتيان الصغار في مدارس العالم كله أن يرددوا النشيد الأمريكي بالمفردات, التي تحمل معاني قهرهم وإخضاعهم، بالطريقة التي يبدو فيها الهندي الأحمر المباد مجازاً للفلسطيني, ولكل شعب شاء أن يقاوم إبادته. وفي نص (محمود درويش) المشار إليه الكثير مما يشي بهذا المعنى (1).
الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة
إذا كان جورج سورس وجيمى كارتر و فرانز فانون، وغيرهم من الكتاب الأمريكيين قد حاولوا رسم صوره للكابوس الأمريكي الذي يهدد العالم، فإن (هوارد زن) وهو كاتب امريكي اسود، حاول رسم صورة هذا الكابوس من خلال قراءة التاريخ الأمريكي بطريقه اخرى، حيث يقول: "عندما قررت في أواخر سبعينات القرن الماضي إن أولف كتاباً يتناول تاريخ الشعب الأمريكي. كان قد مضى علي عشرون عاماً وأنا ادرس التاريخ. ولكن تجربتي الشخصية جعلتني اعرف إن التاريخ الذي درسته في الجامعة قد حذف عناصر بالغة الأهمية من تاريخ البلاد، ولم تكن عاقبة عمليات الحذف هذه تقتصر على إعطاء صورة محرفه عن الماضي، بل أنها تضللنا جميعاً في ما يتعلق بالحاضر. وعلى سبيل المثال هنالك قضية الطبقات، فالثقافة السائدة في الولايات المتحدة في أوساط التعليم وبين الساسة وفي وسائل الإعلام - تتظاهر بأننا نعيش في مجتمع خال من الطبقات له مصلحة عامة واحده. وفي ديباجة دستور
_________
(1) قناع أبيض للعالم كله د. حسن مدن - جريدة الخليج - عدد 9506 ـ بتاريخ 29ـ5ـ 2005 م(3/143)
الولايات المتحدة، التي تعلن أننا (نحن الشعب) قد وضعنا هذه الوثيقة، تضليل عظيم. فالدستور كان قد كتبه سنة 1787 خمسة وخمسون رجلاً من البيض- ملاك العبيد، وملاك السندات والتجار- الذين أسسوا حكومة مركزيه قوية ستخدم في ما بعد مصالحهم الطبقيه. إن استخدام الحكومة على ذلك النحو للأغراض الطبقية ولخدمة احتياجات الأثرياء والأقوياء قد استمر عبر التاريخ الأمريكي وصولاً إلى يومنا الحاضر، ويتجسد ذلك في اللغة التي توحي بأننا جميعا أغنياء وفقراء وأبناء طبقة متوسطة لنا مصلحة مشتركه" (1).
هكذا توصف حالة الأمة بتعبيرات شمولية عامه. وعندما يعلن الرئيس مسرورا (إن اقتصادنا سليم)، لا يعترف بأنه غير سليم بالنسبة إلى أربعين أو خمسين مليوناً من الناس يكافحون من اجل البقاء، رغم انه قد يكون سليماً باعتدال لكثيرين في الطبقة المتوسطة، وسليم بإفراط لأغنى 1% من الأمة وهم الذين يملكون 40% من ثروتها القومية. كان يجري دوماً تغييب مصلحة الطبقات خلف حجاب سميك يدعى المصلحة القومية، "وقد جعلتني تجربتي الخاصة مع الحرب وتاريخ تلك التدخلات العسكرية التي تورطت فيها الولايات المتحدة ارتاب عندما اسمع الناس في الأوساط السياسية العليا يتوسلون (المصلحة القومية) أو الأمن القومي لتبرير سياساتهم. انه بمثل هذه المبررات بدأ هاري ترومان (عملا بوليسيا في كوريا) أسفر عن قتل ملايين عديدة من الناس، ونفذ ليندون جونسون وريتشارد نيكسون حرباً في جنوب شرق آسيا مات خلالها نحو ثلاثة ملايين شخص، وغزا رونالد ريجان جرينادا، وهاجم بوش الكبير بنما ومن بعدها العراق، وقصف بيل كلينتون العراق المرة تلو المرة. والادعاء الذي اتخذه بوش الجديد في ربيع سنة 2003 وزعم فيه إن غزو العراق وقصفه بالقنابل في مصلحة أمريكا القومية، كان منافياً للعقل على نحو خاص، ولم يكن الشعب في الولايات المتحدة ليتقبله لولا غطاء من الأكاذيب نشرته فوق البلاد الحكومة وأبواق الإعلام الرئيسية- أكاذيب عن علاقات العراق بحركة القاعدة".
ويتابع (هوارد زن) كلامه: "وعندما قررت إن أؤلف كتاب (تاريخ شعبي للولايات المتحدة)، صممت على إن اروي قصة حروب الأمة لا من خلال عيون الجنرالات
_________
(1) الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004(3/144)
والزعماء السياسيين، بل من وجهة نظر صغار أفراد الطبقة العاملة، الذين اصبحوا أفرادا في الجيش، أو الآباء أو الأمهات والزوجات، الذين تلقوا برقيات النعي. أردت إن اروي قصة حروب الأمة من وجهة نظر العدو: وجهة نظر المكسيكيين الذين جرى غزوهم في الحرب المكسيكيه، والكوبيين الذين تم الاستيلاء على بلادهم سنة 1898، والفليبنيين الذين عانوا حرباً عدوانية مدمرة في مستهل القرن العشرين قتل فيها نحو 600 ألف شخص نتيجة لتصميم حكومة الولايات المتحدة على الاستيلاء على الفليبين".
والذي أذهلني حين بدأت دراسة التاريخ، والذي أردت إن انقله عبر كتابتي للتاريخ، هو كيف إن حماس القوميين الذي يجري غرسه في الأذهان منذ الطفولة من خلال قسم الولاء والسلام الوطني والتلويح بالأعلام والخطاب العسكري - يخترق الأنظمة التعليمية والتربوية ويتخللها في جميع الدول بما فيها دولتنا. كنت أتسائل كيف كانت ستبدو سياسات الولايات المتحدة الخارجية لو أزيلت الحدود الوطنية في العالم، في أذهاننا على الأقل، واعتبرنا الأطفال في كل مكان مثل اطفالنا. لو فعلما ذلك لما كان بوسعنا إن نلقي قنبلة ذرية على هيروشيما، أو قنابل النابالم على فيتنام أو القنابل العنقودية على أفغانستان أو العراق، لان الحروب وبخاصة في وقتنا الحاضر هي حروب ضد الأطفال دوما" (1).
الكلمة المحكية كعمل سياسي
عندما بدأت كتابة (تاريخ شعبي) كنت متأثرا بتجربتي الخاصة، حيث أعيش ضمن مجتمع السود في الجنوب مع عائلتي، وأمارس التدريس في كلية البنات السوداوات، وانخرط في الحركة المناوئة للفصل العنصري، وقد أصبحت مطلعاً على الكيفية التي يجري بها تحريف تدريس وكتابة التاريخ على نحو سيئ، وذلك بطمس الناس غير البيض. نعم كان الأمريكيون الاصليون هناك في التاريخ ولكنهم اختفوا بسرعة. وكان السود ظاهرين عبيداً ثم احتسبوا أحراراً، ولكنهم لا يظهرون. كان التاريخ تاريخ الناس البيض. ومنذ المرحلة الابتدائية وحتى التخرج من المدرسة لم
_________
(1) الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004(3/145)
أجد ما يوحي بأن هبوط كريستوفر كولومبوس في العالم الجديد قد افتتح إبادة جماعية تم خلالها القضاء على السكان الأصليين في جزر الانديز الغربيه قضاءاً مبرماً. أو إن هذه كانت المرحلة الأولى في ما طرح باعتباره توسعاً حميداً للدولة الجديدة، ولكنه اشتمل على الطرد العنيف للأمريكيين الأصليين مصحوباً بفظائع لا يمكن السكوت عنها من كل ميل مربع من القارة، حتى لم يعد هنالك ما يمكن فعله سوى حشرهم في معازل.
إن كل تلميذ مدرسة أمريكي يتعلم عن مذبحة بوسطن التي سبقت الحرب الثورية ضد انجلترا. وقد قتل فيها خمسة مستعمرين على أيدي الجنود البريطانيين سنة 1770، ولكن كم تلميذ من هؤلاء التلاميذ تعلم عن المذبحة التي راح فيها ستمائة رجل وامرأة وطفل من قبيلة ريكوت في نيو انجلاند سنة 1637، أو المذبحة التي ارتكبها الجنود الأمريكيون في منتصف الحرب الاهليه، وسقط فيها المئات من العائلات الأمريكيه الاصليه في ساند كريك (كولورادو) ولم اطلع في أي مكان خلال دراستي التاريخ على مذابح الناس السود التي وقعت مراراً وتكراراً في ظل حكومة وطنية تعهدت من خلال الدستور بحماية الحقوق المتساوية للجميع. وعلى سبيل المثال في سنة 1917 وقع في سانت لويس الشرقيه واحد من أعمال الشغب العرقية العديدة الني كانت تحدث ضمن ما تدعوه كتب التاريخ عندنا التي يوجهها البيض (الحقبة التقدميه)، حيث قتل العمال البيض الذين أغضبهم تدفق العمال السود، نحو مائتي شخص، مما حفز الكاتب الأمريكي من اصل إفريقي (دبليو أي دي بويز) على كتابة مقالة بعنوان (مذبحة سانت لويس الشرقيه) وحمل الفنانة المسرحية جوزفين بيكر على القول إن فكرة الموضوعية بحد ذاتها تجعلني ارتعد وارتجف وتسبب لي الكوابيس.
لقد أردت من خلال كتابتي للتاريخ الشعبي إن أوقظ وعياً عظيماً بالصراع الطبقي والظلم العرقي، واللامساواة الجنسية والعجرفة القومية، ولكني أردت إلى جانب ذلك إن أسلط الضوء على مقاومة الشعب الخفية لسلطة المؤسسة ورفض الأمريكيين الأصليين إن يموتوا ويختفوا ببساطة وتمرد الناس السود في الحركة المناوئة للرق والحركة الأحدث منها عهداً وهي الحركة المناوئة للفصل العنصري والإضرابات التي كان ينفذها الناس العاملون في سبيل تحسين مستوى عيشهم.(3/146)
عندما بدأت العمل قبل خمس سنوات في تأليف ما سيصبح مجلدا مصاحبا لكتابي (تاريخ الشعب) ويحمل عنوان (أصوات تاريخ شعبي للولايات المتحدة)، كنت أريد لأصوات الكفاح الغائبة على الأغلب في كتب تاريخنا، إن تأخذ المكان الذي تستحق. كنت أريد لتاريخ العمال الذي ظل ميدان القتال عقداً بعد آخر وقرناً بعد آخر للكفاح المستمر في سبيل الكرامة الانسانيه، إن يتصدر المقدمة كما كنت أريد لقرائي إن يخبروا كيف كان بعض أشجع الأعمال السياسية وأكثرها فاعلية معبراً عن الصوت الإنساني ذاته في اللحظات الحاسمة في تاريخنا، عندما أعلن (جون راون) - نصير إلغاء الرق الذي اعدم شنقا، وكان قد عاش بين 1800 و 1858 - أثناء محاكمته إن تمرده ليس خاطئا بل هو صحيح، وعندما أدلى (فاني لوهامر) - مزارع أمريكي وناشط في مجال حقوق الإنسان 1917 - 76 م- بشهادته سنة 1964 عن المخاطر التي تعرض لها السود الذين حاولوا التسجيل للاقتراع في الانتخابات، وعندما تحدى (اليكس مولنار) - أستاذ جامعي أمريكي- الرئيس الأمريكي نيابة عن ابنه وعنا جميعاً .. ، عندما فعل هؤلاء ذلك، أثرت كلماتهم في كثير من الناس وكانت مصدر الهام لهم ولم تكن تلك مجرد كلمات بل كانت أفعالا (1).
أصوات أمريكا الغائبة
ويتابع (هوارد زن) كتابه فيقول: "يشير قراء كتابي (تاريخ شعبي للولايات المتحدة) دائماً إلى غناه بالمادة المقتبسه - أقوال العبيد الآبقين، والأمريكيين الأصليين، والمزارعين وعمال المصانع والمعارضين والمنشقين من جميع الأصناف. وعلي إن اعترف كارهاً بأن ما يذهل قرائي هؤلاء هو كلمات الناس الذين استشهد بهم اكثر مما يدهشهم تعليقي المصاحب على تاريخ الأمة، ولا أستطيع القول أنني ألومهم على ذلك، فكل مؤرخ سيواجه صعوبة في مضاهاة بلاغة زعيم الأمريكيين الأصليين (بوهاتان) الذي كان يقول للمستوطنين البيض راجيا سنة 1607: "لماذا تأخذون بالقوة ما قد تنالونه بهدوء بالرفق والمحبة؟ ".
_________
(1) الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004(3/147)
أو العالم الأسود (بنيامين بانيكر) حين كتب للرئيس الأمريكي توماس جفرسون: "إني أدرك انك سوف تتبنى كل فرصة لاستئصال تلك السلسله من الأفكار والآراء الخاطئة والمنافية للعقل والسائدة بوجه عام فيما يتعلق بنا. وان مشاعرك تتفق ومشاعري والتي هي إن الله قد خلقنا جميعاً وانه لم يقتصر على انه خلقنا من لحم واحد، بل انه منحنا جميعاً ومن دون تمييز المشاعر ذاتها ووهبنا جميعاً القدرات ذاتها".
أو (سارة جريمكي) وهي امرأة من جنوب الولايات المتحدة، كانت مؤيده لإلغاء الرق كتبت: "إني لا اطلب أي جمائل لبنات جنسي، وكل ما اطلبه من إخواننا إن يرفعوا أقدامهم عن رقابنا ويسمحوا لنا بالوقوف معتدلين على الأرض التي كتب لنا الله إن نعيش عليها".
أو (هنري ديفيد ثورو) وهو يحتج على الحرب المكسيكيه، حين كتب عن العصيان المدني، "من النتائج العامة والطبيعية لاحترام القانون الذي ليس في محله، إن ترى ارتالاً من الجنود من مختلف الرتب تسير إلى الحروب زاحفة فوق التلال والوهاد، في نظام يدعو إلى الإعجاب خلافاً لإرادتها. نعم خلافاً لفطرتها السليمة وضمائر أفرادها، مما يجعل ذلك الزحف انحداراً شعبياً في حقيقة الأمر يحمل القلوب على الخفقان".
أو (جرمين ويزلي لوجين) وهو عبد آبق يتحدث في سيراكوز (مدينة في وسط ولاية نيويورك) عن قانون العبيد الهاربين الذي صدر سنة 1850: "لقد تلقيت حريتي من السماء ومعها جاء الأمر بالدفاع عن حقي فيها .. إني لا احترم هذا القانون - ولا أخشاه - ولن أطيعه، انه يجرمني وأنا أجرمه".
أو الخطيبة المناصرة للنظرية الشعبية (ماري اليزابيث ليز) من كنساس التي قالت: "أن وول ستريت (المركز العالمي في مانهاتن) يملك البلاد أنها لم تعد حكومة الشعب، بالشعب وللشعب بل هي حكومة وول ستريت وتعمل لمصلحة وول ستريت".
أو (ايما جولدمان) وهي تتحدث إلى هيئة المحلفين أثناء محاكمتها لمعارضتها الحرب العالمية الأولى: "نحن المفتقرين حقاً إلى الديمقراطية، كيف نستطيع إن نعطيها للعالم؟ إن الديمقراطية التي تشكلت في رحم الاستعباد العسكري للجماهير(3/148)
واسترقاقهم اقتصادياً، وترعرعت على دموع هذه الجماهير ودمائها، ليست ديمقراطيه أبداً".
أو المزارع المستأجر في منطقة المسيسبي (فاني لوهامر) في شهادته سنة 1964 عن الأخطار على السود الذين حاولوا التسجيل للاقتراع: "جاء ملك المزرعة، وقال: فاني لو .. إذا لم تذهب وتسحب تسجيلك فان عليك إن ترحل لأننا غير مستعدين لذلك في المسيسبي. التفت إليه وقلت: إني لا أحاول التسجيل لك بل لنفسي".
أو الفتيان السود في ماككومب في منطقة المسيسبي، الذين حين علموا بخبر مصرع احد زملائهم ايام الدراسة، في فيتنام وزعوا منشوراً جاء فيه: "لا ينبغي لأي اسود في منطقة المسيسبي إن يقاتل في فيتنام من اجل حرية البيض، قبل إن يتحرر جميع السود في هذه المنطقة".
أو الشاعرة (اوريان ريتش) حين كتبت في سبعينات القرن الماضي: "لا اعرف امرأة عذراء أو أماً عزباء أو متزوجه - سواء كانت تكسب قوتها، ربة منزل أو نادله في مقهى أو مصوره بالأشعة- ليس الجسد لديها مشكلة أساسيه، معانيه الغائمة، خصوبته، رغباته، ما يدعى هشاشته، ولغته الدامية، وحالات صمته، وتغيراته، وتشوهاته، اغتصاباته وحالات نضجه".
أو (اليكس مولنار) الذي كان ابنه البالغ من العمر واحداً وعشرين عاماً جندياً من مشاة البحرية في الخليج العربي، حين كتب رسالة غاضبة إلى الرئيس بوش الأول قال فيها: "أين كنت أيها الرئيس عندما كان العراق يقتل شعبه بالغاز السام. انوي إن أساند ابني ورفاقه الجنود بفعل كل ما أستطيع لمعارضة أي عمل عسكري أمريكي عدواني في الخليج العربي".
أو (اورلاندو وفيليس رودريجز) اللذين قالا في معرض معارضتهما لفكرة الانتقام بعد مقتل ابنهما في برجي مركز التجارة العالمي: "إن ابننا جريج واحد من الكثيرين الذين غيبهم الهجوم على مركز التجارة العالمي. ومنذ إن سمعنا الأخبار للمرة الأولى، تقاسمنا لحظات الأسى والراحة والأمل والقنوط وذكريات الحنان، مع زوجته والعائلتين وأصدقائنا وجيراننا وزملائه الذين كانوا يحبونه في كانتور متزجرالد، وكل العائلات المكلومة التي تلتقي يومياً في فندق بيير. ونحن نرى الأذى(3/149)
والغضب الذين ألما بنا في وجوه كل من نقابله، ولا نستطيع الانتباه إلى فيض الأخبار اليومية عن هذه الكارثة، ولكننا نقرأ من الأخبار ما يكفي للإحساس بأن حكومتنا تسير باتجاه الانتقام العنيف، مع احتمال مقتل أبناء وبنات وأباء وأمهات وأصدقاء في بلاد بعيده، أو معاناتهم وإحساسهم بالمزيد من الظلم الذي ألحقناه بهم، وليست تلك هي الطريق التي ينبغي إن نسلكها، وهي لن تشفي غليلنا لمقتل ابننا وليس باسم ابننا".
إن ما يجمع كل هذه الأصوات هو أنها على الأغلب قد أبعدت عن تواريخنا التقليدية وعن وسائل الإعلام الرئيسية والكتب الدراسية المقررة المعيارية والثقافة الخاضعة للسيطرة. والنتيجة التي تنجم عن خضوع تاريخنا لهيمنة الرؤساء والجنرالات والناس (المهمين) الآخرين، هي خلق مواطنين سلبيين لا يدركون مكمن طاقاتهم وينتظرون دوماً مخلصاً يأتي من السماء على هيئة رئيس أو غيره ليجلب السلام والعدالة. إن التاريخ المنظور إليه تحت السطح في الشوارع وفي المزارع وفي ثكنات الجنود والمعسكرات المتنقلة وفي المصانع والمكاتب، يخبرنا بقصة جورجيا، وفي كل وقت تم رفع مظالم أو وقف حروب أو منح النساء والسود والأمريكيين الأصليين حقوقهم المشروعة، كان ذلك لان أناساً غير مهمين رفعوا أصواتهم بالحديث ونظموا واحتجوا ومارسوا الديمقراطية" (1).
الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية
اشتهر في علم السياسة والإستراتيجيات مصطلح (باكس بريتانيكا) ( Pax Britanica) ، وكان وما زال يشير إلى عصر الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. يتضمن ذلك المصطلح مغزى مهماً (من تصنيع منظري الإمبراطورية)، هو أن الإمبراطورية تنشر السلم والأمان وأنها عبر الانتشار العسكري والكولونيالي في طول وعرض الكرة الأرضية، توحد البلدان المتنازعة تحت رايتها، وتنزع فتيل الصراع ويعيش الجميع في كنفها بسلام. وطبعاً لم تكن الأمور بهذه البساطة والليونة, فقد كان عصر الـ (باكس بريتانيكا) عصراً استعمارياً بامتياز، فيه
_________
(1) الأصوات المغيبة والمصلحة القومية الكاذبة- بقلم هوارد زن - جريدة الخليج عدد 9326 تاريخ 30 - 11 - 2004(3/150)
نهب لثروات البلدان المستعمرة, وفيه حروب، وفيه قمع، وفيه حالات إبادة عنصرية أيضاً. وفي أعقاب انهيار إمبراطورية لندن أصبحت الولايات المتحدة القوة الخليفة, لكنها رفعت شعار أنها لا تبدأ بأي حرب, بل تدافع عن نفسها, وأن ليس لديها أي مشروع إمبريالي توسعي تحت أي مسمى, ولو كان لفرض السلم العالمي تحت مظلة "باكس أميركانا" ( Pax Americana) (1) .
وكتاب الفيروس الأمريكي سخر من ذلك التعبير ويعيد إنتاجه بطريقة تهكمية, إذ يحوره إلى ( Pox Americana) , وهنا فإن كلمة Pox تعني الوباء الفيروسي أو شيئاً قريباً من ذلك. ومن وراء هذا يريد محررا الكتاب أن يقولا للقارئ إن الإمبراطورية الأميركية الراهنة هي كالفيروس المنتشر في العالم, وليس لها علاقة بإحلال السلم العالمي. وينقضان المزاعم الأميركية بعدم وجود نيات إمبريالية وراء الحروب التي تشنها الولايات المتحدة في العالم اليوم، إذ سرعان ما وقع العالم بأكمله أسير الصراع مع الاتحاد السوفياتي وانخرط الطرفان في صراع إمبريالي للسيطرة وشراء الولاءات في مناطق العالم المختلفة. وبدأ منظرون أميركا يكتبون في ضرورة أن يكون لدى الولايات المتحدة مشروعاً إمبريالياً ذا صفات حميدة، منها نشر السلام ولو اقتضى الأمر استخدام القوة في بعض الأحيان كما كان الأمر في فيتنام. وكتب بعض أولئك المنظرين, من أمثال رونالد ستيل, أن الإمبراطورية الأميركية تختلف عن الإمبراطوريات التي سبقتها بأن أهدافها نبيلة وأنها لا تستهدف الربح والاستيلاء على الثروات كما كان ماضي الإمبراطوريات المنقضية.
ولكن حتى قبل ذلك التاريخ, كان للإمبريالية الأميركية سجل طويل في التدخل المباشر أو غير المباشر ونقرأ عن حالات الغزو التالية في ذلك السجل: الصين 1945, اليونان 1947 إلى 1949, كوريا 195. إلى 1953, إيران 1953, غواتيمالا 1954, لبنان 1958, الكونغو 196. إلى 1964, كوبا 1961, أندونيسيا 1965, جمهورية الدومينكان 1966, تشيلي 1973. أما بعد حرب فيتنام فإن القائمة طالت
_________
(1) الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية- تحرير: جون بيلامي فوستر وروبرت دبليو ماكشنسي-ط1 2004 - الناشر: بلوتو برس, لندن- عرض/ كامبردج بوك ريفيوز(3/151)
وشملت: لبنان 1982 إلى 1984, أنغولا 1976 إلى 1992, غرينادا 1983 و1984, أفغانستان 1979 إلى 1989, السلفادور 1981 إلى 1992, نيكاراغوا 1981 إلى 199., بنما 1989 و1990, العراق 1991, الصومال 1992 إلى 1994, هايتي 1994, البوسنة 1995, يوغسلافيا 1999, انتهاء بأفغانستان والعراق في سنوات 2001 وما تلاها. وهنا يبدو ضرورياً فهم واستيعاب التاريخ الإمبريالي للولايات المتحدة لتفادي الوقوع فريسة الشعارات البراقة التي تسبق وتحيط بكل حملة إمبريالية أميركية. فجذور الإمبريالية الأميركية تعود إلى هزيمة المسلمين على يد الأسبان في القرن الخامس عشر, واكتشاف العالم الجديد من قبل كولومبس، الذي أتبعه حرب الإبادة ضد الهنود الحمر. وهذا يؤكد ان الجانب الإمبريالي في الولايات المتحدة هو جزء عضوي لا يتجزأ من الرأسمالية نفسها, ولا يمكن أن تنمحي الإمبريالية إلا بإمحاء الرأسمالية نفسها (1).
فالاعتقاد بأن الولايات المتحدة ليست قوة إمبريالية, ولا هي قوة استعمارية رغم امتلاكها قدرات هائلة تمكنها من أن تكون كذلك، وهي لم تمارس الاحتلال والاستعمار كما مارسته القوى الإمبراطورية المشابهة السابقة مثل بريطانيا العظمى وفرنسا والبرتغال وإسبانيا. هذا الاعتقاد هو ما ترسخ في الذهنية الأميركية الجماعية, عبر عقود طويلة من السنين. وبناءً عليه, فإن كل التدخلات الأميركية العسكرية الخارجية والاعتداءات والاحتلالات سواء في أميركا اللاتينية, أم في الهند الصينية أو في فضاء المحيط الباسيفيكي لم يكن هدفها سوى نشر الحرية, أو وقف تقدم الشيوعية, أو دعم الديمقراطية. ولكن هذا الاعتقاد يتعرض لنقد لا يرحم في كتاب (الصرح: صعود وسقوط الإمبراطورية الأميركية) , من تأليف نايل فيرغسون المؤرخ البريطاني وأستاذ التاريخ العالمي في كلية ستيرن بجامعة نيويورك. فبالنسبة لفيرغسون لم تكن الولايات المتحدة ومنذ نشأتها سوى إمبراطورية إمبريالية بالمعنى الحرفي للكلمة (2).
_________
(1) الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية- تحرير: جون بيلامي فوستر وروبرت دبليو ماكشنسي- عرض/ كامبردج بوك ريفيوز - الجزيرة نت
(2) الصرح: ارتقاء وسقوط الإمبراطورية الأميركية: نايل فيرغسون - ط1 2004 - الناشر: ألن لين، بريطانيا- عرض/ كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت.(3/152)
التنظير الجديد لـ (باكس أميركانا)
كما كان (روديارد كبلينغ) , الكاتب والروائي والشاعر البريطاني المشهور في ذروة قوة الإمبراطورية البريطانية, يكتب مدافعاً عن الاستعمار البريطاني من منطلق (مسؤولية الرجل الأبيض) إزاء (تحضير وعصرنة) بقية العالم, تطور في السنوات الأخيرة منظرون أميركيون يسوغون للإمبريالية الأميركية الجديدة إستراتيجيتها وأهدافها في العالم. ففي حربي أفغانستان والعراق كان كثير من التنظير الأكاديمي الذي يُساق مدافعاً عن مسوغات الحرب، يقوم على قاعدة شعور أميركا بالمسؤولية التاريخية بكونها قائدة العالم للتدخل من أجل جلب الحرية والتحضر والسلام للشعب الأفغاني والعراقي. وفي قلب التنظير الجديد لـ (باكس أميركانا) المعاصرة تقع الدعوة إلى الديمقراطية, بكونها الهبة الأميركية التي تحملها الدبابات الأميركية إلى البلدان التي تعاني من الاستبداد.
وعلى كل حال الأهم من التنظير هو الفعل, فشبكة القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة على أرض المعمورة مخيفة ولا تترك زاوية من زوايا الأرض إلا وعليها وجود للجيش الأميركي. لكن الأمر المدهش للغاية أنه رغم هذا التواجد الإمبريالي الهائل في طول وعرض الكرة الأرضية، ما زال المواطن الأميركي العادي مقتنعاً بأن بلاده بلاد مسالمة ولا تعتدي على أحد, وإنما تتعرض للاعتداءات من قبل الآخرين. فالحكومات الأميركية المتعاقبة كانت ذكية بما فيه الكفاية، بحيث لم تجعل أمر هذه القواعد العسكرية علنياً ومطروقاً, بل أحيل دائما إلى قائمة الأسرار العسكرية, وبهذا تحالف الجهل العادي مع التجهيل المقصود. ومن هنا فإن ردة الفعل الأميركية الشعبية على تفجيرات11 سبتمبر2001 كانت في الكثير من جوانبها مفاجئة للعديدين حين تبدت سذاجة الرأي العام الأميركي إزاء الشؤون الخارجية والقناعة شبه العامة لدى الأميركيين بأن بلدهم وحكوماتهم ليست سوى أحمال وديعة في عالم من الأشرار (1).
_________
(1) الفيروس الأميركي .. فضح الإمبرطورية الأميركية- تحرير: جون بيلامي فوستر وروبرت دبليو ماكشنسي.(3/153)
أمريكيا البريئة
هناك قضية هامة على المستوى الاخلاقي، تروج لها الثقافة الأمريكية منذ عدة عقود، ومفادها أن أمريكا لا صلة لها بآثام القارة الاوروبية، فالمهاجرون الذين قدموا من هناك بدؤوا تاريخاً جديداً من نقطة الصفر. وتقول الكاتبة: "إن وراء دينامية الحلم الأمريكي، وقوة الاكاذيب تظهر اسطورة اخرى مؤسسة، هي ان أمريكا فقدت براءتها. انهم يعلنون ذلك مع كل ازمة تحدث، وتجد هذه السذاجة الامكانية لتعيد انتاج نفسها من جديد. ان الأمر تكرر في (بيل هاربر) وفيتنام و11سبتمبر". وتتساءل: "كيف يحصل ذلك؟. ان اسطورة الأصل يمكن ان تتلخص هكذا: انسان جديد (الأمريكي) يتخلص من تاريخه ومن مآسي اوروبا العجوز، ويبدأ تاريخاً جديداً من الصفر، على ارض عذراء. لقد كون امة جديدة ويبحث عن السعادة، واجه المأساة (في كل مرة يقال إن هذا يحصل للمرة الأولى). هذه الامة الاخلاقية والمتفائلة تفقد براءتها، كأي حواء تقضم التفاحة".
ان النظر إلى التاريخ يكشف انه لا توجد أمة بريئة. وإذا اعتبرنا ان أمريكا غير مسؤولة عن الشمولية والنازية والستالينية والماوية، الايديولوجيات التي خلفت من الموتى في القرن العشرين، اكثر مما عرفه تاريخ البشرية، فهي مع ذلك ليست عذراء ولا طاهرة. انها على الاقل لا تتوقف عن مغالطة ضميرها، والدعوة إلى نظافة نواياها، الأمر الذي يبدو باعثا على السخط. لنلاحظ، انها ليست وحدها، بل معها اوروبا، لا تكف عن ان تعطي لنفسها حق مقاضاة العالم بأكمله، في حين ان ماضيها يجب ان يحرضها على الخشوع" (1).
لماذا يكرهوننا
ربما كانت عبارة كرمويل شديدة الدلالة حين قال: "تسعة يكرهونني؟ وما هم إذا كنت العاشر الوحيد المسلح"، وهي عبارة تستوحي ما قاله فيلسوف روما قديماً: "دعهم يكرهونك ما داموا يخشونك" وهو قول استرشد به الأباطرة الرومان واستخدموه في المحافظة على هيبة الامبراطوريه وفي البطش والإرهاب وإبادة
_________
(1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005(3/154)
الشعوب، وهو ما حرك ضدهم جميع أنواع المقاومة التي أدت في النهاية إلى تفكك امبراطوريتهم وسقوطها (1). وربما ينطبق هذا القول على الأمبراطورية الأمريكية، ولكن مع الفارق في ان الأمريكان لا يعرفون أو لا يريدون ان يعرفوا سبب كره العالم لهم. ففي مؤتمر صحفي عقده بعيد هجمات 11 سبتمبر، سئل الرئيس جورج بوش لماذا يكرهوننا؟ و (واو) الجماعة كان عائداً على الارهابيين ومؤيديهم، بمن فيهم اولئك الذين كانوا يعرفون باسم الدولة المارقة، والتي ما لبث بوش ان وصمها بمحور الشر (2). وقد جاء الجواب مضللاً حينها على لسان بوش الابن وصناع القرار: "أن الذين يهاجمون أميركا يدفعهم الحسد والغيرة من الرفاهية والديمقراطية التي تنعم فيها الولايات المتحدة، وهو الجواب الأكبر شعبية وتعميما اليوم" (3).
وقد علق على ذلك (وليام بلوم) بقوله: "هناك بعض الابتدال والتفاهات التي يغدينا قادتنا ونقادنا بها عقب كل هجوم ارهابي ضد منشآت امريكية، هي: ان صورة أمريكا، الجميلة الواقفة على التل يحسدها عليها الجميع، مما يجعلها هدفاً لهجمات الارهابيين الذين لا يستطيعون تحمل ان تنتصر مثل هذه الطيبة المطلقة في عالم ينتمى إلى سيدهم ابن الصباح نفسه الشيطان" (4).
اما لماذا لا ينتبه الأمريكيون لكره العالم لهم، فيعود إلى انشغالهم بأنفسهم، أو كما قال أحد مسؤولي محطات التلفزيون الأميركية العملاقة: "إن الشباب الأميركيين يهتمون بنظام التغذية والريجيم أكثر من اهتمامهم بالخفايا المعقدة لدبلوماسية الشرق الأوسط". وبتفسير أكثر رصانة لرئيس شبكة MSNBC يقول فيه: "إن اللوم يقع على غشاوة وطنية من ضباب المادية، وعدم الاهتمام، والميل إلى الانطواء". وقد أظهر الأميركيون المشاركون فعلياً في السياسة الخارجية الأميركية أنهم ضيقي الافق ومصابون بغطرسة القوة، وراحوا يجادلون بعدم الحاجة إلى
_________
(1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص87
(2) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص16
(3) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص100
(4) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد- ص 62 - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 2002(3/155)
الاهتمام بالأمم الأخرى (1). ولكن ثورة المعلومات والاتصالات أتاحت الفرصة للاعبين جدد غير الحكومات للعمل والتدخل والتأثير، وحدث ما يمكن تسميته بـ (خصخصة الحرب)، فقد استطاعت منظمات أهلية صغيرة ومحدودة في مناطق فقيرة وهامشية ومعزولة من العالم أن تشغل الولايات المتحدة وتهددها (2). فبعد ان شعر الآخرون أن أميركا قد أعلنت الحرب على العالم - وهو امر يصعب على كثير من الأميركيين فهمه وإدراك أن هذا هو رأي العالم بما يقوم به بلدهم في الخارج- بدأ الأمريكيون يشعرون بكره العالم لهم، حيث ان ضيق أفق الكثير من الأميركيين هو المسؤول عن إطلاق هذه الكراهية.
ويحاول (كلايد برستوفتز) ان يفسر سبب ضيق افق الأمريكيين وكره العالم لهم فيقول: "هذا ويرجع ضيق الأفق ذاك، إلى حقيقة كون أميركا لا تعنى بالكثير من الأخبار الخارجية ولا تنفتح على الثقافات الشعبية الأجنبية, ويحكمها نواب منتخبون لم يسبق لهم أن غادروا أميركا". فأميركا بالنسبة للغالبية القصوى من الأميركيين هي (أم العالم) أو هي العالم، وكل ما يجري خلف البحار والمحيطات التي تحيط بها لا يعنيهم في شيء. وهكذا فإن عدداً من اصدقائنا وحلفائنا يبادرون إلى تبني وجهة نظر بعد وجهة نظر اخرى، مناقضة لوجهة نظرنا نحن. فهل هم بلهاء؟ تافهون؟ فاسدون؟ قد يكون عدهم كذلك مريحاً، غير ان الحقيقة هي اننا نحن انفسنا، من يجسد حالة الشذوذ والخروج على المألوف. لقد اصبحنا غرباء كدولة وكأمة. كثيراً ما لا ندرك الحقيقة بسبب ضخامة حجمنا بالذات، هذه الضخامة التى تعرقل رؤيتنا للآخرين، وبسبب قوتنا التي تمكننا من ان نفترض ان معيارنا أو رأينا هو المعيار أو الرأى السائد، أو الذى ينبغي ان يكون سائداً في العالم. "وهكذا فاننا ما زلنا، على مستوى شبه طائفي، متمسكين بالاميال والبوصات ودرجات الفهرنهايت، مع ان باقى العالم انتقل منذ زمن بعيد إلى اعتماد النظام المترى الابسط بكثير". يكمن الجانب الغريب حقاً لهذه الظاهرة في حقيقة هي ان باقي العالم يحرص، بسبب قوتنا على مسايرتنا، وعلى (اخذنا على قدر عقولنا) مما يتيح لنا فرصة الغرق في نشوة الانبهار
_________
(1) لماذا يكره الناس أميركا?- ضياء الدين سردار وميريل واين ديفز- الناشر: آيكون بوكس ط1 2002 - كامبردج بوك ريفيو
(2) مفارقة القوة الأميركية جوزف ناي -تعريب: محمد توفيق البجيرمي الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض(3/156)
وعدم رؤية الواقع. ففيما يظل باقي العالم عاكفاً على مراقبة أمريكا باهتمام وعلى اخذ آرائها في الحسبان، يبقى الأمريكيون غالباً غافلين عن وجود آراء اخرى- أو هم لا يبالون بها إذا انتبهوا إلى وجودها.
وليس الامر الذى يثير حفيظة الاجانب من النزعة الاحادية الأمريكية متمثلاً بقراراتها السياسية الواعية، بل متجسداً بحالة النسيان والغفلة الكامنة وراء تلك السياسات والخطط (1).
وهناك أيضاً تأكيد كبير على جوانب ضعف الثقافة الأميركية وفشل المخيلة الأميركية في إدراك مدى المعارضة التي تثيرها السياسات الأميركية. فالأميركي المعزول طوعاً بسبب انشغاله في تفصيلات حياته اليومية, أو قسراً بسبب إغراق وسائل الإعلام في القضايا المحلية والتافهة وملاحقة أخبار الفنانين, لا يستوعب ولا يعرف أساساً ما الذي تقترفه السياسة الخارجية الأميركية في بقية مناطق العالم, وكيف يُنتج توحش تلك السياسة عداوات متراكمة ضد الولايات المتحدة وسياستها وشعبها أيضاً. وعندما تنفجر تلك العداوات بشكل عنيف يتفاجأ الأميركيون ولا يدركون ما الذي حدث ولماذا. فقد شهدت الولايات المتحدة بعد عام 1989 موجة مراجعة شاملة للسياسات والمواقف الأميركية قائمة على الانكفاء للداخل، وتقليص الإنفاق العسكري، حتى إن محطات الإعلام الأميركي خفضت مكاتبها الخارجية بنسبة الثلثين، ولكن أحداث 11 سبتمبر أعادت السياسة الخارجية مرة أخرى إلى الواجهة وجعلتها مركز الإستراتيجية الأميركية، حيث كشفت الأحداث عن الحاجة إلى إستراتيجية أميركية جديدة قائمة على القوة العسكرية والقوة الناعمة التي لا تقل أهمية عن السلاح والتقنية، ويقصد بها الثقافة والإعلام، إذ تبين للأميركيين أن العالم يكرههم، فتنبهوا إلى ضرورة تنفيذ حملة إعلامية وفكرية تحت عنوان (لماذا يكرهوننا؟). http://www.aljazeera.net/books/2003/3/3-5-1.htm - TOP
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص24 - 25(3/157)
كراهية السياسة الأميركية
حدد السيناتور الأميركي الليبرالي (وليم فولبرايت) في كتابه (غطرسة القوة) عام 1966، موطن الداء في السياسة الخارجية الاميركيه التي تهيمن عليها بحسب وصفه "روح توسعيه تسعى إلى هداية الدول الأخرى ودعوتها أو إجبارها على الاقتداء بالنموذج الأميركي، باعتباره افضل ما أنجزته البشرية"، حيث كانت هذه الكلمات صرخة قويه تعبر عن الاحتجاج على اعتبار القوة والفضيلة صنوان يتماهيان إلى حد التطابق، وهذه هي الآفة الكبرى للغرب والتي ستقوده إلى الأفول، وربما ستقود البشرية إلى دفع الثمن الذي لا يحتمل. ليس الغرب إذن مجرد هدف للعنف أو الإرهاب، بل هو كان ولا يزال نموذجاً ومثالاً أعلى لصناعة العنف والقوة والارهاب (1). فهذه الحضارة الغربية قد ولّدت أبشع الحروب وأكثرها مأساوية في التاريخ، وأن ضراوة ووحشية تلك الحروب كانت دوماً من حرب إلي أخري، تصبح أكثر تدميراً، وذلك في تناسب مباشر مع الحضارة الغربية وحداثتها. فكلما زادت الحداثة الغربية، زادت إمكاناتها وزادت تبعاً لذلك لا إنسانيتها ووحشيتها (2).
وبدلاً من ان يعترف الغرب وأمريكا بالذات بمسئوليتهم عن صناعة الارهاب، فإن كثير من التحليلات الأميركية تحوم في مجملها حول القول بأن: "الإرهابيين يستهدفون الولايات المتحدة لأنهم يحسدونها, أو لأنهم يكرهون نمط الحياة فيها, أو لأنهم يحبون الموت الأعمى والمجاني". ولكن البعض يقول إن هؤلاء (الإرهابيين) هم نتيجة لظاهرة, وليس ظاهرة بحد ذاتها معزولة عن جذور مؤسسة لها. إنهم, نتاج السياسة الخارجية الأميركية الفاشلة التي حشدت العداء والأعداء في كل العالم وتحصد الآن ما زرعت ليس إلا. فالعالم لا يكره الولايات المتحدة كشعب, أو طريقة حياة, أو نمط تسييس داخلي. لكن ما تكرهه الشعوب هو سياسة أميركا الخارجية لا
_________
(1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص149
(2) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم -القدس العربي- 28/ 2/2003(3/158)
حياتها الداخلية (1). بحيث يصير المعادون لأمريكا ظاهرة عالمية بقدر عالمية الهيمنة الأمريكية (2).
وهنا يقول مؤلف كتاب (ترهات امبريالية): "كيف يمكن أن نتوقع أن يبلع العرب والمسلمون دعمنا الأعمى واللامحدود لإسرائيل ولسياستها المتجاوزة كل قانون؟. كيف نريد من تلك الشعوب أن لا تكرهنا ونحن ندعم الأنظمة الفاسدة التي تتحكم في رقابها, على عكس كل شعاراتنا الديموقراطية وكل تغنينا بحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية؟ كيف يمكن أن نتوقع استمرار سكوت هذه الشعوب على السياسات العقيمة التي لا تنتج إلا التطرف بعد أن نكون قد سددنا عليهم كل نوافذ التحرك السلمي والاعتراض غير العنيف؟ ". وهنا يقف المؤلف أكثر من مرة ليكرر أنه بكلامه هذا لا يبرر ما فعله بن لادن ولا يقبل أياً من مسوغاته, لكنه في الوقت ذاته فإنه لا يتردد في توجيه النقد الذاتي إلى السياسين والمفكرين الأميركيين الذين إما كانوا على درجة رفيعة من السذاجة السياسية والثقافية في تجاهلهم للنار التي تمور تحت الرماد, وإما كانوا على درجة كبيرة من الخبث أو اللامبالاة حتى بمصالح بلدهم عندما أوغلوا في سياسة الازدراء والعنجهية الخارجية. لكن سواء أكانت السذاجة أم اللامبالاة فإن الجذر الذي يرصده المؤلف يعود إلى ما يسميه (الترهات أو العجرفة الإمبرطورية) التي تفاقم تحكمها في العقلية الأميركية خلال العقود الأخيرة.
فهذه العقلية تؤمن بأن أميركا, سيدة العالم الحر, بإمكانها أن تفعل ما تشاء لأنها تريد تحقيق الخير والمصلحة للعالم ونشر الحرية والديمقراطية. وتعتقد أنها تظل تفعل ذلك حتى تحالفت مع نظم مستبدة أو قلبت أنظمة حكم ديمقراطية أو ضربت حركات تحرر تتأسس لتقاوم الظلم والدكتاتورية في بلدانها. فثمة التباس كبير في الإدراك الأميركي العام, إن على مستوى القيادة السياسية العليا, أو الرأي الشعبي العريض, في اعتبار مصالح الولايات المتحدة هي مصالح البشرية. وأن ما يستعصي على الفهم خارج إطار هذا الالتباس الفاضح مرده إلى تخلف الآخرين وراء
_________
(1) لماذا يكره الناس أميركا? تأليف- ضياء الدين سردار وميريل واين ديفز- كامبردج بوك ريفيو
(2) العدو الأمريكي (اصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا - فليب روجيه - ترجمة بدر الدين عردوكي - المشروع القومي للترجمة عدد816 - ط1 2005(3/159)
الحدود أو حسدهم أو إرهابهم غير المفهوم أو محدودية ثقافتهم التي لم تنقلهم النقلة المطلوبة لاستيعاب فكرة تماهي المصلحة الأميركية بالمصلحة البشرية العامة. إذ لم يكن مفهوماً بالعمق المطلوب أن هناك مظالم متراكمة وتاريخية ومعاصرة وصلت بشعوب بأكملها إلى انسدادات مطبقة (حيث الأنظمة المستبدة داخلياً, والقوى الضاغطة خارجياً) مما دفع بشرائح من الشبان إلى حواف الجنون والتطرف الذي لا يُرى إلا بأنه أعمى، عندما يرى من الخارج (1).
الكيان السياسي العنيف
ان تحليل الأسباب السياسية التي تجعل أميركا مكروهة توضح ان: "ما يكرهه الناس في أميركا هو ذلك الكيان السياسي المستند إلى العنف وازدواجية المواقف, والخيلاء, والأنانية, والسذاجة التاريخية التي لا تفرق بين الذات وبقية العالم". فالولايات المتحدة في تعاملها مع بقية العالم تتصرف مثل مراهق نزق هائل الحجم, فإن لم تعجبها السياسة الاقتصادية لبلد ما، فإنها تسحقه بواسطة منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي. فإذا لم يأت لها ذلك بالنتيجة المطلوبة فإنها تفرض عليه العقوبات أو تسعى إلى الإطاحة بزعمائه في انقلاب مدبر كما حدث في إيران وتشيلي وغواتيمالا. أو عن طريق الغزو العسكري كما حدث في أمريكيا اللاتينية واوروبا واسيا". وهنا يقول ايمانويل فالترشتاين: "تبالغ الولايات المتحدة في التعويل على ورقة واحدة في لعبة (البوكر) الدولية، هي الورقة العسكرية. صحيح انه لا يطيب لنا ان نرى انفسنا شعباً مولعاً بالحرب، ولكن هل نستطيع ان نتوقع من الآخرين ان يعانقونا على اننا (محبو سلام) وهم يرون بأعينهم اننا لا نثق في الحقيقة الا بالسلاح (2).
فمن اجل ترسيخ وتثبيت حقها في استغلال الشعوب الأخرى، تلجأ أمريكا بانتظام إلى استخدام أشكال العنف المتطرفة، وفي طليعتها الحرب. فعلى مدى
_________
(1) ترهات إمبريالية-المؤلف: مجهول-الناشر: واشنطن بريسيز إنك ط1 2004 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت 5 - 10 - 2004
(2) لدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص222(3/160)
العقود القليلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ارتكبت الولايات المتحدة من الجرائم الحربية ضد البشرية، ما يكفي لجعل النظام العالمي الأمريكي جديراً بمحاكمة نيورنبرغ، والإدارة الأمريكيه جديرة بالمصير الذي احاق بالمجرمين الهتلريين. وتلكم هي قائمة العدوان السافر فقط هذا عداك عن الحرب غير المعلنة التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكيه وعلى مدى عشرات السنين ضد السلفادور غواتيمالا، كوبا، نيكاراغوا أفغانستان وإيران واتفقت الأموال الطائلة لدعم الأنظمة العميلة لأمريكا أو المتمردين الذين يتلقون دعم أمريكا، والذين يعارضون الحكومات الشرعية، التي لا تعترف بالسيطرة الأمريكيه في هذه المنطقة. أما هندوراس فقد حولتها الولايات المتحدة إلى رأس جسر للعدوان على السلفادور ونيكاراغوا. وبلغ إجمالي ضحايا الحروب والإرهاب الأمريكيه خلال اقل من نصف قرن تقريبا 1948 - 1996اكثر من 10مليون شخص، هذا عداك عن الجرحى والمشردين (1). وربما هذا هو ما دفع (مارتن لوثر كينج) للتحدث باسم قارات بأكملها حينما صرح قائلاً: "إن متعهد العنف الوحيد في العالم هو بلدى" (2).
نهب ثروات الأمم
بالاضافة إلى ان العالم يكره السياسة الأمريكية العنيفة والمتطرفة، فإن هناك اسباب مهمة أخرى لكراهية العالم لأمريكيا. فالاسباب الاقتصادية لكراهية أمريكا تعود الي، إن أميركا "قد جعلت العيش أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة للشعوب الأخرى", بسبب ما تعمد إليه من تلبيس اهتمامها الوحيد بالتجارة الحرة بلبوس المظهر الإنساني الذي تتخذ منه ذريعة للمزيد من التدخلات الخارجية حول العالم (3). وإذا كانت التجارة الحرة قد تحولت إلي كلمة مألوفة بعد ان تم إيجاد منظمة التجارة العالمية مؤخراً لمراقبتها، فقد ظلت سياسة التجارة الحرة علي الدوام محوراً للرأسمالية الأنجلو-سكسونية. وكان البرلمان البريطاني قد أصدر بيان مبادئ منذ
_________
(1) لهذا كله ستنقرض أمريكا، الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى- ايرينا بونتشينسكايا - ص 81 - دار الحصاد للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق- ط1 2002
(2) بوش في بابل (اعادة استعمار العراق) - طارق على ترجمة د. فاطمه نصر ص230
(3) لماذا يكره الناس أميركا? تأليف- ضياء الدين سردار وميريل واين ديفز- كامبردج بوك ريفيو(3/161)
عهد سحيق يعود إلي عام 1820 دعماً للتجارة الحرة المطلقة. وقد تمت إعادة صياغة هذا البيان بموجب قوانين كورن عام 1846. وهكذا فإن أيديولوجية الرأسمالية الحاليّة القائمة علي المبادئ الداروينية الأنكلوسكسونية لم تتغير وما زال هدفها النهائي هو المال الذي يجر مالاً، ويجب أن يكون كذلك وبأية وسيلة بالحرب أو السلام. فقط هي الوسائل التي تغيرت، فقد كانت في الماضي عبارة عن الاحتلال المباشر للدول، أما اليوم فتتم من خلال مصائد الديون وإخضاع الإرادة والاستقلالية الاقتصادية.
فبعد ان انتهى عصر الاستعمار المباشر وتحرر معظم دول العالم وحصولها على استقلالها، لجأت الدول الاستعمارية إلى اسلوب جديد من الاستعمار من خلال التركيز على نخب معينه في مختلف المجالات لضمان تبعيتها للاستعمار وتنفيد مطالبه واهدافه مقابل منافع خاصه لهذه النخب. فقد تم إيجاد نخبة مختارة في كل بلد ودربت هذه النخبة لخدمة المستعمرين مقابل منافع خاصة بهم. وهكذا وجدت طبقة الواحد بالمئة في هذه المستعمرات وباتت مصالحها ومصالح المستعمر وقوانينه واحدة لا تتجزأ. وفي الوقت نفسه، كانت هذه المصالح، بطبيعة الحال، مختلفة عن مصالح الشعوب. فقد كانت المواد الخام تنتج في المستعمرات وتشحن إلي الدول الغربية حيث تصنع ويعاد شحنها من جديد إلي المستعمرات كمنتجات لتصريفها في أسواقها. أما في النظام الاستعماري الجديد، عندما أصبح النمط القديم من الاستعمار باهظ التكلفة، فقد اعتنق الغرب مبدأ الاستعمار غير المنظور، حيث منحت المستعمرات استقلالها وقام الغرب بتنصيب تلك النخبة التي قاموا بإعدادها وتعيين أفرادها قادة وحكاماً للبلدان المستقلة الجديدة. ومن خلال حرية تحرك رؤوس الأموال والسلع استحوذ المستعمرون الجدد علي القطاعات الصناعية والمالية والشركات الأخري في المستعمرات السابقة، عن طريق الشركات متعددة الجنسيات التابعة لهم (1).
وقد سبق لانجلز ان اعرب في احد كتبه عن اعتقاده أن الليبرالية الداعية إلى التجارة الحرة تعاني من خلل ضمني يتعلق بصميم تكوينها لأنها تقوم على استغلال
_________
(1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003(3/162)
الطبقات العاملة: وهو وضع بات يعبر عن نفسه بالجريمة وسوف يقود سريعاً إلى الثورة (1). فالولايات المتحدة تشكل اليوم النموذج الأبرز للطفيلية الاقتصادية في التاريخ العالمي: فهي تستهلك 40.% من إجمالي موارد العالم الاستهلاكية، في الوقت الذي لا تزيد نسبة سكانها عن 5 % من سكان العالم. وهي إذ تستولي من البشرية على القسم الأكبر من الموارد، لا تدفع إلا النذر اليسير مقابل ذلك، والأكثر من هذا أنها تخلف وراءها الطبيعة الميتة والأنهار والأجواء المسمومة، فثلث التلوث للبيئة يحدث بسبب الولايات المتحدة. ومن حيث المعايير الاقتصادية فان ما ينتج في الولايات المتحدة ليس أمريكيا في الواقع بل يخص البشرية، التي قامت بتصديره إليها. إن كل أمريكي يستهلك اليوم ثمانية امثال ما يستهلك نظيره في العالم. فهل يعقل إن يصدق أحد إن الفضل في تأمين هذا المستوى الخارق من الاستهلاك يعود فقط إلى الاجتهاد المميز في العمل أو إلى الإنتاجية العالية؟ (2).
لقد خلص الكثير من المفكرين إلي أن الرأسمالية التي ترتكز علي ثقافة الرغبة، قد فشلت في الوفاء بوعودها، وبدلاً من ذلك فهي لم تجلب لمعتنقيها سوي التعاسة. وكتب (لي آتووتر)، وهو أحد الرموز البارزة في إدارة الرئيس ريغان، في عدد فبراير 1991 من مجلة (لايف): "لقد ساعدني مرضي علي أن أدرك أن ما كان مفقوداً في المجتمع كان مفقوداً في داخلي أنا أيضاً: قليل من الحب والمودة وقليل من الأخوة. كانت الثمانينيات عقد الاكتساب- اكتساب الثروة والقوة والهيبة، وأعلم أنني اكتسبت من هذه كلها أكثر مما اكتسبه غيري بكثير. ولكن بإمكان المرء أن يكتسب من الثروة والسلطة والهيبة قدر ما يريد، ولكنه سيظل فارغاً خاوياً من الداخل ... لقد تكلفني الأمر هذا المرض العضال القاتل حتي أصل إلي الحقيقة وجهاً لوجه، حقيقة أن هذا البلد، الذي يرزح تحت الطموحات التي لا ترحم والانحلال الأخلاقي، يمكنه أن يتعلم علي حساب تجربتي. لا أعلم من سيقودنا في عقد التسعينيات، ولكن ينبغي عليه أن يتحدث صراحة عن هذا الخواء الروحي في قلب المجتمع الأميركي، إنه ورم
_________
(1) إنجلز .. مقدمة قصيرة جداً- تيريل كارفر- مراجعة/ كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت
(2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 64(3/163)
خبيث ينتشر في أرواحنا". لقد اتفق الكثيرون في أميركا مع هذا التحليل: أن هناك ورماً خبيثاً يسري في أعماق الرأسمالية وماديتها ويتغلغل في روحها.
ولو قلنا إن أولئك العاملين في قلب الرأسمالية ومركزها والذين يحولون مصادر العالم وثرواته لتصب في جيوبهم ليسوا سعداء ضمن هذا النظام الرأسمالي، فما من شك في أن أولئك الذين عانوا أيضاً من استغلالية هذا النظام في دول الأطراف ليسوا سعداء أيضاً، إن لم نقل أكثر تعاسة. لقد بدأ الطرفان، أباطرة الرأسمالية والشعوب في دول الأطراف، بالبحث عن الحل. يخبرنا التاريخ أن الإنسان منذ بدء الخليقة كان محتاجاً إلي روابط روحية وكان له إلهه الذي يعبده. لقد عاد الناس في كل دول العالم إلي أديانهم وكتبهم المقدسة. وحتي أولئك الذين لم يجدوا إجابات في كتبهم استمروا في البحث عنها في أديان أخري. وظهر العديد من المنظمات الرئيسية الدينية، إلي جانب التنظيمات المتطرفة التي تسمي في أميركا بالجماعات المتعصبة، في كل الديانات مثل المسيحية والإسلام واليهودية وحتي في ديانات أخري مثل الهندوسية. وكلما أصبح تعصب الأسواق أكثر وحشية ازدادت التوترات وارتفعت وتيرة كل أشكال التعصب الأخري (1).
الأسباب الحقيقية لكره العالم لأمريكا
اذ كانت الاسباب السابقه هى مؤشرات لاسباب كره العالم لأمريكا، الا ان السبب الحقيقي يكمن في ان العقلية الأمريكية المبنية على القواعد التلموذية هى التى تجعل العالم يكره أمريكا، بسبب كون الثقافة الأمريكية في جزء كبير منها ذات جذور يهودية. فكما كره العالم اليهود واليهودية بسبب تكوينهما الفكري والديني العنصري والوحشي والاستغلالى، فان العالم اليوم يكره أمريكا لنفس السبب السابق، حيث تعتبر أمريكا نفسها اسرائيل الجديدة وشعبها شعب الله المختار الذي ميزه الله عن غيره وحمله رسالة الهية لتمدين العالم بكل الوسائل. "وتساند هذه الرسالة رؤية فلسفية حددتها البراجماتية، منها الإيمان بأن الحياة، ثقافة واقتصاداً وسياسة، صراع دموي، وأن البقاء للأقوى. إن مبدأ التطور، حسب التأويل البراجماتي،
_________
(1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003(3/164)
يبرر التنافس بين الثقافات. وإن الحروب بين الحكومات والأديان والنظم الإجتماعية والأجناس البشرية والطبقات تقوم على أساس أن بقاء للأصلح، بمعنى الأقوى في نظرهم، هو قانون الطبيعة، وهي طبيعة (حمراء الظلف والناب). وإذا كان الإنسان قد خرج من الصراع وهو سيد الأنواع، فلماذا لا نتطلع إلى سلالة بشرية تكون سيدة السلالات؟ وإذا كانت الثقافة قد تطورت من خلال عملية مماثلة، فلماذا لا نتطلع إلى تقافة هي سيدة الثقافات؟ وبقاء الثقافة وانتصارها على سواها رهن بعمل وجهد أصحابها" (1).
هذه الثقافة الأمريكية التي استمدت جذورها من ثقافة العهد القديم، ثقافة النهب والسلب والابادة والقتل والدمار، هى ما يكرهه العالم في أمريكا. ولهذا فقد أمضى (توماس باين) كل حياته في التفنيذ والنقد والتحذير من كتابه المقدس الذي "يفسد البشر ويصنع منهم وحوشاً". انه في عصر العقل يعري أخلاق (العهد القديم) التي تبرر الإبادة والمذابح الطقسيه والتضحية المقدسة بذلك (الآخر) الكنعاني المهدور الدم ... في هذه التعرية يرينا توماس باين كيف يمكن للخطاب المقدس إن يصنع من الإنسان وحشاً يوحد بين طبيعته الوحشية وما يعتقد انه إرادة الله" (2).
وباختصار يمكن القول ان إمبراطورة الشر في العالم تتجسد الآن في أمريكا وقد تمادت في غيها إلى أقصى الحدود مستخدمة كل أنواع الفجور المشفوعة بكل أنواع القوة، بدءاً من أول تاريخها الذي قام على إبادة شعب قارة بأقذر الطرق وأفظعها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، وحتى هتلر ودعواه العرقية التي يحتمل انه استمدها من غزاة القارة الأمريكيه، لم تستطيع أن تصل إلى سوية ممارستهم، وانتهاء بالواقع الراهن الذي تباح فيه كل أنواع المحظورات الأخلاقية والأدبية وتحت شعارات واهية (الحرية). وأما حرية الشعوب والحقوق التي يتحدثون عنها بشكل يصم الآذان فلا تتعدى قول بوش الأول: "ما نقوله يمشي". فالحق ما تقوله أمريكا وكلام أهل الأرض قاطبة ضلال. وهنا يبين المفكر واللغوي المشهور (نعوم تشومسكي) كيف أوصلت الولايات المتحدة العالم إلى لحظة الحدود النهائية
_________
(1) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص228
(2) حق التضحية بالآخر- تأليف منير العكش-ص154(3/165)
بين امتيازات القوة وإمكانية العيش على الأرض، وما هي المخاطر المحدقة بالعالم بسبب هذه السياسة، ولماذا يرغب القادة الأميركيون في تعريض مستقبل البشر للخطر من خلال السعي للسيطرة على العالم مهما كانت التضحيات والخسائر، مثل إرهاب الدولة، وعسكرة الفضاء، وتعطيل الاتفاقات الدولية (1).
معنا أم ضدنا: دراسات في ظاهرة معاداة أميركا عالمياً
تكمن أهمية كتاب (معنا أم ضدنا: دراسات في ظاهرة معاداة أميركا عالمياً) في أن محرريه, قد عالجا مسألة انتشار ظاهرة العداء للولايات المتحدة الأميركية على المستوى العالمي وفي مناطق مختلفة ومتباعدة ومن زوايا عدة, ولم يختصرا أو يربطا ظاهرة العداء لأميركا بالشرق الأوسط أو العالم العربي والإسلامي كما حاول غيرهما فعل ذلك (لغاية في نفس يعقوب)، حيث يشير المحرران في مقدمة الكتاب إلى أن ظاهرة العداء المتزايد للولايات المتحدة الأميركية في العالم إنما تعود إلى التناقض الكامن في سياسات الولايات المتحدة نفسها, فهي تدعو إلى احترام القانون وفي نفس الوقت تقوم بانتهاكه, وتدعو إلى احترام الديمقراطية ثم تقوم بانتهاكها. ومن هنا, فإن انتشار المشاعر المعادية للولايات المتحدة لا يعد إلا رد فعل على سياساتها المتضاربة التي تعتمد على التحدي الفردي والقوة العسكرية بشكل مبالغ فيه, وهو الأمر الذي من شأنه أن يولد شعوراً لدى الجماعات الوطنية والدينية المختلفة بخطورة الولايات المتحدة وبكونها عدواً تشكل (رسالته العالمية) تهديداً لها. ويضيف المحرران أن سياسات جورج بوش كانت سبباً أساسياً في انتشار مظاهر العداء للولايات المتحدة الأميركية، وإن هذا العداء هو عداء لسياسات بوش بالدرجة الأولى وإدارته، التي عكست للآخرين مدى الانفراد الأميركي بإدارة شؤون العالم، الأمر الذي قاد العديدين للقول بعجرفة وغطرسة الولايات المتحدة الأميركية خاصة اثر تصرفاتها الأحادية.
_________
(1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم - نعوم تشومسكي -ترجمة سامي الكعكي -تقديم/ إبراهيم غرايبة الجزيرة نت -29/ 7/2004م(3/166)
مؤشرات سلبية عن صورة أميركا في أوروبا
لم يحدث في تاريخ أوروبا أن تشكلّ إجماع شبه مطلق ضدّ أمريكا مثلما هو الحاصل الآن بعد شروع أمريكا في إحتلال العراق. وإذا كان الإعتراض على أمريكا في أوروبا في وقت سابق مقصور على التيارات والنخب الثقافية اليسارية, فقد بات الغضب على أمريكا سمة الشارع الأوروبي في الظرف الراهن. ولأوّل مرة تتوافق القوى السياسية اليمينية واليسارية والتي تقف في الوسط, والكنائس والتيارات الدينية بمختلف مذاهبها، على الإعتراض الشامل على أمريكا سياسة وتوجهات عدوانية. كما أنّه ولأول مرّة وفي معظم الدول الأوروبية تتقاطع فيه التوجهات الرسمية مع التوجهات الجماهيرية، حيث أصبحت أمريكا دولة عدوانية بدائية، بعد أن نجحت في تسويق نفسها أوروبياً في وقت سابق كدولة ديموقراطية أولى في العالم (1).
وتؤكّد إستطلاعات الرأي العام في معظم العواصم الأوروبية كألمانيا والسويد والنرويج وفنلندا والدانمارك وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا واليونان وغيرها، أنّ أغلبية شعوب هذه الدول هيّ ضدّ أمريكا وسياستها العدوانية في العراق. ففي فرنسا تضامن الشعب الفرنسي والحكومة مع خسائر الولايات المتحدة في أحداث 11 سبتمبر, لكن الولايات المتحدة خسرت هذا التعاطف تجاهها، عندما قررت غزو العراق دون الاكتراث لموقف (أوروبا العجوز) -على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد- وقتئذ. وفي ألمانيا تولدت ظاهرة العداء لأميركا نتيجة عوامل عديدة، أبرزها العوامل التاريخية مثل الماضي النازي وذكريات الحرب الباردة. وقد عززت الحرب الأميركية على العراق وإمطاره بالقنابل والقذائف والصواريخ المخاوف الشعبية الألمانية، وأحيت ذاكرته المرتبطة بذكريات مشابهة عن قصف مماثل تعرضت له المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وطرد الألمان من شرق أوروبا. ولا يقتصر العداء على الجانب السياسي, إذ تعارض قطاعات واسعة في ألمانيا نموذج حرية السوق الأميركية. ويندرج في هذا اهتمام الأجيال الشابة في ألمانيا، كما هي
_________
(1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm(3/167)
الحال في أوروبا عموماً، بقضايا مثل العولمة وتدهور البيئة، والدور السلبي للولايات المتحدة تجاهها.
أما في روسيا فإن المشاعر القومية والدينية (الأرثوذكسية) تلعب دوراً في تغذية العداء للولايات المتحدة، وإن انهيار الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى خلق لدى البعض امتعاضاً ومشاعر كبيرة من العداء لأميركا، خاصة عندما يقيم القوميون الروس مقارنة بين التدخلات الانتهازية والاستعمارية للولايات المتحدة في العالم من جهة، ومساندة الاتحاد السوفياتي لشعوب العالم المقهورة ودعم حركات الاستقلال سابقاً, بهدف المساعدة وليس المصلحة من جهة ثانية, كما يقول هؤلاء. وهم كما الألمان والفرنسيين عارضوا بشدة الحرب الأميركية على العراق عام 2003 (1).
هل يجب الخوف من أمريكا؟
تعتبر (نيكول باشاران) (2) الاختصاصية الأولى على المستوى الفرنسي في شؤون الولايات المتحدة، ويكاد أن يصح العكس ايضاً. هي امريكية لدى الفرنسيين، وفرنسية لدى الأمريكان. لقد بلغت أرجاء العالم قاطبة اصداء الصرخة التي اطلقتها بعد ساعات من احداث 11 سبتمبر عبر القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي: (كلنا امريكيون)، وصارت شعاراً، قبل أن تتحول لاحقاً إلى مبرر لنقد انسياقها وراء العاطفة الأمريكية الجياشة، بدلاً من ان تعمل ميراثها (الديكارتي) من أجل قراءة متأنية للموقف. وتقدم في كتابها الجديد الذي صدر بالفرنسية: (هل يجب الخوف من أمريكا؟)، صورة هي كناية عن مزيج بين تجربة شخصية حياتية قائمة على المعايشة والمعاينة المباشرة، وقراءة سياسية مبنية على محاكمة منهجية يلعب التاريخ دوراً أساسياً في توجيهها، حيث تبدأ الكتاب باعتراف شخصي على قدر كبير
_________
(1) معنا أم ضدنا: دراسات في ظاهرة معاداة أميركا عالمياً- المحرران: توني جدت ودنيس لاكورن- عرض علي حسين باكير- الجزيرة نت
(2) مؤرخة وخبيرة سياسية في شؤون المؤسسة الأمريكية. درست وتخصصت في شؤون الاقلية السوداء، وعاشت قسطاً طويلاً من حياتها في أمريكا، لكنها عادت إلى وطنها الأم فرنسا منذ عقد من الزمن، وهي متفرغة الآن للبحث بالتعاون مع "معهد العلوم السياسية"، ومستشارة اعلامية في نفس الوقت للعديد من وسائل الإعلام، في الشأنين الأمريكي والفرنسي.(3/168)
من الأهمية: "لطالما تساءلت أنا شخصياً، في ما إذا كانت أمريكا مصدر ألم العالم. وفي ما إذا كان واقع الحال، يطابق الصورة التي ترسم لها من هذه الضفة الثانية من الاطلسي: مغرورة، عنيفة، عديمة المساواة، مبتذلة، أمريكا امبريالية. ان أمريكا مثلما تسحر، هي موضوع كل حوار، وهدف كل نقد، لقد تم الحكم عليها بوصفها المسؤولة عن كل صداع الأرض. بل انها تحولت في السنوات الأخيرة إلى مادة للتندر، وصارت عبارة: على الطريقة الأمريكية، مثار شتيمة. (تحرير على الطريقة الأمريكية) و (نظام صحي على الطريقة الأمريكية) و (طائفية على الطريقة الأمريكية) ".
تجربة شخصية
تقول الكاتبة: أمريكا جزء من تاريخي وعائلتي وثقافتي. امضيت طفولتي في فرنسا في وسط فرنسي امريكي، وجزءاً من حياتي بعد ذلك في الضفة الأخرى من الاطلسي. تابعت دراساتي وعملت وربيت بناتي الثلاث في الولايات المتحدة، لقد كنت أراهن وهن يكبرن هناك، وفي كل صباح يقفن في ساحة المدرسة لتحية العلم الأمريكي، وهن ينشدن، والأيادي على القلوب، النشيد الوطني الأمريكي في المناسبات. شقيقتي عاشت هي الأخرى هناك واختطفها الموت قبل الأوان. حماتي لاتزال تعيش هناك في وسط امريكي محض. داخل هذه القبيلة الغريبة، الانجليزية هي لغة البيت: الضحك والمشاحنات والمسامرات. لقد عدت للاستقرار في فرنسا منذ حوالي عشر سنوات، لكن ما ازال موزعة بين البلدين. أمريكا الخاصة بي، كما يقول المغني الراحل (جاك بريل): "ليست حلما ولا وسواسا. انها ببساطة، حياتي وعملي". في كل يوم من اجل ناشري ومستمعي ومشاهدي على التلفزيونات، وجمهوري في الندوات، احاول ان اقيم مسافة: اشرح أمريكا للفرنسيين، وفرنسا للامريكيين. اشعر بالاغتناء من هاتين النظرتين للعالم، وأنا كالجسر بين هاتين الحقيقتين. وتضيف: ابحر دائماً بين هذين القطبين والقارتين، وحين هبت ريح مجنونة بينها خلال عدة اشهر، في فرنسا رأيت هوة تحفر، سوء تفاهم يقوم ... فجأة تحولت أمريكا إلى طفلة(3/169)
الغرب الشقية، بشعة ومرعبة، وحش مغرم بالغزو. هل حقاً أمريكا التي تخصني تتصرف بهذه الطريقة الفظة؟.
نعم، الحلم الأمريكي لا يزال له معنى ... ولكن!
تحت هذا العنوان تبدأ المؤلفة بالاستشهاد بجملة لمهاجر ايطالي في نهاية القرن التاسع عشر مخطوطة على باب متحف نيويورك تقول: "قالوا ان شوارع أمريكا مبلطة بالذهب، لكني حينما وصلت اكتشفت ثلاثة أشياء: الأول، انها غير مبلطة بالذهب. الثاني، انها ليست مبلطة على الاطلاق. الثالث، انهم ينتظروني لأقوم بتبليطها". ومن هنا تطرح السؤال: كم عدد الناس الذين رغبوا بالذهاب إلى أمريكا؟. عشرات ملايين النساء والرجال والاطفال، راودهم هذ الامل. هناك ارض بوسعنا ان نبدأ فوقها حياة جديدة، هناك بلد حيث بوسعنا الوصول إلى ما هو غير متاح: الحرية، الرخاء المادي، بل ان الثروة ممكنة كذلك. هذا هو (الحلم الأمريكي). فالحلم الأمريكي ليس طموح المحظوظين والأحرار والذين يعيشون الرفاه المادي، انه حلم الفقراء والمهاجرين الذين يحاولون منذ عدة قرون، بشتى الوسائل، الوصول إلى أمريكا (1).
ولكن هذا الحلم له وجه آخر .. فنحن نعرف منذ البداية ان هناك وجهاً مخفياً لهذا التاريخ الجميل، كذبة خلف المثاليات الكبرى، نوعاً من الخطيئة العامة. فالقارة التي تم اكتشافها من طرف المستكشفين الاوائل لم تكن خالية تماماً، مثلما كان الامر بالنسبة إلى سكانها الاصليين، اذ لم تكن هناك حرية ولا سعادة، ولا حتى حياة. كانت البداية بين المستوطنين والهنود الحمر عبارة عن صدامات ومجازر، ولكن تحالفات ايضاً، وحتى زيجات. لكن لم يطل الوقت حتى بدأت الصدامات بين الطرفين وكان البادئ بها هم المستوطنين الذين جاؤوا من اوروبا، بهدف توسيع مزارعهم وزيادة ملكياتهم من الاراضي، لذا كان طرد الهنود لا رجعة فيه، ومهما بلغ الثمن. فكانت المجازر وعمليات الترحيل الجماعي نحو جزر الانتيل، ومن ثم موجات الموت
_________
(1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005(3/170)
الجماعي عن طريق الانفلونزا والسل وأمراض اخرى، لم تكن معروفة حتى هذا الوقت في هذا الجزء من العالم. لقد قاد ذلك إلى حلم مشوه ومنحرف. في سنة 1820 كانت يتوجب عليهم ترك كل المناطق لعبور نهر اوهايو شمالاً، وفي سنة 1830 طردوا جميعاً إلى غرب الميسيسيبي. شيئاً فشيئاً بدا ان هناك عملية مسح مدروس للهنود من الأرض التي عاش عليها اجدادهم آلاف السنوات. مكان فارغ من اجل الحلم الأمريكي! كانت المواجهات الاخيرة مع القوات الفيدرالية سنة 1890، ولم يبق من الهنود في مناطق المحميات المخصصة لهم سوى 300 ألف نسمة. وقد اتبعت الحكومة سياسة الحفاظ على هذا القدر، وأعطتهم حق ادارة القطعة الصغيرة الواقعة تحت تصرفهم مع منحهم الجنسية الأمريكية، بعضهم اندمج في المجتمع الأمريكي، والبعض الآخر لايزال يعيش على طريقة الأجداد. وتتساءل الكاتبة: هل تصفية الهنود كانت مزروعة في جذر الحلم الأمريكي، هل كانت المقابل الذي لم يكن من الممكن تلافيه لديمقراطية جيفرسون؟ وتجيب: لا اعتقد. ان بناء عالم جديد لا يحتم تصفية السكان القدامى.
كان هناك الفضاء الكافي، والمتسع من الارض، بل ان بعض القيم الهندية كان يمكن ان يجد مكانه داخل الحلم الأمريكي، وكان بوسع هذه البصمات والانسجام ان يخلقا عالماً جديداً عن حق (1).
أمريكيا طليعة الانحطاط
هكذا تحول الوهم الذي دام اكثر من مائة عام، والذي سمى بالحلم الأمريكي إلى كابوس أمريكي، بسبب رغبة قادة أمريكا في السيطرة على العالم وبسبب جموحها البربري في التسلح، وبسبب نفاق تلك (الليبرالية) الإقتصادية المفروضة على الشعوب لامتلاك أسواقها بإنشاء عدة امبراطوريات للشر متعاقبة، تبرر إرهابها الخاص باسم محاربة الإرهاب، وتبرر جرائمها ضد الإنسانية: ضد الهنود والسود والفيتناميين، والحصار المفروض على كوبا وليبيا وإيران، والعراق الذي يشهد الصليب الأحمر الآن بأن أكثر من مائتين وخمسين ألف من أطفاله قد ماتو، في الوقت
_________
(1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005(3/171)
الذي تشهد فيه أيضا منظمة (اليونيسيف) بأن طفلاً من بين ثمانية أطفال في أمريكا نفسها لا يجدون ما يسد رمقهم. إن هؤلاء المدافعين عن (حقوق الإنسان)، إلى جانب جرائمهم ضد الإنسانية، يسجلون الأرقام القياسية العالمية في تعاطي المخدرات، وانتحار المراهقين، وعدد الجرائم والفساد والمسجونين والموضوعين تحت المراقبة. وتغطي السينما الأمريكية، بالديكورات الحالمة، شراهة حيتان مسلسل (دالاس)، كما تخفي حقيقة عنف ديناصوراتهم، ومدمريهم من أفلام (شوازينجر) الذي اصبح حاكم ولاية كاليفورنيا. إن إعلامهم وجميع وسائله هي شعاع الموت الذي يحطم على المستوى العالمي روح النقد، بل الروح ذاتها، في الثقافة، والأمل، والحب، عند خمسة مليارات من البشر" (1).
لقد اصبحت قيادة المجتمع الغربى والعالم بقبضة دوله بلا خلفية حضارية وبلا تاريخ .. وبلا اهداف سامية. فقط جمع المال والسيطرة على الآخر. فأمريكا تلك التى اصبحت قائدة الغرب الرأسمالى، تشكلت من مجتمع هجين، اناس مغامرون يبحثون عن الماال والربح السريع، ومستعدون للتنازل عن كل شئ مقابل الحصول عليهما. حيث اقاموا مجتمعاً جديداً، خليطاً من عدة اجناس وقوميات لا رابط بين افراده .. الا الربح على حساب تدمير وسحق اصحاب البلاد الاصليين (الهنود الحمر) " (2). وهذه الدولة استطاعت عبر رؤوس الاموال المكدسة لديها، وعبر تغلغلها في اوروبا عبر الدعم الاقتصادى ومشروع مارشال .. ان تبدأ ما يمكن تسميته امركة اقتصاديات العالم من خلال الشركات المتعددة الجنسيات وفرض الدولار كوحدة نقد عالمية.
وبعد الاقتصاد جاء دور الثقافة - الحصن الاخير للمجتمعات - قبل السقوط النهائى امام وحش المال الامريكى الصهيونى. وبدأت محاولات نشر ثقافة ذلك المجتمع الهجين المركب، مترادفة مع امركة الاقتصاد والسياسة. وبدأت المفاهيم الهجينة المسطحة التى افرزها ذلك المجتمع تغزو دول العالم، عبر السينما والقصه والاغنية والموسيقى والكوكا كولا والجينز والمأكولات السريعة .. ولم تكن اوروبا
_________
(1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص 222
(2) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص221 - دار التضامن / بيروت - ط1 1999(3/172)
بمعزل عن هذا الغزو الشامل. وتعمل الولايات المتحدة على استكمال هجومها، فنجد العالم وكأنه امام عدوان لاحضارى امريكى على كل من الشرق واوروبا. يحاول اجتثات كل جذور الحضارات، بفرض هيمنة النموذج الامريكى المتوحش على الحياة البشرية برمتها. ولا يقتصر هذا الخطر على شعوب الجنوب .. بل يطال شعوب اوروبا واليابان ايضاً. وبهدف التعميه على هذه الحقيقة، حقيقة استهداف اوروبا من قبل الخطر الامريكى الصهيونى المتوحش، كانت نظرية هامنتغون (صدام الحضارات) وغيرها من النظريات الأمريكية الصهيونية، التى تتحدث عن حضارة مسيحية يهودية في مواجهة حضارة الإسلام وحضارات الشرق والتصادم معها (1).
وفي تلك الهجمة الدونية المسماه (حضارة امريكية) حلت حرية السوق مكان حرية الانسان، فاصبحت تلك الحرية تعطى لمن يملك كل شئ دون حدود الا حدود ما يملك من القوة والامكانيات المالية. وتسحق من لا يملك إلى اقصى درجة .. تهدف إلى بناء عالم ابعد ما يكون عن القيم والاخلاق الانسانية، عالم متصادم ومتصارع في كل شئ .. لا مكان فيه للعدل والتوازن .. أو التكامل لمواجهة التحديات والاخطار التى تواجه البشرية باستمرار. يتحول فيها الانسان إلى وحدة اقتصادية رشيدة، انتاجية استهلاكية، بعيداً عن اى مضمون اخلاقى أو قيمى انسانى .. لا تشغل نفسها بغير الانتاج والاستهلاك، وتسقط كل المبادئ والقيم الانسانية، فلا قداسه ولا احترام لشئ الا المال والذهب ومن يملكهما (2) واصبح القتل من أجل المال يقع ضمن قِيَم النظام الذي تطالب الولايات المتحدة العالم بتبنيه. ففي نظام الرأسمالية المعلوماتية يعتبر المال المقياس النهائي للنجاح (3).
بهذه الخلفية تقتحم الولايات المتحدة الساحة، وهي صاحبة (رسالة خالدة)، وهذا نهجها: الصراع بكل الوسائل، دعاية واعلاماً وحرباً باردة أو ساخنة في سبيل فرض ثقافة، هي الأقوى سلاحاً لا مضموناً، ومن ثم تصبح بحكم الأمر الواقع سيدة الثقافات. وإذا كان الحق هو ما ينفع، والخير هو المصلحة، إذن ما الخطأ في اتباع كل
_________
(1) يؤكد حقيقة استهداف كافة الحضارات من قبل الهجوم الأمريكي الانجلوسكسوني الهمجي على العالم، هو ما كشف عنه هنيجتون في كتابه الجديد الذي عرضنا له سابقاً.
(2) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص225
(3) إمبراطورية الشرالجديدة-عبد الحي زلوم- القدس العربي 27/ 1 - 3/ 2/2003(3/173)
وسيلة ممكنة وصولاً إلى هذا الغرض؟ لنصوغ ثقافة هادفة نضع تصميمها ونفرضها بكل الوسائل على البشر. إنها معركة مقدسة من أجل رسالة خالدة هدفها تدجين الإنسان وتحقيق المصلحة (1).
فأميركا مدعوة إلى تمثيل الجمهورية الإلهية الوحيدة، ورأى (بنيامين فرانكلين) أن الولايات المتحدة ستكون مولدة لمجتمع عالمي، حيث المؤسسات والعادات والمبادئ الأميركية جاهزة للتطبيق في كل مكان. ومع هذه الوظيفة الفريدة تلازمت ضرورة التوسع في الأراضي، فأميركا في رأيها أنه ليس لأرضها القومية سوى حدود غامضة متحركة قابلة للتوسع باستمرار اعتماداً على ثنائيتها الأيديولوجية: أنموذجية شبه صوفية غازية من جهة، ومحو البنى السياسية والاجتماعية والثقافية لكل كيان غير أميركي من جهة ثانية (2). والمجتمع العالمي الذي يقصده فرانكلين هو المجتمع الذي يتبنى قيم ومباديء النظام العالمي الجديد التي هي ذاتها قيم الرأسمالية الانكلوسكسونية التي دمجت بين قوة المال وقوة الإعلام لخلق اقتصاد طفيلي جديد. ولكن هذا الاقتصاد الجديد أصبح عبئاً علي الاقتصاد المنتج. وفي هذا الاقتصاد المنتج القديم يعتبر المال إحدي وسائل الإنتاج لا أكثر، أما في هذا الاقتصاد الطفيلي المعلومالي الجديد فقد بات الغرض الأوحد للمال هو جني المزيد من المال دون دخول حلبة الإنتاج. ولقد حوّل بارونات المال اللصوص في كل أرجاء الدنيا، العالم إلي كازينو وقاموا عبر أموالهم ووسائل إعلامهم بتعيين القوي الحاكمة في الولايات المتحدة لإدارة شؤون هذا الكازينو نيابة عنهم مستخدمين ذراع الولايات المتحدة الطولي لهذا الغرض.
وقد ساهم الانفجار المعاصر في تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في تسارع نمو ووحشية الرأسمالية الأنكلوسكسونية، والتي وظفت تقنيات أكثر بشاعة وشيطانية لتحقيق المبادئ القديمة نفسها، التي تتبناها والتي لم تمسها يد التغيير في يوم من الأيام. وقد استخدم بارونات الربا علي الدوام أسرع وسائل الاتصالات التي كانت موجودة في وقتها، من الحمام الزاجل الذي وصلت عائلة روتشيلد من خلاله إلي
_________
(1) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص228
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل(3/174)
معرفة أخبار معركة واترلو قبل الآخرين، إلي وسائل الكمبيوتر الحديثة. وكان احتكار الإعلام والمعلومات المالية علي الدوام من المتطلبات الضرورية وأحد الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع المالي. وقد تمخض هذا المزيج المخيف من قوة المال وقوة الإعلام وقوة التسويق سواء للأشخاص أم للأفكار، عن قدرة هائلة علي غسل الأدمغة لا تقدم للعالم سوي رؤية واحدة فقط لا غير، وهي رؤية قوي الظل التي تسيطر علي العالم عبر واشنطن. لقد قامت قوي الظل هذه بفرض إعادة تشكيل الاقتصادات الإنتاجية للدول ليتوافق مع مخططاتها للهيمنة الاقتصادية وتمت تسمية هذه التغيرات، ظلماً، بأنها إصلاح، وما هي في حقيقتها سوي إعادة تشكيل للاقتصادات بطريقة تمكنهم من السيطرة عليها. ولقد اعتمدوا لذلك وسائل الصدق والكذب سويّاً للوصول إلي هذه الأهداف (1).
إن معنى الكلمات نفسه قد تشوه: فنستمر في إن نطلق كلمة (تقدم) على انحراف أعمى يؤدي إلى تدني الإنسان والطبيعه .. ونطلق كلمة (ديمقراطية) على أشنع قطيعة عرفها التاريخ بين من يملكون ومن لا يملكون .. ونطلق كلمة (حرية) على نظام يسمح - بذريعة التبادل وحرية السوق -لأولئك الأكثر قوة إن يفرضوا الديكتاتورية، عديمة الانسانيه، تلك التي تسمح لهم بابتلاع الضعفاء .. ونطلق كلمة (عولمه) لا على حركة تؤدي إلى وحدة متآلفة الأنغام للعالم، عن طريق اشتراك كل الثقافات، ولكن بالعكس على انقسام يتنامى بين الشمال والجنوب نابع من وحدة امبرياليه وطبقيه .. انقسام يدمر تنوع هذه الحضارات ومنتجاتها لفرض لا ثقافة الراغبين في التحكم في الكوكب (2).
ولم تكتف أميركا باحتكارها للقوة المسلحة من خلال الحلف الأطلسي وقبعات الأمم المتحدة الزرقاء، وباحتكارها للاقتصاد من خلال المؤسسات الدولية الخاضعة لتقلبات السوق التي تتحكم بها أميركا، إنما احتكرت أيضا وسائل الاتصال الجماهيري. فأميركا تسيطر على هذا القطاع وشهدت ولادة كبرى الوسائل. كما ان الوكالات الأميركية للأنباء قادرة على مراقبة 90% من الإعلام المبثوث. ويسيطر
_________
(1) إمبراطورية الشرالجديدة-عبد الحي زلوم- القدس العربي 29/ 1 - 3/ 2/2003
(2) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص20(3/175)
الاعلام الأمريكي والموسيقى الأمريكية وبرامج الكميوتر والكتب وافلام السينما والاصدارات المطبوعة على مستوى العالم اجمع، حيث تنتج أمريكا ما يزيد عن 75% من الانتاج العالمي لبرامج الكمبيوتر سنوياً، و60% من الانتاج الموسيقي، و32% من اصدارات الكتب (1). وبالتأكيد فإن هذه السيطرة ليست عيباً أو امراً محرماً، ولكنها تصبح كذلك عندما تتحول إلى احتكارات لمص دماء الشعوب المقهورة، ولسلاح فتاك للسيطرة على عقول الجماهير والتلاعب بها.
يقول ميشال بوغنون: "ان الإعلان يدين لأميركا بأنها جعلت منه سلاحاً فعالاً، للتلاعب بعقول الجماهير وللغزو السياسي والثقافي والاقتصادي، ومعظم أجهزة التلفزة تحاكي البرامج الأميركية. أما في مجال السينما فإنه لا طاقة لأوروبا في الصمود في مواجهة مدفعية هوليود، فقد تلاشى معظم إنتاجاتها الوطنية، في هاوية الصناعة السينمائية الأميركية. فضلاً عن ذلك فإن الولايات المتحدة أجادت استخدام التكنولوجيا وتسيطر على معظم محركات الاتصال في العالم، وتخضع الإنترنت لشركاتها العملاقة، وذلك في الوقت الذي أساءت فيه أوروبا، استعمال التنمية التكنولوجية. ويبلغ التبرم بالكاتب من أميركا ذروته، ويحاكم اللباس الأميركي، ذلك (الرداء البقري) كما يسميه، ويحاكم الذوق الأميركي الذي جعل من الأطعمة غير المتناهية من الطعم والكثيرة الروائح، جميعها أكلة واحدة ناشفة تسمى (الأكلة السريعة). حتى إنه توقف عند اللسان الأميركي وكيف فعل فعله في تشويه اللغة الإنجليزية وإخضاعها للأمركة" (2).
فامركيا تسعى إلى أمركة الكون وهذا ما يعترف به المفكر الامريكى دانيال بورستين في كتابه "تاريخ الأمريكيين"رغم دفاعه عنها حيث يقول: «عملياً فيما يرسله لنا الأمريكيون يوجد الكثير من السوقية والكثير من الأدوات المريبة إن كان ذلك يتعلق بالهمبرغر الذي لا طعم له والذي يرافقه البصل والكاتشب، أو بالأفلام التلفزيونية التافهة أو بالشيوخ الروحيين الفاشلين لكاليفورنيا أو بالصخب الصارخ
_________
(1) الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين - اناتولي اوتكين - ترجمة انور ابراهيم و محمد الجبلي- ص252
(2) أميركا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟ تأليف ميشال بوغنون موردان، ترجمة: خليل أحمد خليل(3/176)
بشكل موسيقى، أو باستهلاك المخدرات المختلفة». وإذا كان كل هذا موجوداً بمقدورنا بعد أن ننكر بأن أمركة الكون قائمة على قدم وساق. وفي كل مكان تنتشر أنماط الاستهلاك والنماذج والمخططات الأيديولوجية التي أعدتها الولايات المتحدة وهذا يحدث حتى في الدول الاشتراكية، وتتمتع الولايات المتحدة بطاقة دعائية لا مثيل لها. والاختلافات الثقافية التي شكلت ثروة البشرية هي في طريقها للاندثار تسحقها مطابع الشكل الواحد. واستفادة الثقافة الأمريكية من تفوقها المادي فراحت بذكاء تفسد الأرض. فحيث حلت فككت البنى الاجتماعية التقليدية وأفقرت العادات والفلكلور المحلي. إن الامتثالية تجتاح بمكر الكون، امتثالية ذات صناعة أمريكية Made in America تهدف إلى تحويل كل أفراد البشرية إلى «أقزام أمريكيين ضحلين». ألا يحق لنا أن نرى في ذلك أن «الأمريكيين قد صنعوا سلاحاً حاذقاً لتسخير العالم لمصالحهم ولنمط تفكيرهم؟» (1).
تشويه العولمه على يد الانجلوسكسون
إن مفهوم العولمة قديم قدم التاريخ، إذ لم يكن للعالم أية حدود إلاّ منذ فترة وجيزة فقط، فقد كان العالم يشرع أبوابه للجميع. لذا، فإن الكثير من الحضارات والاختراعات المعاصرة هي نتاج متراكم للتفاعل السلمي وغير السلمي علي حد سواء بين الحضارات السابقة. ولم تعرف كل من الحضارة الرومانية والإغريقية والإسلامية أية حدود علي الإطلاق. وكانت الحضارة الإسلامية، رغم انطلاقها من شبه الجزيرة العربية، عالمية بكل ما في الكلمة من معني. وقد أشارت آيات القرآن الكريم في أكثر من موضع إلي أن الإسلام يحمل رسالة عالمية شاملة تخاطب كافة الأجناس والأعراق بل الإنسانية جمعاء، فقد قال رسول الله محمد (صلي الله عليه وسلم): "لا فضل لعربي علي أعجمي إلاّ بالتقوى" فخير الناس هو أتقي الناس سواء أكان عربياً، فارسياً، حبشياً، أسود أو غير ذلك من الأجناس. كما أن المجلس الذي أقامه النبي عليه الصلاة والسلام، للشورى كان يتكون من سلمان الفارسي، وصهيب الرومي،
_________
(1) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 230 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001 - موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة ا الإنترنت- http://www.awu-dam.org(3/177)
وبلال الحبشي وصحابة من العرب أنفسهم، وبذلك يكون المجلس عالمياً ومتعدد الجنسيات. كما شكلت الحضارة العربية والإسلامية قوة عالمية عظمي ودولة امتد نفوذها ليصل من إسبانيا حتى الصين. وضمت الحضارة الإسلامية تحت لواء سيطرتها، مختلف العقائد والأعراق الذين وصل تعدادهم إلي مئات الملايين. وكما قالت (كارلي فيورين)، الرئيسة التنفيذية لشركة هيوليت باكارد، في خطاب ألقته عام 2001، فإن الإسلام كان الجسر الذي ربط بين شعوب أكثر من 100 دولة، وكانت جيوشه تتكون من جنود من مختلف الجنسيات، وأفضت الحماية العسكرية التي وفّرها إلي درجة لم يشهدها التاريخ من قبل من السلام والازدهار.
ولكن ما أدي إلي تشويه عولمة اليوم ووصمها بالعار، هو ارتباطها الوثيق بالرأسمالية الأنكلوسكسونية الداروينية المتسمة بالمغالاة والتطرف، واستخدامها لتكنولوجيا الاتصالات الحديثة وتقنيات الإدارة، لبسط وفرض ثقافتها المنفرة، وحروبها وماديتها البحتة المنحرفة عن الأخلاق والمثل. لقد تمكنت العولمة الأنكلوسكسونية المعاصرة من إدخال ونشر برامجها الداروينية، كما أنها أفرزت نظاماً اقتصادياً طفيلياً جديداً، تحفّه المخاطر من كل جانب، علاوة علي عزمها فرض مفاهيمها ورؤاها أحادية الجانب، في الوقت نفسه الذي تتشدق فيه بالتعددية. أما أجندتها فهي محشوة بأعمال الإبادة الجماعية الوحشية، بينما هي تنادي بحقوق الإنسان. وتدّعي الديمقراطية وتوغل في الديكتاتورية. إنها تؤمن بالله، فقط إذا علمنا أن المال هو إلهها الوحيد (1).
ففي الولايات المتحدة الأمريكيه بنيت الحياة على المادة، حيث أرسيت سيكولوجيا سكان هذه البلاد على المبادئ التلمودية القائمة على عبادة المال و (الحق) في نهب وقتل جميع الغرباء بهدف الاستيلاء على أراضيهم واملاكهم. وهكذا اصبح القراصنة وقطاع الطرق وغيرهم من المجرمين المحظوظين، الأبطال بالنسبة للأغلبية الأمريكيه الساحقة. يقول (الغ بلاتونوف) في كتابه (لهذا كله ستنقرض أمريكا): "حين قمت لأغراض دراسية بزيارة إحدى أهم مدن سادوم وعمره - لاس فيغاس - المركز العالمي لصناعة القمار والفسق والعهر، رأيت بأم عيني إن جدران
_________
(1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي-29/ 2/2003(3/178)
بعض دور القمار مزدانة بصور القراصنة وقطاع الطرق، أمثال آل كابوني، ضمن إطارات ذهبيه. وفي دور القمار هذه بالذات تدرك الهوس الرئيسي للأمريكيين وتفهم طبيعة الآمال التي تراودهم - الرغبة في كسب النقود والإثراء بأي ثمن. وحين ترى آلاف الوجوه التي شوهتها الحماسة والجشع، والعيون المتوهجة من فرط الاثاره، تفهم الطبيعة الإجرامية لأمريكا ومدى خطرها على العالم" (1). فالعلاقة التي تقيمها الفلسفات الأمريكيه المعاصرة بين الإنسان والحياة هي علاقة المتعة والاستهلاك، والأمريكي يسر بلذة الاستهلاك إلى درجة العمى عن الإثم والفحشاء، ولذلك يتجاوز البحث عن اللذة ميادين المباح إلى اقتراف الحرام والسخرية من الحلال (2).
أهذه هي نهاية التاريخ؟
الشذوذ الجنسي .. اللواط .. وفضائح كندي وكلنتون .. وشراء الأصوات .. وتوظيف المال والجنس في اللعبة الانتخابية .. وتحكم اللوبي اليهودي .. وهيمنة المافيات العملاقة والشركات الكبرى واختراق المسيحية بالعفن والأساطير اليهودية .. واستجذاء البيت الأبيض للسياسات والمصالح الإسرائيلية .. والإبحار المحموم ضد المصالح القومية العليا للامة الأمريكيه، وتحويل القدرات المالية والعسكرية إلى ضرع يدر في أفواه شذاذ الآفاق .. والغطرسة التي تستفز الخصوم والحلفاء على السواء، والتفرد في اتخاذ القرار بعيداً عن الأقطاب الاخرى التي تطمح لان يكون لها مكان على خارطة العالم، القنابل الذرية والهيدروجينية والنيتروجينيه وأسلحة الدمار الشامل .. وعنقوديات امتصاص الأوكسجين من المغاور والكهوف لقتل الإنسان واستئصال الحياة .. آليات الإبادة الجرثومية والكيماوية والقدرات الاسطوريه على تغيير معادلات الطبيعة وتحويل البيئات إلى معتقلات كبيره تصعب فيها استمرارية الحياة، وتصاعد معدلات الجريمة في وتائرها الاعتيادية والمنظمة، والإحصائيات المخيفة لحالات القتل والاغتصاب والسرقة والانتحار، والهروب المتزايد إلى المخدرات
_________
(1) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص49 - 50
(2) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص18(3/179)
والحشيش والافيون، وتصاعد نسبة الادمان وامتداد سرطانه المخيف إلى مستويات الاعمار الدنيا في مراحل الدراسة الاعداديه والمتوسطه حتى الابتدائيه، وضياع اجيال الأمريكيين الناشئة فيما سبق إن حذر من نتائجه المفجعة الرئيس الأمريكي كنيدي 1963 (1).
الخيانة الزوجية والمعاشرة غير المشروعة للأزواج والزوجات، وحالات الطلاق المتزايدة والدمار المتصاعد للحياة الاسريه، ورفض الأبناء لآبائهم وتزايد دور العجزة لاستقبال هؤلاء وإيوائهم، وتقطع الروابط العائلية وغياب الاستقرار والسكن في بيئاتها المخترقة بالريبه والشك والكراهية وشد الأعصاب .. عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية (للكبار) على يد المافيات اليهودية والمالية المتحكمة بمصائر الولايات المتحدة بدءا بأصحاب الأصوات الحرة، وانتهاء بالرؤساء أنفسهم لحظة خروجهم عن الخط المرسوم.
التكاثر المحموم بالأشياء والعبادة المهووسة لصنميات المال والتنمية، بعيداً عن أية قيمة أو ضابط ديني أو خلقي أو إنساني. تصعيد وتأثر القوة والأسلحة والجيوش وتقنيات الردع والهجوم فيما يجعل من أمريكا (ترسانة) مخيفة قد تلحق الخراب بهذا الجزء أو ذال من العالم في أية لحظة تفور فيها دوامة الغضب ويستشري سعار التفوق والاستعلاء، وتحول أمريكا إلى قوة استعمارية كبرى تسعى لان تضع العالم كله في جيبها، وترغم أممه وشعوبه على إن تكدح لكي يدر ضرعها في الفم الأمريكي، بغض النظر عن حالات الفقر والتخلف والدمار التي يعاني منها العالم الثالث، الذي يراد له للمرة الثالثة إن يسخر لسعادة الرجل الأبيض وانتمائه الذاتي، وأخيرا وليس آخر تآكل ودمار القيم الديمقراطية الأمريكيه نفسها واختراقها المرة تلو المرة بحجة مقاومة الإرهاب بعد إن سهر الأمريكيون القدامى على حراستها القرون الطوال.
أهذه هي الحضارة الملائمة لإنسانية الإنسان ومطامح الأمم والشعوب؟ أهذه هي الحالة الحضارية النموذجية أو السقف الأعلى لسعي البشرية عبر تاريخها الطويل؟ أهذا هو (النموذج) الذي سينتهي إليه التاريخ ويلقي عنده عصا الترحال؟
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل - ص153(3/180)
أهذا هو (المثل الأعلى) الذي يتحتم على شعوب العالم إن تلهث وراءه؟ أهذه هي بتعبير (فرنسيس فوكوياما): (نهاية التاريخ) حيث لا تبذل بعدها ولا تحول ما دام الإنسان قد بلغ الحالة القصوى من التقدم والتحرر؟. تقدم باتجاه ماذا؟ وتحرر من ماذا؟ أليست هي بدء التحليل ومنتهاه وفي ضوء التأشيرات أنفة الذكر، نكسة كبرى في تاريخ البشرية حيث يتحكم القطب الأحادي بمصائر العالم، وحيث يتحول السعي البشري إلى لهاث محموم للتكاثر بالأشياء .. وحيث تتسطح الحياة وتفقد عمقها وعذوبتها وغناها ومغزاها .. وحيث تخترق منظومة القيم الانسانيه والخلقية والدينية بحلقات السوء التي تنتشر كالبثور السود .. كالطفح المتقيح .. كالسرطان المخيف في نسيج المجتمعات (1).
صورة "درويش"" ... ولا عجب (2) http://alarabnews.com/ مختارات/الساخر%20 - %20العالم%20بين%20شفتيّ%20أمريكا%20كرشفة%20''الكوكاكولا''%20وقضمة%20''الهمبرجر''%20 (!) _ files/pixel.gif
الصورة المعنية، تكاد تستعصي على جهابذة الفكر الإنساني العالمي. إلاّ أن بعض ملامحها، قد قرأها بدقّة وشفافيّة، واستشرافيّة، الشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش، من خلال قصيدة: (خُطبة الهندي الأحمر - ما قبل الأخيرة - أمام الرجل الأبيض)، التي نشرها في العام 1992 (أيّ بعد نهاية الحرب الباردة بعامين فقط)، ضمن ديوان: (أحد عشر كوكباً). وكان الأجمل من تفاصيل القصيدة الطويلة، تلك الكلمة التي قالها أحد زعماء الهنود الحُمر (اسمه سياتل، وهو زعيم قبيلة دواميش)، ليضعها درويش كمدخل للقصيدة (3)،
حيث قال فيها ذلك الزعيم: "هل قُلت موتى؟ ... لا موت هناك، هناك فقط تبديل عوالم (!) "
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل - ص153
(2) بين شفتيّ أمريكا .. كرشفة ''الكوكاكولا'' وقضمة ''الهمبرجر'' (!) - بقلم: أمين الإمام - http://alarabnews.com/alshaab/GIF/20-09-2002/a14.htm
(3) أشاد الجنرال شارون بالشاعر محمود درويش وعبر عن إعجابه بشعره، وبأنه يحسده وشعبه الفلسطيني على تلك العلاقة الوجدانية بالأرض والتي يجسدها درويش في قصائده، على الرغم من حملة الإبادة والاعتقال والتهجير التي يمارسها الجنرال ضد الشعب الفلسطيني، وهو موقف يذكرنا بموقف الجنرال جورج واشنطن مع الزعيم الهندي الأحمر "ستايل"، الذي كشف في خطبته الشهيرة ب "خطبة الهندي الأحمر الأخيرة"، قسوة ووحشية حملات الإبادة التي مارسها الجيش الأمريكي ضد الإنسان الهندي الأحمر والأرض والحيوان، ومما قاله "ستايل" في خطبته "زعيم واشنطن الكبير (يقصد جورج واشنطن) يقول لي أنه صديقي، ومعجب بي، وأنه يكن لي مودة عميقة، ولكنه يخبرني أيضاً بأنه إذا لم نعطيه بلادنا سوف يجيئنا مدججاً بسلاحه وينتزعها".
ورغم التشابه التام بين موقف وأسلوب شارون وواشنطن في التعامل مع الشعبين أصحاب الأرض، الفلسطيني والهندي الأحمر، إلا ان واشنطن كان واضحاً وصريحاً مع الزعيم الهندي الأحمر أكثر مما يفعله ويقوله الجنرال شارون تحت شعارات وإدعاءات تكون مواربة ومستترة، لخداع المجتمع الإنساني والرأي العالمي.
كما ان الخلاف بين زعيم الهنود الحمر ومحمود درويش يبدو كبيراً أيضاً، رغم تشابه موقفيهما من المعتدي المحتل، إذ ان الزعيم وقع على استسلام تاريخي وهو لا يزال يملك العدة والعتاد، بينما يرفض الشاعر التوقيع بإصرار تاريخي، مع انه يعلم ان سلاحه الوحيد الذي يحمله غصن زيتون يابس.
أيها الواقفون على العتبات
ادخلوا واشربوا معنا القهوة العربية
قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا
أيها الواقفون على عتبات البيوت
اخرجوا من صباحاتنا
حتى نطمئن انكم بشر مثلنا"
جميعنا يعلم ان محمود درويش ليس زعيماً ولا سياسياً وسبق وأن رفض الوزارة وجميعنا يعلم أيضاً انه ظل يمتطي صهوة القصيدة العربية، وانه يتجاوز نفسه في كل مرحلة، لتصبح قصيدته الشهادة والوثيقة على زمن عنصري ظالم يتغاضى عن كل الحقوق والشرائع والدساتير، لقد أصبح محمود درويش وطناً في قصيدة تجسد كل الخريطة الفلسطينية، التي تعبر عن حب الشعب الفلسطيني للحياة المحروم منها كبشر، بعد أن غرس في كل عربي قلباً فلسطينياً هذا القلب يؤمن أن الحياة لن تخذله، وأن الأرض لا تعود إلى الإنسان، بل هو الإنسان الذي يعود إليها، مشياً على الأقدام أو زحفاً على الأيدي. (أفق بغصن زيتون يابس / شارون معجب بشعر درويش - نواف يونس- جريدة الخليج الإماراتية1 - أيار / 2005)(3/181)
والآن ارتبط اسم ذلك الزعيم، الذي استلهمه درويش، بإحدى المدن الأمريكية البارزة (سياتل، في ولاية واشنطن)، ولعلّها أيضاً نفس المدينة، التي شهدت صراع الأمريكيين أنفسهم (وكأن التاريخ يعيد نفسه)، حول البحث عن تأصيل سطوة (العولمة)، حينما انقسم الشعب (المُنقسِم)، ما بين مؤيِّد لتلك الفعاليات، وفقاً للغة المصالح، التي تنسج خيوط (الحلم الأمريكي) الشهير، وما بين معارض لها، وبشدّة (!).
بعضٌ من أمريكا
درويش في قصيدته، لم يكن بعيداً عن استقراء، الوضع الراهن من طغيان (العولمة)، بكلّ هوامشه الخطرة. أضف إلى ذلك، الحفر بكلمات "الاستقصاء الشعري"، بحثاً عن استمرار تفاصيل "حرب الإبادة"، ولو بصيغة جديدة. وهذا ما يحدث الآن بالضبط (دون الاستعانة بأرقام الفجيعة، في فلسطين وأفغانستان(3/182)
"مثلاً"!). لهذا لا تستنكروا الاستشهاد، ببعض أبيات القصيدة الدرويشية، في الجزء الأبرز من هذه الكتابة، في إطار قراءة "الطغيان الأمريكي".
وفي مدخل القراءة، لم يكن مناسباً، غير الإغراق في التمعُّن، في تلك الحالة الاستشرافيّة، التي نطقها الشعر العربي المعاصر، وكأنّه ينوب عن صوت العرب القديم والأصيل (عبر الشعر أيضاًَ)، حينما كان ممثِّل دبلوماسياتها بين الحضارات والأمم ... آنذاك.
إذن، هذه المرّة فقط، ستثبت مقاطع درويش، عبر الخطبة "الهندية الحمراء"، أن الشعر العربي، قد عاد وهجه - مؤقّتاً - وإن كان زمن الكتابة الراهن "روائياً" بحتاً، حينما استنطق الواقع السياسي المُعاش حالياً، أكثر من دُهاة السياسة، وكبار المراقبين والمعلِّقين، في هذه الساحة الساخنة، التي تستعصي حتّى على خبراء الاستخبارات (!).
الأرض الأمريكية الراهنة، كانت ملكاً لـ"مجموعات الإسكيمو"، في الشمال النائي المتجمِّد، والمنفصل من الولايات (آلاسكا)، ولـ"قبائل الهنود الحمر"، في بقيّة الأراضي، امتداداً إلى دول أمريكا الجنوبيّة. منذ وطأت قدم البحّار كريستوفر كولومبوس (1451 - 1605)، تلك الأرض في عام 1492، بدأ العهد "الأمريكي"، الذي يعرفه العالم الآن، بعد أن تلظّى منه أصحابها (أيّ الأرض!). ولعلّ المؤرِّخون في العالم أجمع، يضمّون حدث اكتشاف أمريكا، ضمن وقائع تُعدّ دليلاً، على بداية الأزمنة الحديثة، إلى جانب اكتشاف المطبعة من قبل جوتنبرج (1434)، واكتشافات كوبرنيكوس الفلكية (1543). وهنا تأتي الإشارة الأخرى، التي يتّخذها بعض النقّاد، وهي أنّ تلك الوقائع، قد مهّدت إلى انطلاقة اصطلاح "الحداثة" ( Modernity) ، فيما بعد، وذلك في العام 1849، في أيام بودلير، ليتأكّد انضمام عصر الحداثة، إلى الأحقاب الثلاثة التي تقسِّم التاريخ الإنساني، إلى جانب العصور اليونانية الرومانيّة القديمة، والعصور الوسطى. إنّها "الحداثة" التي يربطها الغالب فينا، بالاصطلاح الأدبي فقط - خصوصاً نحن العرب (!) - وإن كان أوضح تعريف لها: تموضُع العلم في مركز الحياة الاجتماعيّة، بدلاً من العقليّة الغيبيّة أو الميتافيزيقيّة. ويراها عالم الاجتماع الفرنسي "ألان تورين"، بأنّها ليست عبارة عن مجرّد تتابع للحظات الزمن،(3/183)
وإنّما هي نشر المنتوجات الفعاليّة العقلانيّة للبشر، وكذلك الفعاليّة العلميّة، والتكنولوجيّة، والإداريّة.
هل فهمتهم بعضاً من "أمريكا"، استناداً إلى ارتباطات اكتشافها العظيم (؟!) ...
(*) هلّ يفهم "السيِّد الأبيض"؟
ومع ذلك، لنا أن نتوغّل، مع ما كتبه محمود درويش، لنفهم ما لم يفهمه "السيِّد الأبيض" (سيِّد أمريكا الجديدة والمتسِّيدة)، من تلك الخطبة التاريخية، للهندي الأحمر، بعد أن "شعرنها" بطريقته الخاصّة، وقال:
لن يفهم السيِّد الأبيض
الكلمات العتيقة هُنا،
في النفوس الطليقة
بين السماء وبين الشجر ...
فمن حقِّ كولومبوس الحُرِّ
أن يجد الهند في أيِّ بحر،
ومن حقِّه أن يُسمِّي أشباحنا
فُلفُلاً وهنوداً،
وفي وسعه أن يُكسِّر بوصلة البحر
كي يستقيم
وأخطاء ريح الشمال،
ولكنّه لا يصدِّق أنّ البشر
سواسيّة كالهواء وكالماء
خارج مملكة الخارطة!
وأنّهم يولدون
كما تُولد الناس في برشلونة،
لكنّهم يعبدون إله الطبيعة
في كلِّ شيءٍ ...
ولا يعبدون الذهب ...
وكولومبوس الحُرُّ يبحثُ عن لغةٍ(3/184)
لم يجدها هُنا،
وعن ذهبٍ في جماجم أجدادنا الطيِّبين
وكان له ما يريد
من الحيِّ الميِّتِ فينا
(*) ولا يزال التساؤل مستمرّاً
وفي منحنى آخر للاستقراء "الدرويشي"، للحالة المرضيّة "الأمريكيّة"، بدأ بطرح السؤال الساخن، على لسان ذلك الهندي الأحمر، حينما وضع الرمز الأمريكي "الأبيض"، بين قوسي الاستنكار، وهو يقول له:
إذن لماذا يواصل حرب الإبادة، من قبره، للنهاية؟
ولم يبقَ منّا سوى زينةٍ للخراب،
وريشٍ خفيفٍ على ثياب البحيرات.
سبعون مليون قلبٍ فَقَأْتَ ... سيكفي
ويكفي، لترجع من موتنا ملكاً
فوق عرش الزمان الجديد ...
(*) سلطة الأرض ... و"الشمس"
كلّ الصراعات في كوكب الأرض، تدور حول "الأرض"، إنّها السلطة التي يبحث عنها ماضي البشر بكافّة "عوالمه"، وحاضرهم باختلالات "عولمته". إلاّ أن درويش لم يكتفِ، بإيضاح نشوة "سلطة الأرض"، لدى صاحب القرار في أمريكا، وإنّما إضاف إليها "سلطة الشمس"، حيث البحث الدؤوب عن تملُّك كلّ شيء: في باطن الأرض، وعلى سطحها، وفوق فضائها ... حتّى ضوء الشمس، الذي يغطِّيها من مشرقها إلى مغربها،
ودليل ذلك هُنا:
لنا ما لنا ...
ولنا ما لكم من سماء
لكم ما لكم ...
ولكم ما لنا من هواءٍ وماء
لنا ما لنا من حصىً ...
ولكم ما لكم من حديد(3/185)
تعالَ لنقتسم الضوءَ في قوّةِ الظلِّ،
خُذْ ما تريد من الليل،
واترك لنا نجمتين
لندفن أمواتنا في الفَلَكْ
وخُذْ ما تريد من البحرِ،
واترُكْ لنا موجتين لصيد السمك
وخُذْ ذَهَبَ الأرض والشمس،
واترُكْ لنا أرض أسمائنا
(*) صراع أم حوار حضارات؟
وفي منعرج مهم، من تلك القصيدة الطويلة، قرأ محمود درويش مبكِّراً، ما يشاع حالياً من "صراع الحضارات" (كتاب صموئيل هنتنجتون)، أو حتّى "حوار الحضارات"، بعد اشتداد الأزمة، على الأصعدة الدينيّة والإنسانيّة، بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب. لهذا كان الشاعر الفلسطيني واضحاً، في هذه
الأسطر:
لكُم ربُّكُم ولنا ربُّنا،
ولكم دينُكُم ولنا دينُنا
فلا تدفنوا الله في كتبٍ
وعدتكم بأرضٍ على أرضنا
كما تدّعون،
خُذوا وردَ أحلامِنا
كيْ تروا ما نرى من فرحْ!
وناموا على ظلِّ صفصافِنا
كيْ تطيروا يماماً يماما
كما طار أسلافُنا الطيِّبون
وعادوا سلاماً سلاما
(*) "إسبارطة" الآيديولوجيّة والتكنولوجيّة(3/186)
أمّا الوضوح الذي بحث عنه درويش، تجلّى في الجزئية أدناه من القصيدة، حينما فتح كلّ الإشكالات "العولميّة" الراهنة على مصراعيها، وأبرز "الثمن" المدفوع لتلك الإشكالات: موتى، بلدوزرات، مستوطنات، رادارات، وغيرها من الرموز "الصارخة"، حتّى أوصلنا إلى تخوم "روما الجديدة"، وثوابت "إسبارطة"
الآيديولوجيّة، بكلّ حوافها التكنولوجيّة (!) ...
عمّا قليل
تُقيمون عالمكم فوق عالمنا:
من مقابرنا تفتحون الطريق
إلى القمر الاصطناعي.
هذا زمانُ الصناعات.
هذا زمان المعادن،
من قطعة الفحم،
تبزُغُ شمْبانيا الأقوياء ...
هنالك موْتى ومُستوطناتٌ،
وموْتى وبلدوزراتٌ، وموْتى ومستشفياتٌ،
وموْتى وشاشاتُ رادارٍ ترصُدُ موْتى
يموتون أكثر من مرّةٍ في الحياةِ،
وترصُدُ موْتى يعيشون بعد الممات،
وموْتى يُرَبُّون وحش الحضارات موْتا،
وموْتى يموتون
كي يحملوا الأرض فوق الرُّفات ...
إلى أين يا سيِّد البيض،
تأخُذُ شعبي، ... وشعبك؟
إلى أيِّ هاويةٍ يأخُذُ الأرض
هذا الروبوت المُدجّج بالطائرات
وحاملة الطائرات،
إلىِّ هاوية رَحْبَةٍ تصعدون؟(3/187)
لكم ما تشاؤون: روما الجديدة،
إسبارطة التكنولوجيا
وآيديولوجيا الجنون ...
هل تحتاج قصيدة "درويش"، إلى المزيد من التوضيح (؟) ... أعتقد أن الإجابة لا تحتاج إيضاحات أكثر (!!).
خدعة الافتتان بأمريكا
بالرغم من كل ما تقدم وبالرغم مما هو ماثل على الارض من كذب وتضليل وخذاع وقتل وتدمير وابادة وعربدة ... الا انه لازالت شرائح كبيره من سكان العالم مخدوعه بالنموذج الأمريكي والحياه الأمريكية والقيم الخادعة التى تمثلها. وهنا يكون السؤال المطروح امامنا بصورة لا تقاوم ... كيف يفلتون بذلك؟ كيف تقود الولايات المتحدة الاقتصاديات وتخرب الديمقراطية، وتطيح بالدول ذات السيادة، وتعذبها، وتستخدم معها العناصر الكيمائية والبيولوجية والاشعاعية؟ كيف تفعل كل الاشياء غير اللائقة عادة في وسط الوهج الكامل لوسائل الاعلام الدولية، باكثر التناقضات مدعاة للذهول بين الاقوال والافعال، دون ان تدينها بلا رحمة جماهير العالم الحاشدة، واى إنسان لدية ضمير اجتماعى، وبدون ان تنبذ كالابرص؟، وبدون ان يقدم قادة أمريكا إلى المحاكم الدولية، متهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية؟.
والاجابة على ذلك هو ما عرضنا له سابقاً وهو غسل الدماغ من خلال سيطرة أمريكا شبه الكاملة على الاعلام بكافة انواعه، بالاضافة إلى شراء الذمم وغيرها من الوسائل الغير مشروعه. فلم يعد سراً صمت وتواطؤ- ان لم يكن اعجاب- الحكومات الاخرى وقادتها بأمريكا. فالامر لا يقتضى سوى شراء بضع رجال مقابل طائرات نفاثة ملساء أو اطنان من القمح، أو الغاء الديون، أو الاستعانة بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لقد تم ترويعهم، وتهديدهم، وابتزازهم، ورشوتهم واذكاء غرورهم، ومناصرة نزعاتهم الوطنية المتطرفة واعطائهم العضوية في نوادي حلف الاطلنطي الخاصة المقصورة على اعضائها، وفي منظمة التجارة العالمية والاتحاد الاوروبي. ان الافتتان بالولايات المتحدة قد بلغ ذراً جديدة مع الانتصار على الفاشية في الحرب(3/188)
العالمية الثانية، ثم ارتقى مره اخرى مع السحر التقني للخيال العلمي، الذي تجسد في السير على سطح القمر. ونادراً ما نالت من ذلك دعاية الحرب الباردة من قبل السوفييت.
فطوال عقود منذ نهاية الحرب الباردة، كان المواطنون يرفضون ان يصدقوا ان هناك مشرديين في أمريكا، أو انه ليس هناك تأمين صحي وطنى، كانوا مقتنعين ان ذلك مجرد دعاية شيوعية، كانوا يؤمنون ان القرارات في المملكة المتحدة وأمريكيا لا تتخذ ابداً بصورة سرية، وانه إذا كذب رجل السياسة مره واحدة فيتم ابعاده من منصبه. وعنما سقطت القنابل الأمريكية على صربيا عام 1999، اعرب كثيرون من الصرب عن صدمتهم ودهشهتهم من ان أمريكا - أمريكا المحبوبة محط الاعجاب - يمكن ان تفعل شيئاً كهذا ... وفي روسيا عارض الناس القصف بقوة واصيبوا بالصدمة، وقد بدى الامر كما لو ان الروس يكتشفون للمرة الأولى ان للولايات المتحدة جانباً عنيفاً. وعندما مزقت القذائف الأمريكية اشلاء السفارة الصينية في بلجراد، كان رد الفعل بين الصينيين هو عدم التصديق. وقال مسئول صيني كبير: لقد كنتم المثل الاعلى للكثيرين منا، والآن فإن قنابلكم الغبية قتلت أهلنا.
ان هذه السذاجة، وقصة العشق هذه مع روح أمريكا، في حين تمس القلوب بالتأكيد في هذا العالم المتعب، ليسا هما (الحبل بلا دنس). ان الولايات المتحدة هي مخترع ومطور الاعلان الحديث والعلاقات العامة الحديثة، والمنتج والموزع الرئيسي في العالم للافلام وبرامج التلفزيون والكتب والمجلات والموسيقى، بمكتبات ادارة الاعلام الأمريكية الموجودة في اكثر من 100 بلد، وصوت أمريكا التي يقرب مستمعوها من 60 مليون مستمع. لقد اغرقت الولايات المتحدة - دولة المعلومات العظمى الوحيدة في العالم - وسائل الاعلام وغزت قلوب وعقول العامة في كل انحاء الارض بهذا السحر، وهى تقوم بكل هذا لانه جدير بالعناء، على امتداد الاجيال (1).
_________
(1) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد- ص315 - 318(3/189)
الباب الخامس
سبل المواجهة .. والخروج من المأزق
بالرغم من ان عنوان الكتاب سيبدو للبعض، استفزازياً وتحريضى، الا ان اختيارى لهذا العنوان لم يكن يهدف إلى ذلك بقدر ما يهدف إلى لفت الانظار إلى حقيقة الصراع الدائر في المنطقة والعوامل المؤثرة فيه، لوضع العلاج الناجع له والخطط طويلة الاجل وقصيرة الاجل لمعالجته. فالخطأ في فهم طبيعة العلاقة بين اسرائيل والقوى الداعمة لها كلف العالم العربى والإسلامى الكثير من الجهد والمال والرجال، واصاب الامة بحالة احباط كبيرة لعدم تمكنها من مواجهة هذه الهجمة الصهيونية وهذه الدولة الكرتونية اسرائيل. وكانت حالة الاحباط هذه ناتجة عن اعتقاد الكثير بانهم يواجهون اسرائيل لوحدها أو في احسن الاحوال المدعومة من الدول الاستعمارية أمريكيا وبريطانيا بسبب مصالح هذه الدول أو نفوذ اللوبى الصهيونى والصوت الانتخابى اليهودى. ولذا توجهت الجهود كلها من اجل فصل الظاهرة الاسرائيلية عن مصادر تمويلها وحمايتها من خلال اعتقاد البعض ان الارتماء في الاحضان الأمريكية سيخلق بديلاً لاسرائيل، وبالتالى تفقد اسرائيل اهميتها الاستراتيجية للقوى الاستعمارية فتتخلى عنها.
ولكن هذا الامر لم يحدث ولن يحدث، لان الاساس الفكرى الذى انطلق منه هذا التحليل خاطئ ولم يعى حقيقة العلاقة القائمة بين اسرائيل من جهة، وأمريكيا وبريطانيا من جهة اخرى، أو بالاحرى لم يعى البعد الدينى لهذه العلاقة، بل ان كثير من مفكرينا ومحللينا السياسيين وصناع القرار يسخرون ممن يطرح مثل هذه الاقوال باعتبار ان الدين لا يمثل اى شئ لهذا الدول. واعتقد اننا من خلال عرضنا السابق اوضحنا بما لا يدع مجالا للشك الدور الرئيس الذى لعبه الدين في رسم توجهات أمريكيا وبريطانيا تجاه اسرائيل والمنطقة العربية، بل نستطيع ان نقول ان هذا العامل هو العامل الوحيد المؤثر الذى يمكن ان يفسر لنا هذه العلاقة.
وحتى لا نعيد ما عرضناه سابقاً ولكى نبتعد عن الجدل العقيم، فان المهم هنا ليس هو البرهنه على العدوانية الأمريكية تجاه المنطقة، أو تحديد اى العومل اسبق(3/190)
واهم في رسمها وتوجيهها، بل المهم هو كيفية مواجهة هذه السياسة والتصدى لها ولخططها المرعبة والعدمية التي تهدد المنطقة والعالم. فمن السهل على أي باحث أن يقدم ألف دليل ودليل على هذه العدوانية التي تستهدف الإسلام واهله، قديماً وحديثاً، ولكن لا اعتقد أن اجترار ذلك هو المطلوب اليوم من ثقافتنا الشعبية، انه كلما المت مصيبة بمنطقة إسلامية أو حلت بها كارثة، يتوجه اصبع الاتهام تلقائياً نحو الغرب الغير مسلم، ونادراً ما يخطيء. ليس الهدف من هذا البحث أن يكون مجرد حركة إصبع في هذا الاتجاه أو جزاءً من هذه الثقافة الشعبية الصحيحة بعفوية. إنما الهدف منه هو إضاءة شمعة وسط نفق مظلم يبدو في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانعكاساتها وكأن لا مخرج منه، الا بمواجهه شامله تحشد لها كافة القوى والامكانيات للتصدى لها، من خلال وضع خطة عمل متكامله على المستوى المحلى والدولى، وتستخدم كافة الامكانيات المتاحه، بطريقه حضارية انسانية، توفر لها عوامل النجاح، محلياً ودولياً.
والخطة التى نقترحها تقوم على اسس ومبادئ ومسلمات، وتنطلق من الفرضية الاساسية التى اثبتناها في هذا الكتاب، وهى الدور الاساسى الذى يلعبه الدين في توجيه السياسة الأمريكية البريطانية العدوانية تجاه العالم العربى والإسلامى، وبناء على ذلك سيكون العلاج مبنياً على هذا الاساس وانطلاقاً من هذا الفهم، وهذا لا يعنى اهمال دور العوامل الاخرى. ويجب ان نشير هنا ان تركيزنا على دور الدين يجب ان لا يفهم اننا ندعو إلى مواجه هذا التطرف الدينى في أمريكا بتطرف مثله ... أو ان نواجه الارهاب الامريكى بارهاب مثله ... الخ. ليس هذا هو المقصود وليس هذا هدفنا ... ان المواجهة التى نريدها هى مواجه شاملة .. مواجهة حضارية تستوعب كل الامكانيات الخيرة والقيم الجميلة ليس فقط التى افرزتها حضارتنا العريقة ... بل وتستوعب كافة القيم الانسانية النبيلة والخيرة التى افرزتها الحضارات الاخرى .. لان المواجهة الحاليه بين قوى الظلام الامريكى واعوانها، وامتنا سبقتها مواجهات وظلم كبير وقع على شعوب اخرى، وستستمر أمريكا بهذا النهج إذا لم يتحد العالم لايقافها عند حدها وتحريرها من هذا الهوس الدينى، الذى جعلها ترتكب ابشع الجرائم بحق الانسانية.(3/191)
وخطة العمل المقترحة تقوم على عدة اسس:
- مواجهة أمريكا على المستوى الدولي.
- مواجهة الصهيونية المسيحية، من الداخل ومن الخارج.
- تفعيل حوارالأديان الحضارات.
- بناء مشروع نهضوى عربى اسلامى.(3/192)
الفصل الأول
مواجهة أمريكا على المستوى الدولي
أمريكيا .. عوامل القوة والضعف
بعد كل الذي عرضناه لجرائم أمريكيا الفظيعة عبر التاريخ، هل يعني هذا أن أميركا قضاء وقدر، وهل الامركه هي مستقبل العالم المحتوم وماذا يمكن أن نفعل؟ وما هو المطلوب؟. بالتأكيد ان أمريكا لم ولن تكون قضاءاً وقدراً ولا قوة مطلقة يصعب وقف جبروتها وعنجهيتها, إنّها بسهولة تتغذى من خلافاتنا التي كرسهاّ الحكام العرب في واقعنا, إنّها تتغذى من خيانات الحكام العرب الذين داسوا على تطلعّات شعوبهم وأرتضوا أن يكونوا دائماً في الصف الأمريكي, في صف أعداء الأمة وثوابتها لأنّهم وبكل بساطة يستلهمون شرعيتهم من واشنطن وليس من شعوبهم، ولذلك وضعوا كل المقدرات وكل الجغرافيا وكل الأراضي في خدمة واشنطن. ولهذا فمن التعسف القول أن باب المستقبل مفتوح للامركه فقط. فالتاريخ شاهد على صعود دول وإمبراطوريات كما هو شاهد على وقوع الانهيار السريع للمنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي وهي تملك من قوى عسكرية مرعبه، وعالم اليوم الذي يعيش أحادية قطبيه لم يسلم الرايات لأميركا بعد، فالممانعة تطل برأسها هنا وهناك والتناقضات في داخل المعسكر الغربي متعددة وآخذة في التبلور بل آخذة في الظهور إلى العلن في كل من أوروبا والصين وحتى روسيا، ناهيك عن دول العالم الثالث والعالم الإسلامي الأكثر تضرراً من هذه العولمة المتوحشة والسياسة المنحازة للعدو الإسرائيلي. المطلوب تعديل تركيبة مجلس الأمن وتشكيل مرجعية شرعيه دوليه تقطع الطريق على هذا (التفرد) وتذهب باتجاه صياغة أسس النظام الدولي الجديد، وهو مطلب كفيل بالحد من الاستفراد والهيمنة وهو لا شك سيكون عنوان نضال الشعوب في هذا القرن الجديد (1).
_________
(1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص105 - 106(3/193)
فمن خلال ظهور محاولات لإعادة الاستقطاب في العلاقات الدولية باسم العولمه الامبرياليه للاقتصاد، في مواجهة الهويات الثقافية أو الدينيه والتاريخية للحضارات الأخرى كافة، تنبع الضرورة بوحدة أوروبا واسيا وأمريكا المسماة باللاتينية لإفشال محاولة أمريكا للقضاء على مراكز المقاومة، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو الديني أو الثقافي، الذي يتعدد في كل القارات. أن مناورات أمريكا لتفتيت المراكز الصلبة في كل بقاع الكوكب تظهر في تشجيع الصراع بين الكوريتين، وتايوان ضد الصين، والهند ضد باكستان، وذلك بهدف إيجاد مبرر لتدخل القوات الأمريكيه (1).
إن تهديداً واحداً للتوازن يحدق اليوم بالكوكب: أميركا نفسها التي تحولت من حامية إلى نهابة. فالعسكريتارية الاستعراضية الأمريكية قادت في نهاية الأمر إلى انشغال القوى الحقيقية التي هي أوروبا، اليابان وروسيا ودفعها من الآن فصاعداً إلى أن تتقارب فيما بينها. فقد بدأت أوروبا تعي أن روسيا ليست تهديداً إستراتيجياً لها بل أصبحت مساهمة في أمنها العسكري. ولما كانت القوى الحقيقية اليوم كما في الأمس هي سكانية، تربوية وأن السلطة الحقيقية اقتصادية. فلا داعي للانسياق وراء تسابق نحو التسلح مع أميركا يقود إلى التدخل ... في بلدان دون أهمية إستراتيجية حقيقية. فالتدخل العسكري إلى جانب الأميركيين ضد العراق لم يكن مقبولاً، حيث أنه لم تنجح أية دولة في القرن 20 في تنمية قوتها عبر الحرب أو عبر زيادة قواتها المسلحة. فأوروبا، اليابان وروسيا ستخسر كثيراً إن هي انخرطت في هذه اللعبة، فالولايات المتحدة خرجت منتصرة في القرن 20 لأنها وخلال حقبة طويلة من الزمن رفضت الدخول في الصراعات العسكرية في أوروبا. اذاً لنترك أميركا تنهك ما تبقى من طاقتها في (مكافحة الإرهاب)، كبديل للكفاح من أجل الحفاظ على هيمنة لم تعد موجودة. لان أمريكا إذا استمرت في تعنتها لإظهار قوتها الخارقة للعالم، فإنها تظهر في نهاية الأمر عجزها للعالم (2).
_________
(1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص31
(2) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز(3/194)
العملاق الأميركي
وفقاً لمقاييس القوة يقدم (جوزف ناي) في كتابه (مفارقة القوة الأميركية)، خريطة طريق أو إستراتيجية جريئة لإعادة تعريف المصالح الوطنية الأميركية في عالم جديد متغير، كشفت أحداث 11 سبتمبر أنه يتضمن فرصة انكشاف الولايات المتحدة وتعرض مؤسساتها ومصالحها للعطب، رغم تفوقها دون منافسة والقوة الهائلة التي تتمتع بها. فالولايات المتحدة تهيمن على العالم على نحو لم يسبق أن حققته إمبراطورية أو قوة من قبل في التاريخ، فهي تسيطر على التجارة والاتصالات والاقتصاد، بالإضافة إلى قوتها العسكرية الحاسمة، ويمتد تأثيرهاـ كما يقول وزير الخارجية الفرنسي السابق (هوبير فيدرين) ـ إلى اللغة وأساليب الحياة والثقافة والفكر.
وبالرغم من ضخام القوة الأمريكية، إلا أن ثمة جدال كبير إزاء مدى إمكانية استمرار هذه الهيمنة وخطورتها أو ضرورتها من وجهة نظر الأميركيين، إذ إن تاريخ السياسة الدولية يقضي باستحالة استمرار القوة والهيمنة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو, إلى متى ستبقى الولايات المتحدة القوة العظمى المتفردة في العالم؟ لقد انحسرت قوى ودول عظمى هائلة كثيرة، وقد تنبأ الكثيرون بانحسار وتراجع الولايات المتحدة من قبل، ولكنها في التسعينيات عادت من جديد قوة عظمى، وربما أعظم من أية فترة سابقة، فقد كانت قائدة ثورة المعلومات والعالمية والاتصالات. وكما أتاحت الثورة الصناعية لبريطانيا أن تظل القوة المهيمنة الأولى لأكثر من مائة عام, فقد تتيح المعلوماتية للولايات المتحدة عقوداً من الهيمنة والتفوق. وفي المقابل تبدو فرص لقوى ودول أخرى منافسة لا تقل أهمية وتأثيراً عن الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا وأوروبا، أو لتحالفات ممكنة بين اليابان وشرق آسيا، والصين والهند وروسيا (1).
_________
(1) مفارقة القوة الأمريكية: لماذا لا تستطيع القوة العظمى ... / تأليف جوزيف س. ناي، تعريب محمد توفيق البجيرمي- الرياض، السعودية: مكتبة العبيكان، ط.1 2003.(3/195)
مصادر القوة
المقصود بالقوة هو القدرة على التأثير في الأهداف المطلوبة، وتغيير سلوك الآخرين عند الضرورة. وعلى سبيل المثال فقد ردعت القوة العسكرية لحلف الناتو رئيس صربيا (سلوبودان ميلوسووفتش)، ودفعت الوعود بالمساعدات الاقتصادية حكومة صربيا إلى تسليم (ميلوسوفتش) إلى محكمة لاهاي. فالقدرة على الحصول على الأهداف المطلوبة تتحقق بالقوة الصلبة العسكرية, أو الناعمة الثقافية والاقتصادية. وترتبط القوة بالموارد، ولذلك فإن فهم القوة يقتضي فهم الموارد، فتكون المحصلة التطبيقية لفهم القوة ومصادرها بالنسبة للدولة هي امتلاك عناصر معينة امتلاكاً متفوقاً أو مؤثراً, مثل السكان, والإقليم الجغرافي, والموارد الاقتصادية الطبيعية, والتجارية, والقوة العسكرية, والاستقرار السياسي. وتكون في أحيان كثيرة موارد أو مصادر قوة معينة, هي سر القوة والتأثير, مثل: الصناعة القائمة على الطاقة البخارية, والسيطرة البحرية البريطانية في القرن التاسع عشر الميلادي، وسكة الحديد الألمانية في النصف الأول من القرن العشرين، والقوة النووية للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي القرن السادس عشر الميلادي كانت الهيمنة والتأثير لإسبانيا عبر السيطرة على الذهب والتجارة الاستعمارية وعلاقات الأسر الحاكمة، كما كانت لهولندا في القرن السابع عشر الميلادي عبر التجارة ورأس المال، ولفرنسا في القرن الثامن عشر الميلادي عبر الثقافة والصناعات الريفية والسكان والإدارة العامة.
وتبدو الولايات المتحدة قوة متفوقة بفارق كبير, إذا ما قورنت بالدول المهمة الأخرى مثل: ألمانيا, وروسيا, وبريطانيا, والصين, والهند, واليابان, على أساس مجموعة من مصادر القوة كالمساحة الجغرافية, وعدد السكان, ونسبة التعليم, والقوة النووية, والميزانية, والجيش, والناتج المحلي, والقوة الشرائية, والصناعة, والصادرات التكنولوجية, واستخدام الكمبيوتر، وتتفوق عليها روسيا بالمساحة،(3/196)
والصين والهند بالسكان، وربما يكون القرن الحادي والعشرين وفق هذه المعطيات قرنا أمريكيا (1).
قدرات الإمبراطورية
يشير (فيرغسون) إلى القدرات الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة. فقد كان للولايات المتحدة، قبل قيامها بإرسال القوات لغزو العراق، 732 منشأة عسكرية في أكثر من 130 دولة. وتعادل ميزانية وزارة الدفاع الأميركية مجموع ميزانيات الدفاع في الدول الـ12 أو الـ15 التي تليها، ويشكل الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة 40 إلى 45% من مجموع الإنفاق العسكري لكل دول العالم الـ189. ولدى الولايات المتحدة من الدبابات ما يفوق ما لدى أي دولة أخرى، إضافة إلى كونها الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك (الحاملات الفائقة) , التي يبلغ عددها تسع حاملات, وطائرات (الشبح) غير المرئية, التي تمتلك ثلاثاً منها.
ويقول لنا (فيرغسون) إن "مجموع الناتج الإجمالي المحلي الأميركي عام 2002 م، محسوباً بالسعر الدولي للدولار ومعدلاً تبعاً للقوة الشرائية المتناظرة، قد قارب ضعفي الناتج الإجمالي المحلي للصين، وتجاوز نسبة الخمس (21.4%) من مجموع الناتج العالمي، وزاد على الناتج الياباني والألماني والبريطاني مجتمعين. وهذا يتجاوز بما يزيد على الضعفين النسب العليا التي حققتها حصة بريطانيا العظمى من الإنتاج العالمي، عندما كانت إمبراطورية تهيمن على الأسواق العالمية, وبقدر تعلق الأمر بكل من الإنتاج والاستهلاك، فإن الولايات المتحدة تعتبر إمبراطورية أغنى بكثير مما كانت عليه الإمبراطورية البريطانية في أي يوم من أيامها".
أما سيادة الثقافة الأميركية فأمر لا يكاد يوجد من يشكك فيه. وكفى بـ (استعمار الكوكا كولا) شاهداً عليه. أما إذا أردت الاستشهاد بمطاعم (ماكدونالدز) , فإن (فيرغسون) يخبرك بأن عددها قد فاق الثلاثين ألف مطعم, تعمل في سبع
_________
(1) مفارقة القوة الأميركية المؤلف: جوزف ناي ـ تعريب: محمد توفيق البجيرمي الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض(3/197)
وأربعين دولة وموقعاً على امتداد العالم، وأن أقل من نصف هذا العدد فقط موجود داخل الولايات المتحدة (1).
ومن الصعب إعادة تقييم إمكانات القوة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، فأمريكا في الوقت الراهن تؤثر تأثيراً بالغاً في السياسة الدولية، أكثر من أي دولة أخرى في التاريخ، وبعد سبع سنوات من الازدهار الاقتصادي المتواصل، اقترب إجمالي الناتج القومي لها من 9 تريليون دولار. وحتى أكثر المتشائمين تحفظاً يعترف بان الظروف المواتية على نحو لا يوصف تضمن لأمريكا عشرين عاماً من الزعامة دون جدال. ولا يظهر حتى الآن أي خصم في الأفق ... ويرى (رونالد ستيل) أن الولايات المتحدة الأمريكية ـ من جميع الجوانب العلمية ـ لا تخضع تحت أي تهديد بالتدخل، وليس هناك ثمة أعداء يرغبون في انهيارها، كما أنها غير خاضعة لأحد في تجارتها الخارجية .. لها حلفائها، ولكنها مستقلة بدونهم، ولم تكن تابعة لأحدهم في يوم من الأيام حتى سنوات الحرب الباردة. أن الولايات المتحدة الأمريكية هي شبكة واسعة من القواعد العسكرية، وهى قواعد لم يكن بناؤها لمجرد الدفاع عن النفس. ويكتب (تشارلز ماينز) قائلاً: "لم يحدث مطلقاً، منذ روما القديمة إن سادت دولة بمفردها النظام العالمي متفوقة على هذا النحو الهائل من التفوق" (2).
وبالرغم من كل ما تقدم فإن حقائق القوة هذه لا تلغي وجود بؤر ضعف بنيوية في النظام والمجتمع الأميركي , الذي يهيمن 1% من سكانه على 70% من ثروة البلاد , بينما لا يتبقى لغالبية السكان سوى 30% من ثروة البلاد الصافية، علما أن التفاوت يشمل حتى الفئة الغنية , إذ يملك 1% من السكان الأغنى 38.9% من ثروة البلاد , هذا التفاوت أظهر وجود 31.14 مليون فقير، حسب التعريف الرسمي للفقر عام 2000 م والذي يتركز في الأقليات السوداء والمنحدرة من أصل أميركي لاتيني وآسيوي، هذا التفاوت الرهيب في الثروة والدخل يؤدي داخل أي مجتمع إلى تناقضات , تنتج عالمين يصارع بعضهما البعض , تعمل فيه الطبقات المتوسطة
_________
(1) الصرح: ارتقاء وسقوط الإمبراطورية الأميركية: نايل فيرغسون عرض/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت
(2) الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين- اناتولي اوتكين- ترجمة أنور إبراهيم و محمد الجبلي ـ ص20ـ21 - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 - 2003(3/198)
والفقيرة , التي تبني سياسات اجتماعيه أكثر عدلا مقابل الطبقة الغنية التي ستدافع عن مصالحها بل وتعمل على تحسينها وهو ما سيولد تناقضات داخليه خطيرة في المستقبل، تتهرب من مواجهتها الإدارة الأمريكية من خلال طرح تحديات خارجية ووجودية , هذا بالإضافة إلى حقيقة يجري إغفالها وتتمثل بهيمنة الواسب الانكلو ساكسون البيض على أبرز مصادر ومفاصل القوة والاقتصاد والسياسة (1).
وأما نقاط الضعف في القوة الأميركية فهي أن الولايات المتحدة بحاجة إلى ائتلاف وتشارك مع العالم، فهي لا تستطيع التصرف منفردة رغم قوتها وتفوقها. فقوتها لا تكفي لحل مشاكل مثل الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية، وستقع في متاعب كثيرة إن لم تتفهم ذلك, وتتعلم كيف تعمل مع الآخرين وتقودهم (2). ولكي تحافظ أمريكا في القرن الحادي والعشرين على موقع الزعامة في المنظومة العالمية يجب عليها التضحية بمواطنيها, والاستعداد لدفع الضرائب, وإرسال أبنائها فيما وراء المحيطات، فهل أمريكا مستعدة لتقديم مثل هذه التضحيات التي لا مفر منها؟. مع نهاية الحرب الباردة بدأ هذا الاستعداد يفتر أكثر فأكثر، وقد أجرت مجلة تايم الأمريكية دراسة عام 1991م أثبتت أن 76% من الشعب الأمريكي يعارض قيام أمريكا بدور شرطي الأمن. فيما اثبت استطلاع رأى آخر وجود رغبة شديدة عند غالبية الشعب الأمريكي في تقليص الوجود العسكري خارج الولايات المتحدة (3).
مؤشرات لكسر القوة الأمريكية
لا أريد بالطبع، الإساءة إلى الكثير من الأمريكيين البسطاء - الذين ذاقوا مرارة الحرمان والظلم. لا اقل من أولئك الذين عاشوا في عهد هتلر أو جنكيز خان. بل ما ارمي إليه هو تعرية النظام اللاإنساني، والتوليتاري إلى ابعد الحدود، الذي يمثله النظام الأمريكي غير جدير بالوجود إجمالاً، مثله مثل إمبراطورية الشر. أن نظام
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص1،1
(2) مفارقة القوة الأمريكية ـ جوزف ناي ـ تعريب: محمد توفيق البجيرمي ـ الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض
(3) الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين - اناتولي اوتكين - ترجمة أنور إبراهيم و محمد الجبلي ـ ص241(3/199)
الامركة أي الوجود الطفيلي على حساب موارد الآخرين والعنف والخداع واستغلال ونهب الدول الأخرى يجب أن يدمر بجهود البشرية المشتركة وآلا فان العاقبة ستكون وخيمة على العالم بأسره. فخلافاً للقوة المسيطرة السابقة تعمل الولايات المتحدة الأميركية في عالم يشتد فيه الجوار وتقوى أواصر الألفة، فالقوى الامبراطورية السابقة مثل بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر أو الصين في مراحل مختلفة من تاريخها الممتد آلافاً من السنين أو روما خلال 500 عام لم تكن تتأثر نسبياً بالتهديدات الخارجية، فقد كان العالم الذي تسيطر عليه مقسماً إلى أجزاء منفصلة لا يتفاعل بعضها مع بعض، وكانت المسافة والزمن يوفران متنفساً ويعززان أمن الوطن. وبالمقابل ربما تكون الولايات المتحدة الأميركية فريدة في قوتها في المنظور العالمي، ولكن أمنها الداخلي مهدد على نحو فريد أيضاً، وقد يكون اضطرارها إلى العيش في مثل هذا الجو من انعدام الأمن حالة مزمنة على الأرجح (1).
فخلال العقود القادمة ستفقد الولايات المتحدة الأمريكيه وجودها كرقعة واحده وكسكان متضامنين وإذا ترك الحبل على الغارب فان انهيار أمريكا سيكون مأساويا بالنسبة للكرة الأرضية برمتها. فأمريكا المحشيه بالسلاح النووي وبالحقد الشيطاني على كل ما هو إنساني، يمكن إن تجر العالم كله إلى الهاوية، ولذا فان على المجتمع الإنساني إن يتخذ الإجراءات الوقائية ويقوم بضبط هذه العملية الكارثيه على شتى محاور الانهيار الأمريكي القادم: المحور القومي العرقي، المالي الاقتصادي البيئي والدولي. وكأية ظاهرة سياسية - اجتماعيه شاذة فان عملية تداعي الولايات المتحدة، تحمل طابعاً متعدد الاحتمالات، وبالتالي يمكن التنبوء بها وضبطها من خلال عدة سيناريوهات، إنما المسألة تكمن في طبيعة وتكوين وفعالية أدوات الضبط التي سنختارها، وسوف يتم الضبط عبر التأثير على نقاط الضعف في إمبراطورية الشر. إن على دول العالم وشعوبه إن تقيم بكل الطرق الممكنة، مرافق مقاومة الولايات المتحدة بالدرجة الأولى عن طريق إنشاء مراكز خاصة تعمل على تهديديها، وترسم الاستراتيجية الطويلة المدى لذلك وشن حملة دعائية مكثفة
_________
(1) الاختيار السيطرة على العالم أم قيادة العالم- زبيغنيو بريجنسكي - الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت- ط1 2004 - عرض/ إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت- 14 - 8 - 2004(3/200)
ومستمرة عبر وسائل الإعلام الجماهيري، ومن الضروري القيام باستمرار بعرض الأمثلة الحية على الطابع الكافر الإجرامي الطفيلي والتوليتاري لأمريكا وبؤس قيمها الحياتية والفقر الروحي - الأخلاقي المدقع لأغلب الأمريكيين. ويمكن العمل على تعميق الصعوبات التى تواجهها أمريكا من خلال التركيز على نقاط الضعف في النظام الأمريكي واحداث الكسور والشروخ في هذا النظام من خلال عدة محاور:
الكسر القومي: من خلال رسم خط الكسر القومي، لا بد قبل كل شيء من تقديم كل دعم ممكن لقوى المقاومة القومية والدينية في بعض مناطق الولايات المتحدة الأمريكيه، وبخاصة في مستوطنات الهنود الحمر وفي ألاسكا وغويان، وكذلك في مناطق أخرى مثل تكساس نيوميكسيكو فلوريدا وغيرها من الولايات الجنوبية، وتوجيه هذه القوى نحو إقامة الكيانات المستقلة ذات السيادة. ويجب إن يتم العمل التنفيذي عن طريق إنشاء وتدريب وتمويل مجموعات المقاومة من بين السكان المحليين وتربية قادة حركات التحرر في الأراضي الوطنية المحتلة من قبل أمريكا. ففي ألاسكا لا بد من تشكيل حركة سياسية للتحرر من الاحتلال الأمريكي ومنحها صفة الدولة المستقلة الصديقة لروسيا. كما آن الأوان لإقامة عدد من الجمهوريات القومية الهندية، التي تتمتع بحقوق السيادة على الأراضي التي اغتصبها البيض دون وجه حق.
فمن المعروف أنّ الهنود الحمر وإلى يومنا هذا يطالبون بحقوقهم السياسية والإجتماعية, وإذا كان الصراع سابقاً بين السكان الأصليين لأمريكا والدخلاء عليها يتم على شكل حرب عصابات وقتل بالجملة، من قبل الدخلاء للهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا, إلاّ أنّه اليوم إنتظم في شكل تكتلات سياسية وتنظيمات هندية أمريكية أحرجت أمريكا في الداخل والخارج. والولايات المتحدة الأمريكية التي تدّعي حماية الأقليات ونصرة حقوق الإنسان - الوجه الأخر للتدخّل الأمريكي في الدول الآمنة - إلاّ أنّها لم تأبه لمطالب الهنود الحمر الذين مازالوا يحتجون على السياسة الأمريكية تجاههم، وما زالت تجمعاتهم في أمريكا وتحديداً في الغرب الأمريكي، تتناقل حكايات إجرام العصابات الدخيلة في حق أجدادهم. والصراع بين السكان(3/201)
الأصليين والدخلاء على أمريكا مرشّح للبروز في أي لحظة لأنّ عوامله مازالت قائمة, وقد يؤدّي هذا إلى خلق فجوة كبيرة في التركيبة الاجتماعية الأمريكية (1).
كما إن من العدل والأنصاف إنشاء ودعم حركات العصيان المكسيكية للنضال من اجل استعادة المكسيك أراضيها الشمالية التي احتلتها الولايات المتحدة بشكل غير شرعي. ويجب إن يصبح الوضع المادي والمعنوي للاقليات القومية الأمريكيه المضطهدة موضع اهتمام دائم من جانب المجتمع الدولي إلى درجة إصدار مذكرة خاصة حول شعوب الولايات المتحدة المضطهدة، واستخدام العقوبات الاقتصادية والسياسية وغيرها ضد الولايات المتحده لاجبارها على الاعتراف بجرائمها ضد الهنود الحمر اصحاب البلاد الاصليين.
ولكن احد احفاد الهنود الحمر وهو رافن سلفا وهو معد أحد البرامج الإذاعية للكلام عن شعبه واسمه «دائرة الأمم الحمراء «يؤكد بأن الأمريكيين لم يحاسبوا ضمائرهم ولن يفعلوا هذا أبداً. لقد قال: «أمريكا هي آخر مكان في العالم يعترف بأخطائه. هذا البلد مصاب بفقدان ذاكرة جغرافية وتاريخية، فأمريكا تخترع تاريخاً لها خلال حقبٍ منتظمة وهوليود تستخدم كسحر نفسي أمريكي ودولي». لقد منح الكونغرس الأمريكي الهنود حرية ممارسة معتقدهم الديني عام 1976 وهم الآن عام 1997 لديهم شكوك حقيقية حول إمكانية متابعة العيش (2).
الكسر العرقي: يكمن الكسر العرقى في التنازع المستمر بين البيض وأحفاد العبيد السود، الذين لا يزالون يعانون من التمييز العنصري الذي يتجلى في شتى مجالات الحياة وفي الثقافة والأجور بالدرجة الأولى. فما زال السود في القارة المغتصبة ممنوعين من العديد من الحقوق السياسية, ولا يمكن، ورغم الديموقراطية الأمريكية التي تحولتّ إلى معزوفة، ان تقبل بوجود شخص أسود في البيت الأبيض الذي إحتكره البيض فقط من رجالات القرار في أمريكا. وما زالت القوة السوداء تتعرض إلى إعتداءات من قبل المنظمات العنصرية التي تطالب بضرورة
_________
(1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm
(2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص31 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001(3/202)
إخراج هؤلاء من أمريكا وإرجاعهم إلى إفريقيا. وتسجّل الدوائر الرسمية بحذر شديد الإعتداءات على السود من قبل البيض والعكس صحيح. وقد أصبح رجال أمن متورطين في قتل شباب سود، الأمر الذي فجرّ عشرات التظاهرات السوداء الغاضبة على الإدارة الأمريكية, وهذا التمزق والصراع العرقي واللوني مرشح لمزيد من الإتساع كما يقول علماء إجتماع أمريكيون (1). بسبب الأيديولوجية التي كانت العامل الرئيسي في تأسيس أمريكيا، ففتح الباب للسود وقبلهم الهنود بالدخول إلى المواطنية هذا يعني إدخال مفهوم التعددية إلى حد قد يبدل بشكل عميق صلب النظام (2). ومن الجدير بالذكر ان نسبة المواطنين السود في أمريكا هي 12% و 8% من أصول اسبانية. يقول اندرو هيكر في كتابه "نهاية العهد الأمريكي": يمكننا النظر إلى أمريكا على أنها دولة تتكون من شعبين: البيض وهو الاغلبية المسيطرة والسود وهو الاقلية المضطهدة.
ومن غريب الأمور كما يقول المؤلف في موضوع العنصرية السياسية أن أحد الحزبين الرئيسيين في أمريكا وهو الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه رونالد ريجان وجورج بوش، قد صرح علانية بأنه حزب سياسي للمواطنين الأمريكيين البيض. وأنه يهدف إلى تحقيق مصالح البيض في أمريكا (3).
ومن هنا فإنه من الضروري مؤازرة الحركات الزنجية من اجل العدالة ومن اجل إقامة إدارات الحكم الذاتي الزنجية في المناطق التي يشكل الزنوج أغلبية سكانها، كنيويورك، على إن يتم فيما بعد منحها السيادة على مراحل في حدود الولايات المتحدة ذات الصله (4). كما ان التنازع العرقي سيصيب السعى والتطلع الأمريكي للقيام بدور الامبراطورية العالمية بالشلل، وهذا ما يعترف به كثير من الأمريكيين. يكتب (لييفين): "إن العنصرية العميقة، من النمط الجنوبي، لشخص مثل (وودرو
_________
(1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي- يحي أبوزكريا- http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm
(2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 32 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001
(3) مؤسسة الحوار الانساني http://www.dialogue-yemen.org/ar/modules.php?name=Sections&op=viewarticle&artid=21
(4) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 158 - 160(3/203)
ويلسون) مثلا، ترْهِق كثيراً ولا تزال تنخر العالمية الليبرالية التي كان زعيمَها في نظر اليابانيين وفي نظر العديد من الشعوب غير البيضاء في العالَم". وكما كتب الثيولوجي (رينهولد نيبوهر) سنة 1943: "إن كبرياءنا العِرْقِيّ غير متلائِم مع مسؤولياتنا في الجماعة البشرية. فإذا لَمْ نَنْجح في تصحيحها فإننا سنفشل في مهمتنا"، لأن مصير السود يسيء إلى القوة الأمريكية في صراعها ضد اعدائها. فقد اضطرت النّخَب القومية إلى اتخاذ قرار، في الخمسينات والستينات، بوضع حد لهذه الأشكال الصارخة من العبودية. أَلَمْ يفهمْ (أبراهام لنكولن) في زمنه بأن العبودية تضعِف أمريكا في مهمتها الديمقراطية وتعرِّضها للاتهام بالنفاق؟ " (1).
أمريكا دولة الجرائم
إنّ إنتشار الجريمة بشكل مذهل في الولايات المتحدة الأمريكية يدلّ على الإنكسار الرهيب في المجتمع الأمريكي, وعلى الطبقية في هذا المجتمع المخملي. وبرغم الإجراءات المتخذة للحدّ من ظاهرة الجرائم إلاّ أنّ كل الإجراءات باءت بالفشل, وقد تتفاقم هذه الطبقية لتتّحول إلى ثورة إجتماعية كما حدث في فرنسا أيام الثورة الفرنسية, وقد تمكنّ (كارل ماركس) من تشخيص منتهى الرأسمالية عندما أشار إلى أنّ المجتمعات الرأسمالية ستثور على الوضع القائم, إلاّ أنّه أخطأ النتيجة عندما قال إنّ هذه المجتمعات الرأسمالية وعندما تثور على الرأسمالية ستنتهي إلى الماركسية، والتي ماتت شأنها شأن الرأسمالية الآيلة إلى الموت. وتفاقم الطبقيّة لا يميّز الوضع العام في أمريكا فقط، بل بات الهاجس اليومي في أوروبا أيضا, فهناك 60% -14% من الشعب الأمريكي كانوا ضحية للجريمة مرة واحدة في حياتهم على الأقل.، 58% من الأمريكيين الراشدين سبق لهم تعاطي المخدرات. و20% منهم ما يزالون يتعاطونها. يشير اندرو شابيرو (نحن القوة الأولى: أين تقف أمريكا وأين تسقط في النظام العالمي الجديد؟ إلى ان 46% من المواطنين السود، و 15% من الهسبانية لا يجدون لهم سكناً، و 34% من المشردين هم من المواطنين الأمريكيين البيض، 4%
_________
(1) القومية الأمريكية الجديدة - تأليف: اناتول لييفين -عرض: بشير البكر - جريدة الخليج - 30 - 6 - 2005 - العدد 9538(3/204)
من أصول عرقية أخرى (1). ومثل هذه النتيجة حتمية في مجتمع يفتقد إلى أدنى موازين العدالة, ولا يعترف بالفقراء والمنبوذين, بل إنّ الحياة للأقوى كما قال نيتشه ذات يوم. وقد تتلاقى صيحات المستضعفين في أمريكا وأوروبا والعالم الثالث أيضاً، وهو مؤشّر على الفصام النكد بين القيادة السياسية في أمريكا والمدعومة من قبل رجال الأعمال وبين الطبقات المسحوقة.
وإذا غالطت أمريكا الرأي العام لديها بتوجيه أنظارهم إلى الساحة السياسية الدولية، فسوف يأتي اليوم الذي يلتفت فيه المسحوقون في أمريكا إلى واقعهم ويحتجون عليه بقوة (2).
الكسر المالي: تحولت الولايات المتحدة الأمريكيه من اكبر دولة دائنه في العالم إلى اكبر دولة مدينه في العالم: ومعدل الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكيه يعد الأقل بين الدول الصناعية الكبرى. إن أهم ما يعاني منه الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحاضر هو الديون الكثيرة التي فاقت كل تصورات السياسيين والاقتصاديين؛ ففي: سنة 1940 كان مجموع ديون الولايات المتحدة 43 مليار دولار. وفي سنة 1950 وبسبب الانفاق الهائل على الحرب العالمية الثانية أصبح 256 مليار دولار وسنة 1980 بلغ مجموع الديون (حرب كوريا/فيتنام) 908 مليار دولار، وفي سنة 1988وصلت وأثناء رئاسة ريجان (بسبب بناء الترسانة العسكرية) 2,6 ألف مليار دولار، وسنة 1992م قاربت ديون الولايات المتحدة 4000 مليار دولار. وهكذا ما بين (1980 - 1992) ازدادت نسبة ديون الولايات المتحدة إلى أكثر من 65% وهو ما يجعل الشعب الأمريكي يتساءل عن الطرق التي أنفقت فيها الحكومة هذه المبالغ الطائلة، ويطرح من القضايا أمام الرأي العام حول الفساد السياسي والاقتصاد. و إذا استمرت هذه الزيادة بمعدلاتها الحالية فان ديون الولايات المتحدة ستصل إلى ما مجموعه10,2 ألف مليار دولار قبل حلول 2020م (3).
_________
(1) مؤسسة الحوار الانساني http://www.dialogue-yemen.org/ar/modules.php?name=Sections&op
(2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm
(3) مؤسسة الحوار الانساني http://www.dialogue-yemen.org/ar/modules.php?name=Sections&op=viewarticle&artid=21(3/205)
فبرغم قوتها العسكرية التي لا تعتمد على قوة المقاتلين والتي لا تتمنى - كما تشير تقارير البنتاجون- إلا دخول حروب (لا تخسر فيها قتيلاً واحداً) وذلك بإمكاناتها التقنيه العالية الخاصة بإدارة المعارك، وباستخدام المرتزقه وقوات قرين كارد ودول ما تسمى بالتحاف، بهدف أن يصبح قادتها بذلك أسياد العالم. برغم كل ذلك تحولت الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً إلى عملاق بطبع (أخيل)، وذلك بسبب الهشاشة الاقتصادية المختفية وراء القناع إلى حين انكشافها عبر سيولة المضاربات الماليه التي حولت البنوك الأمريكيه إلى صالات للقمار. لهذا الضعف الواضح والقصور تقامر الولايات المتحدة حتى إشعار آخر على سياسة التسليح لمواجهة صعود أي عمالقة آخرين إلى قمة العالم التي تعتليها، ومن ثم فهي لا تسلح فقط مرتزقها الرئيسي في الشرق الأوسط: إسرائيل تسليحاً كثيفاً بل تسعى أيضاً لعرقلة صعود الصين (1).
إن الكسر المالي حتمي وآت لا ريب فيه بسبب السمات آنفة الذكر للسياسة امريكيه في مجال النقود والاسعار. ولسوف يحدث على الأرجح بشكل عفوي لكنه قد يكون قابلاً للتوجيه. مما يتطلب:
أولا: الإسهام في تحطيم القيمة الوهمية للدولار بوساطة (الهروب) منه عن طريق طرح كميات كبيره من الدولارات في السوق في اللحظة (الحرجة) ومن ثم رفض التعامل به مما يؤدي إلى ذعر حقيقي في البورصة مع كل العواقب المترتبة على ذلك.
ثانيا -العمل على اصلاح الاسعار العالمية للمواد الأولية والوقود عن طريق تضمينها ضرائب الأرباح المفترضة في السلعة النهائية وضرائب ترصد لإصلاح البيئة في البلدان المصدرة.
ثالثا- فرض رقابة مالية شاملة على عمليات الشركات متعددة الجنسيات واجبارها قانونياً على استخدام الأسعار المالية في الحسابات الداخلية. بما في ذلك أجرة اليد العاملة مع اخذ نوعيتها بعين الاعتبار (2).
_________
(1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص 35 - 36
(2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 160(3/206)
الكسر الاقتصادي: تعاني أمريكا من تبعية اقتصادية متنامية حيال العالم الخارجي. والارقام توضح أن أميركا تسجل عجزاً في ميزانها التجاري مع كل البلدان المهمة في العالم. أما الفائض في الميزان التجاري التكنولوجي (سلع التكنولوجيا المتقدمة) فهو في تراجع، ليسجل عجزاً في 2001. فالاقتصاد الأميركي نمت فيه الخدمات المالية، التأمينات والعقارات بوتيرة أسرع بمرتين من وتيرة نمو الصناعة، وذلك بين 1999 و2000. أما أرقام الناتج القومي الأميركي الخام فضخمت بسبب المخالفات كما ظهر مع فضيحة إنرون، إفلاسها نجم عنه تبخر 100 مليار دولار. وهذا الرقم يمثل حوالي 1% من الناتج القومي الخام الأميركي. ومع تزييف حسابات الشركات الأميركية بدأ هذا الناتج يشبه من حيث المصداقية الإحصائية الناتج القومي الخام السوفياتي. ولهذا فان أميركا هي قيد التحول إلى فضاء متخصص في الاستهلاك وتابع للعالم الخارجي، فهي ليست مهمة للعالم من حيث إنتاجها وإنما من حيث استهلاكها (1).
فالاقتصاد الأمريكي شبيه بالسيارة المندفعة من عل بدون مكابح، فهي غير قادرة على التوقف. لقد نضبت إمكانيات التطور المكثف. حتى إن احدث أنواع التكنولوجيا غير قادرة إجمالاً على مواكبة عملية تقلص الموارد نتيجة سباق الاستهلاك المحموم. لذا فان الولايات المتحدة ستضطر من اجل إطعام غول اقتصادها الاستهلاكي إلى زيادة نهب الآخرين، وهذا ليس بالأمر السهل في الظروف الحاليه. ولقد فقدت الولايات المتحدة الأمريكيه مراكز الصدارة في التكنولوجيا العالية بسبب اعتمادها على مدى عشرات السنين على النهب الاقتصادي للدول الأخرى، من خلال التحكم بالأسعار العالمية والقيمة الشكلية للدولار. ففي بداية السبعينات كان نصيب الولايات المتحدة من الصادرات العالمية من التكنولوجيا المتطورة يصل إلى 30% وفي الثمانينات انخفضت هذه النسبة إلى 21% ولن تزيد مع نهاية التسعينات على 5 - 1. % حيث انتقل مركز القيادة في التكنولوجي المتطورة إلى اليابان وعدد من البلدان الاسيويه الاخرى. ومنذ النصف الثاني من التسعينات ومطلع القرن الحالي دخلت الولايات المتحدة منطقة الأزمة الاقتصادية الطويلة
_________
(1) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز(3/207)
نتيجة البون الشاسع بين إمكانياتها الاقتصادية وبين مطالبها الاستهلاكية المتفاقمه (1).
وفي كتابه "ليست للبيع بأي ثمن: كيف نُحفظ أمريكا لأطفالنا؟ " يقول روس بيرو: لقد علمنا التاريخ أن التنوع يبني القوة، وقد كنا أغنياء وأقوياء لفترة طويلة من الزمن حتى خلنا أننا قد ضمنا البقاء على ذلك الحال. أما اليوم فإننا نجد أن بلادنا العظيمة تعيش منعطفاً خطيراً في تاريخها. إننا نواجه مشكلات اقتصادية خطيرة جداً. إن الخدم المنتخبين قد أساءوا استخدام أموال الدولة (2).
وقد خصص المؤلف الفصل الثاني وهو أطول فصول الكتاب للحديث عن الأوضاع المتردية التي تشهدها الولايات المتحدة في جميع المجالات مع اهتمام واضح بالميدان الاقتصادي. ومن الموضوعات الاقتصادية التي ناقشها؛ مشكلة إرتفاع الديون الفيدرالية، وخطة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لتحسين الأوضاع الاقتصادية وقد ناقشها المؤلف، وأبرزعيوبها وما يمكن أن تحدثه من ديون إضافية على الحكومة الفيدرالية، وكذلك مشكلات العجز في الميزانية، وتقلص حجم الشركات الأمريكية والخسائر التي تعاني منها، وإرتفاع معدلات البطالة الناتجة عن إغلاق بعض الشركات الكبرى لفروعها في بعض المدن الأمريكية، وأسعار البترول، والإنفاق غير المتوازن على التسلح العسكري.
وبالنسبة للديون يشير المؤلف إلى إن المؤشرات الاقتصادية تؤكد إن الديون الفيدرالية قد بلغت أكثر من أربعة تريليونات دولار، وحتى نعرض معدلات نمو الديون الفيدرالية السريعة؛ يجب أن نعود إلى العام 1975م حيث بلغ مجموع الديون أقل من نصف تريليون دولار، مع العلم أن هذا المبلغ يشمل ديون الدولة منذ عام 1776م إلى 1976م. أي أن هذا الرقم (نصف تريليون دولار) تقريباً هو مجموع ديون الحكومة الأمريكية خلال مائتي سنة، بما في ذلك تغطية تكاليف الحربين
_________
(1) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 161
(2) ليست للبيع بأي ثمن: كيف نُحفظ أمريكا لأطفالنا؟ تأليف: روس بيرو 1993م(3/208)
العالميتين، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والمقاطعة النفطية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في عام 1973م (1).
وهذه الديون لم تأتى نتيجة تأسيس البنية التحية للمجتمع أو الانفاق على الخدمات الاساسية، بل جاءت نتيجة الانفاق العسكرى الهائل وفساد النخب الحاكمة، حيث إن الولايات المتحدة تعاني من ارتفاع مذهل في معدلات الجريمة. وتوجد بها فئة كبيرة من الناس الذين لا يجدون لهم مسكناً، وهناك غلاٌء فاحش في الخدمات الصحية، كما أن الطرق السريعة والجسور والأنفاق قد بدأت تظهر عليها علامات التصدع والانهيار.
صراع الكبار
قلّ من يعرف عن الصراع الشديد والمستتر بين الشركات الجبّارة التي تتحكّم في الإقتصاد الأمريكي وإقتصاديات العالم الثالث, ومصاديق هذا الصراع تكمن في الإنشطار السياسي بين الأمبراطوريات الماليّة, فبعضها يدعم الحزب الجمهوري والبعض الآخر يدعم الحزب الديموقراطي وأخرى تدعم اللوبي الصهيوني وبينهما علاقة تحالف وثيقة, وأمتد هذا الصراع إلى خارج الخارطة الأمريكية وكل أمبراطورية مالية تملك رؤية إستراتيجية في كيفية إدارة السياسات والإقتصادات ولا سيّما في العالم العربي والإسلامي حيث الثروات الهائلة, والمفارقة أنّ كل شركة متعددة الجنسيات تملك مركزاً إستراتيجياً يعمل فيه خبراء في الإستراتيجيا والجيوبوليتيكا. وقد تتضارب مصالح الكبار لينعكس ذلك على اللعبة السياسية الرسمية المتداخلة كثيراً مع البترودولار والمال ومصادره بشكل عام (2).
الكسر البيئي: وهو قريب من الكسر الاقتصادي وهو ناجم عن الإخلال الحاد بالتوازن بين الإمكانيات الطبيعية وبين ضغط اقتصاد الاستهلاك على هذه الموارد. ولهذا يجب على المجتمع الدولي ان يفرض على الولايات المتحدة ضريبة خاصة
_________
(1) ليست للبيع بأي ثمن: كيف نُحفظ أمريكا لأطفالنا؟ تأليف: روس بيرو 1993م
(2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm(3/209)
تعادل الضرر الذي تلحقه بطبيعة الكرة الارضية، وقد وضحنا سابقاً كيف ان الاصولية المسيحية وعلى رأسها الرئيس بوش ترفض الالتزام بالاتفاقيات البيئية الموقعه بين الدول باعتبار ان ذلك يخالف النبوءات التوراتية الخاصة بآخر الزمان. ولهذا فقد استبق الرئيس الأمريكي حضوره إلى قمة الدول الثمانية الكبرى في اسكتلندا (2005) باستبعاد تدعيم بلاده لأي اتفاقية متعلقة بالمناخ شبيهة باتفاقية كيوتو مشيراً إلى أنه سيعترض على أي مشروع اتفاقية يهدف إلى التقليل من انبعاث الكربون. مضيفاً إنه سيناقش مع زملائه ابتكار تقنيات جديدة كوسيلة للتعامل مع مسألة الاحتباس الحراري. فما السبب إذن الذي يجعل بوش يماطل وهل هو مجرد حماية اقتصادية فقط لصناعات بلاده؟ وأية فائدة تعود عليه إذا فسد مناخ البلاد وتعرضت لموجات من غضب الطبيعة بسبب الاحتباس الحراري وثقب الأوزون إلى آخر الظواهر الطبيعية الكارثية التي تعصف بكوكب الأرض عصفا؟
الإجابة المرتبطة بالفكر الأصولي والتي تعكس خطورة حقيقية تتمحور حول فكرة أن العمل على إنقاذ كوكب الأرض هو أمر يخالف التدبير الإلهي لنهاية العالم. فاليمين الجديد والاتجاهات الإنجيلية والمتطرفة والطوائف البروتستانتية المخترقة وعلى رأسها الميثوديست التي ينتمي إليها بوش تستعجل قيام الساعة وعودة السيد المسيح لتنطلق إمبراطورية الملك الألفي ويملكون معه ألف سنة على الأرض. والمعروف أنها طوائف تؤمن وتعتقد بأنه (ليس هنا مدينة وإنما نبغي العتيدة) أي لا نريد وطنا على الأرض وإنما نتطلع إلى أورشليم السمائية. وحسب التفسير الحرفي المغلوط لبعض ما جاء في الإنجيل أنه في نهاية الزمان "تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة وتحدث زلازل وأوبئة ومجاعات وحروب كثيرة إضافة إلى الكوارث الطبيعية ومنها أن الشمس تظلم والقمر لا يعطي ضوءه" وهذه كلها أول المخاض، لذا فإن أي تغيير من خلال تدخل الإنسان لإصلاح تلك الأعطاب هو وقوف أمام النهاية السعيدة للإمبراطورية السمائية الألفية التي تكون فيها أمريكا طليعة الأرضيين. وإجمالي المشهد هو أن الإمبراطورية الأمريكية اليمينية يخيل إليها أنها(3/210)
المؤتمنة على إتمام الإرادة الإلهية في الكون في ظل يقين ثابت لديها بأن سيادتها وريادتها علامة دينية على قرب قيام الساعة ونصرة الحق على الظلم (1).
وهكذا فإن الامبراطورية الأمريكية اليمينية المتطرفة تخطط بشكل مرعب لهندسة العالم وفق رغباتها، ويكفي أن نقرأ قول أحدهم حول مشكلة تلوث البيئة كي تتصور المدى المخيف لهذه الهندسة: ينبغي إزالة 90% من سكان الأرض وعندها لن يكون ما يسبب ضررا للبيئة. وقد صفق له الحضور طويلا. وأما إزالة 10 % من مصانع هؤلاء التي تسد منبعثاتها الفضاء ومزقت ستار الأوزون فلا. انهم يخططون كي تعم الفوضى والتفسخ، يخططون كي يعم اللواط وتنتشر عبادة الشيطان حتى تقتل في كل نفس قدرة المقاومة. تحت دعاوى الحرية والانفلاش يدمرون كل تاريخ الإنسان وجانبه الإيجابي تحديداً (2).
الكسر الدولي: وهو ناجم عن سياسة الولايات المتحدة الاستهلاكية - العدوانية تجاه البلدان الاخرى، التى يدرك كثير من سكانها الطابع الطفيلي لأمريكا. فبين الولايات المتحدة والاغلبية الساحقة للبلدان الاخرى تتفاقم التناقضات، التي تعجز الولايات المتحدة عن التخلص منها بسبب تكوينها الداخلى. وكما تدل الاستفتاءات التي جرت في عديد من البلدان، فإن اغلب سكان المعمورة يكن الكراهية لأمريكا والأمريكيين، ويرى ان من الانصاف ان يحيق بها ما احاق بالمانيا الفاشية. وهنا يعرض (إمانيول طود) في كتاب (ما بعد الإمبراطورية) لانكشاف القوة الأميركية والتحول التدريجي لأميركا من قوة عظمى إلى قوة كبرى، وإلى تفكك النظام الأميركي حيث أصبحت أميركا بحاجة إلى العالم أكثر من حاجة العالم إليها. ويفتتح المؤلف كتابه بجملة قوية: "إن الولايات المتحدة في طريقها لأن تصبح مشكلة بالنسبة للعالم". فبينما "اعتدنا أن نرى فيها حلاً" وضامنة للحرية السياسية والنظام الاقتصادي خلال نضف قرن، فهي تظهر اليوم أكثر فأكثر عامل فوضى دولية، حيث تبقي ... على اللايقين والصراع". إن أميركا تحتم على العالم أن يعترف بأن دولاً تشكل (محور الشر) يجب محاربتها، كما تستفز قوى أخرى مثل روسيا والصين،
_________
(1) امبراطورية بوش بين قمة الثماني وتفجيرات لندن - بقلم /إميل أمين- جريدة الخليج 14 - 7 - 2005 عدد 9552
(2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 6(3/211)
وتضع حلفاءها في موقف حرج باستهدافها مناطق متاخمة لهؤلاء الحلفاء" (1). بهذا http://www.aljazeera.net/books/2003/5/ - TOP يمكن تفسير السلوك الدولي" لأميركا على اساس أنها لا تعاني فرط القوة وإنما انخفاضاً في قوتها، حيث أن القوة الأميركية في تراجع ومراكز القوة في العالم تتعدد والتكتلات الإقليمية الكبرى ستفقد جدوى وجود مركز أميركي عالمي.
فمع الغياب المفاجئ لكل تهديد لامن الولايات المتحدة، ومع اندفاع الجزء الاكبر من العالم نحو تبني السياسة الديمقراطية ورأسمالية السوق جنباً إلى جنب مع التجارة الحرة، كما لو لم يبق شئ جدير يمكن ان يكون موضوع جدل. في نهاية التاريخ بشر فرانسيس فوكوياما بحقبة جديدة سيمهد فيها احتضان وتبني حملة القيم والانظمة الأمريكية الكونية أو الغربية بشكل اوسع طريق ترسيخ الازدهار والسلم العالميين (2). ولكن أطروحات فوكوياما عن صراع الحضارات تقود في نهاية الأمر إلى (لا حاجة العالم إلى أميركا). حيث إنه إذا قبلنا بفرضية مايكل دويل - والتي تبناها فوكوياما- والقائلة بأن الديمقراطية لا تدخل في حروب فيما بينها، فهذا يعني أنه حين تعم الديمقراطية في العالم فإن أميركا كقوة عسكرية تصبح عديمة الجدوى بالنسبة للعالم مما يحتم عليها أن تكون ديمقراطية بين ديمقراطيات أخرى (3).
العجز العسكرى واستهداف دول ضعيفة
ان أفول القوة الأميركية لا رجعة فيه، وأن إشكالية أميركا العسكرية هي أنها لم تواجه أبداً خصماً في مستواها العسكري، كما أنها لم تربح حرباً بمعنى الكلمة، فحتى الحرب العالمية الثانية لم تكن لتنجح فيها لولا التضحيات الروسية على الجبهة الشرقية. وبحكم تبعية أميركا للعالم، فإنه لم يعد بوسعها انتهاج الانعزالية. وهي ليست حقاً قوية، بسبب افتقارها إلى قوات برية، وهي بحاجة ماسة لقواعدها العسكرية في الخارج أكثر من حاجتها لحاملات طائراتها. ولهذا فان تركيزها على
_________
(1) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز
(2) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص47
(3) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز(3/212)
نفط الشرق الأوسط يعبر عن تخوفها من أن يقذف بها خارج أوراسيا. واذا حدث تحالفاً أوروبيا روسيا قد يعني نهاية السيطرة الأميركية على العالم. ولهذا وبعد تضخيم الإمكانيات العراقية وبعد تحرير الكويت، حدد خيار أميركي جديد، الانخراط في أكبر عدد من الصراعات مع قوى عسكرية مثيرة للسخرية والتي تنعت بـ (الدول المارقة).
فمن خلال نشاطها العسكري الموجه ضد الدول الضعيفة تسعى أميركا لحجب انحسار قوتها. فهي تستخدم مكافحة الإرهاب ومحور الشر كمبررات. وبما أنه ليس بوسعها التحكم في كبار الفاعلين الاقتصاديين والإستراتيجيين أي أوروبا، روسيا، اليابان والصين، فإنها ستفقد التحكم في العالم، وتصبح قوة كبرى بين قوى كبرى أخرى. ولهذا تريد بالسعي للتحكم في مصادر الطاقة إخفاء بؤسها الثقافي والاقتصادي المتنامي. وتبعث بإشارات عسكرية لإعطاء الانطباع بأنها لازالت الأمة القوية كما في الماضي (1).
خرافة الديمقراطية
لقد ظل البعض يشنف أذاننا بسيمفونية الديمقراطية والحرية الأمريكية والأحلام الوردية التى ستحل كل مشاكلنا وتغرقنا في أنهار السمن والعسل، إلى أن تكشفت الحقائق شيئاً فشيئاً واذ بنا نرى الأنياب الحادة للديمقراطية تقطر من دماء الأبرياء الذين نهشت أجسادهم وتنشب أظفارها في رقابنا، تحاول خنقنا واخماد أنفاسنا وتستهزئ بمقدساتنا وتحتل أرضنا وتدمر قرانا ومدننا وتنتهك أعراض الحرائر في بلادنا! لقد خرست ألسنة أدعياء الديمقراطية ومبشريها بعد أن ثبت أن الديمقراطية هى الاسم الحركى للحملة الصليبية الجديدة بقيادة الأحمق المطاع ... ان نشر الديمقراطية في بلادنا يعنى في حقيقة الأمر احتلالها عسكريا وتدمير البنى التحتية واذلال شعوبنا ونهب خيرات بلادنا والقضاء على ديننا وقيمنا ونشر الأناجيل
_________
(1) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز(3/213)
والصلبان في ربوعنا ... وهذا هو ما حدث في العراق إلى أن أسلموه إلى حافة الحرب الأهلية ثم أعلنوا أنهم لن يتدخلوا في هذه الحالة (1)
لقد كانت السنوات الاخيرة حافلة بالاحداث التى تدل على زيف الديمقراطية الأمريكية: الرئيس (كلينتون) لم يكن ينقصه سوى ان يطرد من البيت الابيض سنة 1999 بسبب الخيانة الزوجية، انتخابات مشكوك فيها سنة 2000 تكشف عن التصدعات والتجاوزات في النظام الانتخابي (2). فالمنظومة الاجتماعية- السياسية للولايات المتحدة الأمريكية ليست إلا شكلاً متطرفاً من التوليتاريزم/ النظام الشمولي المطلق والخطير بما يفوق توليتاريزم ألمانيا الفاشية. وعلى سبيل المثال فعلى مدى مائتي عام يختار الأمريكيون رؤساءهم من بين مرشحين اثنين، تم إعدادهما مسبقاً خلف الكواليس الماسونية- اليهودية. وبسبب روح الجشع السائدة فان تاريخ أمريكا كله لا يعرف رئيساً نزيهاً واحداً، لم يسرق خزينة الدوله. وهذا شيء عادي في الولايات المتحدة حيث يتفهم الناخبون نقاط ضعف رؤسائهم ويتعاطفون معها (3). وقد كان البروفيسور (كارول كويجلي) - الذي درّس بيل كلينتون في جامعة جورج تاون، ويعمل مستشاراً في البنتاغون- يخبر طلابه، بمن فيهم كلينتون، أن الأحزاب السياسية هي مجرد تنظيمات جاهزة ومعدة للاستخدام، وأن كلاً من الحزبين الرئيسيين تسيطر عليها الأنشطة التجارية الكبري منذ عام 1900. كما أنه أخبر طلابه وعلّمهم أن ما يسمي بالتعددية الحزبية أي أن يكون للحزبين أفكار وسياسات وقيم متضاربة ... هو مجرد فكرة حمقاء.
فالمجتمع كما يقول (ليبمان) - أحد أبرز أقطاب الإعلام الأميركيين في النصف الأول من القرن العشرين- ينبغي أن: يدار من قبل نخبة أو طبقة خاصّة، يدعوهم ليبمان الرجال المسؤولين. ووظيفة هذه النخبة أن يحدّدوا ما سيصطلح علي تسميته المصلحة الوطنية. هذه النخبة هي التي ستصبح البيروقراطية المتفانية في خدمة
_________
(1) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872
(2) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005
(3) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 47(3/214)
مصالح القوة الخاصّة والثروة الخاصّة. ولكن ينبغي عدم الكشف عن حقيقة روابطهم تلك للعامة الجهلاء، حيث تم إنشاء المجلس النخبوي للعلاقات الخارجية، وتم تجميع النخب من علي جانبي الأطلسي لصياغة السياسات الوطنية لكل دولة، وأُتقنت الديمقراطية الميكانيكية على زرع هذه السياسات والمؤسّسات والأفراد في مواقع حكومية منتقاة. أما القضايا المهمّة فيجري تقريرها خلف الأبواب المغلقة، في حين تترك مسرحيات الانتخابات للمرشحين المتنافسين الذين عليهم جميعاً القبول بوضع النخبة. وهكذا، إذن، أصبحت طريقة الحكم تكنوقراطية لا ديمقراطية (1). فأمريكا كما يقول جورج وولد استاذ بجامعة هارفارد الأمريكية، لا يحكمها نظام يقوم على حزبين كما يدعى البعض بل على حزب واحد يدعى صفة التعدد لتضليل الرأى العام (2).
فمنذ القدم وضعت الية دقيقة يمكنها حرمان جزء هام من قاعدة الناخبين الأمريكيين من حق التصويت الديمقراطي عند اللزوم. وقد ظهرت فاعلية هذه الآليات حين اصبحت فلوريدا ساحة قتال لانتخابات الرئاسة الأمريكية (جور ضد بوش (3) (. فبعد الحرب العالمية الثانية، غير جهاز التلفزيون من طبيعة وشكل الحملات الانتخابية وجوهر الأحزاب والسياسة، من خلال قدرته على التلاعب بالرأي العام بواسطة الحملات المتلفزة المكلفة، مما جعل السياسيون عاجزين عن تحدي مموّليهم وسادتهم من أرباب المال، وهذا يعني ان النظام اصبح اقل ديمقراطيه. إن ظهور التلفزيون وسيطرة القلة عليه، بل وامتلاكه، قد ادي إلي تعاظم قوة وسيطرة القلة علي الأحزاب السياسية والانتخابات ومختلف العمليات. واستخدمت القلة مصاردها المالية الهائلة للتلاعب في الرأي العام والتأثير علي المرشحين. ولكن الناخبين توقفوا عن المشاركة في الانتخابات لانها باتت مجرد مضيعة للوقت، لا سيما أن لعبة السيطرة من قبل المصالح الخاصة للقلة باتت مكشوفة أمام أعينهم وإدراكهم (4). وهكذا اصبحت أمريكا اليوم هي المجتمع الأكثر توليتاريه في العالم،
_________
(1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي-29/ 2/2003
(2) زعماء ودماء-ايمن ابو الروس ص 96
(3) احداث 11 سبتمبر - الاكذوبة الكبرى - محمد صفي ص130 - دار الاحمدى للنشر - الطبعة الأولى 2003
(4) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي- 1/ 2/2003 هو(3/215)
فالاغلبيه الساحقة من الأمريكيين تتبنى وجهة نظر واحده - وحيده تجاه العديد من المواضيع ذات الأهمية الاجتماعية الكبيرة. فأين يمكن إن تعثر على دولة حيث يدلي سكانها بأصواتهم لصالح أحد الحزبين لا ثالث لهما. أنها انتخابات بدون خيار لتنصيب كوبوي أو بليبوي جديد في سدة الرئاسة له شكل وسلوك المانيكان، الذي يعد الأمريكيين بنقود وسلع اكثر على حساب الاخرين (1).
وهنا تقف (نيكول باشان) في كتابها (هل يجب الخوف من أمريكا؟) عند عبارة (نحن الشعب)، وتقول: "هي صيغة جميلة جداً. وهي شهيرة، تفتتح سنة 1787 التمرين الاكثر قدماً في العالم، الذي يجعل من أمريكا الديمقراطية الاقدم في العالم". ولكنها تتسائل بعد ذلك فتقول: "هل كان بوسعنا التحدث مرة اخرى عن الديمقراطية بعيداً عن المبادئ الجميلة الواردة في التصريحات الكبيرة؟؟ وما حقيقة هذه الديمقراطية، وهل تمثل حقاً المواطنين، جميع المواطنين، وهل تبقى هناك سبباً للادعاء، وتقديم النفس كموديل؟ (2)، يجب على الآخرين الاقتداء به. بالتأكيد لا يمكن الحديث عن ذلك، بل لابد من كشف زيف تلك المزاعم عن الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والحرية التى لا تكف أمريكا عن استخدامها كسوط مسلط على الشعوب لاستعبادها. فلقد كانت الديمقراطية دائما ستاراً للأقلية من ملاك العبيد حتى أساطين المال، وما يسمى ب (ديمقراطية أثينا) في وقت بيركليس والتي كان يضرب بها المثل كأم الديمقراطيات، لم تكن في الحقيقة سوى سيادة عشرين ألف مواطن حر على مائة ألف عبد محروم من أي حق. أننا أمام حكم الأقلية المستعبدة ويسمى (ديمقراطية)، ديمقراطية للسادة وليست للآخرين (3).
وبالرغم من ان إعلان استقلال الولايات المتحدة ينص على المساواة في الحقوق بين المواطنين جميعاً، الا انه وعقب هذا الإعلان الحاسم تم الحفاظ على العبودية - بالقانون - لمدة زادت على قرن وما زالت التفرقة العنصرية ضد السود
_________
(1) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 82
(2) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005
(3) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص127(3/216)
باقيه حتى الآن ... الديمقراطية للبيض وليست للسود ولا للهنود (1). الديمقراطية للبروتستانت الانجلوسكسون وليست للكاثوليك والارثوذكس أو المسلمين، الديمقراطية للانجلوسكسون وليست للاسبان أو الايطاليين أو العرب.
الكسر الحضاري
إنّ الذي يمعن النظر في حركة التاريخ، يتجلّى له بوضوح أنّ أقصى ما تعمرّه أيّ قوة حضاريّة هو خمس قرون, لتنتقل الدورة الحضاريّة إلى بقعة أخرى تكون قد إستجمعت شروط الإنطلاق النهضوي والحضاري. وهذا ما تجسدّ بالفعل في التاريخ البشري. وقد تمكنّ العديد من المفكرين الغربيين من الوصول إلى هذه النتيجة كروبنسون وبرتراند رسل وروني دوبو و روجيه غارودي وروني جينه وغيرهم. وكل المؤشرات تشير إلى ان أمريكا مقبله على سقوط حضاري كبير، حيث إنّ أعظم ما أنتابها هو إنعدام التوازن في مشروعها النهضوي, فبدل أن تهتم بالإنسان كجوهر إهتمّت به كعرض, مما جعل التقنية المتطورة التي بلغتها تسير في غير هدى حضاري, وهذا من شأنه أن يعرّض ليس أمريكا فحسب بل الإنسانية بكاملها لعملية الإنقراض الشاملة. وهذا الإنعدام في التوازن ولدّ التخطيط المشوّه, إذ أنّ أمريكا سخرّت آلاف الملايير من الدولارات لدعم التسلّح والترسانة العسكريّة على حساب المجالات الإجتماعيّة الأخرى. وهذا ما أنتج طبقة فقيرة في المجتمع الأمريكي قد تتحوّل مع مرور الأيّام إلى قنبلة موقوتة في وجه الشركات الأمريكية الكبرى ذات النفوذ الواسع في السياسة الأمريكية (2).
لقد دخلت الولايات المتحدة مرحلة السقوط التاريخي بالانهيار التدريجي للخط البياني لحضارتها أي التفكك التدريجي الداخلي (بؤس متزايد) ثلاثة وثلاثون مليون نسمه يعيشون تحت خط الفقر، تحلل في المجتمع يرجع إلى تفرقة عنصريه عريقة الأصول بالأخص للزنوج، وتعتبر اضطرابات لوس أنجلوس ومسيرة المليون اسود بقيادة لويس فاراخان في واشنطن أهم الشواهد على ذلك، وذلك فضلاً عن تفتت
_________
(1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص 147
(2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm(3/217)
اجتماعي بالمخدرات والفساد والمضاربات الطفيليه (1). ان ما يزيد على خمسة عشر الفاً من البشر يقتلون سنوياً في الولايات المتحدة - نسبة متفوقة كثيراً على نظيراتها في البلدان الصناعية الاخرى، وهو معدل قد لا يكون مرتبطاً بواقع كون المدنيين في الولايات المتحدة مدججين بالسلاح. وكذلك فان السجون الأمريكية اكثر امتلاء من نظيرتها في اى بلد رئيسي. واحد من كل ثمانية رجال امريكيين قد اقترف جريمة، وواحد من كل عشرين دخل السجن (والنسبة عند السود هى واحد من كل خمسة). ويشكل عدد سجناء الولايات المتحدة ذات الكتلة السكانية البالغة 5 بالمائة من سكان العالم ربع سجناء العالم (2).
ان أمريكا تسير نحو نهايتها الحتمية، وهذا ما يتجلى بالدرجة الأولى في تداعى القيم الأمريكية التقليدية ... لقد دل الاستتفتاء السيوسولوجى الذى اجراه معهد هارييس في الولايات المتحدة على ان غالبية الأمريكيين يفضلون قيام نمط للحياه اكثر انسانية على الانماط الاخرى. وهذا يؤكد ان اكثر الانظمة معاداة للانسانية عاجزة عن القضاء التام على كل ما هو انساني في الانسان. كانت عاقبة جنكيز خان وهتلر ونظامهما المعادي للانسانية وخيمة، بسبب تناقض هذا النظام مع الطبيعة الالهية للانسان، ولهذا السبب فإن نهاية أمريكا حتمية، ولهذا بالذات سوف تنقرض (3).
يقول الكاتب الأمريكي ارثر كروك:" يساورني خوف شديد من أن فترة سيادة الولايات المتحدة وبروزها كقوة عظمى ووحيدة في العالم ستكون من أقصر الفترات في التاريخ. ويقول الكاتب الأمريكي لورانس جولد: أنا لا أعتقد أن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبلنا يتمثل في القنابل النووية أو الصواريخ الموجهة آليا. ولا أعتقد أن نهاية حضارتنا ستكون بهذه الطريقة. إن الحضارة الأمريكية ستزول وتنهار عندما نصبح عديمي الاهتمام وغير مباليين بما يجري في مجتمعنا، وعندما تموت العزيمة على إبقاء الشرف والأخلاق في قلوب المواطنين. و يقول آرنولد توينبي: إن معظم
_________
(1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص 36 - 37
(2) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص54
(3) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 162(3/218)
الحضارات التي عرفها الإنسان قد سقطت من الداخل فقط ولم تسقط لأن قوى خارجية استولت عليها (1). .
كتاب موت الغرب
يرى "بات بوكانان" كبير المستشاريين لثلاثة رؤساء أمريكان وهومرشح رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة سنوات 1992 و 1996.، في كتابه "موت الغرب- مؤشرات هامة لبداية موت الغرب: منها انخفاض معدلات المواليد وذوبان العائلة واندثارها كوحدة اجتماعية، وعزوف النساء عن الحياة الطبيعية التقليدية مثل الزواج وانجاب الاطفال ورعايتهم، وعزوف الشباب عن مؤسسة الزواج وشيوع الجنس واللواط والحماية القانونية لهذه النزعات غير السوية، يقابل هذا نمو المجتمعات في العالم الثالث وخاصة الإسلامي حجماً وكياناً، وهجرة العرب والمسلمين إلى ديار الغرب وتشكيلهم كينونة ثقافية مغايرة للكينونة الغربية ومتحديه لها، وغشيان العرب والمسلمين في ديار الغرب لمجالات الاعلام والسياسة والنقابات وممارسة دورهم بروح رسالية خاصة بعد سبتمبر 2000.
وينطلق بوكانان في كتابه من قناعة راسخة لديه، بأن الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، يتجهان نحو الموت والفناء والذوبان ما لم تتم مراجعة سريعة لكثير من سياساته واوضاعه واتجاهاته، وما لم ـ على ضوء المراجعة ـ يتم اتخاذ اجراءات فورية تصحيحية. اكبر خطرين يهددان الغرب عموماً يتلخصان في نقطتين: انخفاض معدلات المواليد وموجات الهجرة التي يقوم بها شعوب العالم الثالث (وبالخصوص العرب والمسلمون) إلى ديار الغرب. فانخفاض معدلات المواليد في الغرب تكمن وراءه رؤية اجتماعية شائعة هناك، بأن هدف الحياة هو اللذة بكل اشكالها وان مؤسسة الزواج والعائلة باتت عبئا لا داع له، طالما الشيوعية الجنسية هناك تلبي حاجة اللذة.
_________
(1) مؤسسة الحوار الانساني http://www.dialogue-yemen.org/ar/modules.php?name=Sections&op-(3/219)
كما إن انهيار النظام القيمي في الولايات المتحدة، جعل الكثير من الانحرافات الخلقية والسلوكية امراً مقبولاً بين عموم الناس هناك. فالمثلية الجنسية والسحاقية بين النساء والزنى صارت اموراً مألوفة وعادية وجزءاً من اليوميات الأمريكية. وصارت لهذه الفئات (المخنثين والنساء السحاقيات) مقرات وجمعيات ونشرات وكراسات تدعو الجمهور الأمريكي ـ تحت مظلة حرية الرأي والتعبير عنه ـ إلى ممارسة المثلية الجنسية (اللواط) والسحاقية بين النساء. وصارت هذه الفئات تطبع كتباً ومجلات واشرطة وكشاكيل عضوية بالعناوين والهواتف. يقول بوكانان ـ بحيث باتت هذه الفئات تعتبر عملها شبيها بالعمل الحزبي اذ لها مرشحوها في الانتخابات المحلية والفدرالية ليس هذا فحسب، بل ان البيت الابيض نفسه اصبح منشغلاً في هذا الامر، اذ عيّن ملحقاً خاصاً وجهازاً وظيفياً خاصاً لاسترضاء هذه الفئات التي تتنامى مع الوقت في الولايات المتحدة وتكثر.
كما ان الأمريكي - حاليا - في رأي بوكانان منقسم على نفسه في شكل صارخ لا يشكل الشعب الأمريكي (امة واحدة) بل امتين: امة فقيرة وامة ثرية ولماذا نذهب بعيدا - يقول بوكانان - فبوش رئيس الجمهورية يقول في خطاب له في 20 يناير 2001 ان الخلافات بين الأمريكان انفسهم عميقة إلى درجة تدفعه إلى الاقتناع بانهم يتشاركون العيش في قارة وليس في وطن؟ (1).
تحديات الهوية الوطنية الأميركية
لا يمكن للشعوب الهجينة أن يستمر تجانسها خصوصا في ظلّ غيّاب عقيدة واحدة تنصهر فيها كل الفروقات العرقيّة, والولايات المتحدة الأمريكية يسود فيها شعب متباعد الأطراف، هذا الشعب الذي تشكل من هجرات متباينة من مختلف المناطق الأوروبية والإفريقية والآسيوية, وهذا التباعد العرقي يصحبه تباعد ديني وعقائدي, إذ أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تكاد تشبه الهند في عدد الديانات والمذاهب والتيارات الفكرية والفلسفية السائدة فيها. والشيئ الوحيد الذي ما زال
_________
(1) موت الغرب - بات بوكانان - عرض د. عبد الله فهد النفيسي- الوطن الكويتية- 25 - 9 - 2002 http://www.wataonline.net(3/220)
يحافظ على التماسك بين أعراق الشعب الأمريكي هو المصلحة الإقتصادية, وأي ضعف إقتصادي حقيقي في أمريكا قد ينعكس سلباً على تماسك الأعراق فيها (1).
فأمريكا ليست دولة ولا قومية. بل هي مجرد مساحات واسعة يقطنها مؤقتا أناس ينحدرون من بلدان مختلفة، والمهم هو أن أمريكا تفتقر إلى النواة القومية، إلى شعب الدولة - الأساس الأصيل لكيان الدولة المتين. أن ما يسمى بالشعب الأمريكي هو تعريف غير أصيل وغير متجانس. بل هو خليط مصطنع من الأشخاص، الذين لا يمتون لبعضهم البعض بصلة، باستثناء الرغبة المشتركة في الاستهلاك والكسب والخوف الغريزي من المسؤولية عن الجرائم التي اقترفوها بحق البشرية. أن خليطاً كهذا لا يمكن أن يبقى متراصاً إلا لفترة زمنية قصيرة نسبياً، والتاريخ غني بالأمثلة على انه يتداعى لدى أول صعوبات جديه لم تعان منها أمريكا بشكل حقيقي بعد. لكنها تقف الآن على أعتابها (2). وربما هذا ما دفع هنتجتون إلى دق ناقوس الخطر محذراً من التحديات التى تواجهها الهوية الأمريكية، حيث يرى أن الهوية الأميركية واجهت خلال العقود الأخيرة -خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين- عدداً من التحديات الضخمة التي أضعفت من التفاف الأميركيين حول هويتهم بشكل يمثل تهديداً لبقاء الهوية الأميركية واستمرارها، ومن أهم التحديات التي رصدها هنتنغتون ما يلي:
أولا: التقدم في وسائل الاتصالات والمواصلات، والذي أدى -كما يرى هنتنغتون- إلى ربط المهاجرين الجدد إلى الولايات المتحدة بمجتمعاتهم القديمة بشكل قوي وغير مسبوق، مما أضعف من اندماجهم بالمجتمع الأميركي وسهل عملية تواصلهم مع مجتمعاتهم الأصلية، وشجع المهاجرين الجدد على الحفاظ على ثقافاتهم الأصلية وهوياتهم الأجنبية، ومحاولة نشر هذه الهويات بين أبناء بلدانهم في أميركا. كما أن تقدم أدوات الاتصال والمواصلات وقوى العولمة أدى إلى انفتاح النخب الأميركية الاقتصادية الكبرى بشكل غير مسبوق على العالم، حيث بدأت هذه النخب في تكوين هويات فوق-قومية تتخطى الهوية الأميركية، إذ تنظر هذه النخب
_________
(1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm
(2) لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 8(3/221)
والهيئات لهوياتها -بشكل متزايد- نظرة عالمية ترتبط بمصالحها الاقتصادية المنتشرة عبر بقاع العالم.
ثانيا: نفوذ الليبراليين الأميركيين وثقافتهم التعددية، إذ ينتقد هنتنغتون اليسار الليبرالي الأميركي ودعواته المستمرة للتعددية ومراجعة الذات الأميركية والغربية، التي ساعدت على نمو هويات فرعية أميركية عديدة وانتشارها وعلى رأسها هويات الأفارقة الأميركيين واللاتينيين الأميركيين. كما وقف اليسار الأميركي موقفاً ناقداً للثقافة الأنغلو-بروتستانتينية خاصة تجاه الجانب الديني منها، ونادى الليبراليون بشكل متكرر بسيادة قيم العلمانية وفصل الدين عن الدولة وعن الحياة العامة الأميركية، ما أضعف المكون الديني المسيحي للهوية الأميركية.
ثالثا: ينتقد هنتنغتون سياسات الهجرة الأميركية الحديثة التي ساعدت على تدفق ملايين المهاجرين على أميركا منذ الستينيات، دون وضع ضمانات كافية لدمج وصهر موجات الهجرة الجديدة في ظل ثقافة التعددية التي سعى اليسار الليبرالي الأميركي بقوة لنشرها منذ النصف الثاني للقرن العشرين. كما يقدم هنتجتون نقداً مباشراً للهجرات اللاتينية الأميركية والسماح بتدريس اللغة الإسبانية واستخدامها كلغة ثانية رسمية في العديد من المدن والولايات الأميركية. وهنا يظهر قلق هنتنغتون الخاص من المهاجرين اللاتينيين الأميركيين على الهوية الأميركية بعد أن أصبحوا يمثلون 12% من تعداد الشعب الأميركي، ونظراً لارتباطهم الوثيق بأوطانهم الأصلية القريبة من الولايات المتحدة. كما يبدي هنتنغتون قلقاً خاصاً تجاه من ينادون بإقرار اللغة الإسبانية لغة ثانية رسمية، ويرى أن ذلك يعد أحد أخطر التهديدات الموجهة للهوية الأميركية، لأنه ينذر بتحول أميركا لبلد ذي هوية لغوية ثنائية إنجليزية-إسبانية.
رابعا: يرى أن سقوط الاتحاد السوفياتي وعدم تبلور عدو جديد للولايات المتحدة أسهم في ضعف التفاف الأميركيين حول هويتهم خاصة في أواخر القرن العشرين. ويرى هنتنغتون أن التغيرات الكبرى السابقة والتحولات العديدة التي شهدها المجتمع الأميركي أدت إلى تراجع مصادر الهوية الأميركية الرئيسية، وهي الإثنية البريطانية والعرق الأبيض والدين المسيحي والثقافة الإنجليزية - البروتستانتينية. إذ ساعدت الهجرات الأوروبية العديدة غير الإنجليزية كالألمان(3/222)
والإيطاليين وغيرهم إلى الولايات المتحدة على إضعاف أهمية الإثنية البريطانية في الهوية الأميركية، وأضعفت دعاوى التعددية والعلمانية دور الثقافة المسيحية، كما أضعفت ثورات الحقوق المدنية دور العرق أو العنصر الأبيض كمصدر للهوية، وإن كان هنتنغتون يرى أن العنصرية مازالت قوية وحية وتمثل عامل تمييز أساسياً داخل المجتمع الأميركي خاصة على المستوى الاقتصادي والسياسي حيث يبرز نفوذ الأميركيين البيض. ويرى هنتنغتون أن التحديات السابقة يمكن أن تؤدي إلى واحد من التبعات الأربع التالية على الهوية الأميركية في المستقبل:
أولا: فقدان الهوية الأميركية وتحول أميركا إلى مجتمع متعدد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القيم السياسية الأساسية. ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو يفضله كثير من الليبراليين الأميركيين ولكنه سيناريو مثالي يصعب تحققه.
ثانيا: تحول أميركا إلى بلد ثنائي الهوية (إنجليزي-إسباني) بفعل زيادة أعداد ونفوذ الهجرات اللاتينية الأميركية.
ثالثا: ثورة الأميركيين البيض لقمع الهويات الأخرى، ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو هو احتمال قائم ويدرس إمكانات وقوعه ودوافعه بالتفصيل خلال الفصل قبل الأخير من كتابه.
رابعا: إعادة تأكيد الهوية الأميركية من قبل الجميع والنظر لأميركا كبلد مسيحي تعيش به أقليات أخرى تتبع القيم الأنغلو-بروتستانتينية والتراث الأوروبي والعقيدة السياسية الأميركية كأساس لوحدة كافة الأميركيين (1).
العالم وأمريكا .. معنا .. أم ضدنا
إذا كان العالم العربي والإسلامي يعاني في الوقت الحاضر من التجبر والعربدة الأمريكية، فإنه ليس الوحيد في هذا المجال، حيث سبق التسلط الأمريكي على المنطقة العربية والإسلامية تسلط وتجبر في كافة مناطق العالم، وقد عرضنا لذلك
_________
(1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون- عرض/ علاء بيومي- الجزيرة نت 2 - 8 - 2004(3/223)
في هذا الكتاب بدءاً من ابادتة الهنود الحمر واستعباد الزنوج، مروراً بتمير القوة الاسبانية واستباحة أمريكيا اللاتينية والفلبين، وتدمير اوروبا واليابان والتحكم بمقدراتها من خلال حربيين عالميتين، وصولاً إلى الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي وما صحبها من مجازر وابادة بحق الفيتناميين والكوريين، وانتهاءاً بالنظام العالمي الجديد الذى ارادت أمريكا من خلاله الانفراد بالعالم وتحويل شعوبه إلى عبيد تسخرهم لخدمة اطماعها القذرة، ضاربه عرض الحائط بكل المبادئ والقيم الانسانية، وما يحدث في افغانستان والعراق خير مثال على ذلك.
فهذا التاريخ الطويل من الاجرام والابادة الأمريكية التى شملت الكرة الارضية بكاملها، وما صاحبه من تضليل وتزوير للتاريخ بدأ يتكشف الآن وبدأت شعوب العالم تتعرف على الحقائق المؤلمة للجرائم الأمريكية بحقها وبحق الانسانية، وهذا هو العامل الرئيسي الذي يمكن ان يفسر لنا سبب كره شعوب العالم لأمريكا، والذي بدأ يظهر بصورة جليه على الساحة حتى بدأ الأمريكيون انفسهم يشعرون بهذا الكره، فكان سؤالهم الدائم والساذج: "لماذا يكرهوننا"، متناسيين ما جلبته سياسة بلادهم من دمار وخراب على كافة شعوب العالم، التي بدأت تعبر عن كرهها للسياسة الأمريكية، حتى وصل الامر إلى بدايات تمرد من بعض حلفاء أمريكا، وكان اظهر ما يكون في الموقف الاوروبي بشكل عام والفرنسي بشكل خاص. وقد خاضت كل من فرنسا وألمانيا معركة جادة للتخلص من الهيمنة الأمريكية على القرار الأوروبي، وجعل السياسة الأوروبية نابعة من المصالح الأوروبية ذاتها، كما تجلى ذلك في مواقف الزعيمين الأوروبيين شرودر وشيراك في معارضتهما الحرب الأمريكية على العراق (1).
فلأوّل مرّة في تاريخ الصحافة الأوروبيّة تصبح أمريكا موضوعاً يتناوله المحللون والكتّاب بكثير من النقد اللاذع أحياناً والجرئ أحياناً أخرى. وإذا كان نقد أمريكا في السابق حكراً على الكتّاب والمثقفين اليساريين والقوميين .. فإنّ الكتّاب الليبيراليين الذين كانوا إلى وقت قريب معجبين بالحضارة الأمريكية وبالنمط
_________
(1) وجه الرأسمالية الجديد- توفيق المديني- ص 337 من منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق - 2004(3/224)
الأمريكي في الحياة سخروا أقلامهم لفضح هذا النموذج الذي بات يستهدف الإنسان في كل أبعاده. وفي نظر هؤلاء فإنّ الأمركة هي مشروع إستعماري جديد لا يختلف عن الإستعمار الأوروبي القديم لكن بأساليب جديدة, والعجيب أنّ هذه الآراء تصدر من لدن مفكرين غربيين في الوقت الذي بذلت فيه أمريكا مجهودات جبّارة عقب الحادي عشر من سبتمبر لإستمالة الرأي الغربي إليها حتى شبّه البعض التجيير الأمريكي الإعلامي والسياسي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر لصالحها بالهلوكست اليهودي وأسموه الهلوكست الأمريكي. وقد إستطاعت تظاهرات 15 فبراير 2003 المنددة بالغارة العسكرية الأمريكية المرتقبة على العراق أن ترخي بظلالها ليس على الخطّ الإعلامي والسياسي لمعظم الصحف الغربية بل أرخت بظلالها على صنّاع القرار في أوروبا الذين أضطرّوا إلى عقد قمّة طارئة الإثنين 17 فبراير 2003 في العاصمة البلجيكية بروكسل والتي تناولت موضوع العراق والغارة الأمريكية المرتقبة عليه في ضوء يقظة الشارع الأوروبي المعادي للحرب الأمريكية، وقد أجمع القادة الأوروبيون على ضرورة أن تكون جمعية الأمم المتحدة هي مركز النظام العالمي وليس أمريكا (1).
فبعد تأسيس الاتحاد الاوروبي وظهور تحالف قوى بين فرنسا والمانيا، فإننا نجد أن أوروبا لم تعد الحليف المؤكد والدائم للولايات المتحدة الأمريكيه (2). وهنا يجب ان نوضح ان مناوأة أميركا في أوروبا وفي فرنسا لا سيما منذ الحرب العالمية الثانية، تأتي بسبب بعض سلوكيات سياسة أميركا وبعض جوانب نظامها التي تلقي بثقلها في الإدراك الأوروبي للولايات المتحدة (3). والحال هذه، وفي ظل تباعد وجهتي النظر بين أوروبا وأمريكا فيما يتعلق بالفلسفة لكل واحدة منها إلى العالم، والقيم، والمصالح في آن واحد، نجدهما الآن تنتهجان سلوكا اجتماعيا وسياسيا مغايرا ومتعارضا إلى حد كبير (4). وقد لاحظ المعلق الفرنسي (دومينك مويزى): ان نزعة
_________
(1) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm
(2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص35
(3) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - جون ماري كولمباني- كامبردج بوك ريفيوز
(4) وجه الرأسمالية الجديد- دراسة - توفيق المديني- ص 339 من منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق - 2004(3/225)
معاداة أمريكا كانت في سبعينات القرن العشرين رد فعل على ما كانت الولايات المتحدة تفعله، اما اليوم فان النزعة -معاداة أمريكا- رد على واقع أمريكا. كما ان هناك معلقون امريكيون مثل (جون اوسليفان) من مجلة (ناشيونال رفيو) حذروا من ان الاتحاد الاوروبي بدأ ينزلق إلى مواقع معادية للولايات المتحدة. ويرد مارتن وولف على هذا التحذير مؤكداً ان كلاً من الاتحاد الاوروبي، والصين، والهند قد تتحالف لموازنة الولايات المتحدة (1).
فالليبرالية المتطرفة على الطريقة الأمريكية والتي قُدمت كأمر يصعب التغلب عليه تعمل على صدم وتشنج المشاعر الوطنية للدول الآسيوية التي لها قواعد تاريخية متينة وعريقة. وتبدو الصين في طليعة هذا الرفض بالاستسلام ولا ينقصها من أجل ذلك العوامل المتينة من جاهزية اقتصادية واضحة وفخر وطني شرعي قادر على الإنقاذ وإرادة قوية باستعادة الأراضي التي ترى أنها بالواقع قد سلخت منها. لا تخاف الصين أن تسمع صوتها المخالف مزعجة به الأمريكيين وخاصة عندما أدانت الحلف بين اليابان والولايات المتحدة. إن الصين تمثل لأوروبا التي تنازلت منذ زمن بعيد عن حب نفسها مثالاً مشجعاً (2).
وباعتباره واحد من منظري الفكر المحافظ الأميركي الجديد, يقدم (روبرت كيغان) في كتابه (الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديد) تنظيراً لأسباب الإنفصال الأميركي-الأوروبي, ويأمل أن تحتل أطروحته في هذا الكتاب الأهمية التي احتلتها أطروحات سابقة شهيرة في مقدمتها صدام الحضارات لهينتغتون ونهاية التاريخ لفوكوياما. وهذا الطموح عند كيغان لا يتأتى من فراغ, فقد تنبأت صحيفة "نيويورك تايمز" بأن تكون أطروحاته "الحدث" البارز الجديد في عالم الفكر والسياسة. في هذه الأطروحة، يسعى كيغان المتخرج من أروقة وزارة الخارجية الأميركية إلى تحطيم أسطورة الغرب الموحد، وإلى دراسة مواقف الولايات المتحدة وأوروبا الحالية من بعضهما البعض. ويضمن كيغان في هذه الصفحات رأيين
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص299
(2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 205 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001(3/226)
أساسيين يعتبر أولهما أن اختلاف أميركا وأوروبا (القديمة) في مواقفهما من القضايا الجيوبوليتيكية لا ينبثق من صدام حضارات جوهري بينهما، إنما هو نتيجة التفاوت في قدراتهما العسكرية. فقد كانت أوروبا تتمتع بالقوة (في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) لكنها اليوم ضعيفة. وكانت أميركا في نشأتها ضعيفة لكنها اليوم فائقة القوة. لهذا فالطريقة التي تتصرف بها أوروبا اليوم, من تمسك بالمؤسسات الدولية، والتلويح بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، والإصرار على الإجماع الدولي ودور الدبلوماسية، هي بالضبط الطريقة التي انتهجتها الدول الضعيفة على الدوام ومن ضمنها الولايات المتحدة في أيام فتوتها. يقابل ذلك أن دبلوماسية المدافع، والتصرف كما لو كان المرء شرطياً للعالم، وعدم الركون إلى التقييدات التي يفرضها القانون الدولي، وكل التوجهات التي أظهرتها الولايات المتحدة مؤخراً، كانت وما تزال سبيل الدول القوية، وينطبق ذلك على دول أوروبا أيام مجدها تماماً كما ينطبق الآن على أميركا.
فأوروبا الراهنة، التي تملك القدرة على أن تكون قوية لكنها لا ترغب بذلك، ليس لها أن تتذمر عندما يمارس الآخرون الدور الطبيعي الذي تهبهم إياه القوة.
ويتابع كيغان فيقول: فتجربة أوروبا الفريدة في التعاون في فترة ما بعد الحرب، قد أكسبت أوروبا سذاجة أيديولوجية وحملتها إلى حالة من الرضى المطلق عن الذات. فالأوروبيون الذين يعيشون في جنة (ما بعد التاريخ) تحت الحماية الأميركية، لم يعودوا على استعداد للاعتراف بأن القوة الغاشمة ما تزال نافذة في العالم الذي يمتد خارج حدودهم. وقد استراحوا للعيش الهانىء، منصرفين إلى تجميع الثروات، ومهملين قدراتهم العسكرية، ومقتنعين بأن بوسع بقية العالم أن يحصل، عن طريق الإجماع وحكم القانون، على ما تسنى لهم الحصول عليه من خلال تلك الطريق. فأوروبا تحصد، وهي مستريحة، المكاسب الاقتصادية التي تتحقق من خلال تصدي أميركا للقيام بالأعمال (القذرة) وتخليص العالم من (الأشرار) الذين يهددونه. لذلك فان على أوروبا أن تصبح واقعية، وأن تتدرع بالقوة العسكرية، حيث يتوجب عليها إما أن تتكيف مع الظرف الجديد أو أن تغلق فمها.(3/227)
لكنها، وفي جميع الأحوال، يجب أن لا تتوهم بأن قوانين قريتها الناعمة يمكن أن تنطبق على بقية العالم (1).
وبغض النظر عن الاسباب الحقيقية لبداية الانفصال الاوروبي عن أمريكا، سواء كان ذلك بسبب سياساتها ام كان نتيجة تفاوت في القدرات كما حاول كيغان تفسيره، فإن النتيجه هي ان هذا الانفصال موجود وبدأ يظهر على السطح بقوة. فحلفاء أمريكيا (أوروبا واليابان) مترددون ومحرجون أكثر فأكثر. ففرنسا تنتهج موقفاً استقلالياً، أما ألمانيا المستاءة فجاء موقفها مفاجئاً، أما بريطانيا فهي على عادتها وفية للخط الأميركي. بينما يعبر الصمت الياباني عن انزعاج أكثر مما يعبر عن انخراط في سياسة أميركا (2). ولهذا فإن وضع سياسة مشتركة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً هي الوحيدة الكفيلة بأن تسمح لأوروبا بالوجود, وبالتالي الدفاع عن مصالحها وقيمها (3). كما أن وعي أوروبا واليابان بقوة إمكانياتهما وعودة روسيا إلى التوازن العالمي سيقود في المدى المتوسط إلى انهيار الزعامة الأميركية (4). وربما كان هذا هو الذي دفع المفوضية الاوربية للشؤون الاجتماعية آنا ديامانتوبولو للقول: ان اوروبا هى الامل الوحيد للوصول إلى نظام عالمى يتسم بالانسانية ولمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية "المتمسكة بنهج اصولية بروتستانتية وبمبدأ وحيد يتمثل بالحرص على مصالحها من دون سواها" (5).
ففرنسا وكل أوروبا لهما ما يمكنهما من تولي مثل هذه المهمات شريطة أن تعتبر ذلك (استراتيجية مستقبل) بدل تقهقر نحو أوطان إمبراطوريات القرن الـ 19. فهناك تناقضات مهمة جداً. بين قيم وأهداف ووسائل الإمبراطورية العالمية وقيم وأهداف ووسائل الجمهوريات الأوروبية. أن المواطنين الأوروبيين يصبون لمبتغى يختلف عن مبتغى الإمبراطورية الليبرالية-الجديدة الأمريكية. فالنظرة الأوروبية لـ (الأخر) بنيت على أساس معارضة سياسية، وبالتي فهي تختلف أساساً عن النظرة
_________
(1) الفردوس والقوة .. أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديد- روبرت كيغان- عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
(2) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز
(3) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - جون ماري كولمباني- كامبردج بوك ريفيوز
(4) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز
(5) جريدة الخليج عدد 8674 - 17/ 2/2003(3/228)
الأمريكية لـ (الأخر) المبنية على أساس "الإقصاء". ومع بوش تم إعادة بناء صورة العالم الخارجي بطريقة لا تكون فيها هذه الصورة إلا في شكل حرب عالمية تضع العالم تحت تهديد الموت، إمبراطورية الفوضى تعني مذبحة الضعفاء، العنصرية ثقافة الإمبراطورية، غياب مشروع سياسي-اقتصادي للولايات المتحدة يأتي من إستراتيجيتها الإمبراطورية، الشوق إلى الحرب الباردة، نهاية الأمم المتحدة، لا حق للأضعف (1). وقد أبدع الأمريكيون تعبيرات وأوصافا يسلطونها على الأوروبيين، توضح التباين بين القيم والاهداف الأمريكية والاوربية حيث كتب المؤرخ البريطاني (تيموتي غارتون آش) يَصِف فيه هذه الكلمات والتعبيرات التي نحتها الأمريكيون للسخرية من الأوروبيين بقوله: "إذا كان المعادون لأمريكا، في أوروبا، يرون الأمريكيين كرعاة البقر أو كوحوش غليظة، فإن المعادين لأوروبا في أمريكا يرون الأوروبيين مثل مخنثات أو خالات. الأمريكي ذكَرٌ فحلٌ ومشْتَهٍ للغير، والأوروبي أنثى عاجزة جنسياً".
صحيح أن هذه التعبيرات تظل حماقات لا معنى كبير لها، لولا أن لها نتائج جدية على العالم الواقعي، كما بيّن ذلك موقف ولغة دونالد رامسفيلد" (2). وكثير من اتباع اليمين المحافظ المتطرف.
ولئن كانت الحرب الكونية الثانيّة عونا لأمريكا في ضمّ أوروبا إليها, فإنّ الظروف الآن تغيرت بشكل قد يؤدّي إلى حدوث طلاق كامل بين أوروبا وأمريكا حيث بدأت أوروبا ترفع صوتها عاليا منددة بمحاولات السيطرة الأمريكية في المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية, و مشروع أوروبا الموحدة يحمل في طياته إرادة الإنفصال عن أمريكا التي تفردت بصناعة كافة القرارات العالمية, وإذا إستطاعت أوروبا أن تؤطّر نفسها فسوف تفقد أمريكا الكثير من حيويتها في أوروبا, كما أن التنافس الإقتصادي بين اليابان وأمريكا مرشّح أن يتحوّل إلى صراع سياسي لأنّ القوة الإقتصادية اليابانية المتدفقة تملي عليها إستغلال العامل الإقتصادي للتأثير على السياسة العالمية, وللتذكير فقط فإنّ العلاقة بين أمريكا وأوروبا كانت في بداية المطاف إقتصادية ثمّ تحولّت إلى نفوذ سياسي وعسكري.
_________
(1) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكس- ط1 2002 - الناشر: لا ديكوفارت - باريس كامبردج بوك ريفيوز - الجزيرة نت
(2) القومية الأمريكية الجديدة - تأليف: اناتول لييفين - عرض: بشير البكر-جريدة الخليج 23 - 6 - 2005(3/229)
على أن مواجهة وحش الأمركة يحتم علينا ايضاً التبصر بإحتمال قيام قطب مواجه لأميركا وتبين ملامح هذا القطب المستقبلي. حيث يجد الدكتور محمد احمد النابلسي أن الصين هي المرشح الوحيد لهذا الدور .. ويتوقف أمام إحتمالات بروز الصين وعلاقته بالأزمات الأميركية المعلنة والمتسربة. حيث خطورة هذه الأزمات تبلغ حدود حديث النابلسي عن قدوم زمن الفوضى الأميركي. وملامحه أزمة إقتصادية عارمة (فضائح إفلاس الشركات) وميليشيات نازية (أوكلاهوما 1995) وشغب عنصري (سينسيناتي 2001) وأقليات مضطهدة وحريات مقلصة ومنتهكة (وزارة بوش للمخابرات) ومخالفات اجرامية بحق القانون الدولي (رفض توقيع اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية) ومؤسساته (مخالفة مجلس الأمن في قرار حرب العراق) كما بحق الإنسان (1).
فالولايات المتحدة لم تتمكن لحدّ الآن التغلغل إلى العمق الصيني ومازالت الصين حذرة من النشاط السياسي والإقتصادي والعسكري الأمريكي في القارة الآسيوية. والعالم الإسلامي من جهته تجلى له بوضوح أنّ أمريكا تستهدف إمتصاص خيراته و صياغته من جديد. وما زال هذا العالم يتكبّد الآثار السلبية للتوجهات الأمريكية البراغماتية القائمة على إفراغ العالم الإسلامي من المقومات النهضوية الفكرية والمادية (2). واذا اضفنا إلى هذه الموقف مواقف روسيا وبعض دول أمريكيا اللاتينية وافريقيا واسيا، وحركات التحرر العالمية في العالم، فاننا على يقين بأن كل ذلك سيكون كفيلاً في محاصرة السياسة الأمريكية المتمرده على الجميع.
وفي صحيفة الفايننشيال تايمز كتب (جيريمي جرانت) يقول: "إن تقريرا صدر مؤخرا في الولايات المتحدة انتهى إلى أن الظروف الحالية في هذا البلد تماثل إلى حد كبير ما كان عليه الحال في روما القديمة قبل انهيارها". وقالت الصحيفة إن التقرير الذي وضعه المراجع العام (دفيد وولكر) وجد أن التشابه يتضمن "تراجع القيم الأخلاقية والنشاط السياسي داخل الوطن، والثقة المفرطة في النفس، والمبالغة في إرسال القوات العسكرية إلى الخارج، وعدم شعور الحكومة المركزية بالمسؤولية في
_________
(1) في مواجهة الأمركة - محمد احمد النابلسي - دار الفكر - دمشق 2004
(2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm(3/230)
إنفاق الأموال". يقول وولكر: "علينا أن نتعلم من دروس التاريخ ونتخذ كل الخطوات اللازمة لصمود الجمهورية الأمريكية أمام هذه الظروف .. أردت أن أدق جرس الانذار عالياً، فالكثير من المشاكل التي تواجهنا حالياً لا نأخذها بالجدية اللازمة .. فهناك مصاعب مالية ناجمة عن ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وزيادة الدين الداخلي وتزايد الاعتماد على المقرضين الأجانب، فضلاً عن تعثر السياسات الحالية في التعليم والطاقة والبيئة والهجرة والعراق وغيرها". ونسبت الصحيفة إلى وولكر القول: "إن أمريكا بحاجة إلى مليارات الدولارات لتحديث كل شيئ من طرق وكباري ومطارات ومياه وصرف صحي وغيرها، وما انهيار جسر في مينيابوليس مؤخرا إلا جرس إنذار" (1)
وغرق النسر العظيم
يقول (امانويل والرستون) في كتابه (الهبوط الاضراري للصقر): "ان التحديات التي واجهتها الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام والتدخل العسكري في البلقان والشرق الأوسط وحتى أحداث 11 سبتمبر 2001، قد كشفت هشاشة الهيمنة الأميركية. فهل تتعلم الولايات المتحدة أن تتوارى بهدوء أم سوف يظل الجناح المحافظ يقاوم لكي يهبط تدريجياً حتى يتفادى السقوط السريع والمدمر في نفس الوقت؟ " (2) والجواب على سؤال والرستون يكمن في قصة (وغرق النسر العظيم ... !!) التي تقول:
في أحد ايام الشتاء الباردة، كانت تسبح في نهر نياجرا قطعة هائلة من الثلج، عليها جثة حيوان، وإذا بنسر عظيم يرى الجثة فيحط عليها، وبدا يأكلها في هدوء ولذة عظيمين .. تحمله قطعة الثلج الضخمة، التى كان التيار يدفعها شيئاً فشيئاً نحو شلالات نياجر الشهيرة ...
وماذا يهم النسر من الشلالات العظيمة؟! ألا يستطيع في اللحظة التى يريد ان يحلق فيها ان يفعل ذلك بكل هدوء وبأمان وسلام أيضاً؟. هذا لا شك فيه. لذلك مضى يأكل شغوفاً بلذته، منهمك في أكلته، هانئاً في متعته ومضى يقترب بسرعة
_________
(1) bbcarabic.com.- الثلاثاء 14 أغسطس 2007
(2) الهبوط الإضطراري للصقر/امانويل والرستون/ كتاب معروض في مجلة السياسة الخارجية عدد تموز-آب 2002 Foreign Policy.(3/231)
من الشلالات المخيفة الهائلة، وإذا صار على حافتها، ضرب الجو بجناحيه كى ينجو .. ولكن للآسف صار كل هذا دون فائدة؟ ماذا حدث؟؟؟ لقد انغرست مخالبه العظيمة في قطعة الثلج وتجمدت دون ان يشعر أو يدرى أو حتى ينتبه إلى ذلك .. !!! فلم يستطع الافلات رغم انه اراد ذلك ... وانحدرت قطعة الثلج وسقط معها الطائر العظيم ومات غرقاً!!!
نهاية مؤلمة، لم تكن منتظرة، لنسر عظيم! ويبدو ان مصير أمريكا المتجبره التى تتلذذ بنهب الثروات وقتل الابرياء غير عابئه باحد سيكون شبيهاً بهذا النسر العظيم. اى ان سقوطها سيكون مدوياً .. ولكن يجب العمل لكي لا يكون قاتلاً ومدمراً للجميع .. !!(3/232)
الفصل الثاني
مواجهة الصهيونية المسيحية
قبل ان نعرض لخطة لكيفية مواجهة الصهيونية المسيحية، سنعرض بداية لتجربة الحروب الصليبية القديمة وما وصلت اليه هذه التجربة، حيث ان هذه التجربة خضعت لدراسات مستفيضة من قبل الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية لاستخلاص العبر منها والعمل على عدم تكرار الفشل التى تعرضت له الحملات الصليبية في السابق. وأحسب أن قصة الحملات الصليبية والاستجابة الإسلامية لتحدياتها، يمكن أن توفر لنا بعض الدروس والعبر القيمة، ليس لأن التاريخ يكرر نفسه، بل لأن اليهود والمسلمين الذين يتحاربون اليوم تتملكهم العديد من نفس الهواجس والأهواء التي كنا نجدها لدى جنود الرب المحاربين في سبيل دينه حين زحف الصليبيون على القدس لتحرير قبر المسيح (1).
الحروب الصليبية بين الماضي والحاضر
(الصليبيون) ترجمة لكلمة (كروسيدرز Crusaders المشتقة من كلمة كروس cross) ، ومعناها صليب. وهي عبارة تُستخدَم في الخطاب السياسي والتاريخي في الغرب للإشارة إلى الصليبيون الذين شنوا عدة حملات على العالم العربي والإسلامي في القرن الثاني عشر، وقد تَبنَّى كثير من العرب المحدثين هذا المصطلح. وتُسمَّى (حروب الصليبيون) (2) في الخطاب الغربي (الحروب الصليبية) نسبة إلى الصليب. وهو مصطلح يُطلَق على الحروب التي شنها حكام أوربا المسيحية الإقطاعية لاحتلال فلسطين إبان العصور الوسطى. وهي حروب كانت تساندها حركة سياسية
_________
(1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-ط1 2004 - دار الكتاب العربي- بيروت- الجزيرة نت -عرض/ إبراهيم غرايبة
(2) يستخدم د. المسيرى موسوعتة عبارة «حروب الفرنجة» بدلاً من عبارة "الحروب الصليبية" للإشارة إلى الحملات الغربية التي جُرِّدت ضد الشرق الإسلامي لنهبه، ولم تكن المسيحية سوى ديباجة سطحية استخدمها الغزاة ولا علاقة لها برؤيتهم للكون.(3/233)
واجتماعية ضخمة قادتها النخبة الحاكمة (الكنيسة والنبلاء) ووجدت صدى عميقاً لدى الجماهير الشعبية التي انضمت إليها بأعداد ضخمة لم تضعها النخبة الحاكمة نفسها في الحسبان. ويرى د. سعيد عاشور أن الصليبيون هم من جموع المسيحيين الغربيين الكاثوليك الذين خرجوا من بلادهم في شتى أنحاء الغرب الأوربي، واتخذوا الصليب شعاراً لهم لغزو ديار الإسلام، وبخاصة منطقة الشرق الأدنى وبلاد الشام حيث الأراضي المقدَّسة. ومعنى هذا أن المسيحيين الشرقيين من روم وأرمن وسريان وأقباط ونحوهم لا يدخلون في دائرة مصطلح (الصليبيين) لأن هؤلاء من أهل البلاد، وليسوا وافدين عليها من الخارج. ربطتهم بالأرض التي ينتمون إليها روابط أصيلة جذرية ترجع إلى ما قبل الإسلام. وعاش معظمهم قبل الحركة الصليبية تحت مظلة الإسلام يتمتعون بما كفلته لهم هذه الديانة من حقوق ويؤدون ما فرضته عليهم من واجبات.
وحروب الصليبيون جزء من المواجهة التاريخية العامة بين الحضارة الغربية وحضارة الشرق الأدنى، والتي تعود بجذورها إلى بداية ظهور الحضارة الغربية نفسها حين وصلت شعوب البحر (الفلستيون) من كريت وبحر إيجة إلى ساحل مصر، ثم استقروا في ساحل أرض كنعان بعد أن صدهم المصريون. وحينما هيمن الفرس على الشرق الأدنى، أخذت المواجهة شكل اشتباك عسكري بينهم وبين الدول (المدن) اليونانية التي صدت الغزو الفارسي. ثم قام الإسكندر الأكبر بغزو الشرق وأسس الإمبراطورية اليونانية التي انقسمت إلى ثلاث امبراطوريات بعد موته. كما هيمن الرومان بعد ذلك على معظم الشرق الأدنى القديم. وقد انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: الإمبراطورية الشرقية (البيزنطية)، والامبراطورية الغربية. ومع وصول الإسلام وقيامه بفتح المنطقة وتوحيدها، وتحويله البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة عربية إسلامية، انحسر نفوذ العالم الغربي وأصبح محصوراً داخل القارة الأوربية (1).
ان العالم المسيحي بعد حوالى ألف سنة من انتشار المسيحية قد تعرض لنوع من اختبار العقيدة لدى المؤمنين بها، حيث وقعت الارض التي كانت مهداً للمسيحية
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - المجلد الثاني د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 101(3/234)
في قبضة المسلمين، وغذت روما بقداستها- والتي كانت ذات يوم حاضرة العالم- مدينة تنعي اطلالها. وعلى ما يقرب من مائتين وخمسين ميلاً كانت جزيرة صقلية تحت الحكم الإسلامي (1). بل إن الجيب البيزنطي المتبقي على أرض الشرق في آسيا الصغرى كان قد بدأ يقع تحت هجمات السلاجقة وهي الهجمات التي أدَّت في نهاية الأمر لسقوط الدولة البيزنطية، وكذلك القسطنطينية، على يد العثمانيين. وقد هُزم جيش بيزنطي بقيادة الإمبراطور رومانوس ديجينيس هزيمة ساحقة على يد السلاجقة بقيادة ألب أرسلان في مانزيكريت في أرمينيا. ثم استمر التوسع السلجوقي، فتم الاستيلاء على أنطاكية عام1085، الأمر الذي اضطر الإمبراطور أليكسيوس كومنينوس إلى أن يطلب العون من الغرب حيث لم يجد آذاناً صاغية وحسب بل شهية مفتوحة (2).
وهكذا بدأت أوروبا تشهد في القرن الحادي عشر الميلادي حالة من النهضة، ومحاولات للتخلص من الشعور بالدونية تجاه المسلمين الأشد منهم بأساً والأرقى ثقافة، وبدؤوا يحاولون بناء ذات جديدة ويشعرون بثقة جديدة. وهكذا كانت الحملات الصليبية جزءا أساسياً من هذه العملية، وعبرت تماماً عن الروح الغربية الجديدة. إن اختلاق عدو إجراء بالغ الأهمية كوسيلة لتطوير هوية جديدة، وقد وفر المسلمون ذلك العدو الكامل، وإن كان من الواضح أن الفرنجة لم تكن لهم حتى ذلك الحين أية مآخذ على المسلمين، ولم يكونوا يعرفون شيئاً عن الديانة الإسلامية سوى أن المسلمين غير مسيحيين وأنهم مقاتلون أشداء، ومن شأن التغلب عليهم أن يعلي كثيراً من شأن الفرنجة (3).
ويرى الاستاذ عبد الوهاب المسيرى وغيره من الباحثين ان هناك مركب من الاسباب المادية والمعنوية والدينية ادت إلى قيام الحروب الصليبية مثل انهيار الاقتصاد الغربي بعد سقوط الامبراطورية البيزنطية، وزيادة نفوذ المدن الايطالية،
_________
(1) تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - تأليف: موريس بيشوب - ترجمة على السيد على - ص 47 - المجلس الاعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة- الطبعة الأولى 2005
(2) الموسوعة الصهيونية - المجلد الثاني د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 101
(3) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة(3/235)
وزيادة عدد السكان (1)، وظهور نوع من الاستقرار السياسى في اوروبا الذى سهل من امكانيات تجريد حملات عسكرية، هذا بالاضافة إلى اسباب اخرى، ولكننا هنا سنركز على الاسباب الدينية لهذه الحملات والتي يمكن اجماله فيما يلى:
1. حدث بَعْث ديني حقيقي في بداية القرن العاشر الميلادي. ويمكن القول بأن حروب الصليبيون تعود إلى ما يُسمَّى (الإصلاح الكلوني) وهي حركة إحياء دينية بدأت عام 910 في مدينة كلوني بفرنسا، وأكدت تَفوُّق سلطة الكنيسة على السلطة الدنيوية. وقد تزامنت حروب الصليبيون مع المجامع اللاترانية الأربعة في أعوام 1123، 1139، 1179، 1215 على التوالي. وهي المجامع التي بلورت موقف الكنيسة من عدة قضايا، منها تحريم الربا وتحديد وضع اليهود وكثير من علاقات الكنيسة بالسلطة الدنيوية. ولعبت الكنيسة دوراً أكثر نشاطاً في الحياة الدنيوية، وأخذت تؤكد نفسها بشكل أكثر جرأة. وقد أُعيدت صياغة البنية الكهنوتية وهو ما سمح للبابوات بأن يلعبوا دوراً أكثر فعالية. ووجدت الكنيسة في حروب الصليبيون فرصة مواتية لزيادة نفوذها وتسريب طاقة الأمراء والملوك القتالية إلى الشرق، ولتحقيق السلام والاستقرار في الغرب المسيحي. ومما له دلالته أن مجلس كليرمون (عام 1095)، الذي اتخذ القرارات التي بدأت حملات الصليبيون على الشرق، جدد ما يُسمَّى (هدنة الرب) في الغرب! وقد وجدت الكنيسة الرومانية أن تجريد حملة تحت سلطتها، لمساعدة الدولة البيزنطية، قد يسرع بتحقيق حلم روما القديم بإخضاع الكنيسة البيزنطية.
2. شهدت الفترة التي سبقت حروب الصليبيون تزايد حركة الحج. وكانت أهم المزارات روما حيث يُوجد ضريح لكلٍّ من بطرس وبولس، وكذلك ضريح سنتياجو دي كومبوستلا في شمال غربي إسبانيا. ولكن أهم المزارات جميعاً كانت هي القدس حيث تضم كنيسة القيامة. ولم يكن الحج عملاً من أعمال التقوى وحسب، وإنما أصبح وسيلة للتكفير عن الذنوب. بل كان القساوسة يوصون في بعض الأحيان، بالحج لمن يرون أنه اقترف إثماً فاحشاً. وكان الحجاج يرجعون بقصص عن مدى ثراء
_________
(1) تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - تأليف: موريس بيشوب - ترجمة على السيد على - ص 48 - المجلس الاعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة- الطبعة الأولى 2005(3/236)
الشرق، كما أنهم كانوا يتحدثون أيضاً عن المتاعب التي تجشموها والأهوال التي لاقوها. ولا شك في أن حديثهم هذا كان له أساس من الصحة حيث إن المنطقة لم تكن تنعم بالهدوء أو الاستقرار، وخصوصاً أن السلاجقة كانوا قد بدأوا في شن هجومهم على الدولة البيزنطية. ولكن مما لا شك فيه أنه كان هناك عنصر مبالغة، فالعائدون كانوا يريدون إبراز بطولتهم، وكان الوجدان الشعبي يتلقف هذه القصص ويضخمها، وخصوصاً أن المستوى الثقافي لجماهير أوربا آنذاك كان متدنياً إلى أقصى حد (1).
3. يبدو أن حركة استرداد إسبانيا من المسلمين، وتَفاعُل المسيحيين مع المسلمين إبان حرب الاسترداد، قد تركا أثرهما في الرؤية المسيحية للحرب، إذ تأثر العالم المسيحي بفكرة الجهاد الإسلامي، فبدا أن الحرب للدفاع عن المجتمع المسيحي، ولاسترداد القدس، ليست حرباً عادلة وحسب وإنما حرب مقدَّسة أيضاً. ويبدو أن نشوء جماعات من الرهبان المحاربين مثل فرسان الهيكل وفرسان الإسعاف (الداوية والإسبتارية) هو صدى لفكرة المرابطين الإسلامية (2).
4. من الأفكار المسيحية الشعبية الراسخة، ما يُطلَق عليه العقائد أو الأحلام الألفية، وتتمثل هذه الأفكار في الإيمان بأن الدورة الكونية أو التاريخية تستغرق ألف عام في العادة، وأن عام ألف أي بداية القرن الحادي عشر الميلادي سيشهد نهاية العالم والتاريخ، كما سيشهد عودة المسيح. وقد سادت هاتان الفكرتان أوربا في العصور الوسطى، وهما من الأفكار التي ازدادت شيوعاً إبان تفاقم الأزمات الاجتماعية وازدياد البؤس بين الجماهير. ويقول العلماء إن تاريخ نهاية العالم لم يكن محدداً بهذه الدقة، وأن الأحلام الألفية استمرت خلال القرن الحادي عشر الميلادي كله وحتى بعد ذلك التاريخ. ومن الأساطير الألفية التي شاعت أن الإمبراطور الأخير سيكون هو ملك الصليبيون خليفة شارلمان، وأنه هو الذي سيقود المؤمنين إلى القدس لينتظر العودة الثانية للمسيح ليؤسس مملكة السلام والعدل
_________
(1) راجع تراث الإسلام - تصنيف شاخت وبوزورت- ترجمة د. محمد زهير السمهوري، د. حسين مؤنس، د. احسان العمد- ج1 ط2 1988 - سلسلة عالم المعرفة 8 - ص 27 وما بعدها
(2) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 102(3/237)
ويحكم العالم من صهيون، أي القدس، وما القدس الدنيوية سوى رمز للقدس الأخروية!
5. واجهت الكنيسة، ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي، ظهور هرطقات في جنوب فرنسا، فظهرت جماعات ثنوية تؤمن بوجود إلهين: إله الخير وإله الشر. وكان بعضهم يذهب، شأنه شأن الغنوصيين، إلى أن هذا العالم من خلق الإله الصانع (الشرير)، كما كانوا ينزعون منزعاً واحدياً روحياً ينكر أية حقيقة للمادة. وقد جردت الكنيسة أول حملة صليبية ضدهم عام 1208، وتبع ذلك تأسيس محاكم التفتيش الرومانية (مقابل محاكم التفتيش الإسبانية) عام 1233. ولا شك في أن أحساس الكنيسة بأنها مهددة ساهم في تصعيد حمى الحرب. (1)
الحملة الصليبية الأولى
بدأت هذه الحملة حين دعي البابا إربان الثاني (1088 ـ 1118)، وكان فرنسياً، لمجلس في كليرمون في 18 نوفمبر 1059، حضره أساقفة من جنوب فرنسا، كما حضره آخرون من شمالها ومن أماكن أخرى. وألقى البابا خطاباً أشار فيه إلى بؤس الكنيسة البيزنطية، وتهديد الحجاج المسيحيين، وتدنيس الأماكن المقدَّسة. وحث هؤلاء الذين يعكرون السلام في الغرب على أن يوجهوا قواهم القتالية لخدمة غرض مقدَّس. كما أشار إلى إمكانات الحصول على الثروة من أرض تفيض باللبن والعسل، فصاح الجميع باللاتينية (ديوس وولت) deus volt، أي) الله يريد ذلك). ثم تتالت الأحداث وجاء المتطوِّعون من كل أنحاء أوربا، ولكنهم جاءوا أساساً من الأراضي الفرنسية وشبه الفرنسية مثل اللورين وجنوب إيطاليا وصقلية. وقد جُرِّدت الحملة الأولي (1096 ـ 1099) التي دعا إليها إربان الثاني في مؤتمر كليرمون (2)، وهي الحملة الوحيدة التي حققت بعض النجاح لأنها أخذت المسلمين على حين غرة. وقد بدأت الحملة بما يُسمَّى (حملة الفلاحين الشعبية) التي قادها بطرس الراهب والفارس ولتر المفلس، وقد ضمت في صفوفها حشداً كبيراً من الفلاحين وصغار
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 103
(2) ما الحروب الصليبية - جوناثان ريلي سميث- ترجمة د. محمد الشاعر-ص28 - دار الامين للنشر والتوزيع- ط1 1999(3/238)
الفرسان بلغ ما بين 15 و 20 ألفاً اتجهوا إلى القسطنطينية ومنها إلى الأراضي المقدَّسة. ولكن جيشاً تركياً تصدى لهم في آسيا الصغرى وسحقهم عام 1096 وقتل أعداداً كبيرة منهم وأسر أعداداً أخرى بيعت رقيقاً. وقد جُرِّدت بعد ذلك حملة الأمراء التي استفادت من حملة الفلاحين حيث تَوهَّم الأتراك، بناءً على تجربتهم مع جيش الفلاحين، أن قدرات أوربا القتالية متدنية. وقد نجحت الحملة الأولى في تأسيس أربع ممالك للفرنجة على النمط الإقطاعي الغربي (1).
الحملة الصليبية الثانية
حشد برنار رئيس دير الرهبان في كليرفو منطلقاً من فرنسا لحملة صليبية ثانية عام 1146 بعد 50 سنة من الحملة الأولى، بهدف إعادة الرها إلى الحظيرة الصليبية بعدما استولى عليها عماد الدين زنكي. والواقع أن الحشود الصليبية القادمة من الشرق لم تتوقف منذ بدأت عام 1099، ولكن هذه الحملة المشار إليها بالثانية لدى المؤرخين ينظر إليها باعتبارها واحدة من الحملات الثماني الكبرى التي كان ينفر لحشدها البابوات والأساقفة والقادة والنبلاء. ولكن حدثت تفاعلات سياسية وخصومات ومنافسات جعلت الإعلان عن حرب صليبية جديدة مخرجاً من الأزمة ووسيلة للتخلص من المنافسين، كما في التنافس بين برنار راعي الحملة الصليبية وبين منافسه الفيلسوف ورجل الدين بيير إبيلار. ووجد ملك فرنسا الشاب لويس في الحملة مخرجا لأزمته الشخصية والنفسية بعد المذبحة الهائلة التي نفذها بحق أبناء مدينة فييتري التابعة لمملكتها (2). وتحركت الحملة من ألمانيا وهي تواصل أعمال النهب والسلب وذبح اليهود والمسلمين في كل النواحي التي تمر بها، وفي جبال طوروس أجهز الأتراك السلاجقة على تسعة أعشار الحملة.
وأما الجانب الفرنسي من الحملة بقيادة لويس فهي وإن كانت أكثر انضباطاً فإنها اضطهدت جميع السكان الذين مرت بهم بمن فيهم المسيحيون الأوروبيون.
_________
(1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت
(2) تاريخ الحروب الصليبية 1095 - 1291 - د. محمود سعيد عمران- ص 73 - دار النهضة العربية للطباعة والنشر /بيروت- ط2 1999(3/239)
وصدم الصليبيون القادمون حين وجدوا أسلافهم الصليبيين قد استقروا في الشرق وتزوجوا من مسلمات وبدؤوا يندمجون في حياة الشرق ومجتمعاته، ولكنهم استنفروا مرة أخرى على يد الصليبيين الأكثر حماسة وتديناً، ولكن جيوش المسلمين كانت هذه المرة أكثر حماسة وتنظيماً بقيادة نور الدين زنكي .. وفشلت الحملة فشلاً قاسياً. وخلف صلاح الدين الأيوبي نور الدين زنكي مدشناً حرباً شاملة على الصليبيين، وأصبح الوجود الصليبي في الشرق ضعيفاً وهامشياً، فقد أوقع صلاح الدين جيوش الصليبيين في فخ بالغ الإحكام والذكاء وأباده تقريباً عن بكرة أبيه، وسقطت القدس تلقائياً بعد معركة حطين عام 1186 بيد صلاح الدين الأيوبي، وجرت بعد ذلك عمليات واسعة لإطلاق سراح بقايا الصليبيين من الأسرى وجمع شملهم بعائلاتهم، ونقلهم إلى بلادهم أو بقايا مدنهم على البحر المتوسط مثل عكا وصور. حيث إنه لم يقتل مسيحي واحد من المدنيين بعد معركة حطين، ومازال صلاح الدين موضع تقدير العالم المسيحي، ونسجت حوله الأساطير الضخمة إلى حد اعتباره أحد القديسين المسيحيين (1).
انتهاء وفشل الحروب الصليية
تم تجريد الحملة الثالثة (1189ـ1192) وكان على رأسها فريدريك الأول (بارباروسا) إمبراطور ألمانيا، وفيليب الثاني ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا. وكان الحماس لها كبيراً في إنجلترا، ولكن هذه الحملة فشلت كغيرها من الحملات، حتى جاء عام 1250 الذي شهد اخر الحملات الصليبية بعد ان حلت الهزيمة بجيش لويس التاسع قرب المنصورة ووقع لويس التاسع نفسه اسيراً في أيدي المسلمين ولم يطلق سراحه الا بعد ان دفع فدية ضخمة (2). وإذا نظر دارس التاريخ إلى الحروب الصليبية من حيث أهدافها يلاحظ أنها فشلت فشلاً ذريعاً بعد أن دامت هذه الحروب حوالي قرنين من الزمان، فقد تمكنت القيادة الإسلامية من استرداد الأراضي - التي ملكها الصليبيون - شبراً شبراً، وتمكن المماليك في النهاية من
_________
(1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة
(2) تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - د. سعيد عبد الفتاح عاشور- ص 230 - دار النهضة العربية - بيروت(3/240)
تطهير بلاد الشام من الصليبيين. يضاف إلى ذلك أن الحكومات الإسلامية التي امتازت من قبل الحروب الصليبية بالتسامح مع أصحاب الأديان الأخرى أخذت تتحفظ في تسامحها مع الأوروبييين بسبب هجماتهم المتكررة على الديار الإسلامية، لذلك نلاحظ قلة عدد الحجاج الأوروبيين عقب الحروب الصليبية (1).
نتائج الحروب الصليبية
إذا نظرنا إلى نتائج الحروب الصليبية على أوروبا، نجد أن الإقطاع الذي كان عصب النظام الإجتماعي والعسكري في أوروبا، قد أصيب بضربة قاسمة لم يفق منها إلا بصعوبة بعد أن خسر كل مكاسبه، مما جعل الفرصة مواتية للملوك لزيادة سلطتهم وتقوية المركزية في دولهم، اي انها زادت قوة السلطة الدنيوية، وخصوصاًَ قوة الملوك (2). ومن النتائج السياسية أيضا تأخر سقوط القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين، لان الحروب الصليبية قد أنهكت القوى الإسلامية، مما جعلها أقل مقاومة لتيار المغول القادم من الشرق، ومع مقاومة وحروب الصليبييين من جانب، وقوى المغول من جانب، نجد أن القوى الإسلامية قد انشغلت لوقت طويل بهذا الصراع، ولم تتفرغ إلا بعد وقت طويل لمهاجمة العاصمة البيزنطية وهي القسطنطينية وإسقاطها عام 1453 م.
أما عن النتائج الحضارية للحروب الصليبية فهي كثيرة يخطئها الحصر، فقد دخلت كلمات عربية كثيرة إلى اللغة الأوروبية، وانتشرت القصص الشرقية في أوروبا وظهرت في صورة جديدة في اللغات الأوروبية الناشئة التي بدأت تحل محل اللغة اللاتينية. كما تأثر الصليبيون بروعة الزجاج المصنوع في بلاد الشام ونقلوا هذا التأثير وأسرار هذه المهنة فأدى ذلك إلى ظهور الزجاج الملون الذي نشاهده في الكنائس القوطية. وشاهد الصليبيون البوصلة والبارود وأوراق الطباعة في بلاد الإسلام، ونقلوا كل هذه الأدوات والمعرفة إلى بلادهم. كما تأثر الغرب بالشعر والعلوم والفلسفة العربية التي وصلت إليهم عن طريق أسبانيا وصقلية بالإضافة إلى
_________
(1) راجع الحروب الصليبية الثالثة (صلاح الدين وريتشارد- ج2 ترجمة وتعليق حسن حبشي - الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000
(2) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 105(3/241)
الحروب الصليبية. وقد شجع هذا كله بعض العقول على التفكير وأدى هذا إلى ضعف العقيدة الكاثوليكية التي فرضتها البابوية بمعرفتها وبأساليبها المتمثلة في صكوك الغفران (1).
ومن النتائج المهمة الأخرى أن حملات الصليبيون فتحت ابواب الاسواق التجارية في الشرق ومهدت لقيام العلاقات التجارية بين الشرق والغرب، وسعت المدن الايطالية وخاصة البندقية إلى احتكار تلك التجارة وعادت عليها بالارباح والثروات (2). كما عملت الحروب الصليبية على بث النشاط في الحياة المدنية باستخدام أساليب المسلمين التجارية والصناعية، فقد عرف الصليبيون كيف يرسمون الخرائط للبحر المتوسط، وتعرف الصليبيون كذلك على آراء جديدة عن بلاد الشرق واختلاف أصقاعها، ومن هنا جاءت الرغبة في كشف المزيد من أراضي العالم وظهرت الكتب التي تصنف البلاد وترشد المسيحييين القادمين لزيارة الأراضي المقدسة.
ولا شك أن الحركة الصليبية قد أعلت من شأن البابوية في روما إلى حد كبير خاصة بعد نجاح الحملة الصليبية الأولى، فقد كان منظر الامم الأوروبية المختلفة والنبلاء والفرسان والأباطرة والملوك وهم متحدين في صفوف حملة صليبية دعا إليها البابا للدفاع عن قضية دينية، أمرا يدعو للتساؤل عن مدى عظمة الكنيسة الكاثوليكية في روما. ومع علو شأن البابوية كان مندوبو البابا يجوبون البلاد يحثون الأفراد عى التطوع للحروب الصليبية ويجمعون الأموال لها. وقد ارتاح الناس جميعاً لمثل هذا العمل الذي يخدم القضية الصليبية، ولكن عندما استخدمت هذه الأموال في أغراض أخرى غير الحملات الصليبية، وأصبح من حق البابا أن يفرض الضرائب، فقد أثار هذا التحول غضب الملوك ومقاومتهم لمثل هذا العمل. فقد كانت صكوك الغفران تمنح لمن يقوم بالخدمة العسكرية من الأوربيين في فلسطين، وكان ذلك يعتبر عملاً مشروعاً تقبله الناس، وكان منح هذه الصكوك أيضاً لمن يتكفلون بنفقات محارب صليبي من الأعمال المقبولة والمشروعة، ولكن التوسع في منح صكوك الغفران إلى الذين يؤدون الأموال أو الذين يحاربون مع الباباوات ضد الأباطرة
_________
(1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة
(2) التاريخ الاوروبي الحديث من عصر النهضة إلى مؤثمر فينا - د. عبد الحميد البطريق و د. عبد العزيز نوار - ص 46 - دار النهضة العربية للطباعة والنشر(3/242)
أو الملوك، اصبح من مصادر غضب الملوك وأتباعهم. وتعرض مثل هذا العمل للنقد والسخرية ومن جملة ما انتقدوا الكنيسة الشعراء الجوالون في جنوبي فرنسا وشمالي إيطاليا. كما ادت الحروب الصليبية إلى ثراء الأديرة، بسبب أن بعض ملاك الأراضي في أوروبا قد باعوا أراضيهم للأديرة أو رهنوها ليحصلوا بذلك على المال اللازم لسداد نفقات الحروب الصليبية، وأصبح للاديرة بفضل ذلك ضياع واسعه وسيؤدي هذا في النهاية إلى حسد الملوك (1).
ومن الحقائق الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها ما نسميه تصاعُد الحمَّى المشيحانية، أي الرغبة في العودة إلى صهيون (أي فلسطين) والاستيلاء عليها وتحويلها إلى وطن قومي يهودي. إذ من المعروف أن الشريعة اليهودية تحرِّم على اليهود العودة إلى فلسطين وعلى اليهودي أن ينتظر بصبر وأناة إلى أن يشاء الإله ويرسل الماشيَّح، فيحق له حينئذ أن يعود. ويرى كثير من المؤرخين أن حمَّى العودة ورَفْض الانتظار بدأت بين اليهود بحملات الصليبيون ووصلت إلى قمتها مع الحركة الصهيونية التي حققت النجاح لأنها جندت النزعة الدينية والاستعمارية لدى البروتستانت في المجتمع الغربي وتحالفت معها ووضعت نفسها تحت تصرفها. وما يهمنا هنا من الحركات المشيحانية حركة الماشيَّح الدجال (داود الرائي) المولود عام 1135 إذ يبدو أن هجمات الصليبيون على فلسطين، والفوضى التي أعقبتها، طرحت إمكانية العودة وتحرير القدس في مخيلة بعض أعضاء الجماعات اليهودية. وقد تركزت دعوة داود الرائي هذا في آمد (في جبال كردستان) على الطريق الإستراتيجي الموصل بين مملكة الخزر اليهودية التركية وممالك الصليبيون. ولعل شيئاً من ذكرى إمبراطورية الخزر وأمجادهم كان لا يزال عالقاً بذهن داود الرائي وأتباعه.
وقد تصاعدت الحمَّى المشيحانية مرة أخرى في القرن السادس عشر الميلادي إذ يبدو أن البابا كليمنت السابع (1524) عاودته الأحلام الاستيطانية الاسترجاعية، وكان يتصوَّر أن بإمكانه دَعْم طريق الكنيسة مرة أخرى واستعادة شيء من نفوذها عن طريق تجريد حملة صليبية. وقد أدرك هذه الحقيقة ماشيَّح دجال آخر يُسمَّى
_________
(1) تاريخ الحروب الصليبية 1095 - 1291 - د. محمود سعيد عمران- ص 347 - دار النهضة العربية للطباعة والنشر /بيروت- ط2 1999(3/243)
ديفيد رءوبيني، فادَّعى أنه ابن ملك يُدعى سليمان وأخ لملك يُدعى يوسف يحكم بعض الجماعات والقبائل اليهودية في خيبر بالقرب من المدينة المنورة. وقد أخبر رءوبيني البابا أن أخاه يتبعه ثلاثمائة ألف جندي مدربين على الحرب وأنهم لسوء الحظ ينقصهم السلاح، وطلب إلى البابا تزويدهم بما ينقصهم حتى يمكنهم طَرْد المسلمين من فلسطين. وقد استقبله البابا استقبالاً حسناً في بادئ الأمر، بل نجح في مقابلة ملك البرتغال وفي التأثير عليه. وفي تصوُّرنا أن هذه هي أول مرة يتحول فيها المشروع الصليبي للفرنجة إلى مشروع صهيوني وتقبل فيها المؤسسات الغربية استخدام المادة البشرية اليهودية المقاتلة بدلاً من المادة المسيحية. وقد تركت حروب الصليبيون تأثيراً عميقاً في إدراك الوجدان الغربي لفلسطين أو العرب، فأصبحت فلسطين الأرض المقدَّسة التي لابد أن تُسترجَع ليُوطَّن فيها عنصر مسيحي غربي، وأصبح العرب (أهل فلسطين) هم الغرباء الذين يجب استبعادهم. وقد أصبحت هذه الصيغة هي الصيغة التي تمت علمنتها فيما بعد لتصبح الصهيونية (1).
حملات الصليبيون والجماعات اليهودية في غرب أوربا وفلسطين
من المعروف تاريخياً ان الصليبيين، عندما احتلوا بيت المقدس، جمعوا يهود المدينة في الكنيس، ثم احروقوهم فيه احياء (2)، حيث كانت الحروب الصليبية قائمة أساساً على معاداة السامية، وبدأت بمهاجمة اليهود والسعي للقضاء عليهم، وكانوا يخيرون بين التنصر والموت. وقبل أن تتحرك الجيوش الصليبية إلى الشرق كانت مشغولة بتطهير أوروبا من اليهود قتلة المسيح، وجعل الصليبيون من اللاسامية مرضاً غربياً لا شفاء منه استمر متلبثاً في الغرب طوال العصور الوسطى. وفي تلك الأثناء تدفقت الهجرة اليهودية إلى الشرق هرباً من مذابح الصليبيين، وجاء موسى بن ميمون إلى مصر مع والده وكان طفلاً في الخامسة من عمره، فتعلم الطب هناك وبرع فيه، وصار طبيب صلاح الدين الأيوبي، كما كان أيضا أحد أهم المراجع الدينية
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 106
(2) فلسطين الفكر والكلمة- د. محمود السمرة- ص10، الدينيةار المتحدة للنشر، بيروت، 1974 م.(3/244)
حتى اليوم لدى اليهود، فقد أنشأ حلماً يهودياً -ولعله كان في ذلك متأثرا بالصراع على القدس- بقيام دولة لليهود على أرض إسرائيل تحكمها التوراة. وربما هذا هو ما جعل الحرب المقدسة اليهودية تنحو منحى الحرب المقدسة المسيحية، حتى إن الصهاينة المتدينين يبدون كما لو أنهم يستعيدون ويقتبسون النموذج الصليبي، ويبدو أن الحرب الصليبية ساعدت في تشكيل الصهيونية الدينية تماماً كما أنشأت اللاسامية المعادية لليهود.
وهكذا فقد ارتبطت الفكرة الصليبية ارتباطاً واضحاً ومباشراً بالنزاع الحالي في الشرق الأوسط، ففي بداية رحلتهم إلى ذات جديدة لهم ذبح الصليبيون اليهود، وفي نهاية حملتهم المرعبة ذبحوا المسلمين في القدس بوحشية تقشعر لها الأبدان، وكان الحقد على اليهود والمسلمين قد انغرس عميقاً في الهوية الغربية، ولولا اللاسامية الغربية لما قامت دولة يهودية في الشرق الأوسط. وقد شهد القرن الثامن عشر حقبة قومية ملتهبة، وظهر اليهودي عدواً للشخصية القومية، وفي ألمانيا تشكلت قومية قائمة على الشعب وليس الحضارة والمدينة، وهذه الرؤية جعلت اليهودية عدواً أساسيا للروح الألمانية، فعندما نهض هتلر مرة أخرى كان يقتل أيضاً حتى الذين اعتنقوا المسيحية من اليهود قبل مئات السنين هرباً من المذابح التي ارتكبها قادة الحروب الصليبية. وفي خضم هذه البيئة القومية المحمومة راح اليهود يلتمسون لأنفسهم حلاً قومياً، وكانت الفلسفة الأساسية للحل القومي هي إعادة الاتصال المادي بأرض آبائهم، ونشأت الحركة الصهيونية (1).
التشابه بين حملات الصليبيون والمشروع الصهيوني
رغم أن حروب الصليبيون ظاهرة مرتبطة بالتشكيل الحضاري الغربي في العصر الوسيط، فقد ساهمت هذه الحروب وبعمق في صياغة الإدراك الغربي لفلسطين والعرب. ولا يملك الدارس إلا أن يُلاحظ عمق التشابه بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني الإسرائيلي، وهذا أمر متوقع لأن كليهما جزء من المواجهة المستمرة بين التشكيلين الحضاريين السائدين في الغرب والشرق العربي،
_________
(1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة(3/245)
كما أن حملات الصليبيون هي نقطة انطلاق أوروبا نحو التوسع والإصرار على بسط سيطرتها على الخارج، حيث احتوت حملات الصليبيون بذور كل أشكال الإمبريالية الأوربية التي حكمت فيما بعد حياة جميع شعوب العالم (على حد قول أحد مؤرخي حملات الصليبيون الغربيين). ولهذا، أصبحت حملات الصليبيون صورة مجازية أساسية في الخطاب الاستعماري الغربي، وأصبحت ديباجاتها هي نفسها ديباجة المشروع الاستعماري الغربي. وقد رأى كثير من المدافعين عن المشروع الصهيوني، من اليهود وغير اليهود، أنه استمرار وإحياء للمشروع الصليبي ومحاولة وَضْعه موضع التنفيذ من جديد في العصر الحديث. فقد ألَّف سي. آر. كوندر عام 1897، وهو صهيوني غير يهودي ومؤسس صندوق استكشاف فلسطين، كتاباً عن تاريخ المملكة اللاتينية في القدس أشار فيه إلى أن الإمبريالية الغربية قد نجحت فيما أخفقت فيه الحملات الصليبية أي حملات الصليبيون. والواقع أن تصوُّره هذا يشبه في كثير من الوجوه تصوُّر الصحافة البريطانية وكذلك تصوُّر بعض أعضاء النخبة الحاكمة في بريطانيا بأن هجوم أللنبي على القدس يساوي حملة صليبية أخرى. وقد صرح لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، والذي أصدرت وزارته وعد بلفور، أن أللنبي شن وربح آخر الحملات الصليبية وأعظمها انتصاراً. ويمكننا أن نقول إن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الصليبي، بعد أن تم إحلال المادة البشرية اليهودية محل المادة البشرية المسيحية.
وقد لاحَظ روبرت برنارد سولومون، وهو ضابط إنجليزي رأس الاتحاد الصهيوني البريطاني، أوجه التشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني في دراسة له نشرها في جويش ريفيو عام 1912 تحت عنوان (مستعمرات القرن الثاني عشر في فلسطين) حيث أكد أن المشكلات التي واجهها المستوطنون الصليبيون ونجحوا في التغلب عليها تشبه من نواح كثيرة تلك المشكلات التي تواجه المستوطنين الصهاينة في فلسطين، ثم أخذ في تعداد هذه النواحي. كما أشار إلى العوامل التي أدَّت إلى انهيار ممالك الصليبيون بعبارة (المؤثرات الشرقية التي أدَّت إلى الانحلال) ليحذر المستوطنين الجدد منها. وسنحاول حَصْر جوانب الشبه بين التجربتين الصليبية والصهيونية، وتصنيفها تحت رؤوس موضوعات قد تكون متداخلة ولكنها مع هذا تيسر لنا عملية تقسيم هذه الأوجه والتعامل معها. فووجوه(3/246)
الشبه بين هاتين الدولتين صارخة اذ ان كلاً منهما حركة بنيت على الدين، مسلحة عدوانية استيطانية غربية المصدر فلسطينية المستقر، عنصرية غير انصهارية، اعتمدت على الدعم الغربي مالياً وعسكرياً ودعائياً واجتماعياً، ثم ان كلاً منهما نشأت في فترة انقسام وشردذمة الشرق (1).
ولعل نقطة التشابه الأساسية ذات طابع جغرافي ففلسطين هي النقطة المستهدفة في كل من المشروعين الصليبي والصهيوني. ويبدو أن فلسطين مستهدفة دائماً من صناع الإمبراطوريات إذ أنها تُعَدُّ مفتاحاً أساسياً لآسيا وأفريقيا، وتُعدُّ معبراً على البحرين الأحمر والأبيض، وتقف على مشارف الطرق البرية التي تؤدي إلى العراق وإيران، وهي أيضاً معبر أساسي لشطري العالم الإسلامي. وفلسطين في واقع الأمر ليست سوى جزء من ساحل طويل يضم سوريا ومصر، يشكل فاصلاً بين البحر المتوسط في الغرب والمحيط الهندي في الشرق. ويُعد هذا الموقع، بالتالي، فاصلاً بين مراكز النشاط في أوربا الغربية والشرق الأقصى. كل هذا يبين تشابك المصير بين سوريا ومصر من جهة وفلسطين من جهة أخرى، وخصوصاً أن كثافة مصر السكانية جعلتها دائماً المرشحة لقيادة المنطقة بأسرها في صراعها ضد الغزوات الغربية. ويلاحظ أن كلاًّ من المشروعين الصليبي والصهيوني اكتشف أنه لحسم الصراع لصالحه، فلابد من ضرب مصر أو على الأقل تحييدها (2).
والواقع أن الغزاة الاستيطانيين عادةً ما يسلكون طريق البحر، ثم تستقر الجيوب الاستيطانية على الساحل أو تحتفظ بركيزتها الأساسية فيه كما حدث في جنوب أفريقيا والجزائر. وكذلك، فإن الغزوتين الصليبية والصهيونية سلكتا الطريق البحري نفسه واحتلتا أجزاء من نفس الشريط البحري، وإن كان الشريط الذي احتله الصليبيون أكثر طولاً من الشريط الذي احتله الصهاينة.
أما من الناحية التاريخية، فيمكن القول بأن ثمة تشابهاً بين وَضْع العالمين العربي والإسلامي في القرن الحادي عشر ووضعهما في أواخر القرن التاسع عشر، فقد كانا في حالة انقسام وتراجع وتجزئة. فالخلافة الفاطمية في مصر كانت في
_________
(1) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص39
(2) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 107(3/247)
حالة مواجهة مع الخلافة العباسية في العراق، وقد اقتسمتا فيما بينهما العالم الإسلامي. وكان النظامان العباسي والفاطمي يعانيان من الصراعات الداخلية والمؤامرات. وهما، في هذا، يشبهان النظام السياسي العربي المعاصر، المتجزئ، المنقسم على نفسه، المتصارع مع ذاته (1).
والغزوتان الصليبية والصهيونية تهدفان إلى حل بعض مشاكل المجتمع الغربي وتخفيف حدة تناقضاته. فالمجتمع الوسيط الغربي كان يخوض عملية بَعْث اقتصادي فتحت شهيته للاستيلاء على طرق التجارة المتجهة إلى الشرق. وهذا يشبه من بعض الوجوه، وإن كان بدرجة أقل، انفتاح شهية رجل أوربا الشره في القرن التاسع عشر الميلادي الذي لم يهدأ له بال إلا بعد أن وقع العالم كله في قبضته. وقد استخدمت أوربا كلا المشروعين، الصليبي والصهيوني، في التخلص مما أطلق عليه في القرن التاسع عشر الميلادي (الفائض البشري)، أي العناصر التي لم تستطع أن تحقق الحراك الاجتماعي داخل مجتمعاتها ولذا كانت تهدِّد السلام الاجتماعي ولم يكن هناك مفر من تصديرها للشرق حتى يحقق الغرب سلاماً اجتماعياً داخلياً. فالمشروع الصليبي كان يهدف أيضاً إلى تخليص أوربا من فائضها البشري الذي كان يهدد سلامها الاجتماعي حسب تصوُّر البعض على الأقل.
ومن نقط التشابه الأخرى أن المشروعين الصليبي والصهيوني مشروعان استعماريان من النوع الاستيطاني الإحلالي. فالمشروع الصليبي كان يهدف إلى تكوين جيوب بشرية غربية وممالك فرنجية تدين بالولاء الكامل للعالم الغربي. ولذا، لم تأت الجيوش وحسب، وإنما أتى معها العنصر البشري الغربي المسيحي ليحل محل العنصر البشري العربي الإسلامي. وهو في هذا لا يختلف عن المشروع الصهيوني إلا في بعض التفاصيل. فغزو فلسطين تم أولاً على يد القوات البريطانية، ثم حَضَر المستوطنون الصهاينة بعد ذلك بوصفهم عنصراً يقوم بالزراعة والقتال. وقد كانت المؤسسات الاقتصادية للصليبيين، مثلها مثل قرينتها الإسرائيلية، تتسم بطابع عسكري. كما أن التنظيم الاقتصادي التعاوني لم يكن مجهولاً لدى الصليبيون.
_________
(1) انظر: مستقبل اسرائيل بين الاستئصال والتذويب "دراسة حول المشابهة التاريخية بين الغزوة الصليبية والغزوة الصهيونية"- كمال محمد الاسطل - ص 30 - دار الموقف العربي للصحافة والنشر والتوزيع - القاهرة(3/248)
ويمكن القول بأن دويلات الصليبيون، مثلها مثل الدولة الصهيونية، كانت ترسانات عسكرية في حالة تأهب دائم للدفاع عن النفس وللتوسع كلما سنحت لها الفرصة. ويُلاحَظ أن كلاًّ من ممالك الصليبيون والدولة الصهيونية، بسبب طبيعتها الإحلالية، خلقت مشكلة لاجئين. كما يُلاحَظ أن هؤلاء اللاجئين تحوَّلوا إلى وقود جنَّد سكان المنطقة ضد الدولة القلعة (1).
ومن المعروف أن الكيانات الاستيطانية لا تفقد صلتها قط بالوطن الأم بل تعتمد عليه اعتماداً يكاد يكون كاملاً لأنها، بسبب تناقضها الجوهري مع البيئة المحلية التي تلفظها، تستمد مقومات الحياة من دعم عسكري ومالي وهوية ثقافية ومادة بشرية من وطنها الأصلي. وهذه سمة أساسية في الكيانين الصليبي والصهيوني، مع تنويعات فرعية تنصرف إلى التفاصيل لا الجوهر. فمثلاً اعتمدت ممالك الصليبيون على كل أوربا كمصدر للدعم، ولكن اعتمادها كان على فرنسا بالدرجة الأولى. وكذلك، فإن الدولة الصهيونية التي اعتبرت أوربا قاعدتها الإستراتيجية واعتمدت على معظم دول العالم الغربي الرأسمالي مع التركيز على بلد واحد هو إنجلترا ثم فرنسا لفترة قصيرة وأخيراً الولايات المتحدة منذ منتصف الستينيات. ومع سقوط الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي تطرح الدولة الصهيونية نفسها باعتبارها قاعدة للحضارة الغربية كلها في مواجهة العالم الإسلامي. ويشير أحد الدارسين الإسرائيليين إلى أنه كان هناك جباية صليبية موحدة تماماً مثل الجباية اليهودية الموحَّدة.
وقد جاءت المادة البشرية لكلا المشروعين من العالم الغربي. ولكنهما، مع هذا، لم يحققا التجانس العرْقي المطلوب لتحقيق شيء من التوازن داخل التجمُّع الاستيطاني، فتولدت درجة عالية من التوتر. فممالك الصليبيون كانت تضم في بادئ الأمر عنصراً فرنسياً غالباً بالإضافة إلى عنصر إيطالي انقسم بدوره إلى جنوي وبندقي نسبة إلى جنوة والبندقية. ولكن عناصر أخرى انضمت إلى هذين العنصرين، مثل: الأرمن وبعض العناصر المسيحية المحلية والمسلمين الذين تنصروا. كما أن ممالك الصليبيون نفسها استوعبت، بمرور الزمن، العناصر الثقافية من البيئة
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 107(3/249)
المحلية. ولكن، ومع هذا، يمكن القول بأن ممالك الصليبيون احتفظت بقدر من التجانس أعلى كثيراً مما حققه الكيان الصهيوني. فهذه الممالك ظلت فرنجية (فرنسية)، كما أن أعضاء النخبة الحاكمة التي كانت عناصرها الأساسية من الصليبيون ظلت متماسكة، وكذلك كانت الهوية الثقافية مستمدة من فرنسا. ويلاحظ أن أوربا في ذلك الوقت لم تكن قد انقسمت بعد إلى كيانات قومية لكل منها لغتها، وكانت اللاتينية لغة العبادة والفكر. وكان التشكيل الحضاري يتمتع بشيء من الوحدة الثقافية، على الأقل، بالقياس إلى فترة التفتت القومي التي بدأت بعصر النهضة (1).
وقد حاول التجمع الصهيوني أن يحتفظ بهوية إشكنازية متجانسة تستند إلى تجربة شرق أوربا. ولكن أوربا، في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت ذات تشكيل حضاري مقسم إلى كيانات قومية مختلفة تتحدث لغات مختلفة، فجاء يهود من المجر ورومانيا وألمانيا وإنجلترا وفرنسا، كلٌّ يتحدث لغته. وجاء من شرق أوربا نفسها أنواع غير متجانسة، فثمة يهود جاءوا من بولندا يتحدثون البولندية، وآخرون جاءوا من رومانيا يتحدثون الرومانية، ومن روسيا جاء من يتحدث الروسية إلى جانب الأغلبية التي تتحدث اليديشية. كما كان النسق الديني اليهودي في حالة تفتُّت وتراجُع ومن ثم نجد أن هناك يهوداً أرثوذكس ويهوداً إصلاحيين أو محافظين أو قرّاءين ... إلخ. ثم اجتاحت التجمع الصهيوني الكثافة السكانية الوافدة من العالمين العربي والإسلامي التي غيَّرت بنيته السكانية وتوجُّهه الثقافي بحيث أصبحت أغلبية العنصر اليهودي شرقية تحكمها أقلية إشكنازية. ولكن الدولة الصهيونية تحاول مع هذا أن تحتفظ بالتوجه الإشكنازي للمجتمع، إذ يتضح هذا في تشجيع الهجرة من الاتحاد السوفيتي وفي المناخ الثقافي الذي تفرضه المؤسسة الحاكمة، وهذا الوضع يُولِّد الكثير من التوتر.
ويُلاحظ الصحفي الإسرائيلي يوري أفنيري أن كلاًّ من التجمعين الصليبي والصهيوني تكوَّن من ثلاث طبقات ذات طابع عرْقي: الطبقة الحاكمة من المسيحيين الغربيين في دويلات الصليبيون يقابلها اليهود الإشكناز في الدولة الصهيونية. ثم
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 108(3/250)
يأتي في المرتبة الثانية مواطنو الدرجة الثانية من المسيحيين الشرقيين في دويلات الصليبيون يقابلهم اليهود الشرقيون في الدولة الصهيونية. وأخيراً يأتي مواطنو الدرجة الثالثة وهم المسلمون واليهود وبعض المسيحيين العرب في دويلات الصليبيون، والمسلمون والمسيحيون العرب في الدولة الصهيونية.
والمجتمع الاستيطاني مجتمع مزروع أو مشتول في العادة، فهو يأخذ شكل الدولة الجيتو أو الدولة القلعة، التى تقوم بدور أوكل إليها في جمع الضرائب والإيجارات والإشراف على إدارة مصالح اسيادها حيث تحميها القوة العسكرية. وهذا المجتمع منعزل عن بيئته وينصرف جزء كبير من نشاطه إلى عملية القتال ضد السكان المحليين. وهذه مسألة ليست عرضية وإنما هي مسألة جوهرية وتنبع من الوظيفة نفسها. والعالم الغربي يزود الجيوب الاستيطانية بالعون ومقومات الحياة حتى تظل ركيزة لنشاطاته الإمبريالية والتوسعية. وينطبق هذا الوضع على الجيبين الصليبي والصهيوني، وإن كان يبدو أن الدعم الغربي للجيب الصهيوني يفوق الدعم الغربي للجيب الصليبي (1).
كما أن أزمة التجمُّع الصليبي لا تختلف عن أزمة التجمع الصهيوني. فيُلاحَظ أن الكيان الصليبي كان يعاني من أزمة سكانية لا تختلف كثيراً عن أزمة المستوطن الصهيوني، وذلك نظراً لانخفاض عدد سكان أوربا عام 1300 بعد انتهاء فترة تزايد السكان، الأمر الذي أدَّى إلى عدم مجيء المزيد من المادة البشرية، كما كان الكيان الصليبي يعاني من تناقص نسبة المواليد. وكان كثير من الأراضي التي ضمها الصليبيون يزرعها سكانها الأصليون العرب. بل إن بعض الأقنان الذين جاءوا مع حملات الصليبيون اشتغلوا بأعمال أخرى غير الزراعة، نظراً لعدم درايتهم بالتربة وربما لتفتُّح فرص اقتصادية أخرى بحيث أمكنهم العمل في التجارة. ويشبه هذا زحف العرب التدريجي على الزراعة داخل المُستوطَن الصهيوني وضمن ذلك الكيبوتسات، وتحوُّل المستوطنين الصهاينة إلى مهام أخرى غير الزراعة.
ولا تنحصر نقاط التشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني في الظروف الاجتماعية والجغرافية المحيطة بكل منهما، ولا في بنية الكيانين فقط، وإنما تمتد
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 108(3/251)
نقاط التشابه هذه لتضم الديباجات والقصد. فقد قُدِّمت تبريرات للمشروعين وتم الدفاع عنهما عن طريق ديباجات دينية تستخدم الرموز الدينية وتوظفها في عملية التعبئة العسكرية. والرموز الدينية المستخدمة هي في واقع الأمر رموز عرْقية أو إثنية أو قومية رغم طلائها الديني اللامع. ومن هنا كانت عنصرية الديباجات الصليبية والصهيونية. ومن هنا أيضاً كان تمييزها الحاد بين البشر وتقسيمهم إلى أدنى وأعلى، أو حاضر وغائب، أو فئة لها كل الحقوق وفئة لا حقوق لها على الإطلاق ... إلخ. وهذا مختلف تماماً عن إيمان الديانات التوحيدية الثلاث بالمساواة بين البشر والتي تصدُر عن الإيمان بأننا نولد جميعاً من آدم وآدم من تراب. ويُلاحَظ أن ديباجات الصليبيون والصهاينة ترى غزو فلسطين في إطار فكرة أن الغزاة شعب مقدَّس أو مختار. وكان يسيطر على كل من الصليبيون والصهاينة تفكير نخبوي يجعل زعماءهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم طلائع شعوبهم التي ستحمل السلام لتخلِّص الأرض المقدَّسة، وأن هذه الحملة العسكرية إن هي إلا خروج ثان يشبه خروج العبرانيين من مصر إلى كنعان. وقد ارتبطت الديباجات في كلا المشروعين بالأحلام الألفية في استرجاع فلسطين بعد عودة المسيح أو تمهيداً لعودته (1).
مركزية حملات الصليبيون في الوجدان الصهيوني/الإسرائيلي
تستخدم الحركة الصهيونية التاريخ بمختلف مناهجه لدراسة ظاهرة الحروب الصليبية أو) تاريخ المملكة اللاتينية (كما يحلو لمؤرخيهم تسميتها، اذ ان هناك مؤسسات علمية بحثية تقوم بتنظيم فرق بحث لدراسة تاريخ الحملات الصليبية لتستخلص منها العبر، ومن خلال استخلاص تلك العبر تقوم بالكشف والتنقيب عن النموذج المماثل لها في التاريخ ليتم الكشف عن اوجه التشابه بين التجربتين. حيث التمزق والتشرذم الذي تعانيه الامة آنذاك، وتعانيه اليوم، وبالصورة نفسها بل اكبر وبشكل مكثف جداً وابشع على الرغم من انتصار الصليبيين آنذاك لم يكن تعبيراً حقيقياً عن موازين القوى، فقد كانت الجيوش العربية، وموارد المنطقة البشرية
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 109(3/252)
تكفل هزيمه ساحقة إذا ما جمعتها جهة موحدة، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك، ولكن التشرذم العربي، بل ومساندة بعض المسلمين للجيوش الصليبية، وميراث الحقد والشك والضغائن بين حكام المنطقة جعلت انتصار الصليبيين امراً منطقياُ. وهذا من أهم عوامل انشغال الوعي الصهيوني بهذه الحروب وبتلك الحملات، حيث أخذت حيزاً مهماً من انشغال العاملين في الابحاث الاستشراقية والصراعية، فتتم دراسة الوقائع والتطورات والعبر ذات الصلة بالحملات الصليبية ومواجهتها، ودراسة الظروف العربية التي سبقت وسادت القرنيين الثاني عشر والثالث عشر، والوقوف ملياً عند معركة حطين عام 1187م: مقدماتها ومجرياتها ونتائجها والدروس المستخلصة منها، مع محاولة صهيونية مكشوفة لتزوير التاريخ بجانب أو بآخر مما يتصل بالفترة المدروسة (1).
ونظراً للتشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني، ونظراً لأن كليهما اتخذ فلسطين ساحة لتنفيذ أحلامه، نجد أن الوجدان الصهيوني منشغل إلى أقصى حد بالمشروع الصليبي، وخصوصاً أن الصليبيون قد رحلوا ولم يتركوا شيئاً خلفهم سوى بعض القلاع التي يزورها السائحون ويدرسها علماء الآثار من الإسرائيليين والعرب. ويحاول الدارسون الصهاينة أن ينظروا إلى مشروع الصليبيون من منظور ما يسمونه (التاريخ اليهودي) وكأن حملات الصليبيون جُرِّدت بالدرجة الأولى ضد اليهود، تماماً مثلما يمنحون الجماعات اليهودية مركزية في كل الأحداث التاريخية. وتتحدث الكتابات الصهيونية الإسرائيلية عن ضحايا حملات الصليبيون وكأنهم الضحايا الوحيدون، بل تدَّعى بعضها دوراً يهودياً مستقلاًّ في صد الصليبيون، وهو الأمر الذي يتنافى تماماً مع حقائق التاريخ. ولكن أهم جوانب الاهتمام الصهيوني الإسرائيلي بالكيان الصليبي هو دراسته من منظور الصراع العربي الإسرائيلي، بمعنى عَقْد الدراسات المقارنة في مشاكل الاستيطان ومشاكل الموارد البشرية والعلاقات الدولية فضلاً عن محاولة فَهْم عوامل الإخفاق والفشل التي أودت بالكيان الصليبي. وهناك من يهتم بدراسة المقومات البشرية والاقتصادية والعسكرية للكيان
_________
(1) الاستشراق و ابحاث الصراع لدى اسرائيل - ابراهيم عبد الكريم ـ ص 226 - دار الجليل، 1993.(3/253)
الصليبي، ومن يهتم برصد العلاقة بين هذا الكيان والكيان الأوربي المساند له. وقد وجَّه فريق من الباحثين اليهود اهتمامه لدراسة مشكلات الاستيطان والهجرة (1).
فالباحثون الاسرائيليون يولون الصليبيات عناية فائقة، لانهم يرون فيها الحركة الرائدة والتجربة السالفة. فالغزو الصهيوني يشبه في غزوه واحتلاله الغزو الصليبي، لهذا فإنهم يهتمون بالمشكلات التى واجهت الصليبيات، الامن، الاستيطان، والعمائر والمستوطنات الحربية، ونقص في الطاقات البشرية، ويدرسون الموقف في الشرق العربي الإسلامي. وهناك فرق عمل كاملة في الجامعات العبرية تخصصت في دراسة الحروب الصليبية، يهوشع بروار، وميرون بنفينستي، وبنيامين اربل، وآرييه جرابوس، ويأتيل كاتزير، والقائمة طويله، يكتبون بالعبرية والانجليزية والفرنسية والالمانية والايطالية والروسية، ويتابعون ما ينشر عن الصليبيات في العالم اجمع. ويشاركون في الجمعيات العلمية المهتمة بدراسة الصليبيات مثل جمعية دراسة الحروب الصليبية والشرق اللاتيني بانجلترا، الصليبيات في حد ذاتها لا تهمهم، وانما يهتمون بها لكونها نقله بين الحركة الصهيونية والمستقبل، ولاسقاط التاريخ على الواقع المستقبلي.
ودرسوا القلاع الصليبية ونظم التحصيين الصليبي في مرتفات الجولان، وحللوا رحلات الحجاج والتغيير في الرؤية للارض المقدسة، درسوا الجغرافيا التاريخية لفلسطين ابان الحروب الصليبية، وتاريخ اليهود والاحياء اليهودية والاستيطان الصليبي، والاقطاع وقوانين الادارة والتجارة والحدود، والسقوط المفاجئ لمملكة بيت المقدس، وطرد آخر بقايا الصليبيين غذاة سقوط عكا، هذه المسألة في الماضي، وممتدة في المستقبل. فالاسرائيليون يتحسسون في الصليبيات مصير الغذ. ولهذا ففد شغلت الحروب الصليبية عدداً كبيراً من العلماء والباحثين في اسرائيل، حتى اصبحت الجامعة العبرية من أهم مراكز الأبحاث الصليبية في العالم يستخرجون
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 110(3/254)
العبر من دراسة تلك التجربة التاريخية الحية لمجتمع أجنبي حل في البلاد المقدسة، واستقر فيها قرابة قرنين من الزمن (1).
وهنا لا يجوز بحث موضوع الدراسات الصهيونية للحركة الصليبية دون الاشارة إلى يهوشع برافر عميد الدراسات الصليبية. وهو المؤسس الأول لهذه الدراسات، حيث تتميز دراساته بأنه أول من نظر إلى الحركة الصهيونية على انها حركة استيطانية كولونية. فكتب ابحاثاً رائدة في مشروع الدولة الجديدة، ومهد لتلاميذه الذين اصبحوا زملاءه فيما بعد، سبل البحث في كيان الدولة ومؤسساتها وطبيعة الحكم فيها والاسس التشريعية لهذا الحكم، ونظامها العسكري، وتطور مفهومها الأمني وتأثير العوامل الجغرافية، كالصحراء على الاعتبارات الاستراتيجية، وطبيعة علاقة الصليبيين بالسكان المحليين المدعوين بالاقليات من مسلمين ومسيحيين شرقيين ويهود، وبدو، واسماعيلية، وموارنه بكثير من التفاصيل ... ودرسوا الحياة الفكرية والعقلية في تلك الفتره ... وقد ركزوا أيضاً في الدراسات الإسلامية، اذ درسوا الوضع السياسي والاجتماعي المعاصر في المجتمع العربي الإسلامي، والحياة العقلية والفكرية والادب والاشعار والامثال الدارجة في تلك الفترة ثم بحثوا في فكرة الجهاد وفاعليتها في تحريض المسلمين على القتال. كما درسوا طبيعة الحكم والعلاقات الطبقية والتجارية والزراعية ومدى انعكاس هذه العوامل على الدولة الصليبية.
وليس ادل على نشاط العلماء الاسرائيليين في هذا المجال هو كثرة عضويتهم في (جمعية دراسة الصليبيات والشرق اللاتيني) ومركزها بريطانيا، اذ ينضم الآن إلى هذه الجمعية خمسة وعشرون عالماً وعالمة من اسرائيل من اصل 227 من جميع انحاء العالم، مقابل سبعة علماء عرب!! والابحات الصهيونية في الصليبيات على كثرتها تكاد تنحصر في مملكة القدس اللاتينية. ولا تتخطاها الا في النادر لدراسة الامارات الصليبية الاخرى في طرابلس وانطاكيا والرها، وقد يعكس هذا اهتمام الاسرائيليين عموماً بالتركيز في التاريخ غير العربي الإسلامي
_________
(1) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص35 أو انظر كتاب فوشيه الشارتري، تاريخ الحملة إلى القدس- ترجمة د. زياد العسلي ص5 - دار الشروق - ط1 1990(3/255)
لفلسطين، ولكن على اي حال لا يدل على اهتمام علمي مجرد بالوجود الصليبي في الشرق بعامة بل ينحصر ذلك في الكيان الذي قام في الاراضى المقدسة. ويستاء الصهيونيون من مقارنة حركتهم بالحركة الصليبية لما تتضمنه تلك المقارنه من جعل اسرائيل عنصراً دخيلاً على الشرق سيلفظه كما لفظ الدولة الصليبية من قبل. ونعتقد ان تشريحهم للكيان الصليبي يستهدف استخلاص العبر التى تمكنهم من تجنب ذلك المصير، ونرى انهم نجحوا بالفعل في تفادي اخطاء الصليبيين في عدة نواح اساسية (1).
والاهتمام الصهيوني بالحروب الصليبية لا يقتصر على الدوائر الأكاديمية، فنجد أن شخصيات سياسية عامة مثل رابين وديان وأفنيري يهتمون بمشاكل الاستيطان والهجرة. ففي سبتمبر 1970، عقد إسحق رابين مقارنة بين ممالك الصليبيون والدولة الصهيونية حيث توصَّل إلى أن الخطر الأساسي الذي يهدد إسرائيل هو تجميد الهجرة، وأن هذا هو الذي سيؤدي إلى اضمحلال الدولة بسبب عدم سريان دم جديد فيها. ويعقد أفنيري في كتابه إسرائيل بدون صهيونية (1968) مقارنة مستفيضة بين ممالك الصليبيون والدولة الصهيونية يخلص فيها إلى أن المقارنة درس لابد أن يتعلم منه الصهاينة، فإسرائيل مثل ممالك الصليبيون مُحاصَرة عسكرياً لا لأن هذا هو المصير الموعود (الذي لا مفر منه) كما يتصور بعض الصهاينة، وإنما هي مُحاصَرة عسكرياً لأنها تجاهلت الوجود الفلسطيني ورفضت الاعتراف بأن أرض الميعاد يقطنها العرب منذ مئات السنين.
وقد عاد أفنيري إلى الموضوع، عام 1983، بعد الغزو الصهيوني للبنان، في مقال نشر في (هاعولام هزاى) بعنوان (ماذا ستكون النهاية) فأشار إلى أن ممالك الصليبيون احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التي احتلتها الدولة الصهيونية، وأن الصليبيون كانوا قادرين على كل شيء إلا العيش في سلام، لأن الحلول الوسط والتعايش السلمي كانا غريبين على التكوين الأساسي للحركة. وحينما كان جيل جديد يطالب بالسلام كانت مجهوداتهم تضيع سدى مع قدوم تيارات جديدة من
_________
(1) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص38(3/256)
المستوطنين، الأمر الذي يعني أن ممالك الصليبيون لم تفقد قط طابعها الاستيطاني. كما أن المؤسسة العسكرية الاقتصادية للفرنجة قامت بدور فعال في القضاء على محاولات السلام، فاستمر التوسع الصليبي على مدى جيل أو جيلين. ثم بدأ الإرهاق يحل بهم، وزاد التوتر بين المسيحيين الصليبيون من جهة وأبناء الطوائف الشرقية من جهة أخرى، الأمر الذي أضعف مجتمع الصليبيون الاستيطاني، كما ضعف الدعم المالي والسكاني من الغرب. وفي الوقت نفسه، بدأ بعث إسلامي جديد، وبدأت الحركة للإجهاز على ممالك الصليبيون، فأوجد المسلمون طرقاً تجارية بديلة عن تلك التي استولى عليها الصليبيون. وبعد موت الأجيال الأولى من أعضاء النخبة في الممالك، حل محلهم ورثة ضعفاء في وقت ظهرت فيه سلسلة من القادة المسلمين العظماء ابتداءً من صلاح الدين ذي الشخصية الأسطورية حتى الظاهر بيبرس. وظل ميزان القوى يميل لغير صالح الصليبيون، كما لم يكن هناك ما يوقف هزيمتهم النهائية. وقد ترك هذا الحدث التاريخي بصماته وآثاره في وعي شعوب المنطقة حتى اليوم (1).
كما انعكس هذا الاهتمام الصهيوني بفترة الحروب الصليبية على مجال الادب حيث تعددت الاعمال الادبية العبرية التي تربط بين المشروعين الصليبي والصهيوني، وذلك لكونهما يتخذان من الغيبيات ذريعة للاستيلاء على فلسطين بغرض زرع كيان غريب فيها. ومن الادباء من لجأ إلى تلك الاحداث بغرض تذكير القارئ العبري بالمصير المؤلم الذي انتهت اليه الحملات الصليبية بعد ان لفظتها المنطقة، من منطلق التلميح إلى ان هذا هو ما يمكن ان يكون ايضاً مصير الدولة العبرية. وأما البعض الآخر، فقد لجأ اليه بغرض لفت نظر القارئ إلى الأخطاء التى ارتكبها الصليبيون، والتي يتحتم على الكيان الجديد أن يتحاشاها حتى يجنب نفسه التعرض للمصير نفسه (2).
ولو تأملنا الابحاث الصهيونية في الصليبيات فإننا سنجد، انها على كثرتها - تنحصر- كما نبه إلى ذلك الدكتور شاكر مصطفى - في نقطة وحيدة هي: "كيف تم
_________
(1) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 110
(2) القصة العبرية المعاصرة بين الحلم الصهيوني والكابوس الصليبي- د. علي عبد الرحمن استاذ الادب العبري بجامعة عين شمس(3/257)
طرد الصليبيين من هذه البقاع نفسها التي يحتلونها". لهذا لا يهمهم بحث ما قتله الغربيون بحثاً. ولكن تهمهم الرمال المتحركة تحث الغزاة في فلسطين (1). وهذا يعني ان الموقف اليهودي من الحركة الصليبية نابع من ادراكهم حقيقة الوظيفة الحضارية للتاريخ كعلم، فهم يدرسون تاريخ الحركة الصليبية مع التركيز في الوجود اللاتيني في ارض فلسطين، وطبيعة علاقات الصليبيين بشعوب المنطقة وعوامل النجاح التى حققت لهم الانتصارات الأولية، ثم عوامل الفشل والاخفاق التى ادت إلى رحيل الصليبيين من المنطقة العربية ونهاية دولتهم .... فالتشابه بين التجربتين الصليبية والصهيونية هو الذى يغرى الكثيرين من الدارسين اليهود بدراسة تاريخ الحركة الصليبية، وتسخير نتائج دراساتهم في دراسة مستقبل الكيان الصهيوني (2). وهنا فإن الصهيونيون يستاءون من مقارنة حركتهم بالحركة الصليبية لما تتضمنه تلك المقارنه من جعل اسرائيل عنصراً دخيلاً على الشرق سيلفظه كما لفظ الدولة الصليبية من قبل (3). والواقع أن اهتمام المستوطنين الصهاينة بممالك الصليبيون تعبير عن إدراك أوَّلي لطبيعة دورهم في المنطقة كدولة وظيفية تكون مجرد أداة في يد قوى عظمى خارجية، وهو إحساس يشوبه قسط كبير من القدرية والعدمية الناجمة عن إحساس الأداة بأنها لا تمتلك ناصية أمورها ولا تسيطر على مصيرها أو قدرها (4).
مواجهة الهجمة الصليبية الجديدة
من العرض السابق يتضح لنا حجم التشابه بين الحملة الصليبية في الماضي والحاضر، وهذا يعنى ان المسلمون عندما يربطون اليوم، الإمبريالية الغربية والحملات التبشيرية المسيحية بالصليبيين، فإنهم ليسوا علي خطأ فيما ذهبوا إليه.
_________
(1) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص39
(2) رؤية اسرائيلية للحروب الصليبية: د. قاسم عبده قاسم ص248
(3) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص39
(4) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص 110(3/258)
فعندما وصل الفرنسيون إلي دمشق، سار قائدهم في موكب إلي ضريح صلاح الدين في المسجد الكبير وصرخ قائلاً بالفرنسية ما معناه بالعربية (يا صلاح الدين ـ لقد عدنا). وعندما وصل الجنرال اللنبي إلي القدس عام 1917، أعلن أن الحملات الصليبية قد انتهت، وهو بإعلانه انتهاء الحروب الصليبية فقد وضع في فلسطين أسس نظام تمييز عنصري يقضي بفصل الأهالي الأصليين في مناطق معزولة، مولداً بذلك الكراهية والحروب التي كان صلاح الدين قد وضع حداً لها منذ عام 1187 وحتى عدة قرون من بعده وذلك حين دخل منتصرا إلى القدس فأعاد فتح المعابد اليهودية والكنائس المسيحية (1).
وهنا يجب ان نؤكد ان المسلمون يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن الإسلام سيجدد نفسه وينجب صلاح الدين الجديد الذي سيحرر القدس حتي بعد 200 سنة من الآن. فقد كانت التجربة الأولي لمسلمي المشرق مع المسيحيين في الغرب خلال الحروب الصليبية عام 1099، عندما احتل الصليبيون القدس وذبحوا حوالي 30 ألف مسلم ويهودي في المدينة التي تحولت من مدينة مقدسة مزدهرة إلي بركة من الدماء نتنة الرائحة. وتمكن المسلمون المشتتون من إعادة توحيد صفوفهم وتحرير المسجد الأقصى وتحقق النصر. وهنا فإن المسجد الاقصى يجسد النصر الذي احرزه المسلمون على الصليبيين بريادة عماد الدين زنكي الرائد الأول لقيادة المسلمين إلى قتال الصليبيين في العراق وغيرها من الحدود المتاخمة لهم. ثم تبعه- ولكن بصورة أكثر واشرس- القائد الرباني نور الدين زنكي، الذي صنع منبراً للمسجد الأقصى الاسير، متفائلاً وموقناً بنصر الله للمسلمين. ثم توجت هذه الانتصارات بالقائد المظفر البطل صلاح الدين الايوبي الذي وحد الجبهتين (المصرية والشامية) ضد الغزو الصليبي المتمركز في تلك البلاد حت انتصر في المعركة الفاصلة (حطين) سنة 583 هـ (1187م) (2).
_________
(1) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ ترجمة وتقديم د. منى طلبه - د. انور مغيث- ص190 - دار الشروق- ط3 2002
(2) الشبه بين الحرب الصلبيبية والحركة الصهيونية- عبد اللطيف زكي ابو هاشم - مجلة الفيصل - عدد 334 - ص36(3/259)
ونعتقد ان هذا الامر يمكن ان يتكرر لو تمكن المسلمون من وضع الهجمة الصليبية الجديدة في اطارها الصحيح كما فعل اجدادنا الاوائل، الذين لم ينتصروا الا بعد ان استطاعوا فهم طبيعه هذه الهجمة وطبيعة الرد المطلوب عليها. فالبرغم من ان نظرة الاوربيين للحملات الصليبية الأولى كانت نظرة دينية لاسترجاع القبر المقدس من ايدى المسلمين، الا انه في المقابل كان المؤرخون المسلمون الذين كتبوا عن الحروب الصليبية- في بدايتها- يرونها حملات عسكرية توسعية اقتصادية ولم يربطوها أبدا بالدين المسيحي، كما هو الوضع الآن. غير ان الامر اختلف كلياً مع ظهور عماد الدين زنكي الذي بدأ حملة مضادة لمواجهة الصليبيين، واستعيدت من جديد قيم الجهاد وأفكاره لتجميع المسلمين في مواجهة الصليبيين، وتحولت الحرب لدى المسلمين من علمانية للتحرير والدفاع إلى حرب ممزوجة بالكرامات الدينية، وتصاعدت الوتيرة الدينية للحرب بمجيء محمود نور الدين زنكي بعد مقتل أبيه عماد، فقد كان محمود بخلاف أبيه متديناً (1). ونعتقد ان مواجهة الصليبيون الجدد يكون من خلال وضع هذه الهجمه في اطارها الصحيح من حيث اهدافها وطبيعتها، وكيفية مواجهتها وهذا ما حاولناه في هذا الكتاب.
من هم الصليبيون الجدد .. ؟
اول خطوة في المواجهة هي تحديد المفاهيم وبالذات المقصود بـ (الصليبيون الجدد) حتى لا يختلط علينا الامر. فمواجهة المسيحية الصهيونية بما تشكله من خطر على المنطقة والعالم، يتطلب حشد كافة الامكانيات والجهود الخيره في العالم. ولكن نظراً لارتباط تسميتها بالمسيحية فإنه من الضروري ازالة هذا اللبس، وفصل الحب عن القشور، حيث يعتبر ذلك الخطوة الأولى في المواجهة. فكما وضحنا خلال هذا الكتاب وفي مناطق مختلفة الفروقات بين الطوائف المسيحية المختلفة في نظرتها إلى العلاقة باسرائيل والنبوءات التوراتية، وهو امر مهم حتى لا تختلط علينا الامور. فنحن لا نهدف إلى القول بأن كل مسيحيي العالم يؤمنون بخرفات الصهيونية المسيحية، بل إن هذا الأمر مقصور فقط على اتباع المذهب البروتستانتي الذين
_________
(1) الحرب المقدسة .. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم- كارين أرمسترونغ-عرض/ إبراهيم غرايبة(3/260)
ينتشرون في أمريكيا وبريطانيا وبعض الدول الأوربية، أما الطوائف المسيحية الأخرى - كاثوليك وارتوذكس - فلا يؤمنون بالتفسيرات والنبوءات التوراتية الخاصة بإسرائيل كما وردت في الكتاب المقدس، ولهم موقفهم الخاص من اليهود وإسرائيل، والذي يصل إلى حد العداء، وليس أدل على ذلك من أن البابا بولس السادس بابا الفاتيكان السابق وراعى الكنيسة الكاثوليكية - اكبر الكنائس المسيحية في العالم - رفض كثير من المواقف الإسرائيلية. كما إن الكنيسة الارتوذكسية لها موقف اكثر حدة من اليهود، حيث يرفض اتباعها الذين ينتشرون في روسيا واليونان والدول العربية مواقف إسرائيل المختلفة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. وفي الازمه التي مرت بها المنطقة، بسبب الحرب على العراق دعت الكنيستان الكاثوليكه والارتوذكسية إلى تجنب نزاع بين المسيحية والإسلام حيث جاء هذا على لسان البابا يوحنا بولس الثاني، والبطريرك اليكسى الثاني رأس الكنيسة الارتوذكسية.
فالصليبيون الجدد الذين نتحدث عنهم هنا هم اتباع المذهب البروتستانتي الذي ظهر مع ما سمى بحركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، حيث يأخذ اتباع هذا المذهب بالتفسير الحرفي للإنجيل، وقاموا بالسعى من اجل تحقيق كافة النبوءات الواردة فيه والخاصة باليهود ودولة إسرائيل، ولا يزالون حتى هذه اللحظة يعدون العدة لتنفيذ باقي النبوءات والخرافات التوراتية وبالذات فيما يتعلق بمدينة القدس والمسجد الأقصى، ومعركة هرمجيدون.
أما بالنسبة لموقف المسيحيين العرب، فلا مجال هنا للمس بهم وبمواقفهم المشرفة عبر التاريخ وبنضالهم في سبيل نصرة قضايا أمتهم العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، حيث شاركوا بكل قواهم في التصدي للخطر الصهيوني سواء بدمائهم أو بأقلامهم التي كانت لها صولات وجولات في فضح الخطر الصهيوني والتصدي له من خلال كتابات ومواقف كثيرة، ونخص بالذكر هنا موقف الكنيسة القبطية المصرية وعلى رأسها قداسة البابا شنوذة الذي اصدر أوامره إلى اتباعه بعدم زيارة مدينة القدس ما دامت تخضع للاحتلال الإسرائيلي هذا بالرغم من وجود اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، كما أن البطريرك الماروني نصر الله صفير قال(3/261)
تعليقاً على حرب أمريكيا على أفغانستان وبعض دول المنطقة: إن المسيحيين في لبنان جزء من الشرق، وان الاعتداء على هذا الشرق اعتداء على المسيحية.
وفي مقال رائع في جريدة الخليجبعنوان (المسيحيون ملحُ العروبة) كتب محمد خالد موضحاً العلاقة الازلية بين العرب مسلميين ومسيحيين قائلاً: الإسلام هو المشروع الحضاري التاريخي للعرب: مسلمين ومسيحيين، والقبائل العربية المسيحية في جزيرة العرب وبلاد الشام - قبل الإسلام وبعده - كثيرة أشهرها عشرة: تغلب، تميم، غسان، منذر، إياد، قضاعة، طيء، مذحج، ربيعة، وحنيفة. ومن القبائل المسيحية المعاصرة آل رحباني في لبنان. ولولا مشاركة هذه القبائل لما تم فتح بلاد الشام ولا تمت هزيمة الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، ولاحقاً جوهرة التاج العربي: مصر. وقبل الإسلام وبعده كان هناك مئات الألوف من الشعراء والأدباء والمفكرين والفلاسفة والقادة ورجال الدولة المسيحيين الذين ساهموا في بناء الحضارة العربية الإسلامية عبر العصور منذ الجاهلية وصدر الإسلام والدولة الأموية والعباسية والأندلس حتى يومنا هذا. ومن التاريخ الحديث أمثلة كثيرة. من مصر يأتي حدثان: الأول عند نهاية القرن التاسع عشر، قدم من روسيا الأرثوذكسية مندوب وقابل بابا الأقباط وعرض عليه حماية الكنيسة الروسية لمسيحيي مصر، فسأله بابا مصر: هل يموت بطريرك روسيا أم يخلد؟ فأجابه المبعوث: طبعاً يموت. فقال البابا كلمته المشهورة: "لقد اسلمنا أمرنا للذي لا يموت". ومن مصر أيضاً يقف البابا شنودة عملاقاً وهو يرفض جميع الضغوطات الخارجية للسماح لاقباط مصر بالحج إلى القدس قائلاً ندخل القدس المحررة مع اخوتنا العرب المسلمين.
ومن سوريا يذكر العرب فارس الخوري وقسطنطين زريق والشهيد جول جمّال الذي باستشهاده أغرق المدمرة الاسرائيلية ايلات. ومن حلب جاء مار مارون إلى لبنان وجدُّ الشاعر سعيد عقل ومعظم العائلات المارونية. ومن أجمل الصور ان هناك مقاماً مسيحياً إلى الآن في داخل المسجد الأموي يؤمه اصحاب النذور من مسلمين ومسيحيين. كما ان المسجد الأموي بقي مكاناً للصلاة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين لمدة 80 عاماً.
ومن الأردن يعبر نايف حواتمة جسر العودة ليناضل في فلسطين. ويكتب الأديب غالب هلسا أجمل ما قيل في الغربة: "لقد عثرت على وصف دقيق للاغتراب(3/262)
هو ان تعيش خارج مصر" .. هذا غزل رائع في الأوطان يذكرنا بغزل عمر بن ابي ربيعة في النساء. وفي فلسطين ومنذ سلّم القس المبجل صفرونيوس مفاتيح القدس للخليفة عمر بن الخطاب قبل 1400 سنة والبرتقال اليافاوي يفوح عطراً ويتعتق الزيتون الروماني عاماً وراء عام. بعض البرتقال الفلسطيني والزيتون له اسماء مثل المطران هيلاريون كبوجي ويوسف بيدس وادوارد سعيد وعطاالله حنا وجورج حبش ووديع حداد وعزمي بشارة والمؤرخ هنري كتن وحنان عشراوي واميل حبيبي وسلفادور عرنيطة والاخوة صايغ (فايز ويوسف وأنيس).
وفي لبنان هناك مقبرة في بيروت اسمها مقبرة الشهداء يدفن فيها الفلسطيني المسلم والمسيحي من دون النظر إلى جوازي سفرهما .. ففيها دفن الشهداء الثلاثة كمال ناصر وكمال عدوان وابو يوسف النجار، فقد كانوا متساوين فوق الأرض ومتساوين تحتها. وفي لبنان يحلو للبعض ان يعتبر - تحبباً - ان المسيحي اللبناني (غير شِكل) .. الحقيقة انه شكل مثل غيره. وينهمر العطاء بدءاً من رهبان الأديرة الذين حفظوا اللغة العربية والتراث وأثروها نسخاً وترجمة وابداعاً وصولاً إلى جيش المبدعين من انطون سعادة وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأبو محمد (مارون عبود) وجورجي زيدان وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وفيليب حتي وصولاً إلى بول غيراغوسيان ومرسيل خليفة وخليل حاوي والشاعر القروي وأمين الريحاني وبشارة واكيم والرحابنة وايليا أبوماضي وهرم لبنان الثالث: فيروز وآل معلوف والحبل على الجرار (1).
إن هذه الإشارة وهذا التوضيح كان ضرورياً لبيان العلاقة الاخوية والمصيرية بين المسلمين والمسيحيين العرب وحتى لا يعتقد البعض أننا نهدف إلى تصعيد الصراع بين المسيحية والإسلام، في وقت حقق الحوار بين الإسلام وممثلي الكنائس المسيحية الارثودكسية والكاثوليكية تفاهم واتفاق حول كثير من الأمور، والذي نتمنى أن يستمر للوصول إلى تعايش وتعاون مثمر بين اتباع الديانتين، بعيداً عن محاولات التهويد المنظم التي تخضع لها الفرق المسيحية البروتستانتية. كما أن هذا التوضيح كان ضروريا حتى لا يوضع المسيحيون العرب موضع الاتهام عن جهل أو
_________
(1) المسيحيون ملحُ العروبة- محمد خالد - جريدة الخليج- 29 - 11 - 2005.(3/263)
سوء نية، فالتعايش المسيحي الإسلامي في عالمنا العربي سيظل شاهداً على التسامح والتعاون المثمر بين الأديان بالرغم من كل المحاولات التي يقوم بها أعداء امتنا العربية من اجل تعكير صفو هذا التعايش الذي جعل اللورد كرومر يقول: انه لم يلحظ في مصر أي فرق بين مسلم ومسيحي سوى أن الأول يصلي لله في مسجد والثاني يصلي لله في كنيسة (1).
فهذا الكتاب ليس موجهاً ضد المسيحية ولا يضعها في قفص الاتهام، فهذا بعيد كل البعد عن الغاية التى يسعى اليها، هذا بالرغم من ان العنوان يجعل القارئ يظن للوهلة الأولى ان جميع المسيحيين صهيونيون. في حين ان المسيحية ليست هذا ابداً. وهي بعيدة كل البعد عن الصهيونية كما انها تتنافى قطعاً مع اليهودية. المسيحية، هى انجيل المسيح واعمال الرسل كما هو الإسلام القرآن والسنة. فالمسيحية بمفهومها ومبادئها هي شمولية والى جميع البشر، وليس شعب معين أو عرق معين، فهي محبة وتضحية ورجاء ودعوة إلى السلام والمساواة. فالعدائية غير موجودة في المسيحية، فهي دعوة إلى الحرية والديمقراطية الداخلية في ذات الانسان والخير المطلق لكل شعوب الارض، تنفي الخوف، وتصر على العطاء، اعطاء الانسان الامل والرجاء والفرح. في حين اليهودية الصهيونية هي مجموعة مصالح لشعب معين اختار نفسه ليكون شعب الله المختار، كما انها حركة عنصرية تسعى إلى هدم المسيحية، وتعتبر الله خادم الشعب اليهودي، في حين ترى المسيحية ان الله من الازل والى الازل، والانسان ولد في مرحلة معينة ويستمر في الروح مع الله إلى الازل (2).
فالصليبيون الجدد الذين نتحدث عنهم هم اتباع الكنيسة البروتستانتية اليمينية المتطرفة وبالذات في أمريكيا وبريطانيا، الذين حولوا المسيحية من دين محبه وسلام إلى دين بطش وارهاب وقتل، ولهذا فان من واجب دول العالم إقامة تحالف مشترك ضد هذه الهلوسة والخرافات، التي قادت العالم إلى حروب مدمره خلال هذا القرن. وهذا التحالف يجب أن يكون إسلامي مسيحي بوذي هندوسي
_________
(1) المسيحية والإسلام على ارض مصر - د. وليم سليمان قلادة - ص 292 - دار الحرية للصحافة والطباعة والنشر - ط1 1986.
(2) الصهيونية المسيحية (1891 - 1948) - بول مركلي- ترجمة: فاضل جتكر-ص21(3/264)
وعلماني ... الخ لوضع حد لهذه الخرافات التي تحكم تفكير اكبر دوله في العالم. كما إن علي هذا التحالف مهمة شاقه وطويلة من اجل ترويض هذا التفكير العدمى، ليس فقط من اجل حماية العالم، بل وأيضا لحماية أمريكيا من نفسها (1).
فالمقصود بمواجهة المسيحية الصهيونية يعنى في الاساس عزل هذه الظاهرة الشاذة، عن غيرها من المذاهب المسيحية الاخرى كالكاثوليكية والارثوذكسية، وتعريتها، من اجل ازالة اللبس الحاصل من تسميتها بالمسيحية والمسيحية منها براء. فالمسيحية في قيمها ومثلها وتعاليمها تتناقض كل التناقض مع ما تدعو إليه هذه الحركة من تعاليم وما تبثه من قيم، ثم إنها حركة تتهجم على الكاثوليكية وتتطاول على البابا وهي تتنكر ليس فقط للكنائس المسيحية المشرقية وخاصة الارثوذكسيه ولكنها كأي حركة اصوليه دينيه أخرى تعتبر كل من هو خارجها محروما من نعمة الخلاص (2). وهنا يرى د. جورج صبرا ان إطلاق تسمية الصهيونية المسيحية خاطئ، إذ ليس هناك صهيونية مسيحية بالمعنى اللاهوتي والكنسي، بل هي تسمية سياسيه بامتياز تماماً كإطلاق تسمية الإسلام الإرهابي. فكما أن هناك اناساً يدعمون الصهيونية وإسرائيل باسم المسيحية، هناك أيضا أناس يقومون بأعمال إرهابية باسم الإسلام. فهؤلاء الذين يحملون لواء الصهيونية المسيحية يتحركون وفقا لتفاسير خاصه وبعيدة عن توصيات الكنيسة، وقد اصدر مجلس كنائس الشرق الأوسط في هذا الصدد توصية تدعو إلى عدم استعمال عبارة المسيحية الصهيونية واستبدالها بتسمية الحركات والأحزاب الداعمة للصهيونية باسم المسيحيه (3). وبالرغم من أهمية الإقتراح السابق، الا ان ذلك لن يحل المشكلة، لان المسيحية موجودة في العبارتين، ولا يستطيع أحد ان ينكر على هذه الفرق،
_________
(1) تعمدت تكرار أهمية عدم الخلط بين مواقف الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية من ناحية والكنيسة البروتستانتية من ناحية أخرى للأهمية الكبرى لهذا الموضوع والذى لو استطعنا فهمه جيداً والتعامل على أساسه، فإن ذلك سيعطى نتائج إيجابية جداً، لان خطر الأصولية المسيحية لا يهدد الإسلام فقط، بل يهدد العالم اجمع، وعداء الجماعات البروتستانتية المتطرفة للكاثوليك والأرثوذكس لا يقل عن عدائهم للمسلمين، لانهم في الأساس اقرب إلى اليهودية منهم إلى المسيحية، ولذلك فهم يعادون من يعادى اليهود ويحاولون الانتقام من كل من اضطهد اليهود أو عاداهم على مر التاريخ.
(2) الدين في القرار الأمريكي - محمد السماك - ص12 - دار النفائس- ط1 2003
(3) اوجه التشابه .. والاختلاف / د. جورج صبرا الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672(3/265)
ادعائها بالإنتماء للمسيح، ولذلك فإنني اعتقد أن الاهم هو زيادة وعي الناس بمواقف الكنائس المختلفة وثأثيرها على المؤمنين في كل مكان، وبذلك لا يقع الخلط.
مواجهة الصهيونية المسيحية
اعتقد اننا بتحديدنا لمفهوم الصليبيون الجدد نكون قد خطونا خطوة كبيرة في مواجهة هذه ظاهرة الصهيونية المسيحية، وسنلاحظ انه من خلال مزيد من التحليل لهذه الظاهرة سنتمكن من عزل مزيد من العوامل التى ستساعد في تضييق الخناق عليها وتحجيمها، ووضع الخطط لمواجهتها. فالرغم من قوة تأثير وفعالية الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة، فإن لها معارضين من داخل الكنيسة الإنجيلية نفسها، ومن خارجها، وهي ليست الوحيدة على الساحة، وهذا يعني ان مجال العمل مفتوح لمواجهتها والحد من فعاليتها.
أولا: -المواجهة من داخل الكنيسة الإنجيلية
تتمثل أهم قاعدة للمعارضة الإنجيلية في المجلس الوطني لكنائس المسيح ويضم هذا المجلس 34 طائفة يبلغ عدد أتباعها نحو الأربعين مليون شخص، وتصدر عن هذا المجلس مجلة شهرية تدعى (القرن المسيحي) كما تصدر عنه مجلة شهرية أخرى تدعى (المسيحية والأزمات). ويستقطب المجلس ومجلتاه الإنجيليين الليبراليين الذين يرفضون التفسير الحرفي للكتاب المقدس، كما يرفضون الصهيونية اللاهوتية في الكنيسة. ومن أبرز المواقف السياسية التي اتخذها المجلس الوطني لكنائس المسيح، إعلانه في عام 1979 م أن من حق منظمة التحرير الفلسطينية الاشتراك في أي مفاوضات للسلام باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ويعبر عن هذه المواقف والآراء دوريات أخرى أبرزها، مجلة القيمون وتصدر في واشنطن العاصمة، مجلة الطرف الآخر، وتصدر في فيلادلفيا، ومجلة المصلح، وتصدر في ميتشجان. وهذه المجلات الثلاث تنتقد باستمرار وبشدة الصهيونية المسيحية، وتدعو إلى احترام حقوق الشعب الفلسطيني، وخاصة حقه في تقرير مصيره.(3/266)
وهناك ايضاً عدد آخر من الكنائس الإنجيلية المتعاطفة مع هذا الخط، ولو بنسب متفاوتة، وهذا يعني أن ثمة طرقاً مفتوحة وجسوراً قائمة للعمل من أجل كبح جماح الصهيونية المسيحية، وعدم الاستسلام لنفوذها العدائي المدمر (1). وللعلم فإنّ العديد من المنظمات المسيحية الأمريكية بدأت تستشعر الخطر الصهيوني على أمريكا نفسها وعلى العقيدة النصرانية, وبدأت تتحدث عن الأخطار المحدقة بالنصرانية كتوجّه عقائدي وسياسي, وقد تدخل هذه التوجهات المسيحية المستيقظة في صراع سياسي مع اللوبي اليهودي في أمريكا لينعكس ذلك تذبذباً على المسار السياسي الأمريكي (2). واعتقد ان اهم طريقه لمواجهة اتباع الصهيونية المسيحية هو العمل بكل الوسائل على نشر الحقائق عن الصراع الدائر في المنطقة، والعمل على توعيتهم واخراجهم من حالة العزلة والانغلاق الفكرى الذى يسيطر على تفكيرهم، بسبب المعلومات المغلوطة التى يحصلون عليها من الطرف الصهيونى ومن مراجعهم الدينية المشوهة.
ثانيا: المواجهة من خارج الكنيسة الإنجيلية
الكنيسة الكاثوليكية
عرضنا سابقاً لموقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود ودولة اسرائيل، حيث اتضح لنا رفضها لكافة دعاوى اليهود في فلسطين، حيث تعتبر هذه الكنيسة اكبر الكنائس المسيحية في العالم، ومركزها الروحى هو الفاتيكان في روما، حيث ظلت هذه الكنيسة بالرغم من كل الهجمات والمؤامرات التى تعرضت لها من اليهود والبروتستانت، محافظة على التعاليم المسيحية المعروفة التي تتعلق باليهود، والتى تناقض تماماً تحريفات لوثر التى افرخت الاصولية المسيحية. فالكنيسية الكاثوليكية تعتبر من اكبر الكنائس المسيحية انتشاراً وتعداداً، حيث ينتشر اتباعها في كافة ارجاء العالم ويشكلون الغالبية في اوروبا الغربية، باستثناء بريطانيا وهولندا وبعض الدول الاسكندنافية. كما يشكلون الغالبية العظمى في أمريكيا اللاتينية ودول العالم
_________
(1) الصهيونية المسيحية - محمد السماك ص 149 - دار النفائس - ط3 2000
(2) الغارة الأمريكيّة الكبرى على العالم الإسلامي.- يحي أبوزكريا - http://www.alkader.net/juni/abuzakrya_gara_070622.htm(3/267)
الثالث. اما استراليا ونيوزيلندا فهما ذات غالبية بروتستانتية انجلوسكسونية. اما أمريكيا وكندا فغالبية سكانها من البروتستانت، وان كان تعداد الطوائف الاخرى يمثل نسبة لا يستهان بها، ولكن الامر المهم هنا هو ان البروتستانت يشكلون الطبقة الحاكمة في هذه الدولة منذ تأسيسها، ولعبوا دوراً كبيراً في تشكيل الفكر والتقافة الأمريكية حتى الآن، والتى انعكست على موقف أمريكا تجاه العالم الإسلامى وقضية فلسطين كما وضحنا.
ولكن بالرغم من هذه السيطره الانجلوسكسونية البروتستانتية على مقاليد الامور في أمريكا، فان هناك الكثير مما يمكن للاقليات الاخرى عمله واحداث التغيير المطلوب، وبالذات الكاثوليك الذين يمثلون ثانى قوة على الساحة الأمريكية. ففي العام 1982 نشر الكتاب السنوي للكنائس الاميريكيه - الكندية إحصاء لتعداد التابعين للطائفة الكاثوليكية في الولايات المتحدة فقط، وقد بلغ المجموع الكلي لكاثوليك أمريكا حسب هذا الإحصاء 54.088.774 مواطناً أمريكياً، ولكن يبدو التأثير الكلي للكاثوليكية وتعاليم الكنيسة على الوضع السياسي التعددي في الولايات المتحدة متواضعاً، بسبب ان الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية تهتم دائماً وبشكل خاص، بقضايا تهميش المهاجرين وحقوقهم، وهذا مرجعه جذورها التاريخية ككنيسة مهاجرين. ومن المقدر بحلول عام 2005 أن تصبح نسبة 50% أو اكثر من كاثوليك الولايات المتحدة منحدرة من أصول أسبانية (أمريكا اللاتينية) وكثير منهم لن تكون الإنجليزية لغتهم الأصلية (1). ولا شك ان هذا التغيير سينعكس على الخارطه السياسية الأمريكية في المستقبل إذا امكن تجميع هذه القوه والاستفاده منها. فالكاثوليكية الأمريكية، ككنيسة مهاجرة وسط اغلبية بروتستانتية، ابقت على ارتباطها بالفاتيكان كتعبير عن الهوية حتى لا تكون في وضع هامشي، في مواجهة البروتستانت (2).
ولا شك إن موقف الكنيسة الكاثوليكية كما هي ممثلة في مركزها التاريخي (الفاتيكان) ظل معادياً لليهود باعتبارهم قتلة المسيح التاريخيين، ثم نشأت
_________
(1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1 - مايكل كوربت-جوليا ميشتل كوربت ص143
(2) المسيح اليهودي - رضا هلال - مكتبة الشروق الدولية- ص172(3/268)
اعتراضات داخل العقيدة الكاثوليكية، تقول بفصل اليهود المعاصرين عما اقترفه العبرانيون القدامى بحق المسيح، ويشبه هذا المنطق ما تعبر عنه الآية الكريمة (ولا تزر وازرة وزر أخرى). ورغم التخفيف الكاثوليكي من لهجة العداء الديني لليهود فان الفاتيكان بشخص البابا بيوس العاشر كان قد أعلن رفضه للدعاوى اليهودية - الهرتزليه في فلسطين فاثر لقاء بين البابا ببوس وتيودور هرتزل في السادس والعشرين من كانون الثاني عام 1904 انتهى اللقاء بإعلان فاتيكاني حاسم "إن البابا يعلن معارضته الكلية للحركة الصهيونية وللهجرة اليهودية إلى فلسطين". ومن الطبيعي إن موقف الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة، كان يحذو حذو الموقف لدى الكنيسة الام في روما (1)، وهذا يجعل الكاثوليك مؤهلين للعب دور هام جداً في تغيير السياسة الأمريكية تجاه منطقتنا، بل وتجاه العالم.
ولكى يتم ذلك لابد من حدوث تعاون مثمر مع زعماء الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا، والفئات الاخرى المهمشة مثل العرب والمسلمين، الزنوج والآسيويين، وحتى بعض فئات البروتستانت، وهذا التعاون يهدف في الاساس إلى زيادة ثميل هذه الفئات في الحكومة الأمريكية والكونجرس، وتشكيل قوة ضغط موازية للتيار الاصولى المتعصب لتحجيمه والتقليل من خطره. وربما يقول البعض انه من الصعب الوصول إلى هذا الامر بسبب اختلاف مصالح هذه الاقليات. والرد على ذلك، هو ان اى اختلافات في المصالح لا يجب ان تكون عائقاً في سبيل التصدى لهذا الوحش الذى يهدد الحضارة الانسانية، وقد عرضنا بما فيه الكفايه للخطر الذى يمثله التيار الديني الاصولي الذي يحكم أمريكا الآن على العالم باسره.
وسبب تركيزنا على الكاثوليك، هو انهم اقدر الجماعات على التصدى لهذا الخطر، وبالذات بالنظر إلى الدعم الذى سيتلقونه من الدول الكاثوليكية في اوروبا وأمريكا اللاتينية، والتي بدأت تنظر بحذر لعلاقاتها مع أمريكا بسبب علاقاتها المريره معها والتى عرضنا لجزء منها في السابق، والاهم من ذلك هو انهم سيساهمون وبدرجة كبيرة في وقف التهويد المنظم للمسيحية. فالقاعدة المسيحية الكاثوليكية الأمريكية لا تزال محافظة على مبادئها اللاهوتية، ولا تزال متمسكة
_________
(1) على أعتاب الألفية الثالثة- الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لاسرائيل- حمدان حمدان ص142(3/269)
بالثوابت الفاتيكانية، ولا زال للفاتيكان تأثير على الدور السياسي للكاثوليك، حيث أن للكنيسة والقساوسة تأثيراً يفوق أحياناً الساسة العلمانيين. فقد حجب الكاثوليك اصواتهم عن روزفلت عندما طلب منهم القساوسة ذلك. وتحت تأثير الكنيسة تكتلوا في انتخابات عام 1960 خلف المرشح الديمقراطي الكاثوليكي جون كيندي (1). وهذا يعني أن المجال مفتوح لعمل إسلامي - كاثوليكي مع الفاتيكان مباشرة ومع الكتيسة الكاثوليكية الأمريكية، من أجل بلورة جوامح مشتركة ضد الصهيونية المسيحية وأهدافها في فلسطين والمنطقة العربية. ويؤكد إمكان هذا العمل وقائع الإجتماع الذي عقده الكاردينال كوك في بيروت مع عدد من أعضاء مجلس النواب اللبناني، فقد توجه الكاردينال إلى الأعضاء المسيحيين منتقدا بشدة الإتصال المسيحي اللبناني مع إسرائيل، وقال لهم:"إن الولايات المتحدة هي أكبر دولة في العالم، لم تتمكن من التعامل مع إسرائيل على قاعدة الأخذ والعطاء، فإسرائيل تأخذ ولا تعطي" وحذرهم من أن الاتصال الذي تم مع إسرائيل يمكن أن يكون خطأ، ولكن إذا تكرر أو تواصل فإنه يصبح جريمة (2).
الكنيسة الأرثوذكس
الأرثوذكس هم أتباع الكنيسة الشرقية التي كان مقرها في القسطنطينية، حيث ينتشر أتباعها في البلاد العربية واليونان وروسيا والبلقان. "وقد انفصلت هذه الكنيسة عن الكنيسة الكاثوليكية أيام ميخائيل كارولا ديوس بطريرك القسطنطينية في عام 1054م، وهي الآن مؤلفة من عدة كنائس متفرقة" (3). وأسباب انقسام الكنيسة إلى شرقية وغربية "يرجع إلى تساهل كنيسة روما (4) الكاثوليكية - لتجذب لها الجرمان واللادينيين - فأحلت لهم أكل الدم المخنوق وأباحت للرهبان أكل دهن الخنزير وغير ذلك من الأمور التي لم تقبلها الكنائس
_________
(1) المسيح اليهودي - رضا هلال - مكتبة الشروق الدولية- ص174
(2) الصهيونية المسيحية محمد السماك ص 166 - دار النفائس - ط3 2000
(3) سلسلة مقارنة الأديان - د. أحمد شلبى - ج2 (المسيحية) - ص 239
(4) يقول أمام المعتزلة القاضي عبد الجبار: إن النصرانية عندما دخلت روما لم تنصر روما، ولكن النصرانية ترومت.(3/270)
الشرقية" (1). ويمكن اجمال اسباب الانفضال في سبب واحد وهو الخلاف بين الروح الشرقية التي تميل إلى التوحيد والروح الغربية التي تميل إلى التعدد، حيث انعكس هذا الخلاف على عقيدة كلاً الكنيستين حول طبيعة المسيح والروح القدس وغيرها من الأمور. فالكنيسة الأرثوذكسية تقول أن للمسيح طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، أما الكاثوليك فيقولون أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، أي أن آثار التوحيد التي انفطر عليها الشرقيون واضحة في عقيدة هذه الكنيسة، بعكس الكنيسة الكاثوليكية التي تأثرت بالحضارة اليونانية والرومانية فمالت إلى التعدد. "وهذا الجدل اللاهوتي هو الذي يتيح لنا أن ندرك سبب الاستجابة السريعة إلى الإسلام من قبل الاريوسيين الذين وجدوا في الإسلام صدى لعقيدتهم، فحينما ظهر الإسلام كان رفضه لالوهية المسيح هو الامر الجوهري الذي تمركزت حوله الوان الجدل مع الكنيسة في فلسطين وفي البلدان التي اخذت بمذهب اريوس أو بمذهب تابعه نسطور.
والتوحيد في الإسلام كما هو لدى اريوس يرفض فكرة التثليث (الاقانيم الثلاثة) التي صيغت بمنطق الثقافة اليونانية في مجمع نيقية" (2).
والكنيسة الأرثوذكسية تتخذ موقفاً مناهضاً للصهيونية المسيحية على قاعدة الدفاع عن العقيدة المسيحية في الدرجة الأولى. ويعكس هذا الموقف البيان الذي أصدره (مجلس كنائس الشرق الأوسط) عن الحركات الإنجيلية الغربية الجديدة حيال الشرق الأوسط والذي أكد فيه على: "أن التعاظم المفاجئ في نشاط الحركات الإنجيلية الغربية وعددها، وفي نشاط المراسلين العاملين في الشرق الأوسط، هو مسألة تهم كنائس المنطقة ومجلس كنائس الشرق الأوسط. ففيما نجهد لاستعادة وحدتنا في المسيح، تعترينا مخاوف من أن بعض هذه المجموعات تحدث أثراً انقسامياً، فبعضها لا يعترف للكنائس في الشرق الأوسط بتاريخها وشهادتها ورسالتها الخاصة، وبعضها الآخر يصر على زرع رؤية لاهوتية غريبة على ثقافتنا، بل أن اختلاط المفاهيم أحدث قلقاً، وبخاصة بين الإنجيليين والأسقفيين من أعضاء مجموعة كنائس المجلس الذي نجحوا في آداء شهادة أصلية وملائمة ثقافياً".
_________
(1) سلسلة مقارنة الأديان - د. أحمد شلبى - ج2 (المسيحية - ص 240
(2) تاريخ اوروبا في العصور الوسطى - د. سعيد عبد الفتاح عاشور- ص 4 - دار النهضة العربية - بيروت(3/271)
ويضيف البيان بالقول: "أن بعض هذه المجموعات والحركات تتميز بسمات جديدة وفريدة تنذر بنسف الشهادة المسيحية، لا في الشرق الأوسط فقط، بل في مواطن هذه الحركات أيضاً، وهذا يلقي على كاهل كنائس تلك البلاد مسئوليات معينة، بخاصة في الولايات المتحدة حيث نشأت هذه الحركات. ولا حاجة إلى القول أن أي جماعة لا تستطيع التحدث نيابة عن كنائس مسيحيي الشرق الأوسط إلا كنائس هذه المنطقة، ولما كان مؤتمر بال (1) قد حاول ذلك، فإنه يتعين علينا أن نرفض علناً مقرراته وتوصياته.
إننا نعاود إعلان الإلتزام بالعدالة والسلام في الشرق الأوسط وفي العالم، ونعتبر التزامنا هذه هو إعراب عن إخلاصنا لإنجيل يسوع المسيح وعن اهتمامنا الأكيد بالمتألمين والمحرومين من حقوقهم الأساسية" (2).
فهذا الوقفه التي وقفها مجلس كنائس الشرق الاوسط، تعبر في الاساس عن انتماء اصيل لهذه المنطقة، بالاضافة إلى انتماء لا يقل اصاله لرسالة السيد المسيح التي تخضع الآن للتهويد المنظم على يد اليمين المسيحي المتطرف. وقد وضح الاستاذ سمير مرقص الدور الذي مارسه اليمين المتطرف لتلويث المسيحية، حيث ذكر "أن هذه المحاولة لتشويه ديانة المسيح جاءت من خلال الإيمان المسيحي بفكرة أن الله جاء لفئة محدده وهي شعب الله المختار، وهي فكرة فاسده ترفضها المسيحية في جوهرها كما يرفضها الإسلام" (3).
الكنائس العربية
يمكن للكنائس العربية ان تلعب دوراً مهماً في مواجهة المسيحية الصهيونية، باعتبار ان المسيحية نشأت في المنطقة العربية، وتضم بين جنباتها اهم الاماكن المقدسة المسيحية التى يحج اليها المسيحيون من كل مكان في العالم، مما يعنى وجود فرصة كبيره امام الكنائس العربية لتوضيح الحقائق وفضح المخططات العدوانية للصهيونية المسيحية، وهذا ما قامت به كثير من الكنائس العربية حتى الآن وبنسب متفاوته، كالكنيسة القبطية المصرية والكنائس الكاثوليكية
_________
(1) المقصود هنا المؤتمر الذى عقدته السفارة المسيحية الدولية التى سبقت الاشارة اليها.
(2) الصهيونية المسيحية محمد السماك ص 161.
(3) الصهيونية المسيحية مسخرة لخدمة إسرائيل- سمير مرقص الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672(3/272)
والارثوذكسية. ففي موقف واضح وعلني ضد الصهيونية المسيحية، صدر عن السيد (غيربال حبيب) الأمين العام للجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط بيان، ادان فيه "سوء استخدام الكتاب المقدس وإثارة المشاعر في محاولة لتبرير خلق دولة ما - إسرائيل - ولتشريع سياسات حكومة ما- الحكومة الإسرائيلية". وارفق هذا الموقف المبدئي بدراسة لاهوتية - تاريخية تسفه الصهيونية المسيحية وتؤكد اعتبارها خطرا على المسيحية، وتدعو الدراسة " كنائس الشرق الأوسط إلى تذكير المسيحيين في العالم باستمرار إلى أنهم يرفضون الأيدلوجية والأهداف السياسية للإتجاه الصهيوني المسيحي"، كما تدعو القيادات الكنيسة إلى إصدار البيانات التي تندد بهذا الإتجاه وإلى توعية مستمرة ودائمة في إطار الثقافة الكنسية" (1).
ويضاف إلى ما تقدم ان على الكنائس العربية مهمة اخرى وهي ضرورة حمل رسالة السيد المسيح من جديد وتوضيح مبادئها الحقة والتي تم الابتعاد عنها بل ونقضها بسبب التهويد المنظم للمسيحية على يد حركة الاصلاح الديني. وهنا يقول (إبراهيم متري رحباني)، مؤلف كتاب (المسيح السوري) الذي نشر أول ما نشر باللغة الانجليزيه في الولايات المتحدة الاميركيه عام 1916 وأعيدت طباعته هناك سبع عشرة مره بين العامين 1916، 1937: "انه لمن الصعب جداً إن لم يكن مستحيلاً، إن يستوعب شعب ما وبشكل كلي، أدباً لم ينبثق من وسط حياته القومية". وهنا يجب ان نسأل إلى أي مدى نجح الغرب عامة، الولايات المتحدة الأمريكيه خاصة بفهم رسالة السيد المسيح؟ ونحن لا نسأل السؤال للمعرفة التي لا تفيد، بل للمعرفة التي ينتج عنها سياسات تحدد اتجاهنا كأمة تقترب من طاولة حوار الحضارات أو ساحة صراعها (2). وهذا يعنى بأنه لابد من حمل رسالة السيد المسيح مجدداً إلى الغرب وأمريكا بالذات، لتوضيح مبادئها الحقة ولازالة سوء الفهم والتشويه التى تعرضت له هذه الرسالة، وخير من يقوم بذلك هم ابناء هذه المنطقة، وهذا يتطلب دعم كنائس الشرق المسيحية، حيث سيساهم ذلك في حرمان "الهيمنة الأمريكية المفترضة من رداء التدين الزائف الذي يرفعه قادتها. ولو تزايد تأثير دور البابا
_________
(1) الصهيونية المسيحية محمد السماك ص 149
(2) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية- عرض وتوثيق هشام آل قطيط- ص233 - دار المحجة البيضاء - 2003(3/273)
شنودة وبابا الفاتيكان ورئيس مجلس الكنائس الانجلية في ابراز الآثار السلبية للهيمنة الأمريكية الاحادية على العالم والسلام الدولي، فلابد وان يحدث هذا تغييراً جوهرياً في عوامل القوة الأمريكية الحالية (1).
كما ان المسيحيين العرب يمكن ان يقوموا بمهمة حلقة الوصل بين الحضارتين العربية والغربية، وهذا ما طرحه (مكسيموس الخامس) حكيم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الكاثوليك في أثناء زيارته للجزائر في نيسان 1987 حيث قال: "العالم العربي - الإسلامي والطوائف العربية - المسيحية وجدت من اجل ان يكمل بعضها بعضاً .. نحن العرب - المسلمين والعرب المسيحيين - كلنا ننتمي إلى جنس واحد. نعبد إلهاً واحداً. ونحن كلنا نجل ونحترم الانبياء جميعاً. أما خلاصنا، فإنه يتجسد في الاعتراف بتلك الاختلافات في القيم، التي تمثل كل جانب، وبإمكان كل جانب اكمال الجوانب الأخرى. ان انفتاح المسيحية على الثقافة الغربية لا يحولها إلى أخ خائن للمسلمين. بل ان هذا الانفتاح يمكن أن يجعل من المسيحية حلقة وسطية بين الحضارتين، بين الثقافتين، بين الديانتين، اللتين تؤمنان برب واحد" (2).
ولكن ما يعيق هذا المهمة وغيرها ويفشلها في بعض الأحيان، هو ما حدث ويحدث من اضرابات وصراع بين المسلمين والمسيحيين العرب في منطقتنا، والتي تقف ورائها الصهيونية العالمية، حيث اساءت هذه الصراعات لقرون طويلة من التعايش الخلاق بين الجانبين، في جو سادته الاخوة والمحبة. نعم لقد سعى الإستعمار والصهيونية العالمية إلى خلق الفرقة والتشتت في صفوف الأمة العربية، وذلك عن طريق إثارة الفتن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين من أجل إتخاذ هذه الفتن ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية بالزعم بأن هدفهم حماية الأقليات المسيحية، كما أنهم يهدفون من وراء إثارة هذه الفتن إلى إضعاف الدول العربية حتى يسهل عليهم السيطرة والتحكم في مصيرها. وقد اتبع الاستعمار الغربي هذا الأسلوب قديماً وحديثاً في محاولته السيطرة على الأمة العربية. وهنا
_________
(1) المؤامرة الكبرى - مخطط تقسيم الوطن العربي من بعد العراق؟ محمد ابراهيم بسيوني ص121 - دار الكتاب العربي - ط1 2004
(2) الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم- تأليف اليكسي جورافسكي - ترجمة د. خلف محمد الجراد - ص212 - دار الفكر المعاصر - ط2 2000(3/274)
يقول برناند لويس: "الواقع أن إلحاق المنطقة العربية بالغرب لم يكن ممكناً إلا عن طريق تفكيكها وتجزئتها، ولو أعطيت لأي سياسي في العالم مسألة يسألونه فيها أن يسعى إلى إلحاق المنطقة العربية بالغرب، لما اختار غير الأسلوب الذي اختاره الغرب فعلاً، وهو تفكيك المنطقة بالفتن الطائفية والتفتيت الإجتماعي والثقافي، وافتعال الخصومات والفروقات، وتوسيع مواطن الاختلاف والمبالغة في إبرازها. وليس من شك في أن من يسعى إلى هذا يحزنه مشهد السلام بين الطوائف ويسعده إندلاع التقاتل بينها، ولعل من يستبعد دور الغرب في إشعال فتيل هذا التقاتل هو واحد من اثنين، خادع أو مخدوع" (1).
ولما كانت الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية العربيتين، وخاصة في مصر ولبنان، تتمتعان بموقع يمكنهما من دفع الحوار الإسلامي - المسيحي في الاتجاه الصحيح، فأن إثارة الاضطرابات الطائفية في لبنان ومصر، ودور إسرائيل في هذه الإثارة، يستهدف في الدرجة الأولى طعن مصداقية الكنيستين ورجالهما أمام المسلمين وطعن المصداقية الإسلامية أمام القيادات المسيحية، وبالتالي تعطيل القيام بهذا الدور الحواري التوحيدي. فالعرب والمسلمين في تصديهم للصهيونية بوجهيها اليهودي والمسيحي، يحتاجون إلى التحالف مع الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية وحتى مع بعض الكنائس الإنجيلية التي تعتبر الصهيونية معادية لها وخطراً عليها. ومن مستلزمات هذا التحالف تعزيز التفاهم الإسلامي المسيحي وإخماد الفتن الطائفية التي تنفجر مرة في لبنان، ومرة ثانية في مصر .. ومرة ثالثة في السودان، والقفز من فوق مخططات التجزئة والتقسيم التي تروج لها إسرائيل كقاعدة لأمنها الاستراتيجي.
إن الإدانة التي تصدر عن بعض المسلمين ضد الكنيسة أو عن بعض المسيحيين ضد الإسلام فوق أنها إدانة ظالمة وخاطئة بالمطلق، فإنها تعطل سبل تفاهمهما وتقطع الطريق أمام تحالفهما. وكلما ازدادت الهوة اتساعاً بين المسيحية والمسلمين، تتقدم الصهيونية المسيحية خطوات إلى الأمام نحو أهدافها على حساب الإسلام والمسيحية معاً. فقد أدى التحالف بين دول إسلامية وعربية مع الكتلة
_________
(1) من يحمى المسيحيين العرب- فكتور سحاب- ص 57 - دار الوحدة,- ط1 1981(3/275)
الشيوعية - السابقة - في الخمسينات من هذا القرن، إلى إضرام النار في حقل التفاهم الإسلامي المسيحي الجاف، حيث لعبت الخلفية الاستعمارية لدول أوروبا الغربية، والخلفية الصهيونية لسياسة الولايات المتحدة، الدور الأساسي في دفع بعض الدول العربية والإسلامية إلى أحضان الكرملين، رغم العداء للشيوعية كعقيدة. وقد وظفت الصهيونية اليهودية، والصهيونية المسيحية هذا الأمر لتوسيع الهوة بين العرب والغرب، وبين الإسلام والمسيحية. وقبل أن تتكشف خطورة الفصل بين المسيحية، والصهيونية المسيحية، كانت أحكام الإدانة المشرعة قد عطلت لغة الحوار والتفاهم على قواعد العقائد والمصالح المشتركة. ومع الوقت أصبحت الإدانات المتبادلة قوالب جامدة لعلاقات سيئة، ولم تتمكن مؤتمرات الحوار الإسلامي المسيحي أن تفعل الكثير لتحطيم هذه القوالب، ومن ثم لدفع العلاقات نحو آفاق التعاون الرحب والمفتوح أمامها.
كما كان للفتنة في لبنان آثار مدمرة على محاولات الحوار المتواصلة التي جرت في الثمانينات في روما وأثينا ومدريد وقبرص، وحتى في الولايات المتحدة نفسها. فالمثال اللبناني الراقي على التعايش بين المسلمين والمسيحيين تحول بفعل التدخل والتحريض الإسرائيلي والدولي إلى وحش مخيف. وما لم يدرك المسلمون والمسيحيون داخل لبنان وخارجه، أن ما حدث في لبنان هو جزء من الصراع بين الصهيونية (اليهودية والمسيحية) وأعدائها، فإن كل حسابات التعامل مع أسباب ونتائج هذه الفتنة، ستبقى حسابات خاطئة ومتعثرة. إن ما حدث في لبنان كان نتيجة ولم يكن سبباً، كان أداة ولم يكن هدفاً. لم يكن ما حدث نتيجة لاستحالة التعايش الإسلامي - المسيحي، ولكنه كان سبباً لنجاح هذا التعايش. فالذين ساءهم نجاح التجربة اللبنانية عملوا على ضربها. ولم يكن ضرب هذه الصيغة هدفاً في حد ذاته، بل أداة لضرب هدف أكبر، هو التفاهم الإسلامي المسيحي ضد الصهيونية (1). ومما يدل على ذلك هو ان أول رد على أكاذيب الصهيونية المسيحية في عقر دارها في
_________
(1) الصهيونية المسيحية محمد السماك ص 149(3/276)
الولايات المتحدة الاميركيه كان بقلم القس إبراهيم متري رحباني في كتابه (المسيح السوري) المطبوع في أميركا عام 1916 (1).
دور المسلمين والعرب في أمريكيا في المواجهة
إذا كنا عرضنا في السابق للدور الذي يمكن ان تقوم به الكنائس المختلفة والكنائس العربية في مواجهة الصهيونية المسيحية، فإن هناك دور مهم وحيوى يمكن ان يقوم به المسلمون والعرب داخل أمريكا، بسبب تاريخهم الطويل وثقلهم العددى الذى يمكنهم إذا ما تعاونوا مع الجماعت الاخرى، من تشكيل قوه ضاغطه ومؤثرة في صناعة القرار في أمريكا. ويكفي ان نعلم ان المسلمون كانوا من اوائل النازلين بأمريكا. يقول بول فندلى: "قدم المسلمون إلى شواطئ أمريكا طواعية، وكان بعضم بين اوائل النازلين بأمريكيا الشمالية، وتشير وثيقة قديمة إلى ان البحارة المسلمين قدموا إلى أمريكيا الشمالية عام 1178، اى قبل ثلاثة قرون من رحلة كولمبس الأولى. وكان بعض اولئك البحارة من الصين وآخرون من غرب افريقيا. وفي عام 1310 كان مسلمون من منطقة مالى في افريقيا، اول من استكشفوا المناطق الداخلية التى اصبحت فيما بعد الولايات المتحدة، مستخدمين نهر المسيسبى طريق مرور لهم. وفي عام 1492، كان عدة بحارة مسلمين بين بحارة كولمبس اثناء رحلته الناجحة إلى العالم الجديد. وحمل معه ايضاً وثيقه يشير فيها العالم العربى الادريسى إلى ثمانية مستكشفين قد اكتشفوا قارة جديدة قبل ذلك بعدة سنوات" (2).
وهذا التاريخ الطويل للمسلمين في أمريكيا، والذي لن يعجب الانجلوسكسون، يعطي مشروعية تاريخية للوجود العربي الإسلامي في أمريكا. والمشروعية التي نقصدها تنبع من كوننا كمسلمين وعرب اصحاب رسالة حضارية انسانية تحترم الآخر وتتفاعل معه. والدليل على ذلك انه عندما اكتشف المسلمون أمريكا قبل كولمبس، لم يسرقوا ويدمروا ويقتلوا اهل البلاد الاصليين، بل تفاعلوا معهم، وبنوا
_________
(1) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية- عرض وتوثيق هشام آل قطيط- ص13
(2) لا سكوت بعد اليوم - بول فيندلى- ص61 - شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- ط2 2001(3/277)
مسجداً، ساهم في تأخير نهب أمريكا وابادة سكانها بعض الوقت. والمأمل ان يساهم وجودهم المتزايد الآن في أمريكا، في اعادة الامور إلى نصابها، واعادة الوجه الانساني لهذه القاره الذي سرقه الصليبيون الجدد.
وبالرغم من صعوبه المهمة فأنه بإمكان المسلمين والعرب، القيام بذلك أو على اقل تقدير المساهمه به، من خلال التعاون مع الجماعت الأخرى المناهضة للوضع الحالي، يساعدهم في ذلك تزايد عددهم. ففى الوقت الحاضر تؤكد المصادر الاحصائيه الرسمية في أمريكا أن عدد المسلمين المتواجدين في أنحاء الولايات المتحده الأمريكيه بصورة رسميه يبلغ سبعة ملايين توزيعهم كالتالي: مليون مسلم أمريكي من أصول عربيه، 3 مليون مسلم أمريكي من أصول امريكيه وغير عربيه، 3 مليون مسلم أمريكي من أصول غير امريكيه اغلبهم من باكستان والهند وإيران وتركيا والدول العربيه. أما مجموع إحصاء الأمريكيين من أصول عربيه المقيمين بصورة رسميه في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكيه فيبلغ ثلاثة ملايين عربي توزيعهم كالتالي: مليون مسلم بنسبة 33% (الجالية الثانية في أمريكا)، 300 الف بروتستانتي بنسبة 10%، 750 الف أرثوذكسي يوناني وكلداني بنسبة 19%، 60 الف أرثوذكسي مصري بنسبة 2%، مليون و 108 الف كاثوليك روم بنسبة 36% الجالية الأولى في أمريكا" (1).
وبالرغم من هذا التاريخ الطويل والوزن العددي للمسلمين والعرب في أمريكا الا ان تأثيرهم في الحياة العامه حتى الآن لا يتناسب مع حجمهم وامكانياتهم. ففي حين قام بعض المسلمون، المنخرطون في انشطة تنظيمية وانشطة ذات صلة بالسياسة العامة، بخطى واسعه، مؤثرة في مجال التفاهم بين الديانات المختلفة، الا انهم ليسوا سوى جزء صغير من الجماعة الإسلامية في أمريكيا، حيث لا يزال عدد المسلمين المشاركين في المؤسسات الإسلامية في أمريكا قليل، غير انه يتضح ان هذه المشاركة تزداد اثناء الفترات العصيبة (2). واذا اعتمدنا لوائح العضوية والحضور في المؤتمرات السنوية التى تعقدها اكبر منظمتين اسلاميين، نستطيع ان نقدر
_________
(1) قرآن ... وسيف د. رفعت سيد احمد ص163
(2) المسلمون في أمريكا - المحرر ايفون يزبك حداد - مركز الاهرام للترجمة والنشر- ص15 - ط1 1994(3/278)
عدد المسلمين المنخرطين في النشاط المنظم، لكن افضل التقديرات المبنية عليها تعطى رقماً لمجموع هؤلاء، لا يتجاوز مائتى الف ناشط، اما بقية المسلمين، وهم اكثر من ستة ملايين نسمة، فإنهم اكثرية صامته تقف على الهامش، ولا تقدم اى دعم، حتى انها تحجم عن المساعدة بالمال. ولهذا فقد احس قادة التنظيمات والجمعيات الإسلامية بهذا الامر، فبدءوا يركزون جهودهم لحث المسلمين على الانحراط في النشاطات العامه، حيث اثمر ذلك وبدأ يحرز المسلمون الأمريكيون، تدريجياً مكانه بارزة في الحكم، ويظهرون المهارة في مزاولة السياسة بعدما كانوا، لسنوات طويلة، في موقع المتفرج، وباتوا ينتخبون لتولى المناصب الرسمية، ويساعدون مرشحين آخرين على الفوز في الانتخابات، ويمارسون دوراً قيادياً في انشطة الاحزاب السياسية والانشطة السياسية الحكومية، ويؤسسون حضوراً في السلطة القضائية للدولة (1).
ويرى فندلى، ان سبباً رئيسياً من اسباب بقاء الانماط المعادية للاسلام، هو واقع المسلمين الأمريكين الذين ما زالوا غير منظمين إلى حد بعيد، رغم وجودهم في أمريكيا منذ امد طويل. وعلى الرغم من تعاظم عددهم، فإن قيادتهم الوطنية لم تتبلور الا مؤخراً. يضاف إلى ذلك ان المسلمين الأمريكيين ليس لهم ثأثير يذكر في قرارات تغطية الاخبار بأى وسيلة من وسائل الاعلام، ومرد ذلك جزئياً إلى انخراط عدد قليل فقط منهم في ميدان الصحافة وامتهانها. فمعظم الاخبار التى تنشر وتبث في أمريكيا، يكتبها صحافيون لا يملكون معلومات وافية عن الإسلام، أو يملكون معلومات مضللة. واذا اراد المسلمون ان يكون لهم صوت مسموع في أمريكا فعليهم الاعلان جهراً عن هويتهم الإسلامية. والبحث عن وسائل تمكنهم من عرض حقيقة دينهم على غير المسلمين. فالرد على الافكار المنمطه، عبر تدابير تصحيحية متفاعلة مع الغير، هو امر اساسى، ولكن اتخاذ خطوات تتحكم بالوضع ولا تنتظر وقوع الواقعة للرد عليها، على القدر ذاته من أهمية الامر الأول. لهذا يجب على المسلمين الظهور بمظهر لائق في الدول التي يقيمون فيها، فعندما يهمل احد المسلمين واجبه كمواطن أو يسلك سلوكاً سيئاً، فإنه يجلب المعاناة للمسلمين كافة.
_________
(1) لا سكوت بعد اليوم - بول فيندلى-ص267(3/279)
وعدم الطعن في كل صورة تشوه الإسلام، بل عدم الطعن في اى تقرير عن احداث مسيئة إلى الإسلام، تقع في اماكن بعيدة، مثل اندونيسيا والفلبين وافغانستان، يحمل المسلمين الأمريكيين عبئاً اضافياً مهما يكن مصدر الاساءة، ولهذا فإنه ينبغى لكل مسلم ان يشعر بواجب الدفاع عن ديانته ازاء تشوه حقائقها (1).
فالعداء للعرب والمسلمين، الذي كان على الدوام جزءاً من الايديولوجية الغربية، يكاد يتحول الآن إلى هواية شعبية. هذا العداء تغذيه الرأسمالية العالمية الحريصة على تبرير استغلالها وعدوانها وتسخر في خدمته أدوات اعلامها الجهنمية، وهو يستند ايضاً إلى اسس اخرى كثيرة، بعضها تاريخي جيوبوليتيكي والآخر ثقافي ديني. على اننا نحن العرب والمسلمين نحسن صنعاً لو بدأنا، ليس بهم وبدوافعهم، ولكن بالصورة التي تطرحها افعالنا وقيمنا وأنماط سلوكنا وتفكيرنا- حكاماً وسواحاً وشعوباً- في اذهان العالم المعاصر، غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، لنعرف هل تجعلهم هذه الصورة أدنى إلى التعاطف مع قضايانا وثورتنا، وبوجه خاص ثورة فلسطين، ام هم ادنى إلى الوقوع في شراك العداء التي تنصبها لنا الصهيومية والامبريالية في كل مكان (2).
العلاقات العربية الأميركية
يعرض الأستاذ (محمد حسنين هيكل) في كتابه (الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق) تحليلاً قيماًً لحاضر ومستقبل العلاقات العربية الأمريكية، يمكن الاستفاده منه في وضع استراتيجيه خارجيه ودولية لعلاقات الدول العربية مع أمريكا والعالم، حيث يقول: تحيط بالعلاقات العربية الأميركية بيئة تتكون من شبه مستحيلات أربعة تبدو وكأنها أضلاع صندوق مغلق، وهي كما يراها هيكل:
1 - صعوبة إقامة صداقة حقيقية مع الإمبراطورية الأميركية, لأن تلك فرصة أفلتت من زمن طويل، فقد تبدت لها احتمالات ممكنة سنة 1945، ولكنها تبددت عام 1948.
_________
(1) لا سكوت بعد اليوم - بول فيندلى- ص244 - 353
(2) خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- ص 8 - مكتبة مدبولي - ط1 1993(3/280)
2 - خطورة الدخول في عداء مطلق مع الإمبراطورية الأميركية, لأن هذه الدرجة من العداء تصل بحركة الأشياء إلى الصدام العنيف، وذلك تحد لا تستطيع الأمة احتماله، فهو في اللحظة هذه وللزمن المرئي يفوق طاقتها أو يتعدى مواردها.
3 - منزلق الاندفاع إلى النهاية في مثل هذا العداء بدون حد، لأن ذلك يصل بأصحابه إلى حالة من الكراهية العاجزة تضرهم بأكثر مما تصيب غيرهم، وتلك وصفة فشل أكثر منها نجاح بشري.
4 - استحالة الصبر إذا توهم العرب أن بإمكانهم تجاهل الإمبراطورية الأميركية وتركها لعوامل الزمن تعريها وتكسر شوكتها، كما حدث لإمبراطوريات سبقتها، لأن وزن الحقائق لا يسمح بمثل هذا التجاهل، فالواقع الراهن له أحكامه، وانتظار الظنون فرض يصعب اعتماده للتصرف الآني مع وجود الإمبراطورية الأميركية بسطوتها وبأسها في قلب العالم العربي بطلبه مرة أو بطلبها مرات.
وبالرغم من هذه البيئه الشائكة التى تحيط بالعلاقات العربيبة الأمريكية الا ان الاستاذ هيكل يرى أن السياسة الأميركية برغم أنها تبدو أمام العرب عاصفة من العنف الأحمق والجامح، فإن ذلك ينبغي ألا يخيف ويغري بالفرار، لأن واحدا من أهم دروس التاريخ أن الإمبراطوريات العاتية تكابر حتى تصل إلى الذرى العالية، ثم تكتشف عند الوصول هناك أن البقاء فادح التكاليف، وعندها تظهر حتمية النزول، لكن الإمبراطوريات تعاند وساعتها يبلغ العنف مداه، وذلك ما حدث لكل الإمبراطوريات سابقاً، من الإمبراطورية الرومانية في العالم القديم، إلى الإمبراطوريتين الكبريين في التاريخ الإسلامي (الأموية والعباسية) في العصر الوسيط، إلى الإمبراطوريات الأوروبية في العصرين القريب والحديث. فتلك الإمبراطوريات جميعاً بلغت الذرى زمن الصعود، وكلها بعد ذلك وبسب أعباء وتكاليف الإمبراطورية اضطرت إلى النزول على السفوح، وكلها في حالة الصعود استعانت بالقوة، وكلها في اتقاء النزول قاومت بالعنف.
وذلك ما يحدث للإمبراطورية الأميركية, وإن كان في حالتها يستدعي قدراً أكثر من الحرص والتدقيق، لأن هذه الإمبراطورية فصيلة تختلف عما سبقها، فهي تملك من عوامل القوة الاقتصادية والمالية ما يتفوق على سابقاتها طوال التاريخ، وهذه الإمبراطورية توظف لخدمة أهدافها أقوى وأكبر منجزات التقدم الإنساني في(3/281)
جميع المجالات. وعاشت الإمبراطورية الأميركية بعيدة عن أي تهديد مباشر لأرضها وسكانها، وراكمت من أسباب القدرة والثروة مدداً وفيراً، وبالتالي قدراً ضخماً من المناعة والثقة بالنفس يزيد أحياناً على الحد. وتملك هذه الإمبراطورية سطوة في السلاح لم تتوافر لغيرها من الإمبراطوريات مع وجود توافق حرج بين التكنولوجيا العسكرية والتكنولوجيا المدنية. واستطاعت الإمبراطورية الأميركية أن تعرض من جاذبية النموذج ما يمهد لتوسعها وانتشارها، بغواية في أساليب الحياة تعزز وسائط القوة. وتمكنت الإمبراطورية الأميركية من أسلوب جديد في السيطرة، يقوم على نظام شديد الجرأة والجسارة إلى درجة الاقتحام والاختراق لخصوصيات الدول والشعوب، والقدرة على خطف وعي الآخرين وارتهانه أسير إعلام مصور وملون، مكتوب وناطق يعطي لنفسه احتكار وضع جدول اهتمامات الرأي العام العالمي وسحب الآخرين وراءه وجرهم مهرولين. ولكن الحكمة الصوفية القائلة "عند التمام يبدأ النقصان" صادقة بالعرفان والبرهان (1).
عشرات الأسلحة لمواجهة أمريكا
إن العالم الإسلامي والعربي بالرغم من ضعفه في الجوانب العسكرية والاقتصادية والسياسية، فإنه يظل يمثل أمة لها فكر وعقيدة وثقافة متميزة ترفض الولاء لغير الله، وذلك ما ترفضه أميركا التي تريد أن تطبع العالم بنموذجها في الحياة، واعتماد العولمة واقتصاد السوق والديمقراطية الغربية. وهذا ما أدى بها إلى اتخاذ موقف معاد للمسلمين بسبب تمسكهم بعقيدتهم التي لم يتمكن الغرب من زحزحتهم عنها رغم قوته وضعفهم. ومن هنا احتدم الصراع بين هاتين الحضارتين الغربية والإسلامية على جبهات عدة، منها الجبهة السياسية ويتم ذلك عبر مختلف هيئات الأمم المتحدة خاصة مجلس الأمن، والجبهة الاقتصادية حيث تعمل الولايات المتحدة على استغلال اقتصاديات الدول الإسلامية والهيمنة على خيراتها، والجبهة الثقافية إذ يتم من خلالها فرض القيم الغربية والعولمة الفكرية وإشاعة حرية
_________
(1) الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق- محمد حسنين هيكل- عرض/ إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت- 12/ 2/2004م(3/282)
المعتقد والإباحية وحرية الإعلام وفق نموذج أميركي جاهز التنفيذ. وأخيراً الجبهة العسكرية وهي الجبهة المفتوحة على مصراعيها في فلسطين بدعمها التام لإسرائيل، وفي أفغانستان وسوريا وباكستان والعراق باعتماد سياسة، من ليس معنا فهو ضدنا" (1).
من هنا فإن التركيز الأميركي على العالم الإسلامي يعبر عن تخوف من إقصاء أكثر منه عن قدرة على توسيع الإمبراطورية ويكشف قلق أميركا أكثر مما يعبر عن قوتها. والتركيز على العالم العربي يفسر أساساً بضعف هذا الأخير الذي يفتقر إلى وجود دولة قوية. فهو بطبيعته كبش فداء. وعليه فالعالم العربي يعد مسرحاً لاستعراض قوة أميركا التي بمقدورها أن تحقق فيه انتصارات، تذكر سهولتها بألعاب الفيديو. ولهذا يعد الخيار الأمريكي المناوئ للعرب خيار السهولة وليس مدروساً. فالعرب يعاملون بسوء لأنهم ضعفاء، ولأن لديهم النفط، ولأنه لا يوجد لوبي عربي فعال في اللعبة السياسية الداخلية الأمريكية (2).
هكذا تريد أمريكا من عالم الإسلام حكاماً ومنظمات وشعوباً .. إن يصير الإسلام والمسلمون حملاً وديعاً قبالة الذئب الأمريكي لكي يغدو قصعة مشاعة يلتهمها ذوو الأنياب الحادة دون إن ينغصهم شيء أو يعترضهم عارض (3). ولكن هنالك حقيقة تغيب عن بال أمريكا، وهي أنه ما من قوة على وجه الأرض، تستطيع بالغة ما بلغت أن تقضي على الإسلام، ولو رافقتها كل أنواع المكر وأساليب الزيف والخداع، ومهما أعدت لذلك من الجيوش والأموال والتقنيات والخطط (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) الأنفال: 36. (ذلكم وان الله موهن كيد الكافرين) الأنفال: 18.
ومن خلال عرضنا للتاريخ والفكر الامريكى اتضح لنا انه لا معايير اخلاقيه وانسانيه تحكم العقل الأمريكي الا عقلية الصراع والبقاء للأقوى الذي جسدته ثقافة رعاة البقر (الكاوبوي) في سنوات الهجرة الأولى إلى أمريكا وتجسدها الآن طائرات الاباتشي وأسلحة التدمير الشامل والصواريخ العابرة للقارات والقنابل الحرارية،
_________
(1) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح - الجزيرة نت
(2) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي- المؤلف: إمانيول طود - كامبردج بوك ريفيوز
(3) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص97(3/283)
ولذلك ليس للعالم أن يتوقع من أمريكا إلا سياسات الأذى والعدوان، والإثم ونهب الثروات والاعتداء على الحرمات بعد أن تترجم إرادتها المحركة لاقتراف ذلك إلى (قوانين) دوليه (وشعارات) معولمه تتمثل فيما تدعي انه: (قرارات مجلس الأمن) (الشرعية الدولية) وأمثال ذلك. لذلك من العبث أن يضيع العرب والمسلمون أوقاتهم في الحج إلى واشنطن، والطواف بالبيت الأبيض والتلبية في الكونجرس ومناشدة الشعب الأمريكي، ومن الأفضل لهم أن يركزوا جهودهم فيما نراه على أربعة محاور:
1 - بناء الجبهة الداخلية بناءاً لا تقل متطلباته عن التضحية بدول التجزئة من اجل دولة الوحدة، وبالسلطة الفردية المطلقة من اجل سيادة الأمة الواحدة، وبالسياسات الظالمة من اجل العدل، وبالدنيا من اجل الاخره وباختصار الاعتماد على الله والنفس وبناء القوة الذاتية وتفجير القوى الكامنة.
2 - القيام بحملة دعويه اسلاميه - عربيه عالميه في أمريكا وغيرها من محاور الطغيان، حملة غايتها إعادة هذا المغولي الجديد إلى إنسانيته وتوجيه قوته المفرطة لإنقاذ نفسه وإنقاذ الانسانيه من عواقب (دارونيته الاجتماعيه المدمره).
3 - ولتكون الحملة الدعويه المنشودة فاعله ومفيدة، يجب إنشاء مركز بحوث ودراسات تختص بدراسة أسس التفكير الاستراتيجي الأمريكي ومساراته المستقبلية بقصد التعرف على أساليبه والخروج به من سجن الشهوات إلى حرية النظر ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والاخره ومن عبادة البترول والدولار إلى عبادة الله وحده مع مراعاة أمرين مهمين:
أ - الصبر والأيمان بالنصر والتحوط من الاصابه بمرض هذا المغولي الجديد.
ب - الحذر من النموذج الإسلامي الذي تريده لنا الولايات المتحدة، وتضغط على الدول العربية والإسلاميه لتلقينه إلى الأجيال القادمة، كما فعل الإمبراطور قسطنطين الرابع عندما اجبر المجامع المسيحية الأولى على إخراج مسيحية رومانية.
4 - انه مهما قيل عن جبروت الولايات المتحدة وقوتها ودقة تنظيماتها وامتداد اذرع مخابراتها، فيجب إلا يغيب عن بالنا أن أمماً سابقه بلغت اكثر مما بلغته الولايات(3/284)
المتحدة من الرفعة والمنعه فلما طغت وتجبرت استبدلها الله بغيرها، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا (1).
وهنا يتساءل المرء أحيانا إلا يمكن إن يوجه المستضعفون في الأرض من أبناء الأمة الإسلاميه المقهورة ضربات موجعة لأمريكا ومصالحها بعيداً عن التفجيرات ولعلعة الرصاص وأعمال العنف وخطف الطائرات؟ بعيداً عن كل ما يدفع (المحاولة) بالإرهاب ويعطي لأمريكا ومدللتها إسرائيل فرصاً أوسع للرد البربري الذي قد تكون خسائره التي تلحق بعالم الإسلام اكبر بكثير جداً مما يلحق بأمريكا نفسها، إلا يمكن استخدام سلاح النفط الذي يملك المسلمون في العالم المساحة الأكبر من مقدراته، ألا يمكن اعتماد سلاح المقاطعة للبضائع والمنتجات الأمريكيه التي تغذي الدخل القومي الأمريكي بمردود أسطوري يمكنها جنباً إلى جنب مع سياقات أخرى من حماية موازنتها المالية من الميل أو العجز، ألا يمكن إن يتفق العمال في كل مكان من عالم الإسلام على رفض شحن أو تفريغ السفن المحملة بالبضائع المصدرة أو المستوردة من أمريكا والتي تعين هي الاخرى الدخل القومي الأمريكي على إن يحفظ توازنه، ويمكن الإدارة الأمريكيه من ثم من إن تكون اكثر قدرة اقتصادية وعسكرية على التحكم بمصائر المسلمين في كل مكان؟ ألا يمكن إن تتردد الحكومات العربية والإسلاميه، ولو قليلاً في عقد صفقات السلاح العتيق (الستوك) الذي تبيعه إياها أمريكا بمليارات الدولارات بعد إن توشك على إلقائه في البحر إذ لم تعد جدوى من استعماله في زمن القفزات النوعية الاسطوريه في صناعة السلاح؟
ألا يمكن إن يتردد أرباب المال العربي والمسلمون في وضع أرصدتهم ذات الأرقام الفلكية في المصارف والمؤسسات المالية الأمريكيه، فيما يجعل الولايات المتحدة تتحقق بأكثر من مردود من جراء هذه الحالة قد يكون أولها توظيف هذه الأرصدة عبر أنشطتها الاقتصادية والتنموية في سياقاتها كافه وقد لا يكون آخرها التلويح بتجميد هذه الأرصدة حيثما ارتأت امريكه ضرورة إنزال العقاب بهذه الجهة أو تلك من المؤسسات المالية والاقتصادية في عالم الإسلام أو بهذا الرجل أو ذاك من ناشطي المسلمين في دوائر المال والاقتصاد. مجرد تساؤل ومرئيات قد تخطئ وقد
_________
(1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص24 - 25(3/285)
تصيب .. وإذا كان غاندي قد قاد أربع مائة مليون هندي في مجابهة (سلبية) للوجود الاستعماري في الهند فتمكن من الإمساك بخناقه، أفلا يكون بمقدار مليار وربع المليار من مسلمي العالم، يملكون الموقع والنفط والمعادن والمال .. إن يضيقوا الخناق على أمريكا لكي تكف على الأقل عن دعمها المطلق لإسرائيل التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني واحدة من ابشع المجازر في التاريخ المعاصر (1).
خطة عمل عربيه لمواجهة صهيونية الحركة المسيحية الأصولية
بالرغم من ان هناك اليوم طوائف مسيحية مختلفة ومتعددة، فإن ما يعنينا هنا المذهبين الكاثوليكي والارثوذكسي، لان المذهب البروتستانتي خضع لعملية تهويد منظمة ابعدته عن روح المسيحية السمحمه. ومن هنا فإن التفاهم الإسلامي - المسيحي لكبح جماح الصهيونية المسيحية، فوق أنه ممكن، ومتوفر، فإنه سيكون شديد الفعالية، ذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية - خلافا للبروتستنية - هي كنيسة مركزية موحدة، ويلتزم أبناؤها بفكرها اللاهوتي التزاماً شديداً، ثم إنها غير معنية على الإطلاق بأيديولوجية الكنيسة البروتستنتية التي تعلم أبناءها أن الله يتعامل مع الأمم حسب تعامل هذه الأمم مع إسرائيل، وأن عدم الوقوف إلى جانب إسرائيل هي معاداة الله، كما أن الكنيسة الكاثوليكية غير معنية بالأيدلوجية اليهودية البروتستنتية التي تزعم أن اليهود هم شعب الله المختار، وأن الله منح اليهود وعداً أبدياً بفلسطين.
وبالرغم من انعقاد عدة مؤتمرات للحوار الإسلامي - المسيحي شارك فيها وشجعها الفاتيكان ودول ومؤسسات إسلامية متعددة، الا انها لم تتصد لهذه القضية الأساسية، ولم تشكل فرق عمل لوضع منهجية مشتركة تنطلق من ثوابت إيمانية ومن قناعات مشتركة لمواجهة خطر المسيحية الصهيونية. فالمواجهة يجب ان تشمل اقامة حوار بناء وهادف مع كافة المذاهب المسيحية وبالذات الكاثوليكية والارثوذكسية وذلك من اجل اقامة تحالف مع هذه الكنائس للتصدى وفضح المخططات العدمية للصهيونية المسيحية، والتى لا تهدد العرب والمسلمين فقط، بل
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص93 - 95(3/286)
تهدد المسيحية ذاتها وتخرجها عن اطارها الصحيح، كديانه للمحبه والسلام، من خلال عملية التهويد المنظم للصهيونية المسيحية.
وفي كتابه (البعد الدينى في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى - الصهيونى) - اقترح د. يوسف الحسن خطة عمل عربيه لمواجهة صهيونية الحركة المسيحية الاصوليه شملت العناصر التالية (1):
1 - إعداد دراسة جادة ومفصله حول مواد التعليم في مدارس الأحد والمدارس الدينية، حيث تهدف الدراسة لاستكشاف العناصر الخفية والظاهره للاتجاهات الصهيونية والمؤيدة لاسرائيل، وتقديم ذلك إلى قادة مسيحيين ممن يتعاطفون مع وجهة النظر العربية، مثل المجلس الوطني للكنائس وذلك بهدف تشجيعهم على المطالبة بإصلاح برامج التعليم في المدارس الدينية وبخاصة مدارس الاحد.
2 - دعم وتشجيع عقد مؤتمرات دينيه مسيحية في الولايات المتحدة الأمريكيه وفي الوطن العربى، وبشكل دوري ومنتظم تناقش فيها مسائل العلاقات بين الدين وحقوق الإنسان، بهدف استكشاف وكشف استخدام الصهيونية السياسية للتوراه.
3 - تنظيم برامج زيارات دوريه متبادله لقادة مسيحيين أمريكيين للدول العربية، ولقادة مسيحيين عرب من مثقفين ورجال دين إلى الولايات المتحدة الأمريكيه، وإيجاد صلات عمليه بين الكنائس العربية والكنائس الأمريكيه وبخاصة الكنيسة الكاثوليكيه ومؤسساتها المختلفه.
4 - تنظيم حملة واعيه ومستمره في الصحافة ومحطات الراديو والتلفزة في الولايات المتحدة الأمريكيه، مستخدمة اللغة الكنسيه نفسها لتفنيد عدم صحة مقولات الصهيونية المسيحية مثل اطروحة شعب الله المختار ووضع مدينه القدس.
5 - دعم وتشجيع نشر معلومات معده بشكل علمي وميسر حول الإسلام ومعالجاته للقضايا الاجتماعية والسياسية ونظرته إلى الأديان الأخرى، بما في ذلك الدور العربي والإسلامي في نقل وتطوير وحفظ الحضارة الانسانيه، وذلك في محاولة للرد على اطروحات الاصوليه المسيحية التي تركز على وحدانية التراث المسيحي - اليهودي للانسانيه.
_________
(1) البعد الدينى في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى - الصهيونى- د. يوسف الحسن ص 198 - 205(3/287)
6 - وضع أسس حوار دائم بين الإسلام والمسيحيه واليهوديه، واستحداث أقسام داخل المنظمات والمعاهد والمراكز والمؤسسات الإسلاميه في الوطن العربي، مختصة بهذا الحوار وتنظيمه ونشر أبحاثه وقراراته.
7 - إعداد أفلام وثائقيه وسينمائيه متنوعه موجهة إلى الجمهور الأمريكي، تروى قصة العرب ودورهم في الحضارة الانسانيه وكذلك البعد الديني لاحتلال إسرائيل لفلسطين وأراض عربيه اخرى، إضافة إلى مسائل اليهود في التاريخ العربي وغير ذلك من القضايا، التي يمكن أن تشكل رداً على السينما الصهيونية المسيحية التي تعمل على تشويه صورة العرب.
8 - دعم وتشجيع إقامة صلاة إفطار دوريه من اجل القدس والسلام والعدل في فلسطين، يدعى إليها رجال دين مسيحيون عرب وقيادات من الكونغرس ورجال دين من مختلف الطوائف المسيحية الأمريكيه، ويصدر عنها قرارات أو بيانات.
9 - دعم وتشجيع نشر و (زرع) مقالات وأخبار حول مسائل تتعلق بحقوق الإنسان الفلسطيني في الأراضي العربية المحتلة والقدس كمدينه للسلام، وإثارة اسئله توراتيه حول معتقدات المسيحيين في العهد القديم والتشكيك بالملكية غير المشروطه لليهود في فلسطين.
10 - دعم وتشجيع (تعيين ضباط اتصال) لروابط ومنظمات مسيحية امريكيه في الأقطار العربية، لتسهيل الاتصال وتوفير التحليل والفهم والتفهم الموضوعين للقضايا المشتركة والخلافيه.
11 - دعم وتشجيع إيفاد واستقبال (بعثات لتقصي الحقائق) في ما يتعلق بفلسطين، تضم رجال دين وعلماء لاهوت وصحفيين مختصين بهذه الشؤون.
12 - لاول مره في التاريخ اصبح لدى الاصولية المسيحية تقنية الأقمار الصناعية للاتصال عبرها مع العالم (ولنشر الكتاب المقدس في كل انحاء الكرة الارضيه). وأي خطة للمواجهة لا بد أن تشمل عناصرها استخدام هذه الوسائل التقنية المعاصره.
13 - إصدار (مجلة متخصصه) توزع على مستوى الولايات المتحدة الأمريكيه إما بشكل اسبوعي أو شهري وموجهة إلى المجتمع الكنسي، لمعالجة المسائل الدينيه والقضايا السياسية والاجتماعية من منظور مسيحي يخدم وجهة النظر العربية المشتركه.(3/288)
14 - تشجيع دعم نشاطات مسيحية غير صهيونية في إطار العمل التشريعي للجان الكونغرس، وبخاصة في مجال تقديم شهادات الاستماع ( Testimony) في المسائل الدينيه المسيحية.
15 - تنظيم حمله من اجل القدس، حيث ستظل مدينة القدس ومستقبلها في السنوات القادمه محور مناقشات واسعه، داخل أروقة واجتماعات الكونغرس الأمريكي، وفي صحافة مؤسسات الكنائس المسيحية، فضلاً عن منظمات الحركة الصهيونية اليهوديه.
16 - إنشاء إدارات أو لجان دائمه في المؤسسات الدينيه العربية بحيث تختص بشؤون الأديان السماوية والعقائد الاخرى، وتدريس الديانتين المسيحية واليهوديه في المعاهد والكليات الإسلاميه، بهدف تنمية فهم افضل لهاتين الديانتين وتوفير مناخ صحي موضوعي لحوار بين الأديان السماوية وبخاصة بين المسلمين والمسيحيين.
17 - بناء جسور منظمه بين المؤسسات الدينيه العربية وبخاصة مجلس كنائس الشرق الأوسط، وبين المجلس القومي للكنائس في الولايات المتحدة الأمريكيه بهدف التأثير في صياغة مواقفه وسياساته تجاه القضايا، وتبادل المعلومات والبيانات والزيارات وتبني مشروعات مشتركة في أنحاء متفرقة من العالم مثل مشروعات الاغاثه الانسانيه (1).
_________
(1) البعد الدينى في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى - الصهيونى- د. يوسف الحسن ص 198 - 205(3/289)
الفصل الثالث
الحوار بين الأديان والحضارات
في اطار حربها الضروس على الامه العربية والإسلامية، ولانجاح حربها الصليبية الجديدة، عمدت الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدوائر الغربية إلى خوض هذه الحرب على كافة الصعد، حيث احتلت عملية تشويه صورة العرب والمسلمين اولوية رئيسة في اجندتها من اجل كسب المعركة، وذلك لتبرير كل ما تقوم به من دعم وتأييد لجرائم اسرائيل في المنطقة، ولتبرير جرائمها وتدخلها في شؤون المنطقة منذ عقود طويلة. لهذا فقد عمدت أمريكا على كافة المستويات إلى خلق صوره مخيفه للعرب والمسلمين مستغله صوراً نمطيه رسمها كثير من المستشرقفيين والمبشرين الغربيون عن الإسلام والعرب منذ زمن طويل، وقاموا من خلال مؤسساتهم ومراكز ابحاثهم بتضخيم هذه الصوره وتعميمها على الرأي العام المحلي والدولي، بل وفي احيان كثيره عمدوا إلى خلق هذه الصور وابرازها، كما حث في ما يسمونه (الحرب ضد الارهاب).
وبالتأكيد فإن أمريكا في سعيها الدؤوب هذا لا يعنيها حدوث ايه تفاهم أو تقارب بين الأديان أو حدوث اي حوار حقيقي بين الحضارات، لان هذا يعنى نهايه الكذب والتضليل وانكشاف عدم مصداقية كافة الصور النمطية المشوهه عن العرب والمسلمين، والتى سعت هى وغيرها من الدوائر الصهيونية المعادية للعرب والمسلمين إلى ترسيخها في وجدان الرأى العام العالمي والغربي بصفة خاصه، وما يحدث الآن على الساحه خير دليل على ذلك من خلال تخويف الجميع مما يسمى الارهاب الإسلامى الذي صنعته هى، وبدأت في التدخل في المناهج الدراسيه والخطب الدينية، ومصارف الزكاه والصدقات، وما يجب وما لا يجب .. الخ. بحيث اصبحت محاربة ما يسمى (بالتطرف الإسلامي) الشغل الشاغل للعالم كله، لان أمريكا تريد ذلك، حيث تناسى الجميع _لان أمريكا تريد ذلك ايضاً- اصناف التطرف اليهودي والمسيحي الصهيوني، وتطرف المحافظون الجدد حكام البيت الابيض.(4/6)
وهنا تقول المستشرقة (آرمسترونغ): "إن الإعلام الغربي يثير انطباعات بأن التشدد والتزمت الديني الذي يتسم بالعنف ويسمي (التعصب) هو ظاهرة إسلامية بحتة، لكن الحقيقة هي أن التعصب ظاهرة عالمية طفت علي السطح في كل الأديان الرئيسية ... فهناك تعصب يهودي (1)، وتعصب مسيحي، وتعصب هندوسي، وتعصب بوذي بل وتعصب كونفوشي. ولكن تعصب الأسواق هو أسوأ تلك الأنواع من التعصب، حيث أدي بشكل غير مباشر إلي نشوء كل ما سبق ذكره من صنوف التعصب. وكان أول أشكال التعصب قد ظهر في العالم المسيحي في الولايات المتحدة أوائل القرن العشرين". وتستطرد آرمسترونغ وتقول: "من بين ديانات التوحيد الثلاثة، كان الإسلام آخر الأديان التي ظهر فيها التيار المتعصب ... أواخر الستينيات والسبعينيات. وفي ذلك الوقت، كان التعصب قد أخذ من المسيحيين واليهود كل مأخذ" (2).
ولكن مثل هذه الحقيقة التى تقولها المستشرقة آرمسترونغ وغيرها من العلماء والمفكريين الغربيين المنصفين، لا تروق لقادة أمريكا وبريطانيا وجموع اليمين المسيحي المتطرف، بل لا بد من ابقاء صورة الإسلام الارهابى والمتطرف الذى يهدد الحضارة الغربية. "فالأمريكي الابيض لم يفكر فيما فعله في الهنود الحمر وفيما فعل القراصنة البيض في الخمسة عشر مليوناً من العبيد السود الافارقه، الذين خطفوهم من أفريقيا وباعوهم في أسواق النخاسة، وفيما فعل الصرب من مجازر ومذابح لمسلمي البوسنه، وما فعله الأمريكان في هيروشيما، وما يفعله الاستعمار الأوروبي والأمريكي الآن في القارة الافريقيه في بلاد الماس والذهب .. زائير ورواندا وبوروندى. أين بربرية الإسلام المزعومة من هذه الإبادة والقتل الجماعي وخطف الملايين وبيعهم في أسواق العبيد وفي تشريد الشعب الزائيري
_________
(1) في كتابه الاصولية اليهودية يعرض المؤلف لاصناف مختلفة من التطرف والتحجر والجمود لدى الاحزاب الدينية اليهودية والذي لا يمكن مقارنته بأيه حال من الاحوال بمظاهر ما يسمى التطرف الإسلامي، ولكن موضوع هذا التطرف لا يسلط عليه الضوء من قبل الاعلام الأمريكي والغربي بالرغم من ان اتباعه اصبحوا لهم اليد العليا في تشكيل الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة وسعى الاحزاب الرئيسية إلى استرضائهم.
(2) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص28(4/7)
وموته جوعاً في الغابات ونهب خيراته وثرواته وإثارة طوائفه ليقتل بعضها بعضاً. وأين هذه الجرائم والفتن والمذابح مما فعل بالمسلمون في الأندلس" (1).
ان المسلمين لم يأتوا إلى الأندلس غزاة، ولم يفتحوا بلاد الروم والفرس، ولا بلاد أوروبا كما فتحها المغول والتتار للنهب والسلب، وانما دخلوها يحملون ديناً وكتاباً وحضارة .. دخلوها كرسل علم وكطلائع تنوير واعمار .. ولم يغترفوا من ثروات أوروبا ما اغترفت ونهبت من ثروات مستعمراتها في افريقيا. كما ان العرب والمسلمون لم يعرفوا في عقيدتهم وتاريخهم تجارب الإبادة والطرد الجماعي والعزل العنصري والممارسات الفاشية والنازية، بينما شهد الغرب ولادة تجارب الحروب الصليبية التي ستبقى وصمه عار تلطخ تاريخ أوروبا، وشهد الغرب الإبادة الوحشية للشعوب في العالم الجديد وخاصة في القارة الاميركيه وشهد تجارة الرقيق بكل بشاعاتها والتي استنزفت طاقات إفريقيا السوداء لقرون، وشهد الغرب أيضا ظاهرة الاستعمار الكولونيالي بكافة وجوهه، فكان الناهب للخيرات والطارد للبشر والمستوطن لأرضهم، في حين لم يشهد العالم الإسلامي في ذروة تألقه أي شيء من هذا. وقد شكل بقاء الاقليات في العالم الإسلامي، بكل ما تملك من خصوصيات ثقافية ودينيه دليلا على حضارة تؤمن فعلاً وقولاً بحق الآخر في الوجود والتميز والمشاركة (2).
ولكنهم في أوروبا وأمريكا يحاولون الآن طمس هذه الحقيقة ويحاولون تزوير التاريخ وينفقون الملايين لتشويه الإسلام وتبشيع صورته .. فهو إرهاب وجرائم قتل وتفجير قنابل وإشعال حرائق .. في الصفحات الأولى من جميع جرائدهم. لقد انتهت الشيوعية ولم يبق لهم عدو سوى الإسلام. هذا هو المعنى الذي يغرسونه في كل صفحة، وفي كل عمود وفي كل خبر ليستقر في وجدان العالم تمهيداً للعدوان الذي يدبرونه على الإسلام واهله (3).
_________
(1) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص107 - 108
(2) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص28
(3) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص108 - 109(4/8)
نظرية صراع الحضارات
في اللحظة التى بدأ حوار الأديان والحضارات يشق طريقه بنجاح، جاء منظرو صراع الحضارات محاولين قطع الطريق على هذا الحوار، فكانت نظرية نهاية التاريخ (لفوكوياما)، وصراع الحضارات لهنتغتون. فالمصلحه الأمريكية والصهيونية تتطلب تصعيد الصراع بأيه طريقه، ولهذا تظهر الفبركة والاكاذيب والتلفيق للوصول إلى الهدف. فعندما طرح هنتجون كتابه صراع الحضارات وتنبأ أو بمعنى اصح حدد العدو الجديد للغرب ممثلاً بالإسلام والصين، سعى إلى حشد اوروبا بكاملها مع أمريكيا كجبهه موحدة ضد الإسلام، جاعلاً الصراع وكأنه صراع بين الحضارة المسيحية والإسلام، متناسياً وبشكل متعمد ان الحضارة المسيحية ليست وحدة واحدة كما وضحنا في هذا الكتاب، فاوروبا بشكل عام كاثوليكية المذهب، وهو على النقيض من المذهب البروتستانتى السائد في أمريكا. ولكن من اجل حشد اكبر قدر من الحلفاء لفكرة صراع الحضارات، تناسى هنتجتون هذه الفروقات والتاريخ الطويل من الصراع بين البروتستانت والكاثوليك في اوروبا وأمريكا وحشدهم في جبهة واحدة ضد الإسلام. ومما يوضح سوء النية عند هنتجتون ومحاولته تضليل الرأى العام هو انه في كتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية)، يتراجع عن فكرة الحضارة المسيحة الموحدة، إلى فكرة (الثقافة الانجلو بروتستانية) باعتبارها المصدر الرئيس للهوية الامريكة، بل والاهم من ذلك هو انه يرى ان اختلاط الأمريكيين بغيرهم من اصحاب الثقافات الاخرى بالاضافة إلى هجرة الاقليات من أمريكيا اللاتينة (كاثوليك) واوروبا، يشكل خطر على الهوية الأمريكية.
ولحماية هذه الهوية فإن هنتجتون يرى ان ذلك يمكن ان يتم من خلال توحيدهم في مواجهة الخطر الإسلامي، حيث يرى أن العداء للإسلام والحضارة الإسلامية قد يساعد بشكل كبير في تحقيق التفاف الأميركيين المنشود حول هويتهم الوطنية في المستقبل المنظور، حيث يطرح هنتنغتون رؤية لإعادة بناء الهوية الأميركية تقوم على استشراف بعض التغيرات الجذرية الإيجابية الطارئة على المجتمع الأميركي في الفترة الأخيرة، التي من شأن تأكيدها عودة الروح للهوية الوطنية الأميركية. ويعني هنتنغتون بهذه التغيرات تحولين أساسيين، أولهما عودة الأميركيين للدين المسيحي(4/9)
(يعنى البروتستانتيه) وزيادة دور المسيحية في الحياة العامة الأميركية، وثانيهما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلام كعدو أساسي جديد لأميركا (1).
ومن خلال مقارنة ما طرحه هنتجتون في كتابه (صراع الحضارات)، وكتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الأمريكية) يتضح لنا ان اهم ما يعنى هنتجتون هو ابقاء الإسلام كعدو اساسي لأمريكا، وتفعيل دور الدين الممسيحي (بشقه البروتستانتى) في الحياة العامه، اى زيادة نفوذ التيار المسيحي الاصولي الذي يتطلع إلى تحقيق الخرافات والنبوءات التوراتية. ولهذا فإن الدكتور (زكاء الله) كان محقاٌ في كتابه (الصليب والهلال) عندما فند مقولة صدام الحضارات، وبين الترابط بينها وبين الرؤية التي يتوقعها سفر الرؤيا لنهاية العالم، والتي تقول بقيام معركة هرمجدون التي ستدوم ثلاث سنوات ونصف السنة، وتبدأ بسبب العرب حسب أحد التفسيرات المتداولة، ليقيم بعدها المسيح دولة الرب. وقد تطورت أشكال التفسيرات والتصورات لرؤية المعركة الأخيرة، لتتبلور في النهاية في مقولة صدام الحضارات التي خرج بها صموئيل هنتنغتون، دون أن يستطيع الخروج من الرؤيا الكارثية التي صورتها العقيدة المسيحية عندما بشرت بحرب ضروس تبدأ بسبب العالم العربي (2).
وهكذا فإن نظرية صراع الحضارات التى قال بها هنتغتون، استاذ العلوم السياسية ومدير مؤسسة (جون أولين) للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد، تؤكد بإيجاز على إن الغرب وأمريكا بالذات، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بحاجة ماسة إلى عدو جديد يوحد دوله وشعوبه (3) وان الحرب لن تتوقف حتى لو سكت السلاح وأبرمت المعاهدات، ذلك إن حرباً حضارية قادمة ستستمر بين المعسكر الغربي الذي تتزعمه أمريكا، وبين طرف آخر قد يكون عالم الإسلام أو الصين. اما نظرية نهاية التاريخ (لفوكوياما) فتسعى إلى إلغاء البعد التاريخي، ووضع الأمم والجماعات كافه عراة قبالة الصنميه الاقتصادية التي تنزع إلى تسوية الجميع إزاء مطالبها، لكنها من
_________
(1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون- عرض/ علاء بيومي- الجزيرة نت 2 - 8 - 2004
(2) الصليب والهلال - المؤلف: محمد عارف زكاء الله - الناشر: ذي آذرز، كوالالمبور- الطبعة: الأولى/2004 - الجزيرة نت
(3) مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى انسنة الحضارة وثقافة السلام - د. محمد سعدي - مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2006 - ص 184(4/10)
وراء هذا تزيد أغنياء العالم وطواغيته غنى وجبروتاً وفقراءه ومستضعفيه فقراً واستبعاداً. إنها بشكل من الأشكال مناورة فكريه تمنح خلفيات تنظيريه لممارسات تتجاوز ابتداءً منظومة القيم الخلقية وثوابت العقائد والأديان والمطالب الاساسيه للإنسان، ومن وراء هذه المناورة تكمن الخبرة الصليبية واليهودية والاستعمارية والرأسمالية. إن إلغاء الذاكرة التاريخية، وتحكيم الصنميه الاقتصادية المتسلحة بكل قوى العلم والتكنولوجية والتفوق العسكري وحتى السياسي، للغرب لن يجعل الفقير غنياً وينزل بالاغنياء لكي يقاربوا الفقراء، بل ستجعلنا وكل المستضعفين في الارض ينسلخون عن تاريخهم، ويفقدون تميزهم ويزدادون التصاقاً بالقوى المتحكمة في آليات الاقتصاد العالمي. ان تجريد العالم من بطانته الروحية، والوجود من تجذره في الغيب، ومنح السلطة المطلقة للاقتصاد، سوف يميل بالميزان، وسيكون الانسان هو الخاسر الوحيد (1).
ولا شك أن إيديولوجية كهذه لا بد أن تعتبر الإسلام عقبة كأداء لا بد من إزالتها من الطريق ولا سبيل للحوار معها، بل حتى المذاهب المسيحية الأرثوذكسية ملزمة بالتحول إلى ما تعتقده تلك الإيديولوجية إن هي أرادت النجاة من (الحرب الأخيرة) قبيل عودة المسيح .. ! "فأسطورة (نهاية العالم) هذه وعودة المسيح آخر الزمان كما يروج لها هذا التدين السائد اليوم في أمريكا هي التي تلقفها وألبسها لبوساً ليبرالياً كلاً من فرانسيس فوكوياما في كتابه عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ثم صامويل هانتنجتون في حديثه عن صدام الحضارات! ومن العجيب أن يعكس هذا الفكر الليبرالي ذلك النوع من الفكر الديني وينتهي معه إلى التبشير بمصير مأساوي للإنسانية!. لقد أجمعت الدراسات على مبلغ تدين الشعب الأمريكي، مقارنة بالشعوب الأوروبية، إلا أن الحقيقة الصادمة توضح أن هذا التدين في الأغلب لا يساعد على قيام تفاهم حضاري، لأنه تدين عدواني الطابع، منغلق التفكير، إرهابي النزعة، يبشر بعالم مخيف حقا! " (2).
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص114
(2) أية قيم دينية لحضارة إنسانية؟ - د. عبد المجيد الصغيّر http://www.qatar-conferences.org/dialogue/article2.do(4/11)
حوار الأديان والحضارات
يناقش الكاتب الإيطالي (أمبرتو إيكو) مقولة صراع الحضارات أو الثقافات التي تفسر الحرب الأميركية على العالم الإسلامي وحرب المسلمين عليها، ويتساءل ان كانت الحرب هي الشكل العادل للعنف .. وهل يعتبر ما يجري صراعاً بين الشرق والغرب على غرار الحروب الصليبية؟ ويجيب ايكو على ذلك مستبعداً مقولة صراع الحضارات في تفسير ما يجري، ويدعو بقوة إلى مقاومة نزعة العداء الحضاري والثقافي لأن كلفتها تضر بالغرب، وقد تلحق به الهزيمة، فقد تداخل الشرق بالغرب، وتداخلت المصالح والعلاقات على نحو لم يعد ممكناً حمايتها إلا بالتعاون والعمل المشترك من خلال الحوار بين الأديان والحضارات (1).
فالبشرية في عصرنا الحاضر تعاني من أزمات سياسية وانفجارات اجتماعية وهجرات سكانية وفجوات عميقة اقتصادية وتناقص في الموارد الطبيعية، ودمار متواصل للبيئة وارتفاع في وتيرة العنف والغلو. كما يشهد العالم تحولات كيفية غير مسبوقة خاصة في مجالات الثورة التكنولوجية الثالثة، والتي يصعب فهم تأثيرها على القيم والعلاقات والأفكار والثقافات، دون إعمال العقل والحوار. كما تبرز صعوبة إدراك حقيقة القواعد والعلاقات والمشاعر والبناء الاجتماعي والحدود التي تقوم عليها الحضارات، ومدى تغير دلالاتها عبر الزمان والمكان، ومدى تأثر اتجاهاتها بالضغوط الخارجية والأزمات الداخلية ... وغير ذلك. كما يخشى أن يؤدي استمرار وجود الصور النمطية لحضارة عند أخرى إلى تغذية ضروب الكراهية الجماعية خاصة في المجتمعات التي تنتشر فيها الجهالة والتعصب والخرافات، فيتحول الاختلاف إلى نزاع، وإذا نشب النزاع، فقد يتحول إلى عنف إذا لم يكن هناك حوار و (ثقافة حوار)، والتي تعلي من قيمة التسامح، وتحترم مبدأ كرامة الإنسان وحريته في الاختيار، وتقبل مبدأ التنوع والتعددية الحضارية بدلاً من فرض (النموذج) والهيمنة (2).
_________
(1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار-الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي
(2) حوار الحضارات .. لماذا؟ يوسف الحسن- الموسوعة الإسلامية http://www.balagh.com/mosoa/garb/cx01bsu0.htm(4/12)
فلا يكاد يمر يوم إلا تحمل لنا الأحداث الجارية في الساحة الدولية نذر صدام ديني وحضاري بين ما يدعى بالثقافة اليهودية المسيحية الغربية، والثقافة العربية الإسلامية. فنقاط التماس كثيرة، إلى درجة أن هانتغتون قال بأن حدود الإسلام المختلفة (دامية). فمن هذه الساحات: المعترك الفلسطيني حيث الصراع العربي الصهيوني يقدم خطأ في الإعلام الغربي و كأنه صراع بين اليهودية والإسلام. ومن هذه الساحات الحروب الأهلية في السودان وفي بعض مناطق إفريقيا مثل ساحل العاج وإرتريا ونيجيريا. حيث تطرح العلاقة بين الديانتين المسلمة والمسيحية إشكالات حادة. و بعد أحداث 11 سبتمبر، نشطت بعض المجموعات المتطرفة في الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإسلام والمسلمين رابطة خطأ بين الإسلام والإرهاب، من منظور كون الإسلام يدعو للتعصب والكراهية والعنف. وفي منطقتنا كررت بعض الأصوات المتشددة مقولات مماثلة، ومعتبرة إختلال الموازين في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية العادلة عدوانا وحربا ضد الإسلام.
إن هذا الوضع المتأزم الذي تدفعه التيارات المتطرفة من الجانبين للإنفجار، يستدعي من العقلاء المنصفين من الديانات السماوية الثلاث الوقوف بحزم ضد الغلو والتشدد والإرهاب، بتوظيف قيم السلم والتسامح التي تزخر به النصوص المقدسة (1). ولهذا دعي الكثيرون أنه حيال هذا العالم المعقد المتشابك المهدد، لابد من حوار يكفل اجتماع الفرقاء والشركاء، ويضمن احتواء ما أمكن من أزمات وكدمات تبدأ صغيرة أو وطنية وتتدرج لتطال أمداً بعيداً (2). فلم يعد بالإمكان - في هذا العصر - تقوقع الذات عن الآخر، إذ أصبح تشابك العلاقات الإنسانية، وما تواجهه من تحديات تجاه قضايا مشتركة، يفرض على الذات ان تدخل في الحوار، من أجل المصلحة العامة التي تجمع بين البشر، بطريقة وبأخرى، وهذا الواقع يؤكد ان مسألة الحوار بين الأديان والحضارات ترقى إلى مستوى الضرورة التي ينبغي ان تقابل بالجدية
_________
(1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي http://www.science-islam.net/article.php3?id_article=690&lang=ar
(2) حوار الحضارات والثقافات: رؤية في حوار الحضارات وصراع الأمم- بقلم الحسين ولد مدو- http://www.akhbarnouakchott.com(4/13)
اللازمة. وهنا يجب ان نشير إلى ان رسالة الإسلام ومبادئه لا يمكن ابدا ان تدعو إلى الصدام والصراع مع الحضارات والديانات الاخرى، والإسلام الحقيقي هو اسلام المحبة والسلام والاخاء واحترام الآخر ونبد العنف والتطرف، والدفاع عن القيم النبيلة واحترام حقوق الانسان وتحقيق العدالة والقضاء على الفقر والنفتاح على كل الحضارات الانسانية (1).
أهمية الحوار
مما تقدم يتضح لنا اهمية الحوار مع الآخر والذي جعله ديننا الإسلام طريقاً للدعوه ومخاطبه الآخرين للوصول إلى الحقيقة. ولعل حضارتنا العربية والإسلامية هي (الأعلى) صوتاً وفعلاً في رسالتها (الحوارية) خاصة وهي تولي منزلة عليا للعقل والعلم والحرية، وتدعو البشرية للتعارف والتفاهم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وهذه هي رسالة الحضارة (2). وبالتأكيد فإن التعارف لا يتم الا من خلال الحوار الجاد والبناء الذى يعرض الحق بجلاء ويقدر ويحترم آراء ومواقف الآخرين.
لقد كان الحوار قبل الإسلام كما في الحضارة والفلسفة اليونانية فناً قائماً بذاته، فالمحاورة تحدد موضوعاً للدراسة، وليس القصد منها الخروج بنتيجة بصدد المشكلات المعروضة بقدر ما تجعلنا أقدر على الجدل في كل الموضوعات، فهدف المحاورات لم يكن إمداد الناس بالمعلومات والمعارف، بل تقديم مساعدة على التدريب على فنون الجدل. أما الهدف الأساسي للحوار في الإسلام فهو وصول الناس إلى الحق بالطريقة التي تعمق الإيمان في نفوسهم، فالإسلام ينطلق في فهمه للحوار من فكرة أن الله فطر الإنسان على الجدل (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) ليواجه الحياة بكل ما فيها من أوضاع وملابسات وأفكار بعقلية منفتحة قلقة لا تستقر على حال، وهذا ما يجعله في بحث دائم مستمر عن الحق والأفضل والأكثر صواباً، فثمة ما هو صواب وما هو أكثر صواباً، والشك هو طريق اليقين أو إثبات اليقين
_________
(1) مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى انسنة الحضارة وثقافة السلام - د. محمد سعدي - مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2006 - ص 368
(2) حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن(4/14)
ورسوخه. وترى الإنسان لا يستقر على حال فتراه يفتش عن الشيء وضده، عن الحق والباطل، فلا يتيقن إلا ليتململ في رحلة جديدة من الشك، ولا يشك إلا ليبدأ رحلته الطويلة نحو اليقين. وقد رأينا في علاقات الدول والأفراد اضطراباً حين يفشل الحوار أو يفتقد، فقتل قابيل أخاه هابيل عندما فشل الحوار بينهما، ولكن يبقى العقل هو القوة الصالحة للحكم على الأشياء وميزانا يزن به صحة القضايا وفسادها، حتى في يوم القيامة لا يقف الإنسان مكتوف اليدين أمام مصيره بل يترك له مجال الدخول في حوار وجدال يدافع به عن نفسه على أساس العدالة التي تحترم في الإنسان حقه الطبيعي في الدفاع عن نفسه حتى أمام الله الذي يعلم كل شيء (1).
ومن هنا فإن اهمية الحوار تكمن أنه يمكن أن يكون أساساً لتجتمع الإنسانية حوله، وعلى الإنسان الاطلاع على أفكار الآخرين، ففي ذلك فهم لفكر الآخر. فالحوار في هذا السياق هو أحد الأفكار والحلول المهمة للخروج من مأزق العنف والتطرف. ففي مقابل الغياب الكبير المفزع للحوار في حياتنا وعلاقاتنا وعملنا، هناك حضور كبير للحوار في القرآن الكريم ومقاصد الشريعة الإسلامية، حتى يكاد يكون قضية أساسية، فنجد في القرآن الكريم مواضع لا تعد ولا تحصى للحوار، الحوار بين الله والملائكة، (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) والحوار بين الله وإبليس، والحوار بين الله والأنبياء، وحوار الأنبياء مع قومهم، وحوار الأنبياء والصالحين مع أنفسهم. ونجد في القرآن دعوة إلى الحوار في العلم والدعوة والحياة، (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن). (2).
والحوار بهذا المعنى ليس فقط لتوضيح القضايا التي يختلف عليها، ولكنه يقرب الناس بعضهم من بعض، ويخلق حركة فكرية ومجتمعاً متعلماً متحركاً. وغياب الحوار في المجتمع يجعله مجتمع قهر وعنف، وغيابه في علاقات الأفراد يجعلهم جزراً معزولة بعضها عن بعض، ويحول همومهم إلى الغرق في الذات والدوران حولها، حتى درجة المرض والهوس. وغياب الحوار بين الدول يعطل مصالحها ويضر بشعوبها ويجعلها تتحمل جهوداً وتكاليف زائدة يمكن الاستغناء عنها وتوفيرها أو
_________
(1) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت
(2) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.(4/15)
استخدامها في المصالح والاحتياجات. ويمكن أن نجعل الحوار منهجاً للتربية، وتكوين القناعات، وأسلوب الحركة الفكرية في التنشئة، وتهيئة الروح الموضوعية في مواجهة مسائل الخلاف، وفي تقبل الفكرة المضادة بطريقة عقلانية واقعية. فموضوع الحوار يرتبط بالتكوين الداخلي لشخصية الإنسان المسلم الذي يريد له الإسلام أن يفكر كيف يتعلم ويدعو الناس ويفتح قلوبهم وعقولهم على الحق والصواب، ولا بد من الحوار حتى تستمر الحياة في حالة الضعف أو القوة، وفي حالة الحرب أو السلم، فلا أحد يستطيع أن يستغني عنه مهما علا شأنه أو كانت قوته، فرداً كان أو مجموعة أو مجتمعاً أو دولة (1).
فالعالم المعاصر الذي يتسم بالتونع والتعددية، والذي يرتبط ببعض عبر آلاف من اقنية الاتصال، سيطرح أمام الوعي الديني حتماً مشكلات العلمنة وحوار الأديان. وهو ما اكده احد العلماء المسلمين، حيث قال: "ان قوة الاتصالات بالعالم المعاصر، ستفتح آفاقاً وإمكانيات عريضة لإدراك التقاليد الدينية المغايرة، الأمر الذي يجعل حوار الإسلام الجدي مع الديانات الأخرى في منتهى الأهمية والضرورة. ولهذا فإن مفكري الشرق الدينيين الأكثر عمقاً واطلاعاً يدركون بصورة أكبر فأكبر، ان بلوغ تدين أكثر ملاءمة واتستقاً مع الظروف العصرية الراهنة، يمكن ان يحدث فقط في شروط تؤمن التحرر من الكراهية الطائفية والشعور بالتفوق والتميز" (2).
وبهذا تكون قضية الحوار هي إحدى الهموم الكبيرة للعاملين في الدعوة والتربية والتعليم والإعلام والسياسة والدبلوماسية والتجارة والتسويق، وتتزايد الحاجة إليه كأساس للثقافة والعمل والتعليم والعلاقات والتنظيم. ونلاحظ على سبيل المثال ازدهار البرامج الحوارية مع تنامي الفضائيات والإنترنت، حتى يكاد يكون الحوار هو السمة الأساسية للفضائيات والإنترنت، وتعتمد عليه تماماً مؤسسات التعليم عن بعد والتعليم المستمر، فمن دونه تفقد هذه البرامج جوهرها وجدواها (3).
_________
(1) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت
(2) الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم- تأليف اليكسي جورافسكي - ترجمة د. خلف محمد الجراد - ص212 - دار الفكر المعاصر - ط2 2000
(3) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت(4/16)
ورغم بلوغ الحضارة الإسلامية في العصر العباسي ذروتها وقيادتها للعالم في العصر الوسيط آنذاك، فقد تعايشت مع الحضارات الأخرى في وئام وانسجام. ومن هنا فإن الحوار الحضاري كما يعرضه الإسلام لا يعد استجابة لظرفية زمنية خاصة، بل هو مشروع يتميز بالشمولية والاستمرارية ينبع من مبدأ جعل سعادة الإنسان غاية ذلك الحوار، أي أنه يقوم على مبدأ تحقيق إنسانية الإنسان، فالإنسان هو كائن حساس، فريد متميز واسع الدوائر الوجودية، ذو خصائص عقلية وروحية وأخلاقية شاملة، فضلا عن أنه خليفة الله في الأرض.
ومن خلال معاصرته لتجربة تاريخية مرة تسبب فيها الاستعمار بكوارث ومآس حلت بالإنسانية، وقسمت الشعوب وفرقتها إلى عرقيات وطوائف متنافرة طرح المفكر الإسلامي (سعيد النورسي) في رسائله (رسائل النور) مفهوماً بديلاً موضوعياً لفكرة صدام الحضارات من خلال طرح مبدأ (التكامل) بدل (الصراع)، و (التعايش) بدل (الإقصاء)، شريطة أن يقوم الحوار بين الحضارات على قدم المساواة وعلى احترام تعدد الثقافات، وبحيث لا ينحصر في مجرد حوارات كلامية بين الناس، بل يكون فلسفة نابعة من جوهر الإيمان، إيمان الإنسان بأن الله خلق البشرية لحكمة وغاية محددة تتمثل في التآلف والتساكن لتحقيق أمر رباني وهو تعميم الخير ودفع الشر. فالحوار ليس وسيلة لحل النزاعات الدولية وحسب، بل هو أسلوب للتعارف والتعايش والتكافل بين الشعوب من أجل تحسين ظروف البشرية وهو ما يسميه النورسي (مسلك الخلة والأخوة) (1) أو بعبارات (د. محمد عابد الجابري) (ثقافة السلام) والذي يدعو "إلى بناء تصور مشترك لها من خلال اهتمام الحوار بين الأديان بموضوع الضرورات الخمس ذلك لأن هذه الضروريات، أعني حفظ النفس والعقل والنسل والمال والدين هي أساس كل سلام وبدونها لا يتحقق السلام، لا السلام مع النفس ولا السلام مع الجار ولا السلام بين الأمم. وفي هذا الصدد أرى أنه بالإمكان تأسيس
_________
(1) بين أخلاقيات العرب وذهنيات الغرب- إبراهيم القادري بوتشيش- عرض/إبراهيم غرايبة- رؤية للنشر والتوزيع, القاهرة-ط.1 2005 - الجزيره نت- حوار الحضارات من خلال رسائل بديع الزمان النورسي(4/17)
رؤية جديدة سلمية وسليمة للمشاكل والتحديات التي يواجهها الضمير الديني والأخلاقي في عصرنا" (1).
إن الإسلام هو دون شك دين قائم على الحوار بمعانيه المختلفة، ومستوياته المتباينة المتعددة. فهو بداية حوار بين الله جل جلاله والإنسان، لإقناعه بالإستجابة لنداء الوحي والهداية. فليس الإيمان إنصياعاً بالإكراه بل نتيجة إقتناع بآيات التنزيل التي توجه نظر الإنسان إلى أدلة الخلق وعبر التاريخ وحالات النفس الإنسانية. وهو حوار مع المشرك الذي يؤمن بتعدد الآلهة وعبادة الأصنام لإقناعه عقلياً وشعورياً بمبدأ التوحيد والتنزيه المطلق للذات الإلهية. وهو حوار مع الدهري الملحد الذي لا يؤمن بدين ولا معاد ولا رسالة لإستمالته لطمأنينة اليقين ونور النبوة وبراهين التوحيد. وهو حوار من داخل الدائرة الإبراهيمية مع أهل الكتاب الذين يشكل إمتدادا لهم و ختماً لرسالتهم التي تمهد له وتؤكده و تدل عليه (2).
علاقة المسلم بالآخر عموما
لما كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان، فإنه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمي إلى تسنم (المركزية الدينية) التي تجبر العالم على التمسك بدين واحد، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى في الكون، لان دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقي الديانات والحضارات تتبع من رؤيته إلى التعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعاً، بيد أنه لا يجوز أن يفهم هذا التسامح الانساني الذي جعله الإسلام أساساً راسخاً لعلاقة المسلم مع غير المسلم، على أنه انفلات أو استعداد للذوبان في أي كيان من الكيانات التي لا تتفق مع جوهر هذا الدين. فهذا التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف، ولكنه يؤسس للعلاقات الانسانية التي يريد الإسلام أن تسود حياة الناس. فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية
_________
(1) الحوار بين الديانات: قيم ثقافة السلام -1 - محمد عابد الجابري - http://www.aljabriabed.net/pape16.htm
(2) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.(4/18)
والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها (1).
ومن ينظر إلى العقيدة الإسلامية يجد أنها عقيدة تتسع لجميع الناس لا تريد أن تلغي الآخر بل هي تعترف أن هناك آخر، هناك مَن يخالفها في العقيدة وهناك مَن يخالفها في الشريعة وهناك مَن يخالفها في السياسة وهناك ... ولكن أهم الخلافات هي الخلافات العقائدية والقرآن قرر أن هذا الاختلاف واقع بمشيئة الله، ومشيئة الله لا تنفصل عن حكمته، أي الحكمة الإلهية والمشيئة الإلهية اقتضتا أن يكون الناس مختلفين في الدين، لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد الناس أن يكونوا على دين واحد وعلى نهج واحد لخلق الإنسان على غير هذه الصورة. ومادام لكل إنسان عقله وإرادته فلابد أن يتغير الناس في اتجاهاتهم الدينية وغير الدينية وهذا ما يقرره القرآن بوضوح حيث يقول الله تعالى (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي على دين واحد وعلى منهج واحد (ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} مختلفين {إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ). المفسرون يقولون ولذلك أي وللاختلاف خلقهم .. خلقهم ذوي عقول مختلفة وإرادات مختلفة وملكات مختلفة ولهذا لابد أن تتغير أديانهم وتختلف فهذا واقع ولذلك خلقهم. ولذلك مَن يريد أن يلغي الآخرين ويريد أن يجمع الناس على دين واحد أو على نهج واحد هذا يخالف المشيئة الإلهية.
فالتنوع مطلوب حسب نص القرآن الكريم، وهو من آيات الخلق السامية، كما في قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين). فليس من هدف الإسلام حمل الناس على ملة واحدة أو عقيدة مشتركة، بل إن إختلافهم مطلوب مقصود (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم). ويبين القرآن الكريم الحكمة من الإختلاف بأنها (التعارف) و (التعاون على البر و التقوى) و (التسابق إلى الخير)، بما فصلته الآية الكريمة: (ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا و لو شاء الله
_________
(1) الإسلام وترسيخ ثقافة الحوار الحضاري-حسن عزوزي- http://www.scienceislam.net/article.php3?id_article=567&lang=ar(4/19)
لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما أتاكم فأستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). ولهذا السبب أعلن الإسلام حرية العقيدة ونبذ الإكراه في الدين و وضع ضوابط دقيقة لتعميق خط التفاعل و التعارف بين بني البشر الذين يتفقون في أصولهم و عمود نسبهم (كلكم لآدم و آدم من تراب)، كما يتفقون في قدراتهم المعرفية و العقلية و الروحية، و لا يتمايزون إلا بسلوكهم الأخلاقي و ميزاتهم الروحية المكتسبة المتاحة لجميع الناس (1).
فالإسلام يعترف بالآخر ويقيم العلاقات مع الأخر على أسس ثابتة حتى وهو يعترف بأن الآخرين كفار. وهنا الإسلام يقيم أشياء أساسية في فكر الإنسان وفي نفسيته تنشأ ما نسميه التسامح، التسامح الديني من خلال:
أولا: اعتقاده أن هذا الاختلاف واقع بمشيئة الله وهذا يريح الإنسان.
ثانياً: أنه إذا كان هناك مهتدى وهناك ضال وهناك مؤمن وهناك كافر وهناك بار وهناك فاجر فحساب هؤلاء الناس ليس للإنسان ولكنه إلى الله عز وجل وليس في هذه الدنيا ولكن في يوم الحساب، الله سيفصل بين هؤلاء ويقول القرآن {إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} {اللَّهُ رَبُّنَا ورَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا ولَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وإلَيْهِ المَصِيرُ} هذا أمر آخر يريح الإنسان مع الذين يختلفون معه.
ثالثاً: أن الإسلام يكرم الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن جنسه أو دينه أو لونه أو لغته أو إقليمه أو طبقته {ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما روي البخاري ومسلم أنهم مروا عليه بجنازة فقام الرسول عليه الصلاة والسلام لها واقفا احتراما للميت فقالوا يا رسول الله إنها جنازة يهودي. فقال أليست نفس. فما أروع الموقف وما أروع التعليل نفسه" أليست نفس".
رابعاً: الإسلام يقيم العلاقة بين الناس جميعا على أساس العدل، عدل الله لجميع خلق الله يهودي نصراني مجوسي وثني {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} الشنآن شدة البغض سواء شدة بغضهم لكم أو
_________
(1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.(4/20)
بغضكم لهم لا يمنع هذا أنك تحكم بالعدل فالعدل مطلوب، والقرآن أنزل الله فيه تسع آيات من سورة النساء تدافع عن يهودي أُتهم ظلما، حيث ان احد المسلمين سرق ولكن اهله وقبيلته أرادوا أن يلصقوا التهمة بأحد اليهود، وذهبوا إلى النبي يعرضون حجتهم حيث كاد النبي عليه الصلاة والسلام ان يصدقهم ويدافع عن هذا المسلم ويتهم هذا اليهودي، وهنا نزل القرآن يبرئ اليهودي ويعاتب النبي عليه الصلاة والسلام أنه هم بتصديق هؤلاء ويقول الله تعالى في هذه الآيات {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً، واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً، ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} لا تحامي عنهم {ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} إلى آخر الآيات التسع في الدفاع عن هذا اليهودي (1).
ومما تقدم يتضح لنا ان بنية الإسلام في الأصل بنية حوارية يشكل فيها "الاعتراف بالآخر" أولى مميزاتها بل أساساً يتنزل فيها منزلة "العقيدة". ذلك أن القرآن لم يثبت شرعية وجوده ويدافع عن اختياراته وبدائله إلا عبر أخلاقيات الحوار والنقاش، بل ربما انفرد القرآن، من بين نصوص الأديان الكتابية الأخرى، بذلك الحرص القوي الذي يطبع جل آياته، على محاولة طرح اختياراته الإصلاحية عبر أسلوب الجدال والحوار ومحاولة البرهان والتدليل على اختياراته وبدائله وإقناع مخالفيه بها ... وما هو أهم في كل هذا "اعترافه" الضمني والصريح بذلك التراكم المعرفي والأخلاقي الذي يمثله تاريخ الديانات الكتابية وسيرها الحثيث نحو الإصلاح والتصحيح والكمال العقائدي والأخلاقي، الأمر الذي اقتضى من الإسلام، قرآنا وسنة، ضرورة الاعتراف ب"الآخر" باعتباره مساهما فعالا في ذلك التطور الفكري والأخلاقي القابل دوما للإصلاح و"التتميم". من ثم جاءت تلك التأكيدات المتتالية في القرآن تذكر المؤمنين به قبل غيرهم، أنهم يمثلون حلقة من سلسلة من تلك "الحنيفية" التي يعتبر إبراهيم الخليل عليه السلام واسطة عقدها، ولبنة أساسية فيها. وحيث ذلك، أُمر المسلمون في تعاملهم مع "أهل الكتاب"، ورغم الخلافات الواردة، ان
_________
(1) علاقة المسلمين باليهود - الشيخ يوسف القرضاوي - برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة(4/21)
يبادروا إلى الاعتراف بهم، وأن يكونوا متسامحين معهم وأكثر تفتحاً وأبعد عن التعصب، وأن يقولوا: "آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيؤون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (1).
الحوار بين الأديان
مثل الحوار قاعدة أساسية ومنهجية من قواعد الدعوة الإسلامية، التي يعود تاريخها إلى اللحظة الأولى لانطلاق رسالة الإسلام، وقد تم بناء هذه القاعدة وتأصيلها بدءاً بقوله سبحانه "إقرأ باسم ربك الذي خلق" ومروراً بقوله: إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" وانتهاءًُ بقوله سبحانه سبحانه (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله).
وقد سجل القرآن الكريم، وسجلت السنة النبوية نماذج الحوار بمختلف مستوياته وأساليبه ليعلم الناس جميعاً بأن هذا الدين إنما تبنى دعوته على الاقتناع والبينة والحجة العقلية ولا مجال فيه- أبداً- للإكراه على الإيمان به أو الدعوة إليه "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". وإذا كان الحوار ضرورياً في مرحلة الدعوة المكية والمدنية وما تلاهما فهو اليوم أشد ضرورة وأكثر أهمية في ظل ثورة الاتصالات الحديثة التي تبث عبر أجواء من التوتر، وافتعال الصراع ونشر ثقافة القوة.
لهذا فقد أولى الرسول (ص) منذ بداية الدعوة الإسلامية اهتماماً خاصاً بأهل الكتاب والحوار معهم ودعوتهم للإسلام، وذلك لأنهم أصحاب ديانات سماوية سابقة جاء الإسلام ليرث أهم ما فيها وليضيف إليها ما تحتاجه البشرية في مسيرتها إلى يوم الدين، يقول الله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى" (سورة الشورى: الآية 13) واهتمام الرسول (ص) بدعوة أهل الكتاب، كان لاعتقاده بأنهم سيكونون أول من سيؤمن به وبدعوته
_________
(1) أية قيم دينية لحضارة إنسانية؟ - د. عبد المجيد الصغيّر- http://www.qatar-conferences.org/dialogue/article2.do(4/22)
بسبب التشابه الكبير بين ما جاء به الإسلام وبين ما هو موجود في كتبهم .. هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا ينتظرون ظهور نبي في بلاد العرب كما جاء في البشارات الموجودة في كتبهم. ولذلك كان الرسول الكريم يطمع في ان يكون اهل الكتاب عوناً له في استئصال الشرك والكقر من الجزيرة العربية اولا ثم نشر الدعوى للعالمين.
وقد جاءت اولى بوادر ذلك الموقف من النجاشي ملك الحبشة الذي احتضن المسلمين وأمنهم من غذر واضطهاد قريش حتى اشتد عودهم وعادوا إلى مكه ليستمروا في دعوتهم، حيث تطلع الرسول الكريم إلى موقف اقوى من اهل الكتاب من الدين الجديد فاسلم قليل منهم وبقى جزء كبير على دينهم ودخل الرسول معهم في حوارات ومجادلات كثيرة، فرد عليهم القرآن وعلم النبي كيف يجادلهم بالتي هي أحسن بأسلوب منطقي يقدم الحق جلياً من غير التعرض لشخصيات الأنبياء ولا لرسالتهم (1)، حيث نهى القرآن عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن في قوله تعالى:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" (سورة العنكبوت: الآية 46) ففي قوله تعالى لا تجادلوا نهي عن مبادئتهم بالجدال في نصوص وطقوس دينهم وفي قوله إلا بالتي هي أحسن استثناء يجيز الرد عليهم إذا بدءونا بالجدال، فليكن الرد عليهم بالتي هي أحسن حتى لا نتعرض لنبيهم ولا لكتابهم (2) ومن التي هي أحسن، ذكر مواضع الاتفاق بين المتجادلين والانطلاق منها إلى مواضع الخلاف، أما مواضع الاختلاف، فالحكم فيها إلى الله يوم القيامة، يقول تعالى: "وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون" (سورة الحج: الآية 68).
_________
(1) آدم عبد الله الألورى: تاريخ الدعوة إلى الله بين الأمس واليوم - ص 247
(2) المصدر السابق: ص 135(4/23)
وقد سار النبي (ص) على خطى التوجيهات القرآنية في دعوته ومجادلته لأهل الكتاب، فدخل معهم في مجادلات ومناقشات عديدة رواها القرآن والسنة النبوية المطهرة. فقد جرت مناقشات كثيرة بين الرسول (ص) وبين اليهود حول الكتب المقدسة وكان محسور بن سبحان هو المتحدث باسم اليهود. فقال للرسول ما دليلك على أن القرآن من عند الله، فنزل قوله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" (سورة النساء: الآية 82) وناقشهم الرسول في أمور كثيرة أخرى، مثل ادعائهم بأنهم الأخيار وأنهم بمنجاة عن النار، وفي مجادلات أخرى، أجرى مقارنة بين كتبهم المحرفة وبين القرآن، وأيدته آيات القرآن وسجلت هذه المحاورات والمجادلات، ومن ذلك قوله تعالى: "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولوا سمعنا وعصينا" (سورة النساء: الآية 46)، "يحرفون الكلام عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به" (سورة المائدة: الآية 13). وقد دخل كثير من اليهود في الإسلام بعد هذه المجادلات والمحاورات مثل عبد الله بن سلام وثعلبة بن أسيد وأسيد بن عبيد وغيرهم.
كما جرت مناقشات وحوارات بين الرسول (ص) وبين النصارى سجلها القرآن الكريم وعلم الرسول كيف يرد عليهم، فمن المعروف أن النصارى يدعون أن عيسى عليه السلام لا يناظره شخص آخر لكونه وجد من غير أب، وبالغوا في هذا الادعاء حتى أنكروا نبوة محمد ص وتمسكوا بنبوة عيسى ووصلوا به إلى الألوهية، فرد الله عليهم بقوله: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" (سورة آل عمران: الآية 59). وجرت مناقشات ومجادلات بين الرسول (ص) ونصارى نجران حيث ذكر هؤلاء أن المسيح إله لأنه أحيا الموتى وأبرأ المرضى، فقال لهم الرسول ص إن ذلك كان بعون الله وتلا عليهم قوله تعالى: "ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله" (سورة آل عمران: الآية 49). وسأل واحداً منهم الرسول (ص) قائلا: أتريدنا يا محمد أن نعبدك كما نعبد عيسى؟ فقال لهم الرسول (ص): معاذ الله أن نعبد غير الله ولست إلا عبد الله، ونزل قوله تعالى " وما كان لبشر أن يوتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول(4/24)
للناس كونوا عباداً لي من دون الله " (سورة آل عمران: الآية 79) وعلى أثر هذه المجادلات والمناقشات أسلم نفر من النصارى.
وهكذا لاحظنا كيف أن الرسول (ص) كان يجادل ويحاور أهل الكتاب بلين ورفق وبالتي هي أحسن لكي لا يتعرض أو يسيء إلى أنبيائهم وكتبهم، التي جعل الإسلام الإيمان بها أصل من أصول الإيمان والعقيدة، بل انه سمح لوفد النصارى القادم من نجران لزيارته بالإقامة في مسجد المدينة المنورة. وفي المساء، وعندما رغب النصارى بأداء صلاتهم، سمح لهم النبيّ بذلك. وقد سار المسلمون في أيام الرسول ص وفيما بعد على هدي هذا الطريق السليم في حوارهم ومجادلتهم لأهل الكتاب، مما أدى إلى ظهور علم جديد لدى المسلمين هو علم مقارنة الأديان. هذا العلم الذي يعد من مفاخر المسلمين، لأنه من الطبيعي أن لا يظهر هذا العلم قبل الإسلام لأن الأديان قبل الإسلام لم يعترف أي منها بالآخر، وكان كل دين يعد ماعداه من الأديان هرطقة وضلالاً، فجاء الإسلام وكان موقفه من الأديان الأخرى ينضوي تحت اتجاهين:
فمن الناحية النظرية يعلن الإسلام أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة الأديان وأنه بالتالي ورث أهم ما في الأديان من حسنات وأضاف إلى ذلك ما تحتاجه البشرية في مسيرتها إلى يوم الدين، أما من الناحية الواقعية فيعترف الإسلام بالوجود الفعلي لجماعات غير مسلمة ويتحدث عن أهل الكتاب وأهل الذمة وينظم حقوقهم وواجباتهم (1). ومن هنا كان اهتمام المسلمين بهذا العلم، فألفوا فيه الكثير من الكتب التي تبين عظمة الإسلام وفساد العقائد الأخرى وما دخل عليها من تحريف وتوضح ايضاً ان الإسلام جاء ليكمل الدين للعالمين ويعيد اصحاب الديانات الاخرى إلى الطريق القويم الذى ضلوا عنه مع الزمن. وقد كانت الوسيلة لذلك هي كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق اظهار نقاط الاتفاق بين الإسلام وهذه الديانات وتوضيح ان المسلمون يؤمنون بهذه الديانات ورسلها ويعظمونهم ويجلونهم، وان الإسلام جاء ليكمل هذه الديانات. ويجب أن نشير هنا إلى أن هذا العلم لم يكن لدى المسلمين وسيلة للحط والاستهزاء بالأديان الأخرى، بل أنه كان
_________
(1) د. أحمد شلبى: مقارنة الأديان - ج 1 - ص 45(4/25)
دراسة وصفية علمية تؤدي إلى نتائجها الطبيعية عن طريق الحجة التي تخاطب العقل بهدوء وموضوعية من غير تعصب أو جحود (1)؟
ويعد النوبختي أول من ألف في هذا العلم في كتابه «الآراء والديانات»، كما كتب المسعودي كتابه عن الديانات، ثم جاء المسبحي وألف كتابه «درك البغية في وصف الأديان والعبادات». ثم ازداد التأليف في هذا العلم بعد ذلك، وظهرت الكتب التي كتبت عن الملل والنحل مثل كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، «والفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم الأندلسي، وكتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي (2)، وألف الأمام الغزالي كتابه «الرد الجميل لألوهية عيسى بصريح الإنجيل» ويكشف عنوانه عن موضوعه بجلاء، فالغزالي يرد فيه رداً جميلاًً موضوعياً على قول النصارى بألوهية عيسى (، وقد اعتمد في رده هذا على ما جاء في الإنجيل الذي في أيدي النصارى والذي يقدسونه ويجعلونه كتاب دينهم وحجتهم (3) كما أن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية كتب موسوعته الضخمة التي أطلق عليها «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح»، وجاء تلميذه ابن القيم الجوزيه ليضع كتابه «هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى». كما انه نتيجه للتسامح الديني في الاندلس فقد دخلت بعض الشخصيات الأوربية في حوار جدي مع فقهاء مسلمين، حيث كانوا جميعا على علم أنهم يعبدون إلها واحدا، وهو إله إبراهيم ويعقوب وإسحق.
ولقد نشر مجلد جديد يحتوي على تسعة مقالات تتناول الحوار الديني في العصور الوسطى وكانت بؤرة موضوع البحث منطقة شبه جزيرة أسبانيا والبرتغال، وقد نقلت مأثورات واقعية من فرنسا عن هذا الحوار الفكري، منها: أن بطرس آبيللار كتب مقالا على شكل حوار بين الأديان، وأن بطرس فينيرابلس كلف العلماء الأسبان بمهمة ترجمة القرآن (4).
وهكذا نلاحظ إلى أي مدى اهتم المسلمون بهذا العلم واتخذوه وسيلة موضوعية مهذبة للحوار ولدعوة أهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وليبينوا
_________
(1) آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - ج 1 - ص 366
(2) د. أحمد شلبى: مقارنة الأديان - ج 1 - ص 27
(3) الإمام أبو حامد الغزالى: الرد الجميل لألوهية عيسى بصريح الإنجيل - دراسة وتحقيق د. محمد عبد الله الشرقاوى
(4) "اليهود والمسيحيون والمسلمون وحوار الأديان في العصور الوسطى" - بقلم كريستيان هاوك - ترجمة عبد اللطيف شعيب - ق الطبع قنطرة 2005 ماتياس لوتس باخمان والكسندرا فيدورا: دارمشتات 2004.(4/26)
لهم ما دخل دينهم من تحريف، وليؤكدوا ما جاء في القرآن والسنة حول ذلك. ولكن هذا العلم اختفى لفترة معينة في عصور الضعف الإسلامية ولكنه عاد مرة أخرى في عصرنا الحاضر، ومن الذين ألفوا في هذا العلم الدكتور أحمد شلبي في سلسلة مقارنة الأديان بالإضافة إلى بعض العلماء الآخرين الذين كتبوا كتب متنوعة عن الديانات الأخرى مثل كتاب «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم» للأستاذ محمد عبد الله دروزة وكتاب «محاضرات في النصرانية» للشيخ محمد أبو زهرة، وكتاب «الديانات» لمحمد مظهر وكتاب «الإسلام دين العلم والمدنية» للإمام محمد عبده وغيرهم كثيرون.
وهكذا نرى أن دعوة أهل الكتاب ومجادلتهم والحوار معهم عبر التاريخ الإسلامي كانت تتم على أساس من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن بدون تحدي أو إثارة. فإذا كنا في عصرنا الحاضر جادين في دعوة أهل الكتاب ومجادلتهم، يجب علينا أن نضع نصب أعيننا ما جاء في القرآن الكريم من آيات حددت علاقتنا بأهل الكتاب وحددت طرق دعوتهم ومجادلتهم والحوار معهم. وهنا يقول الشيخ محمد الغزالي في تفسيره لقوله تعالى: "فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة يبننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير" (سورة الشورى: الآية 15) يقول: أن الأمر بالدعوة باقي إلى آخر الدهر لا يبطله شيء، وكذلك النهي عن أتباع الزائفين، ونحن المسلمين نحمل حقائق الوحي كله منذ بعث الله المرسلين، ونعلم أن أهل الكتاب نسوا كثيراً وتاهوا في طرق لا حصر لها، ومهمتنا أن نذكرهم بما نسوا، ونريهم الصراط المستقيم، ووسيلتنا الترفع والتسامح وعدم الانسياق وراء الشحناء والتذكير الدائم بأن المصير إلى الله (1).
فالداعية الذي يريد مثلاً أن يدعو أهل الكتاب ويجادلهم، يردهم إلى كتابهم الحق ويذكرهم بأقوال رسولهم ويوضح لهم أن الرسل كلهم أخوان اصطفاهم الله من خلقه وجعلهم سفراء بينه وبين عباده، ويدلل لهم على أن اللاحق منهم يقف على أثر السابق وأن الواجب على الناس جميعاً أن يؤمنوا بكل الرسل بلا استثناء لأن
_________
(1) جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج - الشيخ محمد الغزالى - ص (68 - 69)(4/27)
الله عز وجل هو الذي أرسلهم وهو الذي أمر بالإيمان بهم (1)، قال تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير " (سورة البقرة: الآية 285) فإذا هم أجابوه شرح لهم العقيدة الصحيحة ثم ثنى بمبادئ الإسلام وفرائضه مبيناً أن الإسلام هو دين جميع البشر، قال تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" (سورة آل عمران: الآية 85) أما إذا لم يجيبوه، فيكون قد أدى أمانة البلاغ، وأمرهم وحسابهم بعد ذلك إلى الله. وهكذا فإن علاقة المسلمين بأتباع الأديان الأخرى تدور على محور واحد، عرض مبادئ الإسلام بوضوح ورد الشبهات بأدب، وإعطاء فرصة للتأمل والحكم المتأني، فلا استعجال ولا استغلال، أنه البلاغ الخالي من الإكراه الذي يخلى بين كل امرئ وضميره فإن شاء أسلم وإن شاء بقي حيث هو وحسابه إلى الله.
فحوار الإسلام مع الديانتين اليهودية و المسيحية كما دشنه النبي، صلى الله عليه و سلم، و وضع أصوله ثم سار على هديه الكريم خلفاؤه الراشدون يرتكز على أربعة مبادئ أساسية هي: قبول الإختلاف و التنوع - عدم الإكراه على الدين التعاون على البر و التقوى -تحريم العدوان و تقييد الحرب أخلاقيا. حيث لا تزال هذه المبادئ تشكل خلفية ثمينة و صالحة لحوار مستقبلي ناجع و منفتح بين الديانات الثلاث (2).
ويجب - قبل أن نخوض في التفاصيل - أن نثبت حقيقة مهمة، وهي أن المسلمين يؤمنون بكل الأنبياء ويعتبرون تراث الأنبياء تراثهم، ويعتبرون رسالتهم الإسلامية امتداداً لرسالات الأنبياء الذين جاءوا من قبلهم، وأن الدعوة التي دعا إليها الأنبياء هي نفس الدعوة التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي فإن رصيد تجربة الأنبياء في دعوتهم للحق وعبادة الله وحده لا تنفصم عن دعوة المسلمين ورصيد تجربتهم. وانظر إلى قوله سبحانه {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، فهي رسالة التوحيد التي يدعو إليها كل رسول. وعندما كان يكذب أي قوم رسولهم فقد كان ذلك تكذيباً لجميع المرسلين، وتأمل
_________
(1) أسس الدعوة وآداب الدعاة - د. محمد الوكيل- ص 45
(2) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.(4/28)
قوله تعالى في {كذبت قوم نوح المرسلين}، {كذبت عاد المرسلين}، {كذبت ثمود المرسلين}، {كذبت قوم لوط المرسلين}، {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} (1). فقد اعتبر الإسلام أنبياء الماضي وعقلاءه وحكماءه أنبياءه وعقلاءه وحكماءه. وجعل من خير الماضي وصلاحه خيره وصلاحه. ووجد ذلك تعبيره المكثف في الحديث القائل بان خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام (2).
اليهود والنصارى في القرآن والسنة
من الجلي أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن اليهودية والمسيحية لا يتحدث عن ديانات غريبة، بل يعتبرها تعبيرات مختلفة عن نفس الدين الإلهي الذي هو الإسلام من حيث هو تسليم لله و توحيد له، و لذا أطلق صفة المسلم على النبي إبراهيم، عليه السلام، و إعتبر مختلف أنبياء التوحيد مسلمين. فالفرق بين الإسلام و الديانتين الإبراهيميتين الأخريتين لا يتعلق بطبيعة العقيدة أو القيم أو الرؤية، بل في بعض الجزئيات التي إقتضتها تحولات الزمن و إعتبارات التاريخ. فالإسلام هو دين إكتمال المسار الإبراهيمي، و بذا كان لا بد أن يتسم بالمرونة و الإنفتاح و اليسر ليستوعب إختلاف السياقات المكانية و الزمانية. فهو، لهذا السبب، دين يقوم على إحترام الإختلاف و التعددية و قبول حرية الرأي و العقيدة (3). وقد ورد في القرآن عدد كبير من الآيات التي تأمر المسلمين بمعاملة أهل الكتاب (النصارى واليهود) أحسن معاملة وكان عنوان التعاون معهم في المجتمع الإسلامي على اساس القاعدة العامة التي رآها الفقهاء: (لهم ما لنا ـ وعليهم ما علينا) (4). فقال الله تعالى في سورة الممتحنة، آية 8: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين". كما قال تعالى في
_________
(1) تاريخ فلسطين قبل الإسلام -وقفات مع تاريخ صراع الحق والباطل على أرض فلسطين
(2) الصورة والمعنى في الصراع العربي - اليهودي- د. ميثم الجنابي - مجلة المؤتمر عدد 1174 - 14 - آب-2006
http://www.inciraq.com/Al-Mutamar/2006/1101_1200/1174/060814_1174_5.htm
(3) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.
(4) السيد سابق / فقه السنة ـ المجلد الثاني، ص622، دار الكاتب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1969 م(4/29)
سورة العنكبوت آية 46: "ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي احسن الا الذين ظلموا منهم".
فالنصوص الإسلامية إختطت إطارا دقيقا للتعامل مع أهل الكتاب أساسه البر و التودد لمن يسالم المسلمين و لا يعتدي عليهم: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم إن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون " (سورة الممتحنة آيه 8). فالتمييز هنا واضح وصريح بين المعتدي و المحارب والمهادن المسالم، والأصل في علاقة المسلم بأخيه اليهودي والمسيحي هو التعاطف والتعاون، ويحذر القرآن الكريم من التعميم الخاطئ المتمثل في الحكم على أهل ديانة ما بسلوك بعض المنتمين إليها: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون. يؤمنون بالله و اليوم الآخر و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين. و ما يفعلوا من خير فلن يكفروه و الله عليم بالمتقين " (سورة آل عمران) و قد طبّق الرسول، صلى الله عليه و سلم، و خلفاؤه الراشدون هذه التعاليم الربانية أحسن تطبيق، و تمثلوها في علاقاتهم بالأقوام والملل الذين تعاملوا معهم في مراحل تأسيس الدولة الإسلامية وخلال عهود توسعها (1).
وقد امتدح القرآن الصالحين من اهل الكتاب كما يمتدح غيرهم من المؤمنين فقال الله تعالى في سورة آل عمران آية 75: "ومن أهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك" وقوله تعالى: "يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين".
ويبين لنا التاريخ أنه عندما بلغ نبأ موت النجاشي للرسول (ص) استدار إلى جمع المصلين وقال لهم: "لقد مات اليوم أحد الصالحين. إذاً، فانهضوا وصلّوا من أجل أخيكم"؛ ثم أمَّهم للصلاة. ويرى بعض المسلمين أن النجاشي قد اعتنق الإسلام سراً، إذ أنهم لا يستطيعون قبول فكرة صلاة النبي محمد على روح شخص غير مسلم، لكن الخبراء بتاريخ الإسلام يقولون أن النبي صلّى عليه لكونه مسيحياً صالحاً قام
_________
(1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي(4/30)
أيضاً بحماية مريديه من الاضطهاد على أيدي القبائل غير المسلمة في أول عهد الإسلام. وهناك عشرات الاحاديث النبوية التي تدعو المسلمون لمعاملة اهل الكتاب من اليهود والنصارى احسن معاملة، وقد حرم على المسلمين ايذاءهم أو الاعتداء على املاكهم، أو معابدهم، أو اكل حقوقهم. وكل عهد يعطي لغير المسلمين من النصارى واليهود، عهد يستوجب التنفيذ حسب الشريعة الإسلامية، وقد عاهد الخلفاء المسلمون النصارى واليهود على كثير من الامور بعد انتهاء الحرب، فتضمنت عهودهم (حمايتهم، والحفاظ على حريتهم الشخصية والدينية، وإقامة العدل بينهم والانتصاف من الظالم) (1). وجاء في الحديث (من ظلم معاهداً، أو كلفه فوق طاقته فانا حجيجه) (2). ولهذا قرر الإسلام المساواة بين الذميين والمسلمين. فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكفل لهم حريتهم الدينية، وذلك بعدم إكراه احد منهم على ترك دينه. قال الله تعالى في سورة البقرة الآية 256 {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}. ومن حق اهل الكتاب ان يمارسوا شعائر دينهم فلا تهدم لهم كنيسة ولا يكسر لهم صليب، يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه (اتركوهم وما يدينون). بل من حق زوجة المسلم (اليهودية والنصرانية) ان تذهب إلى الكنيسة أو المعبد، ولا يحق لزوجها في منعها من ذلك.
فإحترام ما تقرره الأديان والعقائد هذا من الأسس الأولى لا نتدخل في شؤونهم حتى أن الإسلام بلغ من التسامح ذروة أنه لا يفرض عليهم الأشياء التي يحرمها الإسلام إذا كانت مباحة عندهم ... مثل أكل الخنزير وشرب الخمر، الخمر أم الخبائث عند المسلمين ومن الكبائر والموبقات ولكن الإسلام يقول للذمي: مادام دينك أباحها لا نحرمها وكل ما في الأمر لا تروجها عند مسلم. ويعتبر الخمر والخنزير في مذهب الإمام أبي حنيفة مالا متقوما من أتلف خمرا لذمي يهودي أو نصراني عليه أن يغرم ثمنها. وفي أيام دخول التتار إلى دمشق أسروا ناس من المسلمين ومن اليهود ومن المسيحيين وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ومعه جماعة من علماء المسلمين عند هولاكو يطلبون منه فك الأسرى فقالوا له سنطلق لك سراح
_________
(1) - السيد سابق / المصدر السابق - ص 669
(2) السيد سابق / المصدر السابق، ص668.(4/31)
المسلمين فقط. فقال لهم أهل ذمتنا قبل أهل ملتنا والله لا أخرج قبل أن يفك أسر الجميع. وهكذا الدفاع عن أهل الذمة واجب على المسلمين حتى قال علماء المسلمين أن إيذاء الذمي أشد إثما من إيذاء المسلم، غيبة الذمي أشد في الإثم من غيبة المسلم لأن هذا معتبر كأن المسلمين هم المسؤولين عنه (1).
كما سوى الإسلام بين اهل الذمة وبين المسلمين في العقوبات (2) قال الزهري (دية اليهودي، والنصراني، وكل ذمي مثل دية المسلم). ولهذا كان يقف المسلمون امام القانون مع النصارى واليهود سواء بسواء حتى ولو كان المسلمون من الخلفاء الراشدين أو من الصحابة. وعن انس رضي الله عنه قال: رهن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ درعاً عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيراً لأهله ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ان النبي (اشترى طعاماً من يهودي إلى اجل ورهنه درعاً من حديد، وفي لفظ: توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودرعه مرهون عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير. رواهما البخاري ومسلم (3).
الحوار الإسلامي المسيحي
من خلال ما تقدم اتضح لنا كيف استطاع الإسلام أن يؤسس قاعدة متينه للحوار بين المسيحية والإسلام منذ البدايات الأولى ويستوعب اهل الكتاب من النصارى تحت كنفه ويضع الاسس والقواعد التى تحكم العلاقة معهم ويتجلى ذلك في عهد النبي، صلى الله عليه و سلم، لنصارى نجران في آخر عهد البعثة النبوية حيث عبر هذا العهد عن هذه الرؤية المنفتحة المتسامحة للاسلام، فنص على ما يلي: و لنجران و حاشيتها، و لأهل ملتها، و لجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض و غربها، قريبها و بعيدها، فصيحها و أعجمها، جوار الله و ذمة محمد النبي رسول الله، و على أموالهم، و أنفسهم و ملتهم، و غائبهم و شاهدهم، و عشيرتهم، و بيعهم، و كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغير أسقف من أسقفيته، و لا
_________
(1) برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة
(2) - السيد سابق / المصدر السابق، ص 603 ـ 604.
(3) السيد سابق / المصدر السابق، ص 609، 610، 611، 612.(4/32)
راهب من رهبانيته .. و لا يطأ أرضهم جيش .. و أن أحمي جانبهم، و أذب عنهم و عن كنائسهم و بيعهم و بيوت صلواتهم .. و أن أحرس دينهم و ملتهم أين كانوا .. بما أحفظ به نفسي و خاصيتي و أهل الإسلام من ملتي (1) ".
وجاء الخليفة الراشد الأول ابو بكر الصديق ليسير على نفس النهج وارسل وصية ليزيد بن أبي سفيان أمير جنده الذاهب إلى الشام، يحدد فيها إطار علاقة المسلمين بالديانات الأخرى ويؤصل لقانون و أخلاقيات الحرب في الإسلام يقول فيها: إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم و ما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له .. و إني أوصيك بعشر: لا تقتل إمرأة و لا صبيا. و لا كبيرا هرما. و لا تقطعن شجرا مثمرا. و لا تخربن عامرا. و لا تعقرن شاة و لا بعيرا إلا المأكلة و لا تحرقن نخلا و لا تغرقنه، و لا تغلل و لا تجبن " (2).
وما نستخلصه من هذه الوثائق المرجعية الأساسية هو أن أحكام التمييز و الفصل ليست هي المقياس الأصلي لعلاقة المسلمين بأهل الكتاب، بل إن الإسلام يعتمد معيار الدولة المدنية غير الدينية التي تقوم العلاقة بين مواطنيها على أساس المصلحة المشتركة و التعاون على دفع الظلم و تحقيق العدل وبسبب هذه المبادئ والاخلاقيات فقد كان مجئ الإسلام - خلافاً لتعصب الأباطرة البيزنطيين- يبدو تحريراً لليهود وللمسيحيين الذين كانوا يسمون (الهراطقة)، أي تحريراً لمعظم سكان المنطقة ما عدا المحتلين البيزنطيين ... ولذا عندما اقترب المسلمين من سورية وفلسطين استقبلوا - على أنهم محررون- من قبل الجماهير العربية المهيأة من الناحية الدينية للاعتراف بمبدأ التوحيد الواضح في الإسلام الذي يرى في ابراهيم وموسى وعيسى رسلاً من عند الله وأنبياء قد سبقوا (محمداً). يقول ميشيل السوري: "إن الله المنتقم قد أرسل إلينا بالعرب لينقذونا من الرومان. إن كنائسنا لم ترجع إلينا فقد احتفظ كل بما يملك .. ولكن العرب حررونا من وحشية البيزنطيين وحقدهم علينا".
_________
(1) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي
(2) راجع هذه الوثائق في مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الخلافة الراشدة - جمعها و حققها حميد الله الحيدرابادي - طبعة القاهرة 1956(4/33)
لهذا فإن التعصب القمعي لدى الأباطرة البيزنطيين يتيح لنا أن نفهم كيف تم حسم مصير سورية وفلسطين بمعركة واحدة، هي معركة اليرموك في العشرين من آب عام 636 وكيف سحق الجيش البيزنطي وكيف تفجر ذلك العصيان قبل معركة اليرموك بين صفوف الجنود المسيحيين الأرمن في الجيش الامبراطوري، وكيف انسحب المسيحيون العرب السوريون من الجيش البيزنطي إبان المعركة .. وهكذا وجد جيش الروم نفسه وحيداً فتم سحقه .. ثم وصلت جيوش المسلمين دون قتال إلى ابواب دمشق .. وفي القدس عرض البطريرك المسيحي سوفرونيوس الصلح شريطة أن يأتي الخليفة نفسه إلى القدس لضمان تنفيذ شروط هذا الصلح، وقبل الخليفة بذلك ... ويذكر الاخباريون العرب ان الخليفة عمر لم يقبل الدعوة التي وجهها اليه بطريرك القدس إلى اقامة الصلاة في إحدى كنائس القدس خوفاً من أن يتخذ بعض المسلمين المتحمسين ذلك ذريعة لتحويل الكنيسة إلى مسجد تخليداً لذكرى مروره بها. وخلال حكم الامويين كانت سياسة الخلفاء الامويين تتسم بالتسامح والانفتاح حتى ان بعض المسيحيين كمنصور بن سرجون وابنه وحفيده المعروف بيوحنا الدمشقي تقلدوا مناصب هامة في خزينة الدولة وماليتها فكانوا شخصيات مرموقة في نظام الحكم (1).
وبعدها في ظل الحكومات الإسلامية المختلفة عاش المسيحيون في امن وسلام ومارسوا عقائدهم بحرية ولم يتعرضوا للاضهاد الا على يد الغزاة الغرباء، ولهذا كانت العصور الإسلامية في معضمها عصور ذهبية لاتباع الديانه المسيحية والأديان الاخرى، حيث اعتبر الإسلام خيمة جامعة للأديان كلها على اختلافهاً ونموذجاً رفيعاً للتعايش وحضناً رحيماً يتسع للتعددية في الرأي والمعتقد (2). ولم يحاول الإسلام اجبار اهل الكتاب على تغيير دينهم وطالب دائماً بالحوار معهم (المجادلة)، اي ضمن لهم حرية الفكر حسب مفهومنا المعاصر، وترك لهم حق اتخاذ القرار. وقد كان موقف القرآن الكريم بشكل عام ايجابياً من المسيحية من الناحيتين السياسية والسلوكية (3).
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص121 - 122
(2) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص129
(3) العرب النصارى (عرض تاريخي) - حسين العودات -ص64 - 65 - الاهالى للطباعة والنشر والتوزيع - ط1 1992(4/34)
وهنا يعترف القمص ابراهيم لوقا بهذه الحقيقة فيقول: ان نبي الإسلام قد حفظ للديانة المسيحية مركزها، وأيد جلالها، واثبت صحة الكثير من تعاليمها .. واحترم كتبها المنزلة (1).
ولكي نفهم كيف استطاع المسيحيون ان يعيشوا في اطار الحضارة الإسلامية العربية ويشعروا انهم من لحامها وسداها وانهم ليسوا غرباء عنها بل من العناصر الفاعلة في تشييد الحضارة العربية ومساعدة اخوانهم المسلمين لصيانة عقائدهم في مختلف ميادين العلوم ومقتضيات الحضارة، يجب ان نشير إلى ان ذلك يعود إلى الاسس المشتركة بين الديانتين المسيحية والإسلامية ومواطن الالتقاء في ميادين الحياة (2). مثل الايمان باله واحد خالق السموات والارض الحي القيوم الغفور الرحيم بعبادة والمحب لهم والذي يحيي ويميت، وكذلك الايمان بالرسل والانبياء وبفضل الله ونعمه علينا ولذلك يكرس المؤمن كل اعماله لطاعه الله وعبادته وحمده وشكره على نعمه الكثيره التى سخرها له والتى يجب ان يستعملها بحكمة اذ انه سيحاسب على كيفية تصرفه.
ان نقاط الالتقاء ومحاوره عديدة بين المسيحية والإسلام، وبالتالي بين المؤمنين المسيحيين والمؤمنين المسلمين. وسب ذلك اللقاء يكمن في كون الدينين ينبعان من مصدر واحد في الاساس هو مصدر التوحيد السامي - الابراهيمي- فالمسيحية فخورة بكونها تسير على المنوال الذي نسجه ابراهيم، والإسلام كذلك، يعلن، بكل صراحة، انه لم يأت بعقيدة جديدة، بل ان جل ما قام به هو تصحيح ما شاب الايمان الابراهيمي التوحيدي من انحرافات وغموض وشوائب. فالإسلام هو في نظر علماء الدين المسلمين - الحركة التصحيحية اللازمة والتي كانت منتظرة، لتنقذ الدين الحنيف، دين ابراهيم الخليل، من كل انحراف أصابه، خلال حقبات الزمن، وتطهره من كل وهن اصابه أو شرك أو خطأ ادخله الناس، زوراً وجهلاً، على عقيدة الإسلام الاصيلة، وايمان التوحيد الخالص.
_________
(1) المسيحية في الإسلام - القمص ابراهيم لوقا - ص5
(2) المسيحية والحضارة العربية - الاب الدكتور جورج شحاته قنواتي - ص 17 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ط2 1984(4/35)
وكما المسيحية تقول عن نفسها إنها لم تبدع ديانه جديدة إنما هي بناء روحي يقوم على قواعد ترقى بنا بعيداً في الزمن، من آدم وحواء إلى هابيل وشيت .. إلى نوح، فسام، فابراهيم، ومن ابراهيم إلى موسى وداود وسليمان، ومن سليمان الحكيم إلى يوحنا- يحيى والمسيح. انها إذا، واسفارها التي هي كتب العهد الجديد، ليست سوى إتمام للبناء التوحيدي، الابراهيمي- الموسوي، الذي تجلى ووصل إلى قمته بولادة المسيح وبشارته. انها الاكمال لتلك العمارة التي بدأت بآدم وحواء .. وهي مستمرة إلى اليوم. وكما تلتقي المسيحية "الموسوية- اليهودية" في كثير من المحاور وفي عديد من النقاط الهامة، وكما تفترق المسيحية عن الموسوية في بعض المجالات وفي عدد من المحاور، كذلك يلتقي الإسلام المسيحية في كثير من محاور الايجاب وفي عديد من النقاط المشتركة المركزية، ويعود ليفترق عنها في بعض المجالات وعند عدد من المحاور (1).
ان هذا الارث الزاخر لموقف الإسلام من المسيحيين ومن الديانه المسيحية يمكن ان يكون افضل منطلق للحوار بين الإسلام والمسيحية. فالإسلام كدين سماوى خاتم جاء معترفاً بالمسيحية وبرسالة السيد المسيح عليه السلام، حيث ان ما ورد في القرآن والسنة عن السيد المسيح عليه السلام وامه مريم العذراء، سيكون له أثر كبير في التسريع في الحوار وجعل كثير من المسيحيين يتفهمون الإسلام ورسالته الخالدة بما سيكون له دور مهم في التقريب بين الديانتين السماوييتين بما يخدم قضية الانسان على الارض ويساهم في مواجهة المسيحية الصهيونية، ومحاولاتها لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.
وبالرغم من انعقاد عدة مؤتمرات للحوار الإسلامي - المسيحي شارك فيها وشجعها الفاتيكان ودول ومؤسسات إسلامية متعددة، الا انها لم تتصد لكثير من القضايا الأساسية، ولم تشكل فرق عمل لوضع منهجية مشتركة تنطلق من ثوابت إيمانية ومن قناعات مشتركة لمواجهة الاخطار التي تواجه الجميع وبالذات خطر المسيحية الصهيونية. فالمواجهة يجب ان تشمل اقامة حوار بناء وهادف مع كافة
_________
(1) محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام - غسان سليم سالم- ص188 - دار الطليعة -بيروت - ط1 2004(4/36)
المذاهب المسيحية وبالذات الكاثوليكية والارثوذكسية وذلك من اجل اقامة تحالف مع هذه الكنائس للتصدى وفضح المخططات العدمية للصهيونية المسيحية، والتى لا تهدد العرب والمسلمين فقط، بل تهدد المسيحية ذاتها وتخرجها عن اطارها الصحيح، كديانه للمحبه والسلام، من خلال عملية التهويد المنظم للصهيونية المسيحية. وربما يكون كتاب "المسيح المسلم" للدكتور طريف الخالدى نموذج ممتاز للتعريف بالإسلام وموقفه من رسالة السيد المسيح عليه السلام سيسهم بكل تأكيد في اثراء الحوار الإسلامى المسيحى.
المسيح المسلم (1)
هذا الكتاب يمتاز بميزتين، الأولى أنه فريد في نوعه ومضمونه, والثانية أنه يحمل رسالة بالغة الأهمية موجهة إلى القارئ الغربي. فموضوع الكتاب هو صورة السيد المسيح في التراث العربي الإسلامي, ومنهجه هو حصر الأدبيات والأقوال والقصص التي وردت في كتابات المؤرخين والأدباء والشعراء العرب والمسلمين عن السيد المسيح. وتتمثل أهمية مثل هذا الكتاب في أنه يهشم إحدى الصور النمطية في المخيلة الغربية عن الإسلام ونظرته إلى المسيحية, وهي نظرة لا أصل لها, خاصة عند غالبية الناس العاديين. فهذه النظرة تفترض عداء مستحكماً بين الإسلام والمسيحية, وبالتالي وجود نظرة عداء تجاه السيد المسيح بين المسلمين. والغريب أنه مقابل هذا العداء المفترض بين المسيحية والإسلام, بين محمد وعيسى, هناك افتراض تقارب وعلاقة تكاملية بين اليهودية والمسيحية أثمرت ما صار يطلق عليه البعض "التقاليد أو الحضارة المسيحية اليهودية المشتركة", وذلك في سياق جهد محموم, لا تبتعد عنه السياسة ومرتبط بالمسيحية المتصهينة في الولايات المتحدة, لتخفيف وطأة "عقدة الذنب" التاريخية والعداء الكبير بين المسيحية واليهودية جراء ما يحمله المسيحيون من مشاعر ضد اليهود كونهم "قتلوا المسيح" بحسب رواياتهم.
_________
(1) المسيح المسلم -تأليف د. طريف الخالدي- ط1 2001م - مطبعة جامعة هارفارد- المصدر: الجزيرة نت خدمة كمبردج بوك ريفيوز(4/37)
وفي مقابل "الغفران" الذي تصكه أدبيات المسيحية المتصهينة لليهود على تلك "الجريمة" والتقارب المفتعل بين الديانتين هناك توكيد لعلاقة العداء المتوهم بين الإسلام والمسيحية تنسحب على طبيعة النظرة العدائية لنبي الإسلام محمد, وتفترض أن نظرة مشابهة لها موجودة عند المسلمين تجاه السيد المسيح. فلا تدرك غالبية مسيحيي العالم, وفي مقدمتهم مسيحيو الغرب, أن المسلمين يعتبرون المسيح نبياً من أنبيائهم, ويوقرونه كما يوقرون محمداًً, وأنهم يصلون عليه كلما ذكر ويردون عليه السلام، وأنه لا يجوز بحسب قيم الإسلام إلا أن يخص المسيح وسائر الأنبياء بالاحترام والطاعة والتقدير, فضلاً عن أن يجول بخاطر المسلمين أن يعادوا أحد الأنبياء ويتطاولوا عليه كما يتم التطاول على سيدنا محمد (ص) مثلاً في الأدبيات الغربية المسيحية. وعلى ذلك فإن النظرة العدائية هي في الواقع باتجاه واحد، من قبل الغربيين تجاه نبي الإسلام, لأن النظرة التي بالاتجاه المعاكس, أي من قبل المسلمين إزاء السيد المسيح هي نظرة تبجيل لنبي مرسل.
لكن السؤال الذي يبرز هنا هو هل هناك خصوصية بارزة لتعامل النص القرآني, ومن ثم الأدبيات العربية الإسلامية, مع السيد المسيح تمنحه موقعاً متميزاً عن الأنبياء الآخرين الوارد قصصهم في القرآن؟ والجواب هو نعم ولا في الوقت نفسه. ففي حين أن بعض القصص الخاص بأنبياء آخرين يأخذ مساحة أكبر, أو أن ذكر بعض الأنبياء يتردد بشكل أكثر من السيد المسيح, من ناحية التكرار أو عدد المرات فإن ثمة خصوصية معينة للمسيح تتمثل في أنه كان آخر الأنبياء قبل النبي محمد, وأنه وصف في القرآن بأنه "روح الله" و"كلمة الله" كما أنه "ابن مريم" الذي لا أب له. لكن النص القرآني شديد التركيز على أن عيسى ابن مريم إن هو إلا بشر كغيره من العباد وأنه ليس إلها ولا يدعي الألوهية. كما أن هناك رفضاً موازياً لعقيدة التثليث المسيحية, وتوكيد بارز على مبدأ الألوهية الواحدية- الله الواحد الأحد الذي لا شريك له. وهذا التركيز الشديد هو الذي يثير وأثار حفيظة العديد من علماء اللاهوت المسيحيين في قرائتهم للقرآن. ومن هنا فإن المسيح "القرآني" وافق من ناحية المسيح "الإنجيلي" حيث صورته طافحة بالحب والألفة والتوقير, لكن في الوقت نفسه خالفه من ناحية رفض قصة الصلب التي يقول الإنجيل بأنها حدثت, كما والأهم من ذلك التوكيد على بشرية السيد المسيح وعدم ألوهيته. وكان أن اعتبر(4/38)
البعض أن رفض القرآن لفكرة ألوهية المسيح وصلبه لن يؤدي إلى أي مصالحة تاريخية بين الديانتين وبالتالي فإنه لا مغزى للصورة الإيجابية عن المسيح في القرآن.
وبشكل عام يتناول النص القرآني قصص المسيح عبر أربعة أشكال أو مراحل، قصص مرحلة ولادة المسيح وما رافقها, وقصص المعجزات الخاصة به كإحياء الموتى وشفاء المرضى, وقصص الحوارات التي دارت بينه وبين الله, ثم الآيات الكثيرة التي توكد على بشريته وعبوديته لله. أما النصوص الورادة عن المسيح في الكتابات العربية والإسلامية فهي في مجملها مثيرة وتقدم معرفة رائدة وفريدة من نوعها، فيها نقرأ أحاديث منسوبة إلى السيد المسيح تنقل لنا عظمة حكمته وروحه الشفافة, ونقرأ قصصا عن رأفته بالناس ونبوته وتضحياته, وكلها تؤكد على بشريته انسجاماً مع الرؤية القرآنية والإسلامية له. والسيد المسيح يتبدى لنا عبداً لله, وليس بإله, وهي السمة الأبرز والأهم لـ"المسيح المسلم" (1).
وفي مقابل هذه النظره الايجابية تجاه المسيحيه والسيد المسيح، فاننا نجد نظره مغايره تماماً لدى المسيحيين تجاه الإسلام والرسول الكريم، حيث قوبلت المبادرة الحوارية للإسلام بذلك النوع من "الإنشاء الإيديولوجي" الذي نستطيع نعت تاريخه، باعتراف بعض الأوساط المسيحية المعاصرة، بأنه كان مجرد تاريخ للكذب على الإسلام (2) الأمر الذي أضفى على ردود الفعل المسيحية القديمة طابعا أكثر عنفاً وأغزر إنشاءً وأبعد أثراً على المستوى النفسي والثقافي، مما شكل في الواقع عائقا أمام التفاهم بين الطرفين وحال دون الاشتراك في بناء حضارة إنسانية مشتركة. وحسب شهادة المستشرق المعاصر الكبير "يوسف فإن إيس" في كتاب صدر له سنة 1978 "إن ما يسمعه المرء أو يقرؤه عن الإسلام في وسائل الإعلام الغربية [الحديثة] والطريقة التي يتحدث بها المثقفون في الغرب عموما عنه، لهو شيء مزعج جدا، مزعج بمعنى مزدوج: أولا بسبب المعلومات غير الصحيحة والآراء
_________
(1) المسيح المسلم -تأليف د. طريف الخالدي- ط1 2001م - مطبعة جامعة هارفارد- المصدر: الجزيرة نت خدمة كمبردج بوك ريفيوز
(2) - الإسلام والمسيحية- أليكسي جورافسكي- الكويت، عالم المعرفة، ط.1 نوفمبر 1996، الفصل الثالث والرابع (ترجمة محمد الجراد).(4/39)
الخاطئة، وثانيا بسبب النبرة الشيطانية المخيفة التي يتم بها عرض هذه الأحكام عن الإسلام" (1).
وفي احدى الندوات المخصصة لدراسة سبل تعزيز التعاون بين الأديان، تركّزت معظم المناقشات، علي ما لدي المسيحيين من أفكار خاطئة عن الإسلام. ومن الصور النمطية الكثيرة التي جري تناولها، برزت خمسٌ اعتُبرت العائق الأكبر أمام الانسجام والتعاون بين الديانات والثقافات. فهي تربط الإسلام بالإرهاب والتعصّب واستعباد المرأة وانعدام التسامح تجاه غير المسلمين والعداء للديموقراطية وعبادة إله غريب وانتقامي (2). وهذه الصور كما يقول "بول فندلي" ليست بعيده عن ان الصور المزيفه عن الإسلام، التى حملتها من مرحلة الطفولة، فقد استمرت طويلاً في تجربتى إلى حد يجعلنى لا افاجئ بوجود أمريكيين آخرين يحمملون افكاراً خاطئه مماثله. وثمة ما يثير الاحساس بحراجة الحال، لدى التأمل بهذا الكم الهائل من الصور النمطية المضللة عن الإسلام، الذى تدفق، عاماً بعد آخر، من صفوف مدارس الاحد في انحاء أمريكا، من دون ان يواجه الطعن. اذ ان الملايين من الشباب القابلين للتأثر ربما تقبلوا هذه التضليلات كحقيقة، ونقلوها، على مر السنين، كما هى، بلا تصحيح، إلى ملايين آخرين من الناس (3).
ويوضح بول فندلي كيف تمكن من تغيير نظرته للاسلام بعد ان عايش المسلمين وعرفهم عن قرب حيث يقول: كانت عدن أول محطة لي في استكشاف العالم الإسلامي. في ذلك البلد النائي تعرّفت، للمرة الأولي، إلي ديانة يؤمن بها أكثر من بليون نسمة يشغلون أنحاء العالم كافة. إنهم جماعة دينية لا يفوقها عدداً سوي المسيحيين الذين يبلغ تعدادهم ما يزيد علي بليوني نسمة. وفي المحطات التالية التي توقفتُ فيها، فتحت عينيّ علي ثقافة مستندة إلي الشرف والكرامة وقيمة كل إنسان، علاوة علي التسامح وطلب العلم؛ وهي معايير، عرفت، في ما بعد، أنها متأصّلة عميقاً في الدين الإسلامي. إنها أهداف كانت ستلقي استحسان أجدادي المسيحيين. ولكن مع هذه المعتقدات الأساسية والمشتركة، يواجه المسلمون
_________
(1) - الإسلام في عيون الإعلام الغربي- سهام بادي - " مجلة رؤى، باريس: العدد 13 خريف 2001، ص: 49.
(2) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى ص 30
(3) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى ص37(4/40)
مصاعب يومية في مجتمع أميركا المسيحيّ في غالبيته. إن معظم الأميركيين لا يعرفون أيّ مسلم؛ وما زالوا غافلين عن وجود المسلمين المتنامي بوتيرة سريعة في الولايات المتحدة. ولم يناقشوا يوماً الإسلام مع أي شخص مطّلع علي هذا الدين. ولم يقرأوا يوماً آية واحدة من القرآن الكريم. وتنبع معظم تصوّراتهم عن الإسلام من الصور السلبية المزيّفة التي تظهرها التقارير الإخبارية، والأفلام والمسلسلات التلفزيونية، والحوارات في الإذاعة والتلفزيون (1).
وقد اشرنا سابقاً إلى دور المبشريين والمستشرقيين في رسم هذه الصوره المشوهه عن الإسلام والمسلمين ولهذا فإن ايه محاوله جديده للحوار بين المسيحية والإسلام يجب ان تبدأ بمراجعة الدراسات الإستشراقية المتأثرة بمناخ الحروب الصليبية لتنقيتها من ما خالطها من دس و تشويه لصورة الإسلام و نبيه و قيمه و شعائره، مع الإستفادة من كبار المستشرقين المنصفين الذين أشادوا بروحانية الإسلام و سماحة قيمه وتسامحه. ولا بد هنا من التنويه بالخطوات الإيجابية التي قطعتها الكنيسة الكاتولوكية منذ المجمع الفاتيكاني وصدور وثيقة Nostra Actate عام 1965 التي تبنت الحوار مع المسلمين والإنفتاح عليهم، من منطلق تعزيز المحبة الوحدة بين أتباع الديانات التوحيدية.
فقد نص المجمع الفاتيكاني بوضوح على "أن الكنيسة تنظر بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأوحد، الحي القيوم، الرحيم القدير، خالق السماء والأرض، الذي وجه كلامه إلى البشر، و إنهم يسعون في الخضوع بكل نفوسهم لأحكامه الحقة كما خضع إبراهيم لله، الذي ينتمي إليه الإيمان الإسلامي بطيبة خاطر. و أنهم يجلون يسوع كنبي، و إن لم يعترفوا به كإله، و يكرمون مريم أمه العذراء ... وإذا كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات و عداوات كثيرة بين المسيحيين و المسلمين، فالمجمع المقدس يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي، و
_________
(1) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى -ص19(4/41)
يسعوا في تحقيق تفاهم صادق بينهم، و يعملوا معا على صيانة و دعم العدل في المجتمع و القيم الأخلاقية، و أيضا السلم و الحرية لجميع البشر " (1).
كما أعلن البابا بول السادس الرؤية الجديدة للعالم الإسلامي في خطاب بابوي بعنوان"كنيسته"-أي كنيسة السيد المسيح- قال فيه:"من الصواب أن تعجب بأولئك الناس-يعني المسلمين - لكل ما هو طيب وحق" "في عبادتهم لله (جل في علاه) ". ولقد تأكد هذا الموقف في الخطاب البابوي الذي صدر بعد ذلك بشهرين سنة 1964م بعنوان "نور لكل الأمم"، الذي جاء فيه أن "مبدأ الخلاص يشمل أيضاً أولئك الذين يُقرُّون بوجودالخالق وفي مقدمتهم المسلمون (2). وقد أنشئت في سنة 1974م لجنتان: لجنة لليهودية، وأخرى للإسلام ضمن كيان واحد يطلق عليه الآن " المجلس البابوي للحوار بين الأديان.
إن هذه المقاربة الجديدة تفتح الباب واسعا للحوار البناء بين المسلمين الذين لم يكن لهم أصلا مشكل عقدي مع الديانة المسيحية، و إن كان لا بد من التنبيه إلى أن بعض التيارات الأصولية المسيحية المتطرفة لاتزال تتمسك بالصورة المشوهة السابقة، و من بينها الحركات الصهيونية المسيحية في أمريكا. و قد إستمعنا لبعض رموز و أركان هذا التيار يسب الإسلام و ينعته بالديانة الزائفة الشريرة بعد تفجيرات نيويورك في سبتمبر 2001 (3). ولكن تزايد الوجود الإسلامي في الغرب ادى إلى زياده المعرفه بالإسلام، حيث يعتبر هذا الوجود عنصرا أساسيا في حسابات التفاعل من تعايش وصراع حضاريين بين المسيحية واليهودية من جهة والإسلام من جهة أخرى، وقد أدى هذا التواجد إلى بروز مجموعة من الظواهر المستحدثة كتزايد عدد المساجد والمراكز الإسلامية والجمعيات الخيرية والمدنية التي حقق بعضها نجاحات
_________
(1) ندوة العيش المشترك في الإسلام و المسيحية - اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية و الثقافة و العلوم - بيروت 2002 - راجع على الخصوص بحث د. محمد السماك: في ثقافة الحوار الإسلامي - المسيحي (ص 260 - 266)
(2) الإسلام والغرب: تعاون أم صدام - رالف بريبانتي- http://www.science-islam.net/article.php3?id_article=630&lang=ar
(3) ندوة العيش المشترك في الإسلام و المسيحية - اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية و الثقافة و العلوم - بيروت 2002 - راجع على الخصوص بحث د. محمد السماك: في ثقافة الحوار الإسلامي - المسيحي (ص 260 - 266)(4/42)
كبيرة، حيث وصلت مصداقيتها إلى مستوى الجمعيات الدولية غير الحكومية. وعن طريق التزاوج والاحتكاك اعتنق كثير من الغربيين الإسلام، وبهذا فتحت جبهة جديدة في التفاعل الحضاري بقيادة الجاليات المسلمة في الدول الغربية التي بدأت تشكل أحد أبواب الانبعاث الحضاري للإسلام في ظل التطور العلمي والتكنولوجي الذي يشهده الغرب، غير أن هذا الباب تعتريه صعوبات مهمة أبرزها وأخطرها التهمة بالإرهاب (1).
وعلى العموم فأنه في اطار العلاقة بين الإسلام والمسيحية في عصرنا الحاضر فإن هناك الكثير مما يمكن انجازه لتعزيز الحوار الهادف والبناء بين الجانبين بما يخدم قضيه الانسان على هذه الارض. فالخلاف بين الجانبين ليس كبيراً، بل ان نقاط الالتقاء اكثر من الخلاف. فلا داعي لان نختلف ونتعارك ونحن واقفون على عتبة إيمانية مشتركة، وما يقربنا من بعضنا البعض اكثر بكثير مما يبعدنا. والمعاشرة بالمعروف مع كل الطوائف والأديان المخالفة هي اصل من أصول الشريعة الإسلاميه، والمسلمون اكثر اعترافاً من المسيحيين بصلة القربى بين الأديان (2).
وامام مجموع هذه الحقائق الثابته، نقف بحيرة وعجب لنسأل: اين الحل الذي يجب ان يولد، ليبدأ المجهود المشترك الهادف إلى فتح مجال الحوار الحقيقي الجدى بين نصارى العالم ومسيحييه من جهه، وبين مسلمي العالم ومؤمنيه من جهة آخرى، للوصول إلى فهم عميق يجمع المؤمنين كافة كل المؤمنين، في مناخ واحد من الاحترام المتبادل الصريح اولاً، والتخطيط الواضح لبدأ عمل بناء مشترك، على ساحة الارض كلها ثانياً. فمستقبل البشرية والانسان ومصير الكرة الارضية ومن عليها مرهون، في الزمن الآتي، لقيام مثل هذا التعاون البناء المشترك، الذي يدعو اليه الناس، وندعو اليه نحن معهم، بكل ما اوتينا من قناعة وكد وحماسة. فإن الذي يجمع بين محمد والمسيح هو في الواقع، اكثر بكثير من الذي يفرق! أنه يجب علينا الا ننسى ايضاً أنه، بالرغم من وجود محاور هامة تجمع بين ديانتي التوحيد، فإن في الامر كثيراً من النقاط العديدة التي يفترق فيها المسيحيون والمسلمون، بعضهم عن
_________
(1) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح
(2) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى- ص 54(4/43)
البعض الآخر. لذلك وجب بدء العمل الصادق لاقامة الحوار الواجب انطلاقاً من قبول كل دين للدين الآخر والاعتراف له بحقه في الوجود والاعراب عن نفسه وحقائقه وايمانه. فعلى صخرة مثل هذه المبادئ وعلى ارضية متينه من الصراحة في التعامل والصدق في الأخذ والعطاء، يمكننا أن نبدأ دراستنا لمحاور الافتراق، دون ان نقع في محاذير التحيز والانحراف، والرياء والتقوقع، ومحاولة ذر الرماد في العيون والعقول (1).
الحوار بين الإسلام واليهودية
ربما يستغرب البعض طرح فكرة حوار بين الديانتين اليهودية والإسلامية في عصرنا الحاضر الذى يشهد صراعاً مريراً بين اتباع الديانتين من منطلقات ايديلوجيه ربما يرى البعض انها بعيده عن الدين، حيث كانت ارض فلسطين ملتقى هذا الصراع بين اسرائيل وحلفائها من ناحية والدول العربية والإسلامية من ناحية اخرى. وبالتأكيد فإن هذا الصراع زاد من الجفاء والبعد بين اتباع الديانتين السماويتين ولم يعد بالامكان البحث عن نقاط الالتقاء والتقارب والبحث عن الاصل المشترك لهاتين الديانتين ومحاوله الالتقاء عند قواسم مشتركه ربما ستساهم في وضع حد لهذا التدهور والحرب المستعره في المنطقة منذ زمن بعيد، والاهم انها يمكن ان تكون خطوه مهمه في ايقاف استغلال الصهيونية والاصوليون المسيحيون لهذه القضيه لتنفيذ مخططاتهم العدمية في المنطقة والعالم.
وكما اتضح لنا في السابق فان التاريخ الإسلامي كما تعامل مع الديانه المسيحية والمسيحيين بتسامح وانصاف وحفظ لهم حقوقهم الدينيه والمدنية في ظل الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول (ص) وحتى بداية انهيار الدولة الإسلامية، فقد كان الحال كذلك مع اليهود حيث عاشوا في امن وسلام خلال فترات الحكم الإسلامى ولم يتعرضوا للاضطهاد والمضايقه كما حدث معهم في اوروبا بل وصل العديد منهم إلى مناصب عليا في الدوله الإسلامية واسهموا في تطورها وازدهارها وكانت لهم الملاذ الامين من بطش الاوربيين قديماً وحتى وقت قريب. وهنا ينبه
_________
(1) محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام - غسان سليم سالم- ص198 - 190 - دار الطليعة -بيروت - ط1 2004(4/44)
المؤرخ (رابوبور) إلى " أنه بعد فتح فلسطين على يد المسلمين فقد تحسن وضع اليهود على نحو ملموس وزاد نشاطهم الثقافي. ومع عهد الخلفاء المسلمين استطاعت أكاديمية طبريا أن تنتقل إلى القدس لتصبح مركز اشعاع ثقافي: فلقد جرى فيها تثبيت النصوص العبرانية للعهد القديم. وفي فلسطين تم آنذاك تأليف أجمل تراتيل الصلوات الدينية اليهودية. ولم يتعرض اليهود والمسيحيون في ارض الإسلام إلى اضطهادات ومذابح كتلك المذابح الضخمة التى جرت في الغرب ومنها المذابح الدموية العارمة ابان احتلال الصليبيين للقدس (1).
واذا كان الحال كذلك فلابد لنا من البحث عن الخلل الذى حدث لهذه العلاقه وهو بالتأكيد كان بسبب الهجمه الصليبيه الصهيونية الحديثه في عصرنا الحاضر، مما يعنى اننا يجب ان نبدأ بمحاولات للحوار مع اتباع الديانه اليهودية انطلاقاً مما ورد في ديننا الإسلامى عسى ان يساهم ذلك في اعادة بعض اليهود إلى الصواب ويعرفهم بحقيقة ديننا الإسلامى الذى يعتبر اليهودية ديانه سماوية وكيف اننا كمسلمين نجل ونقدر الانبياء جميعاً ولا نفرق بين احداً منهم، حيث يعتبر الباحثون في علم الأديان، ان الرسالات الثلاث: الموسوية- اليهودية والمسيحية- النصرانية والإسلام هي، في الواقع، متصلة بعضها بالبعض الآخر: زمنياً وتاريخياً وتسلسلياً، وجفرافياً ومناطقياً واقليمياً، عقيدة ومبادئ وتعاليم. فهي تلتقي في كثير من الشؤون والمجالات، والمبادئ والتعاليم. ويؤكد معظم الباحثين انها حلقات ثلاث في عقد واحد فريد. ومن اجل ذلك، وفي سبيل الموضوعية العلمية، لا يستطيع الباحث الجدي ان يلج عالم المسيحية والإسلام، دون الانطلاق - ولو بايجاز - من الدين اليهودي لان الولوج إلى دائرة: الكتاب المقدس من جهة، والقرآن المجيد من جهة اخرى لا يمكن ان يكون متكاملاً، متيناً وعميقاً، اذ لم يتطرق الباحث فيه إلى التوحيد الابراهيمي الذي بدأ - زمنياً وتاريخياً- مع خليل الرحمن ابراهيم المطيع لله ومع ابنيه اسماعيل واسحق ثم مع حفيده يعقوب والاسباط ابناء يعقوب. ذلك ان عقد
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص126(4/45)
التوحيد الفريد القيم: بدأ حلقة، حلقة، ودرة، درة .. إلى ان انتهى برسالة القرآن ودعوة محمد، الرسول العربي (1).
وكما اسلفنا فقد حرص الرسول الكريم على دعوة اليهود للدين الإسلامي وحاورهم وجادلهم وفي بداية الفترة المدنية بعد الهجرة إلى مكه عقد الرسول (ص) حلفاً ومعاهدة مع اليهود تجسد في دستور المدينة لينظم العلاقة بين الامة المسلمة الناشة باليهود ضمن دولة مدنية قائمة على التنوع تجسيدا موضوعيا للرؤية القرآنية للتنوع الديني. فمن بنود هذا الدستور الذي تتجاوز بنوده الخمسين: لليهود دينهم و للمسلمين دينهم ... و من تبعنا من يهود فإن لهم النصر و الأسوة، غير مظلومين و لا متناصر عليهم ... و أن بطانة يهود و مواليهم كأنفسهم .. و أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، و على اليهود نفقتهم، و على المسلمين نفقتهم، و أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ... و أن بينهم النصح و النصيحة و البر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه ".
ومن الواضح من هذه المعاهدة التي تكرس تحالفا متينا بين المسلمين و اليهود انها تقوم على المساواة المطلقة و حقوق المواطنة المتماثلة - لإن إختلاف الدين لم يكن له أثر في طبيعة العلاقة بين المجموعتين المتعايشتين، و لم ينحل العقد إلا بغدر قبائل يهود المدينة التي إختارت الإنحياز للخط المناوي للمسلمين (2) واصرت على موقفها من الدعوة الجديدة ووقفت موقفاً عدائياً من الإسلام والمسلمين منذ ظهور الإسلام، وتآمرت مع المشركين لاخفاء نور الإسلام وسحق دعوته، ولهذا فقد اضطر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ان يعاملهم بالمثل فحاربهم، وعاهدهم، ولكنهم خانوا، وخدعوا فتم اجلاؤهم عن الجزيرة العربية، ليس لانهم يهود، بل لخياناتهم. وبعد ان انتصر الإسلام على المشركين، وعلى اليهود، وتمت له السيطرة اصبح اليهود، شأنهم شأن النصارى، يعاملون معاملة طبيعية كمواطنين، ما لم يخرجوا على النظام، ويمتنعوا عن القيام بواجباتهم
_________
(1) محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام - غسان سليم سالم- ص 76 - دار الطليعة -بيروت - ط1 2004
(2) الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - عبد الملك منصور حسن المصعبي.(4/46)
المفروضة عليهم. فحقوقهم محفوظة طالما أدوا واجباتهم. وهذا لا ينطبق عليهم وحدهم كأصحاب دين مغاير، بل ينطبق على المسلمين ايضاً الذين يخرجون على النظام ويخالفون القوانين والانظمة التي ارساها الإسلام. ومما يؤكد ذلك ان الرسول (ص) عامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح حتى انه اوصى عامله معاذ بن جبل (بأن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم) (1).
وعندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس عام 638 م، منح أهل القدس وبطريركها سافرونيوس عهداً بالسلم والحماية صار يعرف بعهد عمر أو بميثاق عمر بالإضافة إلى ذلك، ولتأكيد حماية الأماكن المقدسة للنصارى واليهود والعناية بها، عهد عمر بحماية كل مكانٍ من الأمكنة المقدسة الرئيسية، والعناية به، إلى أسرةٍ مسلمة مختلفة (2). وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين اذ لم يكلفوا الا دفع الجزية وبقوا متمسكين بدين آبائهم (3). ونتيجة هذه المعاملة كما يذهب د. اسرائيل ولفستون فقد كان اليهود في اغلب مدن العراق يخرجون لاستقبال جيوش المسلمين بالحفاوة والاكرام لانهم كانوا يؤثرونهم على غيرهم اذ يرون فيهم قوماً يؤمنون باله موسى وابراهيم. وقد ازدادت هذه الروابط متنه مع امتداد الزمن حتى دخل اليهود في جيوش المسلمين ليناضلوا معهم في اقاليم الاندلس (4).
وهكذا فإن معاملة اليهود في ظل الحكم الإسلامي عبر التاريخ، لم تكن وليدة صدفة، ولا مجرد كرم اخلاقي من الحكام المسلمين، وانما كان ذلك بسبب العقيدة الإسلامية التي تلزم اصحابها حكاماً ومحكومين، بحماية اصحاب الديانات الاخرى، ومعاملتهم كمواطنين لهم حقوقهم التي لا يجوز المساس بها ولهم احترامهم كأصحاب ديانات سماوية يعترف بها الإسلام ويعترف برسلهم "آمن الرسول بما انزل
_________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 207 أو فتوح البلدان للبلاذري ص 71
(2) حان وقت إنقاذ الإسلام من المحاكم الطالبانية في مقديشو- بشير غوث- arabic.tharwaproject.com/node/894
(3) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 207 أو فتوح البلدان للبلاذري ص 78
(4) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 11 - مكتبة النافذة - الطبعة الأولى 2006(4/47)
اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله".
فالإسلام ينظر إلى اليهود باعتبارهم أهل كتاب سماوي وأهل دين سماوي هم مع المسيحيين ولهم أحكام خاصة في الإسلام دون غيرهم من الناس فلهم حق المؤاكلة نأكل من ذبائحهم ونتزوج من نساءهم (وطَعَامُ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُم) فالإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية. ما معنى أنه يتزوج يهودية أو نصرانية يعني تصبح هذه ربة بيته وشريكة حياته وموضع سره وأم أولاده. فهناك رابطتان طبيعيتان رابطة النسب والدم ورابطة المصاهرة، وحينما يتزوج الإنسان يضيف إلى عائلته عائلة أخرى عن طريق المصاهرة ويصبح أبو الزوجة جد أولاده أمها جدة أولاده إخوانها أخوال أولادها أخواتها خالات أولاده وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى فينشأ هذه اللحمة كلحمة النسب.
وبالرغم من ان الكتب المقدسة الموجودة الآن تعتبر من وجهة نظر الإسلام كتب محرفة، وليست كما نزلت على موسى وعيسى عليهما السلام، الا ان ذلك لم يمنع الإسلام بالزام المسلمين باحترام المؤمنين بها وحماية كنائسهم، واتاحة الفرصة لهم للتمتع بممارسة عباداتهم بالشكل الذي يعتقدونه. كما والزم الإسلام المسلمين بحماية حقوق غير المسلمين، ليس فقط بحرية العبادة، بل بحرية العمل والتملك، والحياة الحرة الكريمة، واعتبر الإسلام ان الاعتداء على احد من هؤلاء هو خروج على التعاليم الإسلامية، ما داموا يؤدون واجابتهم والتزاماتهم، ويؤدون الطاعة اللازمة، ولا يخرجون على النظام العام والقوانين والانظمة التي حددها الإسلام للمسلمين وغير المسلمين.(4/48)
اليهود في ظل الحكم الإسلامي (1)
لقد واجه اليهود عبر التاريخ الطويل للبشرية انواعاً متعددة من الاضهادات والمظالم، لاسباب مختلفة، يعزيها بعض المؤرخين إلى اسباب ذاتية تتعلق باليهود انفسهم، أو بسبب وظائفهم الاقتصادية، كما يعزيها البعض الآخر إلى اسباب خارجة عن إرادة اليهود، بسبب الاغيار الذين يحملون عقيدة مخالفة لهم، أو لأسباب اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك. وقد صَوَّرَ المؤرخون اليهود في القرن التاسع عشر التجربة اليهودية في القرون الوسطى في ظل الإسلام باستخدام مصطلحات رومانطيقية شبه أسطورية على العكس تماماً من تاريخ الاضطهاد والقمع الذي عاشه اليهود الذين قطنوا في العالم المسيحي في القرون الوسطى، حيث قيل عن يهود الأراضي العربية وخاصة أولئك الذين عاشوا في أسبانيا المسلمة انهم عاشوا في عصر ذهبي أو ربما طوباوي (2)، مقارنه بما شهده اليهود من مذابح واضطهادات في معظم البلاد الاوروبية ـ ان لم يكن جميعها ـ شرقيها وغربيها، فقد حصل ان واجهوا الطرد والحرمان والمذابح (3). كما واجهوا احراق كتبهم الدينية كالتلمود في كثير من البلاد الاوربية في الوقت الذي كان فيه موسى بن ميمون (الذي كان يعمل في قصر الخليفة المسلم في بلاد الاندلس) يكتب عن التلمود والفلسفة اليهودية بحرية في ظلم الحكم الإسلامي (4).
وحتى اللغة العبرية التي اختفت تماماً في القرن الثالث قبل الميلاد وحلت محلها اللغة اليونانية والارامية، لم يتم احيائها الا بعد ستة عشر قرناً وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي .. العصر الذهبي للاسلام (5).
_________
(1) من كتاب الاستعمار وفلسطين (إسرائيل مشروع استعماري)، رفيق شاكر النتشة ـ طبعة اوليى 1984 ـ دار الجليل ـ عمان
(2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339
(3) الإسلام و فلسطين - رفيق شاكر النتشة / محاضرة ص42 ـ 43، فلسطين المحلتة، بيروت، الطبعة الثالثة 1981م.
(4) - الجنرال جواد رفعت اتلخان / الإسلام وبنو إسرائيل، ص60 ـ61، ترجمة يوسف وليشاه، الرياض، 1404هـ.
(5) ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ص 56(4/49)
هذا وقد وصل انتشار العقيدة اليهودية- حينما لم تكن اليهودية محصورة في حدود أمة- إلى قمته في بابل ثم في بغداد في القرن التاسع أيام الخلفاء المسلمين، حتى إن كبير احبار اليهود كان يقيم في بلاط الخلفاء وله مكانة تفوق مكانة كبار النصارى. وقد برز في هذه الفترة من ازدهار العقيدة اليهودية تحت ظل الخلافة العربية شخصيات يهودية في العراق ومصر ... وكان انحسار الثقافة اليهودية على أثر انحسار الامبراطورية العربية التي ازدهرت في ظلها تلك الثقافة. ثم كان مركز تألق اليهودية من بعد ذلك في اسبانيا تحت ظل الخلافة الإسلامية حيث ظهر فيها ونبغ (امراء) الطائفة اليهودية مثل (حسدهي بن سبروت) وزير الخليفة في قرطبة، وصموئيل وزير سلطان غرناطه، وهناك فلاسفة ولاهوتيون وشعراء (سليمان بن جابيرول ويهودا هاليفي ولاسيما موسى بن ميمون) ظهروا ونبغوا في تلك المرحلة التي يسميها أندريه شوراكي (المرحلة الذهبية) لليهود في اسبانيا المسلمة حيث أثمر التلاقح اليهودي - العربي أنضج ثماره واحلاها (1).
ففي حين كانت اوروبا الغربية المسيحية تضطهد اليهود باسم الدين وتذيقهم الوان العذاب في القرون الوسطى، وتضطرهم على النزوح إلى شرقي اوروبا وغربيها، كانت الدول العربية توليهم اسمى المناصب وتعترف لهم بحق المساواة المطلقة فيتجرون ويثرون، يبلغون شأناً في السياسة والادارة والاقتصاد لم يسبق له مثيل (2). وهكذا عاشوا في بلاد المسلمين لهم ذمة الله وذمة رسوله وذمة جماعة المسلمين وكان لهم ثروات هائلة ووصلوا إلى القرب من أهل الحل والعقد ومن قرب السلطان حتى في بعض الأحيان حسدهم المسلمون أنهم أصبحوا مقربين من أولى الأمر ومن السلاطين، وهناك شاعر مصري ساخر اسمه الحسن ابن خرقان له أبيات يقول فيها:
يهود هذا الزمان قد بلغوا غايات آمالهم وقد ملكوا المجد
فيهم والمال عندهم ومنهم المستشار والملك
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص186
(2) موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) - بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام (فلسطين) - د. اسماعيل احمد ياغي / ص1.(4/50)
يا أهل مصر إني نصحت لكم تهودوا فقد تهود الملك (1).
هكذا تمتّع اليهود والمسيحيون الذين عاشوا في العالم الإسلامي بتسامح شرعي بوصفهم "أهل الذمة"، حيث لم تتكون في الإسلام قوانين خاصة لليهود كتلك التي تَكَوّنَتْ في العالم المسيحي، حيث كان يهود القرون الوسطى يعتبرون أقناناً للمجلس الملكي وفي بعض الأحيان مارست الكنيسة سلطتها المطلقة على اليهود متذرعة بمبدأ كنسي قديم يتعلق بعبودية اليهود الأبدية. إن التشريعات الإسلامية التي تتعلق بحياة اليهود تجسدت في ميثاق عمر الذي أُدْخِلَ في الشريعة الإسلامية. وقد حُوفِظَ على التنظيمات أو التشريعات كما هي بدون تغيير على مرور الزمن ونادراً ما تم خرقها. ولأسباب مهمة أخرى أيضاً لم يُصَب التجار اليهود المتجولين في الفلك الإسلامي بوصمة الآخرية (أي كونهم آخرين) التي عانى منها اليهود في أوربا. لأنهم كانوا من سكان الشرق الأدنى الأصليين وليسوا مهاجرين كما في الغرب اللاتيني، وغالباً لا يمكن تمييزهم جسمانياً من جيرانهم العرب المسلمين (2).
يقول الكاتب اليهودي الماركسي إبراهام ليون في كتابه "المفهوم المادي للمسألة اليهودية " والذي علق عليه الكاتب اليهودي مكسيم ردنسون: "عامل الإسلام اليهودية بتسامح يفوق التسامح الذي لاقاه هذا الدين ـ من جانب المسيحية ـ كتيار ايديولوجي اعترف بحقه بالبقاء بالرغم من الهزيمة التي لحقت به". ويقول ايضاً في: وفي ظل الامبراطورية الإسلامية والدويلات التي قامت على اشلائها، والتي احتفظت فيما بينها بصلات وثيقة، ازدهرت التجارة بين مناطق متباعدة، وتقدم الانتاج الزراعي الخاص بكل اقليم من الاقاليم، وراجت الصناعات اليدوية، وشارك اليهود كسائر عناصر السكان في هذا التقدم، ومارس عدد كبير منهم التجارة كما يقول ـ جواتين ـ: " لقد ادت هذه الثورة ـ البرجوازية ـ إلى الاسراع في تحويل اليهود من شعب يمارس بالدرجة الأولى المهن اليدوية إلى جماعة تهتم بصورة
_________
(1) برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة
(2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339(4/51)
رئيسية بالتجارة .. وعندما وجد اليهود انفسهم ابان العصر الإسلامي امام حاضرة ميركانتيلية قابلوا التحدي وتحولوا بدورهم إلى امة تتكون من رجال الاعمال وباشروا بالقيام بدور رئيسي في نهضة الحضارة الجديدة (1).
وقد وجد اليهود الذين لم يعانوا الاضطهاد القاسي حيث كانوا يقيمون ملجأ لهم في البلدان المجاورة، وخاصة خارج البلدان المسيحية، في العالم الإسلامي الذي فتح لهم صدره (2). ويقول الكاتب اليهودي المعادي للصهيونية الفرد ليلنتال: وكما اشار المؤرخون اليهود فان العصر الذهبي لليهودية امتد من القرون البادئة عام 711 ب. م عندما عاش اليهود متمتعين بالنفوذ والاحترام تحت السلطة الإسلامية في اسبانيا والبرتغال. وحين اضطر اليهود إلى الفرار من وجه مجالس التفتيش المسيحية وجدوا ملجأ لهم في شمال افريقيا والشرق الاوسط.
ان ما يعرف في الغرب بالعداء للسامية لم ينشأ في العالم العربي في يوم من الأيام، ان العرب لم يكونوا قط معادين لليهود، والإسلام يعتبر موسى وابراهيم كما يعتبر يسوع انبياء ... وفي مصر عاش اليهود طوال الف سنة جنباً إلى جنب مع المسلمين ـ وبعضهم من احفاد اليهود القدماء الذين خلفهم موسى وراءه عند خروجه من مصر، وفر آخرون إلى مصر بعد التدمير الأول الذي انزله البابليون بهيكل القدس، وفي عام 250 ق. م يحدثنا فيلو انه كان في الاسكندرية يهوداً اكثر مما كان في القدس، ووجد اليهود ملاذاً لهم في مصر نجاهم من الاضطهادات النصرانية في اسبانيا والبرتغال خلال القرن الخامس وكذلك اثناء الثورة الروسية والحكم الهتلري. ولا ريب في ان الغزو الاسرائيلي لمصر قد وضع حداً لهذا الملاذ المصري ليهود العالم (3).
وجاء في كتاب "تاريخ العرب: ولقد لقى اليهود من محاسنة المسلمين فوق ما لقيه النصارى برغم مما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم. والسبب انهم كانوا قليلي العدد فلم يخشى آذاهم، وقد وجد المقدسي سنة 985م ان اكثر الصيارفة وارباب البنوك في سوريا يهود واكثر الكتبة والاطباء نصارى ونرى في عهد عدد من
_________
(1) المفهوم المادي للمسألة اليهودية- ابراهام ليون - ص156 - 157، دار الطليعة، بيروت، 1970م،
(2) - المفهوم المادي للمسألة اليهودية- ابراهام ليون /ص161.
(3) هكذا يضيع الشرق الاوسط- الفريد ليلينتال - ص 294 - 295.(4/52)
الخلفاء واخصهم المعتصد (892 ـ 902م) انه كان لليهود في الدولة مراكز هامة. وكان لهم في بغداد مستعمرة كبيرة ظلت مزدهرة حتى سقوط المدينة. وقد زار هذه المستعمرة بنيامين التطيلي حول سنة 1169 م فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين وثلاثة وعشرين كنيساً منها واحد رئيسي مزدان بالرخام المخطط ومجمل بالذهب والفضة، وافاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين بصفته سليل بيت داوود النبي ورئيس الملة الاسرائيلية (ريش جاوثا) في الارامية أي امير السبي أو بصفته في الواقع زعيم جميع اليهود الذين يدينون بالطاعة للخلافة في بغداد. فقد كان لرئيس الحاخاميين هذا من السلطة التشريعية على ابناء طائفته مثل ما كان للجاثليق على جميع النصارى، وقد روى انه كانت له ثروة ومكانة واملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة، وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة وعمامة بيضاء موشاة فيها الجواهر واحاط به رهط من الفرسان وجرى امامه ساع يصيح باعلى صوته (افسحوا درباً لسيدنا ابن داوود) (1).
وهكذا فأنه ليس من المدهش أن اليهود الذين عاشوا في الأراضي الإسلامية في العصور الوسطى لم يحفظوا أية ذاكرة جماعية عن عنف قام به مسلمون ضد اليهود، ناهيك عن معاداة السامية. و هذا على خلاف شديد مع إخوانهم الذين عاشوا في الأراضي المسيحية والذين رسموا تاريخهم على شكل سلسلة طويلة من المعاناة. ولكن هنالك سلسلة واحدة من العنف تأتي إلى الذاكرة. وهي المذابح والتحويل القسري التي قامت به طائفة متعصبة من الموحّدين في شمال أفريقيا وأسبانيا في القرن الثاني عشر ضد اليهود والمسيحيين وحتى المسلمين المنشقين أو الذين لا يوافقون طريقتهم. وهذا الاضطهاد هو الذي أجبر عائلة ميمون على هجرة وترك أسبانيا والاغتراب (2).
وفي ظل الدولة العثمانية تمتع اليهود في فلسطين، التي كانت خاضعة للحكم العثماني، منذ سنة 1517 م وفي اماكن اخرى من الامبراطورية العثمانية، بقسط
_________
(1) تاريخ العرب- فيليب حتي، د. ادوارد جرجي - الجزء الثاني، ص437 ـ 438 د. جبرائيل جبور/ دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت، ط3، 1961م.
(2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي.(4/53)
كاف من الحرية الدينية، لم تكن من نصيبهم في أي بلد اوروبي، فخلال الحكم العثماني، لم تتخذ اية اجراءات رسمية تستحق الذكر، تناهض اليهود أو تميز بينهم وبين باقي السكان، كما كان الحال في معظم الدول الاوروبية ان لم يكن فيها كلها (1).
فقد عاش اليهود تحت الحكم العثماني بسلام لكنهم كانوا يلاقون دوماً في اوروبا الشرقية تمييزاً وكراهية قوية كانت تتفاقم من وقت لآخر لتنتهي بالمذابح (2). وتؤكد (الموسوعة اليهودية) بان السلطان عبد الحميد الثاني عامل يهود الدولة العثمانية معاملة طيبة، ويشهد بذلك بعض المقربين اليه من اليهود امثال "ارمينيوس فامبري " الصديق الشخصي للسلطان الذي صرح: انه من خلال الصداقة المستمرة التي تربطني بالسلطان منذ سنوات طويلة كانت لي الفرصة للتعرف على معاملته الطيبة لليهود. وكان اول حاكم تركي يعطيهم المساواة امام القانون مع رعاياه المسلمين، وعندما استلم الحكم امر باعطاء رواتب شهرية لحاخام تركيا الاكبر وبمعنى آخر عامل الحاخام كما يعامل كبار موظفي الدولة واتخذ تقليداً بان يرسل سنوياً في عيد الفصح إلى حاخام القسطنطينية ثمانية آلاف فرنك لتوزع على فقراء اليهود في العاصمة التركية، وعندما منعت حكومة كريت المحلية في عام 1881م مشاركة اليهود في الانتخابات البلدية الغى عبد الحميد هذه الانتخابات ووبخ السلطات لتعديها على حقوق اليهود (3).
ويعزو بعض المؤرخين (غير المسلمين) سبب بقاء اليهود على قيد الحياة إلى استضافة المسلمين وحمايتهم لهم. يقول ج. ه. جانسن في كتابه "الصهيونية واسرائيل وآسيا:" وفي مناسبتين من التاريخ اليهودي في اوروبا نرى ان بقاء اليهود على قيد الحياة يعود إلى استضافة وحماية الحكام المسلمين، كانت الفترة الأولى في القرن السادس عندما وضعت الفتوحات الإسلامية في اسبانيا حداً للاضطهاد اليهودي على يد المسيحيين هناك، ومنذ القرن العاشر فصاعداً أخذ الضغط على اليهود في اوروبا الغربية في الازدياد ببطء حتى إذا ما اطل القرن السادس عشر كانت تلك
_________
(1) تاريخ الصهيونية- صبري جريس - الجزء الأول، ص 60، م. ت. ف، مركز الابحاث، بيروت 1981م.
(2) الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن - ص16، مركز الابحاث، بيروت، 1972م.
(3) موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية (1897 ـ1909م) - حسان علي الحلاق- ص309 ـ 310.(4/54)
المنطقة بكاملها قد افرغت من اليهود ما عدا بعض الجيوب الصغيرة والمبعثرة، حيث انتقلت الجاليات اليهودية نحو الشرق ووجدت ملجأ لها في الامبراطورية العثمانية (1).
لقد ألّفَ اليهود في أراضي الأشكنازي (أوربا الوسطى والشرقية) عدداً كبيراً من القصائد والمراثي في أثر الاضطهادات التي تعرضوا لها والشهداء الذين سقطوا منهم وخاصة بعد مذابح اليهود في الراينلاند وفي أماكن أخرى خلال الحملة الصليبية الأولى، وقد أُدْخِلَ قسم كبير من هذا النصوص الرثائية إلى الطقوس الدينية والتي ما زالتْ تُتْلى في المعابد إلى يومنا هذا. وعلى العكس من هذا، ومن بين آلاف القصائد العبرية التي كُتِبَتْ خلال القرون الإسلامية الكلاسيكية، فإن القصيدة العبرية الوحيدة من العصور الوسطى التي تنوح وتبكي على اضطهاد تعرض له اليهود في أرض عربية هي قصيدة تبكي و تنوح على استئصال المجتمعات اليهودية في شمال أفريقيا وأسبانيا خلال حكم الموحّدين (2).
منع هجرة اليهود إلى فلسطين
كانت صلة اليهود بفلسطين عبر التاريخ وقبل وجود الصهيونية الاستعمارية، مجرد صلة دينية عاطفية ولم يكن لهم اية مطامع سياسية، وكان هذا الامر قبل السبي البابلي، الذي قام به نوخذ نصر، اذ انه من الثابت تاريخياً ان اليهود كانوا موزعين في العالم العربي، وغير العربي، في ذلك الوقت، ولم يكونوا مجتمعين فقط في فلسطين، بل كانوا مواطنين في كثير من الدول. كانت صلة اليهود بفلسطين مجرد صلة دينية عاطفية ورغبة لدى بعض الفئات اليهودية المتدينة في الاقامة قرب الاماكن المقدسة للتعبد وممارسة الطقوس الدينية لقضاء ايامهم الاخيرة في المدن الاربعة المقدسة (القدس، صفد، طبرية، الخليل) ناهيك عن ان اليهود المتدينيين كانوا يؤمنون بفكرة بعث الدولة اليهودية في فلسطين بحدوث
_________
(1) الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن -ص16، مركز الابحاث، بيروت، 1972م.
(2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي(4/55)
معجزة الهية يظهر معها المسيح المنتظر الذي سيعيد بناء "هيكل سليمان " ويقود العالم نحو الخير والسلام (1).
وقد شهد اليهود في حياتهم بين المسلمين في العالم الإسلامي، اكرم حياة وعوملوا أطيب معاملة، كانت مضرب المثل لليهود في الاقطار الاخرى. وقد شهد على ذلك المؤرخون اليهود والنصارى، بالاضافة إلى المؤرخين المسلمين، فمنذ ان فتح المسلمون فلسطين، سمح الخليفة عمر بن الخطاب لليهود بالعودة إلى القدس ومنحهم قطعة ارض على جبل الزيتون لاقامة الصلوات، كما سمح لهم بعد ذلك السلطان صلاح الدين الايوبي بالعودة بعد الاضطهاد والابادة التي لاقوها اثناء الحروب الصليبية، واخيراً سمح لهم العثمانيون بالعودة إلى فلسطين بعد طردهم من الاندلس (2).
وبعد خضوع فلسطين للحكم العثماني في اوائل القرن السادس عشر، بدأ يهود اوروبا يهاجرون اليها واقاموا في الاماكن المقدسة، القدس، طبريا، صفد، الخليل. وفي منتصف القرن الثامن عشر هاجر عدد من يهود بولندا وروسيا إلى فلسطين بسبب اضطهادهم هناك، واستقر معظمهم في صفد وطبريا حيث لاقوا تحت حكم ضاهر العمر الحماية والامن. كما لاقوا من مختلف السلاطين العثمانين المعاملة الحسنة، ثم ازداد عددهم في اوائل القرن التاسع عشر بعد ان ازداد تدفقهم من اسبانيا بسبب مظالم فرديناند الكاثوليكي وفيليب الثاني. ويسمى هؤلاء اليهود بالسفارديم أي اهل الكتاب (3). وحين وافق السلطان سليمان عام 1562م على تحويل مدينة طبريا إلى مدينة يهودية عارض المسيحيون، وتدخل البابا مع الصدر الاعظم لافساد المشروع ورفض العمال العرب ان يعملوا ولكن والي
_________
(1) موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) - د. اسماعيل احمد ياغي - ص2.
(2) مجلة البحوث الإسلامية / العدد السابع 1403هـ، ص 22، تصدر عن رئاسة ادارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد، الامانة العامة لهيئة كبار العلماء، الرياض.
(3) موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية (1897 ـ1909م) - حسان علي الحلاق- ص83 - الدار الجامعية/ بيروت- ط.2 1980 م(4/56)
دمشق ساعد على اتمام بناء السور الا ان التطور توقف بموت السلطان سليم سنة 1574 (1).
ولم يواجه المهاجرون اليهود أي عقبة سياسية لان زعماء المسلمين لم يرفضوا في أي فترة السماح لليهود القادمين من البلدان الاجنبية بدخول فلسطين والاستيطان فيها. ولم يمنح هذا السماح للمسيحيين الغربيين، وبعد وصول اول فوج من المستوطنين الصهيونيين من رومانيا عام 1882م اصدر السلطان عبد الحميد لاول مرة في التاريخ، عام 1885م، امراً يسمح بدخول اليهود كحجاج فقط لا كمستوطنين. على ان القانون لم ينفذ ابداً بصرامة، ولكن هذا القانون وما تلاه من قوانين تقيد الهجرة كانت تنطبق فقط على اليهود الاجانب، اما مئات الآلاف من المواطنين اليهود في البلدان المحيطة بفلسطين والخاضعة للامبراطورية العثمانية فقد كان باستطاعتهم دوماً الاستيطان في فلسطين (2).
ففي الماضي كان يباح للاجنبي الاتجار مع البلاد العثمانية والمكوث فيها دون ان يملك اقل قطعة من الارض، لان الشرع الإسلامي لا يبيح له دخول البلاد الإسلامية الا إذا قبل احد امرين الجزية أو الإسلام، واذا دخلها فلا يقيم بها الا لاجل معين إلى ان تغير ذلك في 7 صفر 1284هـ (1856م) بصدور الخط الهمايوني الذي يساوي بين حق الاجنبي وحق العثماني في الامتلاك العقاري بالبلاد العثمانية. ولكن الاوامر الجديدة كانت تستثنى اليهود الاجانب من التملك في فلسطين. وقد اشارت جريدة المؤيد في 5/ 11/1891م بان الدولة العلية كانت قد رحبت بالمهاجرين من يهود روسيا فكانت بذلك اعرف الدول بحقوق الانسانية ولكنها رأت بعد ذلك انهم يفدون إلى البلاد التي يقصدونها زمراً وجماعات بحيث يضيق عنهم قضاء تلك البلدان، فلما تدبر الباب العالي في المضار التي تلحق الرعايا العثمانية من وفودهم بهذه الصفة اضطرت ان تمنع دخولهم الاراضي العثمانية (3).
_________
(1) موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) - د. اسماعيل احمد ياغي- ص3.
(2) الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن -ص23.
(3) النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه (1980ـ1918م) - د. خيرية قاسمية - ص24 - 25، م. ت. ف، مركز الابحاث، بيروت، 1873م(4/57)
لقد كان وصول المهاجرين اليهود إلى اراضي الدولة العثمانية ـ ومنها فلسطين ـ يستقبل بعدم المبالاة، وينظر اليه نظرة انسانية، خاصة ان هؤلاء المهاجرين كانوا يأتون للاقامة من اجل العبادة، ويهربون من المذابح التي يلاقونها في بلاد اخرى ليست من العالم الإسلامي. ولا يعقل ان يخطر ببال المهاجرين الاساءة إلى العرب في قطرهم وهم الذين رحبوا بهم وافسحوا لهم صدرهم الآن وعلى مدى عصور التاريخ (1).
ظهور الصهيونية والعداء لليهود
هكذا نجد ان المعاملة الطيبة، التي لا مثيل لها في أي بلد آخر، التي لاقاها اليهود في العالم الإسلامي لم تتغير الا بعد نشوء الصهيونية التي ابتكرها ورعاها، وخطط لها ونفذها المستعمرون غير اليهود اولاً ثم حفنة من عملائهم اليهود الصهاينة بعد ذلك كحل لمشكلة اليهود في اوروبا وتحقيقاً لنبوءات توراتية. فهذا العداء- كما يقول الشيخ القرضاوي- لم نبتكره نحن لسنا الذين اخترعنا هذا العداء .. اليهود عاشوا بين المسلمين وبين ظاهراني المسلمين قرون عديدة حتى حينما اضطهدتهم أوروبا ولفظتهم أوروبا لم يجدوا صدرا حنونا ولم يجدوا كهفا يؤوون إليه ويعيشون فيه آمنين مطمئنين إلا دار الإسلام .. أوطان المسلمين هي التي وسعتهم. ولكن عندما احتل اليهود أرض فلسطين وشردوا أهلها وفعلوا ما فعلوا فهم الذين بدؤوا بالعداء ولم نبدأ نحن بالعداء.
ويضيف: بل أنا أقول ربما كان اليهود أقرب إلى المسلمين من ناحية العقيدة ومن ناحية الشريعة أكثر من المسيحيين لأن اليهود لا يؤلهون موسى ليست عندهم عقيدة تثليث هم لا يؤلهون موسى كما يُؤله المسيحيون عيسى ابن مريم هم من ناحية الشريعة في كثير من الأشياء يتفقون مع المسلمين. النصارى لا يذبحون اليهود يذبحون، النصارى لا يختنون أبناءهم اليهود يختنون، النصارى لا يحرمون الخنزير اليهود يحرمون الخنزير .. النصارى لا يحرمون التماثيل ومعابدهم وكنائسهم مليئة بالتماثيل اليهود يحرمون التماثيل، أشياء كثيرة يتفق فيها اليهود مع
_________
(1) موقف عرب فلسطين من الهجرة اليهودية الصهيونية (1882 ـ 1914م) -د. اسماعيل احمد ياغي - ص3.(4/58)
المسلمين فليست المشكلة مع اليهود مشكلة عقيدة ولا شريعة إنما هي مشكلة أطماع وأشياء جعلت هذا الموقف منذ العهد النبوي مع اليهود ثم في عهدنا هذا منذ بدؤوا يطمعون في أرض الإسراء والمعراج أرض فلسطين المقدسة المباركة (1).
وهكذا نجد انه ليس هناك من مبرر اطلاقاً، للاعتداء على أي قطر من اقطار العالم الإسلامي، (بسبب اضطهاد اليهود)، أو (بسبب اللاسامية)، أو (بسبب المسألة اليهودية) التي لم يكن قد وقع عليهم بسببها أي اذى في العالم الإسلامي. فلم يكن هناك اضطهاد، ولا مذابح، بفضل سماحة الإسلام والمسلمين. ولم يكن هناك لا سامية في العالم الإسلامي، خاصة في العالم العربي لان العرب هم اساس العرق السامي. ولم يكن هناك مشكلة يهودية في أي قطر عربي أو اسلامي لانهم كانوا يعاملون احسن معاملة يلقاها اخوانهم في الدين في أي بلد في العالم. وكان من الأولى ان تحل مشكلتهم عند من اوجدوها. عند اولئك الذين اوقعوا فيهم المذابح والاضطهادات، وعند الذين اخترعوا اللاسامية ومارسوها، وعند اولئك الذين اوجدوا المشكلة اليهودية. ان معذبي اليهود كانوا غربيين: الجرمان واللاسامية توجد في أمريكا وفي بريطانيا، كما توجد في كثير من البلدان الغربية ولكنها لم توجد في البلدان العربية قط (2). وحتى قيام دولة إسرائيل عام 1948م لم تسيطر الصهيونية على اليهود الشرقيين لانهم لم يعانوا من اللاسامية في البلدان التي اقاموا فيها (3). ولكن انقلب بعد ذلك كل شيء، بفضل مخططات الاستعمار الغربي الذي بدأ بالتعاون مع عملائه الصهاينة ـ بافتعال القتل والحرق والدمار ضد المواطنين اليهود في البلاد الإسلامية والعربية خاصة، مما ادى وعن سابق تخطيط إلى تهجير مئات الآلوف من اليهود العرب إلى إسرائيل ليشاركوا في بناء الدولة الاسرائيلية.
يقول الفرد ليلينتال: والغريب العجيب ان يقف اليهود من العرب هذا الموقف العدائي الوحشي وهم الذين نعموا في ظل الدولة العربية الإسلامية بالسلام والرخاء، بينما يتعرضون في اوروبا لضروب الاضطهاد: لقد منحهم الإسلام الحرية
_________
(1) علاقة المسلمين باليهود - الشيخ يوسف القرضاوي - برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة
(2) هكذا يضيع الشرق الاوسط- الفريد ليلينتال - ص314 ..
(3) الصهيونية و إسرائيل وآسيا- ج. هـ. جانسن -ص43.(4/59)
واعتبرهم "اهل الكتاب " واتاح لهم الفرصة للوصول إلى المراتب العليا في الدولة وشجع وأكرم من نبغ منهم من الشعراء، والفلاسفة، والعلماء، والاطباء، والمؤرخين .. وفي هذا الوقت بالذات كانوا يعتبرون في اوروبا "قتلة الرب" و "جلادي المسيح" وكانوا متكتلين في جماعات مغلقة على ذاتها، وبسب هذه العزلة عانوا الواناً من الزراية والاضطهاد وكثيراً ما اخذوا بجريرة آثار لم يرتكبوها (1).
فرغم حسن معاملة الإسلام لليهود فإنهم اعتبروه مجرد صياغة بشرية لمادة من التوراة أو التلمود، وحاولوا احتواء الإسلام بكل الوسائل، ولم ينظروا إلى ما أثبتته نصوصه من تحريف الأحبار لأصل اليهودية، وما أدخلوه بموجب ذلك التحريف من كذب وتزوير، لذلك استخدم أحبار اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مختلف الكيد، ووصفهم القرآن بأنهم أشد عداوة للذين آمنوا، كما حاولوا إدخال كثير من التشويه إلى مصادر الإسلام، أطلق عليه المفسرون مصطلح "الإسرائيليات". وفي العصر الحديث ربطت الصهيونية بين الإسلام والتخلف، وبينه وبين الأصولية والإرهاب، ومعاداة الحضارة الغربية، كل ذلك من أجل تشويه صورته، وحجب حقيقته، وحاولت بكل الوسائل أن تحجب الآراء اليهودية التي تدعو إلى الحوار بين الإسلام واليهودية، أو التي لا تعتبر الإسلام عدوا لليهود (2).
وهكذا انتج النزاع العربي اليهودي حول فلسطين قضية سياسية جديدة أثّرتْ على تاريخ اليهودية في القرون الوسطى في العالم الإسلامي. لقد استغل كلا الجانبين الصراع وعدّل قراءة خرافة التعايش الطوباوي بين الدينين لخدمة أغراضه السياسية. فقد لوّح العرب وكذلك مؤيدي القومية العربية براية التناغم والتآلف والتوافق العربي-اليهودي في الماضي وألقوا باللوم على الصهيونية المعاصرة لعدائها للعرب في الوقت الحاضر. بالمثل، استبدل عدد من الكُتّاب الصهاينة نظرية العصر الذهبي بما أدعُوُه النظرية المضادة -الاضطهاد الإسلامي أو الفهم البكائي الحزين للتاريخ العربي اليهودي. وزعم أؤلئك المُعَدِّلُون (الذين عدّلوا النظرة التاريخية السائدة) أن الحياة اليهودية في الإسلام بدايةً بالنبي محمد (ص) تميزت
_________
(1) فلسطين الفكر والكلمة- د. محمود السمرة- ص255، الدار المتحدة للنشر، بيروت، 1974 م.
(2) الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام - مركز زايد للتنسيق والمتابعة.(4/60)
بالصعوبة والمشقة والاضطهاد تماثل بالمرارة المعاناة الفظيعة التي شهدتها الحياة اليهودية في العالم المسيحي. وهذا يتضمن ان معاداة السامية عند العرب ليست أمراً جديداً ولكنه مرض مزمن قديم، وليس من المحتمل أن يذهب أو يزول حتى لو قامت إسرائيل بتنازلات سياسية كبيرة من أجل سلام الأمة الفلسطينية الناشئة (1).
ولكن إذا انتهى يوما ما الصراع بين العرب واليهود بصورة تامة، عندئذ سيُصْبِحَ ممكناً رؤية الماضي مرة أخرى ليس، بالطبع، كتعايش طوباوي بين الدينين ولكن كزمن عاش فيه اليهود مغروسين في مجتمع إسلامي في تعايش خلاّق مشتركين في أمور كثيرة ومتحررين إلى درجة كبيرة من البغضاء ومعاداة السامية التي عانى منها إخوانهم في الأراضي المسيحية (2).
الحوار مع اليهود بين الرفض والقبول
أصدر مركز زايد للتنسيق والمتابعة دراسة تناولت موضوع "الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام"، حيث وقفت عند ذلك الموقف عبر التاريخ، والمحددات التي حكمته، والخلفيات التي وجهته، بصورة تجمع بين استحضار الوثائق والشواهد، وتحليل الآراء والوقوف عند أبعادها، بأسلوب علمي رصين.
وتتبعت الدراسة موضوع الحوار في الديانة اليهودية بصورة عامة، فبينت مرتكزاته، وأسلوبه، ومعوقات قيامه، وكيف توجه اليهود إلى الانعزالية، والحذر من الاحتكاك والحوار مع الشعوب الأخرى، رغم ما فرضه عليهم منطق التاريخ من علاقات مع بعض المجتمعات عن طريق المصاهرة والاختلاط، وإن كانت علاقات ظلت دائما محل ريبة وحذر، وموضع تأثيم من قبل التيار العريض من معتنقي اليهودية، بل إن الجدل الذي دار حول ظاهرة الاختلاط، ولو عن طريق المصاهرة، نظرت إليه أسفار العهد القديم باعتباره مهددا لديانة بني إسرائيل التوحيدية، مما
_________
(1) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339
(2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي.(4/61)
دعا بعض أنبياء اليهود، مثل عزرا ونحميا إلى المطالبة بتحريم الزواج من الأجنبيات مطلقا، لئلا يؤثر على نقاء الدم الإسرائيلي. (1)
وخلصت الدراسة إلى أن مجتمعا، كالمجتمع اليهودي والإسرائيلي، لا يمكن أن يقبل بالحوار؛ لاعتقاده الديني بأنه صفوة البشر التي اختارها الإله، وأعطاها العهد، وبشرها بالخلاص، وخصها بالطهارة والفضل، وأن غيره "أغيار أغراب " لا تنبغي مخالطتهم، ولا العيش معهم لتدنيهم ودنسهم؛ الأمر الذي فرض أن يقام الحي اليهودي الخالص (الجيتو) في المدن الأوروبية خلال القرون الوسطى، والذي شجعته الصهيونية في العصر الحديث؛ بل على أساس من فكرته، وتذمرا من واقعه كان البحث عن وطن بديل، وكانت فلسطين أرض الميعاد والخلاص.
وتضيف الدراسة: "أن موقف اليهود من الحوار مع الإسلام كان سلبيا، ومحكوما بنظرة سياسية قوامها إقناع المسلمين بأحقية اليهود في فلسطين، واستصدار فتاوى من أئمة الإسلام تحرم الجهاد ضد المحتلين، وتقرن بين العمليات الاستشهادية من أجل الدفاع عن النفس والأرض بالانتحار، وتصف الفلسطينيين بالإرهابيين (2).
اما الشيخ يوسف القرضاوي فيرى: ان الإسلام يرحب بالحوار دائما ومنهج الدعوة الإسلامية كما شرحه القرآن الكريم" ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" الحكمة والموعظة الحسنة مع الموافقين والجدال مع المخالفين ولكن القرآن قيد هذا في آية أخرى في قوله تعالى "ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" إلا الذين ظلموا منهم الظلمة من أهل الكتاب ليس بيننا وبينهم حوارونحن نرفض الحوار مع حاخامات اليهود الذين يعيشون في إسرائيل ويؤيدون ما تقوم به إسرائيل من مظالم. إنما هناك يهود يعارضون قيام إسرائيل ويرون أن قيام إسرائيل ضد حكم الله هؤلاء نحاورهم نجلس معهم أما هؤلاء الذين يؤيدون البطش والجبروت الإسرائيلي والاستكبار في
_________
(1) الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام - مركز زايد للتنسيق والمتابعة.
(2) الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام - مركز زايد للتنسيق والمتابعة.(4/62)
الأرض وقتل الناس بغير حق هؤلاء لا نضع أيدينا في أيديهم نحن مع الحوار ولكن الحوار لمن يستحق الحوار.
ويضيف الشيخ القرضاوي: ان يهود هذا العصر هم يهود عصر الرسالة يعني من ناحية العقيدة ومن ناحية الشريعة ... ونحن الآن لا نتكلم من حيث عقيدتهم وشريعتهم لكن نتكلم من حيث المظالم التي ارتكبوها هذا هو سبب العداء بيننا وبينهم المعركة بيننا وبين اليهود ليست من أجل العقيدة بعض الناس يمكن ان يظن أننا نحارب اليهود من أجل عقيدتهم هذا خطأ نحن لا نحارب اليهود من أجل عقيدتهم نحارب اليهود من أجل الأرض التي اغتصبوها وشردوا أهلها من أجل أنهم احتلوا الأرض هذا هو سبب المعركة بيننا أما اليهود كيهود ليس بيننا وبينهم معركة (1).
وتخلص دراسة مركز زايد إلى القول: بخصوص الحوار مع اليهودية، فلا بد من التمييز الواضح بين الجانب المتعلق بالمعتقدات و القيم الدينية والجانب المتعلق بالتوظيف السياسي والأيديولوجي لهذه القيم و المعتقدات كما هو شأن الفكر الصهيوني الذي قامت عليه الدولة الإسرائيلية المغتصبة و العدوانية. و لئن كان الإسلام يعترف برسالة موسى و يعظم أنبياء بني إسرائيل، و يقترب من حيث أحكامه و تعاليمه من الشريعة اليهودية، فإن النصوص التلمودية و شروح الهالاخاه المعتمدة لدى المؤسسة الدينية اليهودية لا تزال مشبعة بالكراهية و الحقد على الديانة المسلمة و لا تزال رافضة الإعتراف برسالة الإسلام، و من ثم فإن أي حوار مطلوب بين الإسلام و اليهودية يتطلب أولا تصحيح هذا الخلل الخطير في التعامل مع الديانات الأخرى (2).
ويجب الاشارة هنا إلى ان كثير من المؤرخين يغرق عند مواجهتهم لادعاءات اليهود المعاصرين بحقهم في فلسطين في الانشغال بعلوم الآثار، وذكر الشعوب التي استوطنت أو حكمت أو مرت على فلسطين وكم حكم كل منها هذه الأرض
_________
(1) علاقة المسلمين باليهود - الشيخ يوسف القرضاوي - برامج الشريعة والحياة - تقديم خذيجه بنت قنه - تاريخ النشر: الأربعاء 17 يناير 2007 قناة الجزيرة
(2) الموقف اليهودي والإسرائيلي من الحوار مع المسيحية والإسلام - مركز زايد للتنسيق والمتابعة.(4/63)
ليخرجوا في النهاية بنتيجة مؤداها ضآلة الفترة والمساحة التي حكم فيها اليهود عبر التاريخ مقارنة بالعرب والمسلمين، ورغم أن هذا الجانب مفيد في رد ادعاءات اليهود من النواحي التاريخية والعقلية المنطقية، إلا أن كثيراً من هؤلاء الكتاب والمؤرخين يقعون في خطأين كبيرين حسبما يظهر لنا:
- الأول: اعتبار تراث الأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل أو قادوهم تراثاً خاصاً باليهود فقط، وهذا ما يريده اليهود!!
- الثاني: الإساءة إلى سيرة عدد من أنبياء بني إسرائيل باستخدام الاستدلالات المستندة إلى توراة اليهود المحرفة نفسها، وهم عندما يستخدمونها فإنما يقصدون الإشارة إلى "السلوك المشين" لبني إسرائيل وقادتهم عندما حلوا في فلسطين، ليضعفوا من قيمة دولتهم ويبينوا انحطاط مستواهم الحضاري، ويدخل أصحاب هذا المنهج في الاستدلال بما ذكرته الإسرائيليات من اتهام للأنبياء بالغش والكذب والزنى واغتصاب الحقوق وقتل الأبرياء، في محاولات لإثبات قسوة ومكر ولؤم اليهود وتشويه صورة حكمهم ودولتهم في ذلك الزمان.
يضاف إلى ذلك امر مهم جداً وهو ان بعض الذين تصدوا للبحث في تاريخ بني اسرائيل قد اتوا على كل شئ في تاريخ اليهود نفياً والغاء، .. حيث تعرضت التوراة لنقد قاس من قبل عديد من الباحثين، وقد تراوح هذا النقد من ابداء ملاحظات مهمة حول مصداقية وقائع جاءت في التوراة أو القيمة الحقيقية لبعض الاسفار، إلى النفي الكامل لقدسية التوراة وصدق الديانه اليهودية. وتأتي خطورة الرؤية الاخيرة من انها لا تصطدم مع العقيدة اليهودية وحدها .. اذ ان النفي المطلق لليهودية انما يصطدم تماماً بالمسيحية والإسلام على السواء .. وعلى ذلك فإن نفي التوراة انما يعني ضمناً نفي الانجيل والقرآن معا (1).
وهنا يجب ان ننبه إلى ان القرآن الكريم كفانا مؤونة التعرف على أخلاق اليهود وفسادهم وإفسادهم، غير أن أنبياءهم وصالحيهم أمر آخر، فالأنبياء خير البشر، ولا ينبغي الإساءة إليهم والانجرار خلف الروايات الإسرائيلية المحرفة، التي لا تسيء للأنبياء فقط وإنما لله تبارك وتعالى. لقد حرف اليهود التوراة، وساروا على نهج
_________
(1) ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ص 47(4/64)
التوراة المحرفة في أخلاقهم وفسادهم وإفسادهم محتجين بما نسبوه إلى أنبيائهم كذباً وزوراً، ومن الواجب على المؤرخين وخصوصاً المسلمين ألا يندفعوا في استقرائهم لتاريخ فلسطين إلى اتهام أنبياء الله بما افتراه عليهم اليهود وذلك في سبيل إثبات حق الأقوام الأخرى في فلسطين (1).
ولكن قد يظن بعض المسلمين أنه إعمالاً لقاعدة المعاملة بالمثل، يعامل اليهود في البلاد العربية والاوربية بمثل ما يعاملون به المدنيين في فلسطين وهو القتل ومصادرة الاموال أو سلبها. واعتقد ان هذا تصرف لا يقبله الإسلام "لا تزر وازرة وزر اخرى"، ولكن من المؤسف ان بعض المسلمين اليوم تبنوا عدداً من صفات وخواص معاداة السامية الأوربية بعد أن تأسْلَمَتْ كراهية اليهود هذه، أي اتخذت طابعاً إسلامياً مدعوماً بخليط من نصوص معادية لليهود من المصادر الإسلامية، تلك النصوص التي لم يكن من أهمية لها ولا تأثير لها على معاملة المسلمين لليهود في القرون السابقة. ولكن بعد ظهور الصهيونية واسرائيل كان متوقعاً ان يعتم موقف العداء هذا على أي فهم متوازن لماضي الإسلام الحقيقي ومواقفه وسياسته المتسامحة المتساهلة تجاه اليهود والأقليات غير المسلمة الأخرى. كما ان هنالك عدد من اليهود من البلاد العربية الذين يعيشون الآن في إسرائيل استبدلوا ذاكرة القبول الإسلامي لليهود وفترة الانسجام الكبير في الماضي ببغض ومقت شديد ضد الإسلام في الوقت الحاضر.
ولهذا يجب أن تبذل الجهود في كل أنحاء العالم سواء في الشرق الأوسط أو أوربا أو أميركا من أجل تشجيع فهم أكثر توازناً للعلاقات اليهودية الإسلامية في القرون الوسطى وذلك بدعوة المسلمين واليهود من أجل استكشاف الثقافة المشتركة في الماضي (2). فهل يمكن لمتغيرات سياسية أن تخفف من حدة هذا العداء
_________
(1) تاريخ فلسطين قبل الإسلام -وقفات مع تاريخ صراع الحق والباطل على أرض فلسطين
(2) تعايش الأديان في الماضي: بقلم مارك كوهين، ترجمة كامل الزيادي-. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003 - - موقع قنطره http://www.qantara.de/webcom/show_softlink.php?wc_c=339(4/65)
كالوصول إلى حل سياسي لأزمة الشرق الأوسط، لأن العيش في تسامح محفور في الذاكرة التاريخية (1).
آفاق الحوار الإسلامي مع الديانات التوحيدية في العصر الحاضر (2)
من المؤكد أن الحوار الإسلامي مع الديانات الأخرى اليوم يختلف كليا من حيث الأهداف والآليات عن تجربة الحوار السابقة في العصور الوسطى، لإختلاف السياقات وتغير أنماط التدين وأشكال حضور الدين في المجتمعات المعاصرة بالمقارنة مع المجتمعات الإسلامية والمسيحية الوسيطة التي كانت تنتظم بحسب مقاييس الدين. ومع ذلك فإنه يجب الحفاظ على لب الرؤية الإسلامية المنفتحة والمتسامحة من أجل جدال بالتي هي أحسن مع الحضارتين اليهودية والمسيحية. ويمكن أن نقسم الرهانات المستقبلية لهذا الحوار إلى ثلاثة ملفات حيوية: ملف ديني، و ملف حضاري، و ملف إستراتيجي.
أما الملف الديني فيتعلق بضرورة التغلب على أنماط التشويه و سوء الفهم الموروثة عن حقبة الصراعات الدينية السابقة و الحروب الصليبية. و لا يكون ذلك إلا بتشجيع الدراسات المقارنة بين الديانات الثلاث لتبيان الأوجه المشتركة الكبيرة بينها، و للتدليل على أن الفروق الطفيفة بينها لا تشكل عائقا للتعايش والتفاعل بينها. ففي الساحة الغربية يجب مراجعة الدراسات الإستشراقية المتأثرة بمناخ الحروب الصليبية لتنقيتها من ما خالطها من دس و تشويه لصورة الإسلام و نبيه وقيمه وشعائره، مع الإستفادة من كبار المستشرقين المنصفين الذين أشادوا بروحانية الإسلام وسماحة قيمه وتسامحه. ولا بد هنا من التنويه بالخطوات الإيجابية التي قطعتها الكنيسة الكاتولوكية منذ المجمع الفاتيكاني وصدور وثيقة Nostra
_________
(1) في ظل الصليب والهلال: اليهود في العصور الوسطى- مارك كوهين- مراجعة بيآته هنريشس - ترجمة عبد اللطيف شعيب - دار نشر بيك، ميونيخ مارس/آذار 2005 - حقوق الطبع قنطرة 2005 - الأحد 06 فبراير 2005
(2) المصدر: الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى: الخلفيات و الآفاق - الدكتور عبد الملك منصور حسن المصعبي.(4/66)
Actate عام 1965 التي تبنت الحوار مع المسلمين والإنفتاح عليهم، من منطلق تعزيز المحبة والوحدة بين أتباع الديانات التوحيدية.
فقد نص المجمع الفاتيكاني بوضوح على "ان الكنيسة تنظر بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأوحد، الحي القيوم، الرحيم القدير، خالق السماء والأرض، الذي وجه كلامه إلى البشر، و إنهم يسعون في الخضوع بكل نفوسهم لأحكامه الحقة كما خضع إبراهيم لله، الذي ينتمي إليه الإيمان الإسلامي بطيبة خاطر. و أنهم يجلون يسوع كنبي، و إن لم يعترفوا به كإله، و يكرمون مريم أمه العذراء ... وإذا كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين، فالمجمع المقدس يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي، ويسعوا في تحقيق تفاهم صادق بينهم، ويعملوا معا على صيانة ودعم العدل في المجتمع والقيم الأخلاقية، وأيضا السلم والحرية لجميع البشر" (1).
إن هذه المقاربة الجديدة تفتح الباب واسعا للحوار البناء بين المسلمين الذين لم يكن لهم أصلا مشكل عقدي مع الديانة المسيحية، وإن كان لا بد من التنبيه إلى أن بعض التيارات الأصولية المسيحية المتطرفة لاتزال تتمسك بالصورة المشوهة السابقة، ومن بينها الحركات الصهيونية المسيحية في أمريكا. و قد إستمعنا لبعض رموز وأركان هذا التيار يسب الإسلام و ينعته بالديانة الزائفة الشريرة بعد تفجيرات نيويورك في سبتمبر 2001.
أما بخصوص اليهودية، فلا بد من التمييز الواضح بين الجانب المتعلق بالمعتقدات و القيم الدينية والجانب المتعلق بالتوظيف السياسي والأيديولوجي لهذه القيم والمعتقدات كما هو شأن الفكر الصهيوني الذي قامت عليه الدولة الإسرائيلية المغتصبة والعدوانية. ولئن كان الإسلام يعترف برسالة موسى ويعظم أنبياء بني إسرائيل، ويقترب من حيث أحكامه وتعاليمه من الشريعة اليهودية (في مقابل المسيحية التي لا شرائع لها)، فإن النصوص التلمودية و شروح الهالاخاه المعتمدة لدى المؤسسة الدينية اليهودية لا تزال مشبعة بالكراهية والحقد على الديانتين
_________
(1) حول الحوار الإسلامي - المسيحي راجع: ندوة العيش المشترك في الإسلام و المسيحية - اللجنة الوطنية اللبنانية للتربية و الثقافة و العلوم - بيروت 2002 - راجع على الخصوص بحث د. محمد السماك: في ثقافة الحوار الإسلامي - المسيحي (ص 260 - 266)(4/67)
المسيحية والمسلمة ولا تزال رافضة الإعتراف برسالة الإسلام، ومن ثم فإن أي حوار مطلوب بين الإسلام واليهودية يتطلب أولا تصحيح هذا الخلل الخطير في التعامل مع الديانات الأخرى.
و في الساحة الإسلامية، لا بد من مراجعة بعض الأحكام الفقهية والتأويلات الدينية التي تنظر نظرة مناوئة لأتباع الديانات الأخرى، ومنها أحكام أهل الذمة التي تحتاج إلى اعادة دراسة لتتناسب مع مفهوم دولة المواطنة المدنية الحديثة. وكثيرا ما يفهم من آيات السيف الواردة في سورة براءة أن علاقة الإسلام بأهل الكتاب بعد إنتصار الإسلام أصبحت تقوم على الحرب لفرض الإستسلام والجزية. ولقد فند العلامة رشيد رضا في تفسيره "المنار" هذه الصورة مبينا أن المقصود من الآيات المذكورة وخصوصا الآية 29 " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "هو" أنها تعني قاتلوا الفريق من أهل الكتاب، عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالإعتداء عليكم أو على بلادكم أو إضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم وسلامتكم". ففي القرآن مائة آية موزعة على 48 سورة تأمر بالتعامل الحسن مع أهل الكتاب، في مقابل تلك الآيات التي نزلت في سياق محدود معروف.
فقوانين الشريعة المحكمة والمفصلة تحمي غير المسلمين الذين يعيشون في أقطار إسلامية. ولكن نال من هذا الاتساق بدرجة كبيرة التنافس بين الإسلام والمسيحية على الهيمنة العالمية والذي تمثل في صورة مصغرة في الحروب الصليبية ومنذ وقت قريب تنامى الخلاف بين الإسلام والمسيحية؛ بسبب قيام دولة إسرائيل، ومساعدة الغرب لها مساعدة غير مشروطة، بزعامة الولايات المتحدة (1).
وربما ساهم ذلك في رسم صور نمطية عن الغرب االمسيحي والمسيحية بعيده عن الفهم القرآنى، فلم يعد السيد المسيح حاضرا بأفكاره وروحه السلامية في حياتنا نحن المسلمين حضورا ملائما يكافئ الشخصية وحضورها القرآني.
_________
(1) الإسلام والغرب: تعاون أم صدام - رالف بريبانتي- http://www.science-islam.net/article.php3?id_article=630&lang=ar(4/68)
والمثير أننا عندما نحاول الاقتراب منه فلا يكون إلا من خلال الفروق العقائدية حيث تنتشر أشرطة وكتب تنفي الصلب والتأكيد على أن الله رفعه إليه، وهذه حدود عقائدية لا مجال للتلاعب فيها أو التنازل عنها، أو حتى المحاباة بادعاء أي تقريب. لكن أن نختصر الشأن القرآني في هذه المعاني وننسى أن نقد القرآن لعقائد أهل الكتاب لم ينسحب على الحياة الاجتماعية (أن تبروهم) .. والعلاقات الإنسانية (أليست نفسا) .. بل تساكنوا في حياة تعاقدية أثراها التعدد وحفظها التوحد (ولا يزالون مختلفين) ولذلك خلقهم، وتجسد ذلك في دستور المدينة بين المسلمين واليهود ولولا افسادات اليهود لرأينا تجربة تعددية نادرة وفريدة.
أما الملف الحضاري فيتعلق بعلاقة حوار الديانات بحوار الحضارات الذي هو من الشعارات الأساسية المطروحة اليوم. فمع أن الحضارة الغربية ليست كما هو معروف حضارة يهودية - مسيحية، إلا أنه لا يمكن إنكار أهمية هذا العامل الديني في تشكلها التاريخي - فهي الحضارة التي ورثت الإمبراطوريات المسيحية الوسيطة، وإستوعبت التراث الديني اليهودي والمسيحي في مفاهيمها وقيمها الحضارية والسلوكية. فالمشكل المطروح اليوم هو هل يشترك المسلمون مع اليهود والمسيحيين في القيم والمفاهيم المؤسسة للحضارة الحديثة؟ لقد طرح هذا السؤال بحدة وقوة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ومن أبرز تجلياته الرسالة التي بعثها ستون مثقفا أمريكيا من المحافظين المتدينين إلى مثقفي العالم الإسلامي يطالبنوهم فيها بالإندماج في الثقافة العالمية الحديثة بالإنطلاق من خمسة مبادئ، لا يرون أن الإسلام يقرها وهي:
1 - إن البشر يولدون متساوين في الكرامة كما في الحقوق.
2 - الشخصية الإنسانية هي العنصر الأساسي في المجتمع، وتكمن شرعية دور الحكم في حماية هذه الشخصية، والمساعدة في تأمين فرص التفتح الإنساني لها.
3 - يرغب البشر بطبيعتهم في البحث عن غاية الحياة و مقاصدها.
4 - حرية الضمير والحرية الدينية من الحقوق التي لا يمكن إنتهاكها في الشخصية الإنسانية.(4/69)
5 - القتل بإسم الله مخالف للإيمان بالله وهو يشكل خيانة عظمى لكونية الإيمان الديني (1).
وبطبيعة الأمر، ليس للمسلمين إعتراض على هذه المبادئ الخمسة التي أصّلها الإسلام وشدد عليها منذ أربعة عشر قرنا بتكريسه تكريم الإنسان، وتحريم قتل النفس بغير حق، ورفضه الإكراه في الدين، ومطالبته بالعدل بين الناس .. ومع ذلك، فلا بد للمسلمين من بذل جهد علمي وفكري واسع لتفسير وشرح منطلقاتهم الحضارية، وتنقية دينهم من شوائب التطرف والتشدد التي ليست منه وإنما هي من دس وتشويه مجموعات وحركات الغلو والتنطع.
ولا بد في هذا السياق من التنبيه إلى الأصول الشرقية للديانات السماوية التي نزلت في نفس الأرضية الحضارية والتي أنزل فيها الإسلام، فلا عبرة إذن بالتمييز بين قيم حضارية شرقية وغربية متناوئة، بل يتعين البحث عن جذورهما المشتركة وأنماط التأثر والتأثير الواسعة بينهما ضمن التراث الإنساني الشامل.
فرسالة النبي إبراهيم عليه السلام، ظهرت في بلاد الرافدين وإنتقلت عبر ذريته بين مصر والجزيرة العربية وفلسطين. وكانت لغة السيد المسيح هي الآرامية القريبة من العربية .. وكما إستوعبت الحضارة العربية- الإسلامية التراث اليوناني - الروماني ونقلته إلى الغرب الحديث بعد تطويره فكانت صلة الوصل الضرورية بين هذا التراث والنهضة الأوروبية، فإن الحضارة الإسلامية لا تجد اليوم غضاضة في هضم قيم ومعارف الحضارة الغربية الحديثة التي هي في الحقيقة أول حضارة كونية بالمعنى الصحيح للعبارة لأنها حصيلة إمتزاج مختلف الثقافات والديانات وفي مقدمتها حضارتنا وديننا.
أما الملف الإستراتيجي، فيتعلق بالتصور الشائع في بعض الأوساط الغربية بكون الإسلام هو العدو الإستراتيجي الجديد الذي خلف الخطر الشيوعي، بالإستناد لما نلمسه اليوم من تنامي أنشطة الإرهاب و العنف التي تستهدف البلدان الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. ويبين المفكر والكاتب البريطاني فريد
_________
(1) مجلة الإجتهاد العدد 54 - ربيع 2002 ص 201 - 213 - http://www.mansourdialogue.org/Arabic/lecs%20 (42) .htm(4/70)
هاليداي، ضحالة هذه النظرية التي يسميها بنظرية الفراغ، معتبرا أن ليس من مقارنة بين الخطر الشيوعي والإسلام الذي يجب أن لا يخلط بينه وبين حركات التطرف والإرهاب، منتهيا إلى "أن أساس مقاربتنا لقضية العالم الإسلامي والعلاقات الدولية .. يجب ألا يكون الدين أو النص أو العقيدة، بل النظر إلى الممارسات الفعلية للشعوب والدول وتفحص كيفية إستعمالها للدين، وليس العكس". فالمشكلات الإستراتيجية المعقدة التي يطرحها الإرهاب اليوم لا علاقة لها بالدين الإسلامي، بل هي مشاكل تفسر بأزمة إنتقال النظام الدولي من توازنات الحرب الباردة إلى نمط الأحادية القطبية الذي لم يعزز بعد توازناته. والإرهاب الذي لا دين له ولا حضارة بل هو ظاهرة عرفتها وتعرفها حاليا كل السياقات والمجالات الحضارية، إستهدف العالم الإسلامي أكثر من غيره، ولا بد من تحديد دقيق لمفهومه وطرق التعامل الفعال معه، للتمييز بينه وحق المقاومة المشروعة ضد الإحتلال ضمن ضوابط القانون الدولي. ويمكن للحوار الديني أن يلعب دورا فاعلا في تجنيب العالم مخاطر العنف والإرهاب، من خلال غرس قيم التسامح والسلم، إلا أن هذا الهدف مشروط بعوامل أربعة أساسية يتوجب التنبيه إليها وهي:
- الدفاع عن الشرعية الدولية وفكرة الشراكة بين الأنظمة الإقليمية التي يتكون منها النظام الدولي بما فيها النظام الإقليمي العربي - الإسلامي الواسع والنظام الإقليمي الغربي برافديه الأساسيين الأوروبي والأمريكي.
- السعي المشترك لحل القضايا الشائكة العالقة التي تسمم العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي هي العقدة المستعصية في العلاقة بين المسلمين واليهود.
- عزل ومحاربة حركات الإرهاب والعنف التي ترفع كذبا اللافتة الدينية سواء كانت يهودية كما في صهيونية شارون المتعصبة والتي تدعمها الأحزاب الأصولية الأرتدوكسية-، أو مسيحية أو مسلمة.
- بناء تحالف قوي بين أتباع الديانات الثلاث للتنسيق ضد المخاطر الكبرى التي يواجهها العالم، وأهمها إنتشار أسلحة الدمار الشامل والأسلحة غير التقليدية التي تستأثر بها الدول الصناعية المتقدمة، وإنتشار الجريمة والعنف، وتلوث البيئة، وتفكك الأسرة، وإنفلات التقنيات الجديدة من التوجيه الأخلاقي والتسديد الروحي.(4/71)
حوار الإسلام والغرب
فكرة الحوار بين الإسلام والغرب، أو "حوار الحضارات" تناولها كثيرون من قبل، ومازالت الدعوة اليها تتجدد واللقاءات تعقد بين الحين والآخر لكن ذلك لم يقلل من اهمية الموضوع اذ ان احداث السنة الأولى من الالفية الثالثة، وما تلا تلك الاحداث، بينت للكثيرين ان نمط العلاقات بين عالم الإسلام وعالم الغرب اخذ منحنى جديداً، فالموقف بين الجانبين تجاوز حالة التوثر ودخل مرحلة الحرب الفعلية الشاملة، وهى حرب اعلامية ونفسية وسياسية وقتالية، قام ويقوم بها جانب واحد، بينما غرق الطرف الآخر في ردود الافعال الناتجة عنها. ومع تطور المعركة واختلاط دخانها بدخان الاعلام صار التحرك كله يجرى في ساحة معتمة تسللت وتتسلل اليها قوى جديدة متغايرة الاهداف متعارضة، مما يزيد المسرح حلكه وظلاماً. والايام والسنوات القادمة تبدو حبلى بمزيد من الاخطار التى لا يعلم مداها الا الله. ولذا فإن الحوار صار أكثر ضرورة، ومازال في درجة من الاهمية كبيرة، وان اهميته تستلزم محاولات اخرى جريئة دائبة، لتناوله بأساليب جديدة، ومن خلال رؤى متعددة ومتنوعة (1). فقد بدا واضحا أمام الغالبية العظمى من المهتمين بإنهاء الصراع المحتدم حاليا بين الديانات والحضارات المختلفة، والذي تعددت صوره، ودرجات حدته من التراشق بالاتهامات إلى التراشق بالأسلحة المدمرة دون تحقيق النصر النهائى لأى طرف، أن الطريق الوحيد المتبقى هو التحاور بهدف إيجاد حد أدنى من الأسس المشتركة للتعايش السلمى ونبذ العنف (2).
في اطار هذا الفهم ينطلق د. دكتور عبد الله أبو عزة في كتابه "حوار الإسلام والغرب" من خلال رؤية محورية فحواها ان بين الإسلام والغرب كثيراً من المبادئ والعناصر الثقافية المتماثلة المشتركة، وهى عناصر رئيسية عند الجانبين، مع اقدار من الاختلاف حول بعض الامور المهمة وامور اخرى اقل اهمية. فإذا انضافت إلى ذلك المصالح المشتركة التى يفرضها الوجود المشترك - وهو وجود لا خيار فيه حيث يعيش الجميع فيما سمى "القرية العالمية"، أو في: بيت زجاجى"لا يحتمل العبث-
_________
(1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة ص7
(2) الحوار بين الإسلام والغرب- جريدة الشرق الاوسط- 19 - 9 - 2003 - عدد 9061(4/72)
يغذو مشروع الحوار، أو مشاريع الحوار، قمينه بالاهتمام الجدى من جانب كل الاطراف التى تعيش في هذا البيت الزجاجى- افرادا وجماعات - لمصلحة جميع سكان القرية ولضمان الحد الادنى من امنهم وسلامتهم. ومنهجية المؤلف في هذا المشروع البحثي ترمى إلى رصد هذه العناصر الثقافية المشتركة، ثم تجليتها وابرازها وتأكيد اصالتها عند الجانبين على اساس ان ذلك سيكون قاعدة يمكن الانطلاق منها لتحديد اسباب العداوات، توطئة لازالة الجفاء تدريجياً، ولاغراء مجتمع القرية الصغيرة بالاعتراف بوحدته الانسانية ولتحفيزه لتأكيد هذه الوحدة، والدفاع عنها في واقع الحياة العملية على الصعيدين الدولى والثنائي، وبالحوار الايجابي المثمر البناء (1).
يقول الدكتور كمال أبو المجد: بعيدا عن التعصب والتخويف المتبادل هناك عناصر مشتركة بين الحضارتين الغربية والإسلامية ترشحانهما للتواصل والحوار والتفاهم والتعاون وتبادل الخبرات وتحولان دون الصدام والمواجهة، فلا ننسى ان الحضارة الغربية قامت تاريخيا على ساقين، ساق هيلينية يونانية غير مؤمنة، وساق مسيحية روحية مؤمنة، وبسبب هذه الساق الروحية المؤمنة نبتت في نسق القيم المغذي للحضارة الغربية اوضاع ومقولات وقيم ومبادئ كثيرة الشبه بما يحمله الإسلام للانسانية من قيم في العلاقات، هذا العصر المغذي للحضارة الأوروبية بزاده الروحي والاخلاقي يفتح بابا هائلا للتواصل والحوار والتكامل بين الحضارتين الغربية والإسلامية (2).
من هنا ينطلق د. دكتور عبد الله أبو عزة في كتابه "الحوار بين الإسلام والغرب" مركزاً على محور رئيسي واحد فحواه ان بين عالم الإسلام وعالم الغرب كثيراً من عناق الاتفاق والتشابه، ملخصاً ذلك بالقول: المتفق عليه أكبر بكثير من عناصر الفرقة»، ناهيك على أنه أشمل وأعمق أثراً.، حيث يتناول أبو عزة في كتابه عناصر الاتفاق عبر ألفي سنة من التاريخ ليكشفها في المسيحية قبل ظهور الإسلام بست قرون، مستمرة بعد انبثاق عالم الإسلام، إلى جانب ذلك تناول الاحوال والتيارات العقدية والفكرية في الغرب متتبعاً التغيرات المهمة في منظور الحركات
_________
(1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة ص8 - دار المأون للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى
(2) الحوار بين الإسلام والغرب- جريدة الشرق الاوسط- 19 - 9 - 2003 - عدد 9061(4/73)
الكبيرة والصغيرة بدءاً من انقسامات وصراعات القرن الرابع الميلادي، مروراً بحقبة سيطرة روما وبابويتها وعصر الاصلاح الديني البروتستنتي وانبعاث الفكر التوحيدي وتأسيس العلمانية السياسية ثم الاجتماعية وظهور التيارات المناوئة للكنيسة والدين كله وتتبع مسيرة البحث العلمي الذي عاد ينشد الحقيقة الأولى وصولاً إلى البحث العلمي في الالفية الثالثة (1).
وفي نفس الاطار حاول جارودي ان يلخص جذور هذه العلاقة بين الغرب والشرق حتى قبل الإسلام بوقت طويل حيث يقول: ان اتصال الاوربيين بالشرق العربي وارتباطهم به هو موقف ثابت في تاريخ اوروبا (ما عدا الحملات الصليبية وحركة الاستعمار وصنيعته الصهيونية) .. وهذا الموقف لا يعود إلى الموقع الجغرافي للشرق فحسب بل لان الغرب يستمد جذوره الروحية من الشرق. فالفلسفات التي سبقت سقراط قد نمت وتطورت في اسيا الصغرى حيث ولد تاليس وبارمينيد وزينون وهيرقليط وغيرهم. أما الانحسار فكان بسبب الحروب الميدية .. ثم راحت آسيا تمد ثانية العالم الهلنستي ليعطي ما اعطى من ديانات خلاصية بينما كانت افريقية ومصر على وجه الخصوص توحيان إلى فيثاغورس وافلاطون ما توحيان، اما الاسكندر في عبوره إلى الهند فقد تابع حلمه بأن يربط الهلنستية بحضارة آسيا. وحينما كان العالم الهلنستي يحتضر في قوقعة (المدنية) الآيله إلى الانهيار حاول الاسكندر ان يبدع عالماً جديداً .. وهكذا تلاقت - في اثناء عبوره الهند - فلسفة اليونان بحكمة الهند بينما راحت الاسكندرية في افريقية تتحول إلى اكبر مركز للاشعاع الروحي في كل منطقة البحر المتوسط على مفترق الطرق فيما بين آسيا وافريقية واوروبا المتوسطية.
وانطلاقاً من القدس في فلسطين وانطاكية في سورية والاسكندرية في مصر راحت تنتشر صوب الغرب الموجات المسيحية الأولى محملة برسالة عالمية شاملة. وفي الشرق الادنى انطلق (آباء الكنيسة) من كابادوقية (في تركيا اليوم) ومن انطاكية يبشرون بالعقيدة الجديدة كما بشر آباء الكنيسة من الاسكندرية (في مصر
_________
(1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة - جريدة اللواء الاثنين 1 ايار 2006 العدد رقم: 1704(4/74)
اليوم) ومن قرطاجه (في تونس اليوم) حيث عاش القديس أوغسطين. وبعد ذلك قام شارلمان عام 797 وقبل ان يصبح امبراطور الغرب بالتحالف مع خليفة المسلمين هارون الرشيد، كما عقد فرانسوا الأول عام 1553 حلفه مع سليمان القانوني سلطان الامبراطورية العثمانية. ثم جاءت الفصول المرة التي مثلها الصليبيون والاستعماريون والصهاينة بمزاعمهم في التفوق وممارساتهم الدموية ... لتكون نقيضاً لتلك التقاليد العريقة التي عملت على التبادل المثمر فيما بين الشرق والغرب ... كان ذلك كله نقيضاً للمصالح الاقتصادية والسياسية والروحية لاوروبا (1).
تشابك المصالح
ان تشابك المصالح المشتركة التى يفرضها الوجود المشترك بين الغرب والعالم الإسلامي في عصرنا الحاضر ادى إلى فتح آفاق جديدة للحوار بين الغرب والعالم الإسلامي، فعلى الصعيد الاقتصادي تعتمد اوروبا اليوم في نصف ما تحتاجه من النفط على الشرق الاوسط وتستورد 70% مما تحتاجه من العالم العرب .. وكذلك تحتاج فرنسا إلى النسبة نفسها من غاز الجزائر. ان حجم علاقة فرنسا التجارية بالجزائر وحدها يفوق اربعة اضعاف حجم علاقتها التجارية باسرائيل. وقل الشئ نفسه عن اوروبا كلها، فنصف صادرات الدول العربية تتجه صوب اوروبا التي تصدر إلى العالم العربي 12% من صادراتها اى ما يعادل صادراتها إلى الولايات المتحدة. ان الدول العربية سواء كانت مصدرة أو مستوردة هي افضل شريك تجاري لاوروبا. نعم يمكن لهذه العلاقات الاقتصادية القائمة اليوم ان تتسع وتزدهر وتصبح اشد التحاماً بين اوروبا والعالم العربي وبلدان العالم الثالث غير المنحازة (2). ولكن لابد من ضبط هذه العلاقة على اسس سليمة قائمة على العدل والاحترام المتبادل.
فنحن لا ننكر أن للغرب مصالح في بلاد المسلمين، كما أن للمسلمين كذلك مصالح في بلاد الغرب، تماماً كما أن لكل شعب مصالح لدى الشعوب الأخرى، فالناس في النهاية جنس بشري واحد، يعيشون على أرض واحدة، هم جميعاً عباد الله،
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص350
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص 351(4/75)
والأرض كلها أرض الله. لكن أن تكون هذه المصالح وحيدة الجانب، أي مجرد مطامع للغرب في بلاد المسلمين، لا يهمه سوى كيف يستخلصها منهم فهذا هو ما يرفضه الإسلام ويرفضه المسلمون، بل ويرفضه كل إنسان سوي. المسلمون ليسوا مجرد أرض تنهب، ثم ترش بالماء لتخصب، فتنهب من جديد، وليسوا بقرة تعلف لتحلب. المسلمون بشر كما الغربيون بشر! لهم مثلهم حق الحياة، وحق الكرامة، وحق السيادة على أنفسهم وأرضهم. المسلمون قوم ككل الأقوام، لهم شخصيتهم المتميزة، وحقوقهم المستقرة، وهويتهم الواضحة، وحضارتهم المتفردة، ولهم في بلاد الغرب مصالح، كما للغربيين في بلادهم مصالح، ولهم في بلاد الشرق مصالح، كما للشرقيين في بلادهم مصالح، تستخرج ويتم تبادلها بالتعاون والوفاق، لا بالقهر والإلزام.
فإذا أقر الغرب بتبادل المنافع والمصالح، وتلاقح الأفكار والرؤى، وتمازج الثقافات وتعاون الحضارات، فلا يبقى ثمة للغرب أي مبرر للخوف على مصالحه. والقلق على مستقبل علاقاته مع المسلمين، في ظل حكم الإسلام، لأن الإسلام يقوم على السلام والتعاون، والعلاقات الدولية السليمة، ويؤكد على الالتزام بالعقود والوفاء بالعهود، واحترام المواثيق والمعاهدات، وان رجال الإسلام، هم في الحقيقة والواقع خير من يمثل هذه المبادئ والقيم الإسلامية، ويفي بالعهود والمواثيق، وهم بريئون كل البرائة من تهم الجمود والتحجر والعنف والإرهاب والتطرف وما إلى ذلك من هذه النعوت الظالمة، التي لا تمت إلى الواقع بصلة.
أما إذا أنكر الغرب هذا المبدأ، كما يفعل اليوم، ولم يهتم الا بمصالحه فقط، وراح يغلفها بالديمقراطية والحرية والنظام الدولي الجديد، والعولمة وسوى ذلك مما يتوسل به الغرب لتحقيق مطامحه ومطامعه الخاصة، والوصول إلى التسلط على المسلمين والسيطرة على بلادهم ومقدراتهم، ونهب ثرواتهم، وشل أراداتهم، - كما هو حاله اليوم - وجرّد إعلامه، وسلاحه الثقافي والتقني، وجرّ أساطيله الاقتصادية والسياسية والعسكرية لحرب المسلمين، ومسخ هويتهم ومحق شخصيتهم - كما فعل دائماً ولا يزال يفعل اليوم - فان تخوفه حينئذ سيكون مبرراً، وإن قلقه سيكون في محله لأنه لن يجد المسلمين مطواعين لرغباته وممارساته تلك، ولن يكون الغرب الا خاسراً في معركته تلك، إن آجلاً أو عاجلاً، وحينئذ لن تكون نتيجة العدوان(4/76)
الغربي أن يخسر الغرب مصالحه في بلاد المسلمين فقط، بل ربما اكثر من ذلك بكثير (1).
لقد شهد المسلون كيف أن الغرب يمارس نفاقه عن طريق دعوته للديمقراطية بينما هو يقوم بخلق ومساندة أقسي وأعنف الأنظمة الديكتاتورية في العالم في بلدانهم! وشهدوا أيضاً لهاث أوروبا وراء سوق مشتركة أدت إلي وحدة باسم الاتحاد الأوروبي بين دول تتكلم بلغات مختلفة وتعتنق معتقدات مختلفة وتتفاوت في تاريخها وثقافاتها. وفي حين خاضت معظم تلك الدول الأوروبية أسوأ الحروب العالمية فإن وحدتها من جديد كانت أمراً رغب به الغرب فتم ذلك. لكن الغرب لا يسمح باتحاد أو توحد العالم العربي أو المسلمين، ولا حتي بالقيام بأبسط التسويات أو التعديلات بين حدود دول العالم العربي الصغيرة ودويلاته التي رسم الغرب خارطتها بعد الحرب العالمية الأولي. لقد شاهد المسلمون بأم أعينهم كيف تتفاوت الثروة في مجتمعاتهم أكثر فأكثر، وأن مصادرهم الطبيعية وعائداتها تنتقل إلي أيدي القلة المتنفذة من أبناء جلدتهم والتي تسلمها بدورها إلي القلة الغربية علي هيئة ودائع يمكن أن تتعرض إلي التآكل أو التجميد أو، في أفضل الأحوال، إلي استثمارات تفضي إلي ثراء الآخرين بينما دولهم تصرخ بأعلي صوتها طلبا للاستثمارات والمشاريع (2).
وفي ختام كتابه "الإسلام والغرب" يقول د. عبد الله ابو عزه: وما اود ان اقوله عن غذنا المشترك، فهو التذكير بأننا - عالم الإسلام وعالم الغرب- نعيش في بيت زجاجي، هذا الكوكب الصغير الذي يسمى بـ كرة الارض، والذي لم يعد يتحمل اى عبث. ان الاستناد إلى القوة والقهر في التعامل بين الشعوب لن يؤدى الا إلى خراب ودمار يصيب جميع السكان (3). ومن هنا فإن الحاجة تتصاعد إلى طرح نموذج اسلام اوربي ليس لقدم المسلمين وتزايدهم المطرد في هذه القارة وحسب، بل لضرورات تتصل بالقضايا الكبرى التي تهم البقاء الانساني في هذه الأيام، فهناك دعوة جادة لتعميق الحوار بين الأديان، فعلى حد تعبير العلامة هانس كنغ في كتابه القيم
_________
(1) الإسلام .. والغرب .. وإمكانية الحوار -ابراهيم محمد جواد
(2) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003
(3) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة- ص287 - دار المأمون للنشر والتوزيع في عمان.(4/77)
"مشروع لأخلاق عالمية: "لا سلام عالمياً بل سلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان بلا حوار بين الأديان، ولا حوار بين الأديان بلا دراسات جادة وأبحاث موضوعية. فهناك رغبة عالمية صادقة وملحة لصياغة انسان جديد يؤمن بالتنوع الثقافي ويدعو إلى الموازنة بين الروح والمادة، لمواجهة أمراض التكنولوجيا، وفي مقدمتها الغاء الهوية، وتفتيت وحدة الكيان الانساني، وتمزيق الطبيعة وتعميق الفروق الطبقية بين الناس والشعوب والأوطان". وتتأكد هذه الحاجة مع تعالي الصيحات التي تدعو إلى توكيد بل إلى تأسيس ثقافة التسامح التي تتوقف بدورها على الاعتراف بثقافة الآخر (1).
الحوار بين الديانات والحضارات لماذا؟
يشهد العالم الحديث في ظل الموجة الثالثة أو "عهد القطيع والقبيل الإلكتروني" بلغة "فريدمان" تحولات غير مسبوقة تنذر بإحداث تأثير كبير في منظومات القيم والعلاقات والثقافات .. وعلى الرغم من التطور المذهل الذي يشهده قطاع الاتصالات فقد لاحظ الباحثون بمرارة أنه كلما زادت وسائل الاتصالات كلما قل التواصل! وكلما زادت الآليات الكفيلة بتقريب المتباعدين كلما تقوقع أبناء الحضارة على أنفسهم، وباتوا أقل إحساسا لحرارة مشاعر ومشاغل الغير، وأكثر اعتدادا واعتزازا بذواتهم وبشكل دوغمائي. وتبدو الصورة التي يمكن تقديمها لعالم اليوم متنافرة في جزئياتها، بل ومتعارضة في بعض منها! ففي الوجه الأول نعيش في عالم متلاحم متشابك المصالح والوسائل والغايات، بشكل جعل الكثيرين ينأون بأنفسهم عن الارتباط بكيانات قطرية ضيقة، وينعون الدولة الوطنية التي باتت في منظور الاجتماعيين كبيرة جدا عند مواجهة المشاكل الصغرى، وصغيرة جدا حين مواجهة المشاكل الكبرى! وفي الجانب الآخر من الصورة شهد تزايدا مقرفا لتيارات العنف والكراهية وتناميا متسارعا للأقليات الفكرية والطائفية وتفتيتا للأغلبية إلى
_________
(1) الاقليات المسلمة في الغرب من العزلة إلى الاندماج الفاعل - غالب حسن الشابندر- المصدر: التوحيد/107/ 2001 م(4/78)
مجموعات فسيفسائية ولوبيات متناحرة، فضلا عن تسارع وتيرة نمو قوى العنف والتدمير التي تهدد مصير البشرية (1).
فها نحن نرى كيف ان العولمة الأميركية تأخذ أشكالاً متقدمة ولاسيما على الصعيدين السياسي والعسكري, إذ أصبح من الواضح أن أميركا تريد فرض عولمتها على العالم ولو بقوة السلاح, مما جعل الجميع يشعر بأن الهيمنة والظلم والاجرام والوحشية الأمريكية هى كابوس نتطلع إلى يوم الخلاص من وطأته والانعتاق من أسره في يوم من الايام ومن هنا يبدو حوار الحضارات بديلاً مهماً لهذه العولمة البشعة التي تريد أن تصبغ العالم بلون واحد، وهذا ما دعا كثير من المفكرين، إلى الدعوة إلى وجوب ترسيخ مبدأ حوار الحضارات والأديان، على اسس الايمان بوحدة النسيج الانساني، وتكامله في مواجهة من يعتقد بمبدأ التسلط الثقافي والفكري لدرجة نفي الاخرين وتهميش وجودهم.
لقد حان الوقت للحوار بين الثقافات، لو أراد الإنسان أن يعبر دون أن يموت، العتبة الثالثة من تاريخه ... العتبة الأولى كانت ولادة الإنسان وإرادته الأوليه التي ساعدته على مواجهة الحياة ... الثانية كانت ولادة الحضارة مع الزراعه ... الثالثة تتلاعب بالنواة والذره وقلب المادة ومن سماتها هذا التلاعب في الجينات الذي هو قلب الحياة. فقد اصبح الآن للانسان القدرة على إلغاء كل إنجازاته ومكاسبه السابقه، وله أيضا القدرة التكنيكية عبر سيطرته على الذرة أن ينهي أي اثر للحياة على الارض. لقد قادت أحلام احتواء الطبيعة لديكارت وفاوست إلى انهيار العالم وإهدار غالبية الطاقات الطبيعية، وقادت نظريات وعقائد آدم سميث إلى تحويل الإنسان إلى رجل آلى خاو يتلاعب بالعقول والقلوب، هذا بالرغم من ان هناك حضارات أخرى تلك التي في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا والإسلام، عاشت على أسس علاقات أخرى مع الطبيعة والإنسان والله - (الإلهي) فالمشكلات المطروحة في إطار كوكبي تتطلب إجابة في إطار كوكبي (2).
_________
(1) حوار الحضارات والثقافات: رؤية في حوار الحضارات وصراع الأمم- بقلم الحسين ولد مدو.
(2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص 143(4/79)
وفي اعتقادنا وتقديرنا ان الحوار والالتقاء بين كل من آمن بالله واليوم الآخر سوف يؤدي- بكل تأكيد- إلى ان يصبح الايمان اكثر عمقاً واقوى ازدهاراً واكثر كثافة وضياء، سواء بين الناس والشعوب والامم من جهة، أو بين الدول والمؤسسات العامة والخاصة، الحكومية وغير الحكومية من جهة اخرى. وغني عن القول - وكلنا يعرف تماماً تلك الحقيقة المرة- انه، وحتى يومنا هذا، لا يزال اكثر من نصف سكان الارض، لا يعرفون من هو اله ابراهيم ولا يؤمنون بالاله الكائن الاعلى، الخالق، الديان. ومن ما لا شك فيه ان اي اسهام في عملية التغذية وحركة الدعم لتيار الفهم والتفهم بين سائر المؤمنين بالله الكائن الخالق، الديان، يعتبر عملاً ايجابياً خيراً، وجهداً بناءً مباركاً. فالمؤمنين، كل المؤمنين، اكانوا يهوداً ام مسيحيين أو مسلمين، عليهم ان يبذلوا جملة من المساعي والاهتمامات في سبيل الوصول إلى احياء تلك "الورشة القديمة- الحديثة" وتنشيطها. ورشة المشاركة والحوار بين كل مؤمن ومؤمن آخر من هؤلاء الذين اهتدوا إلى وجود الصانع الازلي. وهذا الاسهام المطلوب والمسعى المرجو اللذين نتحدث عنهما، لا بد لهما، مهما كان حجمها محدوداً، ورقعة اتساعها ضيقة، من ان يأتيا- إذا ما قاما على المثابرة وطول الاناة- بثمار يانعة ناضجة خيرة (1).
ان حقيقة ما نواجهه ليس صراع حضارات، بل هو صراع بين الحضارة الانسانية، والهجمة الدونية التى اختارت المال والذهب كرب خاص لها، وجعلت منه عصب الحياه في هذا الزمان اللانسانى (2). ولهذا لن تحل المشكلات التي تواجه البشرية الآن إلا إذا توجهنا وتوصلنا إلى إعادة تكوين النسيج الإنساني المخرب والمدمر بأربعة قرون من الاستعمار والهيمنة الغربية ولن نحلها إلا إذا توجهنا لتطوير حوار حقيقي للحضارات بين كل ثقافات العالم. ان النقطة الرئيسيه في الحضارة الغربية وعلى رأسها الأمريكية هي افتقادها لاي روح، فليس لديها أي مشروع جماعي من اجل مستقبل الانسان، اللهم الا تطوير انتاجها واستهلاكها اعتمادا على
_________
(1) محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام - غسان سليم سالم- ص 6 - دار الطليعة -بيروت - ط1 2004
(2) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص227(4/80)
التفوق في السلاح وهذا ما جاهد هنتنجتون في اخفائه، بزغم المواجهة بين الحضارة اليهوديه المسيحيه والحلف الإسلامي الكونفوشيوسي (1).
إن الحوار الذي نريده بين الحضارات، حوار يحول دون استمرار الحضارات في النظر إلى بعضها البعض من خلال مرآة مكسورة ... حوار يقوم على الإيمان بوحدة الأصل البشري وعلى مبدأ التعارف والتسامح الثقافي في مواجهة العنصرية ونفي الآخرين ... حوار يؤكد المشترك الإيجابي بين الحضارات، ويقر بأنه لا وجود "لحضارات زائفة" ويزيل ويمحو ذهنية المحاصر في عقل بعض الحضارات. والحوار لا بد أن ينطلق من استعداد كل حضارة لفهم الأخرى، وتجنب إصدار أحكام مسبقة عليها، والاتفاق على إعادة صياغة صورة الآخر في إطار من التسامح، والرغبة المشتركة في بلورة قيم إنسانية، لإحداث التفاعل الحضاري، وقد تساعد في ذلك معطيات المجتمع العالمي الجديد القائم على إنتاج المعلومات وتداولها بشكل سريع وميسور وواسع يتجاوز الحدود الجغرافية للحضارات وللثقافات (2).
ففي غياب الحوار المطلوب بين مكونات المجتمع الدولي الواحد يخشى أن تتوزع شعوب المعمورة إلى فئتين: فئة تمارس عبادة الذات، وأخرى تمتهن حرفة (نفي الآخر) ... والمفارق أن هذه القطيعة المترتبة على غياب الحوار تأتي في وقت تتناسل فيه التشريعات النبيلة الداعية إلى مزيد من الإنصاف والعدل والتسامح، وفي وقت تتزايد فيه أعداد دعاة الرفق بالإنسان والحيوان، وتتأكد الحاجة إلى الحوار في عالم يدفع خمسة ملايين من أبنائه قربانا لآلهة الحرب كل عقد من الزمن ويعيش أكثر من خمسه الفقر والمعاناة، ويعاني في مجموعه من (شيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات)، عالم سكانه مهووسون بصناعة الأنماط المقولبة في حق الغير، ومسكونون بالتنابز بالألقاب، تسوده الديمقراطية وتتأصل منه الدكتاتورية، يمجد التعددية على المستوى القطري ويكفر بها على المستوى العالمي ... تدعو تعاليمه ومواثيقه إلى المساواة والعدل والإنصاف والتسامح، بينما
_________
(1) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص 30
(2) حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن- جريدة الخليخ(4/81)
يشكو سكانه الغبن والقهر والاغتراب والاستلاب والقلق والغثيان وكل مفردات الفلسفة الوجودية (1).
فالهدف الرئيسي من حوار الحضارات هو مساعدة الاخرين ليس فقط عبر متخصصين أو بعض الفلاسفة ولكن بالجموع الشعبية العريضة- من هنا فان المشكلات العالمية المطروحة اليوم وان كان أهمها قد ولد بسبب هيمنة خاصه وطويلة للغرب لا يمكن حلها إلا عن طريق حوار مع الحضارات غير الغربية، من اجل تخيل وتصور وتعايش علاقات جديده بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان، وبين الانسان والمقدس. هكذا فقط يمكن أن نفتح أفق ثقافه كوكبيه مرسخه عبر اتحاد حقيقي للانسانيه لا عن طريق تركيبة تلفيقية ولكن مبنية على مفهوم مغاير لفكر الهيمنة بحيث تكون تركيبة سيمفونيه تعزفها الثقافات المختلفة. والطريق مفتوح أمام الشعوب التي خضعت كليا للغرب لكي تنجو من تنميه فرضها الاستعمار وكانت تنميه اجنبيه غريبة عن الثقافة الاصليه لتلك الشعوب. ولا يعني ذلك أبدا أن ننكر مساهمة الغرب بل يعني أن نعطي الغرب مكانة كاملة وليس اكثر من مكانه وخاصة في تنسيق قوى العلم والتكنولوجيا مع اهداف انسانيه حقيقيه. وبهذه الطريقة وحدها يمكن استكمال الملحمة الانسانيه على ظهر هذا الكوكب. ولقد كتب رائد فضاء حط قدميه على سطح القمر، عند عودته. "بدت الأرض من هنا رائعة الجمال مضيئة وبدت موحدة يسودها السلام وكانت هذه أول مرة ترمق فيها عين بشريه الأرض بنظرة شاملة وفي فضاء لا يحده الأفق. فهل سنصل إلى إدراك هذه الصورة ونتمسك بها في المستقبل؟ " (2).
بالطبع يمكن تحقيق هذه الصوره من خلال حوار جاد بين الحضارات والثقافات يقوده مثقفين منفتحيين يؤمنون بذلك الحوار، حيث ستكون المهمة الأولى للمثقفين هي كشف الاكاذيب التي تسود المراجع المدرسية ووسائل الإعلام وهما اللذان يخدمان الغرب للإبقاء على هيمنته بأيديولوجيات مغالطة عن حداثته، وليس ثمة افتراض واحد عن تلك الحداثة المزعومة لا يعد افتراء وكذبا (3). فبنسيانهم لما
_________
(1) حوار الحضارات والثقافات: رؤية في حوار الحضارات وصراع الأمم- بقلم الحسين ولد مدو.
(2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص144 - 145
(3) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى - 146(4/82)
استعاروه من آسيا (ومن إفريقيا فيما بعد ومن باقي العالم عبر الاسكندريه) كانوا يعدون كل ما لا ينتمي للعالم الإغريقي وكل من لا يتكلم لغتهم برابرة، خالقين بذلك من هذه العزلة الاصطناعية الهائلة أسطورة المعجزة اليونانية (1).
ولكن الاتجاه إلى الاعتقاد بأن التاريخ يبدأ (بنا)، وبان الماضي لا يمكن ادراكه الا على أنه تحضير وانتظار لما سيحدث (لنا) ... لم يكن وفقاً على المسيحية وحدها، وذلك من سوء الطالع. نعم إن مثل هذا المفهوم للتاريخ المكتوب على انه تبشير بمستقبل جاهز منجز، يتيح لكل طرف أن يعد نفسه خاتمه للملحمة الإنسانية وغاية التاريخ وحدثاً فريداً ووحياً لا يأتيه الباطل. وبهذا المنظور يصبح كل (ماض) حدثاً عفى عليه الزمن ويكون كل ابداع جديد انحطاطاً ومروقاً!
ان العبريين وقد ادعوا لانفسهم الامتياز بالوعد وبانهم شعب الله المختار، واليونان باحتقارهم المتعالي (للبرابره) أى لكل ماليس يونانياً، والرومان بما لديهم من (عقدة) التفوق والامتياز ثم الكنيسة التي خلفتهم مدعية العالمية (الكاثوليكية)، وأولئك المسلمين الذين انغلقوا على خصوصيتهم ففسروا الآيه القرآنية ( .. خير أمة أخرجت للناس) لا على أنها دعوة والتزام بل على أنها امتياز مكتسب، وذلك بروح من الاكتفاء المتعجرف ... إن هؤلاء وأولئك كانوا يعدون أنفسهم محور العالم شأنهم شأن أباطرة الصين القديمة (2).
ان الحوار الجاد بين الحضارات يعني أيضا وقف عمليات الاستيعاب والاستلحاق بين الحضارات، ويهدف إلى "عقلنة" سلوك الدول داخل هذه الحضارات، ومنع أو عرقلة استخدام الدول "القوة" لأغراض الهيمنة. وفي الوقت نفسه فإن الحوار بين الحضارات يسهم في تثبيت السمة الرئيسية للثقافات الإنسانية وهي استجابتها للتطور والاغتناء بالتفاعل فيما بينها، كما يسهم الحوار في "عقلنة" النزاعات التي قد تنشأ أثناء تثبيت الهويات الثقافية لهذه الحضارات، أو التي تتوالد في ظروف الأزمات الاقتصادية، نتيجة حدوث احتكاكات بين أبناء الحضارات المختلفة خلال موجات
_________
(1) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص56
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص140 - 141(4/83)
الهجرات السكانية عبر حدود دوائر هذه الحضارات أو تلك النزاعات التي قد تسببها هجرات غير شرعية، وتغذيها فروق ومشكلات سياسية وعقيدية وتاريخية.
إن من فوائد الحوار وغاياته أبطال المناخات المفعمة بالمخاوف ومشاعر العنصرية والكراهية، وتوفير المناخ الملائم لتبادل الوافد النافع من الثقافة والعلم والخبرة. إن الحوار بين الحضارة يعني أن تتبادل العلوم والمخترعات، وليس مجرد الثقافة والإعلام والآداب والفنون، وإلا كان التبادل تبادلا محدودا، ويفتح المجال للهيمنة الثقافية واحتلال العقل ومسخ الثقافات الأخرى. إن الحوار لا يعني نسيان أو تجاهل التميز بين الحضارات، لكن العزلة عن التأثيرات الحضارية الأخرى أمر صعب مثله مثل التبعية أو الذوبان. وهكذا فإن الدعوة للحوار، هي دعوة للتسامح والتعايش مع الآخرين، وإنكار لنزعات التفوق والسيطرة، وهي نظرة لقضايا المستقبل، وتعبير عن إرادة الحضارات المعاصرة لمعالجة هذه القضايا، وعن قناعتها بضرورة التعاون للنجاح في ذلك (1). فالحوار يقتضي سلفا تعددية الفاعل وخلافية القضية، والتساوي بين المباشرين لهذا الفعل النبيل، وهو عملية تتيح للمشارك فيها التحول إلى فاعل ومفعول معه بدل مفعول فيه بلغة النحاة. فالحوار على حد تعبير أدغارموران يقتضي المساواة، فلا حوار بين العبد والسيد، ويمكن كل فرد من عرض وجهة نظره وبراهينه، إنه استعداد للاستماع للآخر وإقرار بكونه يستحق أن ينصت إليه إذا تحدث، وأن يتحدث إذا أراد .. وبديهي كذلك أن لا حوار إلا في القضايا المعلقة التي لا تحظى بدرجة الإجماع، كما أن التعددية في الحوار شرط لقيامه وإلا لتحول من Dialogue إلى مونولوج Monologue حديث المرء إلى نفسه!
يقول المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في مقدمة الترجمة العربية لكتابه الشهير (الثقافة والإمبريالية): إن فكرة التعددية الثقافية لا تؤدي بالضرورة إلى الهيمنة والعداوة, بل تؤدي إلى المشاركة, وتجاوز الحدود, وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة، وهذا يعني إن حوار الحضارات والثقافات ينبغى أن يعزز التسامح والتفاهم ويعمل على إشراك الآخر، واستكشاف القيم المتبادلة عن الثقافة الأخرى للمساهمة في إزالة الكليشيهات والصور النمطية .. هذا مع ضرورة طرح
_________
(1) حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن(4/84)
القضايا الجدية للنقاش والابتعاد عن الوعظ والتصريحات المغلفة بالنوايا الحسنة (1). وفي اعتقادنا أن بإمكان المفكر المسلم المساهمة الإيجابية في مد جسور من ذلك "التعارف" الإنساني انطلاقا من قيمه الاجتماعية والدينية التي تناديه دوما أنه "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين" (2).
وبموجب هذه الآية فإن الكف عن العدوان العقدي وعن العدوان السياسي، خاصة في أجلى مظاهره وهو الاستعمار والطرد من الأرض، إن الكف عن ذلك كفيل بإقامة جسور من الحوار المتكافئ بقصد التفاهم، وجسور من التسامح والتعايش بقصد التساكن "والتبشير" بغد أفضل وبتاريخ مفتوح، لا بحرب آخر الزمان! ولا ريب أن المفكر المسلم المعاصر يتحمل مسؤولية إعادة بناء هذه المفاهيم والقيم الإيجابية في ثقافته الإسلامية خدمة للحضارة الإنسانية جمعاء، بعيدا عن الأهداف الإيديولوجية والتوظيفات السياسوية والتسيب الفكري الذي قد يطال تلك المفاهيم (3). ولهذا يتوجب على علماء الدين المسلمون بذل ما هو أكثر من المجهودات الشفهية في سبيل خدمة حوار الأديان والحضارات .. ويكمن عملهم الفعلي في تأسيس نظام قيمي جديد لدى مريديهم، ينظر لاختلاف الأديان على أنه حق شخصي ومنبع للغنى الثقافي، وليس موضوع نزاع أو عداء. عليهم أن يقبلوا ويعلموا أتباعهم قبول أن للحقيقة الإلهية تأويلات مختلفة وأن ينظروا لهذه التأويلات من حيث تكاملها بدلا من النظر إليها على أنها تلغي بعضها بعضاً. إن من الضرورات اليوم أن يبذل الجهد لتحقيق مبدأ الحوار مع الآخر وفق عقد اجتماعي يحترم الحريات ويصون الحقوق ويؤمن الإنسان من الخوف (4).
لقد آن الأوان لاعادة النظر في العديد من المسلمات الراسخة في اذهاننا عن صورة الآخر، كما أن على الغرب بخاصة ان يقدم صورة موضوعية ونزيهه عن العرب
_________
(1) حوار الحضارات والثقافات: رؤية في حوار الحضارات وصراع الأمم- بقلم الحسين ولد مدو.
(2) - قرآن، سورة الممتحنة، آية 8.
(3) - أية قيم دينية لحضارة إنسانية؟ - د. عبد المجيد الصغيّر- مؤتمر الدوحة الخامس لحوار الأديان 7 - 9 مايو 2006
(4) المسيحيون العرب كمثال- هلال خاشان- http://arabic.tharwaproject.com/node/8(4/85)
والمسلمين. ان الغرب ليس كيانا واحداً بل يمتاز بالتنوع والاختلاف، كما أن المجتمعات العربية والإسلامية تعيش في ظل التنوع الثقافي والديني والاجتماعي. واذا كان صحيحا ان الغرب اخترع وصنع الصورة التى يريدها عن المسلمين والعرب، فإن المسلمين ايضا صنعوا صورتهم عن الغرب، فلا العالم الإسلامي يظهر على حقيقته ولا الغرب يظهر على حقيقته. واذا كنا ننتقد تشويه الغرب صورة المسلمين والعرب، الا اننا لا ننتبه إلى ان صورة الغرب ليست أقل تشويها (1) ..
ان الحل الوحيد الممكن لجوع البعض وبطالة البعض الآخر وهجرة الجياع في بحثهم الوهمي عن العمل، هو تغيير جذري لعلاقة الغرب مع العالم الثالث، مع وضع نهاية لسيادة الغرب ولتبعية الجنوب لان التبعية هي التي تنتج التخلف، نحن نعيش عالما مشطورا بين الشمال والجنوب، وفي الشمال كما في الجنوب، بين من يملكون ومن لا يملكون شيئا: ال 20% الأكثر ثراء على الكوكب يحوزون 83% من الداخل العالمي، وال 20 % الأكثر فقرا يحوزون 1.4 %. وحيث إن الاستعمار خلال خمسة قرون ونظام بريتون وودز خلال نصف قرن قد خلقا عدم المساواة هذا بين الشعوب، فان التبادل الحر يعمل على تفاقم السيطرة والتبعيه. ويرى جارودي في كتابه "كيف نصنع المستقبل" ان تغيير الانحرافات الراهنه يمكن ان يتم من خلال:
اولا: تدمير الاسطوره التي تضفي كلمة ديمقراطية على حرية السوق ... فالسوق الحر قاتل للديمقراطية ... (بواسطة تراكم الثروة في قطب والبؤس والفقر في القطب الآخر). وهذا يتضمن بعض القرارات السياسية التي تعمل على التحرر من العولمة المزعومة للاقتصاد، أي من الإرادة الأمريكيه التي تريد إن تجعل من أوروبا ومن باقي العالم مستعمرة تفتح منافذ أمام اقتصادها الخاص في جميع المجالات: من المنتجات الزراعية إلى الصناعات الفضائية ومن المعلومات إلى السينما.
ثانياً: ضرورة اعادة حرية تأسيس علاقات جديدة جذرياً مع العالم الثالث، وهذا يعني:
_________
(1) مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى انسنة الحضارة وثقافة السلام - د. محمد سعدي - مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2006 - ص 368(4/86)
1 - ان "باندونج" (1) جديده ضرورية من اجل إن يكون القرن الحادي والعشرون علامة على نهاية عصر ما قبل التاريخ الحيواني للإنسان حيث كانت الثروة في عالم مشطور، حكرا على أقلية ضئيلة وتقتضي التبعية والاستغلال، بل وموت الجزء الأكبر من البشريه.
2 - إن بعث الوحدة الإنسانية لا يمكن إن يتم بواسطة العنف والسلاح اللذين كانا يفصمان عراها، ولكنه يتم بواسطة تحالف كل القوى الإنسانية حقا: من الاقتصاد إلى الثقافة إلى الايمان.
3 - ان ضعف الشعوب المضطهدة الحالية راجع في جزء كبير منه إلى انقسامها نتيجة خلافات وحروب استشارها ودعمها سادة العالم الحاليون. فالمهمة الأولى هى وضع نهاية لهذا التمزق عن طريق التفاوض السلمي بشأن كل هذه الصراعات التي تخدم القاهرين.
4 - إن يرفضوا بشكل جماعي دفع الديون المزعومة لصندوق النقد الدولي، وذلك لإن على الغرب دينا ثقيلا تجاه العالم الثالث. ... فمن يسدد لهنود أمريكا استنزاف كل قارتهم ... ومن يعيد إلى الهند القديمة مصدرة النسيج، ملايين الأطنان من القطن التي أخذت من المزارعين بثمن بخس، وأدت لتحطم الصناعة الحرفية للنساجين الهنود لصالح الشركات الكبرى في لانكشاير؟ ... من يعيد لإفريقيا حياة ملايين من أبنائها الأقوياء الذين حملوا كعبيد لأمريكا بواسطة جلابي العبيد الغربيين طوال ثلاثة قرون؟ (2).
تأسيس نظام قيمي جديد
الهدف من هذه الأفكار المتنوعة هو الإعداد للقرن الحادي والعشرين لنحياه كاملا. ذلك لأننا إذا واصلنا هذه الإنحرافات القائمة، فإننا نوشك على تدمير الإنسان، وقتل مليارات من البشر جوعا في الجنوب، وتحميله باتباع نموذج التنمية الغربي ما يوازي ضحايا هيروشيما كل يومين. لتصبح الحياة بلا هدف أو أفق، ما لم نوقف هذا
_________
(1) باندونج مدينة في اندونيسيا عقد فيها في ابريل عام 1955 اول مؤتمر للدول غير المنحازة.
(2) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص116 - 117(4/87)
الشرخ المتعاظم في العالم، ستتقاقم البطالة والإقصاء والعنف والمخدرات. إن هذا نداء للمقاومة ضد تفريغ العالم من المعنى، ونداء لتشييد عالم موحد وواحد، يتأسس على مبادئ تختلف تماما عن تلك المبادئ التي قادت الغرب بأجمعه إلى الإنحطاط، وقادت العالم إلى الاحتضار. فلقد ماتت الآمال خلال النصف الأخير من القرن، نتيجة حربين مات فيها 80 مليون قتيل (1).
ان ما سمي بالحلم الأمريكي يحاول احكام قبضته على العالم محاولاً تحويل كافة الاحلام الجميلة والقيم النبيلة لمئات المفكرين والمثقفين على مر العصور إلى كوابيس مرعبة تزلزل الكيان الانساني على الارض وتهدد بإفناء الحضارة الانسانية. ولكن لنعلم يقيناً وعلماً قاطعاً بأن طريق الشر بفساده وباطله مسدود، وبأن الديمومة هى للحق والخير والجمال في الوجود ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، أبداً وسرمداً والا لما كان الله وكان الشيطان وحده منذ عهود بعيده (2). ولهذا فإن روجيه جارودى بعد أن كشف بشاعة النمط الأمريكي، دعا إلى تأسيس نظام قيمي جديد للنهوض وبناء مستقبل الانسانية، حيث يقول: أن النهضة الإنسانية، بل ومجرد بقاء الإنسانية، يستلزم بناء المستقبل على أسس أخرى. إن كشف حساب هذا القرن لا يوضح إفلاس ماركس الذي خانوا اشتراكيته، بل يوضح إفلاس آدم سميث الذي اندفعت ليبراليته إلى نتائجها القصوى، فأصبحنا مهددين بانتحار كوكبي (3).
واليوم يكون ضروريا محاكمة ثقافة وحضارة الغرب على أساس دورها الهدام للثقافات الاخرى طبقا للفكرة الملعونة (الشعب المختار) (التي تتم عبر رفض الآخر وإنكاره حتى إبادته) (4). فالغرب يرفض ويدين المختلفين، وهو بهذا الرفض للأشكال الانسانيه الأخرى يحمل أسباب انهياره النهائي، ويضع مستقبل الانسانيه في خطر حقيقي، فقد تخطى الزمن تلك الاحاديه للثقافة الغربية وهيمنتها المهددة بالانشطار. فالقرية العالمية ملك للجميع، ضمن ما تعارف عليه العالم من القوانين
_________
(1) أمريكا طليعة الانحطاط- روجيه جارودي
(2) رسائل حضارية في مواجهة اليهودية/ الاب فوتيوس خليلص60
(3) أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى - ص23
(4) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص142(4/88)
والمواثيق الدولية العامه. وايه قوة تتجاوز ذلك وتستهين به سوف تكسب عداوة جميع الشعوب، وربما لن تقوى على الصمود لكل هذا العداء عندما يتراكم ويشتد (1).
لقد إستطاعت أمريكا، بالفعل وفي خلال أسابيع، أن تصدِّع جسوراً إنسانية بَنَتْها الشعوب لُبنةً لُبنةً، وأعلَتْها القرون الطويلة مدماكاً مدماكاً. وقد أثبت النظام العالمي الجديد الذي أنشأته أنه لا يتورّع عن تغيير وجه العالم إلى الأسوأ والأقبح، وأن يهدّد مصير الإنسانية كلّها، إذا ما أُصيبت مدينة أميركية أو إسرائيلية بمكروه. ولعلّه، بذلك، يقدِّم برهاناً على عدم أهليته ليحكم العالم وليكون مؤتَمَناُ على المصائر. وهذا الواقع الذي تكشّف يكفي للحكم عليه و يقضي بتغييره. وقد أصبح هذا التغيير واجباً إنسانياً أوّل لحفظ الوجود. فلا أمَلَ بالسلامة، إلاّ إذا أبكر العالم في معرفة هذه الحقائق، وسارع إلى المواجهة، وتمكّن من وضع الظلاميات جميعاً في محجر واحد، حيث تتناهش هي، ولا تنهش لحم الشعوب وقلب الحضارة كما تفعل الآن. المهمّة الأولى، في عملية التغيير ورسالته، هي منع حصول الكارثة، بمنع هذا النظام من التقدّم نحوها والدفع إليها. وهي مهمّة فورية، وعلى دول العالم وشعوبه أن تتجنّد لها. والمهمّة الثانية هي إيجاد ضمانات المستقبل وإنشاؤها. ضمانات القوى العظمى كارثة، والضمانات العسكرية فاسدة وخطرة، والضمانات السياسية التقليدية قاصرة (2).
فهناك مرحلة تاريخية تحتضر، هي تلك المرحلة التي سادها الغرب (حسب الأصل اللغوي للكلمة: البلاد التي تغرب فيها الشمس) منذ خمسة قرون، وهناك مرحلة أخرى في طريقها للميلاد في البلاد التي تشرق فيها الشمس: الشرق (3). http://www.aljazeera.net/books/2004/1/1-26-1.htm - TOP#TOP فكيف نفتح آفاقاً جديدة ومستقبلاً يتسم بالإنسانية بعيداً عن حقول الأطلال التي خلفها التاريخ الحيواني للإنسان والذي يكتمل مع القرن العشرين؟ لابد إذن من كشف الأخطاء في بوصلة التاريخ الإنساني. فلقد كان الانفصال الأول للغرب هو ما قام به سقراط (والذي يقول عنه نيتشه إنه كان بداية الإنحطاط)، وتابعاه أفلاطون
_________
(1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة ص288
(2) عولمة الرعب - يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت: الثلثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2006 - http://www.aschkar.org/spip.php?article20
(3) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص18(4/89)
وأرسطو. فلقد أفسدوا التاريخ العقلي للغرب بفلسفة "الوجود" التي كانت أساساً لكل الهيمنة، ولقد حاولنا أن نستعيد "فلسفة العمل" وهي فلسفة بقية الإنسانية منذ ميلاد الأداة الأولى، من المقبرة الأولى ومن الحلم الأول في حياة خالدة إبداعية.
وكان الإنفصال الثاني للغرب هو الحروب الصليبية وحروب الاستيلاء ومحاكم التفتيش ضد حكمة الشرق. وكان الإنفصال الثالث للغرب تلك "النهضة" المزعومة التي استخدمت الاكتشافات العلمية والتكنولوجية في الشرق (مثل البوصلة، والبارود، والمطبعة) لتحويلها إلى أدوات للسيطرة على الشعوب والأرواح. لقد بدأ هذا الانفصال عام 1492، مع الإبعاد الأخير للثقافات الشرقية، بالاستيلاء على غرناطة، وغزو وتحطيم ثقافات سكان أمريكا الأصليين، بالجوع إلى الذهب بدءاً بكريستوفر كولومبوس. إنها إذن 2500 سنة من فلسفة السيطرة. ولا بد من تحديها، وفتح آفاق جديدة أمام الإنسان، واقتراح أن تستبدل بوحدة العالم تحت سيطرة الإمبريالية تلك الوحدة السيمفونية، ويستلزم ذلك الاستعانة بحكمة وثقافة العوالم الثلاثة لنضع الإنسانية في الطريق الصحيح للإزدهار المتبادل لكل الثقافات لكي نصد المرامى القاتلة للمركزية العنصرية الغربية، ونوقف الهيمنة.
لقد تسبب الغرب في حربين عالميتين اودت الأولى بحياة ثمانية ملايين من البشر، بينما اودت الثانية بحياة خمسين مليوناً. واذا كان بعض الساسة الغربيين يفتخرون بأن الديمقراطية الغربية جلبت إلى العالم فترة سلام استمرت ستين سنة فان هذا الادعاء يجانب الصواب، وينسب إلى ديمقراطية عالم الغرب انجازاً ليس من انتاجها، اذ السلام الذي ساد منذ عام 1945 انما توفر بحماية قوة الردع النووى المتوازنة. والآن زال ذلك التوازن باختلالات بنيويه في كيان احد جانبيه، ومن غير المستبعد ان يستبد الغرور أو العناد ببعض القوى فيتم تدمير البيت الزجاجي، ولا تخلو الاجواء من ارهاصات بذلك. واذا كان الردع النووى قد زال أو ضعف اثره، فلابد ان يحل محله رادع آخر هو الوفاق الانساني المحكوم بالمواثيق والقوانين الدولية، ومبادئ المساواة والديمقراطية الحقيقية- وليس المتأكلة- بين البشر، وبين الدول كما هى بين الجماعات والافراد (1).
_________
(1) حوار الإسلام والغرب- تأليف د. عبد الله أبو عزة ص287(4/90)
ان منع الكارثة لا يكفي لضمان المستقبل. إنه يمنح الإنسانية فرصةً لإستعادة أنفاسها ولإستيعاب ما يحدث بأبعاده المصيرية، من دون أن تكون المقصلة فوق رأسها، مستقبل الإنسانية، في رأينا، إمّا يكون دورة حضارية جديدة، أو لا يكون. هذا يعني، على وجه التحديد، أنّ ثمة نظرة أُخرى إلى الإنسان والحياة والكون يجب أن تسود بكامل منظومتها المفهومية والقيَمية والخُلُقية، وبكامل عدّتها السياسية. بلوغ هذا الهدف هو أعظم تحدٍّ تواجهه الإنسانية، لا لتجميل حياتها بل لحفظ بقائها. إنه بناء جديد لا تُُمكن إشادته دفعةً واحدة، بل مدماكاً مدماكاً. حسبنا الآن أن نؤسّس له ونتّجه إليه (1).
ولهذا لابد من العثور على معايير اخرى للتقدم، تختلف عن معايير قوة التقنيات والثروة "الناتج القومي"، لنعرف التنمية بازدهار الإنسان وليس بالنمو الاقصادي. ويفترض هذا على المستوى العقائدي أن نعطي الإنسان بعده الأساسي: وهو التسامي، على الا يكون التسامي .. تعبيراً عن الإله الملك، الذي يحكم مصائر البشر والإمبراطوريات من الخارج ومن أعلى، ولكن أن يكون ذلك التسامي منبثقاً من عمل الإنسان الخلاق، مع الوعي بأن الله حين خلق الإنسان فلكي يكدح الإنسان لملاقاة الله متخذاً منه مثلاً أعلى. ولذلك لا بد من التخلي عن الظن الخاطئ بأن "التاريخ المقدس" إنما هو تاريخ قبيلة واحدة، ذلك أن هذا التاريخ ينبع من كل عائلات العالم، ومن كل الثقافات، وكل الحضارات، ومن الهند الأمريكية ومن أفريقيا وآسيا (2).
لهذا يجب ان نعمل على تأسيس ثقافة جديدة: ثقافة الحياة لا ثقافة الموت / ثقافة الحوار لا ثقافة الامر، ثقافة الشخصانية والجماعية وليست ثقافة الفردية / ثقافة المحبة والحب وليست ثقافة الحقد والكره / ثقافة السماح والتسامح وليس ثقافة الثار / ثقافة الانفتاح وليس ثقافة الانغلاق / ثقافة قبول الاخر وليس ثقافة الغاء الاخرين / ثقافة البناء والاعمار وليس ثقافة الهدم / ثقافة الانا تصبح النحن
_________
(1) عولمة الرعب - يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت: الثلثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2006.
(2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص224(4/91)
وليس ثقافة الانا والانا فقط / ثقافة العلم والمعرفة وليس ثقافة الجهل والتخلف. هذا هو المناخ الملائم لصنع قيم جديدة ... على اسس الحق والخير والجمال.
ان الازمة التي نعيشها هي أزمة حضارة وصَلتْ إلى الطريق المسدودة، لعلّة في قِيَمها، ومفاهيمها، وعقليتها الخُلُقية، وكامل نظرتها إلى الوجود ومبادىء تعاملها معه. هي عدائية وإعتدائية على الإنسان والطبيعة وأجيال المستقبل. من هنا أنّ ضمانات المستقبل لا تكون إلاّ بثورة في الحضارة تقيم التوازن المفقود مع ثورة الوسائل، وتُنشىء محرِّضات إنسانية جديدة تستنفر خيرَ ما في الإنسان لا شرَّ ما في غرائزه المتوحّشة. المجتمعات هي الطرف الأصيل في هذه الثورة-الضمانة، وهي موضوعها ومسرحها وأداتها والوسيلة (1). وهذا يفترض أيضاً على الصعيد الجمالي، تغيير دراسة العمل الإبداعي للإنسان، حتى لا نحصر الجمال في النماذج الغربية وحدها، والتي قدمها الإغريق وعصر النهضة في القرن السادس عشر. وبهذه الطريقة وحدها، يمكن للفن الخروج من قيود وحدود أرسطو، فلا نحكم على الفنون بمعايير التشريح والمنظور في عصر النهضة وحدها، (ومقاييس بومبي التي أعقب كبار الرواد طوال ثلاثة قرون). ونتحرر أيضاً من القيد الآخر، لأن مجرد النفي والعصيان أدى إلى تدهور الفن المسمى "الفن المعاصر"، والذي توهم أنه يصبح فناً "حديثا" كلما زاد جهلاً بالماضي، حتى أصبح هذا الفن يشمل بعض اللوحات أو النحت مما يشبه الأراضي المليئة بالنفايات، وأصبح يثير الضجيج بدلاً من الموسيقى، وحول الرقص إلى حركات هستيرية تخلو من أي معنى إنساني (2).
قد انتهت الحضارة الاوربية إلى علاقة استهلاكية مع الطبيعة وتقلصت جماليات الزمان المبدع في الموسيقى وفي الرسم فحلت المقطوعات القصيرة السريعة الايقاع التي تختلس الوقت وتبتره واللوحات السريعة التي سطعت بديلاً عن الزمان الكامل للابداع وذلك لمسايرة عامل الانتاج والاستهلاك. كان الكلداني يتطلع إلى جماليات السماء دوماً فورث عنه طاليس اليوناني علم الفلك .. اما فيثاغورس فقد كان ابناً باراً لعلوم الجماليات المصرية التي ابدعت الاهرامات .. كل تلك
_________
(1) عولمة الرعب - يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت: الثلثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2006.
(2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص223 - 226(4/92)
الحضارات التاريخية التي لا يمكن القول بأنها بائدة قد منحت عالم اليوم مقدماته العلمية، بعد ان انفتحت على قيم الكون الجمالية (1).
يقول أحد كبار الفنانين المجددين في هذا القرن، ورائد التكعيبية "خوان جريس": "إن عظمة الفنان تتوقف على قوة الماضي الذي يحمله داخله، وليس ذلك لتقليد القدامى، أو الحفاظ على الموروث، ولكن لتجديد شعلة الرسالة التي كان أعظم حملة لوائها يعملون لإعلان الإمكانية الدائمة لتجديد إنسانية الكائن البشري". وهذا يفترض على الصعيدين السياسي والاقتصادي، تحطيم أصنام "العلوم الإنسانية" المدعاة التي تتمثل طريقتها في شف علوم الطبيعة، وإقامة مبادئ - على هذا النحو - تحط من قيمة الإنسان. إن الرجل الاقتصادي الذي لا بد له من أن يكون أحد هذين النموذجين: إما منتجاً، وإما مستهلكاً، متحركاً طبقاً لأغرضه الخاصة، هو أساس قاتل يحاول "الاقتصاديون" إخفاءه عن طريق آلات حسابية وهمية، لإعطاء مظاهر علمية لما هو في الواقع أيديولوجية موجهة لتنظير وتبرير نظام ظالم موجود وقائم. إن قلب المستقبل هو إعادة البحث، والتقديم الذاتي لكل المفاهيم الأخرى للإنسان، المولودة من خلال ثقافات أخرى، وتقديم السبل لخلق ظروف وشروط تقنية واقتصادية، وسياسية وروحية للجميع، تسمح لكل كائن إنساني (إمرأة أو رجل) بأن يصبح أكثر إنسانية، بمعنى أن يصبح "شاعراً" بالمعنى العميق للكلمة: وهو ان يصبح مبدعاً للنسخة الاصلية للمستقبل المحتمل (2).
يقول رجل من الهنود الحمر معلقاً على همجية الرجل الابيض الذي افسد كل شئ عندما غزا أمريكا كاشفاً عن خواءه الروحي والانساني: نعتبر هذه البلاد قسمتنا ونعرف إن الرجل الأبيض لا يفهمنا، تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى، انه لا يرى الأرض أختا له بل عدوا يقهره ولا يعبأ، انه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ، هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية، وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلا سلعة تسرق أو تباع كالأغنام والخرز إن جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها إلا صحراء ... لا
_________
(1) العالمية الإسلامية الثانية - ابو القاسم حاج حمد ص 231
(2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى- ص223 - 226(4/93)
يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحل ويرحل شبرا من ارض دون ضجيج، لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع (1).
_________
(1) حق التضحية بالآخر- تأليف منير العكش-ص165(4/94)
الفصل الرابع
أمتنا ودورها الحضاري
ان امتنا بما تمتلك من ارث حضارى عريق، لازالت تمتلك من المقومات ما يمكنها من استنبات مشروعها الحضارى النهضوى وتخلق تراكمات تمكنها من بناء مركز قوة، وقاعدة هامة من قواعد ارتكاز الشعوب المقهورة في كفاحها المفتوح ضد المشروع الاستكبارى الصهيونى المتوحش. وهذا ليس بجديد عليها. فقد تمكنت من ذلك في الواقع العملى التاريخى. فهى حملت بتجربتها العملية الطمأنينة والسلام، وجسدت على ارض الواقع كيفية تحقيق التطور الانسانى المشترك دون اخضاع ولا خضوع، ليس لمن اعتنق الإسلام فحسب، بل لكل الشعوب التى احتكت بها (1).
فبلادنا العربية هى مهد الحضارات الانسانية، وعلى ارضها كانت الدعوة الأولى لرفض عبودية الانسان، والى عبادة اله واحد احد. فبينما كانت قبائل العالم القديم، كل يسعى إلى اله خاص يختص بها، جاء سيدنا ابراهيم ابو الانياء برسالة التوحيد، توحيد البشر جميعاً على عبادة اله واحد. فكل البشر متساوون امام هذا الخالق، لهم نفس الحقوق والواجبات اياً كان اصلهم أو انتمائهم الجغرافى. وبنى مع ابنه اسماعيل الكعبة المشرفة - بيت الله الحرام - من دخلها فهو آمن بغض النظر عن المكان الذى اتى منه أو القبيلة التى يحمل اسمها. واستحوذت الكعبة كمنارة لحضارة التسامح والاخاء والمساواة والامن على افئدة الناس جميعاً في المنطقة، مما اثار حسد الاقوام الاخرى التى سعت إلى تدمير هذه المنارة الجديدة، فكانت محاوله ابرهه ملك الحبشه لهدم الكعبه، رمز التوحيد والعدل والمساواة بين الشعوب، ولكن كان للكعبة رب يحميها.
واستمر الصراع بين الاتجاه الانسانى الذى يرى في الانسان قيمه بحد ذاته، يجب ان تسخر كل الاشياء لخدمته، وبين نظره ترى ان الانسان كغيره من الاشياء لا قيمة له بحد ذاته كانسان، بل ان مدى قوته وسيطرته وما يملك هى التى تحدد
_________
(1) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص 207(4/95)
قيمته، حيث كان اليهود اول من حاد عن طريق الصواب، بعد ان قام احبارهم بتوجيه الديانة اليهودية التى نزلت على سيدنا موسى عن مسارها التوحيدى، حيث جعلوا منها ديانة مغلقة وخاصة باليهود دون غيرهم، واعتبروا انفسهم شعب الله المختار، حيث كان ذلك خلال السبى البابلى، التى كتبت خلاله اغلب اسفار ما تسمى بالتوراه الحالية، لتخدم مصالح طبقه من اليهود، لتبرير الاستيلاء على الارض والرغبه في السيطره والنهب، ولتصبح التوراة وثيقة عنصرية تحرض ضد الانسان، وتبيح المحظورات في سبيل جمع المال، وعاتوا في الارض فساداً وتحكموا بواسطة مهنة الربا الخالية من كل اخلاق وشرف في اوضاع كثير من الشعوب، ولذلك تعرضوا لانتقام الآخرين وحروبهم. واخترعوا لهم اله خاص بهم (يهوه) اله حرب وشر يقود اتباعه لتدمير كل الشعوب بهدف السيطرة على ثرواتهم لتصبح ملكاً خاصاً لهم. "واصبح منذ هذه اللحظة أي شخص لا ينتمي للاثنتين عشرة قبيلة لا يمثل جزءاً من الشعب المختار من الله عن طريق هبة الأرض والوحي بالشريعة، وهكذا وجد الآخرون أنفسهم كالبرابرة بالنسبة لليونان مطرودين من الحضارة الوحيدة الحقيقية: الحضارة اليهودية.
"وبعد تسعة قرون جاء المسيح، ودعوته الكونية التي حشدت اكبر طاقة في تاريخ البشر والآلهة، تلك الآلهة التي كان يجري تصورها حتى ذلك الحين على أنها ملوك جبابرة، وفتح الطريق الأول لحياة مبدعه بتحطيم الممنوعات القديمة وخصوصية الشريعة، وبقطيعة مع المفهوم القبلي والوثني لإله جزئي ومنحاز قد اختار شعباً محدداً، مذكرا بأن الله هو أبو كل البشر ... جاء عيسى عليه السلام، هادياً للبشرية، ومنقذاً لها من سطوة الحاخامات والمرابين، وليطهر الهيكل من رجسهم، وليؤكد للناس جميعاً معانى الاخوه والمحبة والسلام والرحمة، ولكن هذه الدعوة لم تسلم من التشويه على يد بعض الادعياء، الذين كان لادعائاتهم اليد الطولى في حدوث الانقلاب البروتستانتى باسم الاصلاح الدينى، والذى اعاد المسيحية إلى احضان اليهودية. وكان هناك رجل يعرف جيداً كلتا الثقافتين وهو بولس الطرطوسي .. وقد أنجز توليفة منادياً فيها بزعامة يسوع، وبلور مذهباً لا يرجع أبداً إلى كلمات(4/96)
يسوع وممارساته في حياته لكي يجعل من النجار الفقير في الناصره: مسيح (باليونانية خر يستو Christos) اليهود وخليفة داود" (1).
ثم جاء الإسلام الحنيف مكملاً لرسالة الحق، لخدمة الانسان واسعاده، دين رحمة ومساواه وعدل، ليوحد العرب ويرفع الظلم عنهم وعن شعوب كثيره استعبدتها امبراطوريات ذلك الزمان، فدخل الناس في دين الله افواجاً، ونشأت حضاره اسلامية عظيمه وحدت شعوب وقبائل من اقصى المغرب إلى اقصى المشرق تحت رايه واحده، وجد الجيمع في ظلها الامن والسكينه والسلام، والفرصه للابداع والتطور. فقد فتح المسلمون عبر تاريخهم الطويل صدورهم لغير المسلمين: يهوداً ونصارى ومجوساً وأتاحوا للعناصر ذات الكفاية منهم احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص، لم تعرفه أمة من الأمم عبر التاريخ. لقد اسهم غير المسلمين في صنع حضارة الإسلام واغنائها دونما أية عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك، كما فتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاءً بمركز الوزارة نفسها، وأتيح لأبناء الأديان والمذاهب الاخرى إن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية فنموا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية بما يوازي قدراتهم على العمل والنشاط، وملئوا بهذا وذاك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين (2).
وعلى صعيد التوسع الجغرافي، كان المسار الإسلامي آخذا بالصعود والتفوق حتى استطاع المسلمون فتح مدينة القسطنطينية عام 1453 عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ثم تواصل زحفهم حتى كادوا يدخلون فيينا عاصمة النمسا عام 1683، متوجين بذلك مسيرة ألف سنة من الفتوحات والانتصارات بدأت في الشام والعراق في القرن السابع الميلادي، وتواصلت في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وصاحب تلك الحملات العسكرية تجارة واسعة ومتنوعة وممتدة في القارات الثلاث، وحركة ثقافية وعلمية وفنية. وظهرت حضارة اسلامية متميزه وفريدة شاركت في صنعها جميع
_________
(1) كيف نصنع المستقبل- روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص57
(2) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص129(4/97)
الشعوب. فالإسلام يتميز عن غيره من الأديان بأنه دين المساواة الذي حرر الناس من الإقطاع الفارسي والطائفية الهندية والأرستقراطية الغربية، ورفض التفرقة على أساس الجنس أو اللون أو الثراء أو المكانة الاجتماعية.
انهيار الامبراطورية الإسلامية وصعود الغرب
بعد هذه الاندفاعه القوية التى استمرت اكثر من عشرة قرون، بدأ المد الإسلامي بالتوقف والانحسار فتوقفت الانتصارات، وبدأ الانحسار من أنحاء مختلفة من العالم. فخلال فترة أواخر القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، شهدت الساحة التاريخية ثلاث إمبراطوريات إسلامية رئيسية: الإمبراطورية العثمانية في الأناضول وسورية وشمال إفريقيا والجزيرة العربية، والإمبراطورية الصفوية في بلاد فارس، والحضارة المغولية في الهند. وقد اعتنقت معظم دول شرق آسيا (الملايو، أندونيسيا ... إلخ) الإسلام علي يد التجار المسلمين. وفي تلك الأثناء، كانت أوروبا بصدد تطوير حضارة جديدة أوجدت نظاماً قائماً علي رأس المال علي أنقاض النظام الزراعي. وحدث تطور صناعي وتجاري كبير في الغرب في حين ان المجتمعات الإسلامية لم تواكب هذه النهضة وبدأت في الانحدار.
ففي الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر بدأ انحسار المد الإسلامي، وتوقفت حركة الترجمة الكبرى وتوقف الإنتاج العلمي والمعرفي، وبدأ الأوروبيون يحرزون تقدما ملموساً في فنون الحضارة. وبقدوم ما يسمى (المعرفة الجديدة) بدؤوا يتقدمون بسرعة، وسبقوا التراث العلمي والتكنولوجي ثم الثقافي للعالم الإسلامي بأشواط طويلة. فقد كان السلطان العثماني في أوائل القرن السادس عشر الميلادي تشغله المنافسة الكبرى مع المماليك في مصر والشام وإيران الصفوية، واستطاع السلطان (سليم الأول) أن ينهي دولة المماليك ويفتح البلاد العربية كلها. ولكن الصراع العثماني-الصفوي استمر حتى القرن التاسع عشر، واستهلك هذا الصراع المسلمين وألهاهم عما يدور في أوروبا غير بعيد عنهم من تقدم وتطور. فعندما استطاع فاسكو دي غاما الوصول بحراً من البرتغال إلى رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر، فتح طريقاً بحرياً بين أوروبا وآسيا متجاوزا المجال الإستراتيجي(4/98)
للطريق السابق الذي كان يسيطر عليه المسلمون. وبدأ البرتغال والإسبان والهولنديون ينشئون قواعد لهم، في جنوب شرق آسيا وفي الموانئ والسواحل المطلة على المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، لتأمين طرق التجارة والتحكم فيها. وكانت القارة الأميركية مصدراً للموارد والهيمنة التي لم تصلها القوة الإسلامية العثمانية، ومكنت الأراضي الخصبة والمعادن التي امتلكها الأوروبيون من الاستغناء عن كثير من المنتوجات القادمة من الشرق الأوسط وآسيا، ونشطت المهارات التجارية والحرفية (1).
وكانت هزيمة الأتراك في فيينا عام 1683 بداية تحول وانكسار، وتبعتها هزائم متوالية ومتواصلة في مالطة عام 1684، وفي المواجهة مع روسيا عام 1696 عندما استولى القيصر الروسي بطرس الأكبر على مدينة أزوف على البحر الأسو. ومنذ القرن الثامن عشر وبعده، أصبحت الدول الإسلامية تتهاوي الواحدة تلو الأخري تحت مطارق الاستعمار الغربي الناشيء. كما ادى انتشار التقنية في الغرب إلي ظهور الثورة الصناعية. وانقضّ الغرب الصناعي مستعمراً الدول المسلمة بهدف ضمها إلي شبكة مصالحه التجارية، وسمحت الدول المستعمرة بإجراء تحديث سطحي في الدول المستعمَرة لتكفي فقط المستعمرين الغربيين وتمكنهم من استغلال المواد الخام في هذه المستعمرات (2)
وربما يكون التاريخ الحديث للشرق الأوسط بدأ عام 1798 مع الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون، حيث أخضعت للمرة الأولى إحدى الدول في قلب ديار الإسلام لحكم دولة أجنبية، وبدأت مظاهر التغير الثقافي في الشرق. وبدأ الحكام في الآستانة والقاهرة يستعينون بالغرب لتحديث دولهم وجيوشهم، فقد استقدم الخبراء العسكريون الغربيون في عمليات إعادة تنظيم الجيش، واستخدمت أنظمة الإدارة الغربية، والأسلحة الغربية، وأرسلت البعثات التعليمية إلى الغرب لاقتباس العلوم الغربية (الإفرنجية)، هذا بالرغم من ان المسلمون كانوا يحتقرون الغرب ولا يأبهون بالجهود الحثيثة التي يبذلها للنهضة والتقدم، وعندما أفاقوا على
_________
(1) أين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس
(2) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003(4/99)
صدمة التفوق التقني في بداية القرن الثامن عشر كان الغرب قد سبقهم بأربعمائة سنة في التقدم العلمي، وبدأ التأثير الغربي يغزو الشرق من مدخل التقنية.
وهكذا أصبح العالم الإسلامي اليوم، إذا قورن بالعالم المسيحي الذي دأب على منافسته طوال ألف عام، فقيراً ضعيفًا وجاهلاً، وتبدى للجميع في القرنين التاسع عشر والعشرين تفوق الغرب وهيمنته، فقد غزي العالم الإسلامي في كل جوانب حياته العامة والخاصة. ولم يقتصر الأمر على أن يجد المسلمون أنفسهم ضعفاء وفقراء بعد قرون من الثراء والقوة، فقد أتى القرن العشرون بمزيد من الإذلال والهزائم، وتقدمت عليهم دول أخرى كانت أضعف وأفقر مثل اليابان ودول شرق آسيا. وهنا بدأ كثير من المفكرين والمصلحين محاولة معرفة اسباب هذا الخلل، حيث كانت الاجابات متنوعه ومختلفة. فقد حُمّل المغول والأتراك والاستعمار الغربي واليهود مسؤولية التخلف والضعف، وأعادها البعض إلى أسباب ثقافية وفكرية تعود إلى التخلي عن الثقافة الإسلامية والركض وراء الثقافة الغربية (1).
وبالتأكيد فإن كل هذه الاسباب صحيحة ولكننا سنركز هنا على الاسباب الفكرية والثقافية التى ادت إلى انهيار العالم الإسلامي، لاعتقادنا بانها تمثل الثقل الرئيس في عوامل النهوض والانكسار لاى حضارة أو ثقافة. فالحضارة الإسلامية بدأت في اتخاذ منحناً تنازلياً بعد ان ظهرت الخلافات الفكرية والمذهبية بين اتباعه، مقرونه بالجمود والتقليد، وبلغت ذروة ذلك عندما تم قفل باب الاجتهاد وبدأ التضييق على حرية الفكر والابداع الذى طبع حركة الإسلام الأولى، فكان نتيجة ذلك ان قل الالتزام بتعاليم الإسلام أو ظل الالتزتم موجوداً ولكن من خلال الأخذ بالمظهر دون الجوهر.
_________
(1) أين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس(4/100)
الغزو الفكري أدواته وأهدافه في العالم الإسلامي (1)
لما بدأ المسلمون يتخلون عن مبادئ دينهم العظيم، بدأ يدب في عضدهم التفرق والوهن والضعف، فوصل حالهم إلى ما هو عليه، ليفسحوا - بسبب تقصيرهم- المجال، مره اخرى لحضاره لا تعترف بالانسان كقيمه، بل كشئ كغيره من الاشياء، حضاره تميز بين الناس عنصرياً على اساس لونهم وجنسهم وانتماءاتهم ... حضاره لا مكان للثقافه ولا لتلاقح الحضارات، ولا لخصوصيات الشعوب. حضاره اصبح الصراع والحروب هو البديل لنهجها، والقتل والتدمير وسفك الدماء طريقها، في غابه كونية اصبح شعارها البقاء للاقوى .. وفرق تسد والغاية تبرر الوسيله، فكانت حصيلة عصرنا الحاضر ظلم وجور واستغلال ونهب وابادة وحروب مدمره لن تنتهى مادامت هذه الحضاره مسيطره .. ومادام الآخرون مما يملكون البديل الانسانى صامتين ومقصريين، فاسحين المجال لتمادى قوى الشر لاكمال مشروعها العدمى للبشرية، تحت مسميات وشعارات براقه لحقوق الانسان والديمقراطية والحرية، والتى لم يحققوها في بلدنانهم أو في اى من البلاد التى حلت عليها نقمتهم واحقادهم. فقد نجح هذا المشروع العدمى الذى تقوده أمريكا بخلفيتها التوراتية، في اماكن كثيره كما عرضنا سابقاً بدءً من ابادة الهنود الحمر واستعباد السود، مروراً بنهب أمريكا اللاتينية وتدمير اوروبا وانتهاءً بما يخطط للعالم الإسلامى منذ فتره كبيره.
ولكن لكى تكتمل الحلقة الجهنمية، ويتم اخضاع العالم الإسلامى لمخططات اسياد الظلام، من يهود وأمريكان اشباه يهود، كان لا بد من ضرب هويتنا وحضارتنا وتاريخنا. ومن اجل هذا تزداد شراسة الهجمة وحشية وهمجية وانكشافاً. فنحن وحتى اللحظة لا زلنا نتمسك بانتمائنا وهويتا، ونعتز بتاريخنا، منصهرين في بوثقه حضارتنا وقيمنا. وهذا ما يراد اسقاطه عبر الهجوم اللاحضارى الكاسح، الذى يسعى الاعداء من خلاله لدفعنا للتنكر لهويتنا وانتمائنا، نلعن تاريخنا، ونحتقر حضارتنا ونسفه قيمنا ونعتبر كل ذلك سبباً لجهلنا وتخلفنا. وقد بدء التخطيط والتنفيذ لهذه
_________
(1) الغزو الفكرى أدواته واهدافه في العالم الإسلامي - سلسلة مقالات للمؤلف نشرت في جريدة الوحدة الاماراتية عام 1987(4/101)
الهجمة منذ زمن بعيد، منذ فشل الحروب الصليبية في تحقيق اهدافها، وذلك عن طريق ما سمي الغزو الفكرى الذى كانت خطورته على العالم العربى والإسلامى اشد من الغزو العسكرى، حيث أدرك الغرب بعد فشل الحروب الصليبية أن الغزو العسكري للبلاد الإسلامية لابد أن يخفق مهما طال الزمن، ما لم يصاحبه غزو فكري يقضي على عوامل القوة والمنعة الكامنة في الإسلام. وفي هذا يقول كيرك: "أن الحروب الصليبية فتحت أذهان الغربيين إلى مستوى الحضارة في الشرق الأوسط، ذلك المستوى الذي كان يفوق بكثير حضارة الغرب. ومع تفتح أذهان الغربيين اتجه هؤلاء إلى غزو الشرق فكرياً بعد أن عجزوا عن غزوه عسكرياً".
ومصطلح الغزو الفكري من المصطلحات التي ظهرت في عصرنا الحديث بعد أن تعرضت كثير من دول العالم للاستعمار الغربي والذي عمل جاهداً على إبقاء سيطرته على هذه الدول حتى بعد زوال سيطرته العسكرية والسياسية عنها. وذلك عن طريق إبقائها في حالة تبعية فكرية واقتصادية لها. والغزو الفكري يقصد به بوجه عام ذلك الجهد البشري المبذول ضد شعب أو أمة من الأمم لكسب معارك الحياة فيها، وتسهيل قيادتها، وتحويل مسارها التاريخي عن طريق إخضاعها لثقافة وفكر غريب عنها وعن شخصيتها ومقوماتها التي تميزها، وجعلها تعيش في حالة تبعية فكرية، فتعيش عالة على الثقافات الأخرى. فالغزو الفكري مكمل لأساليب الغزو التقليدي ومساعد لها، وفي بعض الأحيان يكون بديلاً عنها، مع التقائه معها في الأهداف وإن اختلفت وسائل ومظاهر كل منهما. فبينما يعتمد الغزو العسكري على قوة السلاح وما تحققه الجيوش من انتصارات في ساحات المعركة، لتحقيق أهدافه، يعتمد الغزو الفكري على مدى دراية الغزاة وعلمهم بأحوال الأمة التي يراد غزوها، ومعرفتهم بمواطن الضعف والقوة في فكر وتراث هذه الأمة، فيعملوا على محاربة وتشويه مواطن القوة فيها، وزيادة مواطن الضعف بشتى الطرق. ومن مظاهر الغزو الفكري هي سيطرة ثقافة وفكر الدولة الغازية على ثقافة وفكر الدولة المغزوة، بحيث تظل هذه الدولة أو الأمة في حالة تبعية فكرية وثقافية للدولة الغازية.
فالغزو الفكري هو أن تسود أخلاق وعادات وتقاليد أمة من الأمم، أخلاق وعادات وتقاليد أمة أخرى. فإذا كانت الأخلاق والعادات والتقاليد تنبع من القيم(4/102)
والمثل الأصلية لأي أمة من الأمم ومن الظروف التي تعيش فيها، فإن تنكر الأمة لأخلاقها وعاداتها وتقاليدها هو تنكر لأصالتها ومسخ لشخصيتها وهويتها المميزة.
الغزو الفكري هو أن تزاحم لغة الغالب لغة المغلوب أو تحل محلها أو تحاربها بإحياء اللهجات العامية فيها، فتعيش لغة المغلوب عالة على لغة الغالب فتصبح غريبة في وطنها ويدب فيها الضعف بسبب إهمالها وكثرة المصطلحات والمفردات التي تدخلها من خارجها. وإذا كانت اللغة هي وسيلة الإنسان للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره، فإن ضعف اللغة من غير شك يؤدي إلى ضعف الفكر وخواء مضمونه. فيزداد الميل للتقليد الأعمى ويقل الابتكار والإبداع لدى مفكري الطرف المغلوب.
الغزو الفكري هو أن يعيش أدباء ومفكرو وعلماء أمة من الأمم عالة على أدباء ومفكري وعلماء أمة أخرى، ويتحولون إلى أصحاب وكالات فكرية لا يعرفون معنى للإبداع والابتكار، فيقومون بتبني أفكار ومذاهب ونظريات غريبة عنهم وعن مجتمعهم وشخصيتهم المميزة، متناسين خصوصية فكر وثقافة كل أمة من الأمم. وهذا هو العجز بعينه الذي يجعلهم يختارون أسهل الطرق وأخطرها عن طريق التقليد بدعوى عالمية الفكر والدعوة للتجديد والحداثة.
الغزو الفكري هو أن تهمل أمة من الأمم تاريخها وتراثها وتتخذ من تاريخ وتراث أمة أخرى مثلاً أعلى لها. فتهمل تاريخ أبطالها وسير النابغين من أبنائها فتفقد ثقتها في نفسها وتاريخها. الغزو الفكري هو أن يتعرض تاريخ وفكر ونظام حياة أمة من الأمم لحملات التشويه والتخريب والاحتواء من فكر أمة آخر. "فعندما يظهر تأثير أجنبي في شيء ذي أهمية جوهرية لثقافة ما مثل المؤسسات والمساجد، فهذا يعني أن الثقة بالنفس ثقافياً قد اهتزت. وعندما يغير الناس ملابسهم ويرتدون ملابس مجتمع آخر يكونون قد اتخذوا خيارا ثقافيا آخر (1).
وقد تعرضت الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم الأخرى التي خضعت للاستعمار الغربي لهذا النوع من الغزو وعانت منه طويلاً ولا زالت تعاني. ولكن عندما يتعلق أمر الغزو الفكري بالعالم الإسلامي والفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، فإن الكلام
_________
(1) أين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس(4/103)
يحتاج إلى كثير من الإيضاح والتركيز. فالإسلام هو خاتم الرسالات السماوية التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى شريعة ومنهاجاً أبدياً للبشرية في دنياها وآخرتها. فكان هذا الدين منذ أوائل عهده ثورة في وجه الظلم والاستغلال والانحراف. ودعوة إلى العدل والإخاء والمساواة بين البشر، فكان حرباً على المستغلين والمنحرفين واقفاً في صف الضعفاء، والمقهورين، وهذا لا يرضي المستعمرين والمستغلين لأنهم لن يستطيعوا تحقيق أهدافهم. لهذا وجد هؤلاء أن الطريق الصحيح للسيطرة على العالم الإسلامي هو محاربة هذا الدين وتشويهه، محاربة الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية بكل جوانبها، وفرض الثقافة والفكر الغربي على البلاد الإسلامية بكافة الطرق، واعتبار الحضارة الغربية وقيمها مقياس كل نهوض وتقدم ونشر ذلك بين المسلمين حتى يقل اعتزازهم بدينهم وفكرهم وحضارتهم ويزداد إعجابهم وميلهم للحضارة الغربية.
لهذا فقد عمد الغرب إلى رد كل إبداع حضاري لدى الشعوب الإسلامية إلى الأصول اليونانية والرومانية، وكأنه لم يوجد فكر في العصور القديمة إلا الفكر اليوناني والروماني، متناسين أثر الحضارات الشرقية القديمة على الحضارة اليونانية والرومانية، ومبرزين لأثر الحضارة اليونانية على الحضارة الإسلامية. فالمسلمون في نظرهم لم يكونوا إلا نقلة وشراحاً للفكر اليوناني ولم يضيفوا شيئاً جديداً يستحق الذكر للحضارة الإنسانية. فإسهام المسلمين عندهم الذي يستحق الذكر في مجال الحضارة الإنسانية هو أنهم قاموا بحفظ التراث اليوناني من الضياع عن طريق ترجمته وشرحه وتهذيبه ولا شيء غير ذلك. فهم خزنة ماهرين ولكنهم ليسوا مبدعين. فالإبداع والنظر العقلي سمة للعقلية الغربية، والتقليد والإمعان في الروحانية سمة للعقلية الشرقية. فتاريخ الفلسفة عندهم هو تاريخ الفلسفة الغربية مع إهمال ذكر إسهامات الفلاسفة المسلمين وأثرهم على الفلاسفة الغربيين، أمثال الغزالى والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم.
وتاريخ العلم هو تاريخ العلم الغربي، مع التقليل من قيمة إسهامات العلماء المسلمين في تطور العلوم وتقدمها. ونسبتهم كثير كشوفات العلماء والمسلمين ونظرياتهم إلى علماء غربيين، أو عدم ذكر أثرهم في توصل العلماء الغربيين إلى ما وصلوا إليه من كشوفات. وتاريخ الأدب هو تاريخ الأدب الغربي من هوميروس في(4/104)
عصر اليونان، إلى أصحاب المدرسة الكلاسيكية والرومانسية في العصر الحديث، وإهمال ذكر أدباء المسلمين وإبداعاتهم وأثرهم في كثير من الأدباء والشعراء الغربيين. وعصور الغرب هي كل العصور ولا عصور غيرها، فهي مقياس التقدم والانحطاط. فالعصر الوسيط هو عصر انحطاط وتخلف لأن الغرب كان كذلك، متناسين أن هذا القول ينطبق على الحضارة الغربية وحدها، أما الحضارة الإسلامية فقد كانت في أوج مجدها وازدهارها في العصور الوسطى.
وهكذا نصب الغرب نفسه معلماً أبدياً للبشرية وأسدى ستاراً من الصمت والتعتيم والتشويه حول إنجازات الحضارة الإسلامية في كافة المجالات، حتى يبقيها في حالة تبعية فكرية له لأطول فترة ممكنة، وذلك بجعل النموذج الحضاري الغربي هو النموذج الوحيد للتقدم الحضاري في كل العصور، ولا نموذج سواه، ولذلك يجب الإقتداء به وتقليده لمن يريد التقدم والازدهار. وقد سارت عملية الإعلاء من قيمة الحضارة الغربية والفكر الغربي جنباً إلى جنب مع حملات التشويه والتخريب للتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والدين الإسلامي. فتسربت كثير من الأفكار الخاطئة عن الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والدين الإسلامي إلى البلاد الإسلامية من خلال ما فرضه الغرب على هذه البلاد من أنماط معينة للتفكير والثقافة بواسطة مؤسساته التعليمية وغيرها من المؤسسات الأخرى.
ومما تقدم يتضح ان الغزو الفكري كان من أشد معاول الهدم خطورة على العالم الإسلامي، والتي كرست تبعيته الفكرية للعالم الغربي لفترة طويلة، وساعدت الدول الاستعمارية في تحقيق أهدافها. وتكمن خطورة الغزو الفكري في أنه من الأمور غير المنظورة التي لا يمكن تتبعها وعلاجها بسرعة بالإضافة إلى اختلاف الآراء حولها. بعكس الغزو العسكري الذي يشعر به كل فرد، فتسهل مقاومته والقضاء عليه متى توفرت الإمكانيات لذلك.
وإذا أردنا أن نتحدث عن الغزو الفكري للعالم الإسلامي، فيجب علينا أن نبحث عن الجذور التاريخية له والتي ساهمت إلى حد كبير في استمراره، وفي مساعدة الدول الاستعمارية في فرض سيطرتها السياسية والعسكرية والفكرية على العالم الإسلامي لفترة كبيرة من الزمن ولا زالت. فإذا كانت الدول الإسلامية قد تحررت من قيود الاستعمار الغربى من الناحية العسكرية وحصلت على استقلالها السياسي، إلا(4/105)
أن تبعيتها الفكرية للدول الاستعمارية ما زالت قائمة، بالرغم من المحاولات الجادة التي تبذلها هذه الدول للتخلص من هذه التبعية، والتي تحتاج إلى وقت وصبر وعمل دائم على كافة المستويات بالإضافة إلى تكاتف جهود كل الدول والمؤسسات الفكرية في الدول الإسلامية.
الغزو الفكري دوافعه وأدواته
يذهب أغلب الباحثين إلى ان فشل الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها عن طرق الغزو العسكري، جعلت الغرب يستخلص الدروس والعبر التي تعينه على معرفة الطريقة الجديدة التي يجب أن يتعامل بها مع العالم الإسلامي، حيث أدرك الغرب أن الغزو العسكري لابد مخفق مهما طال الزمان، ما لم يصحبه غزو فكري يزلزل عوامل القوة الكامنة في الإسلام والحضارة الإسلامية. والغرب بذلك يعمل وفق القاعدة التي تقول: "إذا أرهبك عدوك فافسد فكره ينتحر به". وهنا يقول المؤرخ (جان دي جوانفيل) الذي رافق الملك (لويس التاسع) ملك فرنسا في حملته الصليبية (الحملة السابعة): "أن خلوة الملك لويس التاسع في معتقله بالمنصورة، أتاحت له فرصة هادئة ليفكر بصبر في السياسة التي كان أجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين. وقد انتهى به التفكير إلى أنه لا سبيل للسيطرة على المسلمين عن طريق الحرب أو القوة، وذلك لأن في دينهم عامل حاسم هو عامل المواجهة والمقاومة والجهاد وبذل النفس والدم، لأنهم قادرون دوماً انطلاقاً من عقيدتهم إلى المقاومة ودحر الغزو الذي يجتاح بلادهم، وأنه لابد من إيجاد سبيل آخر من شأنه أن يزيل هذا المفهوم عند المسلمين، وذلك لا يتم إلا بتعديل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملات سلمية تستهدف الغرض نفسه، وذلك من خلال التركيز على الفكر الإسلامي وتحويله عن مساره وأهدافه حتى يستسلم المسلمون أمام لقاء القوى الغربية وتروض أنفسهم على تقبلها على نحو من أنحاء الاحتواء والصداقة أو التعاون. وأفضل وسيلة لذلك هي تجنيد المبشرين والمستشرقيين ودعم مؤسساتهم ونشاطهم في العالم الإسلامي". وقد علق المؤرخ رينيه جروسيه على ذلك بقوله:(4/106)
"أن الملك لويس التاسع كان بذلك في مقدمة كبار الساسة في الغرب، الذين وضعوا للغرب الخطط الرئيسية، لسياسة جديدة شملت مستقبل آسيا وأفريقيا بأسرها".
ومن هنا بدأ الغرب التخطيط لهذا الأمر وهو إفساد الفكر الإسلامي. فأجمع الغرب أمره على محاربة الإسلام والمسلمين وذلك بهدم البنيان من أصوله وجذوره، ومحاربة الإسلام في نفوس أبنائه لزعزعة ثقة المسلمين بدينهم وإبعادهم عنه وإبعاده عنهم، وشغلهم بمبادئ أخرى إن لم تقض نهائياً على الإسلام فإنها تزاحمه وتزلزل أركانه، فيسهل القضاء عليه مع الزمن. لهذا قرر الغرب دراسة الإسلام وآدابه وفنونه وعلومه وحضارته دراسة وافية ليقفوا على مواطن القوة والضعف فيها فكان الإستشراق والتبشير السلاحين الخطرين الذين ظهرا بشكل سافر وعلى نطاق واسع منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا. فقد حمل الاستشراق أعباء الأعمال في ميادين المعرفة الأكاديمية وأضفى على بحوثه ودراساته عن العالم الإسلامي الطابع العلمي، واستخدم الكتابة والتأليف والترجمة والتحقيق والنشر وإلقاء المحاضرات وعقد المؤتمرات والتدريس الجامعي وسائل لتحقيق أهدافه. وحمل التبشير أعباء الدعوة في أوساط الجماهير العامة الفقيرة، عن طريق تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للجماهير بالإضافة إلى قيامه بإنشاء الملاجئ ودور الأيتام ودور الحضانة للأطفال وإنشاؤه لجمعيات تدعي أنها تهدف لعمل الخير وهي في الأصل للتبشير.
وفعلاً أخذ الغرب في تنفيذ هذا المخطط عن طريق الاستشراق والتبشير، حيث عبر عن ذلك المبشر شاتيله في كتابه (الغارة على العالم الإسلامي) وقال مخاطباً المبشرين: "إذا أردتم أن تغزوا العالم الإسلامي وتحصروا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة، والتي كانت السبب الرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، فعليكم أن تواجهوا جهودكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بأماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن ذلك بنشر ثقافتكم وتاريخكم ونشر روح الإباحية وتوفير عوامل الهدم المعنوي، حتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم(4/107)
والسذج والبسطاء فإنه يكفينا ذلك لأن الشجرة يجب أن يتسبب في قطعها أحد أعضائها" (1).
كما عبر المبشر الامريكى زويمر عن رأيه الصريح في أعمل المبشرين البروتستانت، حين اعترف بأن للتبشير في البلاد الإسلامية ميزة هدم وميزة بناء. ويعني بالهدم انتزاع المسلم من دينه ولو إلى الإلحاد. ويعني بالبناء تنصير المسلم إن أمكن، ويضيف زويمر قائلاً للمبشرين: "لا ينبغي للمبشر المسيحي أن يفشل أو أن ييأس ويقنط، عندما يجد أن مساعيه لم تثمر في جلب كثير من المسلمين إلى المسيحية، لكن يكفي أن تجعل الإسلام يخسر مسلمين بذبذبة بعضهم. عندما يتذبذب مسلم وتجعل الإسلام يخسره، تعتبر ناجحاً أيها المبشر المسيحي. يكفي أن تذبذبه ولو لم يصبح هذا المسلم مسيحيا"ً (2).
الصهيونية المسيحية والإسلام
لما كانت اسرائيل والصهيونية العالمية اشد اعداء الامه في هذا العصر، فاننا لا نستغرب دورهما الهدام في الغزو الفكرى للامه، لادراكهم للدور الخطير الذى يلعبه الغزو الفكرى والثقافى في تحقيق مخططاتهم في المنطقة. فقد ادرك قادة ومنظروا الصهيونية المسيحية هذه الحقيقة منذ زمن بعيد. ادركوا ان الغزو الثقافى، يلعب دوراً حاسماً ومركزياً في تحقيق المخطط الامريكى الصهيونى الجهنمى، كما ادركوا ان مخططاتهم لن يكتب لها النجاح الا إذا استطاعوا الانتصار لغزوتهم الثقافية والفكرية التى تهدف إلى شطب ذاكرتنا والغاء تاريخنا لنلعن حضارتنا ونشكك بهويتنا وانتمائنا .. ونعتبر ذلك سبباً لتخلفنا، آنذاك يسهل عليهم السيطرة علينا، ليس حاضراً وحسب بل ومستقبلً ايضاً (3).
واذا كان الفكر اليهودى قد استغل الظلام الذى ساد اوروبا في القرن الخامس عشر وتسلل إلى العقيدة المسيحية، واذا كان هذا التسلل قد ادى منذ القرن السادس عشر إلى وضع اليهود تحت مظلة القداسة الدينية المسيحية، وبالتالى إلى تعامل
_________
(1) الغارة على العالم الإسلامي- المبشر شاتيلا - ترجمة محب الدين الخطيب - دار الفتح، القاهرة
(2) حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر - احمد عبد الوهاب ص160
(3) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص226(4/108)
الكنيسة الجديدة (البروتستانتية والتطهيرية) معهم كشعب ميزه الله عن سائر الشعوب الاخرى، وانه - اى الشعب اليهودى - يملك صكاً الهياً بملكية الارض المقدسة، وان عودته إلى فلسطين تحقق نبوءة توراتية تمهد للعودة الثانية للمسيح. واذا كان هذا الفكر اليهودى قد تمكن كذلك، من ربط العقيدة الدينية المستحدثة بالمصالح الاستراتيجية للدول الغربية، فانه لم يقف عند هذه الحدود، بل حاول التسلل ايضاً إلى الإسلام نفسه في مواكبة تكاملية مع ما كانت تتعرض له المسيحية.
ومن الجدير بالذكر ان محاولة التسلل إلى الإسلام لم تلقى اهتماماً اسلامياً مبكراً لاسباب عديدة، اهمها هي ان الغاية من هذه المحاولة لم تكن موجهة إلى المسلمين والعرب مباشرة، بقدر ما كانت موجهة إلى الاوربيين. كما ان الذين قاموا بتلك المحاولة هم من الفلاسفة واللاهوتيين والمستشرقيين اليهود الاوربيين الذين كتبوا الافكار التى اختلقوها باللغات الاوربية، ولذلك بقيت الافكار بعيدة عن متناول المسلمين العرب حتى اواخر القرن التاسع عشر. فالمحاولة أو المحاولات اليهودية - الاوربية، تناولت الإسلام كدين، وتناولت العرب كمجتمع، تم طرحت موضوع الدور والحضور اليهوديين في كلا الامرين. فبالنسبة للدين الإسلامى، حاول الفكر اليهودى ان يقدم الإسلام وكأنه اقتباس عن اليهودية، حيث حاول بعضهم اظهار النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن لا عمل له سوى الاقتباس عن اليهودية، وحاول آخرون ان يصور يهود الجزيرة العربية على انهم المصدر الذى استقى منه الرسول الكريم هذه الافكار. وعلى الخط نفسه زعم بعضهم بالاثر اليهودى على عقيدة التوحيد في الإسلام، واكدوا على اهمية الدور اليهودى وحجمه في الجزيرة العربية، حتى المؤسسات الإسلامية نسبوها إلى اليهود.
هذه الدراسات اليهودية حاولت من جهه اولى ان تنكر المقومات الذاتية للحضارة الإسلامية العربية، وحاولت من جهه اخرى ان تدعى استمرارية الوجود اليهودى في المنطقة، وان تنفى الغياب اليهودى عن المنطقة العربية تبريراً لقرار العودة ممثلاً في فكر الصهيونية. واذا كان بعض المفكرين العرب المحدثين قد سقط ضحية تضليل هذا الاستشراق اليهودى، فان الإسلام خلافاً لما حدث في المسيحية، استعصى على الاختراق واحتفظ بسلامة العقيدة وبنقاوتها. غير ان الفكر(4/109)
اليهود حقق نجاحاً محدوداً جداً في ميدان، كما حقق نجاحاً واسعاً في ميدان آخر. يتمثل النجاح المحدود جداً في ظهور بعض الحركات الارتدادية كالقاديانية والبهائية وغيرها. ولكن انحصار هذه الحركات في اطراف العالم الإسلامى وعزلها بعيداً عن القلب ادى إلى انحسارها وتآكلها (1). اما النجاح الواسع فيتمثل في القضاء على الخلافة الإسلامية رمز الوحدة وقاعدتها (2).
أمتنا ودورها الحضاري
إذا كنا عرضنا في السابق تصور لطرق مواجهة الهجمة الصليبية من داخلها أو بالتحالف مع قوى اخرى خيره في العالم من خلال حوار الأديان والحضارات، الا ان كل ذلك ليس كافيا لنجاح هذه المواجهة إذا لم نقم نحن المسلمون والعرب بتأسيس وبناء مشروعنا الحضاري الخاص بنا والذى يمكن ان يكون بديلا انسانيا للنموذج الأمريكي المتهاوى واللانساني.
فهذا التخطيط الواعى من قبل الاعداء .. وهذه الشراسة الهمجية في العدوان، والوضوح في الاستهداف، يستدعى من امتنا رداً بمستوى الخطر الجسيم الذى يتربص بها، وهذا لا يكون الا بمشروع نهضوى شامل يتم التأسيس له من معمان المعركة المفتوحة مع العدو ومن خلال ادامة الاشتباك معه بمختلف الاشكال الممكنة أو الممكن ابتكارها (3). وعسى إن تكرهوا شيئا وهو خير لكم فمن يدري؟ لعلها وخزه كبيرة تخترق الجملة العصبية لامة نائمة فتستيقظ، لعلها تلتقي بعد التمزق والتشتت والخصام ولو على الحد الأدنى من مطالب التوحد وشروطه، فيما يمنحها
_________
(1) بالرغم من انحسار هذه الحركات في اطراف العالم الإسلامي، فإن نشاطها الهدام يعتبر من اخطر ما يواجهه الإسلام في هذه المرحلة بسبب تعاونها مع الحركة الصهيونية والصهيونية المسيحية، وحصولها على دعم هائل من الموساد الاسرائيلى والمخابرات الأمريكية والمنظمات التبشيرية. كما ان هذه الحركات استطاعت في دول عربية واسلامية كثيره إلى ايصال اتباعها إلى الحكم أو إلى مراكز حساسة في صنع القرار، فكان هذا التهاون والاستسلام للهجمة الصليبية الجديدة. وسيضح مع الوقت حجم الاختراق الذى نجحت هذه الفرق الضاله في تحقيقه في منطقتنا العربية بمساعده ودعم كامل من اسرائيل وأمريكا. ولمزيد من المعلومات عن نشاط هذه الحركات يمكن مراجعة كتابنا "احمد ديدات بين القاديانية والإسلام".
(2) الصهيونية المسيحية - محمد السماك -ص 99 - 104
(3) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص229(4/110)
ثقلاً بين الأمم ويعيدها ثانية إلى التاريخ بعد رحلة الضياع في التيه كما ضاع بنو إسرائيل من قبل، لعلها فرصة البحث عن الذات الغائبة والتحقق بحضور اشد فاعلية واكثر عطاء (1).
فالامه العربية والإسلامية هى امة ذات رسالة انسانية خالدة، ساهمت عبر التاريخ باسهامات لا ينكرها الا جاحد، فالحضارات الانسانية الأولى نشأت وترعرت بها، والأديان السماوية كذلك، وقد سبق للمؤرخ ارنولد توينبي اعتبار أن مركزي الحضارة هما منطقتا سوريا واسيا الوسطى: ففي سوريا تشكلت المسيحية التي توسعت في العالم الهيليني بأكمله، كما تشكلت النسطوريه ومذهب الطبيعة الواحدة للسيد المسيح في ايديس في بلاد ما بين النهرين. وفي جنوبي سوريا- في الحجاز - ولد الإسلام في مكة والمدينه (2)، حيث انتشر في مشارق الارض ومغاربها بسرعه فائقة وانشأ حضارة زاهره امتدت لقرون طويلة، ظلت ثؤتر وتغني الحضارة الانسانية حتى هذه اللحظة. وقديماً هدم الرومان تدمر وأتى العرب بعد الف عام فبنوا قرطبه ... لقد أقاموا مع جامع قرطبه جامعتها التي كانت مركزاً ثقافياً شع على الغرب على مدى ثلاثة قرون بعلوم الشرق وحكمته وفلسفة اليونان والهند، لا بترجمة الآثار العلمية والفلسفية فحسب، بل بإبداع (تركيبة) جديدة وتطوير خلاق مارسه الإسلام. وعلى الطرف الآخر من العالم الإسلامي .. من بغداد إلى جند يسابور قرب الخليج العربي كان الاطباء والحكماء من يونان وهنود وغيرهم يتعاونون في ظل الحضارة الإسلامية. كان العالم الإسلامي يلعب دوره الحضاري في تمدين الانسان وتطوير انسانيته عبر هذا الطريق التى شقتها له شعوب المنطقة منذ ثلاثة آلاف عام (3).
إن الدارس لبنيات الحضارات الإنسانية المختلفة، لا يمكنه أن يتنكر للدور الحضاري الخلاق الذي لعبه العرب والمسلمون في بناء النهضة العلمية لأوربا
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص52
(2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص30 - 31
(3) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص348(4/111)
الحديثة (1)، فهذا أوجست كونت مؤسس الفلسفة الوظعية أدرك قدرة الإسلام في التعامل واحتواء جميع العقول والفلسفات والأفكار الإنسانية .. وعبّر عن ذلك بقوله: " إن عبقرية الإسلام وقدرته الروحية لا يتناقضان البتة مع العقل كما هو الحال في الأديان الأخرى؛ بل ولا يتناقضان مع الفلسفة الوضعية نفسها؛ لأن الإسلام يتمشى أساساً مع واقع الإنسان، كل إنسان، بما له من عقيدة مبسطة، ومن شعائر عملية مفيدة! (2). أما شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة "فيينا"، فيقول في مؤتمر الحقوق سنة 1927: " إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد (صلى الله عليه وسلم) إليها، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً؛ أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون؛ لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة (3) ".
والحضارة الإسلامية الآن غير عاجزة عن التكيف مع العصر، وتملك خبرات وقيماً رفيعة من التسامح والقدرة على التفاعل والتعايش مع الآخرين. فقد منعت الحضارة العربية الإسلامية - بالقول والفعل - إهدار كرامة الإنسان والسيطرة عليه. وأكدت -مثلما أكدت حضارات أخرى- أن كرامة الإنسان اسبق من كل انتماء وهوية حضارية، وحصانة أولية للإنسان ثابتة له بوصفه إنسانا كرمه خالقه وجعله خليفة له في أرضه. فالاختلاف والخلاف بين الحضارات لا ينبغي لهما أن يهدر حق الشعوب، أن في التعامل أو في الوجود (4).
وبالرغم من ان الحضارة المسيطرة الآن هى الحضارة المسيحية، الا ان العالم والمؤلف البارز، الدكتور (رالف بريبانت)، يعتقد: "ان الإسلام يشهد حالياً، تزايد الاقرار به، والموافقة عليه، على النطاق العالمى، في حين ان المسيحية تبدو في حالة تراجع ببعض النواحى. فنظام القيم الإسلامى يبدو اكثر تحفظاً بنقائه الاصلى، واسلم من المعتقدات المسيحية التى تتراجع باطراد، إلى عالم الاسطوره أو التعصب .. اما الإسلام، فانه، من ناحية اخرى في مرحلة نمو دينامية، مفعمه بالحماسة والنشاط".
_________
(1) نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع من خلال القرن الرابع عشر الهجري.- - رشدي فكار- ص 31 - القاهرة: مكتبة وهبة، 1980.
(2) نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع من خلال القرن الرابع عشر الهجري.- - رشدي فكار- ص 31 - القاهرة: مكتبة وهبة، 1980.
(3) معالم الحضارة في الإسلام- عبد الله ناصح علوان- ص 155.
(4) حوار الحضارات .. لماذا؟ بقلم يوسف الحسن(4/112)
وهنا يحذر بريبانت- وهو عضو في الكنيسة الاسقفية البروتستانتية- من ان الإسلام لا يصل إلى تحقيق كامل طاقته الكامنه الا إذا اولى المسلمون صورة الإسلام لدى العامة من الناس اهتماماً كبيراً، فضلاً عن اهتمامهم بسلوك المسلمين كأفراد ايضاً: "نجد في هذه اللحظة من التاريخ، ان للقوى المحركة في الإسلام وقيمه المحددة بوضوح، امكانية انتشال العالم الغربى من حالته المرضية. ولا يمكن ان يتحقق ذلك، الا إذا كانت الصورة، التى يعرضها الإسلام على الشاشة الكونية، واداء المسلمين على المسرح العالمى، متساوقين مع مبادئ الإسلام، في السلام والعدل واحترام الحياة" (1).
ولو أن الإسلام - بدلا من أن يتحجر على ماضيه - عاد إلى التصور القرآني لوحدة الديانات منذ أن نفخ الله من روحه في أدم عليه السلام وذلك بشريعة هي القاسم المشترك لكل عقيدة ولكل حكمة على المستوى العالمي، وبمعنى آخر: لو عاد الإسلام إلى أصالته القرآنية، ولو عاد (لاهوت التحرير) إلى أصالة رسالة السيد المسيح بعيداً عن عهود (لاهوت السيطرة)، فان هذه الجبهة العالمية سوف يتحقق لها النصر على هذا العالم الذي يخلو من الروح وهو عالم (وحدانية السوق) " (2)
وهنا يعتقد الامير تشالز، وريث العرش البريطانى الذى يجعله منصبه هذا رئيساً فخرياً لكنيسة انجلترا، "ان بوسع المسيحيين تعلم امور كثيره من المسلمين". وفي خطاب متلفز القاه عام 1993 في جامعة اكسفورد، لحظ تشارلز مآثر الإسلام للحضارة الغربية، حين قال: "يمكن للاسلام إن يعلمنا اليوم طريقة للفهم والعيش في العالم كانت المسيحية هى الخاسرة عندما فقدته. ذلك اننا نجد في جوهر الإسلام محافظته على نظرة متكاملة إلى الكون. فهو يرفض الفصل بين الانسان والطبيعه، وبين الدين والعلوم، وبين العقل والمادة. وقد حافظ على نظرة ميتافيزيقية وموحدة عن انفسنا، وعن العالم من حولنا" (3).
وفي كتابه (الإسلام في الغرب) يعطي (روجيه جارودي) ادلة على عالمية الرسالة الإسلامية وانفتاحها حيث يقول: "ان الاُمّة الإسلامية هي منفتحة ـ بلا تمييز
_________
(1) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى- ص 52
(2) أمريكيا طليعة الإنحطاط- روجيه جارودى-ص32 - 33
(3) لا سكوت بعد -- اليوم - بول فيندلى- ص 55(4/113)
للاصل أو العنصر ـ على كل من يعترف بوحدانية الله وتنزيهه للرسالة الشاملة لكل الانبياء". ويضيف: "ان جدال المسلمين مع اليهود ليس موجهاً ضد رسالة موسى ورسالة الانبياء، بل ضد تأويلاتها المتعصبة، وكذلك فأن جدل المسلمين مع المسيحيين ليس موجهاً ضد رسالة عيسى ولكن ضد الشرك". ثم ينتهي جارودي إلى القول: "وبما ان الإسلام قد تجلى هكذا ـ كما جاء في القرآن ـ بشموليته دون ان يكون مرتبطاً بتقاليد معينة لشعب ما، فقد عرف تألقاً معجزاً، لان اعتناقه لم يكن يعني بالنسبة لرجل مؤمن، قطيعة ولا كفراً: فكل شخص يجد فيه الرسالة التي تلقاها عن انبيائه، بشكلها الاكثر بساطة والاكثر شعبية، وتطبيقها في جميع ميادين الحياة يجعل الله حاضراً في كل امر وفي جيمع العلاقات الاجتماعية: اقتصادية، سياسية، ثقافية (1).
وربما هذا ما حدا بسفير المانيا في المغرب ويلفريد هوفمان ان يعد كتاباً تحت عنوان (الإسلام هو البديل) يطرح فيه الإسلام المنهج الصالح والامثل لانقاذ البشرية من عذاباته. ورغم ان الامر يدخل في اطار حرية العقيدة التي يتغنى الغرب بالدفاع عنها، فان فرانك ايليه مدير ادارة التخطيط السياسي بوزارة الخارجية في بون، رفع تقريراً إلى وزارة الخارجية يصف فيه ان الامر في غاية الخطورة ويتنافى مع الدور الذي يمكن ان يلعبه سفير دولة ديمراطية غربية في دولة اسلامية!
وهكذا فإن العالم العربي والإسلامي يستطيع الانفتاح على الحضارة الإنسانية, وبالمشاركة في صناعتها، والمساهمة في ابداعاتها وان يقف في وجه المد الالغائي الذي يتعرض له، بل انه يستطيع ان يضفي عمقاً روحياً على هذه الحضارة وان يهذب سلوكها، بحيث تكون اكثر انسانية مما هي عليه الآن. ولان الحضارة هي تراكم ثقافات تفرز قيما مشتركة تعيد صياغة حياة الانسان، فان لنا من ثقافتنا ومن قيمتنا ما يؤهلنا للمساهمة في عملية نقل الانسان إلى حقبة حضارية جديدة، وهذا يتطلب أولا, وقبل كل شيء, إعداد عقول نيرة تكون في مستوى هذا التحدي الحضاري. فتاريخ الإنسانية يشهد بان كل التحديات الكبيرة قام بها افراد نذروا أنفسهم لقيم ومبادئ يؤمنون بها ويكافحون من اجلها، ومن اجل تحقيقها فرادى
_________
(1) الإسلام في الغرب - روجيه جارودى ص19(4/114)
وجماعات. قد يكون مثل هؤلاء الأشخاص قلة في مجتمعاتنا، وهم كذلك فعلاً، إلا انهم قادرون، كما حدث في مجتمعات عديدة أخرى، على تغيير مسار التاريخ (1).
وهنا يستقرئ ارنولد تويبني ما يمكن ان يقوله التاريخ بصدد مستقبل الإسلام ثم يصدر حكمه فيقول: "إذا كان للسوابق التاريخية اي معنى عندنا وهي اشعاعات الضوء الوحيدة التي يمكن ان يلقيها على الظلمات التي تكتنف مستقبلنا، فانها تنذر بأن الإسلام قادر على التأثير في المستقبل بأساليب عدة تسمو على فهمنا وادراكنا (2). ويؤكد هذا المعنى (جارودي) في (وعود الإسلام) فيقول: "ما الذي يستطيع الإسلام إن يقدم، ليعدنا للإجابة عن المسؤوليات التي تفرضها قدرة العلم والتقنية على جميع البشر اليوم؟ وما يلبث إن يجيب: إن المشكلة كونيه ولا يمكن للجواب ألا إن يكون على المستوى الكوني. وهكذا تصير مشاركة الإسلام القادمة اكثر من ضرورية، تصير أمراً محتماً لأنها لن تدخل الساحة لكي تعالج هذه الجزئية أو تلك، وإنما لكي تعيد تصميم الحياة البشرية بما يرد إليها قيمتها الحقه ويمنحها هدفاً ومغزى (3).
إن الغاية الأولي والأخيرة للرأسمالية هي النمو المادي وتجميع الثروات بصرف النظر عن الكيفية وعن آلية التوزيع. أما في الإسلام، فإن الغاية من الحياة والرؤية الاقتصادية مختلفتان تمام الاختلاف. لقد أوضحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في دراستها حول الإسلام والرأسمالية والاشتراكية، الرؤية الإسلامية للاقتصاد. وقد أوردت هذه الدراسة: تختلف المفاهيم الإسلامية عن الرأسمالية في أنها تعارض كنز الثروات، وعن الاشتراكية من حيث أنها لا تنكر حقوق الملكية، بما فيها ملكية وسائل الإنتاج. فالمجتمع الإسلامي الصحيح ليس بأي حال من الأحوال حلبة تتصارع فيها المصالح المختلفة وتتناحر، بل إنه مكان تسوده العلاقات المنسجمة التي يمكن تحقيقها والوصول إليها من خلال الإحساس بالمسؤوليات المشتركة. ولا بد لحقوق الأفراد أن تكون متوازنة مع مصالح المجتمع بأكمله علي
_________
(1) موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد (محمد السماك) - خلفية الصراع بين العرب و الغرب ص314
(2) الإسلام والغرب والمستقبل، تعريب نبيل صبحى ص60
(3) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص1،3(4/115)
نحو متساوٍ. فكما قال أحد مشاهير المدراء التنفيذيين الأميركيين ذات مرة، فإنه يعيش بين أحزان الأمس وقلق الغد. أما في الإسلام، فإن من يحكم مصالح المجتمع بأسره هو الصالح العام وليس وول ستريت، أي أن المصلحة العامة هي الغاية من الحكم دون أي إجحاف لحقوق الأفراد الشرعية. وهذا ما تفتقده الولايات المتحدة التي يمتلك 0.5% من سكانها أكثر مما يملكه 90% من الشعب الأميركي من الثروات، في وقت يعتبر 35 مليوناً من الأميركيين فقراء حسب تصنيف الحكومة، وهذا ما يجعل نظامها الاقتصادي متناقضاً مع المبادئ الإسلامية (1).
بناء مشروع نهضوي عربي
يتوقع ان يشهد المستقبل الحضاري للإسلام انتعاشا فعالا لاعتبارات عدة أهمها: القوة الكامنة في الإسلام التي لا يمكن ترويضها أو محوها، ثم الإمكانيات الاقتصادية من مواد خام وأموال وأراض خصبة وصناعات، وهذه -إن أحسن استغلالها- تشكل مصدراً مهما وفعالاً في هذا الانتعاش. أما الإمكانيات البشرية فهي أكثر ما يخيف أعداء الإسلام، خاصة لما قد يحمله هذا الكم البشري الهائل من كفاءات وكوادر يمكن أن تبدع وتنجز إذا ما توفرت لها ظروف الإبداع والإنجاز. وهنا فأن الشعور بالظلم كفيل بتفجير قوة قادرة على المواجهة والتحدي، مع وجوب بذل الجهد لأجل التمسك بالبعد العقدي في كل المجالات. "فالعقيدة هي التي حافظت على ما بقي من استقلالنا وتميزنا وهي مصدر قوتنا وعزتنا". وتمثل استقامة البعد التربوي أهم عامل تجب مراعاته لأجل تدعيم الحفاظ على البعد العقدي، وذلك بإيجاد منظومة تربوية فعالة تهدف إلى تكوين أفراد يؤمنون بالجد والعمل، وتمدهم بقيم وعادات سليمة ومهارات علمية متطورة في مختلف المجالات. ولأجل مواجهة واقع لا يرحم وتحديات دولية لا مكان فيها للضعفاء، لابد من اعتماد سياسة التكتل والتعاون، لأنه ربما لن يجد العرب والمسلمون خيراً من تضامنهم للحاق بركب
_________
(1) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم- القدس العربي- 3/ 2/2003(4/116)
الحضارة ومحاولة التأثير في إعادة صياغة النظام العالمي بما يخدم مبادئهم ومصالح شعوبهم (1).
وقد نظم مركز دراسات الوحدة العربية في الفترة 23 - 26 نيسان/إبريل 2001 في مدينة فاس في المغرب، ندوة "نحو مشروع حضاري نهضوي عربي" وقد شارك فيها حوالي مائة مفكر وباحث من أنحاء عربية واتجاهات وأجيال مختلفة. وقد سعت الندوة الإجابة على سؤالين: هل للعرب مشروع نهضوي انتكس ولا يحتاج إلى أكثر من استئناف أم أن الأمر يتعلق بغياب مشروع من هذا النوع وبالحاجة إلى إنشائه؟ وقد اجمل المجتمعون الأسس والعناصر التي يقوم عليها المشروع النهضوي وهي ستة: الوحدة العربية في مواجهة التجزئة، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، والتنمية المستقلة في مواجهة النمو المشوه والتبعية، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهيمنة الأجنبية والمشروع الصهيوني، والأصالة والتجدد الحضاري في مواجهة التغريب (2).
ومن الواضح ان هذه المبادئ الستة التى اجملتها الندوة كلها تصب في خانه واحدة وهى تأتى في اطار المواجهة مع الهجمة الصليبية الأمريكية الحالية التى تعمل وتخطط لعدم تمكين امتنا من تحقيق وحدتها واستقلالها الفعلى لتتمكن من استغلال مواردها في بناء مشروعها الحضارى المستقل والذي يمكن ان يساهم بايجابية في تخليص العالم من هذا الكابوس الأمريكي الظالم والمدمر.
كيف نواجه الهمجية الدونية (3)
إن العرب والمسلمين احوج من غيرهم إلى اليقضة والانتباه إلى ما يحاك ضدهم، وقد اخترقتهم الهيمنة الاوربية اولاً والأمريكية حالياً بشعارات تجميلية ومغالطات تنميقية. فبأسم التحرير يتم التدمير والتعهير، وباسم الانسانية يتم الحصار والتجويع والتركيع للنساء والاطفال والشيوخ، وباسم حقوق الانسان تتم ابادة
_________
(1) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح
(2) نحو مشروع حضاري نهضوي عربي - تأليف عبد العزيز الدوري وآخرون -الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
(3) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على(4/117)
الشعوب، وباسم الديمقراطية يتم رفع لواء المحتل الصهيوني بعنصريته الفجة! كل هذا الافتراء وازدواجية المعايير في التعامل واختلاق الاسباب لنسف البنية الحيوية للشعوب، باتت امراً سافراً إلى درجة ان الجماهير تعودت هذا القبح، وتبدو وكأنها استكانت له. ولكن الفوران الداخلي سيطفو، وسيرفض الانسان هذا الهدر لآدميته في لحظة تاريخية حاسمة إذا ما تعلم من التاريخ. فالقناعة بإمكان التحول من الرضوخ إلى المقاومة، من الشرذمة إلى الوحدة، من التواكل إلى الارادة، من التبعية إلى الاستقلال، هي المحرك للتغيير. ان لحظة التغيير ليست لحظة سحرية، بل هى لحظة وعي جماعي يدرك آليات الاستعمار وميكانزيمات قهر الآخر، ويبدع مواجهة مناسبة تتلائم مع نوعية الهجمة وضراوتها. فليس يكفي ان نعرف اننا مقهورون: علينا ان نعرف كيف تم قهرنا. وهذا القهر ليس مسألة بسيطة. فهو ليس انتصاراً عسكرياً أو اختراقاً اقتصادياً فحسب، بل هو صراع حضارى شامل (1).
ان العرب يدفعون الآن فيتدافعون خارج التاريخ، ليس فقط لأن وطنهم في زمن تصفية الاستعمار في اشكاله كافة، والتحرر الوطني للشعوب في كل مكان، هو الوطن الوحيد الذي ينشأ فيه ابتداء ويستقر في قلبه استعمار استيطاني، عنصري، ظلامي، توسعي، اذلالي، فاشي النزعة، يعرف كل عربي حي في قرارة نفسه ان هدفه النهائي هو بسط سيطرته العسكرية والسياسية والاقتصادية على سائر البلدان العربية، وتنصيب نفسه سيداً عليها يستغل خيراتها ويحطم طموحات شعوبها، ويرى كل عربي ذي عينين ان كل عقد من العقود الخمسة الماضية، قد اتى لتلك المغامرة الاستعمارية الفريدة بنصر جديد، وجعلها ادنى إلى تحقيق كامل اهدافها، لا، ليس ذلك وحده هو الذي يخرج العرب من المجرى العام للتاريخ: فالتاريخ قد يصبر على قوم في هزائمهم، وقد يمد يده لمن يتخلف عن الركب، اما الذي لا يتسامح التاريخ فيه ابداً، فهو ان يدير القوم ظهورهم له ويمضوا متباعدين عنه، وذلك تحديداً ما يفعله العرب (2).
_________
(1) فتح أمريكا - مسألة الاخر- ترفيتان تودوروف- ترجمة بشير السباعي ص10
(2) خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- ص 6 - 7 - مكتبة مدبولي - ط1 1993(4/118)
وفي كتابه "صهيونية الخزر وصراع الحضارات" يعرض الاستاذ/وليد محمد على لخطة لمواجهة الهجمة الدونية الأمريكية الصهيونية حيث يقول: "أن كسب المعركة في مواجهة الهمجية الدونية، لا يتوقف على قناعتنا الراسخة أننا أبناء حضارة إنسانية منفتحة على غيرها من الحضارات .. تدعو إلى التلاقح والحوار الإنساني .. ولا تتوقف على قناعتنا الراسخة أننا أصحاب حق ولا على إقناع الآخرين بذلك الحق. أننا نستطيع كسب المعركة إذا ما استطعنا بناء عوامل الصمود الحقيقية لمواجهة الهجمة، وعملنا تراكميا لبناء مقومات المواجهة وتحقيق النصر. تحقيق ذلك يحتاج إلى حوار مسؤول ومساهمات جادة من قبل من يرون أنفسهم معنيون بحاضر الأمة ومستقبلها. وهذه عناوين أساسيه نعتقد أنها ستفيد في التأشير إلى ما نراه يساهم في خدمة المعركة.
أن الرد على الهجوم الدوني المتوحش الذي قلب كل المعايير القيمة والأخلاقية الإنسانية الذي يسعى لتسطيح كل شيء من الفكر إلى العمل الإنتاجي إلى الإبداع .. فيصبح التعصب لفريق رياضي كفيلاً بتحويل جمهور نهاية القرن العشرين إلى متعصبين، لا يتورعون عن تدمير كل شيء تعصباً للفريق ... والرياضة أصبحت سلعة تجاريه، بدل أن تكون وسيلة من وسائل بناء الجسم والعقل (العقل السليم في الجسم السليم). يصبح الرياضيون سلعة تباع وتشترى في الأسواق ويعرضون في البورصات العالمية. فيغدوا الاهتمام ببناء فريق كرة القدم له الأولويه على بناء مصنع، وتنشئة لاعب كره أهم من عالم فيزياء أو رياضيات، ودخل راقصه (هز البطن) يتجاوز دخل أساتذة جامعه بأكملها .. وفتاة الموديل يتجاوز دخلها دخل عمال ومهندسي مصنع كبير .. الخ (1).
أن الرد على هذا الهجوم الدوني المتوحش لا يمكن أن يكون إذا ما أردنا له الانتصار إلا رداً حضارياً، أولا وقبل كل شيء. رد نكرس عبره انتماءنا إلى العروبة الحضارية الطاردة لكل تعصب عنصري أو انغلاق .. نؤكد التزامنا بحضارتنا الإسلاميه (مسلمين ومسيحيين وسواهم من أبناء الأمة .. فإذا كان الإسلام للمسلمين عقيدة وحضاره وقيما وتراثا، فهو لغير المسلمين حضارة وقيم وتراث)
_________
(1) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص231(4/119)
القائمة على اخوة الإنسان للإنسان .. لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا إكراه في الدين. فحضارتنا العربية الإسلامية حضارة منفتحة لا تعرف الانغلاق على الذات وتدعو للانفتاح على الآخر (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). حضارتنا قادرة على الامتصاص الإيجابي لكل آليات التقدم والتطور والتلاقح الثقافي والحضاري مع الآخرين على أساس احترام خصوصيات كل شعب وقوم بهدف تعاون الحضارات لا تصادمها، تعاون يؤدي إلى إنقاذ البشرية من مصائب ومكائد الوحشية الدونية (1).
كما ان للعلم دور كبير في بناء الحضارة وفي الديانة الإسلاميه دعوة ملحه للاستزاده من العلم واكتسابه. يقول تعالى في محكم كتابه الكريم (علم الإنسان ما لم يعلم) (وقل ربي زدني علما) وجاء على لسان رسولنا الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم) إلحاح على طلب العلم مهما كان مصدره وكانت الصعاب في سبيل الحصول عليه (اطلبوا العلم ولو في الصين). ويربط الإسلام بين العلم النظري والتطبيق العلمي يقول تعالى (إنا لا نضيع اجر من احسن عملا) ويقول الرسول الأعظم (أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه). وقد كان للعرب والمسلمين إنجازات علمية ضخمه، قاموا بها وأبدعوها عندما كانوا متمثلين للجوهر الحضاري لديانتهم الحنيفه، حيث أن كل الوقائع تؤكد زيف الادعاء القائل (أن العلم صناعة غريبة) وهي مقولة لا يرددها للآسف المستعمرون ومنظروهم وحدهم، بل وبعض أبناء امتنا من المغترين المخترقين من قبل أفكار الهمجية الدونية. ذلك لان الواقع الراهن يعطي مؤشرات في هذا الاتجاه (العلم صناعة غريبة) ومن مهمتنا الملحة إذا أردنا أن نكسب المعركة .. العمل على الخروج من الوضع الراهن، وبناء ما ينسجم مع التاريخ والمصلحة الإنسانية.
لقد عرف عصرنا الراهن اقواماً كثيرة، هامشية قليلة العدد، كانت تقف على اطراف العالم في الامريكتين واستراليا، فاجأتها الاحداث بما لا تطيق فانقرضت أو كادت: بعضها لم يعرف من حضارة الغرب سوى الخمر فغرق فيها، وبعض آخر ظن أنه يستطيع ان يطرد الشياطين الوافدة برقصة الدراويش طوال الليل وممارسة
_________
(1) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص232(4/120)
الطقوس السحرية آناء النهار، وبعض ثالث توهم خلاصه في التفاني في خدمة السادة الجدد ففقد نفسه وأرضه، وثمة آخرون انطلقوا على احصنتهم الشهباء، على رؤوسهم الريش الابيض أو الاحمر واصواتهم تجلجل بصيحات الحرب، يحاولون اختراق صفوف العدو الرابض في انتظارهم، لكن لم تغنهم الشجاعة الشخصية الفائقة عما تسلح به الغزاة من اسباب العلم والتنظيم والتخطيط والتعاون المنضبط. (1)
فمن غير الجائز أن يبقى الكيان الصهيوني (الثكنة العسكرية المتقدمة للولايات المتحدة) متقدماً علمياً على امتنا بكاملها. رغم كل ما لامتنا من تاريخ وحضارة ومن إمكانيات بشرية وطبيعية. (يقول نتنياهو) رئيس وزراء العدو الصهيوني: "إنني متفائل جداً لأنني أومن بأن في استطاعة (دولة إسرائيل) خلال الأعوام القريبة المقبلة، أن تزيد في قوتها أضعافاً مضاعفة في العالم ما بعد الصناعي الذي نلجه، توشك (إسرائيل) أن تتحول إلى عنصر جبار، شديد الأهمية، لأننا متأهبون لاقتصاد المعلومات اكثر من أية دولة أخرى في العالم. أن عدد العلماء نسبة إلى السكان في البلد هو الأعلى في العالم، والمؤسسة الأمنية تنتج سنوياً آلافاً من الشبان الذين اكتسبوا خبرة فريدة من نوعها في مجال نظم المعلومات والحاسبات الالكترونيه والمحركات والأجهزة الآلية التي تقوم بأعمال الإنسان". طبعاً لم يذكر (نتنياهو) أن نسبة عاليه جداً من هؤلاء العلماء قد قدموا إلى الكيان الصهيوني عبر تهجيرهم من بلدانهم ودفعهم للاستيطان في فلسطين خدمة للمشروع (الأمريكي الصهيوني) " (2).
وعلى الطرف الآخر في عالمنا العربي تعيش شعوبنا نسبه عالية من الامية باختلاف انواعها ولا يتجاوز انتاجنا الثقافى والعلمي مما ينشر ما تنشسره دوله صغيره مثل اليونان، وحتى اسهاماتنا العلمية معدومه وانتاجنا الثقافي والفكرى وحتى العلمي تغلب عليه الشعوذة والنقل والتقليد واجترار الماضى والتغنى على الاطلال، ولكن بالرغم من ذلك فأننا قادرون بالتأكيد على الإبداع العلمي، وعلى
_________
(1) خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- ص 6 - 7 - مكتبة مدبولي - ط1 1993
(2) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص234(4/121)
جسر الهوة الثقافية والتقنية والمعلوماتية التي تفصلنا عن الدول المتقدمة، فهناك الآلاف من كبار العلماء والمخترعين والمبدعين من أبناء امتنا موجودون في الكثير من دول العالم، ويحتلون العديد من المفاصل في عالم الثقافة والمعلوماتية وغيرها من حقول العلم. وهم مستعدون إلى العودة إلى وطنهم في حال توفر المناخات المناسبة. وكذلك يوجد في وطننا العربي عشرات الآلاف من العقول المبدعة والمعطاءة. وبالأساس فان مسألة توفر الكفاءات العالية العربية سواء في الوطن أو دول المهجر ليست بالقضية المطروحة أمامنا. بل أن القضية هي كيف يمكننا تأسيس مشروعنا النهضوي العربي الذي يستقطب كل الكفاءات.
ولذلك كما نرى عدة شروط أبرزها:
أولاً: حسم رؤيتنا لطبيعة الصراع مع العدو الأمريكي الصهيوني، كونه صراعاً حضارياً شاملاً وهو مع الكيان الصهيوني صراع وجود.
ثانياً: الاقتناع الراسخ لدى كل المنتمين للمشروع النهضوي الحضاري للامه .. أن تخلفنا الراهن، هو أمر طارئ وغير طبيعي، وان حضارتنا العربية الإسلامية (عندما كنا متمسكين بها وقادرين على تمثلها بشكل صحيح) مكنتنا من أن نكون في قمة الحضارة العالمية.
ثالثاً: أن يصبح هذا المشروع هو مشروع جماهير الأمة صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والنهضة والتقدم. وهذا لا يتأتى إلا في إطار تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. والفصل بين المؤسسات، والإقرار بالحريات الأساسية، التي كان الإسلام من مصادرها الاساسية. لان ذلك يؤدي إلى إفساح المجال أمام الطاقات المبدعة ويفجر الإبداع المتجدد ويساهم في كسر حلقة التخلف الذي نعيش فيه.
رابعاً: أن تعود أوطاننا إلى أبنائها بشكل فعلي وملموس ليعود أبناؤها إليها (إلى أوطانهم). فامتنا ونتيجة لدوامة التخلف والتجزئة والتهويد، أصبحت أمة طاردة لأبنائها الذين اصبحوا يضطرون إلى هجرها بحثاً عن العلم والوظيفة وتحقيق الذات، وأحياناً بحثاً عن العلاج ناهيك عن الحرية.(4/122)
خامساً: إعطاء الاهتمام اللازم لمراكز البحوث والدراسات التي تمكن العلماء والخبراء من العمل في تخصصاتهم، والإسهام في تطوير مجتمعاتهم.
سادساً: أن تكون حكوماتنا وأحزابنا ومنظمات المجتمع الأهلي كلها أدوات لتحقيق أهداف الأمة لا أهداف بحد ذاتها. هذا يساعدنا على الخروج من حالة القبلية (1) التي نعيش في دوامتها ويعيدنا إلى وضعنا الطبيعي .. فقد كانت الخلافة الراشدة أول نظام حكم ديمقراطي حقيقي في التاريخ (الحكم بالمبايعة والقيادة بالشورى). وعندما تخلى المسلمون عنها وصلنا إلى هذا الوضع المتأزم، الذي يتحمل مسئوليته القادة والسياسيين والمفكرين، فانهم أولاً وأخيراً حجر الرحى، ومركز الدائرة، وملتقى تقاطع الخطوط، ونقطة الزاوية فيما نحن فيه، من العلاقة المتأزمة بين أقطارنا، وبين شعوبنا وحكامنا، وبين تياراتنا الفكرية والسياسية.
نعم أن الكل مسؤول والكبار قبل الصغار والعقلية الشخصانية للحكام أولاً وغياب المشورة وغياب الديمقراطية وغياب التعددية في الرأي ومحاولة الزعامات فرض الرأي الواحد باللجوء إلى اسهل الطرق .. إلى أجهزة القهر ووسائل القمع. هذه البدائية في العمل السياسي هي السبب والداء والمرض الكامن في كل الدول المتخلفه .. إنها الطفولة والانفعالية والتهافت على الأخذ قبل العطاء، ومحاولة رؤية كل شيء من خلال الأنا وليس من خلال نحن، من خلال الواحد وليس الكل. وللاسف فإن كل الدول العربية والإسلامية مصابه بهذا الداء الوبيل بدرجات مختلفة .. والإسلام أبداً ليس مسؤولاً عن هذا الداء الوبيل. فأول ما يأمر به القرآن كل حاكم هو ألا يطيع هواه وألا يركن إلى نفسه وان يطلب العدالة بلا تحيز وان حملته هذه العدالة على إنصاف من يكره ومعاقبة من يحب وان يأخذ بالمشورة وان يستمع إلى رأي الاخر (2).
_________
(1) يرى احدى الباحثين ان "التفكك القومي للعرب في عصرنا الراهن، في مواجهة الغزو الصهيوني المتسارع الخطر، ذلك التفكك الذي يكاد يأخذ طابع الانتحار الجماعي، يعود إلى تغلب الصحراء على المدن في اللحظة العربية الراهنة، الصحراء التي تقذف المدن تباعاً، ليس فقط بالقيم الجديدة المرتبطة بالدخول "الريعية" ولكن أيضاً بالقيم القديمة القبلية الأفق في كل اتجاه ينبسط اليه البصر". خروج العرب من التاريخ- د. فوزي منصور- ترجمة ظريف عبد الله و كمال السيد- ص 10.
(2) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص36(4/123)
سابعاً: الإقرار بفطرة الاختلاف وبديهية التعددية. فالإقرار بالاختلاف والتعددية هو المدخل الطبيعي لإبداع الوسائل التي تمكننا من مواجهة تحديات العصر وصناعة المستقبل. ومع الآخذ بعين الاعتبار أن لا فائدة من التعددية إذا لم تمكنا من حشد الجهود في مواجهة الغزو الأميركي الصهيوني، ولا فائدة من أي تيار إلا بانخراط دعاته وأنصاره في خضم المعركة المصيريه.
ثامناً: العلاقة الجدلية بين الوحدة والتحرير والتقدم. لقد ارتكز الغرب الاستعماري على حالة التخلف التي كانت تعيش فيها امتنا (بفعل عوامل مركبه لا مجال للخوض فيها هنا) ليحتل بلادنا، ويجزء حتى الوحدات الطبيعية فيها (سوريا، وادي النيل، المغرب العربي، شبه جزيرة العرب والخليج اليمن)، وعمل على تهويد القلب الذي يربط الجناحين الآسيوي والإفريقي للوطن العربي (فلسطين). فكان الارتكاز إلى التخلف والتجزئة لإقامة ثكنة عسكرية متقدمة للغرب وعمل على تكريسها، فتشكل ثالوث معاد يساند بعضه بعضاً (التخلف، التجزئة، التهويد). وقد اصبح من الواضح ومن خلال التجربة العلمية أيضاً، أن لا تقدم ممكن لأي قطر من الأقطار العربية .. إلا عبر خطوات وحدوية تراكمية، وهذه الخطوات لم تعد ممكنة بدون عملية تقدم شاملة تؤدي إلى وعي عميق بأهمية الإقدام على تلك الخطوات الوحدوية.
وهذان الأمران الوحدة والتقدم غير واردين بدون التصدي للغرب الاستعماري المتمثل الآن بالولايات المتحدة - وقاعدته المتقدمة الكيان الصهيوني. ولقد أثبتت الأمة قدرة كبيره على هذا التصدي وعلى دور التصدي في حشد طاقاتها (تجربة حرب تشرين/أكتوبر 1973 - المقاومة الفلسطينية والانتفاضة الشعبية - المقاومة الإسلاميه والوطنية في لبنان). أن علاقة الوحدة والتقدم والتحرر علاقة مثلت جدلي سبب ونتيجة، أن كلاً منها سبب للآخر ونتيجة له في آن واحد. فالتحرير سيكون نتيجة للوحدة والتقدم وهو أساسي لهما، وكذلك الوحدة لن تكون بدون تقدم. والتحرير والتقدم لن يكتب له النجاح بدون خطوات على طريق الوحدة والتحرير. ثالوث لا يمكن له أن يتحقق إلا بالتوازي وبالتراكم المترابط.
تاسعاً: أن يستند المشروع النهضوي لامتنا على دائرة تحالفيه أولية (دائرة الشعوب الإسلامية) التي تجمع ولا تفرق، تقر بالخصوصية في إطار الوحدة. فلكل(4/124)
الشعوب الإسلامية مصلحة مشتركة في التصدي للعدوان الدوني المتوحش، واقتلاع الكيان الصهيوني الذي يسيطر على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين (القدس التي باركها وما حولها الباري عز وجل) ويريدون تدميرها نهائيا كرمز للقضاء المبرم على الإسلام وحضارته الإنسانية. ومرة اخرى أقول: أن اتحادنا في عصبة واحده ويد واحده هو أقوى أسلحتنا. بل أن عزل إيران عن العصبة الإسلاميه هو تآمر أمريكي غربي، وتفتيت العصبة الإسلاميه كان دائماً هدفاً عزيزاً لقوى الاستعمار الغربي، وخلق الأعداء للإسلام من داخله كان دائماً سياستهم، وقد جاء أوان رأب الصدع وجمع الصف (1).
عاشراً: إقامة تحالف حقيقي قائم على الاحترام المتبادل والمصالح الواحدة مع كل الشعوب المستضعفة في الأرض، والتي تتعرض لكوابيس الدون المتوحشين مصاصي دماء الشعوب. فهناك ضرورة للتعاون بين دول الشمال والجنوب لغرض تدعيم السلم والتسامح ابتداء بتخلي دول الشمال عن روح الاستعلاء ونظرة العداء تجاه أبناء المستعمرات القديمة وفتح مجال التعاون الاقتصادي والثقافي بينهما. كما ان هناك ضرورة تعزيز المنظومة التربوية بالقيم الإنسانية التي توجه الأجيال الصاعدة نحو الحوار وحسن الاستماع للآخر واحترامه والقبول بالاختلاف الحضاري والتمايز الثقافي، وهو في ذلك لا فرق بين الدول الغربية والدول الإسلامية لأن الوقوف في وجه العولمة الأميركية لا يمكن أن تحققه الدول الأوروبية بمفردها، إذ لابد لها من دعم إستراتيجي واقتصادي وبشري، وهو ما يمكن العثور عليه في دول جنوب البحر المتوسط المتمثلة في الدول العربية. وبناء على ذلك فأنه يمكن إنشاء قوة متوسطية يحسب لها حساب بإمكانها أن تفرض على أميركا احترام حقوق الشعوب ومميزاتهم ومعتقداتهم، فتكون -أي هذه القوة- الضمانة من أجل الرخاء ونشر الأمن والوئام بين شعوب وحضارات البحر المتوسط (2).
حادي عشر: إعادة العلاقة بين الإسلام والمسيحية، إلى صورتها الحقيقية التي تم تشويهها وتكسيرها بفعل الاختراق الصهيوني. فكلا الديانتين الإسلامية
_________
(1) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص50
(2) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح(4/125)
والمسيحية تؤمنان بالله الواحد الرحيم المحب للإنسان، عكس ديانة يهوه اله الحرب اله القبيلة الحاقد على الإنسان على الوجود برمته.
ثاني عشر: فتح حوار مع كل البلدان المتقدمة المستهدفة من قبل الهجوم (الأميركي الصهيوني) والتي بدأت تتحسس أخطاره عليها راهناً ومستقبلاً - دول أوروبا- روسيا الصين اليابان. فللجميع مصلحة في إطلاق تعاون مستمر في مواجهة الهجوم الدوني المتوحش ... الذي يحتاج الانتصار عليه إلى توحيد جهود كافة المتضررين منه.
وليس من باب التكرار على نقطة مركزيه محوريه لكل ما سبق ذكره هي أن الوحشية الدونية لا يمكن الحد من غوليتها (نسبة إلى الغول) إلا عبر الردع المركب من قبل امتنا التي تشكل رأس الحربة في المواجهة الشاملة. فقد أصبح ملحاً تشكيل قوة ردع حقيقية، تحد من السطوة العسكرية للعدو من ناحية، ومن ناحية ثانية بناء مجتمع مقاوم على مختلف الصعد، يأخذ على عاتقه مهمة ادامة الاشتباك مع العدو والحاق الاذى به حيث يمكن ذلك. فلن يسمح الأعداء بأن نتقدم أو نوحد صفوفنا بطيب خاطرهم، نعم أنها معركة طويلة جداً ومكلفة جداً ولكن لا خيار أمامنا .. أمام أمة الشهداء والشهادة الأمة حاملة الخير والبركة للبشرية جمعاء (1).
"لقد كشف احتلال الأمريكان للعراق الأوراق وأظهر للأمة المسلمة أن طريق الخلاص لن يكون في اجتماعات أو قرارات (مجلس الأمن!) أو (الأمم المتحدة!) وانما في مقاومة الغزاة وبذل التضحيات فلن يدافع عنا أحد ان لم ندافع عن أنفسنا، ولن تعود لنا كرامتنا المهدرة ان لم نستعن بالله ونستعيدها بأنفسنا .. اذن فسقوط تلك الأقنعة كان ضروريا لايقاظ أمتنا الجريحة التى خدرت طويلاً بشعارات زائفة وألاعيب متقنة. لقد انتهى عهد الخداع وأصبح الصراع واضحاً ومكشوفاً فهو صراع أديان قبل أن يكون صراع أوطان ... وهو صراع مقدسات قبل أن يكون صراع على الثروات ... (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا) ... ولقد كتب
_________
(1) صهيونية الخزر وصراع الحضارات - وليد محمد على ص238(4/126)
علينا القتال وهو كره لنا، فما سعينا له وما أقدمنا عليه الا بعد أن تمكنوا من رقابنا وعاثوا في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين " (1).
وبما أن الإسلام مجّد المقاومة والجهاد ورفع من مكانة الشهيد والشهادة، فإن ثقافة المقاومة في المجتمعات الإسلامية ثقافة راسخة رسوخ العقيدة فيها، ورغم ضعف الإمكانيات المادية فإن المقاومة تتميز بالاستمرارية وحتمية النصر في النهاية. ومن هذا المنطلق يمكن التفريق بين أن تهزم عدوك بالقوة، وبين أن تمتلك عناصر المقاومة وتهزمه بقوة البقاء والتحمل. كما أن استمرار الحضارة الإسلامية أكثر من خمسة عشر قرناً وبقاءها في وقت ظهرت فيه حضارات أخرى واندثرت، دليل على قوة هذه الحضارة وحركية هذه الأمة (2). http://www.aljazeera.net/NR/exeres/ فنحن أمة قاتلت خصومها في معظم الأحيان وهي الأقل عدة وعدداً، ومع ذلك خرجت منتصرة في معظم الأحيان. كذلك وعندما نهزم كانت الخيانة الطعنة الغادرة التي تجىء بأيدي أبناء جلدتنا أنفسهم هي التي تهزمنا. لقد أخرجتنا الخيانة من الأندلس وفتحت الطريق أمام خصوم هذا الدين لكي يذبحوا أمة جاوزت مليونين واربع مائة الألف عدداً، لقد أرغمتنا الخيانة على مغادرة الفردوس المفقود، ولم تكن هذه هي المرة الأولى والاخيره في تاريخ الإسلام والمسلمين .. لقد تكرر المشهد كثيراً ولن يتسع المجال لاستعراض فصوله بل حتى التأشير عليها .. ويكفي إن نتذكر إن الخيانة أسقطت الخلافة العثمانية وأخرجتنا من الجانب الآخر من أوربة الجانب الشرقي .. ومكنت الغرب المستعمر من الإمساك برقابنا وفتحت الطريق لشذاذ الآفاق لكي يقيموا دولتهم المغتصبة في فلسطين (3).
وما لم تتوحد القيادات والقوى الشريفة المتبقية في الساحة عبر اللحظات الراهنة لكي تجنب البشرية هذا المصير المفجع، فان السرطان الأمريكي سيمضي لافتراس العالم كله .. القيم النبيلة المتبقية في هذا العالم بعبارة أدق، لكي يفرض
_________
(1) الكابوس الأمريكي وحلم الخلاص - محب الصالحين - http://www.almotmaiz.net/vb/showthread.php?t=9872
(2) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح
(3) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص169(4/127)
نموذجه المادي الحسي السيئ بمثلثة المعروف: المصنع، المبغى، والسوبر ماركت (1). اننا نعتقد أن لنا دوراً كبيراً فيما يعد على مسرح الحوادث الآن، وانه نفس الدور الذي كان لنا في أيام التتار وفي أيام الصليبيين، ولكن الصليبية القادمة هي صليبية يهوديه لا علاقة لها بصليب ولا بمسيح .. وانما مرادها الوحيد هو السيطرة على العالم القديم بمسميات دينيه توراتيه كاذبه (2). أننا لسنا وحدنا في النهاية .. فلله سبحانه وتعالى طرف خفي في الصراع، فالدين المستهدف هو دينه، ولكن هذا لا يعفينا من المسؤولية ولا يخلى طرفنا من واجب الاستعداد واخذ ألاهبة. فالتواكل والتخاذل والركون إلى الظالمين والإخلاد إلى الدنيا، ليست من أخلاق المسلم .. والله لا ينصر إلا من ينصره .. وهو القائل في قرآنه: (ولينصرن الله من ينصره أن الله لقوى عزيز) 4. - الحج. فلنصر الله شرط هو الانتصار لدين الله ولا بد أن نوفيه. وانا لموفون به بإذن الله (3).
وهنا فاننا كمسلمين لا نراهن على هزيمة الغرب عسكرياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً، وانما نراهن على الهزيمة الثقافية والحضارية للغرب أمام ثقافة الإسلام الشاملة وحضارته الإنسانية (4). فالسلاح وحده لا يستطيع أن يصنع نصراً حضارياً .. وهل صنع التتار شيئاً وهم الذين انتصروا على المسلمين ثم دخلوا في الإسلام رغم انتصارهم .. أن الحكاية اكبر مما يتصور الذين خططوا لها. إننا نقف على مشارف منعطف تاريخي خطير .. أن الكارثة تهدد الكل. وما من دولة من دول المواجهة إلا وستصاب في أراضها واقتصادها وابنائها واستقلالها، إذا اخطأ أولو الأمر فيها حساباتهم (5). فاعداءنا يرون انهم يعيشون مرحلة انتصار على المستويين الدولى والاقليمى. واننا كأمه عربية اسلامية قد هزمنا وخسرنا الاصدقاء .. ولابد من استكمال هزيمتنا في مختلف المناحى واخضاع امتنا بالكامل .. كخطوة مفصلية على طريق سحقنا بكل ما تحمله كلمة سحق من معنى. وإذا استطاعت شعوب الشرق
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص181
(2) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص136
(3) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص60
(4) الإسلام .. والغرب .. وإمكانية الحوار -ابراهيم محمد جواد
(5) اسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص27(4/128)
الأوسط أن تطرح إحساسها بالظلم وتسوي خلافاتها وتعمل على تكاتف طاقاتها ومواهبها ومواردها لتحقيق أهداف نهضوية مشتركة، فسوف تستطيع من جديد أن تعيد الشرق الأوسط إلى ما كان عليه في الأزمان الغابرة من تفوق وازدهار ومركز رئيسي للحضارة .. والاختيار بأيدي هذه الشعوب (1).
_________
(1) أين الخطأ؟ .. التأثير الغربي واستجابة المسلمين- برنارد لويس- ترجمة: محمد عناني-تقديم ودراسة: رؤوف عباس- القاهرة: دار سطور، 2003(4/129)
خاتمة
لم يكن اختيارنا لعنوان الكتاب "الحملة الصليبية على العالم الإسلامى والعالم" يهدف فقط لتسليط الضوء على الابعاد الدينية لسياسة بوش تجاه المنطقة العربية والإسلامية والتى وصفها بالحرب الصليبية، بل كان محاولة لكشف الرؤية الدينية التى سيطرت على تصرفات أمريكا تجاه العالم منذ نشأتها وحتى الآن حيث لم تكن حملة بوش الاخيره الا محطه من المحطات الكثيرة التى حاولنا قدر الامكان عرض بعضها، واذا كنا قد وضعنا "حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي" كعنوان للجزء الثاني، فإن مرد ذلك انها كانت اكثر المحطات وضوحاُ في توجهاتها وخلفياتها الدينية، واكثرها دموية. وهذا لا يعنى ان هذا النهج سيتوقف في القريب العاجل عند محطة بوش، بل سيستمر حتى يفوق العالم من سكرته ويضع الخطط لمواجهة هذا النهج وطريقة التفكير العدمية التى ستقود البشرية إلى كارثة لا يعلم مداها الا الله.
فنهج وسياسة بوش ما هو الا استمرار لنفس الاسس وطريقة التفكير ومنظومة القيم التى حكمت أمريكا ولا زالت وستبقى لفتره ليست بالقصيره ان لم يتحد العالم ويتصدى لهذا الفكر. فبوش لم يكن الا عنوان بارز لهذا النمط من التفكير العدمى الذى جر ويلات كثيره على العالم، والتى جعلت العالم غير مستعدّ لرئيس آخر من الحزب الجمهوري المتطرّف .. خصوصاً بعد أسوأ رئيس مر على تاريخ أمريكا.
اعلم ان كلامنا كان قاسياً على الأمريكيين، ولكن أمام ضخامة الخطر كان علينا أن نرد برفض واضح، إذ إنه لا يمكن أن نوقظ الناس وننبههم لأن يدركوا هذه الأمور بالهمس في آذانهم. لقد حاول هذا الكتاب أن يشرح ويوضح خطورة الرؤى الدينية الاحادية المغلقه التي تعمل في كل مكان لإلغاء الحضارات الأخرى لاخضاعها لنمط معين من التفكير، واجبارها على الاستسلام أو الموت لتلك القدرية المحتومه. ولكن التاريخ علمنا بان هذا النوع من الرؤى بالرغم مما يسببه من دمار وفوضى لابد ان يهزم امام ارادة الخير والمحبة والحق. فمنذ زمن حذرنا الفيلسوف الراحل جان(4/130)
ماري بنوا، من أن نغفل ونرضى بوضعنا بحيث نصبح «مستهلكين متخمين ومنتجين مستغَلين ومجاملين في وقت واحد»، لقد أوصانا بالمقاومة وألا ننخدع بواقع العالم.
علينا أن نبعد هذه القدرية العدمية وأن ندعو الولايات المتحدة نفسها لإعادة تعريف المصطلحات وأن نعلمها احترام الآخرين، وإن لم تستجب لنا علينا بالرد .. لنساعد الأمريكيين .. ولنساعد أنفسنا في الوقت ذاته في رفض تحجر العالم وانغلاقه في ظلام رؤى احادية عدمية قاتله.
لقد تحدتث كثيرا في هذا الكتاب عن تاريخ الارهاب والغزو الامريكى، وكنت اتمنى ان يسمح سياق الكتاب للحديث عن تاريخ امريكى اخر مبدع ومخترع ومكتشف ومغامر، وصل إلى الفضاء واعماق البحار ومنح البشرية منجزات عظيمه لا ينكرها الا جاحد. ساهمت ولازالت في تقدم البشرية وتطورها وازدهارها، ولكن هذا الارث العظيم من الانجازات الأمريكية هو الوجه الاخر لأمريكا وعظمتها وجلالها، للاسف شوهته افكار عدمية متعصبه عنصرية، سخرت هذا الانجازات العظيمه لخدمه اهداف انانية طفيليه على حساب شعوب وحضارات اخرى كانت لها ارثها الحضارى الذى الهم البشرية جمعاء، والذى تحاول أمريكا سحقه والحاقه بمشروعها الاحادى الذى لا يعترف بالتعدد والتنوع أو الحوار مع الاخر، واختصر العالم إلى فسطاطين خير وشر .. معنا أو ضدنا كما جاء على لسان بوش.
باراك أوباما وجرأة الأمل
جرأة الأمل هو الكتاب الثاني لباراك اوباما نشر في عام 2006، أما كتابه الأول فكان عنوانه (احلام من أبي (وفيه يرسم صورة شاب مشغول باسئلة كبرى عن الانتماء والهوية. في (جرأة الأمل) زحام شديد للأفكار يطرح من خلاله اوباما رؤى متعددة لجوانب الحياة الأمريكية وعلاقة الولايات المتحدة بالعالم الخارجي ودورها الذي يجب ان تنوء به لتحظى بالاحترام الذي حققته في الايام السالفة عندما كان يرأسها رؤساء حكماء صعدوا بسمعتها نحو القمة على العكس مما تسبب به اخرون كـ (بوش) في اهدار مصداقيتها ومقبوليتها لدى دول العالم.(4/131)
واذا كانت كثير من دول العالم وشعوبه تمنت الفوز لاوباما لاسباب كثيره -وانا منهم- لما يحمله وصول اسود من اصول اسلامية للرئاسة من انقلاب غير عادى في الحياة الأمريكية، فانه وحسب اعتقادى ومن خلال دراستى للعقلية الأمريكية والتى القينا عليها بعض الضوء، فان حلم تمكن اوباما من تغيير السياسة الأمريكية امر صعب وشاق ويصعب حدوثه دفعه واحده وبدون تعاون كافة الشعوب والدول التى يعنيها تصحيح مسار الامبراطورية الأمريكية.
واذا كان بوش قد غاذر موقعه في البيت الابيض بعد ولايتين أسوأ من بعضهما، فان ذلك لا يعنى ان هذا الكابوس سينتهى بتغيير الوجوه، لان التعويل على فوز اوباما يعنى اننا لم نعى جيدا طبيعة المجتمع الامريكى وطبيعة القيم والقوى المسيطرة التى تحكمه. فمن خلال ما عرضناه في هذا الكتاب ومدى تسلط الانجلوسكسكسون البيض المتديينين WASP على الحياه الأمريكية ومفاصلها (السياسة، والاقتصاد، والسينما والمجتمع) سواء نتيجه لاغلبيتهم العددية أو بسبب العنصرية والكره الذى انطبع به هؤلاء تجاه الاقليات الاخرى الدينية والعرقية، يصعب احداث التغيير المطلوب إذا لم تتكاثف الجهود من داخل أمريكا وخارجها لدعم هذا التغيير وترسيخه بخطى رزينه وعقلانية.
فأوباما المولود عام 1961 في هاواي الأمريكية من اب كيني افريقي وام امريكية بيضاء كان اول امريكي من اصول افريقية فاز بترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد منافسة شرسة مع السناتور هيلاري كلينتون، وعندما فاز بترشيح الحزب كان ذلك حدثا سياسيا كبيراً في الولايات المتحدة، وعندما اعلن عن فوزه الكاسح في سباق البيت الابيض الأمريكي على منافسه الجمهوري جون ماكين، دخل التاريخ من اوسع ابوابه وكان مؤشراً على دخول الولايات المتحدة حقبة سياسية جديدة، هذا بالرغم من الاتهامات التى وجهت له وحاولت تنفير الناخب الأمريكي منه باتهامه بانه مسلم.
لقد أكد السيناتور الديموقراطي وفريقه مراراً أنه لم يكن قط مسلماً، وهو مسيحي يرتاد الكنيسة الاتحادية (كنيسة الثالوث المتحدة للسيد المسيح) في شيكاغو بانتظام، منذ أن عثر على إيمانه في مطلع عقده الثاني. يقول اوباما: انا مسيحي، وأَنا مسيحي مؤمن. أَؤمنُ بالموتِ الفدائي وبقيامة الرب يسوع المسيح.(4/132)
أَعتقدُ بأنّ ذلك الإيمانِ يَعطيني الطريق الّذي سَيَكُونُ مُطَهَّرًا لي مِنْ الذنبِ ويعطيني حياة أبديّة. لكن من الأهمية جداً بمكان، أَنني أؤمنُ بالمثالِ الذي يضعه أمامنا يسوع عن طريق إطعام الجائعَ وشفاء المريضَ ويُفضّلَ دائماً الأقل والأصاغر على أولئك الأقوياءِ. أنا لَمْ ' أسْقطُ في الكنيسةِ ' كما يَقُولونَ، لكن كانت هناك يقظة قوية جداً فيّ بقدر أهميةِ هذه القضايا في حياتِي. أنا لَمْ أُردْ السير لوحدي في هذه الرحلةِ. إن قُبُول الرب يسوع المسيح في حياتِي كَانَ دليلا قويا لتصرّفِي وسلوكي وقِيَمِي ونماذجِي.
ونظرا لتدين اوباما فقد اختاره الكاتب المحافظ الإنجيلي مؤرخ سيرة الرئيس الأميركي جورج بوش ليكون موضوع كتابه الجديد "إيمان باراك أوباما"، وتحدث عنه بطريقة إيجابية ووصفه بالوجه المقنع للناخبين المسيحيين، الأمر الذي وفّر له مصداقية اكسبته أصوات الناخبين المسيحيين الإنجيليين.
يقول مانسفيلد "بالنسبة لأوباما، الإيمان ليس زياً سياسيًا بسيطاً. الدين بالنسبة له تحوّل ويستمر طيلة الحياة وحقيقي". وقارن الكاتب المسيحي بشكل إيجابي وتفضيلي بين أوباما والرئيسين المسيحيين الديموقراطيين جيمي كارتر وبيل كلينتون اللذين قال إنهما بنيا "جدار فصل" بين دينهم وطريقة حكمهم، غير أن "إيمان أوباما ينصهر مع سياسته العامة، حيث لا يعود محصوراً بمملكة حياته الشخصية، بل يتعداه إلى قيادته".
من جهة أخرى، لم يخشَ المرشح الكيني الأصل من أن يحسن الكلام عن الإسلام، الذي قال إنه تعرف إليه عن كثب عندما كان في إندونيسيا، مشيراً إلى انه دين متسامح. ودعا إلى ان يعيش الاميركيون في ظل احترام لجميع الأديان. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن في عائلة أوباما حاخام يهودي هو ابن عمة زوجته ميشال، الحاخام كابريس فاني، الذي يترأس معبداً يهودياً للسود في شيكاغو، ويحظى بعلاقة مقربة من الزوجين أوباما.
هكذا جمع اوباما في شخصيته الديانت السماوية الثلاث، والاعراق المختلفه. ورغم ذلك فأوباما ليس متدينا بشكل مقولب، فمعتقداته الدينية قد لا تتطابق مع معتقدات بقية المسيحيين، كما أوضح في إحدى مقابلاته. لقد نشأ السيناتور الديموقرطي في مدرسة علمانية رسمية في إندونيسيا، في ظل رعاية أمه الأميركية(4/133)
وزوج أمه الإندونيسي، ثم انتقل إلى مدرسة مسيحية هناك طيلة عامين، قبل أن يعود مع أمه إلى الولايات المتحدة. وفي شيكاجو لم يتوانَ أوباما، الذي يعرب دوما عن تعلقه بدينه وبكنيسته، عن اتهام الزعماء المسيحيين الإنجيليين المحافظين بأنهم خطفوا الإيمان، لأنهم كانوا متحمسين لاستغلال انقساماتنا.
لقد تحدث اوباما في احدى كلماته عن نفسه كمثال للقيم الأمريكية المبنية على الطموح والعصامية حيث درس العلوم السياسية في جامعة كولومبيا وبعدها انتقل إلى مدينة شيكاجو وعمل باحدى الهيئات المحلية لمدة ثلاث سنوات ونصف. وفي عام 1988 انتقل إلى جامعة هارفارد المرموقة لدراسة القانون وبعد التخرج كان اول افريقي يتولى منصباً مرموقاً في الجامعة. عاد بعد ذلك إلى مدينة شيكاجو وتمرس في مهنة المحاماة وتخصص في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية. وكان اغلب زبائنه من ضحايا التمييز في العمل والسكن كما تولى منصب السناتور في مجلس ولاية الينوي ما بين 1996 و2004. وبعد اشهر قليلة من فوزه بمقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية الينوي اصبح نجما اعلاميا وواحداً من اكثر الشخصيات شعبية في العاصمة واشنطن وصاحب كتابين من اكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة. وكان أوباما الأفريقي الوحيد بين أعضاء مجلس الشيوخ المئة، وخامس أمريكي من اصول افريقية يدخل إلى مجلس الشيوخ، واول امريكى اسود يتولى منصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
الموقف من اسرائيل
هنالك في مخزون الذاكرة الفلسطينية والعربية اجمالاً ما يكفي للقول، ان ثمة تحالفات استراتيجية بين الولايات المتحدة واسرائيل، وهذه التحالفات تقوم على أسس العداء العميق بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي. كل ما نتذكره حول علاقتنا مع الولايات المتحدة، هو العداء، وانحياز الولايات المتحدة لإسرائيل لدرجة التطابق بين السياستين الاميركية والاسرائيلية.
وخلال حملته الانتخابية أعلن اوباما أمام اللجنة الأميركية-الإسرائيلية المشتركه (إيباك) دعمه الكامل للدولة العبرية والتزم في حال فوزه بالرئاسة بضمان(4/134)
أمن إسرائيل وتفوقها على جيرانها العرب وزاد على ذلك وأعلن تأييده لتبقى القدس عاصمة أبدية لإسرائيل والتزم بتحقيق ذلك في حال فوزه بالرئاسة.
قال اوباما: "ان ما بين اسرائيل والولايات المتحدة وعد لا ينكسر اليوم وغداً والى الابد .. ". هكذا استهل اوباما «خطاب القسم» امام ايباك. وربط بين قصته الشخصية بقصة الشعب اليهودي وقصة الاميركيين الافارقة بتلك الخاصة باليهود الاميركيين، ليصل إلى الذروة في خطابه بالتأكيد على «قداسة» امن اسرائيل وعدم قابليته للتفاوض .. هذا الوعد لم يكن قصراً على اوباما، فأكدته هيلاري كلينتون في المناسبة ذاتها: الولايات المتحدة تقف إلى جانب اسرائيل الآن والى الابد .. ». بدا كل من اوباما وكلينتون كمن يؤدي صلاة. في محراب ايباك على نية الوصول إلى البيت الابيض .. لقد بدا اوباما في خطابه اقرب إلى المؤمن الذي يسعى إلى نيل البركة الالهية اكثر منه السياسي الذي يسعى إلى اقناع شريحة هامة من الناخبين اليهود الاميركيين ببرامجه الاقتصادية وتوجهاته السياسية.
وقد لقيت تصريحات أوباما ترحيباً كبيراً في إسرائيل، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت أن خطاب أوباما أمام إيباك مؤثر جداً وقال إنه إذا انتخب رئيساً فسوف نناقش معه مجمل القضايا التي أثارها، ووصف الإسرائيليون هذا الخطاب بأنه الأشد تأييداً لإسرائيل في تاريخ الولايات المتحدة. وقال التلفزيون الإسرائيلي إن خطاب أوباما كان أكثر تحيزاً لإسرائيل من الخطابات التي تُسمع في مؤتمرات حزب الليكود وباقي أحزاب اليمين الأخرى، وربما هذا ما يفسر ان اليهود الاميركيين صوتوا لاوباما بنسبة 72 بالمئة.
على انه ليس من المبالغة في شيء القول ان ظهور اوباما امام مؤتمر ايباك شكل اكثر المحطات دقة وحساسية في رحلة وصوله إلى البيت الابيض. ويرجع ذلك إلى النفوذ الكبير الذي تمتلكه هذه المنظمة اليهودية القوية في ترجيح كفة اي من المرشحين لأسباب تبدأ بقدراتها المالية الهائلة ولا تنتهي بشبكة تحالفاتها مع شرائح انتخابية مسيحية اصولية تصل إلى حدود الاندماج العقائدي والاستحواذ على انماط تفكير وايمان تلك الشرائح بالوعد التوراتي ليهود العالم بدولة يهودية في ارض فلسطين.(4/135)
باراك اوباما سيكون بالتأكيد رئيساً مختلفاً في التاريخ الاميركي بوصوله إلى البيت الابيض. غير انه لن يختلف عن اي رئيس اميركي سابق منذ قيام دولة اسرائيل، من حيث ايمانه بـ"الوعد الابدي" للشراكة بين اسرائيل واميركا والذي يبقى السمفونية المكررة التي يعزفها كل الطامحين للوصول إلى جنة الرئاسة الاميركية ويكون شهودها ومستمعوها عرابو الشراكة الاميركية - الاسرائيلية وصناع السياسة الخارجية الذين لا يقبلون شريكاً إلا إذا اتقن العزف في محاريب المنظمات اليهودية الاميركية وعلى رأسها ايباك التي وقفت وصفقت بقضها وقضيضها لهذا المرشح المقبل على البيت الابيض فوق اجنحة التغيير الذي يدغدغ احلام الملايين من الاميركيين.
خطاب أوباما في جامعة القاهرة
لقد وعد اوباما ناخبية بالتغيير ووعد العالم بالامل بعالم افضل، ومنذ رئاسته وهو يعمل جاهداً لتغيير صورة أمريكا في الداخل والخارج على الاقل ليفى بوعوده الانتخابية. لقد جاء اوباما إلى منطقتنا العربية وزار عدد من الدول العربية والإسلامية لاصلاح وترميم الدمار الذى خلفته سياسات بوش العدوانية والمتعصبه، والقى خطاب هام في جامعة القاهرة المصرية حظي بتغطية اعلامية كبيره وضح رؤيته تجاه المنطقة، حيث اختلف المحللون والناس العاديون حول هذا الخطاب واهميتة بين مرحب ومتحفظ ومشكك.
في كتابه جرأة الأمل اعتبر أوباما أن الوظيفة الأساسية للسياسة هي ترجمة مشاعر الخير الكامنة في الإنسان إلى واقع، ويبدو أنه يتمتع بما يكفي من الجرأة لتطبيق هذا المبدأ في السياسة على الجهود الأمريكية لإحلال السلام في الشرق الأوسط، ولاشك أن خطابه الذي ألقاه بالقاهرة كان مناسبة أخرى لإيصال رسالة واضحة إلى العالم الإسلامي يعزز فيها العلاقات بين أمريكا والمسلمين، ويدعم بها فرص السلام في منطقة تحفل بالاضطرابات، لاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل الذي استمر طويلاً بسبب السياسات الأمريكية السابقة في المنطقة البعيدة جداً عن تلك المبادي الخيرة التي تحدث عنها أوباما في(4/136)