يوسف العاصي الطويل
حملة بوش الصليبية
على العالم الإسلامي والعالم
وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى ونهاية العالم
الجذور- الممارسة- سبل المواجهة(/)
قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 4 - 8].
صدق الله العظيم(1/5)
إهداء
إلى الأقصى السجين، وفلسطين المغتصبة ...
إلى أفغانستان المنسية، والعراق المنكوب ...
إلى القائمة الأمريكية الطويلة من الإرهابيين ... !
إلى كل مسلم ليعرف مسئوليته التي سيحاسب عليها يوم لا ينفع مال ولا بنون ...
إلى القائمة الطويلة من الأمميين ..
مسيحيين ومسلمين وغيرهم ..
مستحقي لعنة (شعب الله المختار) من اليهود والصهيونيين المسيحيين ...
هذا نداء عاجل للتصدي للهجمة الدونية الوحشية للصليبين الجدد ..
الذين نشروا الحرب والدمار في كل مكان حلوا به ..
بدءً من إبادة الهنود الحمر واستعباد زنوج أفريقيا ..
مروراً بنهب أمريكا اللاتينية وتدمير أوروبا وإذلال آسيا ..
وانتهاءً بما يحدث في فلسطين وأفغانستان والعراق .. ومن سيتبعهم.
إلى هؤلاء جميعاً أهدى هذا الكتاب
المؤلف
يوسف العاصي الطويل(1/6)
إهداء خاص
إلى روح من علمني معنى الحب والوفاء وحب الخير لكل البشر .. والذي كانت حياته مثالاً رائعاً للتعايش والصداقة بين الشعوب بمختلف ألوانها وأديانها ... والذي جعلني أصل إلى يقين ثابت بأن هؤلاء الأنجلوسكسون دعاة صراع الحضارات وثقافة الهمبرجر والبيبسي كولا لن يطول تسلطهم على العالم .. وان نهج المحبة والإخاء والصداقة بين الشعوب سينتصر .. فالطبيعة الخيرة والمحبة موجودة في كل مكان في العالم .. وكما لفظت حضارات العالم القديم دعاة الحروب والعنصرية والحقد والتعالي وجعلتهم يتوهون في أرجاء الأرض .. فستلفظ حضارتنا المعاصرة هؤلاء أيضا، وسيكون العالم مقبل على مرحلة جديدة من تلاقح الحضارات ...
أخي الحبيب سامي
لطالما انتظرت صدور هذا الكتاب .. وكنت على علم بكل صغيرة وكبيرة فيه .. وكانت الأفكار قبل أن تجد طريقها إليه تمر أمامك فتضيف إليها الكثير من روحك المشبعة بالمحبة والكارهة للظلم والغطرسة ..
وها هو الكتاب يصدر ويرى النور وأنت بعيد عنا بجوار ربك الرحيم .. هكذا شاء القدر .. وهكذا هي الحياة ... لقد رحلت قبل إن ترى هذا الكتاب .. ولو كنت حياً لفرحت من قلبك .. فأنا اعرف الناس بك .. اعرف كيف كنت تحب الله وتحب الحياة والناس.(1/7)
برحيلك أيها الحبيب رحل أخي وصديقي ذو القلب الأبيض الناصع البياض الطفل الرائع .. الذي آمن بالله صدقاً فأحب الأرض والناس .. وعاش من اجل الناس .. لقد كنت تكره منظر الدماء حتى لو كانت ذبحاً حلالاً .. وتفرح من قلبك عندما ترى عاشقين .. وتحزن بعمق لخبر عن كارثة أصابت بشراً على الشاطئ الآخر من بحر الظلمات.
إلى روحك الطاهرة ..
والى اسرتنا الصغيرة زوجتى حنان وابنائي محمد وعبد الرحمن وعمر والى غالية وفاطمه ولما وزين وعبد الله وخليفه ويمنى الذين احبتتهم جميعا واعطيتهم كل ما تستطيع ..
اهدي هذا الكتاب
أخوك
يوسف الطويل(1/8)
تقديم
بالرغم من أنه مضى أكثر من 18 عاماً على صدور كتابي (الصليبيون الجدد .. الحملة الثامنة) -حيث كان ينشر على حلقات في جريدة الخليج الإماراتية (1) - إلا أنني اشعر في كل مره تمر بها امتنا العربية والإسلامية بلحظات عصيبة، بالحاجة إلى إعادة نشره والتذكير به، وبالذات عندما يكون الأمر متعلقاً بأمريكا وبريطانيا ومشروعهما الصليبي في المنطقة (إسرائيل).
فهذه المدة الطويلة التي مرت على أول مره نشرت بها الدراسة لم تفقدها أهميتها وموضوعيتها في تفسير ما يجرى على الأرض العربية، بل أكدت الحاجة إلى إعادة نشرها وتنقيحها، وبالذات وأنها تعالج موضوع حساس ومصيري للأمة العربية والإسلامية وهو أسباب تحيز أمريكيا وبريطانيا السافر لإسرائيل وعداءهما لكل ما هو عربي وإسلامي، حيث لم تكتفي هاتان الدولتان بزرع إسرائيل في قلب الأمة العربية ومدها بكل أسباب الوجود، بل لجأت خلال القرن الحالي إلى محاربة وتدمير أية قوة عربية أو إسلامية يمكن أن تهدد إسرائيل، وسعتا بكل ما أوتيتا من قوة إلى تفكيك العالم الإسلامي وأضعافه بكل الوسائل، مستخدمة مبررات وألاعيب مختلفة، والتي كانت للأسف تنطلي على العرب والمسلمين مره باسم التحرر من السيطرة العثمانية ومحاربة النازية والفاشية، وأخرى باسم محاربة المد الشيوعي والقومي، وثالثة بدعوى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأخيراً بدعوى محاربة الإرهاب.
ولسنا هنا بحاجة كبيرة إلى إمعان النظر لنتبين الدور الخبيث الذي لعبته هاتان الدولتان مجتمعتين أو منفردتين في تقسيم الدول العربية جغرافياً وسياسياً، ونهب ثرواتها، ومحاربة توجهاتها الوحدوية والنهوضوية، ابتداءً من وعد بلفور ومعاهدة سايكس بيكو ومروراً بحرب 48، 56، 67، 73، وحرب لبنان 82، حتى حرب الخليج، التي دمرت خلالها القوة العسكرية والاقتصادية للأمة العربية، وفرض عليها الجلوس على طاولة المفاوضات مع إسرائيل خاوية اليدين.
_________
(1) نشرت هذه الدراسة ما بين 6/ 2/1989 - مارس 1989 في جريدة الخليخ الاماراتية على حلقات تحت عنوان اليهود في التراث الديني المسيحي.(1/10)
أما حربها الحالية ضد ما تسميه بالإرهاب التي وضعت على قائمتها 60 دوله غالبيتها العظمى، إسلامية وعربية، بدأتها بأفغانستان وفلسطين والعراق، وتقف في الانتظار، دول مثل إيران وسوريا ولبنان والصومال وليبيا والسودان، وحتى دولاً تعتبر حليفه لأمريكا مثل السعودية ومصر .. الخ، فالحديث عنها يطول، ويبدو أن أمريكيا وبريطانيا تريدان أن تتوجا حملتهما الصليبية على العالم الإسلامي والعربي والتي بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمن، بهذه الحرب الفاصلة، حيث اتخذتا من أحداث 11 سبتمبر مبرراً لشن هذه الحملة الشرسة ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان بدعوى محاربة الإرهاب. وقد قمت في حينه وبعد أحداث 11سبتمببر مباشرة بنشر دراسة عن هذه الحملة في عدد من الصحف والمجلات العربية وعبر مواقع الإنترنت، بينت فيها البعد الديني لهذه الحملة وكيف أن بوش عندما أعلن أنها حرب صليبية فأنه كان يعنى ما يقول حرفياً، وبينت أيضا كيف أن أحداث 11 سبتمبر هي من تدبير أمريكي لا علاقة للمسلمين بها من قريب أو بعيد، ولكن قامت الإدارة الأمريكية والتيار الديني الأصولي المسيحي الذي يحكم أمريكيا الآن بافتعال هذه الأحداث لتبرير شن هذه الحملة على العالم الإسلامي، حيث يؤمن إتباع هذا التيار الأصولي بخرافات ونبوءات توراتية تقول بضرورة قيام معركة فاصلة بين قوى الخير والشر تسمى هرمجيدون في ارض فلسطين كمقدمه ضرورية لعودة المسيح المنتظر الذي سيحكم العالم من مقره في القدس.
فقد كانت حرب أفغانستان هي البداية الأولى لهذه الحرب التي تسميها أمريكيا حرب الإرهاب والتي صرح الرئيس بوش بأنها ستشمل 60 دوله وستستمر لعدة سنوات، حيث يسعى التيار المسيحي الأصولي الذي يحكم أمريكيا الآن، بكل الوسائل إلى تطبيق وإخراج النبوءات التوراتية على ارض الواقع ولو كان ذلك بافتعال الأحداث وإخراجها كما يريد، وهذا ما حدث في أحداث 11 سبتمبر، وما تلاها من أحداث، حيث اجمع كافة المختصين والمحليين استحالة تنفيذ هذا العمل من قبل تنظيم كتنظيم القاعدة أو إيه جهة خارجية، نظراً للإمكانيات والتدريب والمعلومات الدقيقة التي لا تتوفر إلا لشخصيات قيادية في المخابرات أو الجيش الأمريكي. كما أن الولايات المتحدة لم تستطع حتى هذه اللحظة الآتيان بديل مقنع على تورط تنظيم القاعدة(1/11)
في هذه العمليات. لهذا نؤكد أن كل ما حدث ليس إلا تدبير أمريكي مسبق لخلق الذرائع والمبررات لشن هذه الحملة الصليبية على العالم الإسلامي، خدمه لمشروعها الصليبي في المنطقة والمتمثل في دولة إسرائيل.
ونفس الشيء يقال عند محاولة معرفة الأسباب الحقيقة لحرب أمريكيا على العراق الشقيق الذي تعرض لمدة أكثر من 13 عاماً لحرب شرسة وحصار همجي وحاقد شنته كلا من بريطانيا وأمريكيا بحجج ومبررات مختلفة، بدأت بدعوى تحرير الكويت وتطبيق قرارات الشرعية الدولية وعمل لجان لتفتيش وأخيرا قامت باحتلاله بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل ... الخ.
ولسنا هنا في سبيل الخوض في هذه الدعاوى والمبررات التي افتعلها أمريكيا والتي يعلم القاصي والداني بطلانها وأنها ما هي إلا شعارات تخفى أمريكيا وراءها الأسباب الحقيقية ومخططاتها الخبيثة في المنطقة العربية والتي تصب في خدمة مشروعها الصليبي في المنطقة والذي يحتل وجود إسرائيل جوهر هذا المشروع الصليبي الذي بدأ التخطيط والتنفيذ له منذ قرون طويلة مع ظهور المذهب البروتستانتي.
فليس مصادفة أن تتزامن هذه الحملة الانجلوسكسونية (الانجلوأمريكية) على كثير من الدول والمنظمات وحركات المقاومة الإسلامية مع هجمة مماثلة يشنها العدو الصهيوني على شعب فلسطين، حيث وصلت عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى طريق مسدود بسبب تعنت الحكومة الإسرائيلية وممارساتها المناقضة لكل ما اتفق عليه سواء في مؤتمر مدريد أو في اتفاقيات أوسلو والتي تم التوصل إليها جميعا برعاية وضمانة أمريكية، حيث كان من المفترض أن تمارس الأخيرة دورها في الضغط على الجانب الإسرائيلي لإجباره على تنفيذ ما اتفق عليه. ولكن الذي حدث أن الولايات المتحدة لم تقم بدورها المطلوب، بل اختارت أن تكون في خندق واحد مع الجانب الإسرائيلي، وعملت كل ما في وسعها من اجل تمرير السياسة الإسرائيلية المناقضة لاتفاقيات السلام، بحيث أصبح التفريق بين الموقف الإسرائيلي والموقف الأمريكي من أصعب الأمور، بل إننا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن التعنت الإسرائيلي أضحى مطلباً أمريكياً بالدرجة الأولي.(1/12)
ولسنا هنا في مجال تقييم اتفاقيات السلام لان ذلك لا يدخل ضمن أهداف هذا الكتاب، ولكن الذي نريد توضيحه والتركيز عليه هو تحديد ماهية الصراع الدائر في منطقتنا منذ قرن من الزمن، وتحديد أبعاده والمتغيرات التي يمكن أن تؤثر فيه، ودوافع الدول التي تدعمه وتقف وراءه وتعمل كل ما بوسعها من اجل استمراره وترسيخ وجود الظاهرة الإسرائيلية في المنطقة، وذلك بعيداً عن كل ما يقال عن اثر اللوبي والصوت الانتخابي اليهودي وظروف الحرب الباردة وغيرها من الأقاويل التي أثبتت الأحداث عدم صحتها إطلاقا، حيث سنركز في هذه الدراسة على البعد الديني للصراع، والذي يمكن أن يوضح لنا طبيعة العلاقة القائمة بين إسرائيل والدول الداعمة لها وعلى رأسها بريطانيا وأمريكيا، والسبب الذي يدفع هذه الدول إلى تبني المطالب الصهيونية والدفاع عنها باستماتة.
في كلمة ألقاها بنيامين نتنياهو أثناء صلاة الصباح التي يقيمها المسيحيون الأمريكيون لإسرائيل، في مستهل فبراير 1985م عندما كان سفيراً لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، أشاد نتنياهو بـ "الزمالة التاريخية بين المسيحيين المؤمنين واليهود، لان هذه الزمالة قد عملت بنجاح على تحقيق الحلم الصهيوني".
وفي كلمته تعجب نتنياهو كثيراً من جهل أولئك الذين يجدون مدعاة للدهشة فيما يقدمه المسيحيون الأمريكيون الإنجيليون من تأييد قوى وراسخ لإسرائيل ويصورونه كظاهرة جديدة، حيث قال: "فأولئك الذين يعرفون التاريخ الحقيقي للانخراط المسيحي العميق في الحركة الصهيونية لا يجدون أي مدعاة لأية دهشة أو تساؤل بشأن الدعم القوى الذي يقدمه لإسرائيل كل المسيحيين المؤمنين في العالم .. والذي جعل الكتاب والقساوسة والصحفيين ورجال الدولة ـ بريطانيين وأمريكيين ـ دعاة متحمسين لإعادة اليهود إلى وطنهم، حيث لم تكن هذه الصهيونية المسيحية قاصرة على الدعوة أو المثاليات بل امتدت إلى الخطوات العملية اللازمة لتحقيق ذلك الذي كان حلماً ".
هذا ما قاله نتنياهو قبل أكثر من 23 عاماً، عندما كان سفيراً لبلاده في أميركيا، وها هو الآن يستعد لترأس الحكومة الإسرائيلية التي لن نقول عنها أنها ستكون أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً وسعيا ً إلى التوسع فحسب، بل نضيف إلى(1/13)
ذلك إنها ستكون أكثر الحكومات إدراكا ووعيا لحقيقة الموقف الأمريكي الرسمي والشعبي من الصراع الدائر في المنطقة. فنتنياهو تربى وتعلم في أمريكيا وعمل سفيراً لبلاده فيها، وتعرف خلال وجوده فيها عن قرب على التيار المسيحي الديني الداعم لإسرائيل، وسعى هذا التيار لتحقيق المشروع الصهيوني بكامله، انطلاقاً من إيمان أتباعه بنبوءات توراتية تعتبر إقامة إسرائيل وعودة اليهود إليها وبناء الهيكل مقدمات ضرورية لعودة المسيح الثانية، وبداية العصر الألفي السعيد حيث سيحكم المسيح العالم من مقره في القدس!! وانطلاقاً من إدراك نتنياهو لهذه الحقائق فقد حرص خلال عمله في أمريكيا وحتى بعد توليه رئاسة الوزراء على التقرب إلى هذا التيار والاجتماع بزعمائه ومؤيديه لكسب دعمهم وتأييدهم لكل ما يقوم به.
ففي الوقت الذي كان الجيش الإسرائيلي يتصدى بكل وحشية للمظاهرات العارمة التي اندلعت في فلسطين عام 1996 م بسبب إقدام الحكومة الإسرائيلية على افتتاح نفق بالقرب من المسجد الأقصى، كان نتنياهو يحضر اجتماعاً لمئات المسيحيين البروتستانت أعضاء السفارة المسيحية الدولية في مدينة القدس، غير عابئ بالانتقادات الدولية لهذا القرار، حيث ألقى أمام المجتمعين خطاباً حماسياً مثيراً، أكد فيه انه لن يغلق النفق وان القدس ستظل العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، حيث قوبل خطابه بالتصفيق الحاد والتهليل، وقام بعض القساوسة الحاضرين بمباركة نتنياهو، وامسك به أحدهم ووضع يده على رأسه وهو يرتدى القبعة اليهودية، واخذ يقرأ عليه الأدعية والابتهالات الإنجيلية داعياً الله أن يمده بالقوة للثبات على موقفه، وفي نفس الوقت كان جميع الحاضرين في القاعة يرددون كلمة آمين. وخلال هذا الاجتماع قام نتنياهو بإهداء المجتمعين مجسم لمدينة القدس خالي من أي اثر للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، حيث وضع مكانهما مجسم للهيكل اليهودي.
ولسنا هنا في مجال سرد للوقائع والشواهد الكثيرة التي توضح اثر العامل الديني في كسب تعاطف المسيحيين البروتستانت، مع دولة إسرائيل وعدائهم لكل ما هو عربي وإسلامي، لأننا لو فعلنا ذلك سنكون بحاجة إلى عدة كتب لتسجيل ذلك. كما أننا لو أردنا متابعة الأحداث الجارية والتصريحات والشواهد اليومية الصادرة عن(1/14)
المسيحيين البروتستانت فإننا سنضطر لإعادة كتابة هذا العمل كل شهرين أو ثلاثة تقريباً .. ولكننا نكتفي بما ورد في هذا الكتاب من معلومات، والتي نعتقد بأنها كافية لإلقاء الضوء على البعد الديني وأثره في تشكيل السياسة الأمريكية والبريطانية ليس فقط تجاه فلسطين، بل تجاه الأمة العربية والإسلامية .. والعالم، وهذا سيمكننا من معرفة الدوافع الحقيقية لحملتهما الصليبية على العالم الإسلامي، بعيداً عن كل المزاعم التي تحاول أمريكيا وأعوانها ترويجها مثل القول بان الهدف هو محاربة الإرهاب، أو غيرها من الأقوال والمبررات التي أصبح القاصي والداني يدرك بطلانها وعدم كفايتها لتبرير كل هذا الحقد والكراهية التي لا تذخر أمريكا جهداً في صبها على امتنا العربية والإسلامية، ممثلة في فلسطين والعراق وليبيا والسودان وإيران وأفغانستان .. الخ.
فما يحدث في أفغانستان والعراق لا يمكن فهمه إلا من خلال علاقته العضوية بما يحدث في فلسطين، وسياسة أمريكيا وبريطانيا تجاه العراق والعالم العربي والإسلامي لا يمكن فهمها إلا من خلال علاقتهما المباشرة بسياستها تجاه فلسطين. وسياسة أمريكيا وبريطانيا تجاه فلسطين لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً بعيدا عن بعدها الديني المرتبط بالمذهب البروتستانتي السائد في هذه الدول الذي أعطى إسرائيل دوراً مركزاً في نظرة هذه الدول للعالم، ودوره في تشكيل العقل والفكر الأمريكي منذ البدايات الأولى وحتى الآن، حيث لم يكن بعيدا عن كل ذلك ما جرى للهنود الحمر والزنوج في أمريكا، أو ما حدث في فيتنام وهوريشيما وأمريكا اللاتينية، فكان الدين حاضراً في كل تلك المشاهد، وكان التراث الديني المستمد من التوارة ونبوءاتها وتفسيراتها هو المحرك لكل ما جرى من حروب صليبية لتطهير أمريكا من الهنود الحمر، ولنهب واستغلال شعوب العالم الاخرى بدعاوى مختلفة، حيث حرص قادة المجتمع الأمريكي السياسيين والروحانيين على السواء، بأن يتخذوا مواقفهم منذ نشأة جمهوريتهم وحتى الآن، على قمة متاحة من الأرض الأخلاقية العالية، مستمدين باستمرار السند والمبرر لكل تصرف أمريكي في شؤون أمريكا والعالم من الدين والأخلاقيات العليا، ومن المصطلحات ذات الرنين الأخلاقي القوى، كـ "الحقوق الإنسانية"، "والقانون الدولي"، و"الحضارة" وما أشبه، ومسبغين على(1/15)
أنفسهم وعلى بلدهم عباءة الاضطلاع بعبء رسالة حملت العناية الإلهية ذاتها لا أقل، الأمة الأمريكية بها لصالح البشر جميعاً.
وقبل أن اختم هذه المقدمة أود الإشارة إلى أمر مهم، وهو أن هذا الكتاب، لا يهدف إلى القول بأن كل مسيحيي العالم يدعمون إسرائيل ويؤيدون ما تقوم به في فلسطين، بل إن هذا الأمر مقتصرٌ فقط على إتباع المذهب البروتستانتي الذين ينتشرون في أمريكيا وبريطانيا وبعض الدول الأوربية واستراليا، أما الطوائف المسيحية الأخرى ـ كاثوليك وارتوذكس ـ فلا يؤمنون بالتفسيرات والنبوءات التوراتية الخاصة بإسرائيل كما وردت في الإنجيل، ولهم موقفهم الخاص من اليهود وإسرائيل، والذي يصل إلى حد العداء. فالصليبيون الجدد الذين نتحدث عنهم في هذا الكتاب، هم أتباع المذهب البروتستانتي، الذي ظهر مع ما سمي بحركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. أما بالنسبة لموقف المسيحيين العرب، فلا مجال هنا للمس بهم وبمواقفهم المشرفة عبر التاريخ وبنضالهم في سبيل نصرة قضايا أمتهم العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، حيث شاركوا بكل قواهم في التصدي للخطر الصهيوني، سواء بدمائهم أو بأقلامهم التي كانت لها صولات وجولات في فضح الخطر الصهيوني، والتصدي له من خلال كتابات ومواقف كثيرة.
إن هذه الإشارة وهذا التوضيح كان ضرورياً، حتى لا يظن البعض أننا نهدف إلى تصعيد الصراع بين المسيحية والإسلام في وقت حقق الحوارـ بين الإسلام وممثلي الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، تفاهما واتفاقاً حول كثير من الأمور، والذي نتمنى أن يستمر للوصول إلى تعايش وتعاون مثمر بين أتباع الديانتين، بعيداً عن محاولات التهويد المنظم التي تخضع لها الفرق المسيحية البروتستانتية. كما إن هذا التوضيح كان ضروريا حتى لا يوضع المسيحيون العرب موضع الاتهام عن جهل أو سوء نية، فالتعايش المسيحي الإسلامي في عالمنا العربي سيظل شاهداً على التسامح والتعاون المثمر بين الأديان بالرغم من كل المحاولات التي يقوم بها أعداء أمتنا العربية من أجل تعكير صفو هذا التعايش.
والكتاب الذي بين أيدينا ينقسم إلى خمسة أقسام، تعالج جميعها موضوع رئيس وهو أثر البعد الديني في تشكيل السياسة العدائية البريطانية والأمريكية(1/16)
تجاه قضية فلسطين والمنطقة العربية والإسلامية .. والعالم، حيث ركزنا في الباب الأول، على إبراز الجذور التاريخية لعلاقة المسيحيين باليهود، والانقلاب الذي حدث لهذه العلاقة مع ظهور المذهب البروتستانتي وانتشاره في بريطانيا وأمريكا؛ نتيجة للأفكار التي جاء بها هذا المذهب والتي مهدت السبيل إلى إقامة إسرائيل وإعادة اليهود إليها، من خلال سعي إتباعه إلى تحقيق ذلك منذ أكثر من أربعة قرون، وقبل ظهور الحركة الصهيونية، وبينا كيف أن الساسة البريطانيين والأمريكيين كانت ولازالت النظرة الدينية البحتة، هي التي تحكم مواقفهم تجاه قضية فلسطين والعالم الإسلامي.
وفي الباب الثاني عالجنا الأبعاد الدينية للهجمة الأنجلو أمريكية الشرسة على العراق وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى ومعركة هرمجيدون، حسب ما جاء في نبوءات التوراة الحاقدة للانتقام من بابل العراق التي سبت اليهود أيام نبوخذ نصر، وليس كما تزعم أمريكا بأنها جاءت لتحرير الكويت أو لتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية.
أما في الباب الثالث فقد عالجنا ما سميناه حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي والتي كانت بدايتها مع أحداث 11 سبتمبر، والتي اتخذتها إدارة بوش ذريعة لتنفيذ مخططها الرهيب والشيطاني في طول وعرض العالم الإسلامي؛ ولتطلق يدها في شن حرب تشمل 60 دولة غالبيتها إسلامية وتستمر لعدة سنوات تحت مسمى مكافحة الإرهاب. حيث أوضحنا أن هذه الأحداث ما هي إلا صناعه أمريكية، ليست بعيده عن صناع القرار الأمريكي والجماعات الأصولية المسيحية الإرهابية، وأن تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن ليس لهما علاقة بهذه الأحداث. وأن الأولى بالملاحقة هم أتباع التيار الديني الأصولي المسيحي المتطرف، الذين يشكلون خطراً ليس فقط على العرب والمسلمين، بل خطراً على العالم بأسره من خلال إيمانهم بأفكار ومعتقدات عنصرية حاقدة على الإنسانية جمعاء، والتي تستدعى وقفه واعية وشجاعة من أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية ـ في شقها الكاثوليكي والأرثوذكسي ـ لمواجهة التهويد المنظم للبروتستانتية والذي جعل أتباع هذا(1/17)
المذهب يقتربون من اليهودية أكثر بكثير من كونهم مسيحيين، حيث أصبح يطلق على حركتهم تسميه الصهيونية المسيحية (1)، والمسيحية منهم براء.
وفي الباب الرابع عالجنا فيه موضوع الإرهاب الأمريكي عبر التاريخ منذ تأسيس أمريكا وحتى الآن، حيث حاولنا إبراز اثر البعد الديني والخرافات التوراتية المتعصبة، في صياغة سياسة أمريكا تجاه العالم أجمع، من خلال إيمان هذه الدولة بخرافات ونبوءات توراتية حاقدة ومتعصبة على البشرية جمعاء، تشرع الإبادة والقتل والسيطرة والنهب على أسس دينية لاهوتية متعصبة، اعتقاداً منها بأن الله اختارها لتحضير العالم، لنوضح حقيقة أن الإرهاب ما هو إلا صناعة أمريكية مارسته ضد شعوب العالم أجمع باسم الشعارات الكاذبة من نشر للحرية والديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان ... ابتداءً من إبادة الهنود الحمر واستعباد العبيد ومروراً بحروب أمريكيا الخارجية في أمريكا اللاتينية وأوروبا وفيتنام وكوريا والعراق وأفغانستان، والتي راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر. وعرضنا في هذا الفصل للإرهاب الأمريكي الداخلي، وللعديد من المنظمات الإرهابية الأمريكية المتطرفة التي تنطلق من منطلقات عنصرية متطرفة تشكل خطراً على العالم اجمع، حيث بينا أثر البعد الديني التوراتي على تشكيل الإرهاب الأمريكي الداخلي والخارجي.
وفي الباب الخامس والأخير حاولنا وضع تصور لكيفية مواجهه هذه الهجمة الصليبية الدونية على العالم الإسلامي .. والعالم. والتصور الذي وضعناه يقوم في الأساس على ضرورة تعاون وتضامن كافة دول العالم مسيحية وإسلامية وغيرها، من أجل التصدي للخطر الذي تشكله الصهيونية المسيحية على العالم أجمع، والتي قادت العالم إلى أكثر الحروب دماراً ووحشية في التاريخ، وذلك بمواجهه هذا الخطر من الداخل والخارج وتفعيل حوار الحضارات والأديان وبناء مشروع نهضوي عربي، وتسليط الضوء على دور فلسطين الحضاري وكيف يمكن ان تساهم في هذه المواجهة.
_________
(1) من الجدير بالذكر هنا أن أول من استعمل تعبير (الصهيونية المسيحية) كان ثيودور هرتزل في وصفه لمؤسس الصليب الأحمر الدولي (هنري دونانت) وكان دونانت من الأثرياء الذين مدوا يد العون إلى الحركة الصهيونية، وكان واحدا من شخصيات مسيحية قليلة جدا لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة دعيت إلى المؤتمر الصهيوني الأول في بال انظر كتاب الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص16.(1/18)
وأخيرا أرجو أن يكون هذا الكتاب إضافة جديدة للمكتبة العربية، يساهم ولو بقدر بسيط في فهم طبيعة الصراع الدائر في المنطقة، وطبيعة القوى التي تديره، حتى نتمكن من وضع تصور مستقبلي شامل لإدارته، يكون مبنياً على أسس سليمة وفهم صحيح ومعطيات دقيقة، لأن الخطأ في فهم طبيعة العلاقة بين إسرائيل والقوى العظمى المؤيدة لها، ترتب عليه أخطاء كبيرة في التعامل معها، واتخاذ العلاج الخاطئ للأمور المصيرية، لا ينتج عنه إلا أخطاء فادحة على كافة المستويات.
والحمد لله في البدء والختام
يوسف العاصي الطويل
رفح /فلسطين 7/ 2007(1/19)
الباب الأول
البعد الديني للتحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل
تمهيد
على غزارة ما كتب عن القضية الفلسطينية خلال القرن الحالي، فإن هناك صعوبة كبيرة في الكتابة عن بعض جوانبها، وبالذات الجوانب التي تتعلق بأسباب نشوء هذه القضية، والقوى التي عملت على إيجادها. والصعوبة هنا لا تنشأ من القضية ذاتها وعدالتها ووضوح الحق فيها، ولكنها تنشأ من الكتابات العديدة التي كتبت عن هذه النقطة أو تلك، وتناولتها من زوايا متعددة، حتى أصبح تاريخ هذه القضية وكأنه سجل للتاريخ المعاصر بكل تناقضاته وصراعا ته الأيدلوجية والفكرية.
فقد عرف تاريخ هذه القضية تصورات متباينة ومتصارعة، على المستوى العالمي، والعربي، والإسلامي، وحتى الفلسطيني. وامتد هذا التباين حتى برز في داخل الأطر السياسية نفسها، حيث تناقضت الشعارات حتى في الميدان الواحد، ونما التباين حتى أصبح كمية هائلة تحتاج وحدها إلى بحث وتمحيص، ونما القصور والتباين حتى تحول إلى صراع مكشوف أو تنافس مدمر. فعلى المستوى العربي والفلسطيني، لم تخرج معظم التحليلات والكتابات، عن إعتبار إسرائيل حاملة طائرات أمريكية في قلب الشرق الأوسط، وان مهمتها الإمبريالية تكمن في عزل الشرق العربي عن المغرب العربي للحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية، التي تستولي على إمكانيات اقتصادية وبشرية وجغرافية وسياسية هائلة.
فمن ناحية ركز الفكر العربي الثوري على حقيقة إسرائيل الإمبريالية، فقال إن هدفها ضرب الأنظمة الثورية المعادية للإمبريالية في المنطقة العربية. والمثقفون العرب من ناحيتهم، حصروا إسرائيل في كونها، كيان استيطاني عنصري مفرز عن العالمية الرأسمالية. أما الإسلاميون فلم يخرجوا في تحليلاتهم عن هذا وذاك، واعتبروا إسرائيل أداه في يد الاستعمار لضرب الصحوة الإسلامية، والحيلولة دون نشوء أي حكم إسلامي ... وقد نسى هؤلاء جميعا عدة حقائق منها:(1/20)
1ـ إن قضية فلسطين بدأت قبل وجود أي نظام عربي ثوري، وقبل ظهور الحركات الإسلامية المعروفة وحتى قبل استقلال الدول العربية نفسها.
2ـ إن الدول الشيوعية وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي ـ وهى النقيض للنظام الرأسمالي ـ كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل عند نشأتها، وكانت أيضا من أوائل الدول التي فتحت أبواب الهجرة على مصراعيه أمام اليهود!
3ـ إن الإمبريالية الأمريكية تمتلك العديد من القواعد العسكرية والتواجد المباشر وغير المباشر في كثير من الدول العربية، ولكن ذلك لم يحد من تأييدها لإسرائيل.
من هنا فإن الحديث عن الإمبريالية والثورية والوحدة العربيةـ التي لم تتحقق حتى على مستوى قطري ـ يصبح حديث مبتور لا معنى له. كما أن الحديث عن دور اللوبي الصهيوني والصوت الانتخابي اليهودي في تشكيل هذه السياسة أمر عارً عن الصحة كما سنوضح. ومن هنا لا بد من البحث عن سبب آخر يمكن أن يوضح لنا حقيقة وجود إسرائيل في المنطقة العربية، والقوى التي تقف وراء هذا الوجود، ودوافعها لذلك ... فلا يزال للحديث عن قضية فلسطين سبيل وسعه، فهناك معالم لابد من جلائها وتأكيدها على الدرب الممتد إلى فلسطين ... كل فلسطين. وأول خطوة نود أن نؤكدها هنا، هي ضرورة توحيد التصور الفكري لقضية فلسطين، طبيعتها ـ القوى التي تقف وراء نشوئها ـ دوافع هذه القوى وأهدافها. وإذا استطعنا أن نصل إلى هذا التصور فإن علاج هذه القضية وتداعياتها سيكون أمرا سهلاً ... فبدون معرفة الداء لا يمكن وصف الدواء.
أسباب التحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل
هناك تساؤلات كثيرة تطرح نفسها على المتتبع للموقف المتحيز لبعض دول أوروبا بوجه عام، وأمريكيا وبريطانيا بوجه خاص، حيال الصراع العربي الإسرائيلي. فلا بد وأن الكثيرين سألوا أنفسهم عن أسباب هذا التحيز، وعن المكاسب التي تسعى لتحقيقها هذه الدول من وراء هذا التحيز. وسيجد السائل إجابات عديدة على هذا السؤال، من خلال ربط هذا التحيز بالأطماع الاستعمارية لهذه الدول سواء كانت(1/21)
اقتصادية أو سياسية أو عسكرية ـ في هذه المنطقة، هذا بالإضافة إلى ما يقال عن أثر اللوبي الصهيوني في تشكيل هذه السياسة المتحيزة لإسرائيل والمعادية للعرب. فقد اعتاد الناس في عالمنا العربي الإسلامي أن يفسروا التحيز الأميركي لإسرائيل بأسباب سياسية وإستراتيجية، مثل المال اليهودي المؤثر في الحملات الانتخابية، والإعلام اليهودي المتلاعب بالرأي العام الأميركي، والصوت اليهودي الموحد في الانتخابات، ثم موقع إسرائيل رأس حربة في المنطقة العربية، ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة.
وأعتقد أن هذه الإجابات والتفسيرات ـ عند التأمل ـ تبدو سطحية وبعيدة عن الدقة، أو هي ـ على أحسن تقديرـ ليست سوى مظاهر تعبر عن ظواهر أعمق وأرسخ، وليست كافية لتبرير هذا التحيز والعداء التام من قبل هذه الدول ـ وبخاصة إنجلترا وأمريكيا ـ لأمتنا العربية والإسلامية. والسبب في عدم كفاية هذا التبرير ـ حسب رأيي ـ هو أن هذا الموقف المتحيز ليس من قبيل التحيز المرحلي الذي يتغير حسب سير المصالح وتغيرها، فيكون متحيزاً لأحد الأطراف عندما يجد أن مصالحه وأطماعه تتطلب ذلك. ولكن هذا التحيز ـ كما أعتقد وسأبين ـ مبنى على أساس عامل مهم جداً يجعل منه موقفاً مبدئياً لا يتغير بسهولة.
حساب المصالح:
بالرغم من أن تحيز بعض الدول الغربية وأمريكا إلى جانب إسرائيل يحقق لها أهدافاً ومصالح كثيرة ويبقى على أطماعها التوسعية حية في المنطقة العربية، إلا أنه وفي نفس الوقت يضع مصالح هذه الدول في خطر كبير؛ لأنه يزيد من حجم العداء لهذه الدول في المنطقة العربية والإسلامية، بالإضافة إلى أنه يدفع الدول العربية إلى اللجوء إلى دول أو أحلاف معادية لأمريكا وحلفائها، كما كان الحال قبل انهيار المعسكر الشرقي، كما أن موقع إسرائيل في المنطقة العربية لا يكفي لتفسير التحيز الأميركي. فقد كانت إسرائيل دائما مصدر حرج للنفوذ الأميركي في المنطقة العربية، أكثر من كونها مصدر دعم، إضافة إلى أن بعض حكام الدول العربية أغنوا أميركا عن إسرائيل في هذا المضمار.(1/22)
ومهما حاولنا أن نتكلم عن الأهداف التي تسعى أمريكا وحلفائها إلى تحقيقها من خلال تحيزها إلى جانب إسرائيل، فإن هذا التحيز بحساب المصالح يعد خاسراً وفيه مغامرة كبيرة لا تحمد عقباها على هذه الدول. فأمريكا وحلفائها يمكنهم أن يبقوا على هذه المصالح، بل ويزيدونها من خلال وقوفهم موقفاً عادلاً وليس متحيزاً حيال الصراع العربي الإسرائيلي. فما دامت هذه المصالح مصانة إلى حد كبير بالرغم من وجود التحيز الأمريكي و الأوروبي لإسرائيل، فأنها ستكون مصانة أكثر لو أن هذا الموقف تغير لصالح القضية العربية. فالتاريخ لم يشهد محاولة دولة معينة الحفاظ على مصالحها في منطقة معينة عن طريق معاداتها لدول هذه المنطقة، أو التحيز لمن يعاديها. فأي دولة تريد الحفاظ على مصالحها في منطقة معينة، تسعى بكل الوسائل إلى تعزيز روابطها بدول هذه المنطقة، وتحاول بقدر المستطاع الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو هذه الروابط، حتى لا ينعكس ذلك سلباً على مصالحها. ولهذا فإن حساب المصالح هذا دفع كثير من الدول الأوربية إلى تغيير سياستها حيال الصراع العربي الإسرائيلي، بحيث أصبح هذا الموقف أكثر اعتدالاً ومعقولية من ذي قبل (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا وإيطاليا على سبيل المثال)، كما أن هذه الدول تحاول قدر المستطاع الابتعاد عن كل ما يمكن أن يؤثر سلباً على علاقاتها مع الدول العربية. ولكن الموقف البريطاني والأمريكي بالذات بقى كما هو عليه، بل أزداد في تحيزه ودعمه لإسرائيل، وأصبح موقفاً استفزازيا وعدائياً أكثر من أي وقت مضى. ففي أعقاب كل عدوان إسرائيلي على الأمة العربية والشعب الفلسطيني، تجد إسرائيل مكافأة أمريكية تنتظرها، ابتداءً من صفقات الأسلحة المتطورة والمعونات الاقتصادية الضخمة، وانتهاء باستخدام حق الفيتو ضد أي قرار يكون في غير صالح إسرائيل.
فأي مصلحة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ستعود على أمريكيا من خلال نقل سفارتها إلي القدس الشريف، بالرغم من إدراك صانعي القرار في أمريكيا بالمكانة الخاصة للقدس في قلوب ملايين العرب والمسلمين والمسيحيين .. ؟ بالطبع لا توجد أي مصلحة من هذا النوع، حيث أن هذا القرار كغيره من القرارات الأمريكية(1/23)
السابقة سيلحق ضرراً كبيراً بالمصالح الأمريكية ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي أيضا عاجلاً أم آجلاً.
كل هذا يجعلنا نفترض أن حساب المصالح كما نفهمه ليس هو المؤثر الوحيد في هذا التحيز، بل لا بد من البحث في عوامل أخرى يمكن أن تبرر هذا التحيز من قبل أمريكيا وإنجلترا بالذات، لصالح إسرائيل والتي يمكن أن تجعلنا نتعرف على السر في أن بريطانيا وأمريكيا من دون دول العالم هما اللتان جعلتا تحقيق الحلم الصهيوني في أرض فلسطين حقيقة واقعة. فبفضل وعد بلفور والانتداب البريطاني على فلسطين، استطاع اليهود إقامة دولتهم، وبفضل الدعم الأمريكي المتواصل، واستطاعت إسرائيل بناء نفسها والتصدي لكافة الأخطار التي واجهتها. فما هو السر في ذلك؟! هل يعود ذلك إلى نفوذ اللوبي الصهيوني وأثر الصوت اليهودي في الانتخابات ـ كما يحلو لكثير من المحللين السياسيين أن يفسروه ـ أم إلى أمر آخر؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه.
نفوذ اللوبي الصهيوني
يحاول كثير من المحللين إظهار اليهود كنموذج فريد لمجموعة ناجحة في كل مجالات الحياة، تستطيع التأثير على صناع القرار في أمريكيا وإنجلترا من خلال سيطرتها على وسائل الإعلام والاقتصاد في هذه الدول، ومن خلال ما يلجئون إليه من وسائل لممارسة الضغوط على صناع القرار في هاتين الدولتين، هذا بالإضافة إلى ما يقال عما يتميز به اليهود والزعماء الصهاينة من عبقرية ودهاء واستغلال للفرص، أمثال هرتزل، ووايزمان، وسوكولوف وغيرهم. لذلك فإن هؤلاء المحللين يعزون صدور وعد بلفور إلى حاييم وايزمان وطاقاته الجبارة وتصميمه وإخلاصه ومواهبه السياسية والعلمية، كما يعزون نجاح الحركة الصهيونية في أمريكيا إلى اللوبي الصهيوني القوى، وما يتمتع به من تنظيم، وما يملك من وسائل للضغط على الرؤساء الأمريكيين.
ان تضخيم نفوذ اللوبي الصهيوني وجعله وكأنه يحكم أمريكيا شيء مبالغ فيه جداً، إلا إذا حاولنا فهم هذا النفوذ على أساس أن هذا اللوبي يعمل في بيئة سياسية(1/24)
وثقافية ملائمة إلى أقصى الحدود للأفكار الصهيونية، التي تلقى الدعم المادي والمعنوي على المستويين الشعبي والحكومي. فالمال اليهودي في الانتخابات لا يصلح تفسيراً للإجماع السياسي الذي يحظى به دعم إسرائيل في الأوساط السياسية الأميركية، حتى تنافس فيه المتنافسون من كل ألوان الطيف السياسي. إضافة إلى أن في أميركا من أهل الثراء غير اليهود ما يكفي وزيادة لمعادلة المال اليهودي. والإعلام اليهودي لا يكفي تفسيرا لانحياز شعبي كامل يبلغ درجة الاعتقاد، بل هو اعتقاد ديني عميق ـ كما سنرى لاحقا ـ في بلد فيه من التعددية الإعلامية وحرية الكلمة ما يكفي لبلورة رأي مخالف لو كان له أنصا.
"كما إن الحديث عن عبقرية اليهود والقول بأنهم عباقرة بطبيعتهم يتطلب منا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل من موسى بن ميمون، وفرويد، وإنيشتين وغيرهم. وإلا فلماذا لم يظهر علماء طبيعة متفوقون تفوق أينشتاين بين يهود الفلاشا الإثيوبيين؟ وحتى لو رصدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق بمعزل عن أي سياقات تاريخية أو اجتماعية كما يفعل الصهاينة، فإننا سوف نكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية لم يؤدوا دورا كبيرا في تطوير الحضارة الإنسانية، بل إن فرويد وماركس وكافكا ومعظم عباقرة اليهود قد حققوا إبداعهم عن طريق الانسلاخ الفعلي أو المجازي عن مورثهم اليهودي، وعن طريق الانخراط في الحضارة العلمانية الغربية الحديثة" (1).
لهذا فأن تضخيم دور الزعماء الصهاينة أمثال هرتزل ووايزمان وغيرهم، وجعلهم وكأنهم بذلوا جهوداً خارقة وفوق العادة للحصول على مطالبهم، أمر عارٍ عن الصحة. فالأفكار الصهيونية كانت موجودة قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيرة، وتبناها أشخاص أوربيون وأمريكان في وقت كان فيه اليهود يرفضون ويحاربون من يفكر بهذه الأمور. وسيتضح لنا هذا الأمر بصورة جلية عند حديثنا عن الحركة الصهيونية والظروف التي ظهرت بها.
_________
(1) دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت(1/25)
الصوت الانتخابي اليهودي
بالمثل فإن تضخيم دور الصوت الانتخابي اليهودي في الانتخابات الأمريكية أمر مبالغ فيه ويناقض الواقع " نعم إن الجالية اليهودية نشطه ولها تأثير، ولكن القول بأنها تحكم أمريكيا ليس صحيحاً. فلم يحدث أبداً أن كان الرئيس أو نائب الرئيس يهودياً ونسبة اليهود في الكونغرس لا تزيد إلا قليلاً عن نسبة اليهود في أمريكيا أي 2ـ3% " (1) حيث يبلغ تعدادهم حوالي 6 ملايين نسمه تقريباً، أي أن أصواتهم الانتخابية لا تتعدى 2ـ3 % من نسبة الأصوات الانتخابية في أمريكيا، وهذه النسبة ليست بالنسبة الكبيرة والتي تمكن اليهود من التأثير على سير الانتخابات. ولو كان لهذه النسبة أي تأثير لكان للمسلمين والعرب في أمريكيا أثر في تشكيل السياسة الأمريكية، لأن تعدادهم يزيد عن تعداد اليهود هناك، حيث يبلغ 10 مليون عربي ومسلم.
كما أن الصوت اليهودي ليس موحدا بالطريقة التي يتخيلها البعض، بل فيه تعدد وتباين واختلاف. كما أن التحيز لإسرائيل أعمق وأرسخ في بعض الولايات الأميركية التي لا تكاد توجد بها جالية يهودية أصلاً. وقد افتخرت صحيفة (جيروسالم بوست) الإسرائيلية مؤخرا بأن "ولاية "مينوساتا" الأميركية يمثلها يهودي دائماً في مجلس الشيوخ منذ عام 1978م رغم أن عدد اليهود بها لا يتجاوز 1%. وبأن المرشحين لهذا المنصب في الولاية يهوديان هما (نورم كولمان) و (ويلستون) الذي قتل في تحطم طائرة أثناء حملته الانتخابية" (2).
ويكفي أن نعرف أن نسبة اليهود في أميركا أقل من 3%، وأن نسبتهم في مجلس الشيوخ 10% لندرك أن الصوت اليهودي ليس أهم عامل هنا، حيث أن السود يشكلون نسبة كبيرة من السكان، بالإضافة إلى أقليات أخرى، وبالرغم من ذلك لم نسمع عن أي أثر لأصواتهم الانتخابية ولم نسمع عن إي رئيس أمريكي سعى
_________
(1) الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ترجمة مصطفى كمال ـ ص 166
(2) جيروسالم بوست 27/ 10/2002م.(1/26)
لاسترضائهم كما يفعل مع اليهود. إذاً فالقضية ليست قضية صوت انتخابي فحسب .. !
تضخيم في غير محله
إن هذا التضخيم لأثر الصوت الانتخابي اليهودي ولأثر اللوبي الصهيوني في تشكيل السياسة الخارجية لأمريكا شيء مبالغ فيه وعارٍ عن الصحة. فما كان من الممكن أن يكون للصوت اليهودي واللوبي الصهيوني هذا التأثير لولا وجود عامل مهم ـ غائب عن تحليلات معظم المحللين السياسيين ـ يجعل الأمريكيين والإنجليز بعامة، والسياسيين بخاصة يرضخون، بل يتبنون الأفكار الصهيونية. وفي هذه الدراسة سنحاول البحث عن هذا العامل (الغائب) في مضمون التراث الديني لدى المسيحيين في هاتين الدولتين، والذي كان له الدور الأساسي في كسب التعاطف مع الحركة الصهيونية وبرنامجها الاستيطاني في فلسطين.(1/27)
الفصل الأول
اليهود في التراث الديني المسيحي
يستمد التراث الديني في كُلٍّ من بريطانيا وأمريكيا، أصوله من المذهب البروتستانتي السائد في هاتين الدولتين، والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما. ولسنا هنا بصدد بحث تفصيلي لمبادئ هذا المذهب، بقدر ما سنحاول إبراز التغيير الجوهري الذي أحدثه هذا المذهب في تفكير أتباعه حيال اليهود ـ ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ـ والذي ساعد كثيراً على تعاطف الكثيرين من أتباعه مع اليهود وسعيهم لتحقيق آمالهم في العودة إلى أرض فلسطين حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاثة قرون، حيث أحدثت حركة الإصلاح الديني تغييراً جوهرياً ـ بالمقارنة مع موقف الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى ـ في موقفها من اليهود ـ بحيث تولدت عن هذا الموقف نظرة جديدة للماضي والحاضر والمستقبل اليهودي، و كانت المبادئ التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني مغايرة تماماً للمبادئ الكاثوليكية في موقفها من اليهود، ولذلك يصف البعض هذه الحركة بأنها ساهمت في بعث اليهود من جديد.
لقد ظل اليهود في نظر العالم المسيحي بأسره (أمة ملعونة) لمدة ألف وخمسمائة عام، لأنهم ـ في اعتقاد المسيحيين ـ قتلة السيد المسيح، حيث عانى اليهود صنوفاً من الاضطهاد والازدراء بناء على هذا التصور الذي ترسخ في العقل المسيحي. ورغم أن هذا التصور ـ من وجهة نظر إسلامية ـ تصور ظالم أنتج ممارسات ظالمة، إلا أنه صمد على مر القرون، مدعوماً بنصوص كثيرة من الإنجيل، وظروف اجتماعية وسياسية خاصة. لكن القرن الخامس عشر الميلادي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية ـ الغربية على الأقل ـ مع بزوغ ما عرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق سياسي وعقائدي داخل الديانة المسيحية بشكل عام، والكاثوليكية الغربية بشكل خاص، حيث كان من نتائج هذه التحولات أن أصبحت المسيحية الجديدة التي عرفت باسم البروتستانتية ربيبة لليهودية، فقد أصبحت(1/28)
للتوراة ـ أو العهد القديم ـ أهمية أكبر في نظر البروتستانت من الإنجيل أو العهد الجديد، وبدأت صورة الأمة اليهودية تتغير تبعاً لذلك في أذهان المسيحيين الجدد. ولم يكن الانشقاق داخل الكنيسة ـ رغم الطابع الأيديولوجي الذي اصطبغ به ـ بعيداً عن صراعات السيادة بين الأمم الأوروبية يومها، خصوصاً بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا، فقد انحازت الكنيسة الكاثوليكية إلى جانب فرنسا، مما جعل الشعبين الإنجليزي والألماني يميلان إلى اعتناق المذهب البروتستانتي الذي يدعو للتحرر من سلطة الكنيسة.
وقد ظهر هذا التحول في النظرة المسيحية إلى اليهود في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي، القس الفيلسوف (مارتن لوثر). فقد كتب لوثر عام 1523 كتابا عنوانه: (المسيح ولد يهودياً) قدم فيه رؤية تأصيلية للعلاقات اليهودية المسيحية من منظور مغاير تماما لما اعتاده المسيحيون من قبل، فكان مما قال في كتابه: "إن الروح القدس شاءت أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها" (1). ومع ذلك لم يكن مارتن لوثر حاسماً في موقفه من اليهود، بل كان متردداً مثقلا بتراث الماضي السحيق، ولذلك عاد فألف كتاباً آخر في ذم اليهود سماه (ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم)، بعدما يئس من دفعهم لاعتناق المسيحية. لكن (لوثر) فتح ثغرة في تاريخ المسيحية لصالح اليهود ظلت تتسع إلى اليوم. وظلت كفة الصراع بين مدرسة 0المسيح ولد يهودياً) ومدرسة (ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم) تتأرجح في الضمير الغربي طيلة القرون الأربعة التالية لكتابة هذين الكتابين، حتى حسم الأمر أخيرا للمدرسة الأولى. ومما يلاحظ أن هذا المسار التاريخي لم يعرف العدل ولا التوسط: فاليهود تحولوا من (أمة ملعونة) إلى (أبناء الرب)، من (الغيتو) إلى قمة المجتمع، من (أمة مدنسة) ظلمها المسيحيون كثيراً، إلى (أمة مقدسة) يظلم بها المسيحيون شعوباً أخرى لا صلة لها بتاريخ التدنيس والتقديس هذا.
_________
(1) المسيح اليهودي ـ رضا هلال ـ ص63 - مكتبة الشروق الدولية(1/29)
كما يلاحظ ـ أيضا ـ "أن المذاهب المسيحية تفاوتت في استيعابها لهذا التحول تفاوتاً كبيراً، فالبروتستانت (الأميركيون والبريطانيون) تمثلوا هذا التحول كأعمق ما يكون، حتى أصبحت اليهودية جزءا من لحمهم ودمهم، والكاثوليك (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا) ظلوا أكثر تحفظاً إلى حد ما، ولذلك لم يبرئ الفاتيكان اليهود من دم المسيح إلا عام 1966م، أما الأرثوذكس (الأوروبيون الشرقيون) فلا يزالون يحتفظون بتلك النظرة المتوجسة تجاه اليهود واليهودية. وهذا ما يفسر التفاوت في المواقف السياسية: حيث التماهي مع الدولة اليهودية في أميركا وبريطانيا، والتحفظ في أوروبا الجنوبية على السياسات الإسرائيلية (خصوصا من طرف فرنسا أكبر الأمم الكاثوليكية الغربية) والريبة في أوروبا الشرقية، وخصوصاً روسيا، لكن ما يهمنا هنا هو التماهي الأميركي البريطاني مع الدولة اليهودية، ومحاولة فهمه" (1).
موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود:
ان الموقف التقليدي للكنيسة الرسمية تجاه اليهود طوال ما يقرب من ألفي عام (حتى المجمع المسكوني الثاني في الفاتيكان عام 1964) كان يقوم على مقولات ثلاث:
أولها- أن اليهود بقتلهم المسيح قد قتلوا (الإله).
ثانيها_ أن (الشعب المختار) إذن صار هو شعب (الكنيسة).
ثالثها- العهد القديم صوره سابقة للعهد الجديد ترمز اليه وتبشر به.
وهكذا إذن يقودنا التفسير التقليدي إلى القول بأن اليهود حينما رفضوا الاعتراف بالمسيح على أنه رسول الله قد عزلوا أنفسهم عن (طائفة) ابراهيم فانتفت عنهم صفة (شعب الله المختار) إذ حكموا على انفسهم بالدينونة من جراء خطاياهم .. وقد سبق أن عاقبهم الله بطردهم من فلسطين ونفيهم إلى بابل. ومع هذا فالوعد الذي قطعه اله لابراهيم قد تحقق، فعلى الرغم من خطايا اليهود وبعد عقابهم سمح لهم
_________
(1) المسيح اليهودي ـ رضا هلال ـ ص 64(1/30)
بالعودة إلى فلسطين على أثر قرار قورش ملك فارس. وحينما ارتكبوا اشد المعاصي مره أخرى برفضهم الاعتراف بيسوع المسيح الذي تمم الوعد عاقبهم الله اشد العقاب فبدد شملهم-كشعب- ورمى بهم في ارجاء الارض. وهكذا لم يعد أمامهم أمل في الخلاص الفردي إلا باعتناقهم المسيحية (1).
لهذا كان موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود ـ ولازال مع حدوث بعض التغيرات لصالح اليهود ـ موقفاً متشدداً، حيث كان ينظر إلى اليهود نظرة عدائية بسبب رفضهم الإيمان بدعوة السيد المسيح وكفرهم بها، ولذلك وصفهم السيد المسيح أكثر من مرة (بخراف بنى إسرائيل الضالة) وبغيرها من الأوصاف، كما أن اليهود كانوا يعتبرون مارقين وكفرة، واتهموا بأنهم قتلة المسيح. وقد كان الكاثوليك يعتقدون أن الغضب الإلهي حل على اليهود بسبب جرائمهم المتكررة عبر تاريخهم، وأنهم بذلك استحقوا فترة النفي البابلي (586ـ539 ق م) من ضمن عقوبات إلهيه عديدة توجت بطردهم النهائي من فلسطين في العام 70م، وأما النبوءات بعودتهم إلى الأرض المقدسة فقد تحققت فعلاً بحسب المعتقد الكاثوليكي عندما سمح لهم قورش ملك الفرس بالعودة من بابل إلى فلسطين (537 ـ515 ق م). "وعلى ذلك فان طرد اليهود من فلسطين على يد الرومان في العام 7م كان نتيجة مباشرة لرفضهم الإيمان بمسيحهم المنتظر عيسى عليه السلام، مما أدى لانتهاء وجودهم كأمة وتشريدهم في أصقاع الأرض، وقد استحقوا هذا العقاب ليس فقط لرفضهم المسيح وتآمرهم على قتله، بل لأنهم كانوا بعد ذلك يتحالفون مع وحش (الرؤيا) عدو المسيح، كلما سنحت لهم فرصة، مما جعلهم الأعداء التقليديين للمسيحية" (2).
لذلك لم يكن هناك في العقيدة الكاثوليكية التي تلتزم بالتفسير المجازى للإنجيل أدنى فكرة أو احتمال لعودة اليهود إلى فلسطين، أو بعث الأمة اليهودية من جديد، لأن هذه الأمة حسب رأيهم انتهى وجودها بظهور دعوة السيد المسيح. فرجال الدين الكاثوليك كانوا يعتقدون أن الفقرات الواردة في العهد القديم والتي تتنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين وبمستقبل مشرق لإسرائيل لا تنطبق على اليهود،
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص139
(2) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص271(1/31)
بل على الكنيسة الكاثوليكية مجازاً، لأن اليهود طبقاً للعقيدة الكاثوليكية اقترفوا إثماً، فطردهم الله من فلسطين إلى منفاهم في بابل، وعندما رفضوا دعوة السيد المسيح نفاهم الله ثانية، وبذلك انتهت علاقة اليهود بأرض فلسطين إلى الأبد. وقد وضح هذه النقطة بطرك الروم الكاثوليك في دمشق في كتاب له مؤرخ في 17ـ11ـ1977 حيث قال: "إنه يفوت بنو قومي أن السيد المسيح نسخ أحكام العهد القديم القومية، فبعد أن لعن سبع لعنات فقهاء العهد القديم (متى 23) ختم بهذا الحكم المبرم قائلاً: هذا بيتكم يترك خراباً (متى 23ـ38) وقد تحققت نبوءة السيد المسيح الذي رفضوه ولم يبق لهم وعد الله التوراتي بالأرض المقدسة" (1).
هكذا تمسك الفكر الكاثوليكي بحرفية الإدانات واللعنات التي لم يكف النبيون عن توجيهها إلى اليهود، واستخدم تلك الإدانات في القول بأن اليهود وقعوا في الخطيئة، وعاقبهم يهوه على ذلك بدمار الهيكل والسبي من فلسطين، ثم عاد اليهود فأغضبوا الرب بإنكارهم للمسيح عيسى ـ عليه السلام ـ فكان عقابهم ما فعله الرومان وما ترتب عليه من دمار الهيكل ومن شتات. وتبعاً لهذا المنطق الكاثوليكي لم يعد هناك مجال للتمسك بحلم مجيء مسيح آخر يخلص اليهود ويقيم مملكة الله على الأرض. "فالمسيح الذي بشرت به كتب العهد القديم قد جاء، والفداء الذي تحدثت عنه قد حدث بالفعل، ولكن لكل البشر، والخلاص بات في متناول كل البشر، ومملكة الله على الأرض قد قامت ممثلة بالكنيسة الكاثوليكية. وبالتالي لم يعد لليهود بعد أن أغضبوا الرب أي حق في التشبث بدعوى أنهم أمه تنتظر الفداء والخلاص من الشتات، إذ وضع الله حداً لوجودهم كأمه، ولم يعد أمامهم من سبيل الخلاص إلا الخلاص الفردي، باعتناق المسيحية" (2).
ومن المهم ملاحظة أنه قبل حركة الإصلاح الديني البروتستانتية لم يكن هنالك أدنى فكرة عند المسيحيين بوجوب إعادة تجميع اليهود في فلسطين ولا حتى بإعادة تجميعهم كأمة، لان فلسطين بحسب ـ معتقد الكاثوليك ـ لم تكن سوى
_________
(1) العدوان الإسرائيلي القديم، والعدوان الإسرائيلي الحديث على فلسطين ـ محمد عزة دروزة ـ ص 6 - دار الكلمة للنشر، 1979،
(2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص62(1/32)
الأرض المقدسة التي شع منها نور المسيح إلى العالم، وأن القدس هي مدينة العهد الجديد الذي حل محل العهد القديم، وأما بعض نصوص سفر (الرؤيا) بهذا الخصوص فقد فسرت رمزياً وليس حرفياً (1). وبهذا فإن النبوءات الواردة في الكتب اليهودية عن نشوء إسرائيل جديدة، فهي بحسب تفسير الكاثوليك تعني نشوء الكنيسة المسيحية بصفتها الوريث الوحيد لإسرائيل، وتجسيداً لمملكة الله على الأرض، تماماً كما كتب ووعظ القديس أوغسطين منذ القرن الخامس.
كما يرى البعض أن هذه النبوءات ـالواردة في العهد القديم ـ تحققت فعلاً، عندما أعادهم الملك الفارسي (قورش) من منفاهم في بابل في القرن السادس قبل الميلاد. ولذلك فليس هناك أي نبوءة أخرى في العهد القديم تنص على عودتهم ثانية إلى فلسطين بعد عودتهم من الأسر البابلي. "فالكنيسة الكاثوليكية رأت أن مسيرة التاريخ قد اكتملت بقيامها مملكة الله على الأرض، وبإقامة العرش البابوي في روما، التي أخذ مركز الثقل الديني ينتقل إليها من أورشليم التي أخذت تفقد بريقها ووضعها كعاصمة لمملكة الله، إذ حلت محلها روما. وبانتقال مركز الثقل الديني إلى روما والعرش البابوي، سادت النظرة الكاثوليكية إلى اليهود وفلسطين، وهى نظرة لم يكن فيها مجال لادعاء أي أساس ديني أو غيبي لحق اليهود في القدس أو فلسطين" (2). كما أن الكنيسة الكاثوليكية وغيرها من الكنائس الأخرى لم تكن تعترف بأن اليهود هم شعب الله المختار، لأن السيد المسيح حارب بشدة هذه النزعة العنصرية فيهم ودعا اليهود وغيرهم إلى الدخول في ملكوت الله المفتوح أمام جميع الصالحين "لأن الله لا يخص أحداً بالرعاية لأسباب ذاتية، فالشمس تسطع على الجميع سواءٍ بسواء" (3).
العهد القديم
بالرغم من ان المسيحية تشترك مع اليهودية في ما يسمى بالعهد القديم، الا المسيحية أضافت إليه العهد الجديد الذي تحدث عنه السيد المسيح، حيث تختلف
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص271
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص63
(3) مقارنة الأديان والاستشراف ـ د. أحمد شلبي ـ ص 119 - مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية(1/33)
المسيحية عن اليهودية في تفسير هذا الجزء المشترك المسمى بالعهد القديم، ولكل من الطرفين تفسير لاهوتي مختلف، وإن بقيت الكثير من طقوس العبادة والحياة المسيحية، لكن الخلاف الجوهري والفاصل في ما بينهما هو على هوية يسوع الناصري (1)، وتفسير العهد القديم. ولهذا فقد كان العهد القديم (التوراة) مهملاً قبل حركة الإصلاح الديني، حيث كان الاعتماد الأساسي على العهد الجديد، ورسائل الرسل، والإلهامات غير المكتوبة للباباوات، وكانت اللغة العبرية لغة ميتة، حيث كانت الأساطير الكاثوليكية ترى أن دراسة اللغة العبرية تسلية الهراطقة، وأن تعلمها بدعة يهودية.
فالكنيسة الكاثوليكية عملت على تطوير الكنيسة عبر العصور، وخلصتها من الكثير من العناصر الوثنية العالقة بها، وخصوصاً العهد القديم، بل إنه كان هناك اتجاه في بدايات العهد المسيحي لإلغاء العهد القديم، وعدم اعتباره ضمن الكتب القانونية الدينية، لكن اتجاهاً آخر رأى في حذفه خسارة للمسيحية، إذ يعني ذلك حرمان الكنيسة من حقها في وراثة اليهودية. لكن هذا الأمر تطلب من الكنيسة المسيحية محاصرة العناصر الوثنية في العهد القديم، وتقديم تفسيرات مجازية ورمزية لكل ما جاء فيه. فكلمات: القدس، أو أورشليم أو صهيون أو الأرض الموعودة .. الخ عند الكاثوليكية، تحمل معاني روحية، وتقع في السماء، وليست أسماء لأمكنة حقيقية على الأرض. كما رأت في مسألة عودة اليهود إلى فلسطين أنها عودة تمت قبل ميلاد المسيح حينما عاد بعض اليهود من سبي بابل في القرن الخامس قبل الميلاد، وان أمر اليهود انتهى كشعب يحفظ وديعة ويسلمها للمسيحيين، وأن الشعب المختار هو كل من يؤمن بالله.
وبناء على هذا التفسير الجديد للعهد القديم اعتبرت المسيحية التقليدية أن ما ورد في العهد القديم هو أحداث وقعت في الماضي، أو نبوءات تم تحقيقها، وان ما جاء في العهد الجديد هو ثورة على العهد القديم، وفقاً لما جاء في إنجيل يوحنا " لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم" ورأت أن كل القصص التي رواها العهد
_________
(1) أوجه التشابه .. والاختلاف ـ د. جورج صبرا جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672(1/34)
القديم هي رموز لحالات روحية وأخلاقية. ذلك إن إسرائيل الجديدة مثلاً هي الكنيسة، وان خراب القدس قد تحقق بالفعل عام 70م على يد تيطوس.
كما تؤمن الكاثوليكية التقليدية أن إبراهيم عليه السلام عندما اخذ الوعد من الله بالأرض لم يفهمه على انه تصريح له من الله بسرقة الأرض من مالكها، حتى لو كانت الأرض هبة من الله فهي مشروطة بطاعة الواهب. كما ترى ـ أيضا ـ أن العهد مرتبط بتحقيق وصايا الله وطاعته لا رفض حكمه، وان ارض الميعاد الحقيقية عند المسيح هي الأرض كلها، وكل ارض يتحقق فيها وعد الله. "فمن المحقق للمسيحي الحق ان (الوعد) الذي أنجز بمجئ يسوع المسيح لا يمكن أن يكون وعداً بأرض. فقد رفض يسوع المسيح في ثلاثة مواقف من الإنجيل رفضاً قاطعاً أن يربط رسالته بموضوع امتلاك أرض أو سلطة. وهكذا فالعهد الجديد الذي يعد البشرية كلها بالخلاص الأبدي يجعل من العهد القديم (عهداً) عفى عليه الزمن لأنه يعد شعباً مخصوصاً بأرض مخصوصه" (1). وبالنسبة للقدس ـ المدينة التي لم تتجاوب مع دعوة السيد المسيح ورسالته والتي حوكم فيها ـ لا ترى الكنيسة الكاثوليكية فيها علامة من علامات المجيء الثاني للمسيح. "ولعل هذه التفسيرات، وهذا الإيمان، ما أبقى كتاب العهد الجديد منفصلاً عن كتاب العهد القديم، ولم يجمعا معاً في كتاب واحد أطلق عليه الكتاب المقدس، إلا مع ولادة حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) على يد الملك هنري الثامن عام 1538، عندما تمت ترجمته إلى الإنجليزية وإتاحته للناس للقراءة، وقد تم ذلك عندما رفض البابا طلاق هنري من زوجته آنبولين مما دفعه إلى تبنى حركة الإصلاح الديني" (2).
موقف الكنيسة الكاثوليكية من الحركة الصهيونية وإسرائيل
كان موقف الكنيسة الكاثوليكية السابق من اليهود اساساً لموقفها من الحركة الصهيونية عشية المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م حيث جاء في هذا الموقف: " لقد مر ألف وثمانمائة وسبعة وعشرون سنة على تحقيق نبوءة المسيح، بأن القدس
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص151 - 152
(2) الأصولية المسيحية .. أصولها ونشأتها ودورها في صنع القرار الأمريكي ـ يوسف الحسن - جريدة الخليج عدد 8674.(1/35)
سوف تدمر. أما فيما يتعلق بإعادة بناء القدس بحيث تصبح مركزاً لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها، فيتحتم علينا أن نضيف أن ذلك يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه الذي أخبرنا مسبقا بأن القدس سوف تدوسها العامة (جنتيل) حتى نهاية زمن العامة (لوقا 21/ 24)، أي حتى نهاية الزمن (1) ".
وإزاء هذا الموقف الرافض للأفكار الصهيونية من قبل الفاتيكان، حاول هرتزل مقابلة البابا حيث تمكن في 25 تشرين ثاني 1904م من مقابلة البابا (بيوس العاشر) ودخل معه في مناقشات طويلة حول علاقة الكنيسة باليهود، وموقف الفاتيكان منهم، فقال له البابا: "أما أن يظل اليهود محتفظين بمعتقدهم ينتظرون مجيء المسيح .. والمسيح عندنا جاء وتمت بعثته للبشر، في هذه الحالة نعتبر اليهود منكرين للاهوت يسوع المسيح، ولا مجال هنا لمساعدتهم في فلسطين ولا في غيرها، هذا هو الوجه الأول، والآخر أن يذهبوا إلى فلسطين شعباً بلا دين بالمرة وفي هذه الحالة نجد أنفسنا في مجال أضيق وغير مستعدين لمؤازرتهم، ومعلوم أن الدين اليهودي هو أساس ديننا، ولكن الدين اليهودي قد جاءت عليه تعاليم المسيح وحلت محله، ولهذه العلة فليس من الممكن أن نقدم اليوم لليهود من المساعدة أكثر مما فعلنا من قبل، والذين أنكروا المسيح من اليهود ولم يعترفوا به مازالوا على هذا الإنكار حتى اليوم" (2).
ورغم هذا الموقف القوى الواضح من البابا، إلا أن هرتزل قال في رده على البابا: "إن النكبات والاضطهادات لم تكن في اعتقادي خير وسيلة لإقناع قومي بما يكرهون". وأمام هذا اللغط وقبح المواجهة ثارت ثائرة البابا واستفزه قبح أسلوب هرتزل والعبارة التي رد بها، فقال البابا: "أن سيدنا يسوع، آتى إلى هذا العالم ولا قوة له ولا سلاح فقد جاء فقيراً من حطام الدنيا وهو لم يضطهد أحداً. وإنما تعرض للاضطهاد وتخلى عنه الناس، وسلطانه على الأرض لم يظهر إلا بعد انقضاء رسالته ولم يقم للكنيسة كيان إلا بعد مضى ما لا يقل عن ثلاثمائة عام على تأسيسها وقد
_________
(1) الصهيونية المسيحية - محمد السماك ص 151
(2) الصهيونية تحرف الأناجيل / سهيل التغلبى - ص 104 - مكتبة مجد - ط 1999، الصهيونية في الستينات، الفاتيكان واليهود للأستاذ محمود نعناعه- الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة 1994.(1/36)
كان بوسع اليهود خلال تلك الفترة أن يقبلوا رسالة المسيح فلم يقبلوها ورفضوها وما زالوا يرفضونها حتى هذه الساعة" (1). وأمام هذه الشجاعة في التعبير عما يعتقده البابا بيوس العاشر ويؤمن به ويمثله، فإن هرتزل دوّن في مذكراته وادعى: "أن البابا بيوس امتعض منى لأني لم أقبلّ يده عند اللقاء ولو كنت قبلّتها كما فعل كونت ليباى ـ الذي أعد لهذا اللقاء ـ لما كان قداسته ذهب هذا المذهب الذي صدر عنه" (2).
وبعد سبع سنوات على إعلان هذا الموقف، رفض البابا بيوس العاشر من حيث المبدأ، إقامة وطن يهودي في فلسطين (3)، حيث وجه البابا رسالة جوابية إلى هرتزل، قال فيها: "لا نستطيع أبداً أن نتعاطف مع هذه الحركة ـ الصهيونية ـ نحن لا نستطيع أن نمنع اليهود من التوجه إلى القدس، ولكننا لا يمكن أبدا أن نقره، إنني بصفتي قيماً على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك بشكل آخر. لم يعترف اليهود بسيدنا، ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي، وبالتالي، فإذا جئتم إلى فلسطين وأقام شعبكم هناك، فإننا سنكون مستعدين ككنائس ورهباناً لتعميدكم جميعا" (4).
وبالرغم من هذا الرفض التام من قبل البابا للمطالب الصهيونية، إلا أن الصهاينة لم يكفوا عن المحاولة، وبعد صدور وعد بلفور في عام 1917م، أوفدت الحركة الصهيونية أحد أعضائها وهو الروسي (ناحوم سوكولوف) لمقابلة البابا (بنديكت الخامس عشر) لإقناعه بتأييد الوعد، ولكن البابا حدد موقفه وقال: "لا لسيادة اليهود على الأرض المقدسة (5) ". وقد دافعت الصحافة الكاثوليكية في أوروبا وفي الولايات المتحدة نفسها عن موقف البابا هذا، حتى إن المجلة الكاثوليكية
_________
(1) الصهيونية تحرف الأناجيل / سهيل التغلبى ص 104
(2) يوميات هرتزل، ترجمة هلدا شعبان صايغ - ص225 - سلسلسة كتب فلسطينية- مركز الأبحاث م. ت. ف- ط 1973
(3) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني - يوسف الحسن ص56
(4) الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم ـ إليكس جورافسكى ـ ترجمة د. خلف الجراد ـ ص134 - دار الفكر المعاصر/ بيروت- دار الفكر/دمشق- ط2 2000م.
(5) الصهيونية تحرف الأناجيل / سهيل التغلبى ص 107(1/37)
الأمريكية نشرت في عددها الصادر في نيسان ـ إبريل 1918م مقالاً بعنوان: (موقف المسيح من التطلعات السياسية ـ الدينية لليهود) قالت فيه: "بما أن الانتقام هو صفة اليهود المميزة، فإن التدمير الكامل لأعدائهم هو من أعظم إنجازات تطلعاتهم القومية، حيث يرى كثير من اليهود في إشباع مشاعرهم الانتقامية هذا جزءا من عظمة مستقبلهم السعيد". ولهذا دعت المجلة إلى رفض المطالب الصهيونية ومقاومتها لما ستلحقه من دمار على أهالي فلسطين مسيحيين ومسلمين.
كما أن البابا (بنديكت) تلقف التضامن الإسلامي المسيحي العربي في فلسطين ضد وعد بلفور، ليجدد رفضه السيادة اليهودية على الأرض المقدسة. "ففي ديسمبر 1920م تألفت هيئة إسلامية ـ مسيحية لمطالبة السلطات البريطانية بإعادة النظر في وعد بلفور، وطالب المؤتمر العربي الثالث في حيفا، باستبدال الانتداب البريطاني بحكومة عربية، كما احتلت أحداث الانتفاضة الفلسطينية في ربيع 1921م الصفحات الأولى في الصحف الكاثوليكية. وفي 14 من حزيران ـ يونيو 1921م أعلن البابا أن الوضع في فلسطين لم يتحسن، بل إنه ازداد سوءا من خلال التعليمات المدنية الجديدة التي استهدفت عملياً على الأقل ولو من غير قصد أصحابها ـ إقصاء المسيحية عن موقعها السابق ووضع اليهود في مكانها، ولذلك فإننا نهيب بحرارة بجميع المسيحيين بمن فيهم الحكومات غير الكاثوليكية أن تحث عصبة الأمم على إعادة النظر في الانتداب البريطاني على فلسطين" (1).
وفي 15 من أيار ـ مايو 1922م، وجه الفاتيكان مذكرة رسمية إلى عصبة الأمم تنتقد بشدة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وجاء في المذكرة التي وضعها الكاردينال كاسباري: "إن الحبر الأعظم لا يعارض في أن يتمتع اليهود في فلسطين بالحقوق المدنية أسوة بغيرهم من أبناء الجنسيات والمعتقدات الأخرى، ولكنه لا يمكن أن يوافق على منح اليهود امتيازات على غيرهم من السكان" (2). وتجاوباً مع هذا الموقف تحركت الدبلوماسية الفرنسية والإيطالية والبرازيلية (وكلها دول
_________
(1) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص 152
(2) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص 153(1/38)
كاثوليكية) في اتجاه تأخير إقرار الانتداب البريطاني على فلسطين في عصبة الأمم إلى أن يعاد النظر في وعد بلفور.
وفي عملية استيعابية لهذه التحركات، قام (ونستون تشرشل) وكان وزيرا للمستعمرات البريطانية، بحركته الالتفافية فأصدر الورقة البيضاء، التي استهدفت إقناع خصوم الصهيونية بفرض قيود على المستقبل السياسي للمستوطنين اليهود في فلسطين دون إعادة النظر في نص وعد بلفور أو في مضمونه. وفي هذا الإطار أيضا ـ جاءت توضيحات القومندون (هوغارث) من المكتب العربي في القاهرة بأن أي مستوطنة يهودية في فلسطين لن تقام إلا في حدود مراعاة الحريات السياسية والاقتصادية للسكان العرب. وقد عززت حركة تشرشل هذه، الموقف الذي اتخذه الكونجرس الأمريكي بمجلسيه الشيوخ والنواب بتأييد وعد بلفور بمنح اليهود وطنا قومياً دون إلحاق الأذى بالحقوق الدينية للمسيحيين أو غيرهم من المجموعات غير اليهودية". هذان الموقفان البريطاني (الإنجليكاني)، والأمريكي (البروتستنتي) أديا معاً إلى هزيمة موقف الفاتيكان (الكاثوليكي).
وبرغم ذلك، وبرغم انشغال البابوية بالانعكاسات السلبية على الكنيسة الكاثوليكية في الدول الشيوعية، فإن الفاتيكان لم يتراجع عن معارضة تهويد فلسطين خلال الثلاثينات من القرن العشرين. "ففي تموز ـ يوليو من العام 1937م، وفي أعقاب الثورة الفلسطينية التي نشبت في عام 1936م ألفت بريطانيا لجنة للتحقيق، أوصت اللجنة بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية مع إبقاء الأماكن الدينية في القدس وبيت لحم تحت إشراف الانتداب البريطاني، حيث عارض العرب المسلمون والمسيحيون توصيات اللجنة، وعارضها الفاتيكان أيضاً. ففي مذكرة وجهها إلى الحكومة البريطانية في السادس من آب ـ أغسطس من ذلك العام، عارض الحبر الأعظم تقسيم فلسطين، وعارض بصورة أخص وضع المناطق المقدسة بما فيها بحيرة طبريا والناصرة ضمن الجزء المخصص للدولة اليهودية. وأعرب الحبر الأعظم عن قلقه الشديد من نتائج مثل هذا التقسيم لفلسطين على المجموعات المسيحية" (1).
_________
(1) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص 155.(1/39)
وكنتيجة للثورة الفلسطينية والمعارضة الفاتيكانية وما رافقها من توتر دولي، تراجعت الحكومة البريطانية عن مشروع التقسيم، ثم أصدرت في عام 1939م الورقة البيضاء التي حددت بموجبها عدد اليهود الذين يسمح لهم بالهجرة سنويا إلى فلسطين، ومساحة الأراضي التي يسمح لهم بتملكها، ولكن ذلك لم يرق للدوائر الصهيونية التي حاولت الالتفاف على هذا الأمر من خلال ممارسة بعض الضغوط على الفاتيكان، "حيث كان آخر فصول النزاع اليهودي المسيحي في تلك الفترة محاولة الصهيونية العالمية تجريم البابا بيوس الثاني عشر بتهمة الوقوف مع النازية في الحرب العالمية الثانية، ثم الضغوط الهائلة التي أفضت إلى تبرئة اليهود من دم السيد المسيح" (1). ولكن هذه المحاولة لم تنجح في جعل البابا يغيرّ رأيه في مشروع التقسيم.
وقد عكست الصحف الأمريكية الكاثوليكية (ساين وتابليت) الحملة الفاتيكانية ضد التقسيم، وركزت على أن فلسطين ليست ولن تكون وطناً قومياً لليهود، حيث ظل هذا الموقف من الثوابت الفاتيكانية حتى إلى ما بعد تصويت الأمم المتحدة على قبول عضوية إسرائيل في المنظمة الدولية. ففي 22 من حزيران - يونيو من العام 1943 م، ورداً على بيان المنظمات الصهيونية الذي صدر في نيويورك (بيان بلتيمور) في أيار ـ مايو 1942م، وجه المبعوث الفاتيكاني إلى الولايات المتحدة الأسقف (أملتو تشيكونياني) مذكرة إلى الحكومة الأمريكية جدد فيها نداءات البابا (بنديكت الخامس عشر) بمعارضة إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وضمن المذكرة صورة عن مذكرة الكاردينال (غسباري) إلى عصبة الأمم في 4 من حزيران - يونيو 1922م والتي جاء فيها: "إذا كانت إقامة وطن يهودي أمراً مرغوباً فيه، فلن يكون من العسير إيجاد مكان مناسب أكثر من فلسطين. إن مشاكل دولية جديدة سوف تترتب على زيادة عدد السكان اليهود هناك، وسيتصدى كاثوليك العالم لهذا الأمر" (2).
غير أن الصهيونية المسيحية كانت أقدر على انتزاع موقف من الكونجرس، "يدعو فيه الإدارة الأمريكية إلى بذل جهودها لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لفتح
_________
(1) تاريخ تطور علاقة المسيحية باليهودية / د. فكتور سحاب الخليج عدد 8674.
(2) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص 156.(1/40)
أبواب فلسطين أمام اليهود، وإفساح المجال أمامهم لاستعمارها بحيث يتمكن الشعب اليهودي من إعادة بناء فلسطين كدولة يهودية ديموقراطية حرة". ونتيجة لذلك أوفد الفاتيكان في عام 1944م إلى الولايات المتحدة المونسينيور (توماس ماكماهون) ليحذر من خطر خضوع الغرب إلى المطالب الصهيونية بالضغط على المجموعات المسيحية في الشرق. وأكد ماكماهون خلال ذلك أن المسيحيين في العالم يطالبون بصوت واحد، "أن تحافظ أرض المسيح على قداستها وحرمتها".
وقبل اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل بأسبوعين وجه البابا (بيوس الثاني عشر) رسالة رعوية في الأول من أيار ـ مايو 1948م، قال فيها: " في الوقت الحاضر هناك قضية أخرى تحزننا وتدمي قلوبنا. إننا نعني بذلك قضية الأماكن المقدسة في فلسطين التي تعرضت منذ وقت طويل لأحداث محزنة والتي تؤدي يومياً إلى عمليات قتل وتدمير، ومع ذلك فإذا كان هناك جزء من العالم عزيز على ضمير كل إنسان واع ومتحضر، فإن هذا الجزء هو فلسطين .. " ثم دعا المؤمنين إلى تخصيص الصلاة في شهر أيار ـ مايو " لتسوية قضية فلسطين على أساس المساواة حتى يسود السلام والتفاهم" (1).
وهكذا احتلت الكنيسة الكاثوليكية، موقعاً أمامياً في التصدي للحركة الصهيونية منذ البداية. فالفاتيكان الذي لم يعترف حتى اليوم بإسرائيل اعترافاً قانونياً، يعارض أهداف الحركة الصهيونية اليهودية، ويعارض هجرة اليهود إلى فلسطين. ولا ينتقص من دور الفاتيكان في التصدي للحركة الصهيونية، وثيقة التبرئة التي صدرت في عام 1963. "فالمعروف أن البابا (غريغوري الثالث عشر) أصدر حكم الإدانة ضد اليهود في العام 1581م، ولم يرفع هذا الحكم إلا مؤخرا في عام 1960م عندما كلف البابا (يوحنا الثالث والعشرون) الكاردينال (بيا) إعداد مسودة نص مجمعي عن اليهود، يزيل عنهم تهمة قتل المسيح، حيث نشر نص هذه الوثيقة في عام 1963" (2).
_________
(1) الصهيونية تحرف الأناجيل - سهيل التغلبى - ص 107
(2) الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم - اليكس جورافسكى - ترجمة د. خلف الجراد ـ ص134(1/41)
وقد أثارت هذه الوثيقة احتجاجات واسعة في البلدان العربية وبرزت أصداؤها من خلال مناقشات ومداخلات واعتراضات أساقفته هذه البلدان المشتركين في المجمع، "حيث أظهرت المناقشات مقاومة قوية من بطريرك إنطاكية للكاثوليكية (طبوني) وبطريرك الأقباط الكاثوليك (اسطفانس الأول)، يؤازرهما عدد لا بأس به من أساقفة الكاثوليك الشرقيين، الذين اجمعوا على أن التطرق إلى موضوع اليهود ونفي التهمة التاريخية عنهم قد يؤدي إلى الاعتراف بدولة إسرائيل من قبل الفاتيكان من جهة، وقد يخدم مصلحة اليهود سياسياً في نزاعهم مع العرب من جهة ثانية. أما بطريرك الروم ـ الكاثوليك مكسيموس الرابع فقد أشار إلى أن المسودة المقترحة (عن اليهود) يمكن أن تقر وتصدر فقط في حال إذا كانت الكنيسة ستتحدث عن ديانات أخرى، بما في ذلك الإسلام" (1). ولكن بالرغم من هذه الاحتجاجات فقد صدرت هذه الوثيقة مسدلة الستار على فصل مهم من فصول النزاع اليهودي المسيحي في تلك الفترة، بعد أن أفضت إلى تبرئة اليهود من دم المسيح.
وهنا لا بد أن نشير إلى أمر مهم وهو أن صدور هذه الوثيقة لا يشكل تغييراً جوهرياً في نظرة الكنيسة الكاثوليكية لليهود أو تغييراً في العقيدة الكاثوليكية. فالهدف الذي بسببه صدرت الوثيقة، كان لرد الهجوم العنيف الذي تعرضت له الكنيسة الكاثوليكية من الصهيونية وأعوانها، بدعوى أن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا كان بسبب تلك الإدانة التي صدرت قبل أربعة قرون والتي تحمل اليهود مسئولية قتل المسيح. وهنا لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يدعي أن تلك الإدانة كانت صحيحة أو أنها تعتبر جزء جوهري من العقيدة المسيحية. وبالتالي فإن التخلي عنها أو إلغائها لا يعتبر تحولاً كبيراً في نظرة الكاثوليك لليهود وعلاقتهم بإسرائيل. فالوثيقة لم تنكر أن اليهود تآمروا على قتل المسيح، ولكنها تنكر أن يتحمل اليهود كشعب ذنب هذا التآمر على مر التاريخ وتعاقب عليه الأجيال بعد الأجيال.
مما تقدم يتضح لنا الموقف المتشدد للكنيسة الكاثوليكية من الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، والذي لم يترك إي أمل في إعادة بعث اليهود، أو عودتهم وتملكهم لأرض فلسطين من جديد، حيث انعكس ذلك على موقف أتباعها في
_________
(1) المصدر السابق ـ ص134.(1/42)
العالم، الذين نجد تعاطفهم مع القضية الفلسطينية واضحاً في البلدان الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا .. الخ.
موقف البروتستانت من اليهود
عندما ظهر المذهب البروتستانتي على يد (مارتن لوثر) في القرن السادس عشر، قلب الموقف الكاثوليكي رأساً على عقب، من خلال التغيرات اللاهوتية التي جاء بها والتي روجت لفكرة أن اليهود أمة مفضلة وأكدت على ضرورة عودتهم إلى أرض فلسطين، كمقدمة لعودة المسيح المنتظر وبزوغ فجر العصر الألفي السعيد. وقد كان من أهم الأسباب التي أدت إلى حدوث هذه التغيرات اللاهوتية، هو ما دعا إليه لوثر من وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم رجال الدين لها. فأصبح كل بروتستانتي حر في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره، واستنتاج معنى النصوص بشكل فردى مع عدم الاعتراف بأن فهم الكتاب المقدس وفقاً على رجال الكنيسة وحدهم. وهذا الوضع أدى إلى فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب البدع والأضاليل، مما أدى إلى تعدد الفرق البروتستانتية نفسها حتى وصل عددها الآن إلى أكثر من 200 فرقة في مذهب لم يتعدَ وجوده أكثر من أربعة قرون! (1).
كما أنه في ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم (التوراة) تحت شعار العودة إلى الكتاب المقدس باعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الاعتراف بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التي يتناقلها الباباوات الواحد عن الآخر، والتي تعتبر مصدراً مهماً من مصادر العقيدة المسيحية. وهكذا أصبح العهد القديم يشكل جزءاً مهماً من مصادر العقيدة البروتستانتية، فأصبح هو المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، ومصدراً للتعاليم الخلقية والمعلومات التاريخية أيضاً، حيث أن العهد القديم يتكون من 39 سفراً يذهب أغلب الباحثين إلى أنه لا يمكن نسبة إلا خمسة أسفارـ تجاوزاً ـ إلى سيدنا موسى، أما الباقية فهي عبارة عن سجل لتاريخ بنى
_________
(1) قصة الديانات ـ سليمان مظهر - ص 231 - الوطن العربى, 1984(1/43)
إسرائيل في فلسطين، بالإضافة إلى بعض الأسفار والنبوءات التي كتبها حاخامات اليهود على فترات متفاوتة من الزمن.
وفي ظل هذا الوضع أصبح العهد القديم مصدراً مهماً للمعلومات التاريخية عند العامة، حيث اقتصر تاريخ فلسطين على القصص المتعلقة بالوجود اليهودي فيها دون غيرها، وبالتالي أصبح البروتستانت مهيئين للاعتقاد بأنه لم يكن في فلسطين إلا الأساطير والقصص التاريخية الواردة في العهد القديم، حيث كان يبدو وكأنه لا وجود للشعوب الأخرى التي عاشت في فلسطين. وهكذا رسخت في أذهان البروتستانت فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين باعتبارها وطنهم القومي الذي أٌخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه طبقاً للنبوءات الواردة في العهد القديم.
كما أن حركة الإصلاح الديني أعطت وزناً كبيراً للغة العبرية باعتبارها اللغة الأصلية للكتاب المقدس. فلكي يفهم المؤمنون كلمة الله بشكل صحيح لا بد لهم من معرفة اللغة الأصلية التي كتب بها، وبالتالي أصبح العلماء والمصلحون وحتى العامة منكبين على دراسة اللغة العبرية وتعلمها. وهكذا يمكننا تقدير الخدمة التي قدمها لوثر لليهود، حيث أعاد بعثهم من جديد وأكد على وجوب عودتهم إلى أرض فلسطين، كمقدمة لعودة المسيح المنتظر. لهذا فإن الكنيسة الكاثوليكية كانت تصفه "بأنه يهودي أو نصف يهودي ـ متهود" وكان الكاثوليك يقولون: "أن لوثر من أصحاب البدع والأضاليل وإنه وأمثاله زاغوا عن طريق الإيمان" (1).
كما أن كثيراً من الباحثين يذهبون إلى القول بأن المذهب البروتستانتي أصلاً من صنع اليهود والماسون حيث يقول عبد الله التل في كتابه (جذور البلاء): "وجدت الماسونية في البروتستانتية خير سند لها في حربها ضد الكتلكة، وتبادل الفريقان الخدمات، الماسون يساندون البروتستانت لإذكاء الحرب بين الفرق النصرانية، والبروتستانت ينخرطون في محافل الماسون للإستفاده من نشاطهم السري ومؤامراتهم ودسائسهم" (2). ويقول عبد الله الزغبي في كتابه (الماسونية في العراء): "لقد ضرب التخطيط اليهودي بالحركة اللوثرية حجراً فأصاب به عصافير:
_________
(1) المسيحية ـ د. أحمد شلبي، ص 262
(2) جذور البلاء ـ عبد الله التل، ص 18(1/44)
1ـ أصاب الكرسي البابوي في أكرم أبنائه.
2ـ استغل الدين للمصلحة اليهودية استغلالاً فجاً بعد أن ربط العهد الجديد بالعهد القديم. فقد كان العهد القديم قبل لوثر مهجوراً، مصفداً في أقبية الأديرة، ثم أخذ بالظهور منذ الحركة اللوثرية، وفاز بالترجمة والانتشار لاستغلال ما يرونه مواعيد" (1). ويضيف: "أكاد أجزم أن دماً يهودياً يسرى بعروق لوثر، فقد خدم اليهودية خدمة لا تقدر، حسبه إخراج العهد القديم من الخزائن الرطبة والأقبية المظلمة وترجمته وربطه بالعهد الجديد ليصبح جميع مطالعيه ساعين لتنفيذ العهود التي سطرت بعد إبراهيم بقرون وألصقت به" (2).
ويمكن القول أن جمع الكتابين (العهد القديم والعهد الجديد) في مجلد واحد هو من التحولات البارزة في عالم الأفكار والأديان، حيث إنه مع عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني، أخذت التفسيرات الحرفية والشخصية للعهد القديم تنتشر وتسود، وذهب أتباع هذه الحركة إلى الاقتناع بأن ما ورد في العهد القديم هو نبوءة حرفية عن المستقبل. وخرجت من بطن هذه الحركة وتفسيراتها عقائد عبرت عن المدى الذي وصلت إليه عملية تهويد المسيحية، من بينها العقيدة الألفية، "وهى عقيدة تعود في جذورها إلى اليهودية، لكن البروتستانتية أحيتها وجعلتها فكرة مركزية في عقيدتها، وتدور حول عودة المسيح المخلص الذي سيحكم العالم لمدة ألف عام، حيث يسود خلالها السلام والعدل في مجتمع الإنسان والحيوان. وعلى الرغم من أن العهد القديم لم يذكر نصاً حول هذه العقيدة التي تتحدث عن نهاية الأزمنة، فإن عناصر يهودية روجت لهذه العقيدة في عدد من المؤلفات والكتب، تعبيراً عن تطلع يهودي لفكرة الملك المقدس في المستقبل، والذي يأتي علي هيئة ماشيح عبراني، في حين رأت المسيحية التقليدية
_________
(1) الماسونية في العراء ـ محمد على الزعبي، ص 106ـ 107 - دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع 1980
(2) المصدر السابق- ص 320.(1/45)
في هذه العقيدة نوعاً من الهرطقة والكفر، واعتبرت الكنيسة الكاثوليكية هي مملكة المسيح" (1).
وهكذا فإن أهمية الأفكار التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني على يد لوثر، تعود إلى أنها مهدت الطريق أمام نفس الأفكار التي نادت بها الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر من خلال تأكيدها على وجود الأمة اليهودية وضرورة بعث هذه الأمة من جديد وكون فلسطين وطناً لليهود. فهذه الأفكار التي أكدتها البروتستانتية لا تختلف كثيراً عن الصهيونية كفكرة "والتي تنطوي في جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون، أي مناشدة اليهود في العالم للعودة إلى أرض إسرائيل بحدودها التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة لدى اليهود" (2).
وهكذا آمن البروتستانت بأن اليهود لابد عائدون إلى الأرض المقدسة كما جاء في النبوءات التوراتية، مما أيقظ قضية انبعاث اليهود وعودتهم الجماعية إلى فلسطين، حيث يظهر المسيح للمرة الثانية، ويحكم لألف عام. وقد آمن بعض البروتستانت بضرورة اعتناق اليهود للمسيحية تمهيدا لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بإمكان تحولهم هذا بعد قدومه (3). وقد أدى انتشار الأفكار المتعلقة ببعث الأمة اليهودية بين معتنقي المذهب البروتستانتي إلى سعى الكثيرين منهم لتحقيقها طبقاً للنبوءات الواردة في العهد القديم، فمع العودة إلى أهمية الكتاب المقدس، قام الإصلاحيون بترجمته إلى لغات عديدة. كما أصبحت العودة إلى التوراة، وهى القسم الأول والأكبر من الكتاب المقدس، أساساً في المفهوم الديني الجديد، ومحورا للتعليم في المدارس.
ومع انبعاث التاريخ القديم، بكل تفاصيله وحكاياته التوراتية، تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة للمسيحيين، إلى أرض الشعب
_________
(1) الأصولية المسيحية أصولها ونشأتها ودورها في صنع القرار الأمريكي ـ يوسف الحسن- جريدة الخليج عدد 8674
(2) القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني ـ ص 51 ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عام 1973.
(3) فلسطين: القضية ـ الشعب ـ الحضارة (التاريخ السياسي من عهد الكنعانيين حتى القرن) ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 286 - دار الاستقلال- ط1 1991(1/46)
المختار، حيث "يصر المسيحيون البروتستانت على أن إسرائيل الجديدة، ليست الكنيسة المسيحية كما اعتبرهاـ مجازاً ـ القديس (أوغسطين)، بل هي بنو إسرائيل، المفترض عودتهم إلى فلسطين لإقامة مملكة الله على الأرض جغرافياً وليس مجازاً، وهو ما اعتبروه مقدمة ضرورياً للمجيء الثاني ولتحقيق المملكة الألفية السعيدة (رؤيا الفصل 2). أما الكنيسة بالنسبة إلى البروتستانت فهي مملكة الله السماوية في حين أن إسرائيل هي مملكة الله الجغرافية على أرض فلسطين وبالتالي أصبح البروتستانت من اشد أنصار إسرائيل حماساً ودعماً لها" (1).
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص272(1/47)
الفصل الثاني
بريطانيا والمشروع الصهيوني
وطدت حركة الإصلاح الديني أقدامها في إنجلترا منذ أن أنفصل الملك (هنري الثامن) عن كنيسة روما في القرن السادس عشر، "حيث لعب الخلاف بينه وبين كنيسة روما حول طلبه الموافقة على طلاق زوجته دوراً رئيسياً في انتشار البروتستانتية في إنجلترا، مما دفع الملك هنري إلى إصدار أمره الملكي سنة 1538م إلى كنائس إنجلترا بإنهاء الوصاية الكهنوتية على الكتاب المقدس وتفسيره، وتمكين كل فرد من المؤمنين من الإطلاع على نصوص الأسفار المقدسة وتفسيرها التفسير الذي يمليه عليه عقله وضميره" (1).
كما ساهمت طموحات الطبقة الرأسمالية الناشئة في حدوث هذا الانفصال، حيث كان التجار الأثرياء كارهين أشد الكره لسطوة الكنيسة الكاثوليكية وقيودها على التجارة والمعاملات المالية، وبخاصة فيما يتعلق بمسألة الفوائد على رؤوس الأموال (الربا). "حيث كانوا ضائقين أشد الضيق بما رأوه تدخلاً غير مشروع من جانب بيروقراطية كهنوتية أجنبية في أنشطتهم التجارية ومعاملاتهم المالية ومتضررين مما كانت تفرضه على تلك الأنشطة من ضرائب، فكان دعمهم وترحيبهم بحركة الإصلاح الديني للتخلص من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية" (2).
وعلى المستوى الديني, شهدت نهاية الحرب الأهلية ظهور محاولة البيوريتانيين أصحاب المذهب الطهراني في الاستفادة من التسوية الثورية "لغرض استكمال الإصلاح الديني، وإقامة مؤسسة دينية جديدة تستند إلى (البروتستانتية الربانية) ألحقة، تعم كلمتها المملكة وتستبعد الكثلكة مرة وإلى الأبد من الجسم السياسي البريطاني. حيث تم ذلك عند الإطاحة بالملك (جيمس الثاني) الكاثوليكي المذهب، وهربه من البلاد وما تبع ذلك من وضع (لائحة الحقوق) عام 1688م، ووضع الإطار
_________
(1) راجع كتاب مواقف من تاريخ الكنيسة - رولاند بينتون ـ ترجمة القس عبد النور ميخائيل - دار الثقافة المسيحية
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص66(1/48)
الديني الذي توج في فترة لاحقة بإقرار التسامح الديني التام بين جميع المذاهب" (1).
هذه الأمور وغيرها أدت إلى توطيد البروتستانتية أقدامها في بريطانيا، مما انعكس بصوره مباشرة على الموقف من اليهود، حيث ظهرت في بريطانيا، بين عدد من المسيحيين البروتستانت، رجالاً ونساءً، حركة تدعى (حركة العودة)، وهى حركة منطلقة من إيمان المسيحيين بعودة اليهود إلى فلسطين. وقد اعتقد رواد هذه الحركة أن على العالم، أن يساعد اليهود في استعادة فلسطين. وسيتضح أن مشكلة هؤلاء الرئيسية لم تكن في إقناع العالم بل في إقناع اليهود أنفسهم (2). وقد أسس هذه الحركة عالم اللاهوت توماس بريتمان، حيث لاقت دعوته آذاناً صاغية من الكثير من رجال الدولة الكبار، أمثال القاضي وعضو البرلمان (هنري فنش) الذي أصدر أول كتاب عن الصهيونية في لندن في سنة 1628م، وقد كان فنش من المؤمنين بفكرة العصر الألفي السعيد، والتي تعنى عودة المسيح المنتظر، الذي سيقيم مملكة الله في الأرض والتي ستدوم ألف عام، ولابد من عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لذلك.
ثم وصلت حركة الإصلاح الديني إلى ذروتها في إنجلترا في القرن السابع عشر، في عهد ما يسمى بالثورة البيوريتانية، عندما تولى أولفرت كروميل السلطة وأعلن الجمهورية. والحركة البيوريتانية (حركة التطهر) والتي ظهرت وانتشرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، "هي الحركة التي حولت الأفكار والمبادئ الدينية المتعلقة باليهود إلى عقيدة سياسية، أهم أفكارها: فكرة وجود الشعب اليهودي، وفكرة عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين، وفكرة ـ استيطانه وسيادته في فلسطين" (3).
ففي عهد البيوريتاريين ازداد الاهتمام بالعهد القديم بشكل كبير، وأصبح كتابهم الوحيد الذي يستمدون منه فلسفتهم وأفكارهم ومعتقداتهم وطريقة
_________
(1) لوك .. مقدمة قصيرة جداـ تأليف/ جون دون ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
(2) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 292
(3) المصدر السابق ـ ص 287(1/49)
سلوكهم. كما ازداد في عهدهم الاهتمام باللغة العبرية بشكل كبير جداً، "حتى جعلها بعضهم اللغة الوحيدة للصلاة وتلاوة الكتاب المقدس، وأقترح بعضهم أن يتضمن منهج التعليم العام في المدارس الثانوية دراسة العبرية، وظهرت لديهم نزعة التخلي عن المبادئ الخلقية المسيحية واستعاضوا عنها بالعادات والأخلاق اليهودية، بل إن إحدى مجموعاتهم المتطرفة دعت الحكومة الإنجليزية لإعلان التوراة دستوراً للقانون، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فأعتنق اليهودية، أما الذين بقوا على مسيحيتهم فقد أخذوا ينظرون بعطف متزايد إلى أولئك الذين أطلقوا عليهم أسم شعب الله القديم "اليهود" (1). وقد انتشرت الحركة البوريتانية بمبادئها وأفكارها، خارج بريطانيا، وكان نشاطها الطويل نواة للاهتمام البريطاني بالمسألة اليهودية.
المطالبة بإعادة اليهود إلى فلسطين
كان من نتائج انتشار البروتستانتية في إنجلترا، ظهور حركة منظمة تنادى بإعادة اليهود إلى فلسطين. ففي عام 1649م قام اثنان من الإنجليز المقيمين في أمستردام برفع عريضة إلى حكومتهم يطلبون فيها بذل جهد مشترك مع هولندا لتوطين اليهود في فلسطين، حيث جاء في العريضة: "ستكون هذه الأمة الإنجليزية مع سكان الأراضي المنخفضة (هولندا) أول الناس وأكثرهم استعدادا لنقل أبناء إسرائيل وبناتها إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وأسحق ويعقوب كإرث باق أبداً" (2). ولم تكن هذه الأفكار سائدة في إنجلترا وحدها في هذه الفترة، بل إنها امتدت إلى المناطق الأخرى من أوروبا والتي أصبحت البروتستانتية راسخة الأقدام فيها مثل هولندا والدنمرك ومجموعة الدول الاسكندنافية. ولكن بالرغم من أن هذه الأفكار كانت تخبو من حين لآخر، ولاقى الكثير من المؤمنين بها الازدراء والتعذيب، إلا أن الكتابات الكثيرة التي روجت لهذه الأفكار ساعدت على تعزيز فكرة العودة اليهودية إلى فلسطين.
_________
(1) الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربى/ تأليف ريجينا الشريف؛ ترجمة احمد عبالله عبد العزيز -ص 53 - المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب، 1985م. الدورية: عالم المعرفة؛ 96
(2) الصهيونية والصراع الطبقي ـ د. صادق جلال العظم ـ ص 54 - دار العودة، بيروت، ط 1، 1975.(1/50)
الأفكار الصهيونية تغزو عقول الطبقات المثقفة
تأثر كثير من الأدباء والفنانين بأفكار وأساطير العهد القديم، وأصبح مصدر إلهام لكثير منهم "فقد فسحت الأجواء البروتستانتية المجال واسعاً أمام اليهودية لدخول عالم الفن والأدب، وما عادت أهمية التوراة تنحصر في كونها كتاباً دينياً، إذ أضحت مرجعاً لتعليم الأخلاق. وهكذا انطلقت اليهودية مع عصر النهضة لتصبح ركناً أساسيا في الفكر الأوروبي الحديث، ومصدر الهام لشعراء الغرب وأدبائه ورساميه" (1). و"اليوم تضم اكبر متاحف الدنيا وأهمها، اللوحات الزيتية للفنانين المسيحيين البروتستانت، الذين خلدوا مرحلة وهج الإصلاح الديني برسمهم حكايات التوراة وأنبياء التوراة عوضاً عن القديسين. ويحتل (رمبراندت) الرسام الهولندي البروتستانتي مكان الصدارة في بعث المشاهد الإسرائيلية القديمة وشخصياتها. فقد استلهم رمبراندت التوراة عندما رسم العديد من اللوحات لإبراهيم ويعقوب وشاوؤل وشمشون وإستر وداود، كما إنه استلهم الحياة اليهودية المعاصرة، فرسم عروساً يهودية ولوحة ليهودي طاعن في السن" (2). أما في مجال الأدب فقد أصبح أنبياء اليهود يحتلون بالتدريج مكانة الأبطال اليونانيين الكلاسيكيين في عالم الأدب الغربي. كما شاعت شخصيات العهد القديم في الأعمال الأدبية حتى أن بعض هذه الأعمال حملت أسماء بعض شخصيات العهد القديم، مثل (استر) و (ناتان الحكيم).
بالإضافة إلى ذلك ظهر بعض الفلاسفة والعلماء من المؤمنين بضرورة عودة اليهود إلى أرض فلسطين. فقد جاء في كتاب (تعليقات على رسائل القديس بولس) الذي كتبه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، قوله: "إن الله قادر على جمع اليهود في كيان واحد وجعلهم في وضع مزدهر في وطنهم" (3). كما أن إسحاق نيوتن مكتشف قانون الجاذبية، في كتابه (ملاحظات على نبوءات دانيال ورؤيا القديس جون) "توصل إلى أن اليهود سيعودون إلى وطنهم، وحاول أن يضع جدولاً زمنياً للأحداث
_________
(1) فلسطين: القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 287.
(2) المصدر السابق ـ ص 288
(3) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 73.(1/51)
التي ستفضي لذلك، وتوقع تدخل قوة أرضية من أجل إعادة اليهود المشتتين" (1). وكان (جوزيف برستلى ـ مكتشف الأوكسجين) شديد الإيمان بعودة اليهود إلى فلسطين، بشرط تحولهم إلى المسيحية، حيث كان هذا الرأي السائد بين البروتستانت. وهكذا فقد كان القرن السابع عشر هو العصر الذهبي لانتشار الأفكار الدينية المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين.
تغير في الأفكار
شهد القرن الثامن عشر فترة عدم استقرار في أوروبا بسبب كثرة الحروب وما تبعها من ثورات، حيث بدأ يظهر تغير في مضامين الأفكار المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين. فبعد أن كانت هذه الأفكار تحمل الطابع الديني البحت، تسربت إليها الأفكار السياسية، حيث أصبح للقوى الأرضية دور يجب عليها أن تقوم به لكي تعيد اليهود إلى فلسطين، هذا التدخل الذي كان مرفوضاً قبل ذلك حتى من اليهود أنفسهم الذين كانوا يرون أن عودتهم إلى أرض فلسطين لا بد وأن تتم بتدخل قوة إلهية. وربما كانت جماعة حراس المعبد (ناطورى كارتا) من الجماعات القليلة التي بقيت محافظة على هذه العقيدة، حيث ترى هذه الجماعة "أن دولة إسرائيل هي ثمرة الغطرسة الآثمة للكافرين العلمانيين من أتباع الحركة الصهيونية، الذين تحدوا مشيئة الرب بإنشاء الدولة دون انتظار تدخله على شكل معجزة وظهور المسيح المخلص، الذي يعتبر في نظرهم الوحيد القادر على إقامة دولة إسرائيل لتكون مملكة للكهنة والقديسين" (2). ولهذا "يعتبرون أن قيام الدولة قبل مجيء المسيا ضلال مبين، وإثم عظيم، وقد طلبت الطائفة رسمياً من الرئيس الأمريكي نيكسون بحث طلبها بعودة مدينة القدس إلى العرب. والجدير بالذكر أن أعضاء طائفة ناتوري كارتا (60 ألفا) لا يعترفون بدولة إسرائيل على أساس أن دولة ما تحمل هذا الاسم (لا يمكن أن تنشأ إلا مع عودة المسيح) أي المسيا المنتظر" (3).
_________
(1) المصدر السابق ـ ص 79
(2) أزمة الفكر الصهيوني - د. محمد ربيع - ص80 - المؤسسة العربية للدراسة والنشر
(3) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 26(1/52)
كما أن فكرة تحول اليهود إلى المسيحية كأمر لازم لعودة اليهود إلى أرض فلسطين لم تعد ضرورية، ففي عام 1800م نشر (جيمس بيشنو) ـ وهو من المؤمنين بالعصر الألفي السعيد ـ كتابه (عودة اليهود أزمة جميع الأمم) "حيث أعتبر فيه عودة اليهود إلى فلسطين قضية دولية، بالإضافة إلى أنه لم يربط عودتهم بتحولهم إلى المسيحية كما كان سائداً قبل ذلك" (1). وأصبح الاعتقاد السائد بأن اليهود سيدخلون المسيحية بظهور المسيح المنتظر الذي سينقذهم من أعدائهم.
اللورد شافتسبرى
حمل القرن التاسع عشر تطوراً بارزاً في طبيعة (حركة العودة)، حيث ظهرت جماعات بروتستانتية تعتبر عودة اليهود إلى أرض فلسطين ركناً أساسياً في عقيدتها. ففي هذا القرن شهدت إنجلترا نهضة دينية جديدة مشابهة في مبادئها ومعتقداتها لتلك التي كانت سائدة في عهد الثورة البوريتانية، وكان من أبرز ممثلي هذه الفترة اللورد شافتسبرى الذي كان مؤمناً بضرورة قيام دولة يهودية في فلسطين تحقيقاً للنبوءات التوراتية، حيث عبر عن ذلك بقوله: "إن التطلع إلى المجيء الثاني للمسيح والإيمان بأنه سيحدث قد شكلا المبدأ المحرك والقوة الدافعة في حياتي، نظراً لأني نظرت إلى كل ما يحدث في العالم باعتباره خاضعاً لذلك الحدث العظيم وفي مكانة ثانوية بالنسبة إليه" (2). لهذا فقد نشر شافتسبرى في عام 1839م مقالاً في إحدى الصحف، لخص فيه فكرته عن العودة اليهودية، التي تقوم على أساس تدخل البشر لتحقيق نبوءات العهد القديم المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين. كما تقدم اللورد شافتيسبرى بمشروع إلى وزارة الخارجية البريطانية لاستيطان اليهود في فلسطين، على أن يخضعوا للحكم القائم في البلاد، وطالب بضمانات من الدول الأربع الكبرى.
وبالرغم من أن مشروع شافتيسبرى لم ينجح، إلا أن صاحبه لم يعرف اليأس، وانتظر مناسبة أخرى. فلما كانت حرب القرم بين العثمانيين والروس على وشك
_________
(1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 87
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص147(1/53)
الوقوع سنة 1854م، سجل في مذكراته "أن المنطقة في غليان، وأنها مقبلة على تغيرات، وأن عدداً كبيراً من المناطق سيصبح بلا حكام. ولما تساءل عن القوة التي يمكن إعطاؤها فلسطين، وهل ستكون لهولندي أم إحدى دول الشرق؟ رد على تساؤله بنفسه في مذكراته، كالآتي: "لا. لا. لا. هناك بلد بلا شعب، والله يوجهنا الآن بحكمته ورحمته نحو شعب بلا وطن". وقد تبنى الصهاينة فيما بعد هذه الجملة وأصبحت من أول الشعارات الصهيونية، "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" (1).
فقد كان شافتسبرى يعتقد أن فلسطين بلداً مهجوراً من السكان، وكان كغيره من المتدينين البروتستانت الذين "نظروا إلى فلسطين من زاوية أنها ارض التوراة وعهد التوراة، وما رأوا فيها شيئاً غير ذلك، حيث أنهم أرادوا بعث الماضي حياً أمام أعينهم، وهذا ما دعاهم، بوعي منهم وبلا وعى، إلى إغماض عيونهم عن كل ما لا يريدون رؤيته" (2). ومن أهم الأعمال التي قام بها شافتسبرى تأسيسه صندوق استكشاف فلسطين في عام 1865م، حيث قال في الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه بمناسبة تعينه رئيساً للصندوق: "دعونا لا نتأخر في إرسال أفضل العلماء لتنقيب طول فلسطين وعرضها ولمسح الأرض وتغطية كل زاوية فيها إذا أمكن، ولتجفيفها وقياسها، أي إذا شئتم لإعدادها من أجل عودة مالكيها القدماء. إذ ينبغي علىّ أن أعتقد بأنه لن يطول الزمن كثيراً قبل أن يقع هذا الحدث العظيم" (3).
واعتقاد شافتسبرى وغيره عن أرض فلسطين بأنها أرض خالية، يخالف الواقع الذي يحاول الصهاينة طمسه لأغراض دعائية. فهذا السير مونتفيور ـ وهو من المؤمنين بضرورة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين ـ والذي زار منطقة صفد في عام 1839م يقول: "إنه رأى مساحات من أشجار الزيتون عمرها -على ما أعتقد- يزيد عن 50 سنة، وكروماً ومراع شاسعة وآبار كثيرة، وكذلك التين والبندق والليمون، والتوت وغيرها ... الخ ... وحقولاً غنية بالقمح والشعير والعدس" (4). ولكن شافتسبرى وغيره
_________
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 295
(2) المصدر السابق ـ ص 309
(3) الصهيونية والصراع الطبقي ـ صادق جلال العظم ـ ص 87.
(4) تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ ص 94(1/54)
أرادوا من خلال زعمهم السابق، إقناع الحكومة الإنجليزية والشعب الإنجليزي بالدرجة الأولى، بوجوب الإسراع بتوطين اليهود في فلسطين والإعداد لذلك عن طريق إنشاء مزيد من الجمعيات والمنظمات التي تقوم بإجراء الأبحاث والدراسات حول فلسطين. وفعلاً فقد شهد القرن التاسع عشر الميلادي زيادة كبيرة في عدد الجمعيات والمنظمات التي تدعى أنها تهدف إلى استكشاف فلسطين وتطويرها، وكأن هذه الأرض خالية من السكان!!
ولهذا فقد تعرضت فلسطين منذ أواخر القرن الخامس عشر -كغيرها من بلاد المشرق الغنى بتاريخه وآثاره- "لرحلات متعددة قام بها رحالة وعلماء أجانب، أفراداُ وجماعات. إلا أن فلسطين قد لاقت ـ من دون سائر بلاد الشرق ـ اهتماماً خاصاً، لكونها أرض التوراة ومهد المسيح، فتوجهت إليها أنظار اللاهوتيين والعلماء لدراسة أرضها وتربتها ومناخها وآثارها، وللتنقيب عن أي أثر أو دليل يعود إلى العهد التوراتي" (1)، حيث كانت الدوافع الدينية ـ أحيانا ـ وحدها البارزة وراء البعثات الاستكشافية. ومن ابرز الأمثلة، الأمريكي (إدوارد روبنسون) الذي ابتدأ يعمل مع تلميذه وصديقه (إيلى سميث) في منطقة القدس منذ سنة 1838م. وقد اعترف منافسه السويسري تيتس توبلر بأن أعمال روبنسون، في جغرافية فلسطين، تتجاوز في أهميتها أعمال السابقين جميعاً. أما الكابتن (ويلسون)، وقد كان من المتطوعين الأوائل منذ سنة 1866م لعمليات المسح في القدس وضواحيها، فقد كان يعلن أمام الجميع العطف الكبير الذي كان يحمله دوماً لاستيطان اليهود في فلسطين. كذلك كان يعلن زميله (كيتشنر) صراحة أن عمله في فلسطين ليس كباحث آثار فقط، وإنما كرجل سياسي أيضا، لذلك، فهو يتفحص البلاد أرضها وتربتها تمهيدا للاستيطان اليهودي وللمستقبل المشرق الذي يبدو أن فجره سوف يطل على هذه الأرض.
ولكن يبقى الاسم الأول البارز بين هؤلاء اسم الكابتن كلود كوندر (1848ـ1910م)، ويعود ذلك إلى حماسته الصهيونية التي لا حد لها، والى العمل الذي قام به، برسم خريطة مفصلة تشمل فلسطين كلها، وقد سميت حينئذ
_________
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 301(1/55)
فلسطين الغربية. أما فلسطين الشرقية (الأردن حالياً) فقد كانت هي الأخرى هدفاً للاستيطان اليهودي، وكانت مهمة (كوندر) الأساسية أن يضع على الخريطة الأماكن التوراتية، وان يرسم الحدود لقبائل بنى إسرائيل الاثنى عشر وقد أتاح هذا العمل الفرصة لكوندر كي يتعرف على فلسطين أكثر من غيره. وقد نشر العديد من الكتب والمقالات عن تاريخ فلسطين وحاضرها ومستقبلها، فكان أكثر كاتب بريطاني (صهيوني) إنتاجاً، وهو الذي وصفه المؤرخ اليهودي (سوكولوف) بأنه أفضل عالم وخبير بفلسطين في عصره. وحين أعلن هيرتسل قيام الصهيونية رسمياً في بازل، كان كوندر من أوائل الذين اعتنقوها. كما أنه وافق فوراً على خطة لورانس اوليفانت باستيطان اليهود أرض جلعاد، شرقي الأردن، وقدم له خبرته في شؤون الأرض والناس. وهكذا مهدت أعمال بعثة (صندوق استكشاف فلسطين) الذي أنشأه شافتسبرى، بالإضافة إلى شهادات الرحالة والعلماء وكتاباتهم، درباً "واضح المعالم للصهيونية السياسية، كما ساهمت في زرع فكرة فلسطين الكبرى التي أصبحت إسرائيل الكبرى" (1).
وبالرغم من أن شافتسبرى كان من أبرز المهتمين بعودة اليهود إلى أرض فلسطين في القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أن ـ هناك ـ كثيراً من ذوى المكانة والنفوذ عملوا جادين لتحقيق هذا الهدف. فقد كان هناك نبلاء بريطانيون وعلى رأسهم (دوق كنت) وكثير من أعضاء مجلس اللوردات، بالإضافة إلى أدباء وشعراء عبروا عن عطفهم وإعجابهم بالشعب اليهودي ودعوه للعودة إلى أرضه في فلسطين؟ ولم يكن شافتيسبرى ـ بحماسته اللامحدودة ـ نسيجاً وحده، بل كان واحداً من مجموعة من كبار الإنكليز الذين صرفوا جل اهتمامهم وعملهم، في العقدين الخامس والسادس من القرن التاسع عشر الميلادي، من أجل إعادة اليهود إلى فلسطين. ومن هؤلاء البارزين الكولونيل (تشارلز هنري تشرشل) الذي كان قنصلاً سابقاً لبريطانيا في دمشق. "فقد كان من كبار المتحمسين للدولة اليهودية، ومن المؤمنين بأن مهمة بريطانيا التاريخية أن تقود اليهود المعذبين في عودتهم إلى وطنهم الأصلي. فقد بعث الكولونيل تشرشل برسالة إلى السير (موسى
_________
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ص 303ـ 305(1/56)
مونتفيورى)، أحد أقطاب اليهود الأثرياء، يناشده فيها أن يأخذ اليهود قضيتهم على عاتقهم، وهذا أمر لابد منه، إذ تبقى لليهود خطوة البداية. وليتقدم الحركة الأشخاص اليهود البارزون في مجتمعهم. فليجتمعوا، وليتفقوا وليقدموا العرائض. وقد فاقت حماسة تشرشل الإنكليزي عشرات المرات حماسة اليهود الذين كان يخاطبهم. فقد كانت أقصى ردة، لمونتفيورى على حماسة تشرشل، انه اكتفى ذات مرة بإعطائه مبلغاً من المال كي يوزعه على فقراء اليهود لدى عودته إلى الشرق. أما ردة فعل مجلس ممثلي اليهود في لندن، على رسالة مماثلة، فقد كانت في منتهى البرودة والحذر، وتذرع المجلس بضرورة استشارة اليهود في كل أوروبا" (1).
أما الكولونيل (جورج غولير)، الحاكم البروتستانتي السابق في جنوب استراليا، فقد كان يعتبر أيضاً من أبرز هؤلاء المنادين بعودة اليهود إلى فلسطين، بمساعدة بريطانيا. فمنذ عودته من استراليا إلى بلده، كرس نشاطه للمسألة اليهودية، وقد تفوق على رفاقه لكونه خبيراً بالإدارة، وخبيراً بالاستعمار ووسائله، حيث قال في تقديمه لمشروعه الصهيوني: "إنني بفضل العناية الإلهية ... تمكنت من تأسيس أروع مستعمرة ظهرت حتى الآن في العالم كله. ولذلك فإنني أطمح جاداً إلى أن أصبح مستشاراً في شأن تأسيس أهم مستعمرة يمكن للعالم أن يشهدها ـ أول مستعمرة يهودية في فلسطين" (2).
اليهود في الأدب الإنجليزي
أنعكس التعاطف مع اليهود وآمالهم في العودة إلى فلسطين على الأدب الإنجليزي ـ كما أشرنا سابقاًـ حيث أصبح أنبياء اليهود يحتلون بالتدريج مكانة الأبطال اليونانيين الكلاسيكيين في عالم الأدب الغربي، وحتى اليهود باتوا يصورون كشخصيات متميزة. وجاءت مرحلة حل الأدب فيها مكان النهج الديني، ولمعت أسماء عديدة من الشعراء والأدباء الذين انصرفت أقلامهم إلى وصف الشخصيات والصفات
_________
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 296
(2) المصدر السابق ـ ص 298(1/57)
اليهودية. وقد فاقت حماسة البعض منهم في تأييده عودة اليهود إلى فلسطين، كل تصور.
فحتى بداية القرن التاسع عشر كان اليهودي يصور في القصص الإنجليزي، إما على صورة (شايلوك) (1) أو (اليهودي التائه)، "غير أن روايتي (هارنغتون) التي صدرت عام 1817 لماريا ادجورت، و (ايفنهو) 1811م، للسير (والتر سكوت) قدمتا مفهوماً جديداً لليهودي بإبرازه على أنه شخصية طيبة، حيث وجدت ثمة بادرة عابرة حملت بذرة هذا التغيير في رواية طوباياس كوليت (مغامرات فرديناند كونت فادم ـ 1753) التي قدمت ميتاسا على أنه إسرائيلي سخي يمارس فعل الخير مع كلٍّ من اليهود والأمميين بطريقة سوية" (2).
وقد ساهم في هذا التغيير عدد من الشعراء الكبار أمثال (جون ملتون، وكوليريدج، واللورد بايرون، ووليان بليك، ووليام وردزوورث، وروبرت براونينغ). "وكان من الروائيين (والتر سكوت) الذي ابتدع شخصية ربيكا في روايته الشهيرة (آيفنهو)، و (اسكندر دوماس) الابن الذي نادى بلسان إحدى بطلاته المسرحيات بوطن دائم للشعب اليهودي. أما (دزرائيلى)، الذي أصبح رئيسا للوزراء في بريطانيا، فقد ألف العديد من الروايات، تضمنت اثنتان منها، محتوى سياسياً صهيونياً واضحاً. وقد كان دزرائيلى من كبار المتحمسين للصهيونية" (3).
وعندما جاء النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي تبنى كلاً من (روبرت براونتج) و (جورج اليوت)، قضية عودة اليهود إلى فلسطين. "فقد جاء في قصيدة براوتنج (يوم الصليب المقدس) عام 1855 قوله:
سيرحم الله يعقوب
وسيرى إسرائيل في حماه
_________
(1) راجع مسرحية تاجر البندقية - وليم شكسبير- ترجمة غازي جمال- دار القلم بيروت - ط1 1978
(2) الشخصية اليهودية في الأدب الإنجليزي ـ د. هاني الراهب ـ ص 5 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 1979.
(3) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 97(1/58)
عندما ترى يهودا القدس
سينضم الغرباء
وسيتشبت المسيحيون ببيت يعقوب
هكذا قال النبي وهكذا يعتقد الأنبياء" (1).
أما جورج اليوت، فقد كتبت في عام 1874م رواية (دانيال ديروندا)، حيث تعتبر هذه الرواية أول رواية صهيونية ـ ولو جزئياً ـ في تاريخ الأدب الإنجليزي. "وقد اعتبرت انسيكلوبيديا الصهيونية وإسرائيل أن رواية دانيال ديروندا كانت مقدمة أدبية لوعد بلفور" (2). "فإمكانية وجود أنبياء وقادة بين اليهود على غرار العهد القديم، تبدو واضحة فيها، وكذلك تظهر الشخصية اليهودية والتراث اليهودي في أعلى مجدها وشاعريتها. كما أن هدف إنشاء جمهورية يهودية بحته مرسوم ليس فقط كإمكانية وإنما كواجب" (3). فالكاتبة جعلت من دانيال بطلاً صهيونياً يكتشف بنفسه قوميته وإرثه اليهودي، حيث يقول ديروندا بعد لقائه بموردخاى: "إن الفكرة التي تتمكن منى هي استعادة وجود سياسي لشعبي، جعلهم أمة أخرى، إعطائهم مركزاً قومياً، مثلما للإنجليز. إنها مهمة تتقدم إلىّ كواجب ... وأنا مصمم على تكريس حياتي لها، على الأقل قد أتمكن من إيقاظ حركة في العقول الأخرى مثلما أوقظت في عقلي" (4).
أما اللورد (بايون) فقد اختصر قضية عودة اليهود إلى فلسطين والأفكار التي سيطرت على عقول الأدباء والمفكرين البروتستانت، في بيتين من الشعر، حيث قال في مؤلفه (الألحان العبرية):
حتى الحمامة وجدت لها عش .. عرين لكل رجل ..
_________
(1) فلسطين، القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 290.
(2) الشخصية اليهودية في الأدب الإنجليزي ـ د. هاني الراهب ـ ص 53
(3) المصدر السابق ـ ص 71.
(4) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 290.(1/59)
وصخره لكل أرنب .. ولليهود ـ قبر فقط" (1).
السياسيون والبعث اليهودي
بالإضافة إلى هذا الاهتمام بالبعث اليهودي من قبل رجال الدين والأدباء والذي كان مبني على أسس دينية، برز اهتمام آخر في القرن التاسع عشر الميلادي، اصطبغ بالصبغة السياسية، حيث أصبح الوجود اليهودي في فلسطين له أهمية سياسية بالنسبة لإنجلترا لكي تستطيع حماية مستعمراتها فيما وراء البحار، وأصبحت السلطتان الدينية والدنيوية تتاجران بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين. وهكذا تم خلال هذا القرن ربط الأفكار الدينية مع المتطلبات السياسية للإمبراطورية البريطانية، ومنذ ذلك الحين بدأ ما وصفه دافيد بولك "بالاتحاد العجيب بين السياسة الإمبراطورية ونوع من الصهيونية المسيحية الأبوية التي تتجلى في السياسة البريطانية فيما بعد" (2). فقد كانت سياسة بريطانيا تجاه فلسطين في هذا الوقت، تغذيها عدة عوامل أهمها:
1ـ محاولتها الحفاظ على ميزان القوى في أوروبا.
2ـ تأمين تجارتها مع الهند المهددة من فرنسا وروسيا.
3ـ الحد من طموحات محمد على في توسيع دولته.
كما أن بريطانيا كانت مهتمة بالشرق الأوسط وبخاصة فلسطين لأهميتها الإستراتيجية للإمبراطورية البريطانية. ولذلك سعت لكي توجد لها موطئ قدم في هذه المنطقة الإستراتيجية، فكانت بحاجة إلى من تحميه في هذه المنطقة ليرعى مصالحها، وليكون ذريعة لتدخلها في المنطقة عندما تجد أن هذه المصالح في خطر. فقد كانت فرنسا تتمتع بنفوذ في المنطقة باعتبارها حامية المسيحيين الكاثوليك، وكانت روسيا قد حصلت على حق حماية مصالح الرعايا الأرثوذكس. لهذا سعت بريطانيا للتحالف مع الدولة العثمانية ودعمها لكبح جماح الأطماع التوسعية الروسية
_________
(1) مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهو - ترجمة محمد الدويري مراجعة كلثوم السعدي- ص75 - دار الجليل للنشر - ط2 1996
(2) إفلاس النظرية الصهيونية ـ نصر شمالي ـ ص 81 منشورات فلسطين المحتلة - ط1، 1981.(1/60)
والفرنسية، وطموحات محمد على في بلاد الشام. وقد كانت بريطانيا تعتقد أن توطين اليهود في فلسطين هو الذي يمكن أن يحقق هذا الهدف.
اللورد بالمستون
عندما تولى اللورد بالمستون وزارة الخارجية في عام 1830م كان أهم نصير سياسي لمشروع اللورد شافتسبرى الخاص بإعادة اليهود إلى فلسطين، هذا بالرغم من أنه لم يكن بروتستانتياً مؤمناً ولم يكن من الرجال الذين تؤثر فيهم الأفكار الدينية. إلا أنه كان سياسياً محنكاً، حيث أدرك ما فعلته الأفكار البروتستانتية المتعلقة بعودة اليهود إلى أرض فلسطين، من آثار في الرأي العام البروتستانتي. ولذلك كانت خطوته الأولى افتتاح قنصلية بريطانية في القدس في عام 1838 م بناءً على إلحاح اللورد شافتسبرى، وقد كانت تعليمات بالمستون للقنصل الجديد تنص على أن من بين مهامه حماية كل اليهود المقيمين في فلسطين. وقد قام اللورد شافتسبرى بوداع القنصل الجديد حيث عبر في مذكراته الخاصة بالمناسبة، عن أمله بأن يأتي اليوم الذي ستحفر فيه فلسطين وتنقب، ويوم ذاك "تبرهن الأرض المقدسة على مصداقية التوراة وصحتها" (1).
لقد كان بالمستون يرى أن استيطان اليهود في فلسطين سيحقق للمصالح البريطانية مكسبين:
الأول: إرضاء الرأي العام البروتستانتي المتدين الذي يتشوق إلى إعادة اليهود إلى فلسطين، مما سيساهم في إيجاد مجموعة موالية لبريطانيا في منطقة ليس لها فيها من يواليها.
الثاني: أن استيطان اليهود في فلسطين، وتدفق أموالهم إليها، سيدعم تركيا المنهارة والتي سعى بالمستون إلى تجديد شبابها لكي تستطيع الوقوف في وجه
_________
(1) فلسطين، القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 302.(1/61)
الأطماع الروسية والفرنسية من جهة، ومحاولات محمد على الاستيلاء على بلاد الشام من جهة أخرى (1).
لهذا فقد حاول بالمستون استغلال النفوذ البريطاني لدى الباب العالي على أثر التدخل الإنجليزي الناجح ضد حملة إبراهيم باشا في بلاد الشام ـ هذا التدخل الذي أدى إلى فشل هذه الحملة ـ أراد بالمستون استغلال هذا النفوذ؛ لكي يحث السلطان على القيام بعمل ملموس لتوطين اليهود في فلسطين. ففي عام 1840م وجه بالمستون رسالة إلى السفير الإنجليزي في القسطنطينية قال فيها: "لا تتوانى عن متابعة نصحي للباب العالي بدعوة اليهود للعودة إلى فلسطين. إنك لا تدرى مدى ما سيثيره مثل هذا الإجراء من اهتمام المتدينين في هذا البلد بقضية السلطان. إن نفوذهم كبير واتصالاتهم واسعة، فضلاً عن ذلك، فإن هذا الإجراء في حد ذاته سيكون ذا فائدة كبيرة للسلطان، إذ سيجلب إلى ملكه عدداً كبيراً من الأثرياء الرأسماليين الذين سيوظفون الناس ويثرون الإمبراطورية" (2).
وهكذا نرى أن بالمستون كان مدفوعاً لتوطين اليهود في فلسطين بدافع سياسي وبدافع ديني ـ لإرضاء الرأي العام المتدين، صاحب النفوذ. فبالمستون لم يكن بوسعه أن يهمل ضغوط الرأي العام البروتستانتي الذي يؤيد إقامة دولة يهودية في فلسطين. "ففي عام 1839م تلقى بالمستون مذكرة من هنرى اسن، سكرتير البحرية البريطانية، رفعها نيابة عن الكثيرين ممن ينتظرون تحرير إسرائيل. وكانت المذكرة موجهة إلى كل دول شمال أوروبا وأمريكيا البروتستانتية، وتطالب الحكام الأوربيين بأن يقتدوا بقورش وينفذوا إرادة الله عن طريق السماح لليهود بالعودة إلى فلسطين. وقد قام بالمستون برفع المذكرة إلى الملكة فكتوريا التي كانت معروفة بورعها" (3). ولم يكن بالمستون، الوحيد في وزارة الخارجية، المؤمن بأهمية توطين
_________
(1) التآمر البريطاني على التوجهات النهضوية والوحدوية العربية، قديمة جداً، ولكن العرب للأسف لا يتعلمون ... والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين .. ولكننا لدغنا من الأفعى البريطانية عشرات المرات ولا زلنا .. فهل نؤمن .. !!؟
(2) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 124
(3) المصدر السابق ـ ص 121.(1/62)
اليهود في فلسطين من الناحيتين السياسية والدينية، بل إن هناك الكثيرين غيره كانوا يوافقونه وجهة النظر هذه، أمثال إدوارد متفورد ولورانس اوليفرنت وغيرهما.
القس وليام هشلر
كان القس هشلر، الذي كان يعمل ملحقاً في السفارة البريطانية في فينا، من أكثر المتحمسين لفكرة إعادة اليهود إلى فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر. "فقد قام في عام 1882 بعقد مؤتمر مسيحي في لندن، دعا إليه كبار المسيحيين للنظر في توطين اليهود المهاجرين من رومانيا وروسيا في فلسطين" (1). وقد زار هشلر فلسطين أكثر من مرة وألف في عام 1894م كتاباً بعنوان (إعادة اليهود إلى فلسطين حسب نبوءات الأنبياء) حيث توصل فيه من خلال بعض الحسابات إلى أن اليهود سيعادون إلى فلسطين في عام 1897ـ 1898 م. كما أن القس هشلر نشر مقالاً في العدد الأول من صحيفة (دى فلت) اليهودية، أختتمه بقوله: "أفيقوا يا أبناء إبراهيم، فالله ذاته الأب السماوي، يدعوكم إلى الرجوع إلى وطنكم القديم" (2).
وأثناء عمل هشلر في السفارة البريطانية في فينا، قدم له أحد أصدقائه كتاب (الدولة اليهودية لهرتزل) فلم يكد هشلر يفرغ من قراءة الكتاب حتى هرع إلى سفير بلاده قائلاً: "إن الحركة التي قدرها الله من قبل قد جاءت" (3) - يقصد الحركة الصهيونيةـ وبعد قراءته الكتاب طلب عقد لقاء مع هرتزل، حيث استطاع هرتزل بفضل هذا اللقاء، مقابلة قيصر ألمانيا، والذي كان يأمل منه أن يستغل نفوذه لدى الباب العالي ليقنعه بتوطين اليهود في فلسطين، ولكن هذا المسعى لم ينجح بسبب رفض السلطان عبد الحميد لذلك.
_________
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 301
(2) الاستعمار وفلسطين ـ اسرائيل مشروع استعماري ـ رفيق النتشة ـ ص 169 - - د. ن, 1986
(3) تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية ـ ص 49(1/63)
الفصل الثالث
ظهور الحركة الصهيونية
بالرغم من أن الكتابات والدراسات المتعلقة بالحركة الصهيونية احتلت حيزاً كبيراً في الأدبيات العربية خلال القرن الحالي، إلا أنها في أغلبها لم تستطع وضع هذه الحركة في حجمها الطبيعي، وبيان دورها الحقيقي في قيام إسرائيل، حيث يعزو معظم الكتاب والمحللين ـ المهتمين بالقضية الفلسطينية ـ للحركة الصهيونية، القيام بالدور الرئيس في إقامة دولة إسرائيل، ويضفون على زعماء هذه الحركة هالة من العبقرية والدهاء والقدرة على المناورة واستغلال الفرص، واستعمال وسائل الضغط المختلفة على الحكومات وصانعي القرار، من خلال ما يقال عن سيطرة اليهود واللوبي الصهيوني على وسائل الإعلام والاقتصاد العالمي. واعتقد ان ما عرضنا له في السابق يكشف ولو جزئياً زيف هذه الدعاوى ويكشف ان دور الحركة الصهيونية وزعمائها لم يكن في أحسن الأحوال إلا كصدى للأفكار التي انتشرت بين المسيحيين البروتستانت.
ولذلك فإنه ليس من المغالاة في شيء القول "بأن الصهيونية غير اليهودية، كانت قد انتشرت في أوروبا، ووصلت فكراً وتخطيطاً إلى أعلى مراحل الصهيونية ـ أي مشروع الدولة ـ بينما كان اليهود أنفسهم، سواء في أوروبا الغربية أو أوروبا الشرقية، لا يزالون خارج النشاطات الصهيونية، وفي الكثير من الأحيان كانوا يقفون ضدها، كان بعضهم لا يستوعبها عقلياً، وبعضهم يرفضها دينياً أو نفسياً، وبعضهم لم يسمع بها بعد. ويمكن القول، بصورة عامة، إن اليهود كانوا آخر من اكتشف الصهيونية في أوروبا" (1). ويؤكد هذه الحقيقة رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) بقوله: "كان التأييد للفكرة الصهيونية، منذ البداية بين من هم غير يهود، اكبر بكثير منه في الأوساط اليهودية" (2). وقد لاحظنا من خلال العرض السابق كيف أن المسيحيين البروتستانت بدؤوا يطالبون بإعادة اليهود إلى فلسطين منذ القرن
_________
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 285
(2) مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهو ص72(1/64)
السادس عشر الميلادي، ولم يتركوا وسيلة لتحقيق ذلك، من خلال عقد اللقاءات وطرح المشاريع على رجال الدولة، والقيام برحلات استكشافية لدراسة فلسطين وتهيئتها لعودة اليهود إليها، هذا في حين كان اليهود آخر من يفكر في هذا الأمر.
"ويعود السبب في إحجام اليهود عن المشاركة والتجاوب مع هذه الدعوات إلى فقره تلموذية شهيره في الجزء المسمى "كيتوبوت" ص111 والتى تتردد في اجزاء اخرى من التلمود، حيث يقول الله انه فرض على اليهود ثلاثة مواثيق: اثنان منهما يتعارضان بوضوح مع المعتقدات الصهيونية وهما:
1 - يجب على اليهود الا يتمردوا على غير اليهود.
2 - يجب الا يقوم اليهود بالهجرة إلى فلسطين قبل مجئ المسيح.
3 - والميثاق الثالث يفرض على اليهود عدم الصلاة بقوة طلباً لقدوم المسيح، حتى لا يأتي قبل موعده المحدد.
وقد قامت الغلبية العظمى من اهم حاحامات اليهودية التقليدية بتفسير المواثيق الثلاثة وواصلت اعتبار وجود اليهود في المنفى التزاماً دينياً للتكفير عن الآثام اليهودية التى جعلت الله يقوم بنفيهم" (1).
فاليهود المتدينون يبنون آمال المستقبل من العبرة بالماضي. "فهم يفسرون التوراة، بان الإسرائيليين القدماء أضاعوا الأرض المقدسة بسبب ارتكابهم المعاصي ضد الآخرين، وبسبب تخليهم عن إلههم الواحد من أجل آلهة أخرى. واليهودية في جوهرها دين ميثاق وعهد وان اختلف هذا العهد من جيل إلى جيل، فهو دائماً يبقى عقداً بين الشعب والله. فالله وعدهم بالأرض، وبأن يعيشوا فيها عيشة ازدهار، لكن في مقابل ذلك، على اليهود من جانبهم أن يقوموا بتنفيذ الشروط الخلقية والمبدئية للعهد، كما يشرحها أنبياء الله في كل عصر. فالله وحده إذاً هو الذي يحكم على سلوك أبناءه اليهود، وهو وحده الذي يرى ـ في مرحلة ما ـ أنهم قد وصلوا إلى حد
_________
(1) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ترجمة ناصر عفيفي - ص51.(1/65)
المثالية الخلقية، مما يستدعى تصحيح العهد، فيرسل لهم مسيحاً ليخلصهم من الشتات، ويعيدهم إلى الأرض المقدسة" (1).
وعقيدة المسيح المنتظر أو (النزعة المسيحانية) (2) لدى اليهود بدأت بالتكوين منذ بداية زوال (دولة) اليهود التي كانت قائمه في فلسطين، أي منذ هدم الهيكل الثاني ثم الهزيمة الكبرى التي لحقت باليهود في باركوخبا عام 132م. فمنذ ذلك الحين، فيما يروى مؤرخو اليهود ظهر الاعتقاد بمجيء (المسيح) الذي سوف يخلص بني إسرائيل من المنفى، ويعيد إليهم مجدهم التليد. "حيث اتخذ هذا الأمل المسيحاني شكل أمل مزدوج: أمل مزدوج في العودة إلى العصر الذهبي لليهود، وأمل في قيام عالم أفضل، مختلف كل الاختلاف عن عالمنا، وهذا الخلاص المسيحاني لن يحدث إلا عند نهاية الزمن. والتعجيل بمعجزة مجيء العصر المسيحاني لا يمكن أن يأتي إلا من الله، وما على الإنسان إلا أن يصلي لله ويحسن عمله أملا في ألا يتأخر الخلاص وكل محاولة للعودة إلى أرض إسرائيل قبل ظهور الإشارات الإلهية، كفر وهرطقة وثورة ضد الإله وعودة اليهود إلى أرض آبائهم شأن من اختصاص الإله وحده، ولا تتم بقرار من بنى البشر" (3).
كانت هذه هي النظرة التي حكمت تفكير اليهود منذ تدمير الهيكل للمرة الثانية وحتى بداية القرن التاسع عشر، حيث التزموا بهذه الرؤية الدينية طوال هذه الفترة، ولم يبذلوا أي جهد في سبيل العودة إلى فلسطين، وظلوا ينتظرون المسيح المنتظر لكي يخلصهم ويعيدهم إلى فلسطين بمعجزه إلهية، "حيث ملأت قصص المسيح المنتظر كثير من الثرات اليهودي القديم والحديث وكثيراً ما كانت سبباً في نزول بلايا ورزايا كثيرة باليهود في ادوار مختلفة ولا تزال هذه العقيدة إلى اليوم راسخة في نفوس الطبقات المتدينة من اليهود. واذا قام شخص وادعى انه المسيح المنتظر
_________
(1) فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ص 327
(2) يشير الفكر المشيحاني إلى أن هناك شخصا مرسلا من الآلهة يتمتع بقداسة خاصة، إنسان سماوي، وكائن معجز خلقته الآلهة قبل الدهور، يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله، وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد، وسيأتي ليعدل مسار التاريخ اليهودي؛ بل والبشرى فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص. راجع دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري
(3) صراع اليهودية مع القومية الصهيونية - د. عبد الله عبد الدائم - ص 25 - دار الطليعة, 2000(1/66)
الذي يحنون اليه منذ ازمان طويلة انكروا ادعاءه وسفهوا قوله ورفضوا الاذغان لما يدعوهم اليه. وكأن الامة اليهودية كانت ترمي لهذه الفكرة إلى غاية معنوية لا يريدون تحقيقها بوجه من الوجوه" (1).
لقد كانت تظهر بين الفترة والأخرى دعوات من بعض اليهود الذين يدعون أنهم المسيح المنتظر، فيلتف حولهم اليهود ويعقدوا عليهم الآمال ولكن سرعان ما يتضح كذب دعواتهم فتنهى هذه الدعوات بمقتل صاحبها أو تراجعه عن دعوته. "ففي عام 640 م ادعى يهودي من بيت ارامايا من قرية الفلوجة بالعراق، انه المسيح المنتظر، وقد تجمع حوله حوالي 400 شخصاً من مختلف المهن وحرقوا ثلاث كنائس، وقتلوا عمدة المنطقة، ولما بلغ خبر هذا المسيح وأعوانه السلطة أرسلت ثلة من الجيش أعملت فيهم بطشاً وتقتيلاً وقبض على المسيح المنتظر وأعدم" (2). ومن أولئك الأدعياء في الشرق الإسلامي خلال القرون الوسطى، دجال ظهر في الشام في آخر خلافة عمر بن عبد العزيز، وآخر من بلدة شرين ادعى انه سيحقق معجزة استعادة فلسطين. وظهر يهودي آخر من بلدة أصفهان يدعى عبيد الله أبو عيسى الأصفهاني، ابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بنى أميه 744م، وقال: "إن عودة فلسطين لن تتم إلا بالقتال، واعد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل من اليهود، وقد عاشت حركته فترة من الزمن في عهد أبو العباس السفاح، إلا أن الخليفة المنصور قضى على هذه الحركة وهزم جيش اليهود وفر أبو عيسى باتجاه الشمال" (3).
وفي حوالي 1160 م وفي عهد خلافة المقتفى لأمر الله العباسي حدثت فتنه كان سببها يهودي يدعى داود الروحي، كان قد ادعى أنه المسيح المنتظر. "وداود هذا نشأ في سواد الموصل ثم انتقل إلى بغداد حيث تفقه في علوم اليهود في مدارسهم الكبرى. وقد اختار بلدة العمادية شمال العراق ليعلن نبوأته فيها، إذ كان ينوى الاستيلاء على قلعتها الشهيرة بالقوة فبلغ خبر ذلك صاحب العمادية فقتله" (4).
_________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 122
(2) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة - ص407
(3) اليهودية - د. احمد شلبي - ص214
(4) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص407(1/67)
اما في العصر الحديث فقد ظهرت النزعة المشيحانية بين الجماعات اليهودية مع تطور المجتمعات الغربية وظهور النظام المصرفي الحديث والدولة القومية المركزية، "حيث فقدت كثير من الجماعات اليهودية الوظيفية وظائفها كتجار ومرابين، وتزايد بؤس أفراد هذه الجماعات وفقرهم، وعدم استطاعتهم التكيف مع التطور الذي شهدته أوروبا في عصر النهضة. وبالتالي زادت هامشيتهم وزاد الاضطهاد الواقع عليهم، ومن ثم ففي أوقات البؤس والضيق كانت الجماهير اليهودية تتذكر دائما الرسول الذي سيبعثه إله الطبيعة والتاريخ ليصلح أحوالهم" (1).
وقد ظهرت آخر هذه الدعوات الميشيحانية في عام 1648م عندما ظهر شاب يهوى يدعى (سبتاى زيفى) من أزمير بتركيا لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين، حيث أعلن أنه المسيح المنتظر. وما أن أعلن دعوته حتى تبعه عدد كبير من اليهود المتحمسين، واستمر في نشر دعوته في الأوساط الدينية اليهودية في العالم، فصار له أعوان كثيرون. "وفي سنة 1666م غادر أزمير مع جمهور من أعوانه متجها نحو اسطنبول لممارسة سلطته كملك، ولكن الباخرة التي كانت تقله مع أعوانه داهمتها عاصفة شديدة اضطرها إلى اللجوء إلى مضايق الدردنيل، ومن هناك سيق مكبلاً بالحديد إلى اسطنبول، فسجن، إلا أن سجنه زاد من الإقبال علي دعوته، فأمر السلطان محمد الرابع بنقله إلى سجن أدرنه، وأقنعه بالعدول عن دعوته بعد أن تحداه أن يمنع طلقات الرصاص من اختراق جسده، فما كان من (سبتاى زيفى) إلا أن ادعى الإسلام وغير اسمه إلى (محمد أفندي) " (2). وتعد حركة شبتاي تسفي "أهم الحركات المشيحانية التي هزت اليهودية الحاخامية من جذورها حتى لم تقم لها قائمة بعد ذلك، وهو ما مهد الطريق لظهور الحركة الصهيونية التي ترفض القيود الدينية وترفض الأوامر والنواهي وتعلي الذات القومية" (3).
هكذا كان حال اليهود طوال تاريخهم الطويل حائرين بين الدعوات الميشحانية وبين قيود حاخاماتهم التى تمنعهم من العوده إلى فلسطين بدون انتظار المسيح
_________
(1) دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت
(2) مقارنة الأديان ـ د. أحمد شلبي ص 223
(3) دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت(1/68)
المنتظر. ففي القرن الثالث عشر قام الحاخام اليعازر بن موشيه الزعيم الروحى للتجمع اليهودي في المانيا بتحذير اليهود الذين يهاجرون بكثافه إلى فلسطين من ان الله سيعاقبهم بالموت. وفي نفس الوقت تقريباً قام الحاخام عيزرا في اسبانيا بكتابة ان اليهودي الذي يهاجر إلى فلسطين انما يهجر الله الذي يوجد فقط في الشتات، حيث يعيش اغلب اليهود وليس في فلسطين. وفي منتصف القرن الثامن عشر كتب الحاخام الالماني الشهير يوناثان ايبشوتز "ان الهجرة المكثفة إلى فلسطين حتى مع موافقة كل دول العالم هي امر محظور قبل مجئ المسيح" (1). وبناء على هذه الصهيونية المسيائية المتدينة (إن جاز التعبير)، لا يوجد سبب على الأرض ـ مهما تكن أهميته ـ يستدعى العودة إلى صهيون، إلا أن يكون السبب هو الأمر الإلهي. فالعودة مرتبطة بسلطة الله التي لا تناقش. ولذلك فالصهاينة المتدينون يتهمون، كل من نادى بالعودة إلى فلسطين بدون انتظار عودة المسيح المنتظر، بالهرطقة، أي الكفر. ومن هنا تختلف هذه الصهيونية الدينية، عن الصهيونية السياسية التي قرر رجالها في مؤتمر بازل سنة 1897م العودة إلى الأرض المقدسة، ولم ينتظروا المعجزة الإلهية. "فالصهاينة المتدينون لا يرون في إي مؤتمر سياسي طريقاً للعودة، وهم، أكثر من ذلك ـ لا يرون حتى في عذاب الهولوكوست ومعسكرات النازية سببا للعودة. فالعودة إن لم تقترن بالإرادة الإلهية ـ بقدوم المسيح الجديد ـ هي عودة باطلة (2).
ولقد رأينا كيف أن اليهود أنفسهم أحجموا عن المشاركة في تأييد أو دعم دعوات المتدينين البروتستانت لهم من أجل العودة إلى أرض فلسطين، حيث كانت هذه المشكلة من أشد الصعاب التي واجهها الصهاينة غير اليهود (البروتستانت). ولكن مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، ولأسباب كثيرة أهمها، تنامي التيار المسيحي البروتستنتي الداعم لأماني اليهود بالعودة إلى فلسطين، بالإضافة إلى ازدياد اضطهاد اليهود في أوروبا، ظهر عدد من المفكرين اليهود الذين نشروا العديد
_________
(1) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ص 52 ترجمة ناصر عفيفي.
(2) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 327(1/69)
من الكتابات التي هاجمت الأفكار التقليدية، التي ترى بأن الخلاص لن يتم إلا من خلال معجزة إلهية على يد المسيح المخلص، حيث نادى هؤلاء المفكرون بضرورة تحرك اليهود من اجل تحقيق حلم العودة إلى ارض فلسطين من خلال العمل واستغلال كافة العوامل التي تخدمهم في هذا المجال.
وبذلك كان هؤلاء المفكرون من أمثال الكعى وكاليشتر وغيرهم، هم الدعاة الأوائل الذين مهدوا الطريق أمام ظهور الحركة الصهيونية على يد هرتسل. لهذا فإن الكثيرون يعتبرون أن الحركة الصهيونية المتعارف عليها الآن، وكما دعا هيرسل إليها في مؤتمر بازل سنة 1897م، "هي الوارث الشرعي لعدد من النداءات والدعوات الفكرية التي ابتدأت تظهر في أواخر الثلاثينات من القرن التاسع عشر الميلادي، لكنها لم تجد تجاوباً ـ ولو محدوداً ـ إلا مع بداية الستينات وهذا فضلا عن أن بعض النداءات والمؤلفات لم تكن لتجد الحد الأدنى من الانتشار والشهرة ـ حتى بين اليهود أنفسهم. ومع ذلك، فإنها في مجموعها مقدمة مهمة لمعرفة الصهيونية، فكراً وحركة سياسية يهودية" (1). ففي ستينيات القرن التاسع عشر، أضحى العامل المشترك لدى الرواد الأوائل، أمثال الكعى، وكاليشر وهس، اعتقادهم أن مستقبل الشعب اليهودي مشروط بعودته إلى وطنه التاريخي، وطالبوا بالعمل لتحقيق ذلك بدون انتظار عودة المسيح المخلص.
1ـ يهودا الكعى (1798ـ1878م)
كان يهودا الكعى غارقاً مثله مثل باقي اليهود، في الغيبيات الدينية، لما انتشرت في البلقان إشاعة تقول أن سنة 1840م ستكون سنة الخلاص. حيث تعلق معظم اليهود وخصوصاً المتدينين منهم بهذه الشائعة ـ النبوة. "وقبل موعد الخلاص بعام، إي في سنة 1839 م، نشر الكعى كتاباً في تعليم اللغة العبرية، دعا فيه اليهود إلى الاستغراق في الصلاة تمهيداً لتحقيق النبوءة المسيائية، ثم اتبعه بكتاب ثان سنة 1840م سماه (شلوم يروشالايم) حث فيه اليهود على دفع عشر مدخولاتهم
_________
(1) الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى - ص 161 - دار قدمس للنشر والتوزيع - ط3 2004(1/70)
لمساعدة يهود القدس، ولكن لما فشلت النبوة بعدم ظهور المسيح المخلص، ولما وقعت حادثة دمشق الشهيرة في السنة نفسها، أي سنة 1840م وهى الحادثة التي اتهم فيها اليهود بقتل المسيحيين واستنزاف دمهم ـ تخلى الكعى عن الغيبيات الدينية وسيلة وحيدة لخلاص اليهود، وبات يدعو إلى درب عملي، خصوصاً بعد رؤيته أهمية تدخل القناصل والدول الأجنبية لوقف محاكمة اليهود في دمشق" (1).
لهذا كرس يهودا الكعى ما تبقى من حياته داعياً إلى تخليص اليهود وعودتهم، بالصلاة والعمل. "وقد نشر منذ سنة 1843م سلسلة من الكتيبات والمقالات ركز فيها على أهمية الطلب من شعوب العالم كي تسمح لليهود بالعودة إلى وطنهم، كما طالب اليهود بدفع العشر من اجل العودة، حيث ربط بين الخلاص اليهودي وابتياع الأرض المقدسة (أي فلسطين) من أصحابها غير اليهود" (2).
2ـ تسفى هيرش كاليشر (1795ـ1874م)
كتب هيرش في عام 1837 يقول: "ان الله امر اليهود بالا يقوموا ابداً بانشاء دولتهم بانفسهم ومن خلال جهودهم. وفي نفس العام الذي حظر فيه هيرش على اليهود اعلان دولة يهودية، حدث زلزال في شمال فلسطين قتل الغالبية العظمى من سكان مدينة صفد والذين كان الكثير منهم من اليهود، وكانوا هاجروا حديثاً إلى فلسطين. وقد ارجع الخاخام البولندي الشهير موشيه تيتلباوم هذا الزلزال إلى عدم رضا الله عن الهجرة اليهودية الزائدة إلى فلسطين وقال تيتلباوم: ليست مشيئة الله ان نذهب إلى ارض اسرائيل عن طريق جهودنا ومشيئتنا (3).
ولكن هيرش كاليشر منذ 1842م غير آراءه تماماً واعلن أن استرداد صهيون يجب أن يبدأ بالعمل عليه من جانب اليهود أولا، أما المعجزة الميسائية، بقدوم المسيح المنتظر، فتتبع ذلك. لهذا دعا الحاخام كاليشر اليهود للاعتماد على أنفسهم
_________
(1) فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـص 313
(2) الأرض في الفكر الاجتماعي الصهيوني - كمال الخالدي ص8 - الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين - ط1 1984
(3) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ص 53 ترجمة ناصر عفيفي.(1/71)
لان خلاص بنى إسرائيل لا يمكن تصور حدوثه بواسطة معجزة "فالرب لن ينزل لقيادة شعبه، وهو لن يرسل المسيح من السماء لينفخ النفير ويجمع اليهود المشتتين للتوجه إلى أورشليم" (1) ... "فالناس البلهاء فقط، يمكن أن يصدقوا هراء كهذا. أما العقلاء فيعرفون أن الخلاص لا يكون إلا بالتدريج، وهو فوق كل شيء لن يكون إلا نتيجة جهود اليهود أنفسهم. وإذا كانت القدرة الإلهية ستقوم بمعجزة، فأي مغفل لا يكون مستعداً، عندئذ، للذهاب إلى فلسطين؟ إما أن يتخلى المرء عن بيته وماله من أجل المسيح المنتظر، فذاك هو الامتحان الحقيقي، وذاك هو التحدي" (2).
تم نشر كاليشر أفكاره سنة 1843م في كتاب من جزأين بعنوان (عقيدة صادقة) ثم أكمل تصوره في مجلد أخير نشره سنة 1862م بعنوان (البحث عن صهيون) وهو أكثر كتبه شهرة. ومن أهم الأفكار التي جاء بها كاليشر: "إن خلاص اليهود كما تنبأ الأنبياء به، يمكن أن يتم بوسائل طبيعية، أي بمجهود اليهود أنفسهم، من دون أن يتطلب ذلك مجيء المسيح، وإن الاستيطان في فلسطين يجب أن يتم من دون تأخير. ولهذا فإن كاليشر دعا اليهود إلى الاستيطان في فلسطين، حيث قال: "إن الخلاص يحتاج إلى النشاط الاستيطاني وإلى الاستعمار العملي في فلسطين بدلاً من المعجزة الإلهية" (3).
ونتيجة لهذه الآراء اتهم كاليشر بالهرطقة وقوبلت آراؤه، كما قوبلت آراء الكعى المماثلة، بعدم التجاوب من قبل اليهود، إن لم يكن بالبرود، وذلك بسبب دعوتهما إلى الإسراع في النهاية، وعدم انتظار المعجزة الإلهية، مما جعل اليهودية الأرثوذكسية تناصبهما العداء. كما أن (ليون بنسكر) ـ أحد قادة الحركة الصهيونية ـ "كان على غرار كاليشر وهس، يرفض الاعتماد على الإيمان الغيبي بالمسيح المنتظر، و وضع اللوم على الإيمان الغيبي بجعل اليهود يتخلفون عن الاهتمام
_________
(1) أزمة الفكر الصهيوني ـ د. محمد ربيع ص23.
(2) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 314
(3) الأرض في الفكر الاجتماعي الصهيوني - كمال الخالدي ص8(1/72)
بحريتهم القومية ووحدتهم واستقلالهم، مما جعلهم يغرقون إلى الأسفل، فالأسفل" (1).
هرتسل ومؤتمر بازل
مع انتشار كتابات وأفكار المفكرين اليهود، أمثال الكعى وكالشر وهس وبنسكر وغيرهم بين اليهود في دول أوروبا، أصبح الجو مهيئاً لتوحيد جهود المؤمنين بهذا النهج الجديد من خلال حركة يهودية عامة، تزعمها هيرسل مؤسس الحركة الصهيونية، الذي اخذ ينشر أفكاره بين اليهود وغيرهم من المسيحيين البروتستانت، حيث من الملاحظ أن الحركة الصهيونية في مبدأ أمرها لم تلقَ قبولاً واسعاً بين اليهود، في حين أثارت حماساً شارف الهوس بين المؤمنين المسيحيين المتحمسين لتوفير متطلبات المجيء الثاني. وبالمقابل، كانت أقوى معارضة للصهيونية من جانب المتدينين اليهود من الأرثوذكس (المتمسكين بحرفية العقيدة)، واليهود الشرقيين، وبعض الحاخامات، واليهود الإصلاحيين.
وقد ظل موقف اليهود المتدينين من الحركة الصهيونية متمسكاً بالشك وعدم الاطمئنان، في أفضل حالاته، وبالرفض الصريح والمناوأة في اشد تلك الحالات، كما في هذه الكلام للحبر المتدين صدوق من لوبلين الذي قال: "أن أورشليم ارفع الذرى التي تتطلع إليها قلوب اليهود .. لكنى أخشى أن يبدو رحيلي وصعودي إلى أورشليم كما لو كانا علامة على تحبيدى للنشاط الصهيوني. وأنى لاتضرع إلى الرب، وان روحي لتتلهف إلى كلمته، وأني لأتمنى من كل روحي أن يكون يوم الفداء آت. وأنى لانتظر بكل يقظة وقع أقدام مسيحه الذي وعدنا به. لكنى، حتى وان عذبت بثلاثمائة قضيب محمى بالنار، لن أتحرك من مكاني، ولن اصعد إلى أورشليم لصالح الصهيونيين. ولقد بلغ إيمان اليهود الأرثوذكس بشيطانية الحركة الصهيونية أن الحاخام يوسف حاييم أعلن بملء (الفم)، عندما زار تيودور هرتزل فلسطين، أن "الشر قد دخل الأرض المقدسة معه" وقال: "إننا لا نعرف حتى الآن ما الذي يمكننا أن
_________
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 323(1/73)
نفعله دفاعاً عن أنفسنا في مواجهة هؤلاء الصهيونيين الذين يريدون تدمير كل إسرائيل، فليرحمنا الله" (1).
وأهم ما يعنينا في المذهب الأرثوذكسي "أنه كان يدافع عن بقاء الشتات اليهودي حيث هو، ويرفض أي استعجال (مسيحاني) وأي عودة بالتالي إلى أرض فلسطين قبل أن تظهر العلائم الإلهية لظهور المسيح. ومن هنا كان ضد أي محاولة بشريه للتعجيل بنهاية العالم، وضد الصهيونية بشكل حاد وقاطع" (2). وليس أدل على هذه المعارضة للحركة الصهيونية من جانب اليهود هو أنه عندما بدأ التحضير الجدي لعقد أول مؤتمر صهيوني مع مطلع سنة 1897م، كان مقرراً عقده في ميونخ، ولكن لما أرسلت الدعوات الرسمية، غضب اليهود الغربيون وأعلنوا سخطهم على المؤتمر واعتبرته الصحافة الألمانية اليهودية خيانة، كما أعلنت رابطة رجال الدين اليهود في ألمانيا أن هذا المؤتمر يناقض الدعوة الميسائية، ولذا رفضته بشده، "وقد أدت هذه الحملة إلى نقل مكان المؤتمر إلى بازل بسويسرا، حيث افتتح المؤتمر يوم الأحد 29 أغسطس 1897م في صالة الاحتفالات التابعة لكازينو بلدية بازل، وأصدر المؤتمر قرارات تعرف الآن باسم (برنامج بازل) الذي أصبح الوثيقة النظرية والعملية لأهداف الصهيونية" (3)، حيث أعلنت الحركة الصهيونية عن برنامجها السياسي الذي يهدف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في أرض فلسطين.
وإذا كان لنا أن نقيم إنجازات المؤتمر الصهيوني الأول، فإنه يمكن القول إن أهم إنجاز له على الإطلاق، تمثل في انعقاد المؤتمر ذاته، أي التقاء الزعماء اليهود واتفاقهم على نهج جديد في التعامل مع المسألة اليهودية. وقد تمثل هذا النهج في رفض تصور اليهود التقليدي حول المسيح المنتظر، والبدء في البحث عن طرق عملية من أجل تحقيق الحلم القديم للشعب اليهودي، بحيث تكون هذا الطرق متكيفة وملائمة مع عوامل الزمن الملائمة لحركتها، وهنا نود أن نؤكد على أن هذا
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص159
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - أحمد حجازي السقا ص36
(3) البروتوكولات واليهودية والصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري ـص74 - دار الشروق- ط 1/ 2003(1/74)
الأمر لا ينفي الطابع الديني عن هذه الحركة، والذي يحاول كثير من المثقفين العرب إقناعنا والبرهنة عليه من خلال التفرقة بين الصهيونية واليهودية بتأويلات وتفسيرات مختلفة.
فهذا هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية - والذي يقول عنه الكثيرون أنه لاديني وعلماني- كان ينظر لنفسه على أنه المسيح المنتظر حيث ادعى انه رأى المسيا في حلم وأنه أي المسيا كان يصلى من أجله، يقول هرتزل: "ظهر لي المسيا الملك على صورة شيخ مسن في عظمته وجلاله فطوقني بذراعيه، وحملني بعيدا على أجنحة الريح والتقينا على واحد من تلك الغيوم القزحيه بصورة موسى، كانت ملامحه هي تلك الملامح التي عرفتها في حداثتي لدى تمثال (ميكل انجلو) والتفت المسيا إلى موسى مخاطبا إياه بقوله: من أجل هذا الصبي كنت اصلي. لكنه خاطبني قائلا: اذهب وأعلن لليهود بأني سوف آتى عما قريب لاجترح المعجزات العظيمة وأسدي عظائم الأعمال لشعبي وللعالم كله" (1). اما بن غوريون فيقول: "إن ما ضمن بقاء الشعب اليهودي على مر الأجيال وأدى إلى خلق الدولة، هو تلك الرؤيا المسيانيه لدى أنبياء إسرائيل رؤيا خلاص الشعب اليهودي والإنسانية جمعاء. أن دولة إسرائيل هي أداة لتحقيق هذه الرؤيا المسيانيه" (2).
"فالصهيونية هي في الأساس حركة يهودية ذات منطلقات دينية أصيله، ولكنها تختلف عن اليهودية التقليدية التي كانت سائدة قبل ذلك، هو في تبنيها طريق جديد لتحقيق الحلم اليهودي من خلال رفضها للتصور التقليدي بضرورة انتظار عودة المسيح المنتظر، وضرورة العمل لتهيئة الظروف للتمهيد لهذه العودة وتحقيق الحلم الصهيوني" (3). فقد كانت الصهيونية سواء بالنسبة لليهود أو المسيحيين بمثابة تحقيق لنبوءة قديمة: "ويحمل معجزة للغرباء، ويجمع إسرائيل الشتات،
_________
(1) التلمود والصهيونية ـ اسعد رزوق ص236 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1973
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 24
(3) هناك شبه كبير بين الفكره الصهيونية وفكرة ولاية الفقيه التى نادى بها الامام الخمينى، حيث ان كلاهما رفضتا التفسير التقليدى لانتظار المسيح المنتظر عند اليهود، والمهدي المنتظر عند الشيعه. واتخذتا خطوات إلى الامام كان الفكر التقليدى يعتقد بانهما من مهام المسيح المنتظر أو المهدي المنتظر.(1/75)
ويجتمع اليهود من كافة أقطار الأرض" هكذا قال يشعياه. كما تنبأ حزقيال: "وخلصتكم من الغرباء وجمعتكم من كل الأقطار، أحضركم إلى أرضكم" (1).
وربما يرفض البعض تحليلنا السابق الذي يحصر أهمية قيام الحركة الصهيونية في مجرد أنها رفضت التصور التقليدي الغيبي الذي كان سائداً قبل ذلك، وإتباع منهج جديد لتحقيق الحلم الصهيوني، ويعتبرون في ذلك انتقاصاً للدور الكبير الذي لعبته الحركة في قيام إسرائيل. وكان من الممكن أن يكون هذا الرفض في محله لو أن هذه الحركة عملت لتحقيق قيام إسرائيل بمفردها، أو أنها كانت أول من تبنى هذه الفكرة، ولكننا لاحظنا من خلال العرض السابق كيف أن التفكير بإعادة اليهود إلى فلسطين بدأ قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاثة قرون على أيدي إتباع المذهب البروتستانتي، الذين لم يتركوا مناسبة إلا استغلوها من أجل تحقيق هذه العودة، كما أنهم قاموا بدراسة فلسطين والبحث فيها من أجل إعدادها وتهيئتها لسكانها الجدد، الذين لم يطلب منهم سوا التجاوب مع هذه الجهود وعدم رفضها.
وقد جاء هذا التجاوب من قبل الحركة الصهيونية، التي وجدت كافة الأمور ممهدة أمامها، ولم يكن مطلوب منها سوى تبنى هذه الدعوة نيابة عن اليهود في كل مكان، والعمل على استغلال كافة العوامل الدينية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، بالإضافة إلى المتغيرات الدولية لصالحها، من أجل إقناع الحكومة البريطانية وأمريكيا بضرورة توطين اليهود على أرض فلسطين. ومن هنا بدأ الزعماء الصهاينة يتحركون نحو الحكومة البريطانية لمساعدتهم في ذلك.
اللجنة الملكية لهجرة الغرباء
بالإضافة إلى العامل الديني والمكاسب السياسية التي ستجنيها بريطانيا من خلال توطين اليهود في فلسطين، برز عامل آخر مهم، وهو هجرة اليهود من دول أوروبا الشرقية إلى دول أوروبا الغربية وأمريكيا فراراً من الاضطهاد. فقد كانت هذه الهجرة تقلق تلك الحكومات، ومنها بريطانيا التي سعت لوضع حل لهذه المشكلة. فشكلت في عام 1902م اللجنة الملكية لهجرة الغرباء، حيث حاولت تقدير أخطار
_________
(1) مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهوـ ترجمة محمد الدويرى - ص77(1/76)
هذه الهجرة غير المقيدة، وما يجب أن تتخذه الحكومة البريطانية حيالها. وكان من بين الشهود الذين تحدثوا أمام تلك اللجنة (تيودور هرتزل) مؤسس الحركة الصهيونية، الذي قدم حلاً للمشكلة مبنى على أسس صهيونية، حيث قال في شهادته: "لا شيء يحل المشكلة التي دعيت اللجنة إلى حلها وتقديم الرأي بشأنها، سوى تحويل تيار الهجرة الذي سيستمر بصورة متزايدة من أوروبا الشرقية. إن يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم، أين سيذهبون؟ إذا كنتم ترون أن بقاءهم هناك غير مرغوب فيه، فلا بد من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه دون أن تثير هجرتهم المشاكل التي تواجهكم هنا. لن تبرز هذه المشكلة إذا وجد وطن لهم يتم الاعتراف به قانونياً وطناً يهودياً" (1).
وقد لاقى اقتراح هرتزل السابق آذاناً صاغية من السياسيين البريطانيين، حيث اقترح تشامبرلين ـ وزير المستعمرات البريطانية ـ إعطاء العريش لليهود لتكون مركز تجميع لهم قرب فلسطين، ولكن هذا الاقتراح فشل لعدة أسباب، فما كان من تشامبرلين إلا أن أقترح في عام 1903م (في عهد حكومة بلفور) إعطاء أوغندا (2) لليهود ليقيموا فيها وطناً لهم، ولكن المؤتمر الصهيوني السادس المنعقد في لندن عام 1903م، رفض هذا العرض لبعده عن الهدف النهائي وهو فلسطين، والتي كانت في هذه الفترة خاضعة للسيطرة التركية، ولذلك لم يكن بمقدور الحكومة البريطانية إعطاء أي التزام للحركة الصهيونية تجاه فلسطين.
وعد بلفور
عندما استطاعت بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، الاستيلاء على فلسطين في عام 1917م، أصدر اللورد بلفور وزير الخارجية البريطاني وعده المشؤوم في 2ـ11ـ1917م، في عهد حكومة لويد جورج، والذي ينص على إعطاء اليهود وطناً
_________
(1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 192
(2) الكاتب يميل إلى الشك في صحة هذه الاقتراحات لأنها بعيدة عن الواقع والمنطق، ولا تتمشى مع التوجهات البريطانية العميقة الجذور والتي تسعى إلى توطين اليهود في فلسطين منذ القرن السادس عشر. وربما يكون الهدف من طرح هذه الأقوال هو لتبرئة ساحة انجلترا من جريمة إعطاء فلسطين لليهود وكأنه جاء كحل لمشكلة، ولم يكن نتيجة لتخطيط مسبق قائم على اعتقاد ديني موروث.(1/77)
قومياً في فلسطين، وهذا النص الحرفي للوعد: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى" (1).
ويصف السير رونالد ستوز في كتابه (استشراقات) الصدى الذي لقيه صدور الوعد بقوله: "لقي الوعد صدى رائعاً واستحساناً في الصحافة، يضاف إلى ذلك ما حظي به من التأييد العام والكبير لدى آلاف الكهنة الإنغليكانيين والقساوسة البروتستانت وغيرهم من الرجال المتدينين في سائر أنحاء الكرة الغربي" (2).
هربرت صموئيل ومستقبل فلسطين
لم يكن صدور وعد بلفور في هذا الوقت أمراً غريباً أو مفاجئاً، بالنسبة لصانعي السياسة البريطانية، حيث أن الحكومة البريطانية كانت قد أعربت في اجتماع لها في بداية الحرب العالمية الأولى، عن عزمها إقامة دولة يهودية في فلسطين. ففي ذلك الاجتماع أعلن رئيس الوزراء البريطاني، اسكويت عن تخلى بريطانيا عن سياستها التقليدية إزاء الإمبراطورية العثمانية وسعيها إلى تجزئتها واقتطاعها، فأعرب له (لويد جورج) ـ وزير الخزانة آنذاك ـ عن اهتمامه بإقامة دولة يهودية في فلسطين. كما أشار وزير الخارجية، (إدوارد غراى) "إلى الفرصة التي قد تتاح لتحقيق الأمنية القديمة للشعب اليهودي وإعادة أمجاد الدولة اليهودية" (3).
وقد حضر هذا الاجتماع هربرت صموئيل ـ المندوب السامي البريطاني في فلسطين، فيما بعد ـ حيث قدم لهذا الاجتماع دراسة عن مستقبل فلسطين بعد الحرب، تضمنت خمسة احتمالات، كان أحدها ينص على وضع فلسطين تحت الحماية البريطانية، حيث بين أهمية ذلك قائلاً: "إن الإمبراطورية البريطانية
_________
(1) فلسطين، القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 457
(2) إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني ـ د. أسعد رزوق ـ ص 362 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1973
(3) إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني ـ د. أسعد رزوق ـ ص 227.(1/78)
باتساعها وازدهارها الحاضر، ليس لديها ما تضيفه إلى عظمتها. ولكن فلسطين على صغر مساحتها تنتفخ ضخامة في مخيلة العالم، حتى أن كل إمبراطورية مهما كانت عظيمة، قد ترفع من مكانتها ومركزها بامتلاكها لها. إن ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية سوف يزيد حتى في لمعان التاج البريطاني، وسيشكل جاذباً شديد القوة لشعب المملكة المتحدة والمملكات المستقلة، خصوصاً إذا ظهر كوسيلة معلنة لمساعدة اليهود على احتلال البلاد من جديد. هناك عطف واسع الانتشار، وعميق الجذور في العالم البروتستانتي، على فكرة إرجاع الشعب العبراني إلى الأرض التي أعطيت ميراثاً له، وهناك اهتمام شديد بتحقيق النبوءات التي توقعت ذلك مسبقاً" (1).
الدافع الديني ووعد بلفور
بالرغم من أن اللورد بلفور كانت له دوافعه السياسية والعسكرية التي سعى إلى تحقيقها من وراء إعطاء هذا الوعد للحركة الصهيونية، إلا أننا لا يجب أن نغفل أثر ثقافته الدينية التي لعبت دوراً حاسماً لصالح صدور هذا الوعد، حيث يبدو أن اللورد بلفور كان ينتظر بفارغ الصبر وقوع فلسطين تحت السيطرة البريطانية، حتى يحقق مطالب الحركة الصهيونية والنبوءات الواردة في العهد القديم، مثله في ذلك مثل الجنرال (اللينبى) الذي قال مقولته المشهورة عندما دخل مدينة القدس ـ "ها قد عدنا يا صلاح الدين، اليوم انتهت الحروب الصليبية! " (2).
فاللورد بلفور كان بروتستانتينياً مؤمناً، ترعرع في أحضان التقاليد البروتستانتية الإسكوتلندية، بكل ما تحمله من حب للعهد القديم، وإيمان شديد بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر. وعن ثقافته تقول ابنة أخته ومؤرخة حياته، (بلانش دوغويل): "لقد تأثر منذ نعومة أظفاره بدراسة التوراة في الكنائس، وكلما اشتد عوده زاد إعجابه بالفلسفة اليهودية، وكان دائماً يتحدث باهتمام عن ذلك، وما زلت أذكر أنني في طفولتي اقتبست منه الفكرة
_________
(1) المصدر السابق ـ ص 237.
(2) الاستعمار وفلسطين ـ رفيق النتشة ـ ص 220(1/79)
بأن الدين النصراني والحضارة النصرانية، مدينة بالشيء الكثير لليهودية" (1). ويقول عنه (ب. جروبر) في كتابه (إسرائيل في العقل الأمريكي): "لقد كان بلفور أكثر فهماً من هرتزل لطموحات الصهيونية" (2)، وكان صهيونياً أكثر من أي صهيوني آخر، كما كان يردد ذلك بفخر. وهل كانت طموحات هرتزل وزعماء الحركة الصهيونية تفوق ما جاء في وعد بلفور الذي أكد على وجود اليهود كأمة، ثم دمج الوعد في صك الانتداب الذي وافقت عليه عصبة الأمم؟ وهل كانت طموحات هرتزل وتوقعاته ترقى إلى ما وصل إليه تفكير بلفور، عندما أجاز لليهود توسيع حدودهم شمالاً وشرقاً بحجة الحصول على المياه التي يحتاجونها؟ فقد جاء في مذكرة بلفور حول سوريا وفلسطين وما بين النهرين قوله: "إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية في العالم، فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود، ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التي تخصها بشكل طبيعي سواء كان عن طريق توسيع حدودها شمالاً، أم عن طريق عقد معاهدة مع سوريا الواقعة تحت الانتداب.
وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن" (3).
صهيونية لويد جورج
إذا كانت تلك هي صهيونية اللورد بلفور، فإن صهيونية رئيس وزرائه (لويد جورج)، لا تقل عن ذلك. فقد تربى لويد جورج على يد خاله الواعظ في إحدى الكنائس المعمدانية، المعروفة بتعصبها وإيمانها الشديد بضرورة عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر. وكانت للويد جورج خلفية كبيرة بالعهد القديم، حيث اعترف بأثره عليه عندما قال: "نشأت في مدرسة تعلمت فيها تاريخ اليهود أكثر من تاريخ بلادي، وبمقدوري أن أذكر أسماء جميع ملوك إسرائيل، ولكنني أشك إن كنت أستطيع ذكر أسماء بضعة ملوك من ملوك إنجلترا أو مثل ذلك العدد من ملوك ويلز. لقد تشربنا تاريخ جنسكم ـ يقصد اليهود ـ في أعظم أيام
_________
(1) قبل أن يهدم الأقصى ـ عبد العزيز مصطفى ـ ص 157 - دار التوزيع والنشر الإسلامية, 1990
(2) من أوراق واشنطن ـ د. يوسف الحسن ـ ص 125 - دار المستقبل العربى, ط1 1986
(3) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 160.(1/80)
مجده عندما أقام أدبه العظيم الذي سيتردد صداه حتى آخر أيام هذا العالم القديم، والذي سيؤثر في الأخلاق الإنسانية ويشكلها وسيدعم ويلهم الحاضر الإنساني، لا لليهود فحسب، بل للمسيحيين كذلك. لقد استوعبناه وجعلناه جزءاً من أفضل ما في الأخلاق المسيحية" (1).
وهذا هو حاييم وايزمان يؤكد مدى إعجاب لويد جورج بالعهد القديم، عندما تحدث عن إحدى لقاءاته معه، حيث قال: "وصلت إلى مقر رئيس الوزراء في دوانج ستريت وكانت الشوارع مكتظة بالأهالي المتهليين. ولما دخلت على لويد جورج وجدته يقرأ في مزامير داوود، وعرضت عليه خلاصة مستعجلة لأعمالنا وزياراتنا لبلاد فلسطين" (2).
وهكذا التقت أهداف الحكومة البريطانية بأهداف الصهيونية التي اغتصبت أراضي الغير تحت مسمّيات دينية متعصبة. أما كون الفلسطينيين قد عاشوا في فلسطين آلاف السنين، وأنهم كانوا وهم ما زالوا سكان البلاد الذين يملكون أكثرية الأرض والعقار، فهو بالنسبة لهم كأنه لم يكن. ومنذ بدايات الصهيونية، كتب مؤسس الحركة الصهيوينة (ثيودور هيرتزل) في يونيو 1895 م في مذكراته: "علينا أن نقذف بسكان فلسطين المفلسين الفقراء خارج فلسطين بإيجاد فرص عمل لهم في دول أخري، وحرمانهم من التوظيف داخل (بلدنا!) وفي حزيران يونيو 1938 م اجتمعت الوكالة اليهودية ليوم كامل في فلسطين حيث قررت بأغلبية ساحقة عملية التهجير الجماعي (الترانسفير) لعرب فلسطين من أراضي الدولة اليهودية المزمع إقامتها" (3).
الانتداب البريطاني وتسليم فلسطين
بعد صدور وعد بلفور، سعت بريطانيا جاهدة للحصول على موافقة الحلفاء لإخضاع فلسطين للانتداب البريطاني، وقد تم لها ذلك بسبب الدعم الأمريكي
_________
(1) المصدر السابق ـ ص 161
(2) التجربة والخطأ ـ مذكرات حاييم وايزمان ـ ترجمة محمد الشهابى ـ ص 78.
(3) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م(1/81)
اللامحدود، والضغوط والمناورات التي استخدمت لإقناع الحلفاء بذلك. "ففي يوم 25 أبريل 1920م وافق المجلس الأعلى للدول المتحالفة عند انعقاده في سان ريمو، على أن يوكل إلى الحكومة البريطانية مهمة الانتداب على فلسطين، وفي 24 يوليو 1922م أسند مجلس جمعية الأمم المتحدة مهمة الانتداب إلى الحكومة البريطانية، غير أن الانتداب لم يطبق رسمياً، لأن تركيا لم تكن قد وافقت على انفصال الولايات العربية عنها. وبمقتضى معاهدة سيفر التي عقدت في 10 أغسطس 1920 م، وافقت تركيا على انفصال الولايات العربية عنها، كما وافقت على تصريح بلفور، بيد أن معاهدة سيفر لم يتم التصديق عليها في الجمعية الوطنية التركية، التي رفضت بعض أحكامها بما في ذلك تصريح بلفور. ولم يصبح فصل الولايات العربية عن تركيا نافذاً بصورة قانونية إلا بعد ثلاث سنوات عندما أبرمت معاهدة لوزان، ووقعت عليها تركيا في 24 يوليو 1923م" (1).
وبعد أن حصلت بريطانيا على ما تريد لتحقيق الحلم الصهيوني عن طريق وضع فلسطين تحت انتدابها، الذي تم في ظله فتح أبواب فلسطين على مصراعيها أمام الهجرة اليهودية، بالإضافة إلى التسهيلات الكبيرة التي قدمتها سلطات الانتداب لليهود، والتي مكنتهم من إقامة المستعمرات، وشراء الأراضي، وتأسيس نواة الجيش الإسرائيلي. وحتى في بعض الحالات التي وجدت فيها الحكومة البريطانية، أن بعض المسئولين يقفون حائلاً أمام سرعة تنفيذ المشروع الصهيوني كما تريد، قامت هذه الحكومة بإبعاد أمثال هؤلاء المسئولين عن مناصبهم، كما فعلت ذلك مع الجنرال (بولز) الحاكم العسكري لفلسطين في بداية الانتداب. الذي قدم توصيات إلى حكومته، طالبها فيها بانتهاج سياسة عادلة تجاه السكان العرب في فلسطين، بالإضافة إلى مطالبته بإلغاء اللجنة الصهيونية، بسبب تدخلها المستمر في شؤون فلسطين الداخلية.
_________
(1) فلسطين في ضوء الحق والعدل ـ هنري كتن ـ ترجمة وديع فلسطين ـ ص 18 - معهد البحوث والدراسات العربية، 1970(1/82)
هربرت صموئيل
عندما اتضح للسلطات البريطانية أن الجنرال بولز يقف حائلاً في وجهه تحقيق الأهداف الصهيونية، سارعت هذه السلطات بإقالته من منصبه، وعينت مكانه هربرت صموئيل الصهيوني العريق، وسلمته مقدرات فلسطين ووضعته على رأس الإدارة المدنية، بعد استبدال الحكم العسكري بحكم مدني، مع العلم بأن أحكام معاهدات لاهاى، لا تجيز للدولة المحتلة إقامة حكم غير عسكري قبل التوقيع على معاهدة سلام. وقد تم هذا التبديل بعد مداخلات أجراها الرئيس الأمريكي ويلسون والكولونيل هاوس واللورد بلفور، مما حذا بالأخير إلى إصدار التعليمات اللازمة "والإتيان بضباط يعطفون على الأماني الصهيونية، لإحلالهم محل الذين شكا الصهيونيون منهم" (1).
وبمجرد أن تولى هربرت صموئيل منصبه الجديد، قام بأعمال كثيرة تخدم الأهداف الصهيونية، حيث أعتمد اللغة العبرية كلغة رسمية في فلسطين، وملأ الدوائر الحكومية بالموظفين اليهود. "وفي تصرف غير عادى أمر بإطلاق سراح الزعيم الصهيوني جابوتنسكى، بالرغم من أن سلطات الانتداب كانت قد حكمت عليه بالسجن لمدة 15 عاماً" (2).
الضباط البريطانيون ... وبناء الجيش الإسرائيلي
أطلق هربرت صموئيل يد الضباط البريطانيين، لتقديم المساعدة للمنظمات العسكرية اليهودية، وتغاضى عن كثير من تصرفاتهم التي تتنافى مع مهمتهم في فلسطين. حيث قام كثير من الضباط البريطانيين بتزويد المنظمات اليهودية بالأسلحة اللازمة لها، هذا في الوقت الذي منع السلاح عن العرب. كما قام كثير من هؤلاء الضباط بالإشراف على تدريب هذه المنظمات.
_________
(1) إسرائيل الكبرى ـ د. أسعد رزوق ـ ص 443
(2) الأيديولوجية الصهيونية (دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة) ـ عبد الوهاب المسيرى- ص 138 - المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب, 1982(1/83)
وينغيت والتفسير العسكري للتوراة
كان الكابتن تشالز اورد وينغيت مؤسس الوحدات الليلية الخاصة، "ابناً لعائلة اسكتلندية تنتمي إلى جماعة (اخوان بليموث) إحدى طوائف (المنشقين) في إنجلترا المتشبعة بروح بوريتانية صارمة. حيث كانت قصص التوراة وترانيم سفر المزامير مادة قراءاته الأولى. وظل يلهج بها طوال حياته، حتى أصبحت دارجة على لسانه. وعن طريقهما عرف أول مره شعب إسرائيل وأرض إسرائيل، اللذين ألهبا خياله منذ نعومة أظفاره" (1).
وفي أثناء توجهه إلى فلسطين، انكب وينغيت على دراسة مشكلات ارض إسرائيل الحديثة. واتضح له بسرعة، أن النضال اليهودي ليس غريبا عنه أبداً. إذ أن قصص التوراة عن حروب بني إسرائيل ضد ملوك الكنعانيين، ومناظر البلد التي كان مولعاً بها، قربته من المسألة اليهودية أكثر فأكثر. وفور وصوله، التحق وينغيت بالقوات البريطانية العاملة في فلسطين، وبدأ نشاطه من أجل تحقيق إقامة الدولة اليهودية، من خلال نشاطه العسكري المميز، حيث قام بتشكيل الوحدات الليلية الخاصة التي لعبت دوراً أساسياً في محاربة الثوار الفلسطينيين، كما لعب دوراً أساسياً في إنشاء الجيش الإسرائيلي من خلال تدريب أفراده وتزويدهم بالمعدات، وقد حدث أن التقى وينغيت بحاييم وايزمان وابن غوريون وقدم لهما خطة مفصلة لإنشاء جيش عبري في فلسطين ليكون جاهزاً لتسلم البلاد في اللحظة المناسبة. لهذا يعتبر وينجيت من أشهر الضابط الإنجليز الذين قدموا مساعدة للمنظمات الصهيونية العسكرية، حيث كان ينظر إلى المساعدة التي يقدمها لليهود كواجب ديني مفروض عليه أن يؤديه.
فقد كان وينغيت ـ مثله، مثل معظم الصهاينة غير اليهود ـ من الحرفيين الدينيين، الذين يفسرون العهد القديم تفسيراً حرفياً، ولذا كان مثابراً على تفسير الأحداث التاريخية التي وردت في الإنجيل تفسيراً عسكرياً وكأنها حدثت بالأمس،
_________
(1) الثورة العربية الكبرى في فلسطين ـ 1936ـ1939م (الرواية الإسرائيلية الرسمية) - ـ ص 331 - مؤسسة الدراسات الفلسطينية.(1/84)
على حد قول بن جوريون. وكان وينغيت مقتنعاً تمام الاقتناع بأنه مرسل في مهمة دينية مقدسة ومحددة لإنقاذ إسرائيل، وفي ذلك يقول عنه موشى ديان: "كان وينغيت يؤمن إيماناً لا يتزعزع بالتوراة. فقبل أن ينطلق في مهمته كان يقرأ في التوراة، المقطع الذي يتحدث عن المنطقة التي سيسلكها، فيجد فيه ضماناً لانتصارنا، انتصار إله يهوذا" (1).
ويوضح دافيد كوهين ـ وهو أحد الزعماء الصهاينة ـ مدى معرفة وينغيت بفلسطين، ومدى إيمانه بكل ما ورد بشأنها في التوراة، فيقول: "كنت معتاداً على التجول في البلد (فلسطين) برفقة زوار من أبناء الشعب الإنجليزي، كانوا على معرفة بأسماء من تاريخنا، ويعرفون خريطة البلد جيداً ويحفظون مقاطع من التوراة عن ظهر قلب. لكن أياً منهم لم يكن شبيهاً بوينغت في عمق معرفته، واطلاعه المذهل، وقدرته على تفسير ما ورد في التوراة. كان يروى شفاها مقطعاً في أثر مقطع. ها هي حاروشت هغوييم، ديبواره وبراك، جبال غلبواع، تل هاموريه، شوننم وعين دور ـ كل هذا كما لو كان يقرأ في خريطة أمام عينيه ـ هنا تماماً، تقريباً هنا، ... ربما خلف هذه الصخور ... هنا أرسلوا الإشارات الضوئية ... لهذا السبب أو ذاك أصيبوا ... بالتأكيد فروا من هذا الوادي ... ولماذا لم يساعدهم إخوانهم من السبط الفلاني، أما كانوا قاطنين هنا، وراء الجبل؟ وكان يتحدث بألم، بانفعال وغضب، كما لو أن الأمر حدث البارحة، كما لو أن الانقسام الكبير بين آل داود وأسباط إسرائيل أمر يخصه شخصياً" (2).
و وينغيت هذا لم يكن إلا نموذجاً من النماذج الكثيرة لضباط وجنود ومسئولين إنجليز، عملوا في فلسطين، وكانت النظرة الدينية البحتة هي التي تحكم تصرفاتهم وقراراتهم تجاه فلسطين. وقد علمت من خلال قصص الاجداد ان هذا الضابط عمل في قريتنا (يبنا) قضاء الرملة ومارس كافة انواع الارهاب ضد سكانها وقد ذكر ابن قريتنا، الاديب والقاص محمد جاد الحق في روايته (قبل الرحيل) بعض من جرائمه
_________
(1) يوميات قادة العدو -3 - الفاشية - موشي دايان- ترجمة جوزيف صفير - ص 38 - دار المسيرة، بيروت.
(2) الثورة العربية الكبرى في فلسطين ـ 1936ـ1939م (الرواية الإسرائيلية الرسمية) مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ ص 332(1/85)
حيث يقول: "لقد دأب هذاعلى التفنن في أساليب اقترافه لجرائمه، لكأنه يقوم بعمل يحبه ويتعشقه. وتتراوح جرائمه ما بين الاعتداء على الناس، بالضرب والشتيمة، وسرقة ما يلقاه في حوزتهم، وبين القتل العمد رمياً بالرصاص أو طعناً بالحراب. كان ساديّاً يجد لذته في تعذيب ضحاياه حتى الموت. وليس شرطاً أن يكون هؤلاء ثواراً، أو حتى مجرد رجال راشدين. بل كثيراً ما عمد إلى قتل غلمان، أو مزارعين يلقاهم في الطرقات، أو في أي مكان بين البيارات والحقول أو على رمال الشاطئ.
هكذا تناقلت الروايات سيرته. حاول أهل القرية اغتياله في أكثر من مناسبة، دون أن يفلحوا، مما أضفى على غريمهم هذا هالة أسطورية من الرهبة. لكن محاولاتهم ما كانت لتذهب بغير عقاب يوقعه بهم، تمثل في صور عديدة مختلفة. منها العقوبات الجماعية، يفرضها عليهم، اعتباطاً ومن تلقاء نفسه. وكأنه دولة قائمة بذاتها، لا يُسأل عما يفعل. ومنها اللجوء إلى قتل مجموعات من الناس كيفما اتفق، ربما صادفها في طريقه، أو عمد إلى جمعها من المزارعين، أو من بين روَّاد المقاهي وأصحاب الحوانيت، أو المارة. أما أهون تلك العقوبات فقد كان حجز أعداد غفيرة من أهل القرية في ساحتها العامة، لساعات طويلة تحت أشعة الشمس اللاهبة، أو المطر المنهمر، تبعاً للفصل الراهن حينئذ. بل هم مازالوا يذكرون في قهر وأسى كيف ألقى هذا الانكليزي - اليهودي فجر ذات يوم بخليل السلال وولده ابراهيم من فوق الجسر إلى لجة الوادي، ليلقيا حتفهما دون أن تشفع لهما توسلاتهما وضراعتهما شيئاً" (1).
الدافع الديني للتحيز
مما تقدم يمكننا تقدير حجم المساعدة، ودوافعها الدينية، التي قدمتها بريطانيا للحركة الصهيونية. فهذه المساعدة لم تكن بدافع الحصول على مكاسب مادية، أو بسبب أثر اللوبي الصهيوني، أو نتيجة لدهاء وعبقرية الزعماء الصهاينة، بل كان الدافع الأساسي لها كما اتضح لنا، دافعاً دينياً في الأساس. تقول دائرة المعارف البريطانية: "إن الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقى حياً في الأذهان بفعل
_________
(1) قبل الرحيل - محمد جاد الحق- ص87 - اتحاد الكتاب العرب 1997(1/86)
النصارى المتدينين، وعلى الأخص في بريطانيا التي كان اهتمامها أكثر من اهتمام اليهود أنفسهم" (1).
كما أن حاييم وايزمان ـ أول رئيس لدولة إسرائيل ـ وضح هذا الأمر بجلاء في كتابه (التجربة والخطأ) حيث قال: "لقد احتضنت بريطانيا الحركة الصهيونية منذ نشأتها، وأخذت على عاتقها تحقيق أهدافها، ووافقت على تسليم فلسطين خالية من سكانها العرب لليهود في عام 1932م. ولولا الثورات المتعاقبة التي قام بها عرب فلسطين، لتم إنجاز هذا الاتفاق في الموعد المذكور" (2). ويقول وايزمان في مكان آخر: "للقارئ أن يسأل، ما هي أسباب حماسة الإنجليز لمساعدة اليهود وشدة عطفهم على أماني اليهود في فلسطين؟ والجواب على ذلك، أن الإنجليز ـ لاسيما من كان منهم من المدرسة القديمة (يقصد البروتستانت) ـ هم أشد الناس تأثراً بالتوراة. وتدين الإنجليز هو الذي يساعدنا في تحقيق آمالنا، لأن الإنجليزي المتدين يؤمن بما جاء في التوراة من وجوب عودة اليهود إلى فلسطين. وقد قدمت الكنيسة الإنجليزية في هذه الناحية أكبر المساعدات" (3).
وهكذا لعبت بريطانيا دوراً رئيساً في قيام دولة إسرائيل بفضل وعد بلفور وما تبعه من انتداب، كان هدفه الأساسي الإعداد والتحضير لإعلان الاستقلال في عام 1948 م.
_________
(1) التجربة والخطأ ـ مذكرات حاييم وايزمان ـ رجمة محمد الشهابى ـ ص 25
(2) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 292
(3) المصدر السابق ـ ص 18.(1/87)
الفصل الرابع
أمريكيا والمشروع الصهيوني
كان دافيد بن جوريون والزعماء الصهاينة الآخرين يعلمون، عندما أعلنوا عن قيام دولة إسرائيل في عام 1948 م، بأنه لا بد من وجود حليف قوى يقوم بحماية هذه الدولة الوليدة، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة المؤهلة للقيام بهذه المهمة بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية كأقوى قوة في العالم، وأصبحت تلعب دوراً رئيساً في تشكيل السياسة الدولية. وهذا لا يعنى أن بريطانيا قد تخلت عن دعم إسرائيل، أو أن أمريكيا كانت غائبة عن دعم مطالب الحركة الصهيونية في فلسطين قبل ذلك. كلا، إن هذا التغير فرضته المتغيرات الدولية، بحيث أصبحت أمريكيا تحتل مركز الصدارة في دعم الحركة الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية. فأمريكيا مثلها مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية، تغلغلت في تفكير مواطنيها الأفكار والنبوءات التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيرة من الزمن.
هجرة البروتستانت إلى أمريكيا
عندما بدأ الاستيطان الأوروبي لأمريكا كان معظم المهاجرين الجدد من البروتستانت، الذين فروا من الاضطهاد الديني الذي ساد أوروبا في ذلك الوقت، حيث هاجر إلي أمريكيا كثير من البيوريتان المتدينين، فراراً من الاضطهاد الديني الذي ساد إنجلترا أثناء حكم آل ستيوارت (1)، حيث كانوا ينظرون إلى أنفسهم من منطلق خاص بهم. "فعلى غرار الخروج الجماعي المذكور في العهد القديم والذي هرب فيه اليهود من مصر ورحلوا إلى ارض جديدة وعدهم الرب بها، نظر البيوريتانيون لأنفسهم على أنهم الشعب المختار الجديد، ونظروا إلى العالم الجديد على انه إسرائيل الجديدة. أما العالم القديم بالنسبة لهم، فكان هو مصر التي فروا منها. لقد
_________
(1) المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية - ج1ـ د. محمد النيرب - ص33(1/88)
عقدوا عهداً مع الرب: انه إذا أمن الرب ذهابهم إلى العالم الجديد، فإنهم سيؤسسون مجتمعاً تحكمه القوانين الإلهية" (1).
وهكذا كان هؤلاء المستوطنون الجدد يحملون معهم تراثهم الديني المستمد من العهد القديم، والذي أخذ يلعب دوراً رئيساً في تشكيل الفكر الأمريكي منذ ذلك الوقت. ومما قوى من أهمية هذا الدور، هو ربط هؤلاء المستوطنين بين تجاربهم التي مروا بها منذ رحيلهم من أوروبا وإنجلترا بالذات، وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين (2). حيث اعتبروا أمريكا هي (أورشليم الجديدة) أو (كنعان الجديدة) وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء حين فروا من ظلم فرعون (الملك الإنجليزي جيمس الأول) وهربوا من ارض مصر (إنجلترا) بحثا عن ارض الميعاد (الجديدة) (3). فقد رأى البيوريتانيين في تجربتهم الخاصة المتمثلة "بالهروب إلى البراري، من أوروبا المنحوسة مساوية لتجربة اليهود الذين قادهم موسى من مصر، غير أنها كانت أكثر بكثير من تجربة مساوية. لقد آمنوا بأن تجربتهم لم تكن في الحقيقة إلا تجسيداً حياً لتجربة الخروج. وقد فسروا تجربتهم على أنها تكرار للتاريخ الذي شكل شعب الرب القديم" (4).
فهم مثلهم مثل اليهود فروا من الظلم بحثاً عن الأرض الموعودة التي تدر لبناً وعسلاً، وجابهوا الصعاب في رحلتهم عبر المحيط، كما حدث لليهود في صحراء سيناء عند خروجهم من مصر. كما أنهم جوبهوا بمقاومة السكان الأصليين كما جوبه اليهود بمقاومة أهل فلسطين، وعندما كانوا يعلنون الحرب على أصحاب البلاد الأصليين، كانوا يستحضرون العهد القديم، حيث ثمة تشابه بين تجاربهم في حربهم مع الهنود الحمر، وتجربة اليهود في حربهم ضد الفلسطينيين في الماضي.
_________
(1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت، ـ ترجمته د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي ص44
(2) من أوراق واشنطن ـ د. يوسف الحسن ـ ص 119.
(3) ارض الميعاد والدولة الصليبية ـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص 5 - دار الشروق - ط2 2001.
(4) الصهيونية المسيحية (1891ـ1948م) - بول مركلي ـ ترجمة: فاضل جتكرـ ص1،5 - ط 2003 سوريا - قدمس للنشر والتوزيع(1/89)
لقد عانوا من الانقسام ومن تجارب الحرب الأهلية المرة بين الشمال والجنوب، كما حدث مع اليهود القدماء عندما انقسمت مملكتهم إلى مملكتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب.
لقد كان هؤلاء المستوطنون يعلمون أن الأرض التي استولوا عليها من سكانها الأصليين ليست أرضهم، كما أنهم يعلمون أن ما يقومون به من عمليات اضطهاد وقتل وتشريد للسكان الأصليين، يتنافى مع أبسط المبادئ الأخلاقية، فكانوا لذلك بحاجة إلى شيء يبرر لهم أفعالهم هذه ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية ولو مزيفة، فلم يجدوا هذا التبرير إلا في العهد القديم. فكما أن اليهود القدماء برروا احتلالهم لفلسطين بالإدعاء بأنها الأرض الموعودة التي وهبها الله لشعبه المختار ـ كما يقولون- فإن هؤلاء المستوطنون الجدد فعلوا نفس الشيء بالإدعاء بأن الله أختار العنصر الأنجلوسكسونى البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما شبهوا الشعب الأمريكي بالشعب اليهودي الذي يسعى إلى دخول الأرض الموعودة.
ولأن زعم هؤلاء المهاجرين الأوائل بأنهم شعب الله المختار، لا وجود له في أي كتاب مقدس، فإن بعضهم سعى إلى إيجاد رابطة بينهم وبين اليهود الذين يدعون أنهم شعب مختار. لهذا فقد زعم أحد الكتاب ويدعى ريتشارد بروترز في كتابه (المعرفة المنزلة للنبوءات والأزمنة) "بأن الإنجليز السكسون هم من أصل يهودي، على أساس أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط التي أدعى اليهود أن أفرادها فقدوا بعد اجتياح الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد" (1). وربما يفسر هذا الادعاء ما كتبه هيرمان ملفيل في بداية القرن التاسع عشر متحدثاً عن الشعب الأمريكي حيث قال: "نحن الأمريكيون شعب خاص، شعب مختار وإسرائيل العصر الحاضر" (2).
يقول القس البروتستانتي صموئيل ويكمان في موعظته الشهيرة على ظهر السفينة (أرابلا) التي حملت أول مجموعه من البروتستانت البيورتانيين (التطهيريين)
_________
(1) أزمة الفكر الصهيوني ـ د. محمد ربيع ـ ص 46.
(2) الإمبراطورية الأمريكية ـ كلود جوليان ـ ترجمة ناجى أبو خليل ـ ص 19(1/90)
إلى خليج ماساشوستس: "أن أورشليم كانت لكن نيوانجلاند (المستعمرة الأولى) هي الموجودة الآن، وأن اليهود كانوا لكنكم انتم (البروتستانت التطهيريون) شعب الله المختار، وعهد الله معكم فضعوا اسم نيوانجلاند مكان اسم أورشليم. وعندما وصلت المجموعة الثانية من المستوطنين إلى شاطئ نيو انجلاند على ظهر السفينة (ماي فلاور) عام 1620 م وقعوا فيما بينهم (عهد ماي فلاور) الذي حددوا فيه طريقة الحياة التي يرغبونها وأسس المجتمع المثالي في أورشليم الجديدة أو إسرائيل الجديدة (أمريكا) ... وذلك تمجيداً لاسمه تعالى، وترويجاً للدين المسيحي ... " (1).
مما تقدم يتضح لنا أهمية الدور الذي لعبه التراث الديني المستمد من العهد القديم في تشكيل الفكر الأمريكي منذ بداياته الأولى، وهذا ما دفع والتر ماكدوجال في كتابه (أرض الميعاد والدولة الصليبية) إلى القول: "أن نشأة أمريكيا كانت نتيجة اندفاعية دينيه، بل أن مغامرة كولمبوس لم تكن إلا مغامرة دينيه وبكلمات كولمبوس، فإن الرب جعله رسولا للجنة الجديدة والأرض الجديدة بعد أن حدثه بها يوحنا المقدس في سفر الرؤيا وأراه النقطة التي يجدها عندها، أن اكتشاف أمريكا قبل أي شيء آخر كان نهاية حج عظيم ونهاية للبحث الروحي العظيم" (2).
الفكر الأمريكي والبعث اليهودي
في ظل هذا الوضع، ومع نهاية القرن الثامن عشر الذي شهد بعث الأمة الأمريكية، أصبح الاعتقاد بالبعث اليهودي يشكل جانباً مهماً من الفكر الأمريكي، "وكان من شأن الحماسة الأمريكية لإعادة اليهود إلى إسرائيل، بعد استثارته، أن يثبت انه أقوى من النزعة الاعادية الانجليزية. لأنه أكثر حيوية ومستنداً إلى قاعدة أوسع. فالطبعة الأمريكية تضيف إلى الاقتناع الإنجليزي بمسؤولية خاصة عن إنقاذ اليهود المشتتين، الإيمان بأن أمريكا نفسها صبت في ذلك القالب منذ بداياتها
_________
(1) مختارات من الفكر الأمريكي/ تحرير دايان رافيتش ... [وآخرون]؛ ترجمة نمير مظفر - ص27 - ط.1. - الأردن: دار الفارس، 1998.
(2) ارض الميعاد والدولة الصليبية ـأمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص6.(1/91)
الأولى، وبأن مصير إسرائيل يعانق مصيرها" (1). ولهذا كان واضحاً منذ البدايات الأولى أثر العهد القديم في الحياة الأمريكية. فقادة الولايات المتحدة وشعبها وكتابها أسموا دولتهم وقت إنشائها بـ (أورشليم الجديدة)، وأسموا مدنهم ومستوطناتهم بأسماء توراتية، منها: صهيون، وأورشليم، وحبرون، واليهودية، وسالم (التي اشتهرت بإحراق الساحرات)، وعدن، وأسموا أولادهم بأسماء آباء العهد القديم وأبطاله، بدل اسماء القديسين وتلاميذ المسيح عليه السلام.
السامري على الدولار
لو تأملنا ورقة العملة النقدية الأمريكية، فئة دولار واحد، فسنجد رسماً مثيراً لهرم مصري وقد اعتلته قمة ذهبية عليها عين وحيدة، ويخرج من القمة الذهبية خيوط إشعاع، وقد كتب فوق الهرم باللاتينية (المصري الوحيد)، وتحته (إنه يرانا) ـ أو يرقبنا أو يرعانا. وليست مصادفة أن نفس هذا الرسم بتفاصيله يستخدم كرمز أساسي من رموز الماسونية "وهي واحدة من أقدم الحركات اليهودية التي تستهدف السيطرة على العالم، وفروعها وجمعياتها حالياً كثيرة ومنتشرة كالسرطان" (2).
ولفهم معاني هذا الرمز (الصهيوني في أصوله وتفاصيله) نعود إلى قصة السامري، ذلك الذي خرج مع بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، وصنع لهم عجلاً ذهبياً عبدوه، حتى عاد موسى ـ عليه السلام ـ فنسف العجل في اليم نسفا وطرد السامري. لكن اليهود رأوا في السامري أول رسل الصهيونية، وظلوا يحفظون مغزى حركته التحريفية التي قام بها، والتي منحتهم ما ظلوا يؤمنون به حتى اليوم: الذهب، وتصور وثني لإله متجسد. وإكراماً للسامري، الذي دعاه اليهود المصري الوحيد (أو الحقيقي أو الأصلي) حافظوا على الرموز المصرية بين رموزهم الماسونية، وخصوه برمز الهرم ذي القمة الذهبية، ورمز الشمس المشرقة، ورمز العين (إشارة إلى اثنين من أهم المعبودات المصرية القديمة وهما: رع كبير الأرباب ورب الشمس، وحورس رب الانتقام وكان يعتقد أن لعينه خصائص سحرية شافية)،
_________
(1) الصهيونية المسيحية (1891ـ1948) - بول مركلي ـ ترجمة: فاضل جتكرـ ص107
(2) لهذا كله ستنقرض أمريكا- الغ بلاتونوف ـ ترجمة: نائله موسى ص32(1/92)
واعتقدوا أن السامري يرعاهم، واتخذوا من الانتساب إليه ذريعة تربطهم بمصر التي عاشوا فيها عبيداً، وخرجوا منها خائفين يترقبون مع نبي لم يؤمن به إلا قليل منهم، ولم يؤمنوا به إلا قليلاً، ذريعة تعطيهم ـ فيما بعد ـ حق المطالبة بما يدعونه إسرائيل الكبرى التي يزعمون أنها من النيل إلى الفرات. وسيكتشف أي باحث في التاريخ حجم حقدهم المسموم ومداه المحموم حين يعرف أن الأرض من النيل إلى الفرات إن هي إلا إمبراطورية تحتمس الثالث الملك المصري الذي استعبد بني إسرائيل، وهاهم العبيد يحلمون بالانتقام من سيدهم والاستيلاء على ممتلكاته. كل هذه المعاني والرموز السرية الماسونية والصهيونية، وكل هذا الحقد التاريخي الفادح، اختزله اليهود في رمز الهرم ذي القمة الذهبية والعين، واختاره الأمريكيون الأوائل شعاراً لعملتهم الأولى (دولار واحد) " (1).
وخاتم داود
خاتم الدولة هو شعارها الرسمي، وهو ـ بلا شك ـ شعار يتم اختياره بعناية للتعبير عن هويتها وانتمائها، وقد اختار المؤسسون الأوائل للولايات المتحدة الأمريكية، درع داود (النجمة السداسية) شعاراً لهم وضعوه على رأس النسر الأمريكي (والنسر رمز توراتي معروف هو الآخر). ولنلاحظ أن اختيار هذا الشعار الصهيوني تم قبل أكثر من قرن كامل من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا. فقد انعقد المؤتمر في 1897م، في حين تولى (جورج واشنطن) ـ الرئيس الأول للولايات المتحدة الأمريكية ـ مقاليد الحكم في 1789 م. إذن فقد سبقت صهيونية أمريكا صهيونية (هرتزل) بل إن صهاينة أمريكا زايدوا على (هرتزل) نفسه كما سنرى.
يقول شفيق مقار في كتابه (المسيحية والتوراة): "من المعطيات المهمة التي توجه البحث صوب العالم الجديد (أي أمريكا) احتواء الخاتم الرسمي لدولة الولايات المتحدة الأمريكية، منذ ما قبل ظهور الصهيونية اليهودية بوقت طويل على (مجن داود) النجمة السداسية التي ترفرف اليوم من علم المحطة الصهيونية الأولى (إسرائيل)، والمجن في الخاتم من ثلاث عشرة نجمة تمثل
_________
(1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقارـ ص119(1/93)
كل نجمة منها ولاية من الولايات الثلاث عشرة الأولى التي تألف منها الاتحاد. ويشير جوزيف كامبل، في كتابه (قوة الأسطورة) إلى أن النجوم المستخدمة في الخاتم الأمريكي تشكل 13 نقطة هي عينها النقاط الـ 13 في النجمة اليهودية بحيث أدمجت في خاتم الدولة الأمريكي" (1).
أمريكا مهد الصهيونية
ان الولايات المتحدة، منذ ظهورها، دخلت في تشكيل بنيتها وفي صنع روحها مؤثرات عبرانية بالغة الفعالية ـ لا من غلبة عنصر البروتستانتية الأنجلو سكسونية فحسب، بل ومن دخول اليهود كشركاء مؤسسين، إن صح التعبير، في تكوين أمتها وتحديد مسارها، "فقد غزت اللغة العبرانية العالم الجديد قبل أن ينادي هرتزل بإنشاء الدولة اليهودية بأكثر من قرنين ونصف القرن! وكانت لغة التعليم الأساسية في جامعة هارفارد عند تأسيسها في عام 1636 م، وشريعة موسى كانت هي القانون الذي أراد جون كوتون تبنيه إلى جانب العبرية التي أرادها لغة رسميه لأبناء مستعمرات الدم الأزرق الثلاث عشرة على ساحل الأطلنطي" (2). كما إن الحقائق التاريخية التي كشفت عنها البحوث تشير إلى أن أولئك اليهود كانوا من بين مؤسسي الولايات الثلاث عشرة الأولى التي تألف منها الاتحاد.
فقد اضطر اليهود، أبناء أوربا بالتبني الذين ازدرتهم أوربا خلال القرون من الخامس عشر إلى السابع عشر الميلادي، إلى الهجرة والبحث عن ملاذ، وقد وجدوا ذلك الملاذ في أمريكا، الأرض التي كان مقدراً لها أن تصبح الابنة المفضلة لأوربا، وهكذا يمكن القول من وجه بعينه إن بين اليهود وأمريكا قضية مشتركة من مبدأ الأمر، وإن ذلك التوافق شكل علاقتهما منذ التقائهما. ولهذا فإن الأمريكيون ينظرون إلى إسرائيل على أنها شديدة الشبه بأمريكا، "أمه مهاجرة، ودولة مهاجرين، وملاذ مضطهدين ومظلومين، ومجتمع رواد استيطان، بلد قوي وشجاع عازم على النضال
_________
(1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ـ ص117
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص152(1/94)
في صف الحق، ونظام ديمقراطي تظلله سيادة القانون (الوحيد في الشرق الأوسط) وواحة ثقافة استهلاكية غربية في صحراء قاحلة تحيط بها من كل جانب، وثمة عدد كبير من الأمريكيين في إسرائيل. فالروابط بالغة المتانة إلى درجة أن إسرائيل ليست بنظر عدد غير قليل من الأمريكيين، سوى ولاية حادية وخمسين" (1).
ويفصل احد الكاتب الأمريكين هذه القضية المشتركة بقوله: "إن كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل يضمهما عناق حميم في سياق علاقة خاصة غريبة، وسواء كانت إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة أصلاً استراتيجياً أو مشكلة استراتيجية، فإنها تجسد مثلاً أعلى مغروساً بعمق في الفكر الأمريكي منذ السنوات الأولى لظهور أمريكا في العالم الجديد". ولكن هذه العلاقة الخاصة التي يتحدث عنها الكاتب، وغيره من الساسة ورجال الدين والفكر في أمريكيا، "كلفت الولايات المتحدة 91.82 بليون دولار نقداً. أما إذا أضيف إلى ذلك الكلفة غير المباشرة مثل تسهيلات القروض وإلغائها, وما دفعه الاقتصاد الأميركي لشراء نفط عالي السعر بسبب الصراع, أو خلال مراحل المقاطعة, أو مستتبعات الحروب العربية الإسرائيلية وغير ذلك, فإن "سعر" العلاقة الخاصة يصل إلى 1.6 تريليون دولار" (2).
رؤساء أمريكا والبعث اليهودي
لا يملك أي متتبع لسيرة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية إلا ضرب أكف العجب وهو يرى إيمانهم الصهيوني العميق، وعداءهم الذي لا تشوبه شائبة لكل ما هو عربي وإسلامي. كما سيجد متتبع سيرتهم دورهم واضحاً في إقامة الكيان الصهيوني، وسيكتشف أن هذا الدور لم يكن دور المعاون أو المساند فأمريكا هي المالك الحقيقي للمشروع الصهيوني، وهي المتصرف في أمره كذلك. فقد كان واضحاً منذ البداية أثر الرموز التوراتية على الرؤساء الأمريكيين الأوائل جورج واشنطون وجون آدمز وجفرسون، حيث أخذت الرموز التوراتية تهيمن على كل كبيرة
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية ـ كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص252
(2) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين المؤلف: نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز(1/95)
وصغيرة في الحياة الأمريكية: عملتها، شعارها، خاتمها، أسماء مدنها .. والأهم تفكيرها وطبيعة مؤسسيها.
جورج واشنطن
كان الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن من أوائل الأمريكان الذين انتسبوا إلى المحافل الماسونية اليهودية، "حيث انتسب إليها في عام 1755 م وترقى في الدرجات إلى أعلاها، وقام بتأسيس محفلاً ماسونياً في فرجينيا دعاه محفل إسكندرية نمره 23 وانتخب رئيساً له، وبعد وفاته أجمع أعضاء المحفل على تسميته (محفل واشنطون الإسكندري) وذلك رغبه أن يبقى ذكر رئيسهم المجيد في الأفواه وأن تكون آثاره الماسونية غرضاً تصوب إليها الأفكار للاقتداء به" (1).
وانتساب الرئيس جورج واشنطون إلى هذه المحافل يعكس بجلاء خلفياته الدينية التوراتية، حيث كان رجلاً شديد التدين (عبرانياً) وظل حتى أخريات أيامه عظيم التقديس للشعائر والطقوس اليهودية والتاريخ المقدس الذي تضمنه العهد القديم. ففي رسالتين وجههما إلى اثنين من قادة اليهود أعرب واشنطن عن أمله في: "أن يظل الرب صانع المعجزات الذي خلص العبرانيين في الأزمنة القديمة من بغى مضطهديهم المصريين، وزرعهم في ارض الميعاد، يسقيهم من السماء، وأن ينعم ذلك الرب القدير يهوة، على كل منٌ بالولايات المتحدة التي تأسست بقدرته، بالبركات الدنيوية والروحية التي انعم بها على شعبه" (2).
أما الرئيس الثاني لأمريكا جون آدمز فقد بعث في عام 1818 م برسالة إلى الصحفي اليهودي، مردخاى مانويل نوح عبر فيها عن أمنيته في أن يعود اليهود إلى جوديا ـ يهودا ـ لتصبح أمة مستقلة .. "لأنني اعتقد أنه بعد أن يعودوا إلى مكانه مستقلة، لن يكونوا مطاردين بعدها، سيزيلون من على أنفسهم، التصلب والغرابة في طباعهم" (3).
_________
(1) أربع كتب في الماسونية ـ شاهين بك مكاريوس ـ ص118 - ط1/ 1994 - مكتبة مدبولي
(2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص163
(3) مكان تحت الشمس ـ بنيامين نتنياهو ـ ترجمة محمود عوده الدويري ص75أو- بنيامين نتنياهو - ارهابي تحت الاضواء - ص 17 - مكتبة مدبولي - ط1 1996(1/96)
توماس جيفرسون
اقترح الرئيس الثالث لأمريكا توماس جيفرسون، وواضع وثيقة استقلالها، أن يمثل رمز الولايات المتحدة الأمريكية، على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار غيمه وفي الليل عمود من النار، بدلاً من الرمز المعمول به حالياً. وواضح أن هذا الشكل المقترح رمزاً للولايات المتحدة يتفق مع النص التوراتى الوارد في سفر الخروج والذي يقول: "كان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب يهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نور ليضئ لهم" (1). أما بنيامين فرانكلين "فقد اقترح أن يكون الشعار صورة موسى وهو يشق البحر الأحمر بعصاه" (2). وهنا مرة أخرى تتأكد لنا صهيونية الرمز الأمريكي، وهي صهيونية سبقت إعلان الصهيونية اليهودية بأكثر من قرن كامل، ويضعنا (شفيق مقار) أمام رموز أخرى حيث يقول: "ومن تلك المعطيات أيضاً أن الرسم الأول الذي اقترح لعلم الولايات المتحدة كان رسماً لصور موسى خارجاً من مصر على رأس بني إسرائيل، لكنه ـ وقد أثار جدلاً ـ استعيض عنه برسم النسر، والمسألة مجرد استبدال رمز توراتي برمز توراتي آخر" (3).
كما أن الرئيس جيفرسون -الذي كان صاحب أول إعلان حرب أمريكي ضد بلد عربي هو ليبيا في عام 1801 - كان من ابلغ من تحدث عن المعنى الإسرائيلي لأميركا بل انه ختم خطابه التدشيني لفترة الرئاسة الثانية بتعبير يشبه الصورة التي اقترحها لخاتم الجمهورية "إنني بحاجة إلى فضل ذلك الذي هدى آبائنا في البحر، كما هدى بنى إسرائيل واخذ بيدهم من أرضهم الام ليزرعهم في بلد يفيض بكل لوازم الحياة ورفاه العيش" (4).
_________
(1) البعد الديني في السياسة الأمريكية اتجاه الصراع العربي الصهيوني ـ د. يوسف الحسن ـ ص41 - مركز دراسات الوحدة العربية - ط3 2000
(2) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص275
(3) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ـ ص118
(4) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص131(1/97)
جيمس ماديسون
كان جيمس ماديسون الرئيس الرابع لأمريكا، رجلاً شديد التدين اتجه طموحه ـ قبل أن تجتذبه السياسة ـ إلى سلك الكنيسة، ولذا امتاز على غيره من الرؤساء الأمريكيين المؤمنين بإجادته اللغة العبرية وتبحره في آدابها، أي العهد القديم وكتابات الكهنة والأحبار اليهود (1). وبتأثير تلك الخلفية العبرانية، كان فعل العامل الديني في حالته قوياً، حيث قام بتعيين الداعية اليهودي الشهير (موردخاي نوح) قنصلا فخرياً للولايات المتحدة الأمريكية في تونس ـ بناء على طلب نوح نفسه ـ سنة 1813م، ليصبح أول يهودي يمثل الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تبع هذا التعيين المشؤوم ان قامت أمريكيا وفي عام 1815م بإعلان الحرب على الجزائر بحجة الدفاع عن المصالح الأمريكية في المنطقة .. ومن الجزائر انتقلت القوات الأمريكية إلى تونس في عام 1816م (2).
ولما عاد نوح إلى أمريكا، حاول إقامة مشروع (أرارات) تبركاً باسم الجبل الذي تقول التوراة أن سفينة نوح عليه السلام رست عليه، ليكون وطناً قومياً لليهود على جزيرة بنهر نياجرا، ولما فشلت المحاولة اتجه نوح بمشروعه إلى سوريا، وفي هذا الصدد ألقى محاضرة قال فيها: "إن عدد اليهود قد بلغ 7 ملايين (كان هذا في1837 م) وإنهم يتحكمون في ثروات طائلة لا سبيل إلى مقارنتها بما في يد الآخرين، وعلى هذا فـ (إعادة احتلال اليهود لسوريا) ليست مستحيلة، خاصة وأن دولتهم التي وصفها بأنها حكومة عادلة ليبرالية ومتصفة بالتسامح، ستكون عوناً كبيراً لمصالح فرنسا وإنجلترا" (3).
وفي سنة 1844 م عدل نوح خطته مرة أخرى، عازماً على إقامة وطن اليهود القومي في صهيون (فلسطين)، وكعادته، ألقى نوح محاضرة ضمنها مشروعه الجديد، واقترح أن يتم السعي لدى سلطان تركيا للحصول على موافقته على شراء الأرض اللازمة لإنشاء الوطن اليهودي بأموال اليهود وامتلاكها. ويبدو أن دعوة نوح
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص167
(2) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص88
(3) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص174(1/98)
السابقة، كانت صدى لموعظة المبشر ليفى برسونس في عام 1821م التي قال فيها: "في قلب كل يهودي، تتأجج رغبة لا يمكن إخمادها، لاستيطان الأرض التي أعطيت لأجدادهم إذا دمرت الإمبراطورية العثمانية، فان معجزة فقط يمكنها أن تمنع عودة اليهود الفورية إلى أرضهم، من كافة أقطار العالم" (1). والمهم هنا هو أن محاضرة نوح تلك لم تلفت نظر اليهود إليها، لكن المسيحيين الصهاينة أولوها اهتماماً كبيراً، وكتب (اسحق ليسر) في صحيفة الغرب يقول: "أثارت محاضرة نوح قدراً كبيراً من الاهتمام بين مواطنينا المسيحيين، فاق بكثير ما أثارته من اهتمام بيننا نحن اليهود" (2).
الرئيس المنصر جون كوينسي آدمز
أصبح جون آدمز الرئيس السادس للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1825 م، وخلافاً لأسلافه الثلاثة اكتفى آدمز بفترة رئاسية واحدة، وآدمز لم يشتهر بأنه كان وزيراً لخارجية أمريكا أو رئيس لها فحسب، بل اشتهر بدوره كمنصر بروتستانتي انصب جهده على اختصار الطريق إلى تحقق مخطط الله، عن طريق محاولة إقناع اليهود بتغيير رأيهم فيما يتعلق بمسألة المجيء، والقبول بالمسيح (حسب الإيمان المسيحي) والتعجيل بذلك ببدء العصر الألفي السعيد، حيث كان هذا هو الاعتقاد السائد لدى المسيحيين الصهاينة في ذلك الوقت، وأنه لابد من أن يشرق عصر ذهبي يضع حداً للظلم وللشر المستشري في العالم. وقد علق على ذلك الباحث جروس بقوله: "إن الطموح إلى تحويل اليهود إلى المسيحية اكتسب قوة جعلت منه شبه حملة صليبية اجتماعية في مستهل حياة الجمهورية الأمريكية، وأنه تولدت عنه حركة شاعت بين النخبة الأمريكية كان من أوائل مؤيديها جون كوينسي آدمز، حيث تحول الرمز اللاهوتي إلى مخطط سياسي هو المشروع الصهيوني الذي اضطلعت الولايات المتحدة الأمريكية بدور القائد في تنفيذه" (3).
_________
(1) مكان تحت الشمس ـ بنيامين نتنياهوـ ترجمة محمد الدويرى ـ ص77
(2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار- ص178
(3) المصدر السابق- ص182(1/99)
وكمنصر بروتستانتي عمل آدمز من موقعه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق الحلم الصهيوني، "حيث بدل جهوداً كبيرة أثمرت عن عقد اتفاقية مع الإمبراطورية العثمانية في عام 1830 م، استغلتها الكنيسة البروتستانتية في إطلاق العنان للبعثات التبشيرية البروتستانتية في المنطقة، والتي انتشرت ستون بعثه منها، بقرار من المجلس الأمريكي للبعثات الخارجية من اليونان حتى إيران، ومن اسطنبول وحتى القدس. وهذه البعثات هي التي مهدت الطريق أمام مشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين عملاً بتعاليم الصهيونية المسيحية التي تؤمن بها الكنيسة البروتستانتية الأمريكية" (1). حيث لعبت هذه البعثات دوراً تخريبياً في المنطقة العربية والعالم الإسلامي باعتبارها أداة وركيزة للاستعمار والصهيونية، ومعول هدم وتدمير لكل ما يمت للإسلام بصله (2).
فالتبشير كان ولازال دعامة من دعامات الاستعمار وأداة من أدوات الفكر الغربي، فقد قدم الاستعمار ولا يزال يقدم العون المادي والمعنوي للمبشرين ويقوم بحمايتهم وإزالة الصعاب من أمامهم. "فارتباط التنصير بالاستعمار يكاد يكون عضوياً، حيث مهدت السلطات الاستعمارية لنشاط التنصير ووفرت له الحماية والأمن والدعم المعنوي والمادي، وكان كثير من مبشري القرن التاسع عشر الميلادي يتحركون بعقلية صليبية وكانوا استعماريين يقومون بدور مزدوج في التبشير وخدمة مخططات دولهم الاستعمارية. لقد كان المبشرون هم الرواد الأوائل للاستعمار الثقافي الغربي في عالمنا الإسلامي وبلادنا العربية" (3). ويقول علي عبد الحليم محمود: "كان التبشير هو الخطوة الأولى التي مهدت للاستعمار ومكنته من الاستيلاء على بلاد المسلمين وتسخير أرضهم وخيراتها وكثير من أبنائها لخدمة الأغراض السياسية والتبشيرية معاً" (4). ويقول باحث آخر: "إن التبشير الديني نفسه
_________
(1) الصهيونية المسيحية ـ محمد السماك ص89
(2) راجع كتابنا أحمد ديدات بين القاديانية والإسلام مكتبة مدبولى
(3) منطقة الخليج العربي أمام التحدي العقدي - سعيد عبد الله حارب ص70 - نشر مكتبة الأمة بدبي ط 1985
(4) الغزو الفكري وأثره في المجتمع الإسلامى المعاصرـ على عبد الحليم ـ ص165 - دار المنار- القاهرة 1989(1/100)
ستار للتبشير التجاري والسياسي وأساس متين للاستعمار، ولنذكر أن أكثر الفتنة الداخلية في الشرق من دينية وسياسية واجتماعية إنما قام به المبشرون الذين استأجرهم الاستعمار" (1).
أندرو جاكسون .. وخرافة المعاد
عبر (أندرو جاكسون) الرئيس الأمريكي السابع (1829ـ1837م) عن تعاطفه مع اليهود عندما كافأ مؤيده اليهودي موردخاي نوح ـ الذي ظهر على مسرح الأحداث في عهده مرة أخرى بتعيينه مشرفاً عاماً على ميناء نيويورك. كما عبر في أحاديثه الخاصة وخطبه عن إيمانه بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين متبنياً نفس الرؤية التي عبر عنها (حزقيا نايلز) رئيس تحرير مجلة (نايلز ويكلي ريجستر) في مجلته حيث قال: "إن النتائج التي تترتب على إعطاء اليهود ذلك الوطن فلسطين ستتجاوز كل ما يمكن أن يتصوره أي متكهن بالنتائج. فصحارى فلسطين المجدبة ستخضر وتورق وتزهر وتتفتح كالورود، وأورشليم التي باتت في الحضيض (بسبب وجودها في حوزة العرب المسلمين) سوف ترتفع ثانية وتضارع أكبر مدن العالم جمالاً وثراء وروعة" (2). وهنا نلاحظ تطابق كامل بين نظرة المسيحيين البروتستانت على ضفتي الأطلسي تجاه فلسطين، من خلال الاعتقاد بأنها صحراء مجذبة وقاحلة.
أول تدخل لنصرة اليهود خارج أمريكا
شهد عهد الرئيس الأمريكي الثامن (مارتين فان بورين)، (1837ـ1841م)، أول تدخل أمريكي فيما وراء البحار لنصرة الجنس اليهودي. ففي1840 م تلقى وزير الخارجية الأمريكي (جون فور سايث) مكاتبة رسمية سرية وعاجلة من قنصل بلاده في بيروت، تضمنت المكاتبة قصة القبض على عدد من اليهود في دمشق، بسبب قيامهم بذبح أطفال ورجال دين مسيحيين لاستخدام دمهم في صنع فطير عيد الفصح اليهودي. وعلى الفور رد الرئيس بورين، ووزير خارجيته فورسايث على المكاتبة معترضين على التقارير الواردة عن أحداث مزعومة في دمشق .. والتي
_________
(1) التبشير والاستعمار في البلاد الإسلامية - د. مصطفى خالدي، د. عمر فروخ ص 34 - ط 3 1964
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ـ 184(1/101)
اعتبراها "مثالاً سيئاً على التعصب والخرافات الشائعة في العالم القديم، وهي أمراض سعت الولايات المتحدة إلى أن تظل بمنجاة منها". وبناء عليه فقد صدرت التعليمات إلى قنصلي أمريكا في الإسكندرية والقسطنطينية بـ "بذل المساعي الحميدة لصالح أفراد ذلك الجنس اليهودي المضطهد المقهور" (1)، كما سارع المبعوث الأمريكي إلى بريطانيا بالإعراب للحكومة البريطانية عن "بالغ القلق إزاء ضروب القسوة التي تمارس تجاه اليهود في الشرق" (2).
العمل من أجل تحقيق النبوءات التوراتية
منذ البداية كان التطلع إلى العصر الالفي السعيد واعادة اليهود إلى ارضهم، يشغل تفكير الرواد الاوائل، ولعل كريستوفر كولومبوس كان أول من حمل هذه العقيدة إلى الولايات المتحدة، فقد كتب في مذكراته إن العالم سوف ينتهي في عام 1650م، وان اكتشافه للعالم الجديد هو جزء من خطة الهية لاقامة جنة الالفية. وقال في مذكراته ايضا: "إن الله جعلني رسولاً إلى الجنة الجديدة والى الأرض الجديدة التي تحدث عنها القديس يوحنا في نبوءاته، وهو الذي أرشدني إلى المكان الذي أجدها فيه" (3).
وفي عام 1814، نشرت في نيويورك الموعظة المشهورة للقس، جون مكدونالد، أكد فيها الدور المركزي الذي تنبأ به النبي يشعياهو، للدولة الجديدة في أمريكا، في إعادة اليهود إلى أرضهم، حيث قال القس: "يا سفراء أمريكا، انهضوا واستعدوا لإسماع بشرى السعادة والخلاص لأبناء شعب منقذكم، الذين يعانون من الظلم ... أرسلوا أبناءهم واستخدموا أموالهم في سبيل تحقيق هذه الرسالة الإلهية" (4).
و في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس لتحقيق النبوءات التوراتية، سواء عن طريق أفراد أو
_________
(1) الصهيونية المسيحية (1891ـ1948) - بول مركلي - ترجمة فاضل جتكر ص 111
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار - 186.
(3) الدين في القرار الأمريكي - محمد السماك - ص104
(4) مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهو- ترجمة محمد الدويرى - ص77(1/102)
جمعيات أو كنائس. ففي عام 1840 م بعث مؤسس الكنيسة المورمينية، جوزيف سميث، تلميذه اورسون هايد من أجل تسهيل نبوءة (بعث إسرائيل)، ومن بين كتب التوصية التي حملها هايد معه، كتاب من وزير خارجية الولايات المتحدة، وآخر من حاكم ولاية إيلينوى. يقول هايد: "إن فكرة نهضة اليهود في فلسطين تقوى يوماً بعد يوم .. لقد بدأت العجلة الكبرى بالدوران، ولا شك في ذلك، وأن الرب أمر بأن تدور هذه العجلة على محورها" (1).
وفي عام 1850 م قام (واردكريون) القنصل الأمريكي في القدس، بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس، وخطط لتأسيس مستوطنات أخرى، وحاول الحصول على دعم زعماء اليهود، ولكنهم لم يستجيبوا له رغم أنه تحول عن ديانته المسيحية إلى اليهودية. وكان القنصل الأمريكي يرى أن تلك المستوطنات الزراعية ستكون البداية الأولى لفلسطين الجديدة، حيث ستقيم الأمة اليهودية وتزدهر (2). وقد حذا حذو القنصل الأمريكي، بعض المواطنين الأمريكيين، إذ أسسوا مستوطنة زراعية بالقرب من يافا لنفس الغرض.
وهكذا، وفي ظل هذا الوضع كان من الطبيعي أن تظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي في أمريكيا عدة مذاهب بروتستانتية نادت بعودة اليهود إلى فلسطين، انطلاقا من إيمانها بالمعتقدات المسيائية. ولم يكتف أصحاب هذه المذاهب بالدعوة، بل عملوا من أجلها (3). فقد تبنت كثير من الفرق البروتستانتية الدعوة إلى هذه الأفكار، مثل المشيخيين والمعمدانيين والمرمون والسبتيين وغيرها من الفرق. وقد علق على ذلك هنرى فورد في كتابه ـ اليهودي العالمي ـ بقوله: "لقد سيطر اليهود على الكنيسة في عقائدها وفي حركة التحرر الفكري المسماة بالليبرالية، وإذا كان ثمة مكان تدرس فيه القضية اليهودية دراسة صريحة وصادقة،
_________
(1) المصدر السابق- ص78.
(2) الوجه الآخر .. العلاقات السرية بين النازية والصهيونية ـ محمود عباس ـ ص 286 - ط1984 - دار ابن رشد عمان.
(3) فلسطين ـ القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 288(1/103)
فهو موجود في الكنيسة العصرية، لأنها المؤسسة التي أخذت تمنح الولاء دون وعى أو إدراك إلى مجموعة الدعاية الصهيونية" (1).
كما أنه بدأ واضحاً خلال هذا القرن مدى التعاطف مع اليهود وآمالهم في العودة إلى فلسطين، سواء على المستوى الشعبي أو المستوى الحكومي، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيره، حيث ازدادت في هذه الفترة المشاريع الهادفة إلى إعادة اليهود إلى فلسطين، واحتل مشروع موردخاى نواه (نوح) الذي تقدم به سنة 1845 أمام جمع من المسيحيين في نيويورك، مركز الصدارة بين مشاريع العودة، فهو ينص ـ إلى جانب التطورات التي أضافها إليه فيما بعد ـ على عودة اليهود نهائيا إلى فلسطين. إلا أنه كمرحلة تمهيدية دعاهم إلى إقامة المستوطنات في منطقة آرارات قرب بافالو وشلالات نياجرا. وقد أيد الرئيس الأمريكي جون آدمز عودة اليهود، في رسالة وجهها إلى نواه" (2).
يهودي يوبخ الرئيس
في عام 1841م تعاقب ثلاثة رؤساء على حكم أمريكا، أولهم (مارتين فان بورين)، الذي انتهت رئاسته في تلك السنة، وثانيهم (ويليم هنري هاريسون)، الذي وافته المنية بعد شهر واحد من تنصيبه رئيساً تاسعاً للولايات المتحدة الأمريكية، والثالث الأخير هو (جون تايلر)، (1841ـ1845م) الذي أصبح الرئيس الأمريكي العاشر، وكان عليه أن يتلقى أول توبيخ يهودي علني لرئيس أمريكي، عندما زل لسانه أثناء تأبينه الرئيس الراحل واصفاً أمريكا بأنها أمة مسيحية، وهو خطأ عاقبة عليه (يعقوب حزقيال) القيادي اليهودي من فرجينيا برسالة قال فيها: "وأين نحن؟ " وبدلاً من أن يغضب الرئيس من هذا المتطفل المنتمي إلى أقلية تريد تعليم الرئيس، والسيطرة على الأغلبية، بدلاً من هذا بادر تايلر إلى الاعتذار مؤكداً أنه يكن
_________
(1) اليهودي العالمي (المشكلة الأولى التي تواجه الاعالم) ـ هنري فورد ـ تعريب / خيري حماد ـ ص 59 - دار الافاق الجديدة, 1986
(2) فلسطين ـ القضية * الشعب * الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص256(1/104)
لليهود أعمق الاحترام وأصدقه، وبعدها وبخ الرئيس ـعلناًـ الجنرال (وينفيلد سكوت) لأنه رأس مؤتمراً من ضباط الجيش والبحرية لم يمثل فيه اليهود" (1).
أما خلفه (جيمس نوكس بولك) الرئيس الأمريكي الحادي عشر (1845ـ184 م) فقد عمد إلى تشكيل فيلق الحرس اليهودي الأول في بلتيمور بولاية مريلاند (1846م)، وهو أول فيلق في الجيش الأمريكي يكون كل جنوده وضباطه من اليهود، وبهذا سبقت أمريكا تشكيل الفيلق اليهودي البريطاني بـ 98 سنة، ومعروف دور الفيلق اليهودي البريطاني في اغتصاب فلسطين. وإضافة إلى هذا أعاد بولك تجربة تعيين قناصل يهود لأمريكا في الخارج.
فرانكلين بيرس
في منتصف القرن التاسع عشر وفي عهد الرئيس، (فرانكلين بيرس)، (1853 - 1857م)، نجح اليهود في احتلال أعلى منصة قضاء أمريكية، وتمكنوا من أن يصبحوا المحكمين الأساسيين في صفقات أمريكا ومعاهداتها. فقد كان بيرس معروفاً بتدينه (أي بهوسه الصهيوني)، وبارتباطاته اليهودية الوثيقة، ومن خلال ذلك التدين حقق اليهود اختراقاً جديداً بالغ الأهمية، تمثل في فتح أبواب المحكمة العليا أمام اليهود، وقام بإسناد منصب وزير بالسلك الدبلوماسي إلى (أوجست بلمونت) في لاهاي، فكان ذلك بمثابة فتح لأبواب المناصب الدبلوماسية العليا أمام اليهود، الذين كان اختراقهم للسلك الدبلوماسي الأمريكي قد اقتصر حتى ذلك الوقت على مستوى القناصل، وبأعداد محدودة للغاية (2). وإمعاناً في إظهار الولاء، قام بيرس بتعيين رسام الخرائط اليهودي (جوليوس بين) مشرفاً عاماً على أنشطة وزارة الحرب في تخصصه، وهي مخاطرة كبيرة أوصلت اليهود إلى التحكم في أدق المراكز العصبية للعسكرية الأمريكية.
_________
(1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص188
(2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص192(1/105)
أمريكيا تعاقب سويسرا من أجل اليهود
بظهور الرئيس الأمريكي الخامس عشر (جيمس بوكانان) (1857ـ1861م) على مسرح الأحداث، أقدم بوكانان على أول إجراء من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إذ دعا إلى البيت الأبيض وفداً من كبار الحاخامات اليهود ضم: اسحق ماير وايز، وداود عينهورن، واسحق ليسر، وذلك لمعرفة مطالبهم فيما يتعلق بمشروع معاهدة تجارية ألحت وزارتا الداخلية والخارجية على إبرامها مع سويسرا، بدلاً من تلك التي خربها تدخل منظمة بناي بريث (اليهودية الصهيونية المتطرفة) في عهد الرئيس (ميلارد فيلمور)، وحتى يرفع عن نفسه الحرج أمام اليهود اجتمع (الرئيس شخصياً) مع الحاخامات وأعلن عدة تعديلات جذرية على المعاهدة، مع إعلان أن الغرض من هذه التعديلات هو إعلام السويسريين بأن أمريكا لا تقر موقف المقاطعات السويسرية من القانون الذي يقضي بحق المقاطعات في منع اليهود من الإقامة، وإن كانوا يتمتعون بالجنسية الأمريكية.
و بوكانان هنا كان يمارس ذلك الحق الذي أعطته أمريكا لنفسها، منذ أن أعلن (جيمس مونرو) مبدأه الخاص بحق أمريكا في التدخل خارج حدودها، وهو المبدأ الذي أقر ـ منذ البداية ـ لصالح اليهود، وها هو بوكانان يواصل تطبيقه ـ ولصالح اليهود كذلك ـ متدخلاً في شؤون المقاطعات السويسرية، وقد واصل الرؤساء التاليين له نفس السياسة حتى حصل اليهود على كل ما أرادوا من القانون السويسري في 1874م، وظلوا يواصلون طريقهم مدعومين من أمريكا حتى أصبحت سويسرا واحدة من أهم قواعد الصهيونية في العالم. ويقارن شفيق مقار بين ما فعله بوكانان، وما فعله السناتور الأمريكي (سكوب جاكسون)، عندما عمد إلى تخريب قانون التجارة لسنة1974م، وأوقف بذلك تنفيذ الاتفاقية التجارية لبيع القمح التي أبرمت بين واشنطن وموسكو في 1972م، معلقاً بيع القمح للاتحاد السوفيتي ومنح وضع الدولة الأكثر رعاية، على فتح أبواب الهجرة أمام اليهود السوفييت (1).
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص194(1/106)
الجماعات المسيحية الصهيونية خلال القرن التاسع عشر
في هذا القرن أيضاً ظهرت كثير من الطوائف والجمعيات المسيحية التي دعت إلى ضرورة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، حيث أخذت تنشر دعوتها بين العامة، بالإضافة إلى سعيها للتأثير على الشخصيات المهمة في أمريكيا، حيث ساعدت نصوص الدستور الأمريكي وخاصة في بنده الأول على امتداد وإنشاء المذاهب في أمريكا، والتي بلغ عددها 1200 مذهباً، وحمتها بحيث لا يمكن للكونغرس صياغة أي تشريع يمنع أي مذهب ديني، أو يحد فترة ممارسة الحريات الدينية، وقد جاء ذلك انطلاقاً من أن مجموعات الاستيطان الأولى التي وفدت إلى أمريكا جاء بعضها هرباً من الملاحقات الدينية في موطنها الأصلي (1).
جماعة أخوة المسيح
في عام 1848م أسس جون طوماس الجماعة الدينية المعروفة باسم (أخوة المسيح) والتي تقوم دعوتها التبشيرية بشكل رئيس، على تطبيق النبوءات التوراتية وسفر الرؤيا، على الأحداث الحاضرة والمستقبلية. "وقد ساهمت هذه الطائفة بلسان أحد أتباعها وبقلمه، في إظهار الحركة الصهيونية بمظهر البينة أو العلامة على مجيء المسيح قريباً ليبسط حكمه وسلطانه على العالم أجمع من مقره في القدس، وذلك كما جاء في كتاب (فرانك جنادى) فلسطين واليهود، أو الحركة الصهيونية بينة لظهور المسيح عما قريب في القدس، ليحكم العالم بأسره من هناك" (2).
جمعية بنى بريث (أبناء العهد)
في عام 1843م أنشأ هنرى جونز بالتعاون مع مجموعة من الصهاينة الأمريكيين، جمعية بنى بريث في مدينة نيويورك، بهدف تسهيل إعادة اليهود إلى فلسطين. ومن نيويورك انتشرت فروع الجمعية في أمريكيا وجميع أنحاء العالم. وقد
_________
(1) شهود يهوه بين برج المراقبة الأمريكى والتلموذ اليهودي ـ حسين عمر حماده - ص222 - دار قتيبه 1990
(2) إسرائيل الكبرى ـ أسعد رزوق ـ ص 219.(1/107)
أنشئ فرع للجمعية في فلسطين في عام 1888 م من اجل المساهمة في بناء المستعمرات اليهودية لتكون نواة للوطن القومي اليهودي. كما تم فتح فرعين للجمعية في مصر (1).
وقد استطاعت هذه الجمعية وفروعها المنتشرة في كثير من البلدان التأثير على كثير من الشخصيات المهمة في أمريكيا والعالم، من أجل كسب دعمهم ومساندتهم للمطالب الصهيونية في فلسطين. وقد حرص غالبية الرؤساء والمسؤولين الأمريكيين على المشاركة في المناسبات والحفلات التي تقيمها الجمعية، لكي يشيدوا بالأعمال العظيمة التي تقوم بها هذه الجمعية من أجل خدمة الأهداف الصهيونية (2).
جمعية شهود يهوه
أنشأت هذه الجمعية في ولاية بنسلفانيا الأمريكية في عام1884 م، ثم انتقلت إلى مدينة نيويورك في عام 1909م، حيث أخذت توفد المبشرين إلى جميع أنحاء العالم لكسب التأييد لفكرة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، تحقيقاً للنبوءات التوراتية. وقد وصل نشاط هذه الجمعية إلى البلاد العربية نفسها، حيث تصدى لها رجال الدين المسيحي من كل الطوائف المسيحية، وفندوا دعاوى جماعة شهود يهوه باعتبارها ضلالات وهرطقات تسعى لتصديع الكنيسة وكسر عقائدها خدمة لليهودية والصهيونية التي تهدف:
1. تفسير العهد القديم تفسيراً يهودياً.
2. التبشير بفلسطين وطناً قومياً لليهود العائدين لتأسيس دوله برئاسة المسيح.
_________
(1) الماسونية في المنطقة 245 ـ أبو إسلام أحمد عبد الله ـ ص 52 - القاهرة، دار الزهراء للإعلام العربي، ط 1 - 1986م
(2) الماسونية وموقف الإسلام منها - د. احمد الرحيلي- ص75 - دار العاصمة للنشر والتوزيع- النشرة الأولى 1415هـ(1/108)
3. التركيز على كتاب يوحنا لتفسيره تفسيراً يهودياً، حيث وجد اليهود في رؤيا يوحنا فخاً لتضليل المسيحيين، فانصرف شهود يهوه إليه ليبشروا بقرب مجيء المسيح، ولكن مسيحهم المنتظر هو مسيح يقيم حكومة عالمية في القدس وزراءها من اليهود (1).
يقول عبد الله التل، في كتابه جذور البلاء عن هذه الجمعية: "هي جمعية يهودية ترتدي ثوباً مسيحياً مزيفاً، وهى في الواقع من أخطر الجمعيات اليهودية في العالم، ذلك أنها تقوم على مبدأ خداع الجماهير المسيحية الساذجة، وإدخال نبوءات التوراة في النفوس المؤمنة ليصبح الاعتقاد جازماً عند المسيحيين، بوجوب عودة اليهود إلى أرض الميعاد. وطريقة التبشير عند أتباع هذه الجمعية، هي اقتحام بيوت الناس بوقاحة عجيبة والبدء بإلقاء دروس دينية من التوراة اليهودية، لاستدرار عطف السامعين وكسبهم في صف الداعية، إلى ضرورة عودة اليهود لأرض الميعاد، تحقيقاً لأوامر اليهود.
ولقد تسربت هذه الجمعية إلى البلاد العربية، وخدعت حكومات عربية كثيرة، فتغاضت عن نشاطها، وفي لبنان استفحل نفوذها، فهب فريق من رجال الدين المسيحي الواعين وهالهم التطبيق العملي لتعاليم هذه الجمعية، وقاد المعركة ضد شهود يهوه، الخورى، جورج فاخورى، وفضح أسرارها وكشف حقيقتها" (2). كما قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بطردهم من مصر ووقف البابا شنوده وقيادات الكنيسة المصرية وجها لوجه أمامهم وتم فضح مخططاتهم للمواطنين (3).
اندرو جونسون
بعد اغتيال الرئيس الأمريكي (ابراهام لنكولن)، أصبح (أندرو جونسون 1865 ـ 1869م) الرئيس السابع عشر للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أبدى تعاطفه مع اليهود وكان المتحدث الرئيس في حفل افتتاح معبد (فاين ستريت) بمدينة ناشفيل
_________
(1) شهود يهوه بين برج المراقبة الامريكى والتلموذ اليهودي ـ حسين عمر حماده ص110
(2) جذور البلاء ـ عبد الله التل ـ ص 156 - المكتب الإسلامى, 1978 ..
(3) كنائس الشرق تكافح أعداء المسيح الجدد ـ شكري عازرـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672(1/109)
في 1874م، حيث اصطحبه الحاخام اسحق ماير وايز إلى المعبد في عربته، وحين صعد جونسون إلى المنصة كان يعتمر اليارمولكا ـ الطاقية اليهودية المعروفة ـ وقال إنه: "لم يوجد من امتلأ حباً لليهود مثله بين أبناء ديانته المسيحيين جميعاً، ولم يوجد من اهتم اهتمامه العميق والدائم بنجاح اليهود ورخائهم وازدهار ديانتهم ومعبدهم". ذلك المعبد الذي قال عنه إنه "سيظل النصب المقدس الذي يجسد كد اليهود ومثابرتهم واستحقاقهم النجاح والرخاء والرفاه، لا في مدينة ناشفيل فحسب، بل وفي كل مكان" (1).
يوليسيس جرانت
كان يوليسيس جرانت هو الرئيس الثاني القادم من صفوف العسكرية الأمريكية بعد الحرب الأهلية ليصبح الرئيس الثامن عشر (1869 - 1877م)، وعلى الرغم من بزوغ نجمه كقائد ميداني فذ، فإن القرار الذي سبق أن أصدره ـ وألغاه الرئيس إبراهام لنكولن ـ بإبعاد اليهود خارج تينسى خلال 24 ساعة ظل يطارده، وما كان يمكن لجرانت أن يحصل على الرئاسة لولا المساعدات الجادة التي قدمها إليه عدد من قادة اليهود، إذ أدركوا أن قدوم جرانت المحمل بعقدة الذنب سيعطيهم فرصة أكبر لابتزاز الرئيس، وربما هذا هو ما دفع سيمون وولف -أحد أهم من تولوا الدعاية لجرانت من اليهود، وسنراه بسرعة قنصلاً لأمريكا في مصر ـ للمفاخرة بأن "بوسعه أن يقرر بمنتهى الوضوح، أن الرئيس يوليسيس جرانت فعل من أجل اليهود طوال مدتي رئاسته من 1869م إلى 1877م، أكثر مما فعل أي رئيس أمريكي دخل البيت الأبيض قبله" (2).
هايز وإجازة السبت
نجح رذرفورد هايز (1877ـ1881م) في أن يصبح الرئيس الأمريكي التاسع عشر، وفي عهده، كان عدد الموظفين اليهود في الإدارة الأمريكية قد زاد إلى الحد الذي جعل صوتهم يرتفع مطالباً بمنحهم يوم السبت إجازة اتساقاً مع تحريم التوراة
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص201
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص202(1/110)
للعمل في ذلك اليوم. وعندما تباطأت إدارة هايز في الاستجابة لذلك الطلب، نظراً لما وجدت فيه من ظلم للموظفين الآخرين من غير اليهود، أوعزت القيادات اليهودية إلى مرشح لشغل منصب بالسلك الدبلوماسي أن يعلن أنه، عندما يباشر مهام منصبه، لن يكون بوسعه أن يعمل في يوم السبت، وأعطت المسألة تغطية إعلامية جعلتها قضية عامة. ولما وصلت الرسالة واضحة إلى هايز، سارع بالتصريح للصحفيين بأن "أي مواطن يكون على استعداد لأن يضحي بفرصة كهذه على مذبح معتقداته الدينية لابد أن يكون مواطناً صالحاً، ومن الظلم لدافعي الضرائب الأمريكيين أن نخسره" وأعلن عن موافقته على المطلب اليهودي (1).
بقى أن نشير إلى أن هايز بدأ رئاسته بتعيين (بنيامين وبييكسوتو) رئيس (البناي بريث) قنصلا لأمريكا لدى روسيا، مع تكليفه بمهمة مماثلة لتلك التي أداها في رومانيا، فقد كان عليه أن يحقق في تصرفات حكومة روسيا غير الطيبة إزاء اليهود، والتي أدت إلى إلغاء المعاهدة التجارية التي كانت مبرمة بين روسيا وأمريكا، لكن المهمة لم تتم، فقد رفض القيصر الروسي استقبال المحقق الأمريكي، معلنا رفضه قبوله ممثلا دبلوماسيا لدى بلاط سانت بطرسبرج.
أول يهودي يمثل أمريكا في مصر ..
لم يعمر الرئيس العشرون (جميس إبرام جارفيلد 1881م) الجنرال الثالث القادم من الحرب الأهلية، في منصبه طويلاً، إذ تم اغتياله، لكنه ككل الرؤساء من عمر منهم ومن لم يعمر ـ كان قد أدى للصهاينة خدمة متميزة بالفعل، حين عين اليهودي (سيمون وولف) قنصلاً لأمريكا في مصر، معلناً ـ صراحة ـ عن واحدة من أعقد عُقد الصهاينة، سواء منهم اليهود والمسيحيون، وهي عقدة عبودية اليهود في مصر، وفي هذا قال جارفيلد: "إنه يشعر بسعادة غامرة لأنه عين سليل الشعب الذي استعبد في مصر قديماً مبعوثاً دبلوماسياً إلى ذلك البلد من الأمة الأمريكية الحرة العظيمة".
_________
(1) المصدر السابق- ص203(1/111)
وقد كتب سيمون وولف مذكرات مهمة أثناء وجوده في مصر، ترجمت إلى العربية في الستينيات تحت عنوان (مصر وكيف غدر بها)، وفي هذه المذكرات نلاحظ أن التاجر اليهودي وولف، يفحص بضاعته (مصر) جيداً، ممنياً النفس بأن الثمرة أوشكت على النضج والسقوط في يده. ولنلاحظ أنه عمل في مصر في أحرج سنوات حياتها، تلك التي سبقت ـ مباشرة ـ سقوطها في قبضة الاحتلال البريطاني 1882م.
ولم يختم جارفيلد حياته قبل أن يبعث رسالة إلى حكومة القيصر الروسي بشأن أوضاع اليهود، لكن القيصر لم يعرالرسالة التفاتاً، ويبدو أن الصد المتكرر الذي واجه به قيصر روسيا محاولات التدخل الأمريكية، نبه الرئيس الحادي والعشرين " (تشستر آلان آرثر) (1881ـ1885م) إلى وجود صعوبات تحول دون التدخل لصالح اليهود أحياناً، ولهذا فقد حاول حل هذه المشكلة بتعيين، أدولفوس سولومونز ـ رئيس البناي بريث ـ ممثلا للولايات المتحدة الأمريكية في هيئة الصليب الأحمر الدولية، التي كانت أمريكا قد انضمت إلى معاهدة جنيف الخاصة بها تواً، وهكذا أصبح بمقدور (بناي بريث) أن تتدخل في شؤون روسيا وغيرها تحت ستار المساعدات الإنسانية عبر هيئة الصليب الأحمر (1).
المشيخية في البيت الأبيض
بعد جارفيلد تولى الرئاسة الأمريكية الرئيس كليفلاند لمرتين منفصلتين، حيث كان كليفلاند مسيحياً بروتستانتياً مشيخياً، أي من إتباع الكنيسة المشيخية التي تعتبر أهم الكنائس المسيحية الصهيونية التي دفعت بأبنائها إلى البيت الأبيض. "والكنيسة المشيخية تستمد تعاليمها من أفكار، جون كالفن (1059ـ1564م) وهو لاهوتي فرنسي بروتستانتي من رجالات الإصلاح الكنسي تحول عن الكاثوليكية علم 1523م، وصار من قادة البروتستانت المشهورين، حيث نشأ عن مبادئه مذهب مهم من المسيحية هو (المذهب الكالفيني) وهو نظام متبع في الكنائس
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص203(1/112)
البروتستانتية المعروفة بالكنائس المصلحة، حيث آمن كالفن بأن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد لشريعة الله ونواميسه كما انه لا يعترف بسلطة البابا" (1).
والمهم هنا هو أن إتباع الكنيسة المشيخية كانوا ولازالوا من أهم مؤيدي اليهود، ولم يقتصر نشاطها في أمريكا بل امتد إلى المنطقة العربية، فالجامعة الأمريكية في القاهرة، وكذلك في بيروت من أعمال الكنيسة المشيخية، والقس صموئيل زويمر) كان مشيخياً، وهو الذي رعى ورأس المؤتمر التبشيري المنعقد في القاهرة ببيت الزعيم (أحمد عرابي) بعد هزيمة عرابي أمام الإنجليز ونجاحهم في احتلال مصر 1882 م، ذلك المؤتمر الذي وضع أسس الهيمنة الغربية لصالح المشروع الصهيوني على منطقتنا (2).
وفي عهد كليفلاند كانت منظمة بناي بريث الصهيونية، قد بلغت حداً بالغاً من القوة والسطوة، مما جعل الرئيس يرسل إليها برسالة مفتوحة قال فيها إنها "جمعية أنشئت لتحقيق أهداف نبيلة" وإنه: "لا ينبغي أن يقتصر ما تحدثه من أثر على إثارة حماس أعضائها، بل ينبغي أن تستجلب تمنيات النجاح لها من جانب كل من يهمهم الارتقاء بالنوع الإنساني وتنمية الغرائز العليا في الطبيعة الإنسانية". ورجا (الرئيس) أن: "تتقبل الجمعية صادق تمنياته بأن يتضاعف ما كانت قد توصلت إليه من نجاحات تثلج الصدر" (3).
وليم بلاكستون والبعثة العبرية نيابة عن إسرائيل
في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ظهر رجال دين، يطالبون بعمل شعبي لإعادة اليهود إلى فلسطين، وكان من أبرز هؤلاء وليام بلاكستون، "رجل الدين والمؤلف والمليونير الذي ينفق الملايين على التبشير، والذي يعتبر أباً للصهيونية اليهودية، بسبب نشاطه المتواصل من أجل تحقيق النبوءات التوراتية. فقد كان بلاكستون ممولاً، ورجل صناعة كبير، وكان في نفس الوقت شديد التعصب، حج إلى
_________
(1) لاهوت التحرير ـ غسان دمشقية ص189 - ط. 1 - دمشق، سوريا: الأهالي للطباعة و النشر 1990.
(2) حقيقة التبشير بين الماضي والحاضرـ أحمد عبد الوهاب ـ ص161
(3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص204(1/113)
الأراضي المقدسة برفقة ابنته في 1888م، وأدعى أن تطويرها زراعياً وتجاريأ لن يتم إلا على أيدي ورثة هذه الأرض وهم اليهود، وعاد ليطلق الشعار الذي استغلته الصهيونية حتى اليوم حيث تحدث عن "الشذوذ المتمثل في أن فلسطين هذه تركت هكذا أرضاً بغير شعب بدلاً من أن تعطى لشعب بغير أرض" (1).
وفي عام 1878م ألف بلاكستون كتاب (عيسى قادم) الذي بيع منه أكثر من مليون نسخة، وترجم إلى 48 لغة بما فيها العبرية. وقد أثار هذا الكتاب جميع الأمريكيين بكافة طبقاتهم، حيث كان من أكثر الكتب التي تتحدث عن عودة اليهود إلى أرض فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر. وبالإضافة إلى ذلك فقد أسس القس بلاكستون في شيكاغو منظمة سماها (البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل). "وقد عملت هذه المنظمة في مجالات متعددة ودعت اليهود إلى العودة إلى فلسطين، واستمرت هذه المنظمة في العمل حتى يومنا هذا وأصبح أسمها حالياً، أتباع أمريكيا المسيحية" (2). وعندما أنشئت الحركة الصهيونية بزعامة هرتزل، "قام القس بلاكستون بإرسال نسخة من التوراة إلى هرتزل، واضعاً خطوطاً وعلامات تحت النصوص التي تشير إلى استعادة فلسطين، ولقد حفظت هذه النسخة في ضريح هرتزل" (3).
الرئيس هايسون ومظلمة بلا كستون
نجح بنيامين هاريسون، مرشح الحزب الجمهوري، في أن يصبح الرئيس الأمريكي الثالث والعشرين (1889ـ 1893م) مزيحاً الرئيس السابق عليه، واللاحق له (كليفلاند). فقد توسطت فترة هاريسون فترتي رئاسة كليفلاند، حيث كان هاريسون هو الوحيد في قائمة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية القادم من ولاية إنديانا، وهو ـ كذلك الرئيس الأول على رأس المائة الثانية من حكم أمريكا، الذي استهله الرئيس جورج واشنطن 1779م.
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص152
(2) من أوراق واشنطن ـ د. يوسف الحسن ـ ص 121
(3) الصهيونية غير اليهودية - ريجينا الشريف ص 187(1/114)
وخلال فترة رئاسته، وجه القس المسيحي الصهيوني بلاكستون (المنتمي إلى الميثوديست أو المنهاجيين) مظلمة إلى هاريسون ممهورة بتوقيع 413 من القيادات المسيحية الأمريكية تطالب بتجميع اليهود في (وطنهم) فلسطين. وقد عبر بلاكستون عن هذا صراحة في مظلمته التي طالب فيها بالمساعدة في إعادة فلسطين لليهود. حيث جاء في هذه العريضة قوله: "لماذا لا نعيد فلسطين لهم ـ اليهود ـ إنها وطنهم حسب توزيع الله للأمم، وهى ملكهم الذي لا يمكن تحويله لغيرهم والذي طردوا منه عنوة. لقد كانت أرضاً مثمرة بفضل فلاحتهم لها، وكانت تعيل ملايين الإسرائيليين الذين كانوا يفلحون سفوحها ووديانها بكل نشاط، كانوا مزارعين ومنتجين، كما كانوا أمة ذات أهمية تجارية كبرى ـ مركز الحضارة والدين. لماذا لا تعيد الدول التي أعطت بموجب معاهدة برلين عام 1878م، بلغاريا للبلغاريين والصرب للصربيين، فلسطين لليهود" (1). وقد تسلم الرئيس هارسون هذه العريضة ووعد بأن يأخذها بعين الاعتبار.
ومن الجدير بالذكر أن هذه المظلمة وقع عليها عميد أسرة روكفلر، وكبير قضاة المحكمة العليا، ورئيس مجلس النواب بالكونجرس، وعدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ، وكبار القساوسة، ورؤساء تحرير عدد من الصحف أي وقعت عليها أمريكا بالكامل، ممثلة في قادتها السياسيين وقيادات الرأي فيها وهي تلخص وتحدد بصراحة أهم المنطلقات الصهيونية والأكاذيب والأباطيل التي روج الصهاينة مشروعهم من خلالها وهي:
ـ أن فلسطين أرض بلا شعب، واليهود شعب بلا أرض.
ـ أن اليهود هم أصحاب فلسطين، والمطلوب إعادتهم إليها، راجع السطر الأخير من المظلمة.
_________
(1) الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الاستيعاب والتصفية ـ د. محمد شديد ـ ترجمة كوكب الريس ـ ص 58 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981(1/115)
ـ أن ازدهار الحياة وخصب الأرض في فلسطين مرتبط بوجود اليهود، وتلك مسألة "إلهية" قدرها الرب ـ في زعمهم ـ بحيث إن أرض فلسطين تظل صحراء قاحلة حتى يأتيها اليهود!
ولم تكن مظلمة بلاكستون هي الوحيدة التي قدمت إلى هاريسون، فقد رفع إليه عدد من أغنياء اليهود عريضة بطلب "عقد مؤتمر دولي للنظر في أحقية اليهود في استرداد وطنهم القديم فلسطين". واستجابة لتيار العرائض هذا، وافق الرئيس على الدعوة التي وجهها الكونجرس إلى وزارة الخارجية للاحتجاج لدى حكومة القيصر الروسي على اضطهاد اليهود وعزز هاريسون هذه الدعوة بقوله: "إن إدارتي قد أعربت لحكومة القيصر بروح ودية، ولكن بحزم بالغ، عن عميق قلقها إزاء الإجراءات القاسية التي تتخذ حالياً في روسيا ضد العبرانيين" (1).
ويلاحظ شفيق مقار: "أن هاريسون لم يشر إلى القوم باسم اليهود، بل استخدم التسمية التوراتية، فقال العبرانيين!! " حيث أضاف هاريسون في رسالته: "إن العبراني لم يكن في أي وقت شحاذاً، بل كان دائماً شخصاً ملتزماً بالقانون، وإنساناً يكسب رزقه بعرق جبينه. وهو غالباً ما يفعل ذلك في ظل ظروف بالغة القسوة وقيود مدنية شديدة القهر. كما أنه من الصحيح أيضاً أنه لم يوجد في أي وقت جنس أو طائفة أو طبقة عنيت بما فيه خير أفرادها كالجنس العبراني" (2).
الحكومات الأمريكية والمطالب الصهيونية
نشأت أمريكا كأرض صهيونية منذ فجر ميلادها الأول، حيث لاحظنا ذلك على مستوى الفكر والعمل، وقد رأينا كيف قدم الرؤساء الأمريكيون الأوائل خدمات جليلة ـ ومباشرة ـ في هذا السياق، وكيف أنهم ـ من حيث العقيدة ـ لم يكونوا أكثر من مجموعة من المتطرفين الصهاينة المهووسين بالعبرانية، وتابعنا مساعيهم لإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين قبل هرتزل بزمان طويل، بل إن المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بال بسويسرا (1897م) ما كان له أن ينعقد لولا
_________
(1) الصهيونية المسيحية (1891ـ1948) - بول مركلي - ترجمة فاضل جتكر ص 111
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص 210(1/116)
جهود الرؤساء الأمريكيين المتعاقبة التي ذللت سويسرا لليهود، وجعلتها تلعب واحداً من أهم الأدوار في خدمتهم، وجهود الرئيسين (بنيامين هاريسون) (وجروفر كليفلاند) اللذين مهدا ـ مباشرة ـ لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول (1).
الرئيس ويلسون
لما وضعت الحركة الصهيونية برنامجها، وسعت إلى تحقيقه عن طريق الحصول على مساعدة الحكومة البريطانية، كان لأمريكا دور كبير في تحقيق أولى المطالب الصهيونية والتي تحققت بفضل وعد بلفور، هذا الوعد الذي لم يصدر إلا بعد اتصالات بين الحكومتين البريطانية والأمريكية، حيث كانت موافقة أمريكيا على الوعد ضرورية. وقد لعب الرئيس ويلسون دوراً رئيساً في صدور وعد بلفور، حيث شارك في الاتصالات التي سبقت صدور الوعد، وأعلن عن تأييده لمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين، حيث صرح عشية صدور الوعد بقوله: "لن تصبح فلسطين مؤهلة للديمقراطية إلا إذا امتلك اليهود فلسطين، كما سوف يمتلك العرب شبه جزيرتهم أو البولونيون، بولونية" (2).
وعندما صدر وعد بلفور عام 1917م لم يتوانَ الرئيس ويلسون عن تأييد هذا الوعد وإعلان موافقته عليه. ففي آب 1918م قال ويلسون: "أعتقد أن الأمم الحليفة قد قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا" (3). وبتاريخ 31ـ8ـ1918م بمناسبة العام العبري الجديد اعلن عن موافقته الرسمية على وعد بلفور (4)، وبعث برسالة إلى الحاخام ستيفان وايز، رحب فيها بالتقدم الذي أحرزته الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، وفي البلدان الحليفة بعد تصريح بلفور. وفي 20ـ9ـ1922م صادقت الحكومة الأمريكية بصورة نهائية على مشروع بلفور.
_________
(1) رؤساء أمريكا .. قادة صهاينة في البيت الأبيض - محمد القدوسي ـ دراسة منشوره على الانترنت
(2) إسرائيل الكبرى ـ د. أسعد رزوق ـ ص 407
(3) الوجه الآخر .. العلاقات السرية بين النازية والصهيونية ـ محمود عباس ـ ص 29
(4) دول محور الشر الإرهابية - أمريكا .. بريطانيا .. إسرائيل ـ محمد عبد الحميد الكفريص8 - دار قتيبة للطباعة والنشر- ط1 2003(1/117)
والرئيس ويلسون كان مدفوعاً لتحقيق آمال اليهود بناءً على خلفيته الدينية. فقد تربى في ظل التعاليم البروتستانتية التي تؤمن بالنبوءات التوراتية، وكان يسعده أن يكون له دور في إعادة اليهود إلى فلسطين، حيث كان يقول: "إن ربيب بيت القسيس ينبغي أن يكون قادراً على المساعدة في إعادة الأرض المقدسة لأهلها" (1)، وكان يرى نفسه من خلال خطبه العديدة، بأنه أعطى الفرصة التاريخية لخدمة رغبات الله بتحقيقه للبرنامج الصهيوني.
خلفاء ويلسون
بعد أن وافق الرئيس ويلسون على وعد بلفور ودعم مطالب الحكومة البريطانية في مؤتمر سان ريمو، الذي كرس الانتداب البريطاني على فلسطين، لخدمة الحركة الصهيونية، أخذ خلفاء ويلسون في الرئاسة يلزمون أنفسهم بالموقف الصهيوني، ويعبرون عن تعاطفهم مع الحركة الصهيونية، حيث عبر الرئيس الأمريكي (هاردنج) في عام 1921 م عن تعاطفه مع الحركة الصهيونية وتأييده الشديد لإنشاء صندوق فلسطين، حيث قال: "إن اليهود سيعادون يوما إلى وطنهم القومي التاريخي، حيث سيبدأون مرحلة جديدة بل مرحلة أعظم من كل مساهماتهم في تقدم الإنسانية" (2).
وفي عام 1922م اتخذ الكونغرس الأمريكي قراراً، وقع عليه الرئيس (هاردنج) جاء فيه الاعتراف، "بأنه نتيجة للحرب، أعطى بنى إسرائيل الفرصة التي حرموا منها منذ أمد بعيد لإعادة إقامة حياة وثقافة يهوديتين مثمرتين في الأراضي اليهودية القديمة، وأن كونغرس الولايات المتحدة يوافق على إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي" (3). كما قام الرئيس الأمريكي هربرت هرمز في عام 1928 م بتهنئة الحركة الصهيونية لإنجازاتها العظيمة في فلسطين.
_________
(1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 195.
(2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان ص121
(3) الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 75(1/118)
وفي ثلاثينات القرن السابق، ازداد عدد الجمعيات الأمريكية المؤيدة لإقامة دولة يهودية في فلسطين، حيث كان هدفها حشد الرأي العام الأمريكي من أجل تحقيق الأهداف الصهيونية في فلسطين. ففي عام 1930م أسس الكاهن تشارلى أي رسل، اتحاد المنظمات الأمريكية الموالية لفلسطين، والتي كانت تهدف إلى تشجيع التعاون بين اليهود وغيرهم من المسيحيين، بهدف الدفاع عن قضية الوطن القومي اليهودي. وفي عام 1932م أسست اللجنة الأمريكية الفلسطينية للهدف ذاته. وقد ساعدت هذه الجمعيات وغيرها، كثيراً في دعم مطالب الحركة الصهيونية، بسبب وجود وسط بروتستانتي ملائم لترويج الأفكار الصهيونية.
مركز ثقل الصهيونية ينتقل إلى أمريكيا
في أربعينيات القرن السابق ازداد حجم الدعم الأمريكي للحركة الصهيونية، حيث أدرك الزعماء الصهاينة أن مركز الثقل في عملهم قد بدأ ينتقل من بريطانيا إلى أمريكيا. فبعد أن أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض في عام 1939م والذي حد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، قابل الزعماء الصهاينة والمتعاطفون معهم، هذا الكتاب بالرفض والاستنكار، و بدأوا يشعرون أن بريطانيا أخذت تتخلى عنهم ولو جزئياً بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، هذا التحول دفع الزعماء الصهاينة لتركيز جهودهم في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كتب بن جوريون في عام 1940م يصف مشاعره في هذه الفترة، فقال: "أما أنا فلم أكن أشك في أن مركز الثقل بالنسبة لعملنا السياسي، كان قد أنتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، التي كانت قد احتلت المرتبة الأولى في العالم كدولة كبرى". وعندما اجتمع الزعماء الصهاينة في مؤتمر بلتمور في عام 1942م، قرروا نقل جهودهم إلى أمريكيا لكي تساعدهم في تحقيق مطالبهم. فقد أعلن بن جوريون أمام المؤتمر، أن اليهود لم يعد باستطاعتهم الاعتماد على الإدارة البريطانية في تسهيل إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين (1).
_________
(1) المصدر السابق ـ 70.(1/119)
العمل من أجل إلغاء الكتاب الأبيض
كان كل هم الزعماء الصهاينة والمتعاطفين معهم في هذه الفترة، إلغاء الكتاب الأبيض الذي أصدرته بريطانيا في عام 1939م، والذي يحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين. لهذا فقد نشط المتعاطفون مع الحركة الصهيونية في هذا الوقت. "فبمعونة 1000 زعيم صهيوني في الديار الأمريكية استطاع مجلس الطوارئ الذي شكلته الحركة الصهيونية، الحصول على قرار ضد الكتاب الأبيض من جميع المنظمات اليهودية الكبرى والجمعيات المهمة، أمثال الليونز، والدلكس، والروتارى، ونادى السيدات العاملات في التجارة والمهن الحرة، وغيرها من الجمعيات والنوادي. كما أن نقابات العمال وجمعيات الكنائس انضمت ضد الكتاب الأبيض" (1).
وفي آذار عام 1944م قدم بعض أعضاء مجلس الشيوخ إلى لجنة الشؤون الخارجية، مشروع قرار يدعو إلى إلغاء الكتاب الأبيض البريطاني، وتأييد خطة إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ولكن المستر جورج مارشال وزير الخارجية، ورئيس أركان حرب الجيش الأمريكي آنذاك، تدخل وطلب من اللجنة عدم بحث ذلك الاقتراح، خوفاً من إثارة الرأي العام العربي وانعكاس ذلك على الموقف العسكري، فنزلت لجنة الشؤون الخارجية عند طلب المستر مارشال، وأرجأت البحث في الاقتراح المقدم لها. وبعد بضعة أشهر تغير مجرى الحرب نهائياً لصالح الحلفاء، فأرسل المستر مارشال نفسه كتاباً إلى السناتور واغنر، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، قال فيه: "إن الاعتبارات العسكرية التي حملته فيما مضى على معارضة بحث ذلك الاقتراح قد زالت" (2).
"وفي فبراير 1945م وقع خمسة آلاف قسيس بروتستانتي أمريكي، عريضة رفعوها إلى الحكومة ومجلس الأمة والكونغرس، يطالبون فيها بفتح أبواب فلسطين
_________
(1) الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 70.
(2) المؤامرة الكبرى، اغتيال فلسطين ـ أميل الغورى ـ ص 150 - دار النيل للطباعة، القاهرة - ط.1 1955م ..(1/120)
على مصراعيها للهجرة اليهودية، وقد قامت وكالات الأنباء ومحطات الإذاعة والصحافة بدعاية واسعة النطاق لمشروع إنشاء دولة يهودية في فلسطين" (1).
وبالرغم من أن هذا التعاطف الكبير مع الحركة الصهيونية، من قبل الجمعيات والمؤسسات العامة خلال عشرينات القرن الحالي وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يرافقه موقف عملي واضح من الحكومة الأمريكية، إلا أن ذلك لم يكن لعدم إيمان الرؤساء الأمريكيين ـ في تلك الفترة ـ بأهداف الحركة الصهيونية، بل لأن بريطانيا في ظل انتدابها على فلسطين كانت تقوم بتقديم كافة التسهيلات والمساعدات للحركة الصهيونية. ولذلك لم يكن هناك أي داعٍ لتدخل أمريكيا ما دامت بريطانيا تقوم بنفس العمل وعلى أكمل وجه. فقد كان الرؤساء الأمريكيون في تلك الفترة يعتبرون أن فلسطين هي من جملة المسئوليات البريطانية في الشرق الأوسط، ولذلك فإن (روزفلت) "خلال مدد ولاياته الثلاث كأسلافه، لزم بدقة الموقف الأساسي الذي كان قائماً خلال الفترة التي كان هيوز فيها بالحكم، وهو أن الأحكام الخاصة بإنشاء وطن قومي يهودي الواردة في صك الانتداب، لم تكن في عداد المصالح الأمريكية، بل إنها من الشئون البريطانية" (2).
يضاف إلى ذلك أمر آخر مهم، وهو ظروف الحرب العالمية الثانية التي فرضت على أمريكيا عدم تأييد المطالب الصهيونية بصورة علنية، والسعي إلى استرضاء العرب حرصاً على الموقف العسكري في المنطقة. "ففي 29 ديسمبر 1942م أشار (هال) على الرئيس روزفلت بالا يبعث بأية رسالة إلى هيئة الصندوق القومي اليهودي، نظراً إلى الموقف في الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، حيث يسود شعور عنيف ضد الصهيونية في صفوف الشعوب العربية. فقد أكدت كافة التقارير العسكرية والدبلوماسية المرسلة من البلاد العربية، خطورة إثارة العرب بالتصريحات المؤيدة للصهيونية" (3). ولهذا فإن روزفلت، وفي محاولة منه لكسب ود الزعماء
_________
(1) الاستعمار وفلسطين ـ رفيق النتشة ـ ص 260.
(2) الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 107
(3) الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكيا الخارجية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 114(1/121)
العرب، قطع وعداً للملك عبد العزيز بن سعود ـ عاهل السعودية ـ بأنه لن يؤيد أي حركة من شأنها تسليم فلسطين لليهود.
روزفلت والأفكار الصهيونية
بالرغم من أن الظروف السياسية والعسكرية، فرضت على روزفلت عدم تأييد مطالب الحركة الصهيونية، بصورة علنية، إلا أنه كان متعاطفاً مع اليهود، وكان أثر العهد القديم واضحاً عليه، فقد أتخذ نجمة داوود شعاراً رسمياً للبريد وللخوذات التي يلبسها الجنود في الفرقة السادسة، وعلى أختام البحرية الأمريكية وطبعة الدولار الجديد، وميدالية رئيس الجمهورية (1). كما أنه دعا إلى عقد مؤتمر (ايفيان) في عام 1938م، لحل مشكلة اللاجئين في أوروبا وبالذات اليهود منهم. فقد كان يريد روزفلت أن تكون فلسطين هي الحل لهذه المشكلة، ولكن المؤتمر فشل في اتخاذ أي حل. ففى أثناء الحرب العالمية الثانية قام (موريس أرنست) ـ يهودي ـ وأحد المقربين من الرئيس روزفلت، بزيارة للندن، لمحاولة إيجاد مأوى لليهود المهجرين في بريطانيا وأمريكيا، وإذا برزفلت يعلن بأنه أقتنع تمام الاقتناع بأن ذلك البرنامج لن يحل المشكلة، لا سيما وأن قادة الصهيونية في أمريكيا رفضوا هذا الحل. وأستطرد قائلاً: إنهم على حق في معارضتهم، لأنهم يدركون أن فلسطين يجب أن تصبح عاجلاً أم عاجلاً الملجأ الأمين لمجيئهم.
وهكذا نرى أن سياسة روزفلت تجاه فلسطين كانت تبدو غير واضحة، حيث أنه حاول أن يوفق بين عواطفه وميوله الصهيونية، وبين الضرورة السياسية والعسكرية التي فرضتها ظروف الحرب العالمية الثانية. ولكن عندما أصبح انتصار الحلفاء مؤكداً، أظهر ميوله الصهيونية الواضحة، حيث أكد بعد إعادة انتخابه في يناير 1945م تعهده لليهود بمساعدتهم على إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ولكن القدر لم يمهله طويلاً حيث توفى في 12 أبريل عام 1945م.
_________
(1) الصهيونية العالمية ـ جمال الدين الرماوى ـ ص 126 - مكتبة الوعي العربي.(1/122)
ترومان ـ قورش ـ العصر الحديث!
عندما تولى ترومان منصب الرئاسة خلفاً لروزفلت، كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين تأييداً للمطالب الصهيونية، حيث كان لجهوده الفضل الأكبر في إنشاء إسرائيل حتى أن الحاخام الأكبر قال له: "لقد وضعك الله في رحم أمك لتعيد إنشاء إسرائيل (1). ففي 31 أغسطس عام 1945م، طلب الرئيس ترومان ـ نيابة عن الصهيونية ـ من رئيس الوزراء البريطاني أتلى، إدخال مائة ألف لاجئ يهودي إلى فلسطين، ولكن رد أتلى كان غير مشجع، حيث أنه أشترط أن تتحمل أمريكيا الأعباء العسكرية والاقتصادية لتنفيذ هذا الطلب، ولكن الرئيس ترومان رفض ذلك وقال: أنه لا يرغب في إرسال50,000 جندي لإقرار السلام في فلسطين. ونتيجة لذلك بدأت اتصالات بين الحكومة البريطانية وبين الزعماء الصهاينة المدعومين من أمريكيا، لتحقيق مطالبهم، ولكن هذه الاتصالات فشلت، مما دفع ترومان إلى تأييد الحل الصهيوني المتمثل بتقسيم فلسطين.
ترومان ومشروع التقسيم
أصدر الرئيس ترومان في 4 أكتوبر بياناً بادر فيه إلى المطالبة بإدخال مائة ألف يهودي فوراً إلى فلسطين، كما أوصى بتطبيق خطة التقسيم حسب الخطوط التي اقترحتها الوكالة اليهودية، وقال ترومان: "إنه كان يعتقد بأن حلاً على هذه الصورة سيصادف تأييداً من الرأي العام في الولايات المتحدة، وصدفة على حد قوله، صدر هذا البيان في يوم عيد كيبور ـ الغفران ـ اليهودي". ولكن لم يمضى وقت طويل حتى صدر رد الفعل العربي على بيان ترومان، ففي رسالة من الملك عبد العزيز بن سعود، إلى ترومان، اتهم فيها اليهود بأنهم يضعون مخططات ضد الأقطار العربية المجاورة، وأنتهي الملك عبد العزيز إلى القول، بأن بيان ترومان قد بدل الموقف الأساسي في فلسطين، خلافاً للوعود السابقة. وفي الرد على ذلك بتاريخ 26 أكتوبر
_________
(1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص64.(1/123)
1946م، أدعى ترومان، أن تأييد وطن قومي يهودي كان دائماً من صلب السياسة الأمريكية المنسجمة مع نفسها (1).
وبعد مشاورات عديدة رفع مشروع تقسيم فلسطين إلى الأمم المتحدة، حيث أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن قامت أمريكيا بالضغط على كثير من الدول لتأييد المشروع، حيث يعتبر البعض إن أهم ما يسجل لهاري ترومان في سياق تأييده للحركة الصهيونية، موقفه من مشروع قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة، إذ لم يكتف ترومان بإعطاء توجيهاته للوفد الأمريكي في الأمم المتحدة بالتصويت إلى جانب التقسيم يوم 29 تشرين الثاني 1947م، بل طلب من المسئولين الأمريكيين أن يمارسوا شتى ألوان الضغط والإغراء من أجل إقناع الحكومات الأخرى بالتصويت إلى جانب التقسيم، ويقول كبير الدبلوماسية سمنر ويلز: "بأمر مباشر من البيت الأبيض فرض المسؤولون الأمريكيون، كل أنواع الضغوط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خاصة مع تلك الدول المتمردة أو المعارضة للتقسيم ولم يتوان البيت الأبيض عن استخدام الوسطاء والوكلاء في سبيل ضمان الأكثرية اللازمة للتصويت. كما كتب وكيل الخارجية الأمريكي (روبرت لافل) عن دور البيت الأبيض ما يلي: "إنني لم أتعرض في حياتي قط لمثل ما تعرضت له من ضغوط قبيل مشروع التقسيم خاصة تلك الأيام التي سبقته من صباح الخميس إلى مساء السبت" (2).
وبالرغم من الجهد الكبير الذي بذلته أمريكا لتمرير قرار التقسيم، إلا أنها بعد فترة تراجعت عن هذا المشروع بسبب صعوبة تنفيذه، واقترحت وضع فلسطين تحت الوصايا، ولكن هذا الاقتراح لم يقبله الزعماء الصهاينة الذين كانوا يعدون العدة لإعلان قيام دولة إسرائيل بمجرد انتهاء الانتداب البريطاني عليها في 15مايو 1948م. وعندما أعلن عن قيام دولة إسرائيل، أعترف الرئيس ترومان بها بعد دقيقة من إعلان قيامها، كما أنه قام بتصرف يخالف كل المبادئ الدبلوماسية المعروفة،
_________
(1) الصهيونية الأمريكية ـ ريتشارد ستيفن ـ ص 234.
(2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيلـ حمدان حمدان ص127ـ128(1/124)
عندما أعترف بدولة إسرائيل قبل أن تطلبه رسمياً وقبل انتهاء الانتداب البريطاني بعشر ساعات.
حرب عام 1948 م
لم يقف تأييد ترومان للحركة الصهيونية عند هذا الحد، بل إنه استطاع أن يحل أصعب مشكلة مرت بها الدولة الوليدة. فعندما دخلت سبع جيوش عربية أرض فلسطين في 15 مايو 1948م، استطاعت هذه الجيوش تحرير كثير من الأراضي الفلسطينية، وضيقت الخناق على الجيش الإسرائيلي، بحيث أصبح في وضع حرج. وهنا أحس الرئيس ترومان بأن القتال الدائر في فلسطين يسير لصالح الجيوش العربية، وأصبح قلقاً على مصير الدولة التي عمل على إنشائها على أرض العرب، فمارس ضغوطاً مباشرة على المندوبين في مجلس الأمن للحصول على قرار بوقف القتال بأي طريقة يمكن التوصل إليها.
اتفاقية الهدنة
بعد مناقشات ومشاورات وملاحقات وضغوط من الرئيس ترومان شخصياً، وبناءً على اقتراح المستر دوغلاس، المندوب البريطاني، وفي 29 مايو 1948م أقر مجلس الأمن الدولي الموافقة على وقف القتال في فلسطين بموجب هدنة يتم الاتفاق عليها عن طريق وسيط دولي، وقد تم تعيين الكونت برنادوت وسيطاً دولياً، حيث استطاع التوصل إلى اتفاق للهدنة لمدة أربعة أسابيع. ونصت اتفاقية الهدنة الأولى على أن يحتفظ كل طرف بالمكان المتواجدة فيه قواته في ذلك الوقت، ولا يحق لأي طرف استغلال الهدنة والحصول على مكاسب عسكرية، سواء باحتلال الأراضي أو جلب الإمدادات البشرية والأسلحة. ولكن إسرائيل لم تلتزم بهذه الهدنة، حيث عملت على جلب مزيد من المتطوعين والأسلحة من الخارج بمساعدة سرية من أمريكيا وبريطانيا، في الوقت الذي فرض حظر على تصدير الأسلحة للدول العربية (1). فأصبح لدى إسرائيل بعد الهدنة الأولى 90,000 مقاتل كقوات هجومية مسلحة
_________
(1) أمريكا واسرائيل علاقة حميمه (التورط الأمريكي مع اسرائيل منذ العام 1947 حتى الآن) - جورج و. بول، دوغلاس ب. بول - ترجمة د. محمد زكريا اسماعيل ص 28 - دار بيسان للنشر والتوزيع - ط1 1994(1/125)
بالدبابات والمدفعية والطيران. كما أن إسرائيل استطاعت في ظل هذه الهدنة تنظيم جيشها والاستيلاء على مزيد من الأراضي العربية، بحيث أصبح ميزان القوى لصالحها بفارق كبير.
وهكذا لعب ترومان دوراً مهماً في حماية إسرائيل عند ولادتها، من خلال الهدنة التي فرضها على الدول العربية. ولهذا يرى البعض أن موافقة الدول العربية على الهدنة كانت خطوة متسرعة وغير محسوبة، وربما جاءت رضوخاً لضغوط خارجية، لأن الجيش الإسرائيلي كان في وضع صعب، وقد عبر مناحيم بيغن ـ في مذكراته ـ عن استغرابه وتعجبه لقبول الدول العربية للهدنة بالرغم من أن الموقف كان في صالحها، كما أن موشى ديان، الذي كان من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت، قال: "كانت الهدنة بالنسبة لنا كأنها قطرة ندى قادمة من السماء" (1).
وقبل انتهاء فترة الهدنة الأولى اقترح الوسيط الدولي برنادوت، أن تجدد الهدنة إلى أجل غير محدود، ووافقت الدول العربية على الهدنة الجديدة في 17 تموز 1948م، ولكن إسرائيل لم تلتزم بالهدنة الجديدة، حيث احتلت مزيداً من الأراضي الفلسطينية وشردت مزيداً من السكان. وبعدها أجبرت الدول العربية على الدخول في مفاوضات مع إسرائيل لعقد هدنة دائمة، حيث وقعت الدول العربية كلاً على انفراد معاهدات للهدنة مع إسرائيل في جزيرة رودس في عام 1949م. وتكمن أهمية اتفاقات الهدنة لدولة إسرائيل في أنها حصلت عن طريقها على مكاسب عديدة، فقد حصلت إسرائيل على مزيد من الأراضي العربية، وأتاحت لها فترة من الاستقرار كانت بأمس الحاجة إليه، لبناء مرافق الدولة الجديدة وجلب مزيد من المهاجرين، واستطاعت إسرائيل في هذه الفترة أن تحقق تفوقاً عسكرياً على الدول العربية.
صهيونية ترومان
من العرض السابق يمكننا تقدير حجم المساعدة التي قدمها الرئيس ترومان لدولة إسرائيل قبل وبعد إنشائها، ابتداءً من دعوته لفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة
_________
(1) الاستعمار وفلسطين ـ رفيق النتشة ـ ص 244(1/126)
اليهودية وتبنيه لقرار التقسيم واعترافه بدولة إسرائيل، وانتهاءً باتفاقية الهدنة التي عقدت بين إسرائيل والدول العربية. فقد كان ترومان صهيونياً أكثر من الصهاينة، حيث انعكس ذلك على سياسته تجاه المسألة الفلسطينية، والتي كانت سياسة رئاسية ثم تنفيذها من جانب واحد رغم معارضة كثير من المستشارين الحكوميين لها، والذين كانوا يرسمون سياسة بلادهم الخارجية بناء على مصالحها القومية، وليس بناء على عواطف دينية أو غيرها. لهذا فقد حدث أكثر من مرة أن تضاربت قرارات ترومان مع قرارات وزارة الخارجية ومستشاريه. ففي إحدى المرات كان مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، يطالب بشدة بوضع فلسطين تحت الوصاية، من غير أن يعلم بأن الرئيس ترومان قد اعترف قبل ذلك بقليل بدولة إسرائيل. وقد اعترف ترومان نفسه بحقيقة سياسته هذه حيث قال في مذكراته: "لقد كنت أعلم بأن المستشارين جميعاً لا ينظرون إلى المسألة الفلسطينية نظرتي أنا إليها، وأكثر من ذلك، كان الإختصاصيون من موظفي وزارة الخارجية في شئون الشرق الأوسط جميعهم تقريباً ضد فكرة دولة يهودية" (1).
ولكن ما هي نظرة ترومان للمسألة الفلسطينية، التي جعلته يخالف جميع مستشاريه ويتحدى مشاعر جميع العرب والمسلمين؟! إنها نظرة شخص تربى على تعاليم الكنيسة المعمدانية، التي تتبع مذهب العصمة الحرفية في تفسيرها للكتاب المقدس، وهذا يعنى الإيمان بصورة حرفية بكل ما جاء في العهد القديم من أخبار ومعلومات تاريخية ونبوءات من غير تأويل. لهذا فإن أتباع هذه الكنيسة من أكثر المتحمسين للحركة الصهيونية، حيث يؤمنون بضرورة قيام دولة إسرائيل تحقيقاً للنبوءات التوراتية. ولهذا فقد كان واضحاً أثر هذه الأفكار على ترومان وحياته. "فقد كان يؤمن ـ باعتباره أحد تلاميذ التوراة ـ بالتبرير التاريخي لوطن قومي يهودي، وكانت لديه قناعة بأن وعد بلفور، حقق آمال وأحلام الشعب اليهودي القديمة. كما كان واضحاً أثر الثقافة اليهودية والعهد القديم عليه، وكيف لا وهو يعتبر التلمود اليهودي كتابه المفضل. ولهذا كانت هديته لليهود عام 1946م، في عيد الغفران ـ كيبورـ تأييده لمشروع تقسيم فلسطين.
_________
(1) أني أتهم ـ روجيه ديلورم ـ ترجمة نخله كلاس ـ ص 91 - دار الجرمق, 1985.(1/127)
كما عرف عن ترومان حبه الشديد للفقرة الواردة في المزمار 137 والتي تقول: "لقد جلسنا على أنهار بابل وأخذنا نبكى حين تذكرنا صهيون" (1)، حيث كانت هذه الفقرة جزء رئيسي من صلاته التي كان يقيمها مع القس المتطرف بيليى غراهام في البيت الأبيض، ولكن ترومان غضب من غراهام ومنعه من دخول البيت الأبيض لأنه كان يخبر الصحافة بتفاصيل صلاته الخاصة معه" (2).
لقد كان ترومان يرى أن خدماته العظيمة التي قدمها لليهود تجعله يرقى إلى مقام الملك الفارسي قورش، الذي أعاد اليهود من منفاهم في بابل، إلى فلسطين. "فعندما قدمه إيدى جاكوبسون إلى عدد من الحاضرين في معهد لاهوتي يهودي، وصفه بأنه الرجل الذي ساعد على خلق دولة إسرائيل. رد عليه ترومان بقوله: "وماذا تعنى بقولك ساعد على خلق؟ إنني قورش .. إنني قورش" (3).
المساعدات الأمريكية لإسرائيل
بعد أن أتم ترومان ـ قورش ـ مهمته على أكمل وجه، لم يكن هناك شيء ذو أهمية كبيرة يمكن أن تقدمه أمريكيا لإسرائيل في الخمسينات ومطلع الستينات من هذا القرن. حيث كان تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية وجلب المهاجرين الجدد من الخارج، والإبقاء على التفوق العسكري، يحتل مكان الصدارة في اهتمامات إسرائيل في هذه الفترة. وقد استطاعت إسرائيل تحقيق هذه الأهداف بمساعدة أمريكيا وحلفائها. فعلى صعيد تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، لعبت أمريكيا دوراً مهماً في تأمين المساعدات المالية لإسرائيل، حيث مارست ضغوطاً كبيرة على ألمانيا لإجبارها على دفع تعويضات لدولة إسرائيل عن اليهود الذين قيل أنهم قتلوا في العهد النازي، حيث كانت هذه التعويضات مصدراً مهماً للأموال اللازمة لعملية التنمية والبناء.
_________
(1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 203
(2) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل ص34
(3) المصدر السابق ـ ص 204.(1/128)
ومن ناحية أخرى، قدمت أمريكيا كثيراُ من المساعدات المالية لإسرائيل في هذه الفترة. فعلى سبيل المثال، "بلغت المنح التي قدمتها أمريكيا لإسرائيل من سنة 1950م وحتى 1959م حوالي 4035 مليون دولار، وقروضاً قدرها 369 مليون دولار، ومساعدات فنية قدرها 35 مليون دولار، وأجهزة علمية قيمتها 10 مليون دولار، واستثمارات أمريكية بمبلغ 95 مليون دولار، وحصيلة بيع السندات الإسرائيلية مبلغ 347 مليون دولار، هذا عدا الإعفاءات من الضرائب والرسوم التي تمنحها الحكومة الأمريكية على ما يحصل من اليهود وما يتم جمعه عن طريق الجمعيات والمنظمات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل" (1).
وقد كشف السيد (بنحاس سابير) حينما كان وزيراً للمالية، "عن ان اسرائيل قد تلقت بين عامي 1949 - 1956سبعة مليارات دولار. ولكي نقدر دلالة هذا الرقم حق التقدير يكفي ان نذكر القارئ بأن تمويل مشروع مارشال لاوروبا الغربية بين عامي 1948 - 1954 قد رصد له 13 مليار دولار. اى ان دولة اسرائيل ذات المليوني نسمة قد تلقت أكثر من نصف ما تلقته كل شعوب أوروبا التي كانت تعد آنذاك مئتي مليون نسمة" (2).
أما على صعيد جلب المهاجرين الجدد، فقد تدفق الكثير منهم إلى إسرائيل منذ إعلان قيامها من كافة البقاع بدون أي مشاكل، ولم تكن هناك مشكلة في وصول المهاجرين اليهود إلا بالنسبة ليهود الدول العربية. وقد ساعدت أمريكيا على حل هذه المشكلة. فعلى سبيل المثال، "قامت طائرات سلاح الجو الأمريكي بشكل سرى في مطلع الخمسينيات بنقل 65,000 يهودي يمنى إلى إسرائيل" (3).
أما بالنسبة إلى تحقيق التفوق العسكري، فقد حققته إسرائيل بمساعدة أمريكيا وحلفائها من خلال حرب 1948م، وما تبعها من تدفق للأسلحة على إسرائيل، في
_________
(1) الناصرية (دراسة في فكر جمال عبد الناص) ـ تأليف عبد الله إمام - تقديم ضياء الدين داود- ص 137 - مطبوعات دار الشعب 1971
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي- ترجمة قصي اتاسي، ميشيل واكيم - ص278 - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر- طبعة 1991
(3) اندماج: دراسة في العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية و اسرائيل - د. يوسف الحسنـ ص 63 - القاهرة: دار المستقبل العربى، 1986.(1/129)
ظل فرض حظر على تزويد الدول العربية بالأسلحة. وحتى في اللحظة التي استطاعت إحدى الدول العربية، وهى مصر، الحصول على أسلحة من الخارج في عام 1955م، قامت إسرائيل في عام 1956م بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا، بشن العدوان الثلاثي على مصر، لتدمير القوة العربية الجديدة، من أجل الإبقاء على التفوق العسكري الإسرائيلي والحصول على مكاسب جديدة.
ايزنهاور
مما تقدم يبدو واضحاً أن إسرائيل في هذه الفترة لم تكن بحاجة إلى الدعم الأمريكي الصارخ كما كان الحال في عهد ترومان، ولذلك كان المجال مفتوحاً أمام أيزنهاور لتقليل حجم الدعم الأمريكي العلني لإسرائيل، لامتصاص ردة الفعل العربية الساخطة على التحيز والتآمر الأمريكي التام على العرب أيام ترومان. كما أن الظروف الدولية والإقليمية، ساعدت على تحجيم هذا الدعم. فقد كان تركيز أيزنهاور في هذه الفترة ينصب على احتواء المد السوفيتي في العالم، والحيلولة دون انتشاره في العالم العربي. كما أن ظروف المنطقة العربية ومد القومية العربية الجارف ساهم في تحجيم هذا الدعم إلى أدنى مستوياته. لهذا كان الموقف الأمريكي تجاه العرب يبدو وكأنه معتدل نسبياً، حيث ركزت السياسة الأمريكية في هذه الفترة على تخويف الدول العربية من الخطر السوفيتي، لحثها على الدخول في تحالفات إقليمية لمواجهة الخطر السوفيتي المزعوم، أو لعقد معاهدات سلام مع إسرائيل.
وبالرغم من هذا الاعتدال الظاهري للسياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية، إلا أنه لا يجب إغفال حقيقة الالتزام الأمريكي الديني تجاه إسرائيل في هذه الفترة. فعندما انتخب (دوايت أيزنهاور) رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في شهر نوفمبر سمة 1952م ودخل البيت الأبيض أواخر يناير 1953م اختار معه رجلين لأعلى المناصب في إدارته وتصادف أنهما شقيقان لأب قضى عمره وعمله قسيسا داعيا إلى ملكوت السماء.
الشقيق الأول (جون فوستر دالاس) في موقع وزير الخارجية، "وكان المبشر الأعلى صوتا، بأن الدين هو السلاح الأكثر فاعلية ونفاذاً في العالم الثالث، لأنه(1/130)
الهوية التقليدية لشعوبه وأممه ما زالت مع وعيها العذري الفطري، والدين بالنسبة لها عقد سياسي واجتماعي وحيد تقيم به جسراً بين الآخرة والأولى" (1). ولهذا لم يكن مستغرباً أن يعبر دالاس عن التزامه الديني تجاه إسرائيل في تصريح أدلى به، أمام جمعية بنى بريت (أبناء العهد) بتاريخ 8 مايو 1958م قال فيه: "إن مدنية الغرب قامت في أساسها على العقيدة اليهودية في الطبيعة الروحية للإنسانية، لذلك يجب أن تدرك الدول الغربية أنه يتحتم عليها أن تعمل بعزم أكيد من أجل الدفاع عن هذه المدنية التي معقلها إسرائيل" (2).
أما الشقيق الثاني فهو (آلان دالاس) في موقع مدير وكالة المخابرات المركزية، "التي أوكلت إليه مهمة إدارة الحرب الجديدة (الباردة) وسلاحها (إطلاق الأفكار وليس إطلاق النار)، وبما أن الاستراتيجية الأمريكية في العالم الثالث اعتمدت على سلاح الاعتقاد ضد تهديد الإلحاد، فإن وكالة المخابرات الأمريكية تجاسرت على اتخاذ شعارات الإسلام، وهى العقيدة الأكثر انتشاراً في المنطقة لتكون وسيلتها وذخيرة سلاحها. وبهذا العملية تم وضع حجر الأساس لاستغلال الإسلام والجماعات الإسلامية لخدمة المخططات الأمريكية" (3).
جون كنيدى الرئيس الكاثوليكي الوحيد
تولى جون كيندى الحكم في بداية الستينات، حيث كانت فترة ولايته من الفترات القليلة والنادرة التي تم فيها ضبط السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، حيث جاء ذلك نتيجة لبعض العوامل الخارجية التي تكلمنا عنها سابقاً، والتي أدركها كيندى بوضوح، حيث كان يرى: "أن الانحياز الأمريكي في النزاع العربي الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب، بل يهدد العالم بأسره" (4). ولكن الأمر المهم هنا والذي طبع سياسة الرئيس كيندي وميزه عن غيره من الرؤساء، هو أن
_________
(1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل - ص 209
(2) الماسونية في المنطقة 245 ـ ابو إسلام أحمد عبد الله ـ ص 53 - القاهرة، دار الزهراء للإعلام العربي، ط 1 - 1986م
(3) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل - ص 209
(4) إني أتهم ـ روجيه ديلورم ـ ترجمة نخله كلاس ـ ص 81.(1/131)
قناعات الرئيس كنيدى الشخصية، بوصفه من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، والرئيس الأمريكي الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكيا، لم تترك مكاناً للأفكار والنبوءات التوراتية في وجدان الرئيس أو عقله.
فقد كان وصول كاثوليكي إلى رئاسة أمريكا أمراً غير مسبوق ومن الصعب تكراره، في ظل السيطرة البروتستانتية على مقاليد الأمور في أمريكا، حيث "أن التأثير الثقافي السائد في الولايات المتحدة هو تأثير العنصر الأبيض الأنجلو سكسونى البروتستانتي الذي يشكل هيكل القيم والمناقب في حياة الطبقة السائدة في المجتمع الأمريكي" (1). ولهذا فأنه عندما حصل جوزيف (والد جون كنيدى) على منصب رفيع في السلك الدبلوماسي، وأصبح سفيراً لأمريكا في لندن، كان قرار تعيينه مفاجئاً للسياسيين المؤيدين للرئيس روزفلت، وقال هؤلاء للرئيس آنذاك "أن إرسالكم لهذا الايرلندى الكاثوليكي إلى بلاط (سان جيمس) الملكي البريطاني، يعنى بالضرورة تدهور العلاقات الأمريكية البريطانية ... وقال وزير المالية الأمريكي (هنرى ماغينتو) للرئيس روزفلت: "إن وجود كنيدي بالقرب منكم هو خطر عليكم" (2).
العداء للكاثوليك
تتكون الطبقة العليا، أو طبقة النخبة في أمريكا من أناس ورثوا الثروة والمنزلة الاجتماعية عن أجدادهم من المهاجرين الانجليز .. ومعظم أفراد هذه الطبقة من طائفة البروتستانت الانجلوسكسون، الذين لا يسمحون لأحد بمشاركتهم في هذا الإرث، انطلاقاً من نظره عنصرية للآخرين، حيث لم يكن الكاثوليك مسثتنون من هذا الأمر. ولمعرفة درجة العداء للكاثوليك في أمريكا من قبل البروتستانت يكفي أن نعلم "أن العلاقة بين اليهود والبروتستانت كانت أكثر حميميه، من العلاقة بين
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة- ص46 - دار الفارس للنشر والتوزيع - ط1 2001
(2) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص21 - الناشر د. ماجد علاء الدين - ط1 1986(1/132)
البروتستانت والكاثوليك، لقد وجدت أرضيه مشتركة بين البروتستانتية واليهودية لم تتحقق بين البروتستانتية والكاثوليكية" (1).
وقد بلغت مشاعر التحامل ضد الكاثوليك الايرلنديين أحياناً مبلغاً يقارب المشاعر ضد السود من حيث الشدة. بل كثيراً ما دأب الناطقون بلسان البروتستانت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة على جعل الكاثوليك صنواً للتسلطية وبالتالي مرادفاً للدكتاتورية. ومن الكتب ذات الرواج والنفوذ في تلك الحقبة كتاب (بول بلانشارد) المرسوم بـ "الحرية الأمريكية والكاثوليكية) عام 1949م، الذي كرر الموضوع القديم المألوف تماماً في أمريكا في العهود الاستعمارية، والذي مؤداه أن الكاثوليك كانوا يهددون بتسلم زمام الأمور ووضع نهاية للحريات الأمريكية. وفي نفس العام تحدث الأسقف ج. بروملي أوكسنام وهو من أكبر الأساقفة نفوذاً في الكنيسة الميثودية (أكبر المذاهب البروتستانتية في أمريكا) وذلك في مقابلة إذاعية عن: "التطابق اللافت للنظر بين البنية التنظيمية للحزب السياسي الشيوعي العالمي وأسلوبه من ناحية، والحزب الكاثوليكي العالمي من ناحية أخرى وكلاهما استبدادي المنحى، ويحاول كل منهما السيطرة على عقول البشر في كل مكان، وكلاهما يمارس الحرمان واغتيال الشخصية والعمليات الثأرية الاقتصادية، ولا تعرف روما ولا موسكو معنى التسامح.
وبالنسبة للتحرريين الدينيين أمثال (اوكسنام) الذين بقوا يبحثون عن عالم تسوده المبادئ المسيحية، بدت النزعة التسلطية الكاثوليكة وكأنها تهدم مثلهم العليا البروتستانتية والديمقراطية. ففي عام 1951م حاول الرئيس ترومان تعيين سفير لدى الفاتيكان، غير أن الضجة الشعبية العالية بقيادة رجال الكنيسة البروتستانتية المنتمية إلى التيار الرئيس أرغمته على التخلي عن المحاولة. وفي تلك الفترة اضطرمت مشاعر العداء وتعمقت بين الكاثوليك والبروتستانت. فعلى سبيل المثال حذرت مجلة مشيخية بعد الحرب من الزواج بكاثوليك، مذكرة من بين أمور أخرى بأن المذهب البروتستانتي وليس الكاثوليكي هو الذي دفع الناس إلى المطالبة بحكومة حرة والى الإطاحة بالطغاة. وأقرت الكنيسة الأسقفية قراراً شديد
_________
(1) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحيةـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص76(1/133)
اللهجة ضد الزواجات المختلطة في عام 1949م. وكانت المشاعر متبادلة بالطبع، إذ عمل الزعماء الكاثوليك على عدم تشجيع الزواج المختلط بهمة ونشاط لا تقل عما بدر من البروتستانت" (1).
سميث الكاثوليكي يخسر انتخابات 1928 امام هوفر البروتستانتي
في انتخابات عام 1928 كان مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة هو حاكم ولاية نيويورك (سميث) الذي كانت فرصته لدخول البيت الأبيض عظيمة. فقد أعيد انتخابه أربع مرات على التوالي حاكماً لولاية نيويورك، كما أنه أول كاثولويكي حقق مثل هذا الفوز في عام 1915. وأهم ما تميزت به انتخابات الرئاسة في عام 1928 هو استخدام منظمة (الكوكلاكس كلان) البروتستامتية المتطرفه كقوة ضاربة ضد الديمقراطيين، حيث بدأت كلان العمل ضد سميث منذ عام 1925 بعد ان رأت فيه المرشح الاوفر حظاً للنجاح، حيث خاضت كو ـ كلوكس ـ كلان الحملة الانتخابية في عام 1928 تحت شعار: (حزب روما الكاثوليكي ـ الاكليريكي بدأ حملة كبيرة بهدف السيطرة على أمريكا باسم البابا في روما). ولجأت إلى استغلال الأوهام السائدة لدى ملايين البورجوازيين من أجل التحريض ضد مرشح الحزب الديمقراطي حيث وصمته بالكاثوليكية واتهمته بمعارضته (قانون منع الخمور)، وبانعدام الحس الوطني الصادق لديه. وباختصار كان هذا المرشح في نظر كلان (حليفاً للشيطان)، و (ابن بابا روما).
كان سميث المولود في أسرة من المهاجرين الايرلنديين يجسد في عين الريف الزراعي الأمريكي البروتستانتي، (بابل الحديثة- نيويورك)، وتعاطي الكحول، والكاثوليكية، واليهود، والأجانب. كما أتهم سميث ببناء نفق يستطيع باباً روما من خلاله ان يزور البيت الأبيض دون ان يدري به أحد. والغريب ان الكثيرين قد صدقوا هذه الأكذوبة. بينما كانت كلان تقدم نفسها دائماً بوصفها المدافع الأمين عن البروتستانتية، وتؤكد في دعايتها أن الله هو صانع (الكلانية)، بل ان أحد رجال الدين قد أعلن ان (ك ك ك) هي (الكنيسة البروتستانتية في ميدان المعركة).
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص239(1/134)
ان ديماغوجية كلان في عدائها للكاثوليكية قد ضمنت لها تأييد الكنيسة البروتستانتية التي تمثل قوة هائلة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان كثير من قادة كلان وموظفيها يمارسون أعمالهم أيضاً لدى الكنيسة البروتستانتية حيث اعتبر الرهبان المعمدانيون والمنهجيون وسطاً ملائماً تماماً لتجنيد الناس للعمل في صفوف كلان. وقد بينت الاحصائيات أن حوالي 40 ألف راهب بروتستانتي انتسبوا إلى كلان. وكان الرهبان الموالون لكلان يخاطبون رعيتهم بثمل هذه الكلمات: "حين تصوتون لصالح ايل سميث فانكم تصوتون ضد عيسى المسيح، وبهذا تحل عليكم اللعنة"، أو يطرحون هذا السؤال: "هل حقاً ان أمريكا الرصينة ستختار رئيساً لها يحب كوكتيل الكحول؟. ولما كان سميث هو الذي اتخذ في عام 1923 أولى الخطوات على طريق الغاء "قانون تحريم الكحول" فقد استغل خصومه هذه الحقيقة للطعن والتشهير به. وكان منافسه البروتستانتي (هوفر) في ذلك الوقت يدعو إلى (الأمريكانية الكاملة)، والولاء المطلق لقيم الاخلاق البروتستانتية، والابقاء على قانون تحريم الكحول.
ومن الذين عملوا ضد مرشح الحزب الديمقراطي كذلك السناتور هيفلين (عن ولاية الاباما) وهو صديق مخلص لكلان التي كانت تدفع له مبلغ 150 ـ 250 دولاراً عن كل خطاب يهاجم فيه سميث، وقد استغل هيفلين هذا الوضع ووزع في جميع أنحاء البلاد 556600 نسخة من الخطابات التي القاها في الكونغرس والتي فصح فيها الكنيسة الكاثوليكية، وايل سميث ـ أهم عميل لبابا روما في السياسة الأمريكية. كما أكد هيفلين ان جميع الرؤساء الأمريكيين الذين قتلوا كان قاتلوهم من الكاثوليكيين. وفي حملة الانتخابات التمهيدية استخدام هذا السناتور سلاح العنصرية، واتهم خصمه بتأييد المساواة الاجتماعية التي تتناقض مع نظرية تفوق البيض، وأشار إلى ان سميث كان من الذين ايدوا قانون منع التمييز العنصري في الفنادق والمطاعم. كما نشرت إحدى صحف الجنوب مقالة ساخرة تتهم سميث بمناصرة الزنوج.
لقد مارس الكلانيون مختلف أنواع الترهيب مع انصار سميث. ومن ذلك استقبالهم له بصليب مشتعل حين زار اوكلاهوما ستي في نطاق الحملة الانتخابية.(1/135)
وقد تكرر هذا في مدينة بيليلينغس (ولاية مونتانا) أيضاً. وعشية الانتخابات اقيمت صلوات خاصة ضد سميث في جمع كنائس الجنوب والغرب الأمريكي حيث تتمتع كلان باعظم النفوذ. ولهذا جاء فوز هوفر في الانتخابات ساحقاً، فقد حصل على 21 مليون صوت، بينما حصل سميث على 15 مليون صوت فقط. ويقارن المؤرخون الأمريكيون هذا الفوز بالانهيار الجبلي الهائل.
فبعد هزيمة سميث راحت كلان تتبجح بأنها هي التي حشرت سميث في الزاوية، وارغمته على الاستسلام امامها. وكان لهذه التصريحات ما يبررها فقد فعلت كلان الكثير من أجل وصول هوفر إلى البيت الأبيض، فالدعاية الكلانية هي التي امنت له الفوز حتى في الولايات الخمس التي اعتبرت ولايات الديمقراطيين التقليدية في الجنوب (فرجينيا، تكساس، فلوريدا، تينيس، كارولينا الشمالية) وكذلك فاز هوفر في الولايات الحدودية التي كانت في السابق موطن الرق، وهي ـ دولافيرا، فيرجينيا الغربية، مييلاند، كنتوكي وميسوري. وفي تحليله لأسباب فوز هوفر الحاسم هذا كتب د. بريت أن "ايل سميث كان ضحية حملة العداء للكاثوليكية واليهود والزنوج" (1).
كيندي يبحث عن مخرج
إزاء هذا الوضع المتأزم بين الكاثوليك والبروتستانت، كان من الطبيعي أن يجد جون كيندي نفسه في وضع حرج وصعب، عندما أراد ترشيح نفسه لمنصب الرئيس، حيث كانت مشكلة مذهبه الكاثوليكي من أهم المشاكل التي واجهها. فقد لعب الدين إلى جانب عوامل أخرى دورا مؤثرا في سلوكيات الناخبين عبر التاريخ الأمريكي. فعلى سبيل المثال يتجه اليهود والكاثوليك لانتخاب المرشحين الديمقراطيين أكثر من البروتستانت. وقد أثر الدين أيضا على طريقة عرض المرشحين والمسئولين المنتخبين لقضاياهم على عامة الناخبين (2). "فالانتماء الديني ـ كان بصفة عامه ـ أحد العوامل الحاسمة التي تقرر المكان الذي يصطف الأمريكيون فيه من الناحية
_________
(1) راجع بتوسع كتاب: تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) - ر. ف. إيفانوف، أي. ف. ليسينفسكي- ترجمةغسان رسلان- اللاذقية: دار الحوار، 1983
(2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة - ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص11(1/136)
السياسية، ولا سيما عندما يقترن ذلك بالأصل العرقي، كما أنه أفضل وسائل التنبؤ بالسلوك الإقتراعى" (1). لهذا اجتمع جوزيف وجون وروبرت كينيدى ومساعدوهم الرئيسيون، لمناقشة الصعوبات التي قد تواجه جون في حال إعلان جون كنيدى عن رغبته في ترشيح نفسه إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وخلص الجميع إلى النتائج التالية:
أولاً: لم يسبق وأن أصبح كاثوليكي رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
ثانياً: لم يسبق وأن أصبح شاب بعمر (جون) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية (وصل عمر جون كيندى عام 1960م إلى 43 سنة فقط" (2).
وللتغلب على مشكلة الدين قرر (جون كيندى) العمل على جبهتين، أحداهما الاعتماد على دعم الكاثوليك والاقليات الأخرى في أمريكا حيث كان الكاثوليك تقليدياً، عظيمي التأييد للحزب الديمقراطي، وقد بلغ هذا التأييد ذروته عام 1960م، عندما انتخب (جون. ف. كيندي) كأول رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة (3)، حيث جاء انتخابه ليمثل ذروة الانخراط الليبرالي في السياسة من جانب الكاثوليك الأمريكيين، وقد عني انتخابه لكثير من الكاثوليك حصولهم أخيرا على التوازن الثقافي مع الأغلبية البروتستانتية (4). أما الجبهة الثانية فقد عمل جون كيندى منذ بداية حملته الانتخابية في إشعال نار الفتنة بين إتباع الكنيسة الكاثوليكية، وأتباع الكنيسة البروتستانتية في ولاية فرجينيا الغربية معقل المتطرفين البروتستانت، ذلك أن القائمين على حملة جون كيندى الانتخابية رأوا في طرح المسألة الدينية نصراً لمرشحهم في هذه المنطقة. ولهذا أكد جون كيندى في جميع محاضراته التي ألقاها عبر شاشات التلفزيون الأمريكي بأنه ليس من المعقول أن يرفضه الناخبون كرئيس للولايات المتحدة، لأنه كاثوليكي المذهب، وأعلن في
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية ـ جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص98
(2) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد- ص38 - الناشر د. ماجد علاء الدين - ط1 1986
(3) الدين والسياسة في الولايات المتحدة ج2 - مايكل كوربت - جوليا كوربت - ترجمة د. زين نجاى، مهندس نشأت جعفر ص74 - مكتبة الشروق الدولية - ط2 2002
(4) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص143(1/137)
أول خطاب له في ولاية فرجينيا بأن: "أحداً لم يسأله إذا كان كاثوليكياً أم لا؟ عندما انخرط في صفوف القوات البحرية الأمريكية". وطرح (جون كيندى) هذه المسألة أكثر من مرة، بهدف استعطاف الناخبين المعاديين للكاثوليكية.
ولم يتوقف جون عند هذه الحدود، بل أكد فيما بعد بأنه سيشكل حكومته دون اخذ العوامل الدينية بعين الاعتبار، وانه سيفصل بين عقيدته الدينية وعمله السياسي، حيث أسهمت توكيدا ته تلك وقيامه بذلك فعلاً أثناء رئاسته، إسهاما كبيراً في تخفيف أية مخاوف من بسط نفوذ الفاتيكان، القوة الأجنبية على أمريكا، فكان هذا التصريح بمثابة هجوم نفسي ضد أهالي فرجينا الغربية والذين يدينون بالبروتستانتية" (1).
وبالرغم من كل الجهود التي بذلها كيندى للفوز بالانتخابات إلا أن فوزه كان بمثابة معجزه وأمر غير عادى وخروجاً عن المألوف. فعندما تمت انتخابات الرئاسة الأمريكية في 8 تشرين الثاني عام 1960م، حصل (جون كيندى) على 49.7% من مجموع الأصوات، وحصل ريتشارد نيكسون على 49.6% من مجموع أصوات الناخبين الأمريكيين. وكان الفارق بين النتيجتين ضئيلاً جداً. وصوت في هذه الانتخابات 64.5% من اصل 107 ملايين أمريكي. ويعتبر هذا العدد قليلاً جداً حسب المقاييس الأوربية، وكبيراً جداً حسب المقاييس الأمريكية. وهذه النتيجة التي فاز بها (كيندى) تؤكد حقيقة سيطرة الأنجلو سكسون البروتستانت على الحياة الأمريكية وأنهم لن يسمحوا لاحد غيرهم بحكم أمريكا مهما بلغ الأمر، وبالذات إذا كان كاثوليكياً حيث تنتشر بين البروتستانت الأوهام الدينية على اوسع نطاق. وتشتد مشاعر العداء التاريخية التقليدية للديانة الكاثوليكية، حيث لعب هذا دوراً ملحوظاً في انتخابات الرئاسة في عام 1960 حيث فاز كنيدي على منافسه نيكسون بفارق ضئيل جداً في عدد الأصوات. ومن المفارقات أن 4.5 مليون من البروتستانت الديمقراطيين قد صوتوا ضد مرشح حزبهم ـ أي ضد الكاثوليكي كنيدي" (2). فالصراع يشتد في أمريكيا بين الروح الانجلوسكسونية وروح المهاجرين الجدد، إلا أن المزاج البريطاني
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص241
(2) تاريخ الإرهاب الأمريكي (الكوكلاكس كلان) - ر. ف. إيفانوف ـ أي. ف. ليسينفسكي- ترجمةغسان رسلان.- اللاذقية: دار الحوار، 1983(1/138)
لازالت له السيادة في الوقت الحاضر على الأدب، حيث إن مستوى الفن والذوق في المدن الأطلسية إنجليزي، والتراث الأدبي تراث إنجليزي، والفلسفة تسير على النهج الإنجليزي.
فانجلترا هي التي أنجبت (واشنطن و ارفينج وامرسون) " (1).
كيندي ومحاولة الإصلاح
أدرك (كيندى) منذ توليه الرئاسة العوائق الكبيرة التي تواجه سياسته على المستوى الخارجي والداخلي التي تتعارض مع مصالح وأفكار الطبقة البروتستانتية المتنفذه، والتي لا تستطيع العيش إلا في ظل أجواء الصراع والحرب. لهذا اعتمد (جون كنيدى) على تأييد الكاثوليك من ولاية مساشوسش، بالإضافة إلى المهاجرين الإيطاليين والبولنديين الكاثوليك، لدعم سياسته الخارجية، التي تميزت بانفتاح كبير على العالم، حيث أدرك كيندى ضرورة التعايش السلمي مع الدول ذات النظم السياسية المختلفة. "فبعد أن قابل الرئيس الأمريكي كينيدي الرئيس ديغول في مايو 1961م، أعجب كل منهما بالآخر، ووصف كينيدي في تقرير للشعب الأمريكي في 6/ 6/1961م، ديغول بأنه مستشار حكيم للمستقبل ومرشد واسع الثقافة للتاريخ الذي ساهم في إنجازه. ولكن ذلك الوصف لم يرق لمؤسسة الظل الانكلو ـ سكسونية، التي عبرت عن استيائها لمثل هذه الثقة. وكانت التجربة الفرنسية في فيتنام من ضمن النصائح التي أسداها الحكيم (ديغول لكينيدي). واتفق مستشارو كينيدي علي أنه قد بدأ يفكر بجدية في الخروج من أزمة فيتنام ووضع نهاية لها" (2).
كما قرر كيندي أن يكون أكثر إيجابية في سياسته الخارجية بسبب تغيير موازين القوى على المسرح الدولي، وقد عبر عن ذلك في خطابه الذي ألقاه في الجامعة الأمريكية في 10 حزيران عام 1963م، حيث أشار إلى عقم الحرب النووية، وقال في هذا الخصوص: "لا فائدة إطلاقاً من الحرب الشاملة في العصر الذي تملك فيه القوى العظمى ترسانات نووية حصينة، لا فائدة من الحرب الشاملة لان القنابل النووية الحالية تملك قوة تفجير اكبر بعشر مرات من قوة تفجير القنبلة النووية التي
_________
(1) حكمة الغرب (عرض تاريخي للفلسفة لبغربية في اطارها الاجتماعي والسياسي - برتراند راسل - فؤاد زكريا - ص299 - المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب, كناب رقم 62 - 1983
(2) امبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي 1/ 2/2003(1/139)
استخدمها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ... لا فائدة من الحرب الشاملة لأن الغازات السامة يمكن أن تنتقل عبر الهواء والماء والتراب إلى مناطق العالم المختلفة" (1).
هكذا وقف كيندى في خطابه ضد كثير من العقائد السياسية في أمريكا، حيث أكد أتباع الحرب الباردة أن التوصل إلى سلام مع الشيوعيين أمر شبه مستحيل، وانه لا مفر للعالم من حرب عالمية ثالثة. وقد وصف كيندى هذه الأفكار بأنها مدمره وخطيرة وقال: "دعونا ننظر من جديد في علاقاتنا مع العالم" (2). ولهذا خصص معظم خطابه للحديث عن مبدأ التعايش السلمي. إلا أن الواقعية التي تميز بها خطاب الرئيس كيندى في الجامعة الأمريكية لم ترق للدوائر الأمريكية الحاكمة. وأصبح جون كيندى هدفاً من أهداف الرجعية الأمريكية. ونتيجة لذلك أصبح عدم رضا البنتاغون ووكالة المخابرات الأمريكية عن تصرفات الرئيس المعتدلة واضحاً. ولكن الرئيس كيندى كان قد قرر السير قدماً في سياسة التعايش السلمي، وأعطى أوامره للوفد الأمريكي للتوجه إلى موسكو لتوقيع اتفاقية منع التجارب النووية في الفضاء وتحت الماء.
وفعلاً تم في موسكو في 5 آب 1963م توقيع المعاهدة .. حيث أدى ذلك إلى تلطيف الأجواء الدولية من ناحية، وتعقيد الوضع الداخلي من الناحية الأخرى. فلم يعد الرجعيون الأمريكيون يقفون ضد الرئيس كيندى بالكلام فقط، بل بدءوا يهاجمونه علانية بعد توقيع الاتفاقية الأمريكية السوفيثية، ووصفت الصحف الأمريكية توقيع الاتفاقية مع السوفيث إنها (كارثة قومية) .. وتم وصف كل من (جون كيندى ومكنماروا) وحتى (دين راسك) بأنهم شيوعيون، يعملون بشكل سرى في أمريكا. وطالبت مجلة (امريكن ابينسيون) في شهر تشرين الثاني عام 1963م بالتخلص من الرئيس (جون كيندى) وإتباعه. ولكن كيندى استطاع التصدي لهذه
_________
(1) الارتقاء إلى العالمية (السياسة الخارجية الأمريكية منذ 1938) - ستيفن امبروز- ترجمة نادية الحسيني- مراجعة ودودة بدران- ص 252 - المكتبة الاكاديمية- ط1 1994
(2) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص219(1/140)
الحملات، حتى آخر يوم في حياته، واعلن ان توقيع اتفاقية منع التجارب النووية مع السوفيث هي اكبر نجاح له على المسرح الدولي.
وبالرغم من معارضة القوى الانجلوسكسونية المتطرفة للمعاهدة، فقد كان التأييد الشعبي لها كبيراً، حيث دخلت معاهدة منع التجارب النووية مع السوفيث قلب الشعب الأمريكي، وبعتث الطبقات الأمريكية البسيطة بآلاف الرسائل إلى الكونغرس الأمريكي، وطالبته بتأييد نص المعاهدة واقرارها .. حيث صادق عليها أعضاء مجلس الشيوخ لكي يضمنوا النجاح في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في عام 1964 (1).
بالإضافة إلى مواقف كيندى السلمية في السياسة الخارجية، فإن مواقفه الاقتصادية والداخلية لم ترضي أصحاب رؤوس الأموال والعنصريين الأمريكيين، "حيث أن كيندي لم يكن راضياً عن الكم الهائل من الدولارات التي تهجر الولايات المتحدة لتستقر في أوروبا مع أرباحها. وبدأ كينيدي بالإعداد لفرض ضريبة علي تلك الرساميل حتي يلزمها بالعودة إلي ديارها. وفي رسالة وجهها إلي الكونغرس في 18/ 6/1963م، اقترح كينيدي فرض ضريبة تكافؤ معدلات الفائدة علي الأموال الموجودة في الخارج وذلك لتشجيع تصدير المنتجات المصنعة بدلاً من تصدير الدولارات. ولكن كينيدي لم يعش حتى يشاهد ذلك بعينه. ومن الواضح أنه كان لكينيدي مفهوم خاص به عن أمريكا التي يريدها، وهو مفهوم مختلف عن الرؤية الجديدة لأمريكا كعجلة قيادة رئيسة للبارونات الانكلو ـ سكسونييين متعددي الجنسيات" (2).
نهاية كنيدي
اتسمت سنوات حكم كينيدي بسلسلة من الأحداث التي تسبب الحيرة والدوار، بعضها كان للرئيس نفسه يد في نشأتها، ولكن كثيراً غيرها ما كان بإمكانه أن يتنبأ بها، وجاءت ردة فعله باعتباره لاعبا رئيساً في لعبة السياسة الداخلية والدولية المحفوفة بالمخاطر. وفي كل هذه الأزمات، سواء كانت غزو كوبا الكارثي أم ازدياد
_________
(1) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص220ـ222
(2) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي ـ 1/ 2/2003(1/141)
زخم حركة الحقوق المدنية الأميركية، أم الاجتماع برئيس وزراء الاتحاد السوفيتي خروتشوف في قمة فيينا، أو التورط العسكري الأميركي في فيتنام، أو أزمة الصواريخ الكوبية، أو توقيع معاهدة حظر التجارب النووية، كان كينيدي يخرج منها، كذلك السياسي والزعيم الذكي الهادئ الأعصاب دائم البحث والاستفسار، الذي يعتبر مثالا لعصره، والساعي دوما وراء سبل إزالة التوترات، وحل الأزمات الناجمة عن الحرب الباردة والصحوة العاصفة للروح الأخلاقية على يد (مارتن لوثر كينغ الابن) وأمثاله، لأمة عانت كثيرا من الفصل والتمييز العنصري" (1).
ولكن هذه المواقف للرئيس كيندي وغيرها لم ترق للقوى الانجلوسكسونية البروتستانتية المتطرفة، والتي بدأت تشعر أن هذا الكاثوليكى يهدد مصالحهم ويهدد القيم التي بنوا على أساسها سلطتهم، ولهذا قرروا التخلص منه، حيث أثارت تصريحاته حول ضرورة وضع قانون مدني جديد غضب العنصريين الأمريكيين، وقام العنصريون في الولايات الجنوبية بتهديد الرئيس أكثر من مرة، حيث ألقى قسم المخابرات المكلف بحماية الرئيس القبض على 43 مجموعة، خططت لاغتيال جون كيندي في ولاية تكساس لوحدها. وفي 19 تشرين أول عام 1963م تلقى الرئيس (كيندى)، إشارة خطره جداً، فقد تلقى السكرتير الحكومي المسؤول عن المطبوعات الأمريكية (بير سيلندرجر) رسالة من أحد سكان دالاس موجهة إلى الرئيس كيندى، حيث كتب المجهول في رسالته: "لا تدعو الرئيس كيندى يأتي إلى ولاية تكساس، أنا خائف عليه، وأظن أنه سيلاقى حتفه في حالة قدومه إلى هنا. ولكن (سيلندجر) لم يسلم الرسالة إلى الرئيس كيندي لأنه لم يهتم بها، وظن إنها دعابة لا أكثر، هذا بالرغم من أنه كان لدى الجميع مجال للظن بأن الرئيس كيندي قد شعر في أعماقه بهواجس القلق عند زيارته لقلعة العنصريين الأمريكيين، حيث لم يشغل هذا الظن الرئيس كيندي لوحدة بل شغل جاكلين زوجة الرئيس وأصدقائه" (2).
وفي يوم 22 تشرين الثاني 1963م تحولت الدعابة إلى حقيقة والقلق إلى يقين، عندما أطلق مجهول النار على الرئيس كيندي في أحد شوارع دالاس ....
_________
(1) الرئيس كينيدي .. ملامح القوة ـ ريتشارد ريفز ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
(2) الاخوة كيندى ـ أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص225(1/142)
واضعاً الحد لحياة أول رئيس أمريكي كاثوليكي أراد أن يرى عالم أكثر سلماً وعدلاً واستقراراً .. وهذا لا يرضي تجار الحروب والعنصريين من البارونات الانجلوسكسون الذين نفذوا الجريمة واخفوا أدواتها بسرعة هائلة، وأسدلوا عليها ستار من الصمت والغموض، بالرغم من أن الناس أخذوا يتساءلون منذ الساعة الأولى لاغتيال الرئيس: من الذي قتله؟ ولماذا ولكنهم لم يجدوا جواباً قاطعاً عن هذا السؤال حتى يومنا الحاضر!! فقد اختفت أطراف الجريمة في الماء، وتم إعدام المدعو (لي هاربي اسفالد) بالرصاص فوراً. أما المتهم الثاني جيوم روبى فقد مات في السجن.
وبالرغم من أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف ـ بي ـ أي) خلص في التحقيق الذي أجراه عام 1964م إلى أن لي (هارفي اوزوالد) اغتال كينيدي وحدة من دون تورط أي جهة أخرى معه، إلا ان ذلك لم يمنع ظهور نظريات لا حصر لها لتفسير (المؤامرة) الكامنة وراء اغتيال كيندي. وفي آخر هذه النظريات "يتهم (بار مكليلان) ـ والد المتحدث الحالي باسم البيت الأبيض ـ في كتاب صدر حديثاً، الرئيس الأمريكي الراحل ليندون جونسون بالوقوف وراء اغتيال الرئيس جون كيندي، ويعرض (مكليلان الأب)، في نحو 480 صفحة في كتابه الذي صدر بعنوان (الدم .. المال .. السلطة): كيف قتل جونسون، كيندي؟. تفاصيل ومقابلات خاصة وصور بصمات تثبت أن (ادوارد كلارك) سفير أمريكا السابق في استراليا، وهو من اخلص أعوان جونسون، وضع خطة اغتيال كينيدي عام 1963م وتستر عليها" (1).
وسواء كانت هذه الرواية صحيحة أم لا، فإن القارئ يبقى في حيرة من أمره، فيتساءل عن سبب توتر العلاقة بين الأخوين كينيدي من ناحية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ( CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي ( FBI) ، من ناحية أخرى خصوصاً أن جون كينيدي كان مفتونا باستخدام الأساليب الإستخباراتية في سبيل خدمة المصلحة القومية (2)، ويظل السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف ارتكبت المخابرات السرية الأمريكية كل هذه الأخطاء التي أدت إلى مقتل الرئيس
_________
(1) جريدة الخليج الإماراتية -22ـ8ـ2003ـ عدد 8860
(2) الرئيس كينيدي .. ملامح القوة ـ ريتشارد ريفز ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز- الجزيرة نت(1/143)
كينيدى؟ وان الأمريكي الوحيد الذي اتهم بقتل الرئيس تم إعدامه فوراً وعلى مرأى الجميع دون أن يأخذوا منه أية معلومات؟ (1).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تكررت مآساة (كيندى) مع أخيه روبرت كيندى، الذي اعتقد أن بإمكان كاثوليكي آخر الطموح للوصول إلى منصب الرئاسة، فوقع ضحية هذا الاعتقاد وتم اغتياله في ظروف غامضة وألصقت تهمة جريمة الاغتيال بالفلسطيني (سرحان بشارة)، وأسدل ستار من الصمت عن المخطط الحقيقي لهذه الجرائم، والتي نؤكد أنها ليست بعيده عن دوائر المخابرات الأمريكية والجماعات المتطرفة البروتستانتية، التي عندها استعداد للقتال حتى الموت من أجل إبقاء السيطرة الانجلوسكسونية البروتستانتية على مقاليد الأمور في أمريكا.
ليندون جونسون
بعد أن اغتال المتطرفون البروتستانت الرئيس كنيدي ببضع ساعات، أدى ليندون جونسون القسم خلفاً له أثناء تحليقه على متن طائرة سلاح الجو المخصصة للرئيس الأمريكي، وتولي هذا السياسي الانتهازي، مقاليد الأمور، وعاكس السياسات المالية والسياسة التي كان قد تبناها كينيدي، حيث أبقي الوضع كما هو عليه بالنسبة للفوائد علي الأموال المهاجرة، وعمل علي تصعيد وتيرة حرب فيتنام (2). كما لم يستمر الموقف المعتدل للسياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، طويلاً، حيث أعادها جونسون إلى سابق عهدها، ولم يتوان عن تقديم كافة أنواع الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري لإسرائيل، حيث كان يقول: أنا مستعد للدفاع عن إسرائيل تماما كما يدافع جنودنا عن فيتنام.
وفي عهده حصلت إسرائيل على صفقات كبيرة من الأسلحة الهجومية، والمعدات اللازمة للحرب الإلكترونية، والتي تمكنت إسرائيل ـ بفضلها ـ من هزيمة الجيوش العربية في عام 1967م والاستيلاء على أراضٍ شاسعة تفوق مساحتها، مساحة إسرائيل عدة مرات. أما السبب الذي دفع جونسون للقيام بذلك فيوضحه
_________
(1) الإخوة كيندى - أزغروميكوـ ترجمة ماجد علاء الدين - شحادة عبد المجيد ص228
(2) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي 1/ 2/2003م(1/144)
(وليم. بالكوانت) بقوله: "إن عواطفه الشخصية تجاه إسرائيل كانت تبدو راسخة بالمحبة والإعجاب، وتشير الظواهر كلها إلى أنه كان فعلاً يحب إسرائيل والإسرائيليين الذين تعامل معهم. كما عرف أقرب مستشاريه بصداقتهم لإسرائيل، إضافة إلى أن اتصالاته المباشرة مع الجالية اليهودية الأمريكية كانت حميمة خلال مسيرة حياته" (1). وهناك تصريح لجونسون، أدلى به في سبتمبر 1968م أمام جمعية بنات برث (أبناء العهد) ربما يلقى الضوء على أثر الأفكار والنبوءات التوراتية على سياسته تجاه الصراع العربي الإسرائيلي حيث قال فيه: "إن بعضكم، إن لم يكن كلكم، لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل، مثلى تماماً، لأن إيماني المسيحي ينبع منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي، تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث، من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد" (2).
مستقبل إسرائيل والعالم؟!
عندما عبر الرئيس (جونسون) عن قناعاته الدينية التي تدفعه لدعم إسرائيل، فإنه لم يكن الوحيد الذي ينظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي هذه النظرة الدينية، بل إنه كان يعبر عن وجهة نظر عامة سادت الأوساط الشعبية البروتستانتية المتدينة في أمريكيا، وبالذات بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967م، حيث ساهم هذا الانتصار إلى حد كبير في تزايد التيار المسيحي البروتستانتي المؤيد لإسرائيل، باعتبار أن ما حدث على أرض فلسطين ما هو إلا تحقيق لنبوءات توراتية ولمشيئة إلهية. فقد أثار انتصار إسرائيل السريع خلال حرب الستة أيام في العام 1967م وغزو مجمل أراضى القدس حماسة عارمة لدى (الاعفائيين) الموقوفين على نظريات داربي، وكان (نلسون بل) ناشر (كريستيانيتي توداي) وحماه المبشر الشهير (ببلى غراهام) قد كتب: "أن تقع القدس بين يدي اليهود للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي عام يثير القشعريرة عند كل من يقرأ الكتاب المقدس ويشعره بإيمان يتجدد في صحة وشرعية الكتاب" (3).
_________
(1) عقد من القرارات ـ وليم كوانت ـ ترجمة عبد الكريم ناصيف ـ ص67ـ 68
(2) الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ترجمة مصطفى كمال ـ ص 179
(3) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص95(1/145)
ولهذا لم يكن من المستغرب أن نجد عناوين الكتب والمقالات التي نشرت في أمريكيا وبعض الدول الأوربية، في أعقاب حرب 1967م من هذا الطراز الديني المستمد من النصوص التوراتية، مثل (وانتصروا في اليوم السابع)، (حرب إسرائيل المقدسة)، (عملية السيف البتار)، (داوود وجوليات)، (أضربي يا صهيون) وغيرها من العناوين. وضمن الإطار نفسه، قامت بعض الجماعات الدينية المسيحية، بتوزيع منشورات وكراسات بعناوين مثل، (مستقبل إسرائيل والعالم) و (الخطط المقدسة للتاريخ)، حاولت فيها إظهار انتصار إسرائيل في عام 1967، وكأنه ينبثق عن الإرادة الإلهية، إذ تبر بوعدها لشعب الله المختار، وتقوم باستباق الأحداث لتجعلها مطابقة لما جاء في النصوص الدينية، ونبوءات العهد القديم من الكتاب المقدس.
وقد نشرت صحيفة الأنوار اللبنانية، صورة لمنشور (مستقبل إسرائيل والعالم) في صفحتها الأولى في 10 نيسان 1968م. وهذه مقتطفات مما جاء في هذا المنشور: "إن العهد القديم من الكتاب المقدس لم يتنبأ بالأزمة التي نشهدها في الشرق الأوسط فحسب، بل تنبأ بالانتصارات الإسرائيلية واحتلال القدس ... وحتى توقيت هذه الأحداث في حد ذاته. لقد تنبأت نصوص الكتاب المقدس بمساحة أكبر من المساحة الواقعة بأيدي إسرائيل في شباط فبراي ـ 1968م، فالنص الوارد في سفر التكوين (15:18) يوضح المسألة باختصار على أساس وعد أله إسرائيل بالأرض الممتدة من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات" (1). غير أن الكثيرين يتساءلون عن صحة هذه النبوءات، ويزعم البعض الآخر، أن الأساس التوراتى لمزاعم إسرائيل الأرضية لا علاقة له بالموضوع ... وأن الواقع المعاصر هو الذي يقوم بتعيين حدود الشرق الأوسط. ومع ذلك فإن النصوص المقدسة برهنت على صحتها فيما يتعلق بالأحداث حتى الآن، مما يقوى الحجة لصحتها فيما يتعلق بالأحداث المستقبلية أيضاً" (2). وواضح من مضمون المنشور السابق أنه يفسر الأحداث الحاضرة والمستقبلية، التي جرت وستجرى في منطقة الشرق الأوسط، على أسس
_________
(1) إسرائيل الكبرى ـ د. أسعد رزوق ـ ص 605.
(2) صحيفة الأنوار اللبنانية- 10 نيسان 1968 - العدد 2677.(1/146)
دينية صرفه وكأنها ليس إلا تحقيقاً لوعود ونبوءات توراتية. وهذا أمر خطير جداً كما سيتضح لنا فيما بعد.
ريتشارد نيكسون والانتحار السياسي
"تطورت العلاقة الخاصة بين أميركا وإسرائيل بشكل مثير, وفي كل مرة تغذت من مبدأ هذا الرئيس الأميركي أو ذاك في تعامله مع المنطقة. فمع (مبدأ ترومان) في احتواء النفوذ السوفياتي, وكذا مع (مبدأ أيزنهاور) في مساعدة دول المنطقة مادياً وعسكرياً لوقف الامتداد الشيوعي، تبوأت إسرائيل موقعاً أساسياً في المواجهة واندفعت إلى حمل الراية الأميركية. لكن الاحتفاء الإستراتيجي الكاسح بإسرائيل كان عليه أن ينتظر (مبدأ نيكسون) ووزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي (هنري كيسنجر) , كي يبدأ مشوار التحالف الوثيق المقدم على أي حساب آخر. إذ اعتبر (مبدأ نيكسون) أن إسرائيل هي حجر الزاوية في السياسة الأميركية في المنطقة, والوكيل المخلص الذي يمكن الاعتماد عليه وحده في اللحظات الحرجة" (1). أما لماذا حدث هذا الاحتفاء الاستراتيجي الأمريكي بإسرائيل في عهد نيكسون، واحتلت إسرائيل حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة، فإن ذلك كان نتيجة للانتصار الإسرائيلي على الجيوش العربية في عام 1967م، حيث ساهم ذلك في تحرير الإدارة الأمريكية ـ جزئياًـ من الضغوط التي كانت تفرضها عليها ظروف الحرب الباردة، بالإضافة إلى ذلك ساهم هذا الانتصار في تنامي المشاعر الدينية المؤيدة لإسرائيل باعتباره تحقيق لنبوءة توراتية.
في هذا الجو تولى ريتشارد نيكسون الرئاسة، حيث لم يتوان عن تقديم كافة أنواع الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي لإسرائيل، وذلك استجابة لرغبة الرأي العام المتدين من ناحية، وإرضاءً لقناعاته الدينية من الناحية الأخرى. يقول ريتشارد نيكسون: «إن الله مع أمريكا، إن الله يريد أن تقود أمريكا العالم» (2) ولهذا كان
_________
(1) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين المؤلف: نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز
(2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 196 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001(1/147)
نيكسون من المتأثرين بالأفكار والنبوءات التوراتية، وكانت تربطه علاقات حميمة مع بعض رجال الدين المسيحيين المعروفين بتأييدهم لإسرائيل، حيث انعكس ذلك علي نظرته لإسرائيل. فعندما زارت (جولدا مئير) الولايات المتحدة عام 1969م وصفها (نيسكون) بأنها (دبورة التوراتية) تم راح يغمرها بعبارات المديح لما حققته من ازدهار في إسرائيل. (ودبوره) هي إحدى الشخصيات الجليلة لدى اليهود يصفها (سفر القضاة) بأنها: (نبيه ... قاضية إسرائيل) تم يمضى في تعداد مآثرها وشجاعتها في قيادة الإسرائيليين والانتصار على ملك كنعان، ويروى على لسانها هذه الكلمات: "خذل الحكام في إسرائيل، خذلوا حتى قمت أنا دبوره. قمت أماً في إسرائيل" (1).
وقد وصل تعاطف نيكسون مع إسرائيل إلى الحد الذي جعله يقول: "إن استعداده للقيام بالانتحار السياسي، أكثر من استعداده لإلحاق الضرر بإسرائيل" (2). ولم يكن موقف نيكسون هذا نابع من حرصه على الصوت الانتخابي اليهودي، أو غيرها من الأمور التي نسمع عنها. فاليهود لم يعطوه أكثر من 17% من أصواتهم الانتخابية في عام 1968م، وبالرغم من ذلك كان دعمه المستمر لإسرائيل.
ولو إستمررنا في تتبع سياسات الرؤساء الأمريكيين تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، فإننا سنجد على الدوام، أن خلفياتهم الدينية لعبت دوراً حاسماً في تشكيل سياستهم المنحازة لإسرائيل، وهنا يقول (برنارد ريتش) في كتابه ـ الولايات المتحدة وإسرائيل: "إن القادة السياسيين في أمريكيا وخاصة الرؤساء منهم، كانوا ولا يزالون يتبنون وجهة النظر الدينية المؤازرة لإسرائيل، سواء (ويلسون) (وترومان) اللذان يعترفان بالتأثير الديني على قراراتهما، أو ليندون جونسون، الذي ينسب إليه قول مشهور أدلى به في اجتماع لجمعية بنات برث ـ أبناء العهد ـ في سبتمبر 1968م" (3). ويعلق كاتب آخر فيقول: "إن علاقة الرؤساء الأمريكيين بإسرائيل
_________
(1) الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - روجيه جارودى ـ تقديم محمد حسنين هيكل- ص 262 - دار الشروق- ط1 1998
(2) الولايات المتحدة والدول العربية ـ ا. ا. اوسيبوف ـ ترجمة محمود شفيق الشعبان ـ ص 19.
(3) الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ترجمة مصطفى كمال ـ ص 178(1/148)
يصدق عليها قول الكاتب اليهودي الأمريكي (جون بيتى)، الذي قال: إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهيونية كما ينحني المؤمن أمام قبر مقدس" (1).
فقد حبا الله الولايات المتحدة برؤساء مؤمنين بالمسيحية المشوبة بتعاليم التوراة مثل جون آدامز وتوماس جيفرسون كوينسي آدامز وجون تايلر وجيمس بولوك ووليم تافت وودرو ولسون وكالفن كولدج وهاري ترومان وجيمي كاتر ورونالد ريغان، وكلها أسماء لامعة في الخطابين السياسي والديني دون تمييز، ولعل الرؤساء الأقرب إلى سردنا التاريخي هما جيمي كارتر المؤمن بعقيدة الولادة الثانية كمسيحي، ورونالد ريغان المؤمن بنفس العقيدة التي تقول بالرجعة الثانية.
جيمي كارتر ينفذ أمراً إلهياً
في النصف الثاني من السبعينيات وصل إلى الرئاسة الأمريكية، (جيمي كارتر)، الذي قام بجهد غير عادى لدعم إسرائيل، تم تتويجه بتوقيع أول معاهدة سلام مع دولة عربية وهى مصر، حيث وصف (سايروس فانس) وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، سياسة كارتر تجاه الشرق الأوسط، فقال: "لم يكن محلاً للسؤال أن حجر الأساس في سياسة كارتر حيال الشرق الأوسط، سيبقى هو التزامنا بأمن إسرائيل" (2). ويؤكد بريجنسكي ـ مستشار الرئيس (جيمي كارتر) لشؤون الأمن القومي ذلك بقوله: "إن العلاقة الأمريكية ـ الإسرائيلية هي علاقة حميمة مبنية على التراث التاريخي و الروحي" (3). كما عبر كارتر نفسه عن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية خلال مؤتمر صحفي في عام 1977م، فقال: "إن لنا علاقة خاصة مع إسرائيل، وإنه من المهم للغاية أنه لا يوجد أحد في بلادنا، أو في العالم أصبح، يشك في أن التزامنا الأول في
_________
(1) التحدي الصهيوني ـ جاك دومال وماري لوروا، ـ ترجمة نزيه الحكيم - ـ ص 58 - دار المعلم للملايين، دار الآداب، ط أيار، 1969
(2) خيارات صعبة ـ مذكرات سايروس فانس ـ ص 9 - المركز العربى للمعلومات, 1984
(3) نقد المفهوم التقليدي عن العلمانية - محمود سلطان - ص51 - القاهرة 1998(1/149)
الشرق الأوسط إنما هو حماية إسرائيل في الوجود ... الوجود إلى الأبد، والوجود بسلام، إنها بالفعل علاقة خاصة" (1).
ولكن ما هي طبيعة هذه العلاقة الخاصة التي يتحدث عنها الرئيس كارتر؟ إنها بالتأكيد ليست علاقة مبنية على المصالح المشتركة، لأن المصالح تتغير من فترة إلى فترة، وليس لها طابع الدوام إلى الأبد. إن هناك أمر آخر هو الذي جعل هذه العلاقة خاصة والالتزام نحوها أبدياً، كما جاء في تصريح كارتر السابق. وقد وضح الرئيس كارتر هذا الأمر بنفسه في تصريح له أمام الكنيست الإسرائيلي في مارس 1979م حيث قال: "إن علاقة أمريكيا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة، لقد كانت ولا زالت علاقة فريدة لا يمكن تقويضها لأنها متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، وكما إن الولايات المتحدة وإسرائيل أقامهما رواد مهاجرون فإننا نتقاسم معكم تراث التوراة أيضاً" ... "وفي احتفال أقامته على شرفه جامعة تل أبيب، وضح كارتر الأمر أكثر فقال: "إنه كمسيحي مؤمن بالله، يؤمن أيضاً بأن هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل" (2).
فكارتر هنا ينفذ أمر المشيئة الإلهية بحذافيرها عندما يدعم إسرائيل، وكيف لا؟ وهو المسيحي المؤمن الملتزم بالصلاة في الكنيسة كل أحد، والذي كان عضواً في أكبر كنائس بلدته وأكثرها جاهاً، وكان معلماً وشماساً في مدرسة الأحد، ويساهم كل عام في أسبوع لإيقاظ الروح الدينية في المجتمع" (3). فخلفية كارتر الدينية الصارمة، بوصفه أحد أتباع الكنيسة المعمدانية المعروفة بدعمها لإسرائيل، انطلاقا من إيمانها الشديد بكل ما جاء في العهد القديم من نبوءات وأخبار تاريخية، هي التي رسمت سياسته تجاه إسرائيل. لهذا كان كارتر أكثر وضوحاً من غيره، في التعبير عن (البعد الديني) في السياسة الأمريكية إزاء الصراع العربي الإسرائيلي حيث قال في خطاب ألقاه في الأول من مايو عام 1978م: "إن دولة إسرائيل هي أولاً وقبل كل شيء عودة إلى الأرض التوراتية، التي أخرج منها اليهود منذ مئات السنين ... إن
_________
(1) الولايات المتحدة وإسرائيل ـ برنارد ريتش ـ ص 179
(2) مجلة المستقبل ـ عدد 733 ـ السنة الرابعة ـ تاريخ 16ـ3ـ1983
(3) لماذا ننشد الأفضل ـ جيمى كارتر ـ ص 218: 219(1/150)
إنشاء دولة إسرائيل هو إنجاز النبوءة التوراتية وجوهرها". واعترف في خطابه نفسه أن عليه "التزاماً كاملاً ومطلقاً نحوها كإنسان وكأمريكي وكشخص متدين".
وعندما استقبل (جيمي كارتر) في البيت الأبيض رئيس الوزراء الإسرائيلي (مناحيم بيغن) وعده أن الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل إلى الأبد، وقال في خطبة له: "إنه منذ تدمير القدس في العام 7م استمر اليهود في الصلاة ليكون عامهم القادم في القدس، وأنهم عادوا أخيرا إلى ارض التوراة بعد ألفى عام من المنفى والشقاء والتمييز العنصري ضدهم" (1). وعندما ظهر كارتر في معبد اليزابت اليهودي في نيوجرسى، وهو يرتدى رداء القضاة المخملي قال: "إنني أقدس الإله الذي تقدسونه. نحن (كمسيحيين) ندرس التوراة التي تدرسونها". واختتم كلمته بالقول: "إن الحفاظ على بقاء إسرائيل لا يدخل في نطاق السياسة، انه واجب أخلاقي" (2). وربما هذا ما دفع احد وزاءه لوصفه بانه "واعظ اكثر منه استراتيجي" (3)
ريجان ومعركة هرمجيدون!
لو انتقلنا إلى رونالد ريجان الممثل القادم من هوليود وتتبعنا سياسته اتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، فإننا سنجد أن النظرة الدينية البحتة هي التي حكمت سياسته تجاه إسرائيل، هذا بالرغم من أنه لم يكن مديناً لليهود في إعادة انتخابه. فقد أعطوا 68 % من أصواتهم الانتخابية للمرشح الديمقراطي (والتر مونديل)، الذي كان شعاره الانتخابي يقول: "إنني أفضل أن أخسر المعركة الانتخابية واليهود يدعمونني على أن أربحها بدون أصوات اليهود ودعمهم" (4). وهنا يفسر جورج شولتز أسباب إجماع الحزبيين الديمقراطي والجمهوري على دعم إسرائيل والتعاون معها بالقول: "إن تعاوننا مع إسرائيل حقيقة ثابتة بصرف النظر عن الحزب الذي يحكم في
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص278
(2) الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - روجيه جارودى ص264
(3) معركة السلام (يوميات شمعون بيريس) - تحرير ديفيد لانداو - ترجمة: عمار فاضل و مالك فاضل - ص 305 - الاهلية للنشر والتوزيع - عمان - الطبعة الأولى 1995
(4) اندماج ـ يوسف الحسن ـ ص 67.(1/151)
أي من البلدين، لأن هذه العلاقة مغروسة بعمق في وجدان شعبينا وفي قيم حضارتنا" (1).
والرئيس ريجان لم يشد عن هذه القاعدة، حيث يعتبر من أكثر الرؤساء الأمريكيين تديناً وإيمانا بالنبوءات والخرافات التوراتية، وبالذات تلك المتعلقة بمعركة هرمجيدون الرهيبة، حيث صرح "بأنه كان يشعر عند خوضه الانتخابات الأمريكية بأن المسيح يأخذ بيده، وانه سوف ينجح ليقود معركة (الهرمجدون) التي يعتقد أنها ستقع خلال الجيل الحالي في منطقة الشرق الأوسط" (2). وقد عبر (رولاند ريجان) عن الأبعاد التوراتية لالتزام الولايات المتحدة الأمريكية ـ الأخلاقي والروحي والثراتى والأدبي ـ بإسرائيل بقوله، مخاطباً المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية (ايباك): "حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة هرمجيدون ـ أي نهاية العالم ـ أجد نفسي متسائلاً، عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً. ولا أدرى إذا كنت قد لاحظت مؤخراً أي من هذه النبوءات، ولكن صدقني إنها تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه".
ويقول أيضاً: "إن نهاية العالم قادمة، ويراها الرئيس كما تفسر النظريات معركة ـ هرمجيدون ـ حينما تغزو جيوش السوفيت والعرب وآخرين دولة إسرائيل، وستباد جيوش الغزاة بواسطة قنبلة ذرية محدودة وسيموت ملايين اليهود، أما المتبقي منهم فإنه سيتم إنقاذهم بواسطة جيش المسيح، والذي سيعود إلى الأرض لمعاقبة القوى المضادة للإسرائيليين وسيقضى على قوى الشر في معركة تسمى هرمجيدون، وتقع في سهل مجدو في فلسطين، وستنتهي هذه المحنة بقبول اليهود للمسيح كمنقذ لهم، وبزوغ فجر عصر الألف عام السعيدة تحت حكم المسيح" (3). وآراء ريجان هذه ليست الأولى من نوعها، فلها سوابق كثيرة في المكتب البيضاوي،
_________
(1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص99
(2) المسيخ الدجال (قراءة سياسية في اصول الديانات الكبرى ـ سعيد أيوب-ص 167 - دار الاعتصام- ط1 1989
(3) ريغان الرجل والرئيس ـ تأليف مجموعة من الصحفيين الأمريكيين- من سميث، هيدريك- ص 78 - الدار العربية للموسوعات- ط1 1982.(1/152)
ولكنها تعكس التصديق الواسع النطاق للنبوءات التوراتية واستخدامها لتبرير وجود إسرائيل، وسنلقى مزيد من الضوء على هذا الموضوع الخطير في الفصول التالية.
ريجان والتزامه الديني
يشير ريجان نفسه إلى عواطفه الدينية المبكرة، إذ قال في مقابلة تلفزيونية مع المبشر (جيم بيكر) عام 1980م: "كنت محظوظاً لأن أمي غرست فيّ إيماناً عظيماً أكثر بكثير مما أدرك في ذلك الحين". وقال في تصريح علني آخر: "إن الكتاب المقدس يضم كل الإجابات على قضايا العصر، وعلى كل الأسئلة الحائرة إذا ما قرأنا وآمنا، إن الأموال التي ننفقها في محاربة المخدرات والمسكرات والأمراض الاجتماعية يمكن توفيرها لو حاولنا جميعاً أن نعيش وفق الوصايا العشر .. لقد أخبروني أنه منذ بداية الحضارة سنت ملايين القوانين، ولكنها جميعاً لم تصل إلى مستوى قانون الله في الوصايا العشر الواردة في التوراة" (1). ويعارض ريجان بباعث من معتقده الديني مسألة الفصل بين الدين والسياسة التي يتبجح كثير من حكام المسلمين بالتغني بها، حيث يقول: لا يوجد شيء اسمه الفصل بين الدين والسياسة، وأن القائلين بهذا الفصل لا يفهمون القيم التي قام عليها المجتمع الأمريكي.
والرئيس الأمريكي لم يكن يخفى توجهاته الدينية الدفينة قبل وبعد تولى الرئاسة، وهو بعد أن نجح في انتخابات الرئاسة التي جاءت به لمقعد الحكم لبس القبعة اليهودية المعروفة، وألقى خطاباً في مؤتمر يهودي، كدليل التزامه بالصهيونية وولائه المطلق لليهود. وقد أكد (جيمس ملز) في مقال نشرتها مجلة (سان ييجو ماجازين) في أغسطس (آب) 1985م. هذه الحقائق بقوله: "إن ريجان كرئيس، أظهر التزاماً بالاضطلاع بواجباته وفقاً لإرادة الله، كما يجب أن يفعل كل مؤمن في منصب رفيع، وأن ريجان شعر بذلك الالتزام خصوصاً في سعيه إلى بناء الجبروت العسكري للولايات المتحدة وحلفائها" (2).
_________
(1) الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي/ تأليف اسماعيل الكيلاني. ـ ص11 - ط.2. - بيروت، لبنان: المكتب الإسلامي، 1994.
(2) ريغان الرجل والرئيس ـ تأليف مجموعة من الصحفيين الأمريكيين ـ ص 110.(1/153)
الفصل الخامس
تنامي التيار الديني المسيحي الأصولي في أمريكيا
في ثمانينات القرن الماضي، صعد وتنامي التيار الصهيوني غير اليهودي، وصار يشكل أكبر وأقوى قوة متنامية مؤيدة لإسرائيل على المسرح السياسي الأمريكي. "وتمثلت الشرارة التي أشعلت السياسة الانجيلية المنظمة في أمريكيا بانتخاب جيمي كارتر لرئاسة الجمهورية عام 1976، اذ أعلن كارتر خلال الحملة انه كان مسيحياً إنجيلياً ولد من جديد، حيث ساهمت هذه العبارة في تلقى كارتر دعماً قوياً من الناخبين الذين اعتبروا أنفسهم أيضاً (مولودين من جديد)، ودفع انتخابه مجلة نيوزويك إلى تسمية عام 1976م، عام الإنجيليين" (1). وتأكد هذا مجددا بإعلان جيرالد فورد (المنافس في 1976م) و (المتنافسين في 1980م) رونالد ريجان وجون أندرسون، بإعادة مولدهم كمسيحيين، وكان هذا بمثابة إعلان عن نضج الحركة" (2).
ولما كانت عضوية الكنائس البروتستانتية المحافظة قد اتسعت خلال تلك الفترة، "فإن هذا الاتجاه، المسيحي الصهيوني نحو الشرق الأوسط، يجد من ينتصر له في منابر مختلفة متزايدة، كالكنائس والإذاعات وحتى قاعات الكونغرس، خاصة بعد أن امتد نفوذه إلى عقول وجيوب الملايين وامتلك شبكة تلفزيونية وإذاعية هائلة وبتقنية متقدمة للغاية وباستخدام الأساليب الاستعراضية الدينية في التلفزيون أو ما تسمى الآن ـ الكنيسة التلفزيونية أو الديانة في الأوقات المناسبة" (3).
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص278
(2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة - ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص155
(3) من أوراق واشنطن ـ يوسف الحسن ـ ص 121.(1/154)
أسباب البركة في أمريكيا
عندما عقدت منظمة، ايباك الصهيونية مؤتمرها السياسي السنوي للعام 1981م، ألقى سناتور ايدوارووجر، و. جبسن، كلمه أمام المؤتمر قال فيها: "إن من أسباب تأييده الحيوي الذي لا يتغير لإسرائيل، هو دينه المسيحي". وقال: "إن المسيحيين وبخاصة الإنجيليين ـ هم من أفضل أصدقاء إسرائيل منذ ولادتها الجديدة عام 1948م". وقال أيضاً: "أعتقد أن أسباب البركة في أمريكيا عبر السنين، أننا أكرمنا اليهود الذين لجئوا إلى هذه البلاد، وبورك فينا لأننا دافعنا عن إسرائيل بانتظام، وبورك فينا لأننا اعترفنا بحق إسرائيل في الأرض" (1).
وهذا أيضا (جيري فالويل) زعيم منظمة الأغلبية الأخلاقية، والصديق الشخصي لمناحيم بيغن وإسحق شامير، والمحافظ الذي يحظى بأكبر قدر من الإعجاب خارج الكونغرس، يجسد الصلة المتنامية بين المسيحية الأصولية والصهيونية، حين قال في كتاب صدر عنه بعنوان (جيرى فالويل واليهود): "إن إسرائيل تحتل الآن مكان الصدارة في نبوءات الكتاب المقدس، وإني أومن أن عهد الوثنيين ـ يقصد العرب والمسلمين ـ قد ولى بسيطرة اليهود على الأرض المقدسة في عام 1967م، أو إنه سينتهي في القريب العاجل. وأني على قناعة بأن معجزة إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948م كان بفضل العناية الإلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإن الإله وعد مراراً في العهد القديم بأنه سيجمع الشعب اليهودي في الأرض التي وعدها إبراهيم، وأعنى بها أرض إسرائيل الآن، ولقد أوفى الإله بوعده، وإن إنشاء دولة إسرائيل لدليل ثابت على أن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب حي كريم، وستبقى دولة إسرائيل محور التاريخ. وقال أيضاً: "لا أعتقد أن في وسع أمريكيا أن تدير ظهرها لشعب إسرائيل وتبقى في عالم الوجود، والرب يتعامل مع الشعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع اليهودي". وجيرى فالويل هذا يقوم بإنتاج برنامج ديني اسمه ـ ساعة من أزمان الإنجيل ـ يتم إذاعته من 392 محطة تلفزيونية، ومن حوالي 500 محطة إذاعية كل أسبوع، كما أنه يقوم بتنظيم رحلات إلى إسرائيل للمسيحيين
_________
(1) من يجرؤ على الكلام (اللوبى الصهيونى وسياسات اميركا الداخلية والخارجية) ـ بول فندلى- ص 393 - شركة المطبوعات, 1985.(1/155)
الذين ولدوا من جديد، كما يسميهم" (1). وتقديراً لجهوده، فقد أوعز مناحيم بيغن، بمنحه ميدالية اعترافاً بتأييده الثابت لإسرائيل، حيث تم تقليده هذه الميدالية في عام 1980م خلال مأدبة عشاء أقيمت في نيويورك بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الزعيم الصهيوني جابوتنسكى (2).
وإذا كان فالويل من أشهر المتحدثين بلسان المسيحيين المحافظين، أو أتباع مذهب العصمة الحرفية الذين يصل تعدادهم إلى أكثر من 30 مليون أمريكي، "فإن هناك الكثير من المسيحيين البروتستانت في أمريكيا ينظرون إلى الشرق الأوسط، على الأقل من منظار الصلة الدينية بإسرائيل، ويرون في تأييدهم لها عملاً لاهوتياً، إذ ينسبون لإسرائيل دوراً بارزاً في تفسير التعاليم المسيحية. فهم يعتقدون من جهة، أن إسرائيل تستحق التأييد المسيحي، لأن وجودها هو تحقيق لنبوءات التوراة، ودليل على صدق الكتاب المقدس، ويكثرون من الاستشهاد بفقرات من العهد القديم دفاعاً عن هذا الرأي. ويدعم عدة مسيحيين إسرائيل من جهة ثانية لاعتقادهم بأن اليهود مازالوا كما كانوا زمن التوراة، شعب مختار. يقول المؤلف (جون هاجي)، وهو من اليمين المتطرف: "إن إسرائيل هي الأمة الوحيدة التي تكونت بأمر خالص من الله لا دور للأسباب فيه، وقد أقسم الله بعظمته أن يدافع عن القدس، مدينته المقدسة. إذا كان الله هو الذي أنشأ إسرائيل، وهو الذي يدافع عنها، فإن تلك الأمم التي تقاتلها إنما تقاتل الله" (3).
إسرائيل مفتاح أمريكيا للبقاء!
حدث في صيف 1983م، أن أذاع (مايك ايفانس)، قسيس بدفورد في تكساس، برنامجاً تلفزيونياً خاصاً ولمدة ساعة كاملة، بعنوان ـ إسرائيل مفتاح أمريكيا للبقاء ـ حيث استغله ليصف الدور الحاسم الذي تلعبه إسرائيل في مصير الولايات المتحدة، السياسي والروحي، وأدعى بأن تخلى إسرائيل عن الضفة الغربية وغيرها من
_________
(1) من يجرؤ على الكلام ـ بول فندلى ـ ص 394 وما بعدها
(2) يد الله - ص 96
(3) الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته - دوان أولدفيد - مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية(1/156)
الأراضي المحتلة بعد حرب 1967م، سوف يجر إلى دمار إسرائيل ومن بعدها الولايات المتحدة، وختم (ايفانس) برنامجه بنداء وجهه للمسيحيين، يناشدهم فيه بتوقيع، بيان البركة لإسرائيل، وقال إن هذا البيان مهم بنوع خاص لأن الحرب مقبلة ـ يقصد معركة هرمجيدون ـ وعلينا أن نطلع رئيسنا ـ ريجان ـ ورئيس الوزراء ـ بيغن ـ على شعورنا نحن الأمريكيين نحو إسرائيل. وعن سبب إنتاجه لهذا البرنامج الذي أذيع فيما لا يقل عن 25 ولاية أمريكية، قال ايفانس: "إن الرب أمرني بوضوح بإنتاج هذا البرنامج الخاص بدولة إسرائيل" (1). وفي سنة 1984م جمع ايفانس توقيعات مليون مسيحي لالتماس دولي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وفي مجلدين مماثلين حمل ايفانس التوقيعات إلى إسرائيل وقدمها إلى شامير رئيس الوزراء. وكتب ايفانس وقتها يقول: "إن عيني شامير اغرورقتا بالدموع، وقال: إن أولئك المسيحيين يحبوننا حباً عظيماً" (2)!
أمريكيا قوية لأنها تقف مع إسرائيل!
يعلن كثير من رجال الدين البروتستانت في أمريكيا، أمثال (جيم بيكر) (وكينت كوبلان) (وجيمى سواجارت) وغيرهم، من خلال الإذاعات ومحطات التلفزيون، عن تأييدهم لإسرائيل، استناداً لما ورد في الكتاب المقدس. فبناء على الفقرة الواردة في سفر التكوين (أبارك مباركيك ولاعنك ألعنه) تكوين (12: 3) يرى الأصوليون ضرورة تأييد إسرائيل (الحديثة) إلى الأبد، حيث يعتقدون أن أي معارضة لمطلب صهيوني أيا كان الطلب ليست معارضة لدولة إسرائيل، بل هي ضد الرب نفسه، ومعنى هذا تزويد إسرائيل بموافقة مطلقة على العدوان العسكري على أي بلد عربي. فهذا جيمى سواجارت (3)، الذي يعتبر من أشهر رجال الدين المسيحي في أمريكيا، يتحدث أكثر ويعمل أكثر لصالح إسرائيل، على أسس توراتية .... حيث يعتبر قيام إسرائيل ضرورة لاهوتية للعودة الثانية للمسيح. ويكشف سواجارت في برامجه ومنشوراته
_________
(1) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني - يوسف الحسن ص122ـ124
(2) من يجرؤ على الكلام ـ بول فندلى ـ 395.
(3) قام جيمي سواجارت هذا، بعمل مناظرة دينية مع احمد ديدات، وقد قمت بتأليف كتاب بعنوان "احمد ديدات بين القاديانية والإسلام" عن هذه المناظرة وغيرها من المناظرات الأخرى التي أجراها احمد ديدات، حيث حاولت توضيح الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها مثل هذه المناظرات، ومن ضمنها، خدمة إسرائيل.(1/157)
الكنسية عن صهيونيته التوراتية، حيث يقول: "إن أمريكيا مرتبطة بحبل ميلاد سرى مع إسرائيل، وإن الله يبارك الذين يباركون إسرائيل ويلعن لاعنيها ... إن أمريكيا قوية لأنها تقف مع إسرائيل" (1). وفي تجمع حديث للائتلاف المسيحي، ادعى متحدث بأن هجمات 11 أيلول، كانت عقوبة إلهية لعدم فعالية الدعم الأمريكي لإسرائيل (2).
وفي مقابل هذه النظرة المؤيدة والمنحازة بالكامل لإسرائيل يجب الا تدهشنا نظرة هؤلاء البروتستانت الانجلوسكسون للعرب، فطبقا لتشرشل (الذي يمجده العرب) فالعرب ليسوا أكثر من قوم متخلفون يأكلون روث الجمال، بينما طالب لورنس اوليفانت (1829 ـ 1888م) بطرد العرب مثل الهنود الحمر لأنهم غير جديرين بأي معاملة إنسانيه (3). ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الأصوليين المسيحيين أكثر جرأة في الطعن في الإسلام، وجرح مشاعر المسلمين، من حلفائهم اليهود. كما تدل عليه تصريحات (فرانك غراهام) و (بات روبرتسون) و (جيري فالويل) حول الإسلام خلال العام المنصرم. وقد لاحظت الكاتبة الأميركية جريس هاسيل "أن الأصوليين المسيحيين في أميركا مستعدون لتقبل نقد موجه لفرنسا أو إنجلترا، أو ألمانيا، أو إيطاليا، أو الولايات المتحدة، أو أي بلد آخر في العالم، لأن ذلك شأن سياسي، أما نقد إسرائيل فهو يساوي عندهم نقد الرب ذاته"، حسب تعبيرها (4).
القول مقرون بالعمل
لا يجب أن نعتقد أن هذا التيار الديني المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية، يكتفي فقط بإلقاء الخطب الرنانة وتوقيع بيانات التأييد لإسرائيل، "بل أنه يمارس ضغوطاً هائلة على صناع القرار في أمريكيا من أجل دعم أكبر لإسرائيل، ويكون حاضراً في أي نقاش، أو آي قضية تكون إسرائيل طرفاً فيها، سواء في الصحافة أو الإذاعة والتلفزيون، وحتى في قاعات الكونغرس، والاجتماعات الشعبية، فكانت
_________
(1) راجع جريدة الخليج الإماراتية - العدد 2957
(2) الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته - بقلم: دوان أولدفيد- مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية
(3) معركة آخر الزمان ونبوءة المسيح منفذ إسرائيل باسل حسين ص53
(4) يد الله (لماذا تضحى الولايات المتحدة بمصالحها من اجل اسرائل؟!) - غريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك - ص80 - دار الشروق- ط.1 2000(1/158)
النتيجة أن أصبح الكلام بحرية عن الشرق الأوسط وسياسة أمريكيا في المنطقة، مقيداً حتى قبل أن يبدأ" (1).
وقد نجح هذا التيار المسيحي الأصولي في الحصول على ما يريد في أغلب الأحيان، بسبب تنظيمه وتوحيد جهوده من خلال منظمات وجمعيات منتشرة في طول وعرض الولايات المتحدة الأمريكية، يزيد عددها على أكثر من 250 منظمة وجمعية، من أبرزها، منظمة الأغلبية الأخلاقية ومؤسسات روبرتسون الإعلامية التي تمتلك محطة تلفزيون وإذاعة الشرق الأوسط في جنوب لبنان، ومؤسسة السفارة المسيحية الدولية، ومؤسسة المعبد، وجماعة حق الدين وغيرها الكثير. "وتقوم هذه الجمعيات والمنظمات بإحياء وتنظيم مناسبات عديدة تضامناً مع إسرائيل، مثل يوم الاعتراف بإسرائيل، وسبت التضامن مع إسرائيل، وحفلات الفطور تكريماً لإسرائيل والتي أصبحت حدثاً سنوياً تقوم بتنظيمها جماعة المائدة المستديرة. وفي إحدى الاحتفالات أصدرت لجنة صلاة الفطور، بيانها الخاص لمباركة إسرائيل، باسم ما يزيد عن خمسين مليون مسيحي يؤمنون بالتوراة في أمريكيا. وتضمن البيان خليطاً عجيباً من النقاط الدينية والسياسية والعسكرية، تشمل ما يلي:
"دعوة للتعاون الإستراتيجي مع إسرائيل، يعقبها نداء إلى إله إسرائيل الذي أعطى العالم عبر الشعب اليهودي الكتب السماوية .... مختارات من الكتاب المقدس تؤكد حق اليهود الإلهي في الأرض ... ثم دعوة لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مشفوعة بوصية تقول: إن حدود الأرض المقدسة التي رسمها الكتاب المقدس، لا يمكن أن تغيرها رمال المقتضيات السياسية والاقتصادية المتحركة" (2).
السفارة المسيحية الدولية
تعتبر منظمة السفارة المسيحية الدولية، من أكثر المنظمات والقوى الصهيونية المعاصرة انتشاراً ونفوذاً على الساحة الدولية. وقد ولدت هذه المنظمة في نهاية سبتمبر 1980م حينما اجتمع أكثر من ألف رجل دين مسيحي جاءوا من أكثر من 23
_________
(1) من يجرؤ على الكلام ـ بول فندلى ـ ص 393.
(2) من يجرؤ على الكلام ـ بول فندلى ـ ص 400.(1/159)
دولة، في مؤتمر بمدينة القدس، تعبيراً عن الدور المركزي لهذه المدينة في فكر وحركة الصهيونية المسيحية المعاصرة. وقد جاء تأسيسها أثر رفض المجتمع الدولي لقرار الحكومة الإسرائيلية اعتبار القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وكرد فعل على قيام عدد من دول العالم بنقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب.
"وقد افتتحت السفارة مكاتب لها في القسم الغربي من مدينة القدس، وأعلنت عن افتتاح أكثر من 37 قنصلية لها في دول العالم، وأخذ يدير هذه المكاتب رجال دين مسيحيون متعصبون للصهيونية. وقد اتخذت السفارة ولاية كارولينا الشمالية، مقراً لها وافتتحت فروعاً لها في عدد كبير من المدن الأمريكية الرئيسة. وتقوم هذه المراكز بجمع التبرعات لإسرائيل وعقد المؤتمرات وتسيير المظاهرات وحشدها، وبيع المنتجات الإسرائيلية، وتنظيم الرحلات السياسية إليها، وممارسة الضغوط السياسية على صانعي القرار في دول العالم لصالح إسرائيل. ويؤمن أعضاء وأنصار هذه السفارة، بأنه على إسرائيل أن تمتد من النيل إلى الفرات. وقد اختصر زعيم هذه السفارة أهداف منظمته بقوله: إننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم" (1).
وتصل موازنة السفارة إلى أكثر من 100 مليون دولار، وملايين الأتباع، وعشرات الألوف من الأعضاء في جميع أنحاء العالم. وقد نظمت السفارة على مدى الأعوام الماضية، مهرجانات ومسيرات حاشدة في شوارع القدس، احتفالاً بتأسيس إسرائيل وبالأعياد الدينية اليهودية، مثل عيد العرش، الذي شارك فيه آلاف المسيحيين الأصوليين. وتستخدم السفارة، شبكة واسعة من أجهزة الأعلام لنشر أهدافها وتثقيف أتباعها في كيفية خدمة القضايا الإسرائيلية. فهي تصدر مجلة إخبارية ربع سنوية، اسمها المراجعة، بالإضافة إلى عشرات الأوراق والنشرات والبيانات الدورية. وأنتجت فليماً صهيونياً، وشكلت لجان للعمل السياسي ونظمت حملات مستمرة من الرسائل البريدية إلى صانعي القرار في عدد من دول العالم، وصارت تدعى لجلسات الاستماع في الكونغرس الأمريكي، وفي نفس الوقت رتبت حملات لجمع الدم، دعماً لجنود إسرائيل أثناء غزو لبنان عام 1982م، وأنشأت فرقة
_________
(1) من أوراق واشنطن ـ يوسف الحسن ـ ص 128.(1/160)
للغناء سمتها، فرقة أغاني صهيون، وجمعت المساعدات المالية وشجعت بيع السندات الإسرائيلية داخل الكنائس الأمريكية.
وفي أواخر أغسطس 1985م نظمت السفارة الدولية، أول مؤتمر صهيوني دولي في مدينة بازل بسويسرا، وفي نفس القاعة التي انعقد فيها المؤتمر الصهيوني الأول بزعامة هرتزل. وقد شارك في المؤتمر أكثر من 600 رجل دين ومفكر مسيحي بروتستانتي، قدموا من 37 دولة، وهتفوا جميعاً بحياة إسرائيل الكبرى، وصلوا من أجل عاصمتها الموحدة والأبدية، القدس، وقرروا الانتشار في الأرض تنظيماً وحركة لخدمة وحماية وتكملة المشروع الصهيوني ... ومن أجل إرضاء الرب أيضاً.
وقد اتخذ المؤتمر العديد من القرارات كان أبرزها:
1ـ الضغط باتجاه مزيد من الاعتراف الدولي بإسرائيل كدولة لليهود ودعم عمليات تجميعهم من شتى أنحاء العالم، وخصوصاً من الاتحاد السوفيتي، لاستيطان الضفة الغربية وغزة، وتكملة المشروع الصهيوني الممتد من الفرات إلى النيل تحقيقاً للنبوءات التوراتية.
2ـ مطالبة جميع الدول والمؤسسات الدولية والحكومية والخاصة، فتح أبوابها كاملة لمشاركة الإسرائيليين، وعلى الدول الصديقة الانسحاب من هذه التجمعات إذا ما طردت منها إسرائيل.
3ـ مطالبة جميع الأمم بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وبالتالي نقل سفاراتها إليها.
4ـ تشجيع أطروحة توطين الفلسطينيين ـ يسميهم المؤتمر اللاجئون من إسرائيل ـ في الوطن العربي، وتوفير العدالة للاجئين اليهود العرب في إسرائيل.
5ـ دعم ومساندة الاقتصاد الإسرائيلي، وإنشاء صندوق استثمار مسيحي دولي لهذه الغاية، مقره في أمستردام، وبرأسمال مبدئي قدره مائة مليون دولار،(1/161)
ويخصص للصناعات التقنية والسياحية في إسرائيل، ومطالبة الدول الصديقة بالامتناع عن تسليح العرب، بما فيهم مصر.
6ـ مطالبة العالم بعدم الانصياع لأنظمة المقاطعة العربية لإسرائيل، وإدانة كل أشكال اللاسامية ضد اليهود.
7ـ تعبئة الكنائس لنصرة إسرائيل وإنشاء تنظيمات بجذور شعبية لهذه الغاية، ومطالبة مجلس الكنائس العالمي بالاعتراف بالرابط التوراتى بين الشعب اليهودي وأرضه الموعودة ودولته إسرائيل، والصلاة انتظارا للمجيء الثاني للمسيح ومملكته القادمة في القدس" (1).
وكرد على هذا البيان الذي صدر عن السفارة المسيحية الدولية، اصدر مجلس كنائس الشرق الأوسط بياناً، جاء فيه: " لما كنا نعي المسؤوليات الملقاة على عواتقنا حيال الطوائف المسيحية والرأي العام العالمي، فإننا نؤكد أن لهذا الاجتماع صفة سياسية مفضوحة على الرغم من الإشارات الدينية الكثيرة. إننا ندين استغلال التوراة واستثمار المشاعر الدينية في محاولة لاضفاء صبغة قدسية على إنشاء دولة، ولدمغ سياسة إحدى الحكومات بدمغة شرعية" (2).
جورج بوش الأب ... قرارات تتخذ لتنفذ
لو تأملنا القرارات السابقة التي اتخذتها السفارة المسيحية الدولية في عام 1985، والبيانات والمطالب التي طرحتها الحركة الأصولية الأمريكية خلال تلك الفترة، فإننا سنجد أن كثير منها تحقق على أرض الواقع بطرق مختلفة خلال السنوات القليلة الماضية، وبالذات في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب)، والتي يمكن إجمالها بالآتي:
_________
(1) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني - يوسف الحسن ص134ـ135
(2) راجع الصهيونية المسيحية - محمد السماك - ص162.(1/162)
1ـ فتح أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها من الاتحاد السوفيتي السابق، ودول أوروبا الشرقية وأثيوبيا، إلى إسرائيل، مع استمرار المساعي الأمريكية مع سوريا واليمن وغيرها من الدول.
2ـ ازدياد الاعتراف الدولي بإسرائيل، حيث انضمت دول مثل الاتحاد السوفيتي السابق، والصين، ودول أوروبا الشرقية، وكثير من الدول الأفريقية، إلى قائمة الدول المعترفة بإسرائيل والتي لها علاقات دبلوماسية معها.
3ـ دعم الاقتصاد الإسرائيلي بطرق كثيرة، تمثلت بموافقة الرئيس بوش الأب على منح إسرائيل ضمانات قروض بقيمة 10 مليار دولار أمريكي.
4ـ امتناع أمريكيا عن تسليح الدول العربية بأي أسلحة يمكن أن تشكل خطراً على إسرائيل، وممارسة الضغوط من أجل منع الدول العربية من الحصول على أي أسلحة من مصادر أخرى، وحتى في اللحظة التي تمكنت دولة عربية، وهى العراق، من تكوين قوة عسكرية كبيرة تهدد إسرائيل، قامت أمريكيا بالتعاون مع أعوانها العرب بافتعال أزمة مع العراق، وجرته إلى حرب قضت على قوته العسكرية.
5ـ وعلى صعيد تشجيع التعاون الدولي مع إسرائيل، قامت كثير من الدول وبضغط مباشر من أمريكيا، بإلغاء العمل بقوانين المقاطعة العربية، كما تم إلغاء قرار الجمعية العامة الذي يساوى بين الصهيونية والعنصرية، وكل ذلك من أجل فتح آفاق جديدة أمام التعاون الدولي مع إسرائيل.
6ـ وفي مجال تشجيع أطروحة توطين الفلسطينيين في الدول العربية، فقد انبثقت عن مؤتمر مدريد للسلام، لجنة خاصة لبحث قضية اللاجئين في إطار المباحثات المتعددة الأطراف وليس في إطار المباحثات الثنائية، وهذا يؤكد أن هدف هذه اللجنة هو حل مشكلة اللاجئين عن طريق توطينهم في الدول العربية المضيفة لهم، وليس في الأراضي العربية المحتلة، ولهذا رفضت إسرائيل طرح حق العودة في هذه المفاوضات، كما أنها رفضت مشاركة فلسطيني الشتات في المفاوضات الثنائية.
7ـ وبالنسبة لقضية القدس، فإنه لم يكن مصادفة أن يعلن (وليم دوكاكيس) المرشح السابق للرئاسة الأمريكية، والرئيس السابق (بل كلينتون)، خلال حملاتهم(1/163)
الانتخابية، عن عزمهما نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بها كعاصمة أبدية لإسرائيل (1). إن دل هذا على شيء، فإنما يدل على الرغبة الأمريكية الأكيدة بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، ولكن الظروف الدولية والعربية لم تسمح لأمريكا باتخاذ هذه الخطوة في السابق، ولهذا لجأت أمريكيا وإسرائيل إلى تحقيق هذا الهدف على مراحل، كما حدث في مؤتمر مدريد للسلام، عندما تم استبعاد سكان القدس من المشاركة في مفاوضات السلام، وتم أيضاً استبعاد طرح قضية القدس في إطار المفاوضات، بحجة أنه سيتم بحث هذه القضية بعد المرحلة الانتقالية، وفي إطار الحل النهائي.
هذا التطابق بين التوصيات والقرارات التي اتخذها التيار المسيحي الأصولي في أمريكيا لدعم إسرائيل، وبين ما تم ويتم إنجازه على أرض الواقع، إن دل على شيء فإنما يدل على قوة هذا التيار من ناحية، وعلى تبنى صانعي القرار في أمريكيا لمطالب هذا التيار ـ باعتبارهم جزء منه ـ من ناحية أخرى. فجورج بوش الأب ينحدر من أسره عرف عنها انتماؤها وعلاقتها الحميمة بالتيار الديني الأصولي المتطرف، وبرموز هذا التيار الذي يؤمن بحرفية النبوءات التوراتية، حيث يفتخر الرئيس بوش بأنه من المسيحيين الأصوليين المولودين ثانية، وذلك من خلال اعترافه العلني للمسيح. وقد أشار إلى تجربته الشخصية (كمولود ثانية) ـ والتي تعنى النجاة من معاناة اليوم الآخر الذي يسبق معركة هرمجيدون.
الولادة الثانية والنشوة المطلقة
بالرغم مما تبدو عليه عبارة (مولود ثانية) من بساطه، إلا أنها تخفي ورائها نظرة أصولية عدمية متطرفة. فحسب سفر الرؤيا، آخر كتب العهد الجديد، فإن عدد الأفراد البالغ 144000 فقط، المفترض نجاتهم من كارثة هرمجدون الرهيبة، كان مصدر قلق جدي بل بمثابة كابوس مخيف للكثير من المؤمنين، ناهيك عن كون الموضوع برمته مصدر حرج كبير للكنيسة. ولمجابهة هذه المشكلة وجد الوعاظ
_________
(1) رؤية لتغيير أمريكا (بالاهتمام بالناس اولا) - بل كلينتون - آل جور - ص135 - مركز الاهرام للترجمة والنشر - الطبعة الأولى 1992(1/164)
الأصوليون المسيحيون في الغرب حلاً مناسباً لطمأنة جماهيرهم المؤمنة، وهذا الحل يضمن إنقاذ المؤمنين المولودين ثانيه بحيث يرتفعون لملاقاة المسيح العائد في الجو قبل حدوث كارثة هرمجدون الرهيبة على الأرض، وهو ما أطلقوا عليه تعبير (الرفع للجو أو الخطف) وقد استندوا في ذلك على عبارة وردت في رسالة بولس الأولى إلى أهالي تيسالونيكي قال فيها: "لأن الرب نفسه - عيسى ـ سوف يهبط من السماء وقتما يهتف بذلك كبير الملائكة وينفخ في بوق الله. فالأموات في المسيح يقومون أولاًـ من قبورهم ثم نحن الأحياء الباقون سنرتفع معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون مع الرب إلى الأبد" (1)
ومن ثم فليس من مبرر لقلق المسيحيين المولودين ثانية فيما يتعلق بالنهاية الرهيبة التي سوف تحل بباقي البشرية "لذلك طمئنوا بعضكم بعضا بهذا الكلام" (2). فنحن على ثقة أن المسيح لن يتركنا نعاني ولو لحظة واحدة من الهولوكوست محرقة يأجوج ومأجوج، سوف نجتمع مع المسيح في السماء قبل المحنة الكبرى "مع الذين ماتوا وهم مؤمنون بالمسيح" (حسب رسالة تيسالونيكي الأولى). سيأتي ليأخذ قديسيه، وبعد أن نقابله في الهواء سيعود هو ليقاتل في هرمجيدون ونحن في السماء، وسوف يكتوي بنار هرمجيدون كل مسيحي أو غير مسيحي لا يؤمن بأن المسيح هو المخلص والمنجى الوحيد في نهاية العالم. يقول أحدهم: " شكراً لله، سوف أشاهد معركة هرمجيدون من مقاعد الشرف في الجنة، وكل أولئك المولدين ولادة ثانية سوف يشاهدونها، إنما من السماء، وتلك هي السعادة المطلقة والنشوة الكبرى" (3).
بهذه الخزعبلات يتفاخر الرؤساء الأمريكيون وكثير من البروتستانت بما يسمى بالولادة الثانية، والتي يبدو أنها أصبحت كصكزك الغفران في العصور الوسطى، وجواز المرور للحصول علي دعم اليمين المسيحي المتطرف الذي سعى بوش للتقرب له حتى عندما كان نائباً للرئيس ريغان، حيث كان النجم السياسي في اجتماعات
_________
(1) رسالة بولس الأولى إلى أهل تيسالونيكي4/ 16ـ17
(2) رسالة بولس الأولى إلى أهل تيسالونيكي 4/ 18
(3) يد الله ـ جريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك ـ ص 43(1/165)
القس الإنجيلي مايك ايفانز (1)، وكان مديناً بانتخابه لهذا اليمين المسيحي المتطرف، الذي يتمتع بقوة مؤسساتية هائلة في الحزب الجمهوري، ويسيطر إتباعه على أكثر من ثلث أعضاء الحزب الجمهوري، حيث قدموا الدعم للرئيس بوش لإيمانهم بأنه خير من يعبر عن أفكارهم المتطرفة، التي تصب في خدمة إسرائيل.
فجورج بوش يعتبر ابن اللوبي الصهيوني في أميركا، والمنفذ لكل مخططاته ومشاريعه في فلسطين وخير دليل على ذلك أنه في الخامس والعشرين من شهر يونيو سنة 1986م أقام جيري فولويل ـ وهو من الصهيونيين المسيحيين الأميركيين وأول سياسي أميركي مرموق على حد قول الدكتور وليام عودمان ـ حفل غداء في مدينة واشنطن على شرف نائب الرئيس الأميركي جورج بوش، وقد اخبر فولويل ضيوفه الخمسين الذين حضروا مجاناً حفل الغداء السخي "بوش سيكون أفضل رئيس عام 1988م" (2). وبالفعل كان جورج بوش سنة 1988م أفضل رئيس بالنسبة للصهيونيين المسيحيين في أميركا، وللصهيونيين اليهود في كل دول العالم. والأحداث التي عاشها المراقبون وتتبعوا من خلالها سياسة بوش أثبتت انه فعلاً مخلص ووفي لمن جاءوا به إلى سدة الرئاسة الأميركيه. ويكفى الرئيس بوش أنه قدم اكبر وأعظم خدمة لإسرائيل من خلال تدمير القوة العراقية، وعقد مؤتمر مدريد، وما تمخض عنه من اتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل، واعتبار السلام خيار إستراتيجي. يضاف إلى ذلك أن بوش نفسه كان على رأس الوفد الرسمي الأميركي إلى السودان في شباط / فبراير 1985م، الذي وقع الاتفاق الأميركي - السوداني ـ القاضي بترحيل يهود أثيوبيا (الفلاشا) إلى دولة الاحتلال الصهيوني، كما كان هو ذاته على رأس الدولة العظمى في العالم التي شنت (الحرب الأميركيه والعالمية) ضد العراق ولا تزال" (3).
وإذا كان هذا هو حال رؤساء أمريكا منذ زمن بعيد ـ صهيونيون أكثر من الصهاينةـ ومشبعين بالخلفيات الدينية الحاقدة والمتعصبة، فإن السؤال الذي يطرح
_________
(1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص368
(2) النبوءة والسياسة - ص 25
(3) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق د. صالح زهير الدين ص81 ـ82(1/166)
نفسه هو لماذا يحرص معظم صانعي القرار في أمريكيا ومنهم الرئيس بوش، على عدم إظهار خلفياتهم الدينية التي تدفعهم لدعم إسرائيل بصورة علنية، ومحاولة تبرير ذلك بشتى أنواع الأكاذيب المعروفة؟!. والجواب هو إن مرد ذلك يعود إلى رغبتهم في عدم إثارة المشاعر العربية والإسلامية، ولهذا يلجئون إلى اختلاق تبريرات أخرى لتمرير سياستهم المنحازة لإسرائيل، مرة بالحديث عن اللوبي الصهيوني والصوت الانتخابي اليهودي، ومرة بالحديث عن ظروف الحرب الباردة والمصالح الأمريكية وغيرها من الأمور التي أثبتت الأيام عدم صدقها، وكل ذلك من أجل إبقاء آمال الدول العربية معلقة بإمكانية حدوث تغير في الموقف الأمريكي تبعاً للتغيرات على الساحة الدولية، وربما يكون ما فعله الرئيس بوش خلال حرب الخليج، وما قدمه من وعود بحل القضية الفلسطينية، بعد تدمير القوة العراقية خير دليل على ذلك.(1/167)
الباب الثاني
البعد الديني للضربة الأمريكية للعراق
(هرمجيدون .. المحرقة الكبرى ... يوم الرب)
في العقل الأمريكي (الانجلو سكسوني البروتستانتي) (1)
_________
(1) قمت بنشر دراسة بهذا العنوان في جريدة القدس العربي خلال شهر أكتوبر 1998 م خلال الأزمة التي افتعلتها أمريكيا في ذلك الوقت بشأن لجان التفتيش وهددت بضرب العراق في عهد الرئيس بل كلينتون(1/168)
الفصل الأول
الطريق إلى حرب الخليج
لم يكن خافياً على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية، حكومة وشعباً انتابتها حالة سعار وهوس غير مسبوقة لحشد التأييد الدولي لحربها ضد العراق والتي بدأت منذ 1990م وحتى الآن، بالرغم من عدم وجود المبررات الكافية لهذه الحرب التي أجمع المراقبون على أن تداعياتها ستؤدى إلى عواقب وخيمة ليس على العراق وحدة ولكن على المنطقة والعالم ككل. والغريب في الأمر أن حالة السعار هذه لم تكن مقتصرة على الإدارة الأمريكية وحدها بل إن الشعب الأمريكي أبدى نفس الشعور من خلال استطلاعات الرأي التي أشارت إلى التأييد التام لغالبية الشعب الأمريكي لهذه الحرب، بالرغم مما عرف عن هذا الشعب من عدم اهتمامه بالسياسة الخارجية. ولو كان هناك مبرر منطقي معقول لهذه الحرب، لكان الأمر مقبولاً، أما أن تحشد هذه الأساطيل والجيوش، ويتم التهديد باستخدام الأسلحة النووية، مره بدعوى تحرير الكويت وأخرى بسبب خلافات بسيطة على عمل لجان التفتيش ونطاق عملها، فإن ذلك أمر لا يمكن إيجاد مبرر منطقي له مهما حاولت أمريكا من خلال آلتها الدعائية غسل دماغ العالم لكسب التأييد لهذه الأعمال الهمجية، رافضه كل الحلول السلمية والمبادرات الدولية على كثرتها، من خلال الادعاء بحرصها على تطبيق قرارات الشرعية الدولية.
فالأمر أصبح بالنسبة لأمريكا، وكأن ضرب العراق، وإشعال الحرب في المنطقة أمرا حتمياً لابد منه، وغاية لابد من إيجاد المبررات لتسويغها مهما كان الثمن، حتى لو التزم العراق حرفياً بكل قرارات الأمم المتحدة، بحيث أصبحنا وكأننا أمام قدر مكتوب، أو وصية مقدسة لابد من تنفيذها بحذافيرها مهما كلف الأمر، بالرغم من معارضة كافة دول العالم لمثل هذا العمل الأخرق، باستثناء الدول الانجلوسكسونية البروتستانتية، مثل بريطانيا، وكندا، واستراليا، ونيوزيلندا، التي شكلت فيما بينها حلفاً دينياً انجلوسكسونياً من طراز جديد يتسم بالعنصرية والبربرية والهمجية، محاولاً تنصيب نفسه لقيادة العالم اعتقاداً منه بأنه ينفذ إرادة الله على الأرض، وان(1/169)
الله اختار العنصر الانجلوسكسونى لقيادة العالم، وتنفيذ إرادته انطلاقاً من إيمانه بخرافات ونبوءات توراتية مزيفه، أعطت اليهود ودولة إسرائيل دوراً مركزياً في تشكيل توجهات هذا الدول حيال العالم.
لهذا فقد اتخذت هذه الدول الشريرة الحاقدة من الخلاف بين الكويت والعراق مبرراً لتنفيذ مخططها الشيطاني في المنطقة، والذي أعدت له منذ فترة كبيرة، ويكفى أن نشير هنا إلى أن الحملة على العراق الشقيق بدأت حتى قبل مشكلة الكويت، وقامت كلاً من بريطانيا وأمريكيا بفرض حصار اقتصادي على العراق بدعوى سعيه إلى تطوير أسلحة دمار شامل، وكلنا يتذكر مشكلة المكثفات، والمدفع العملاق، التي أثارت حولهما أمريكيا ضجة كبرى حتى قبل مشكلة الكويت.
فقد أدركت أمريكيا أن العراق ـ قبل حرب الخليج الثانية ـ وصل إلى مرحلة متقدمة ومتطورة وأصبح يهدد مشروعها الصليبي في المنطقة المتمثل بإسرائيل، ولهذا تم افتعال حرب الخليج وبدأت المؤامرة على العراق من خلال افتعال مشاكل كبيره أمامه، سواء فيما يتعلق بأسعار البترول، والديون والحدود بينه وبين الكويت، والتي حاولت بعض الدول العربية والجامعة العربية حلها بالحسنى، ولكن أمريكيا كانت قد قررت تصعيد المشكلة وخنق العراق، لكي لا يكون أمامه مجال إلا الدفاع عن مصالحه. وهذا ما حدث فكانت، القوات الأمريكية جاهزة في المنطقة لشن حرب على العراق ليس لتحرير الكويت، أو لحماية الدول الخليجية الأخرى من خطر العراق، بل من أجل حماية مشروعها الصليبي في المنطقة وهى إسرائيل، التي أصبح وجودها مهدداً بسبب ما وصل إليه العراق من قوة واقتدار.
بريطانيا وجذور الحرب على العراق
لفهم الحرب الأمريكية البريطانية على العراق لا بد من إلقاء نظره سريعة على تاريخ العراق الحديث، والذي بدأ مع انهيار الدولة العثمانية في المنطقة، حيث منحت عصبة الأمم، بريطانيا حق الانتداب في العراق الذي أصبح بالتالي مستعمرة تابعة للتاج البريطاني. وخلال سنوات الاستعمار تلك, خطت الحدود السياسية الحالية للعراق بكل تعقيداتها في الشمال حيث الأكراد, وخلافاتها في الجنوب حيث ولدت(1/170)
آنذاك دولة الكويت، والتي رفضت الحكومات العراقية المتعاقبة الاعتراف بها باعتبارها جزء من ولاية البصرة. وبعد اكتشاف النفط في كركوك عام 1927م ازداد سعار البريطانيين واهتمامهم بالعراق, وأجبر الملك فيصل الأول بعد ذلك على توقيع اتفاقية مع بريطانيا، تفرض على العراق انتهاج سياسة خارجية خاضعة لبريطانيا, وتسمح ببقاء قوات بريطانية على الأراضي العراقية لمدة 25 سنة.
وعندما انتهى الانتداب البريطاني عن العراق سنة 1932م كان الكثير من العراقيين ينظرون إلى استقلالهم على أنه منقوص السيادة، طالما ظلت القوات البريطانية في بلدهم. وبعد وفاة فيصل الأول عام 1933م خلفه ابنه غازي الأول الذي مات هو بدوره في حادث سيارة عام 1939م، واتهم البريطانيون بتدبيره بعد أن شجع رئيس وزرائه على تبني سياسة معادية لبريطانيا. بعدها, حكم العراق بالوصاية عبد الإله بن علي, وصي الوريث الشرعي للحكم الملك فيصل الثاني الذي كان عمره عند وفاة والده أربعة أعوام. وفي سنة 1941م قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني، التي أطاحت بالملكية مؤقتاً وطردت العائلة المالكة إلى الخارج، لكن سرعان ما أجهضها البريطانيون وقضوا عليها ونصبوا نوري السعيد رئيساً للوزراء يحكم بحسب التعليمات البريطانية.
واستمر الأمر كذلك حتى عام 1958 م عندما جاء انقلاب عبد الكريم قاسم الذي أطاح بالسعيد وبالهاشميين في العراق، وأعدم الملك فيصل الثاني ورئيس وزرائه, وأسس الجمهورية العراقية خلفاً للمملكة العراقية، وعندما أنهت بريطانيا انتدابها على الكويت أعلن قاسم في حزيران 1961م أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، واعتبر إنهاء الحماية عنها، يعني عودتها إلى العراق كقائمقامية تابعة للواء البصرة، واصدر أمرا بتعيين شيخ الكويت قائم قاماً فيها، ولكن وقفت مصر والسعودية إلى جانب الكويت ضد مطالب العراق (1).
وقد تبنى قاسم سياسات وطنية وتخلى عن حلف بغداد الذي أسسته لندن, لكن أطيح به في انقلاب عسكري سنة 1963 م قاده حزب البعث الذي نصب عبد السلام
_________
(1) دراسات في تاريخ العرب المعاصر - د. محمد على القوزي- ص372 - دار النهضة العربية للطباعه والنشر - ط 1 1999(1/171)
عارف رئيساً للجمهورية، حيث اعترفت الحكومة العراقية الجديدة بدولة الكويت، وتم أيضاً قبول عضويتها في الأمم المتحدة. ولكن عارف قتل في حادث طائرة سنة 1966 م ليخلفه أخوه عبد الرحمن عارف, وليتم إسقاطه هو الآخر بانقلاب بعثي أكثر إحكاماً هذه المرة سنة 1968 م بقيادة أحمد حسن البكر، حيث تم في عهده, تشكل مجلس قيادة الثورة الذي عمل على إجراء إصلاحات اقتصادية ضمنت شعبية للحكم الجديد, ووقع مع الثوار الأكراد اتفاقية الخمسة عشر نقطة سنة 1970م التي هدأت التمرد الكردي والتي كان بموجبها منح الأكراد حكماً ذاتياً موسعاً, مع إعطائهم منصب نائب رئيس الجمهورية. ولكن سقطت الاتفاقية واندلع التمرد مجدداً بدعم خارجي، إلى أنه أخمد مرة أخرى بسبب تخلي إيران عن الأكراد إثر توقيع اتفاقية الجزائر مع العراق سنة 1974م، حيث صعد نجم صدام حسين في قيادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة, إلى أن تمكن من الإطاحة بالرئيس البكر عام 1979م" (1). حيث تمكن الرئيس صدام حسين خلال فتره حكمه من تحقيق انجازات عديدة للعراق برغم كل محاولات الإساءة والتضليل التي نسجت حوله.
من خلال العرض السابق يتضح لنا أن جذور الحرب على العراق خلقتها بريطانيا خلال فترة انتدابها على العراق من خلال المشاكل الحدودية التي خلفتها، وهذا تقليد بريطاني استعماري اتبعته بريطانيا في كل مكان تواجدت فيه. ففي موقف مبكر من الأزمة تساءل الصحفي (كريستوفر هيتشنز) عن الهاجس الغربي بالكويت وأعلن تعاطفه مع العراق وقال: "بالتأكيد انه باستطاعة أمريكا احتلال الكويت بأكملها إذا أرادت ذلك، إلا أن ذلك لن ينجم عنه سوى إعادة وضع كان قائماً من الصعب الدفاع عنه. فحينما رسم البريطانيون الحدود، فعلوا ذلك بقصد متعمد أن ينكروا على العراق منفذاً على البحر، وبذا يصبح العراق أكثر اعتماداً على بريطانيا". وقد عبر عن ذلك السير بارسونز مستشار تاتشر للشئون الخارجية، ومسئول بريطاني متمرس سابق في المنطقة، عبر عن ذلك قائلاً: "الكويت في اللاوعي العراقي، جزء من إقليم البصرة، اقتطعه البريطانيون الملاعين منهم. قمنا بحماية مصالحنا بقدر من النجاح،
_________
(1) راجع ـ العراق .. تقرير من الداخل ـ ديليب هيرو -الناشر: ناشن بوكس، نيويورك- ط1 2004(1/172)
إلا أننا حينما فعلنا ذلك لم يعترينا أي قلق بشأن من يعيشون هناك. خلقنا وضعاً يشعر الناس فيه أنهم قد ظلموا" (1).
فالمشكلة بين العراق وإيران والكويت ليست جديدة، ولم تظرأ في عهد صدام حسين فقط، بل قديمه قدم المؤامرة الاستعمارية البريطانية التي لم تتوقف طوال هذا التاريخ، بل استمرت بطريقه فجه بعد دخول الامبريالية الأمريكية اللعبة، وتحولها إلى اكبر قوة امبريالية عالمية، من خلال سعيها إلى السيطرة على مقدرات شعوب المنطقة ونهبها، وبالذات الثروة النفطية، هذا بالإضافة إلى الهدف الأساسي وهو حماية مشروعها الصليبي في المنطقة (إسرائيل). لهذا عملت أمريكا وحليفتها بريطانيا على تدمير وضرب أية مشاريع عربية طموحه تهدف إلى الأخذ بناصية التقدم والتطور للحاق بالركب العالمي، وموازنة القوة الإسرائيلية، ولهذا كان العراق في مقدمة الدول المستهدفة أمريكياً بهدف تدمير الانجازات الكبيرة التي تحققت في ظل حكم الرئيس العراقي صدام حسين، والتي أوصلت العراق إلى مرحلة متقدمة جداً في كافة المجالات.
مقدمات الحرب على العراق
يعود التخطيط الأمريكي لعمل عسكري في منطقة الخليج العربي إلى السبعينات من القرن العشرين عندما بدأت واشنطن تحسب حساب المشاعر القومية والميل إلي الاستقلال في الدول المنتجة للنفط، وبشكل خاص بعد أن أمم العراق نفطه عام 1972م، حيث تم وضعه في قائمة الدول التي تساند الإرهاب، وفي سنة 1973 م بدأ البنتاغون تدريبات عسكرية سنوية في صحراء موهافى، واجهت خلالها القوات الأمريكية المتدربة جنوداً يرتدون الزي العسكري العراقي. وفي عام 1974م صرح كيسنجر، انه لا يستبعد قيام أمريكيا بعمل عسكري للهيمنة على النفط والتحكم بأسعاره، وهو الأمر الذي عاد وأكده الرئيس كارتر في عام 1980م، حيث أعلن أن محاولة أي قوة خارجية تحقيق السيطرة على منطقة الخليج سوف تعتبر
_________
(1) بوش في بابل (إعادة استعمار العراق) - طارق على ترجمة د. فاطمة نصر ص264(1/173)
هجوماً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة. وسوف يتم صد مثل هذا الهجوم بأية وسيلة ضرورية بما فيها القوة العسكرية (1).
وهنا من حقنا التساؤل عن المصالح الأمريكية في المنطقة، وهل هي فعلاً النفط فقط، أم هناك شيء آخر. بالطبع سيكون من التجني التقليل من أهمية النفط الاستراتيجية لأمريكا باعتبارها دولة عظمى تسعى للسيطرة على الاقتصاد العالمي، ولكن ذلك لا يعني أن نفسر هذا الهاجس النفطي الأمريكي تجاه نفط الخليج بأنه يعني كل شيء لأمريكا. فالهاجس النفطي لأميركا لا يفسر بأغراض استهلاكية محلية (رغم اعتمادها المتزايد على النفط الخارجي) وإنما بالتحكم في مصادر الطاقة في العالم، ذلك أن أميركا تعتقد أن التحكم في هذه المصادر الضرورية لأوروبا واليابان يمكنها من ممارسة الضغوط عليهما. وعليه فإن إستراتيجيتها في الشرق الأوسط وسياستها حيال العراق وإيران لا تهدف إلى التحكم في الطاقة الموجهة لأميركا، وإنما الموجهة للعالم، خاصة أوروبا واليابان، التي تعتمد أساساً على نفط الشرق الأوسط، بعكس أميركا التي تأتي نصف وارداتها النفطية من فنزويلا، المكسيك وكندا. وإذا أضفنا هذه النسبة إلى النفط الأميركي المنتج محلياً، فإن 70% من الاستهلاك الأميركي يأتي من الأمريكتين. بينما تعتمد أوروبا واليابان على الشرق الأوسط أساساً، مما يعنى أن السيطرة على هذا النفط سيضمن لأمريكا السيطرة على أوروبا واليابان، لأنه مهما كانت القوة العسكرية الجوية والبحرية الأميركية فليس بوسعها الحفاظ إلى ما لا نهاية ـ وبعيداً عن التراب الأميركي ـ على تفوق عسكري بدون دعم دول المنطقة، حيث أن القواعد السعودية والتركية هي أهم بكثير تقنياً من حاملات الطائرات الأمريكية (2).
لهذا فقد شكل تأميم العراق لنفطه تهديداً خطيراً لخطط الهيمنة الأمريكية في المنطقة والعالم. فمن ناحية يهدد مصالحها النفطية، ويحد من قدرتها بالتحكم بمصادر الطاقة، ومن الناحية الأخرى يعني أن العراق أصبح لديه الموارد المالية
_________
(1) الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) ـ محمد مظفر الأدهمى ـ ص70 - الاهلية للنشر والتوزيع- ط1 1997
(2) بعد الإمبراطورية: محاولة حول تفكك النظام الأميركي ـ المؤلف: إمانيول طود ـ كامبردج بوك ريفيوز(1/174)
الكافية لتطوير قدراته، وتهديد مشروعها الصليبي في المنطقة إسرائيل. ولذلك عملت الدوائر السياسية الأمريكية على زعزعة نظام الحكم في العراق من الداخل، من خلال تقديم الدعم للأكراد في الشمال، وتحريضهم على الانفصال، وسعى أمريكا وإسرائيل إلى تزويد إيران بالأسلحة لإدامة زمن الحرب العراقية الإيرانية، وإنهاك البلدين اقتصادياً وعسكرياً. فكما يقول هيكل: "كان هناك تفاهم بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية والكويت للحيلولة دون تحقيق انتصار عراقي في حربه مع إيران، وكان هؤلاء الأطراف مستعدون لكل الاحتمالات حتى وإن أدى ذلك إلى تقسيم العراق" (1). يضاف إلى ذلك الضغوط التي مارستها أمريكا على منظمة أوبك لزيادة الإنتاج لتخفيض أسعار النفط، والتي وصلت إلى سبعة دولارات للبرميل، مما تسبب بمشاكل كبيرة للاقتصاد العراقي.
وبالرغم من أن دول الخليج الموالية لأمريكا، حاولت مساعدة العراق لمواجه هذه الصعوبات ليكمل مشوار حربه مع إيران، إلا أن ذلك لم يكن كرامة عيون صدام حسين، بل نتيجة لخطة مسبقة لتدمير العراق وإيران معاً من خلال هذه الحرب، لهذا دعمت أمريكا كلا الطرفين وزودتهما بالسلاح، ودفعت الدول العربية التابعة لها لتكثيف دعمها للعراق تحت شعار (الدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية)، حيث كان الهدف الخفي من وراء ذلك تدمير البلدين. ومعلوم أن الولايات المتحدة قدمت دعماً هائلاً عسكرياً وسياسياً ومالياً للعراق طوال الثمانينيات، وكان أكثر المسئولين الأمريكيين حماساً لنظام الحكم في العراق عام 1982م هو (دونالد رمسفيلد) الذي كان وزيرا للدفاع قبل أن يتولى الوزارة مرة أخرى في عهد بوش الابن. فقد سافر في مارس/ آذار 1983م إلى بغداد لترتيب تزويد العراق بالأسلحة الكيماوية والتجهيزات العسكرية المتطورة، حيث تطورت العلاقات الأميركية العراقية إيجابياً منذ عام 1982م حتى إن رمسفيلد قال في مقابلة صحفية مع شيكاغو تريبيون عام 1984م: "إن أكثر عمل يعتز به هو إعادة وتطوير العلاقات الأميركية العراقية". http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP
وكشف الصحفي الأميركي (بوب وودورد) عام 1986م أن CIA قدمت عام 1984م للعراقيين معلومات إستخبارية وصورا من الأقمار الصناعية ساعدت في
_________
(1) حرب الخليج أوهام القوة والنصر ـمحمد حسنين هيكل - ص235 - مركز الاهرام, 1992(1/175)
تسديد عمليات القصف العراقي على إيران. وكشفت تحقيقات أجريت عام 1992م أن الولايات المتحدة سلمت العراق 19 حاوية من بكتيريا الجمرة الخبيثة، جهزتها شركة (أميركان تيب كيلتشر كومباني) التي يشرف عليها الجيش الأميركي، وظلت القروض والمنح والتسهيلات الأميركية تتوالى حتى عام 1990م .. فما الذي حدث؟ (1).
الحرب الجديدة
تقول مجلة (جون افريك): "إن النزاع لم يبدأ مع دخول القوات العراقية إلى الكويت، وإنما بدأ يوم خروج العراق منتصراً على إيران عام 1988م حيث فتح أعداؤه عليه حرباً جديدة بدءوها بتصعيد حملة إعلامية واقتصادية معادية ضده، خصوصاً بعد أن وجدوا أن القيادة في العراق مصممة على مواصلة نهجها في تطوير الصناعة والتنمية، وفي رفع قدرات العراق العلمية والتقنية". فبعد ثلاثة اشهر فقط من وقف إطلاق النار بين العراق وإيران، أرسل الضابط نورمان شوارسكوف تقريراً سرياً إلى الأركان العامة يؤكد فيه أن أسوأ ما يمكن أن يحصل في منطقة الخليج هو استيلاء العراق على آبار النفط السعودية، فكان بذلك أول من أثار فرضية التهديد العراقي ومفهوم (الجيش الرابع في العالم) " (2).
وفي تشرين 1989م استدعى رئيس الأركان (باول) الضابط (شوارسكوف) لمقابلة وزير الدفاع (ديك تشينى) الذي سأله عن رأيه بالبلد الذي يشكل التهديد الأهم بالنسبة لأمن الخليج .. العراق أم إيران؟ فأجاب (شوارسكوف) في الحال .. العراق. وهنا شرع (تشينى) (وباول) في إعداد برنامج معلوماتي ضخم تحت اسم (لعبة الحرب) هدفه إعداد واختبار جميع السيناريوهات التي تنتج عن هجوم عراقي على السعودية، وإمكانيات الردود الأمريكية، حيث تم وضع خطه لمجابهة العراق، تم مباركتها من قبل الكونغرس الأمريكي.
_________
(1) حرب آل بوش (أسرار النزاع التي لا يمكن الأعتراف بها) - تأليف: أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش - بيروت، لبنان، دار الخيال- ط.1 2003 - عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت
(2) عاصفة الصحراء - أسرار البيت الأبيض - الجزء الثاني من الملف السري لحرب الخليج - اريك لوران- ص15 - ترجمة محمد مستجير - ط1(1/176)
الحرب الاقتصادية والإعلامية
بدأت الحرب الاقتصادية على العراق بعد انتهاء حربه مع إيران مباشرة، حيث اتخذت الكويت في 9/ 8/1989م قراراً بزيادة إنتاجها النفطي، مخالفة بذلك اتفاق أوبك، وكان حقل الرميله العراقي أحد الحقول الذي بدأت فيه الكويت تنفيذ ذلك، مما أدى إلى خسارة العراق سبعة مليارات دولار، بسبب خفض الأسعار، وقد حاول العراق حل هذه المشكلة مع حكام الكويت ولكنها باءت بالفشل. ويعلق (كولن باول) على ذلك بقوله: "لقد طعنا خنجراً مسمماً في ظهر العراق بوقف حصص النفط المحددة من قبل أوبك، وبالتالي تخفيض الأسعار وإنقاص مدخولات العراق" (1).
أما على صعيد الحملة الإعلامية المنظمة ضد العراق، فقد بدأت عندما أطلق العراق في نهاية عام 1989م منظومة صاروخية ناقلة للأقمار الصناعية، وأعلن العراق عن وصوله لصناعة صاروخ أرض ـ أرض بمدى ألفي كيلومتراً، مما أثار الخوف في إسرائيل لأنها أصبحت ولأول مرة في مدى الصواريخ العراقية. هنا تحركت الآلة الإعلامية الأمريكية الصهيونية، واخذت تشن هجومها على العراق والرئيس صدام، وقامت وزارة الخارجية الأمريكية بنشر تقرير عن انتهاك حقوق الإنسان خصت 12 صفحة منه للعراق، ووصفت الحكومة العراقية بأنها الأكثر سوءاً في مجال خرق حقوق الإنسان. وفي28 شباط 1990م اتخذ الكونغرس الأمريكي قراراً بإيقاف التسهيلات المصرفية الممنوحة للعراق في بنك التصدير والاستيراد، وذلك بحجة مساندة العراق للإرهاب الفلسطيني وإيواءه (أبو العباس). وفي 15 آذار نشرت الصحف العراقية اعترافات الصحفي (بازوفت) البريطاني الجنسية والإيراني الأصل، والذي تم إعدامه في اليوم نفسه بتهمة التجسس لصالح بريطانيا وإسرائيل بناء على اعترافاته بمهمته في جمع المعلومات العسكرية والسياسية عن العراق لصالح الصهاينة والشرطة السرية البريطانية. وقد تعرض العراق لحملة إعلامية مضادة وواسعة من قبل وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية والإسرائيلية، بعد إعدامه لبازوفت.
_________
(1) يوميات كولن باول ـ بقلم جوزيف بريسكو ـ ص579 - الناشر الاهلية للنشر والتوزيع /عمان - توزيع جروس برس(1/177)
من جانب آخر تحركت الدبلوماسية العراقية لحشد الدعم العربي، واتخاذ موقف عربي موحد من الحملة البريطانية الصهيونية ضد العراق، ونشرت الجامعة العربية استنكاراً لهذه الحملة، ولكنها استمرت دون توقف، حيث أنه وفي نهاية شهر آذار أعلنت وسائل الإعلام البريطانية عن عثور السلطات البريطانية على شحنات صواعق تفجير نووية مهربة إلى العراق، ورد العراق بأنها شحنة خاصة ببحوث بتروكيماوية. تم أعلنت السلطات البريطانية عن عثورها على قطعة من مواسير (المدفع العملاق) الذي كان الإعلام الغربي والأمريكي والإسرائيلي يشيع أن العراق يعمل على صنعه، ولذلك فإنه يشكل خطراً لابد من التصدي له (1).
وتصاعدت الحملة الإعلامية الغربية والأمريكية ضد العراق، مره أخرى وبشكل واضح في شهر نيسان عندما أعلن الرئيس صدام حسين في الثاني منه رداً على التهديدات الإسرائيلية للعراق: "لنجعلن النار تأكل نصف إسرائيل إذا اعتدت على العراق"، وكشف للعالم امتلاك العراق للسلاح الكيماوي المزدوج وهاجم الولايات المتحدة، ووصفها بأنها دولة عظمى بالمقاييس المادية، ولكنها ليست عظمى بالمقاييس المعنوية والأخلاقية.
وخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس صدام والرئيس مبارك، قال الرئيس صدام في رده على تصريحات الرئيس الأمريكي (جورج بوش) بشأن امتلاك العراق للأسلحة المتطورة: "أن من حق العرب امتلاك الأسلحة التي يمتلكها عدوهم" ويقصد بها إسرائيل، وأعلن أن العراق راغب في إقامة سلام دائم وعادل، وطالب الرئيس بوش ببحث الأمر في الأمم المتحدة. وأضاف الرئيس صدام: "إن سياسة الممنوع على العرب يجب أن تولى إلى الأبد ... وسنرد على من يحاول العدوان علينا، وعلى حقوقنا، بكل ما نملك من الأسلحة" ولكنه أوضح أن شعار السلام واضح في سياسة العراق ومنهجه، ولكنه لن يتنازل عن أي حق للعرب أو للعراق (2).
من جهة أخري قادت الخارجية الأمريكية والبريطانية حملة قوية في البرلمان الأوروبي ضد العراق، ونجحت في استصدار قرار منه في شهر نيسان، يدعو إلى
_________
(1) حرب الخليج ـ أوهام القوة والنصر ـ محمد حسنين هيكل ـ ص239ـ241
(2) الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) لمؤلفه محمد مظفر الادهمى- ص 91(1/178)
الحظر الفوري على أي معدات لازمة لصنع أسلحة الدمار الشامل للعراق. تم قامت السلطات الأمريكية بطرد بعض الدبلوماسيين العراقيين بحجج متعددة، وصعدت إسرائيل من حملتها الإعلامية ضد العراق، بحجة اكتشافها وحدات عسكرية عراقية في الأردن لتهديدها، وأكد الإعلام الأمريكي اكتشاف طائرات الاستطلاع الأمريكية لقواعد الصواريخ في الأردن. وفي الثالث من نيسان اصدر البيت الأبيض بياناً وصف فيه حديث الرئيس صدام حسين عن إسرائيل، بأنه لا مسئول وباعث على الأسى، واقترح الرئيس بوش سحب هذا التصريح. كما قامت الإدارة الأمريكية بتبني وتنفيذ قرار تمنع تصدير السلع التي يمكن استخدامها عسكرياً في العراق. وقد دفعت هذه الحملة الرئيس صدام إلى الطلب من الملك فهد استدعاء سفير السعودية في واشنطون (بندر بن سلطان) إلى بغداد ليستمع إلى حقيقة الموقف العراقي ولينقله إلى الرئيس بوش.
وفي 12 نيسان 1990م التقى الرئيس صدام بوفد من الكونغرس الأمريكي، الذي طلب بكل صراحة أن يوقف العراق برنامجه العلمي، وأن يساهم في عملية التسوية، وان يتعهد بعدم التعرض لإسرائيل وبعد يومين فقط قال شامير: "إن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحرية العمل، لتدمير قواعد الصواريخ العراقية. وفي شهر مايو 1990م وصل وفد من الخبراء العسكريين والسياسيين الإسرائيليين إلى واشنطن ليخبرها: " أن ما يوحي به النظام العراقي من اعتداله، وطابعه الإصلاحي، هو من قبيل ذر الرمال في العيون، فبين شباط والوقت الحاضر لم يتوقف صدام حسين عن اتخاذ المواقف المتصلبة: طلب رحيل السفن الأمريكية من الخليج، دعا العرب إلى استخدام سلاح النفط، لم يكتف بتهديد إسرائيل ـ حليفة الولايات المتحدة، بل أشار إلى إمكانية استخدام الأسلحة الكيماوية؟ وبالنتيجة، لا يمكن إلا اعتبار تقوية الجيش العراقي وزيادة عدده وعتاده مؤشراً على إرادة صدام حسين العدوانية" (1).
_________
(1) حرب الخليج (الملف السري) بيار سالنجر، اريك لوران ـ ص43 - دار اذار للتوزيع والنشر/بيروت- ط1 1991(1/179)
وهكذا أصبح العراق والرئيس صدام حسين الموضوع المفضل في الإعلام الغربي والأمريكي، لتصويره على أنه الخطر الذي يهدد أمن المنطقة والعالم. ووسط هذه الحملة الإعلامية ضد العراق بدأت في شهر مارس 1990م التحضيرات لعقد قمة عربية طارئة في بغداد من أجل التضامن مع العراق، حيث وصف (بوش) هذه القمة بأنها أكبر تحد للولايات المتحدة (1)، التي أرسلت مذكرة للجامعة العربية، حاولت من خلالها أن تملى وتفرض على القمة المبادئ التي يجب أن يعتمدها الرؤساء العرب في مناقشاتهم وقراراتهم، وخصصت المذكرة مساحة واسعة منها للهجوم على العراق بشكل خاص.
وفي يوم 28 مارس 1990م افتتح الرئيس صدام مؤتمر القمة العربي الطارئ بخطاب كان يمثل بمجمله تحد واضح للولايات المتحدة الأمريكية، وإنذار صريح، ولكنه غير مباشر، للكويت والسعودية بشكل خاص. فقد اتهم الولايات المتحدة بتقديم الغطاء السياسي والقوة للكيان الصهيوني في عدوانه وتوسعه على حساب العرب. وأكد مطالباً: "يجدر بنا أن نعلن إننا سنضرب إسرائيل إذا اعتدت علينا". أما عن دول الخليج النفطية فقد أخبرهم بأن العراق يخسر مليار دولار في السنة، عن كل دولار ينقص من سعر البرميل الواحد بسبب عدم التزام دول الخليج النفطية بسقف الإنتاج المقرر في الاوبك، مما أوقع هذه الدول في حرج كبير، حيث التزمت بعضها بحصصها، اما الكويت فقد ظلت على سياستها السابقة. وبالرغم من المحاولات التي جرت بين العراق والكويت لحل خلافاتهم حول أسعار النفط والحدود والمسائل المالية، وحقل الرميله من خلال الحوار، إلا أنه وكما يبدو أن الحكومتان البريطانية والأمريكية عملتا على عرقلة التوصل إلى اتفاق وتأزيم الأمور، مما دفع العراق إلى استخدام أسلوب التحذير، بعد فشل كافة المحاولات للتوصل إلى حل مناسب للطرفين، حيث اعتبر العراق ذلك مؤامرة تحاك ضده وعدواناً مباشراً عليه من الكويت، وان العراق سوف يرد على هذا العدوان.
لهذا قدم طارق عزيز وزير الخارجية العراقي رسالة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية في 15 تموز 1990م خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب اتهم فيه
_________
(1) جريمة أمريكيا في الخليج ـ الأسرار الكاملة ـ محمود بكرى ـ ص 147(1/180)
الكويت بسلوك سياسة تتعمد إضعاف العراق، من خلال سيطرتها على أراضٍ عراقية، بالإضافة تعمدها إغراق سوق النفط بمزيد من الإنتاج، أدى إلى هبوط أسعار النفط إلى أسعار قياسية مما الحق أضراراً كبيرة بالعراق، كما اتهم الكويت بسرقة نفط من حقل الرميله. حيث اعتبر العراق ما يحدث عملية مدبره هي جزء من مخطط إمبريالي صهيوني ضد العراق والأمة العربية، وقد اعتبرت الرسالة هذه السياسة عدواناً مباشراً على العراق والأمة العربية. وقد أثارت هذه الرسالة نقاشات مختلفة بين وزراء الخارجية العرب، ولم يتوصلوا لأي نتيجة وانهار الاجتماع. وبعد يومين، أرسلت الكويت مذكرة جوابية، على رسالة وزير الخارجية العراقي إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، ولكنها لم تكتف بإرسالها إلى الجامعة العربية، بل أرسلتها إلى رئيس مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، وكان هذا يعني نية الكويت تدويل النزاع بينها وبين العراق (1).
وسط هذه الأجواء المتوترة ومع تقارير وكالات الأنباء التي بدأت تتحدث عن حشود عراقية تتجه نحو الجنوب، وعلى حدود الكويت، وصل إلى بغداد وزير الخارجية السعودي للحيلولة دون الصدام، حيث تم الاتفاق مع القيادة العراقية على عقد لقاء عال بين العراق والكويت يوم31 تموز 1990م في جده بين عزة إبراهيم وسعد العبد الله، للتوصل إلى حل، ولكن هذا الاجتماع فشل فشلاً ذريعاً، بسبب التعنت الكويتي المدعوم أمريكياً، وتآمر بعض الزعماء العرب الذين لم يكن هدفهم الوساطة، بل توريط العراق وإيقاعه في الفخ حسب السيناريو الأمريكي المعد مسبقاً ... فكان الغزو العراقي للكويت .. وكانت القمة العربية التي شرعت التدخل الأجنبي (الأمريكي) لحل النزاع. وهذا ما كانت تسعى إليه أمريكا منذ البداية للسيطرة على المنطقة، وضرب القوة العراقية التي باتت تهدد مشروعها الصليبي في المنطقة (إسرائيل).
مما تقدم يتضح انه لم يكن في نية العراق احتلال الكويت، وإنما كانت منازعات ومخاصمة كلامية حول موضوع بترول العراق الجنوبي المستنزف، بالإضافة إلى النزاع على الحدود. وقد بدلت الحكومة العراقية بعد انتهاء الحرب مع إيران جهوداً
_________
(1) الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) لمؤلفه محمد مظفر الادهمى- ص 109 وما بعدها(1/181)
مضنية وجدية لحل هذه المشكلة، إلا أن حكومة الكويت وبإيعاز بريطاني أمريكي تمسكت بردود فعل تتسم باتخاذ مواقف متشددة بلغت ذروتها في اجتماع جدة (1)، وما تبعه من احتلال للكويت، حيث أن واشنطن قررت أن الأوان قد آن لتحطيم القدرة العسكرية العراقية ويجب توظيف مجلس الأمن لهذا الغرض، حيث تمكنت من الحصول علي قرار دولي يجيز استخدام القوة ضد العراق، بعد رفضها كافة الحلول السلمية للأزمة. وتذكر (فيليس بينس) أن الإدارة الأميركية لم تسمح لمجلس الأمن بمناقشة مشروع انسحاب عراقي من الكويت، جاء به في اللحظة الأخيرة من بغداد (ييغينوف بريماكوف) وزير الخارجية الروسي آنذاك. بل وأثناء التصويت على القرار رقم 678 الذي خول الولايات المتحدة باستخدام القوة, قامت واشنطن برشوة أعضاء المجلس ـ الدائمين وغير الدائمين ـ المترددين في التصويت وأهمهم الصين، وكولومبيا، وأثيوبيا. والدولة الوحيدة التي عارضت استخدام القوة هي اليمن, دفعت ثمنا غاليا لقاء ذلك. إذ فور أن رفع (عبد الله صالح الأشطل) مندوب اليمن في مجلس الأمن يده معارضاً القرار مال عليه أحد المسئولين الأمريكان وهمس في أذنه "إن تصويتك هذا سوف يكون أكثر كلفة من أي تصويت قمت به من قبل على الإطلاق" (2).
واستناداً إلى روايات وكتابات عدة، فإن الأزمة في العراق بدءاً من احتلال الكويت إلى احتلال العراق افتعلت لخوض حرب، وكان يمكن حلها دبلوماسياً، وكان هذا رأي (كولن باول) عام 1990م عندما كان رئيساً لأركان الجيش الأميركي، (وجيمس بيكر) وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ولكن (سكوكروفت) مستشار الأمن القومي عام 1990م كان يرى أن هذه الأزمة تقدم فرصة لا تعوض للحرب، وإبقاء نصف مليون جندي في المنطقة إلى أجل غير محدد، وأن انسحاب صدام من الكويت سيفوت فرصة الهيمنة على المنطقة (3). ولهذا فقد كان احتلال العراق للكويت لحظة، تاريخية للولايات المتحدة تنتظرها بلهفة، بل إنها استدرجت النظام السياسي
_________
(1) دول محور الشر الإرهابية - أمريكا .. بريطانيا .. إسرائيل ـ محمد عبد الحميد الكفري ص27
(2) العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب تأليف أنتوني آرنوف (محرر) - ص 41 - خدمة كمبردج بوك ريفيو
(3) حرب آل بوش - تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة(1/182)
العراقي والمنطقة إلى تلك اللحظة التي تتيح لها السيطرة العسكرية على منطقة الخليج العربي، والتحكم بالنفط، ومن ثم الهيمنة على العالم (1). ولهذا كان القرار السياسي العسكري باستخدام القوة يحاول كسب الوقت وتسريع التنفيذ من ناحية, وحشد الحلفاء وإقناعهم بأنه لا يمكن تأخير الخطوة العسكرية أكثر مما تأخرت. بل إن الخشية الكبرى كانت تنبع من احتمال أن يقيم صدام حسين نظاماً صورياً في الكويت وينسحب منها فوراً, وهو ما سمي بـ"السيناريو الكابوس" كما يقول تشومسكي (2).
الهدف حماية إسرائيل وليس تحرير الكويت!!
من العرض السابق اتضح لنا حجم المؤامرة التي دبرتها أمريكا لتدمير القوة العسكرية العراقية، من أجل حماية مشروعها الصليبي "إسرائيل"، وليس كما بدا لكثير من المخدوعين، من اجل تحرير الكويت. ونزيد الأمر إيضاحاً فنضيف إلى ما تقدم بعض الحقائق.
مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية أعدت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي تقريراً قالت فيه أن العراق سيكون الدولة المرشحة الأولي لإشعال فتيل الحرب مع إسرائيل، وانه إذا ما اشتعل هذا الفتيل فأن الدول العربية الأخرى ستنظم لتأييده. وأضاف التقرير أن العراق يسعى للثأر من إسرائيل بسبب تدمير الطيران الإسرائيلي للمفاعل النووي العراقي عام 1981م، ولمواجهة التهديدات الإسرائيلية المستمرة التي تهدف إلى تحجيم القوة العسكرية العراقية والتي باتت تهدد إسرائيل بشكل مباشر. وعندما خرج العراق من حربه قوياً منتصراً عام 1988م اعتبرته الولايات المتحدة الأمريكية اكبر قوة عسكرية في المنطقة، وانه سوف يستخدم قوته ضد إسرائيل. ولهذا بذلت أمريكا جهوداً سياسية مباشرة مع العراق، ومن خلال بعض الأنظمة العربية أيضاً لإقناعه بالتخلي عن مبادئه وسياسته المتعلقة بالموقف من إسرائيل إلا أنها لم تفلح، مما دفعها إلى زيادة الدعم العسكري
_________
(1) زلزال في أرض الشقاق العراق (1915ـ2015) ـ كمال ديب ـ عرض/ إبراهيم غرايبةـ المصدر: الجزيرة ـ 19/ 2/2004م
(2) العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب تأليف أنتوني آرنوف (محرر) - ص 50(1/183)
لإسرائيل وبالشكل الذي يردع العراق عن القيام بأي عمل عسكري ضدها وهنا بدأت التصريحات الإسرائيلية الاستفزازية للعراق. "ففي 30 آذار 1990م أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي (أهود باراك) أن إسرائيل لابد أن تكون جاهزة لضربة وقائية ضد العراق في أي وقت تشعر فيه أن قوته خطر عليها. تم تبعه اسحق شامير بالقول: إن إسرائيل سوف تهاجم العراق إذا أحست انه اقترب من إنتاج أسلحة نووية. ولكن سرعان ما جاء الرد العراقي المشهور على تلك التهديدات ففي 2 أبريل 1990م أطلق الرئيس العراقي صدام حسين تصريحا قويا شغل العالم، وبدأت أزمة إقليمية وعالمية، فقد ذكر في لقاء مرئي مع الضباط العراقيين، أن الباحثين العراقيين استطاعوا تطوير صناعات عسكرية متقدمة وأن العراق قادر إذا هددته إسرائيل على أن يحرق نصفها (1).
وهنا قررت إسرائيل القيام بعملية عسكرية جديدة ضد العراق، بعد أن وصلتها معلومات عن امتلاك العراق تسع مخابئ للأسلحة الكيماوية، بالإضافة إلى مخبأين للصواعق النووية، حيث وصل إلى واشنطن في شهر نيسان 1990م وزير الدفاع الإسرائيلي (موشيه ارنيز) للتشاور حول الموضوع مع الأمريكان. وقد أوضح (ارنيز) للمسئولين الأمريكان بان العراق سيهاجم إسرائيل، وطلب المساعدة الأمريكية في توجيه ضربه له وأضاف: ليس من صالحنا أو صالحكم الإبقاء على صدام حسين ... أو الإبقاء على قوته العسكرية.
وبعد عودة (ارينز) إلى إسرائيل، تزايدت حدة التهديدات الإسرائيلية بضرب العراق، ولكن لم يحدث الهجوم لان الرئيس الأمريكي (بوش) ورئيسة الوزراء البريطانية (تاتشر) طلبا من شامير الاكتفاء بالحملات السياسية والإعلامية، وإظهار روح التحدي ضد العراق دون عمل عسكري مباشر. ذلك أن الأمريكان كانوا لا يريدون أن يجمعوا العرب مع العراق، وبقيادته ضد إسرائيل، وإنما أرادوا أن يجمعوا الأنظمة العربية مع إسرائيل ضد العراق، فجاءت عملية حماية إسرائيل من خلال الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق، بدعوى تحرير الكويت (2).
_________
(1) حرب آل بوش - تأليف/ أريك لوران، ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة
(2) الطريق إلى حرب الخليج (من موهافى إلى الكويت) لمؤلفه محمد مظفر الادهمى ص51ـ57(1/184)
لقد كانت الغارات الأميركية صباح يوم 17 يناير/ كانون الثاني 1991م تستهدف كل المنجزات العراقية مما يبدو للوهلة الأولى، لا علاقة له بما سميت زوراً بحرب تحرير الكويت، القصور الجمهورية والوزارات والمؤسسات العامة والجسور ومحطات الطاقة والمطارات ومصافي البترول والمصانع، ومحطات التكرير الصحية، ومصانع الأغذية وخطوط السكة الحديدية، ومصانع النسيج ومحطات الري، والمدارس والمستشفيات ومعمل لحليب الأطفال. وتعرض العراق لقصف لم يستخدم في كمه ونوعه حتى في الحرب العالمية الثانية، فقد نفذت القوات الأميركية 110 آلاف طلعة جوية وأنزلت 85 ألف طن من المتفجرات، وانسحب العراق من الكويت، ولكن تواصلت حرب الاستنزاف والحصار عليه دون رحمة حتى جرى احتلاله عام 2003 (1).
إنجازات صدام
قبل أن ننتقل إلى القسم التالي من الكتاب لابد أن نشير ولو بإيجاز إلى الإنجازات التي تحققت في عهد الرئيس الراحل صدام حسين والتي دفعت أمريكا للتآمر عليه بمساعده بعض الدول العربية، من اجل حماية مشروعها الصليبي في المنطقة (إسرائيل). أما لماذا الحديث عن الانجازات، فإن مرد ذلك للتذكير في زمن الأكاذيب الأمريكية التي تقلب الأبيض أسود، وتصنع من الأبطال مجرمين، ومن العاهرين والداعرين أنبياء ومخلصين. فالرحل صدام حسين في ذمة الله، ولا يملك الفرصة لدفع الأكاذيب التي ألصقت به، ولكن الواقع الذي يعيشه العراق الآن هو أفضل دفاع يمكن أن يستدل به على انجازات الرجل وكذب وخسة المحتل وأعوانه.
فخلال فتره حكمه للعراق تمكن الرئيس صدام حسين من تحقيق انجازات عديدة للعراق برغم كل محاولات الإساءة والتضليل التي نسجت حول فترة حكمة، فمنذ وجوده الأول عام 1968م وحتى سقوط بغداد حقق نظام صدام حسين العديد من الانجازات. فمنذ البدء عام 1972م أمم صدام حسين النفط، وكانت هذه الخطوة
_________
(1) زلزال في أرض الشقاق: العراق 1915 - 2015 - كمال ديب؛ تقديم جورج قرم. - ط.1 - بيروت، لبنان: دار الفارابي، 2003. عرض/ إبراهيم غرايبةـ المصدر: الجزير ـ19/ 2/2004م(1/185)
الأولى على طريق رصد هذا الرجل ونظامه وماذا يفعل في العراق. في عام 1972م كان المدخول النفطي للعراق ثمانمائة وأربعين مليون دولار، وفي العام 1981م حسب النشرة الاقتصادية لمجلة الشرق الأوسط وصل مدخول العراق من النفط25.9 مليار دولار، هذه النقلة الأولى لوضع البلد خارج النفق، فالعراق بدأ بتأميم النفط ثم تقدم في خطواته نحو نوع من تصنيع البلد، وجعله في مصاف أوائل دول العالم الثالث، وهناك تقرير من هيئة الأمم المتحدة يقول بأن النظام الصحي، والنظام التعليمي، هو الأول في بلدان العالم الثالث، هناك ثلاثة آلاف كيلو متراً طولية من السكك الحديدية والأوتوسترادات بناها نظام صدام، هناك المطارات وهناك السدود وهناك المحطات النووية وهناك المفاعلات الذرية وهناك تحديث العسكرة وهناك ما لا يمكن أن يحصى، هناك ثمانية ملايين دونم زراعي العام 1972م انتقلت إلى 25 مليون دونما زراعيا تستخدم منه الآلات الزراعية الحديثة، ويكاد يكون لكل فلاح صاحب قطعة من الأرض جرار آلي.
الوزير الفرنسي الأسبق (جان بيير شوفينمان) وهذا لم يكن من أزلام ولا من فلول صدام قال ذات مرة عشية استقالته وهو وزير دفاع من منصبه لأنه رأى بأم عينه بأن ما يحدث هو ليس تحرير للكويت بل تدمير العراق لذلك قدم استقالته قال بالحرف الواحد: في غضون قرن لثلاث مرات، يقوم الغرب بتحطيم حلم نهضة عربية بدأت من محمد علي باشا ومروراً بجمال عبد الناصر وانتهاءً بصدام حسين. هذا الذي قاله جان بيير شوفينمان وهو ديغولي ومن الديغوليين الكبار وليس من الناس الذين ممكن أن نحسبهم على خانة فلان أو عِلان، حسب تقييماتنا وتصنيفاتنا في الشرق العربي. http://www.aljazeera.net/programs/op_direction/articles/2004/7/7-11-1.htm - TOP#TOP
( جون بلجر) صاحب كتاب سادة العالم يقول بالحرف الواحد: إن أكثر نظام في العالم العربي استثمر في البنى التحتية وفي الاقتصاد، وفي دعم شعبه، هو صدام حسين كم من المليارات التي أُنفِقت على الطلبة العراقيين في العالم إلى ما هنالك في فترة من الفترات، كان العراقيون يستوردون البقدونس بطائرات خاصة، لماذا يتناسى البعض كل ذلك والآن لا يتذكرون منه إلا جرائمه؟.(1/186)
هذا العمل المنهجي، هذا العمل التحويلي الانتقالي من واقع إلى واقع آخر، سيلقى صدودا من قوى تقليدية موجودة في العراق تتحدث عن إعدامات، وعن جرائم، ومقابر جماعية، وغيرها، وهذه محددات ابن خلدونية التي قالت بالقبيله، والعصبية القبلية، والطائفية، والمذهبية، والمغنم. هذه محددات ابن خلدون موجودة في العراق، كما أنها موجودة في كامل الوطن العربي، هذه المحددات تقول فيما تقول بأنه بعد (الواثق) الخليفة العباسي السابع، لم يذهب خليفة إلى ملاقاة ربه بصورة طبيعية، بل ذهب كل خليفة إما غيلة، أو قتلا أو سملا للعيون أو دسا للسم هكذا كان العراق في تاريخه وهكذا كانت المنطقة العربية كلها، محددات ابن خلدون تتحدث عن واقع عصبوي قبلي طائفي، لا تستطيع المنطقة أن تخرج منها؛ لأنه نحن نُحكَّم بماضينا في حاضرنا.
أليس كل هذا وغيره كثير من إنجازات ومن إيجابيات صدام حسين؟ إلى متى نظل نقول أنه الديكتاتور؟ لو أن الحكام العرب كلهم تساووا في الديكتاتورية أرى أن الرئيس صدام حسين تميز عنهم في أنه لم تكن في العراق سفارة صهيونية على أرض العراق ولم يُرفَّع علم صهيوني على أرض العراق ولم يضع يده في يد شارون أو بيغن أو موفاز أو شامير أليست هذه من إيجابيات الرئيس القائد صدام حسين؟ في عددها التذكاري الصادر عام 1976م بماسبة حرب أكتوبر قالت مجلة الهلال المصرية: تعتبر المشاركة العراقية في حرب أكتوبر من أبرز معالم التضامن العربي على الرغم من عدم علم القيادة العراقية وعدم التشاور معها في الحرب لكن بعد سماع النبأ عبر المذياع أرسل العراق ثلاثة أرباع قواته الجوية وثلث قواته المدرعة وخمس قواته المشاة أي أن العراق كان القوة العربية الثالثة كانت مصر وسوريا والعراق.
وعندما تباهى مناحم بيغن بأنه هو الذي أسس لعلاقة إيجابية مع الأكراد لذبح المزيد من جنود بغداد وعندما تباهى بأنه هو الذي دمر المفاعل أوزيرات في العراق أجابه إيفين يعقوب أيفين رئيس تحرير جريدة علهمشمار في 89/ 3/1990م بقوله: نصيحتي لقادة إسرائيل وهي أن يثقوا بما يقوله صدام حسين حيث أقواله غالبا ما تصاحب أفعاله فالبرج المنطقي الذي بناه وعرضه، ثابت وسليم ومستمر وإمكانيات(1/187)
العراق قادرة على إعطائه إشارة البدء بالعمل، إن برج صدام البابلي يتكامل وهو هنا برج الإمكانية والاستعداد والتأسيس لا بنهضة علمية واقتصادية وعسكرية فحسب بل وبطموح تكنولوجي موازي أيضا تخصيب اليورانيوم إنه يستعد الآن لكي يضرب غدا وهذا المقال عنوانه" السرب الأول يعقوب إيفين علهمشمار.
في عام 1972م رفع صدام حسين شعار نفط العرب للعرب في الوقت الذي يُقتَّل فيه العربي بالنفط العربي أليست هذه من إيجابيات صدام حسين؟ في الوقت الذي وصلت فيه الأمية في بعض الدول العربية إلى أكثر من 50%، كانت العراق باعتراف من منظمة اليونسكو التي قال تقرير لها: إن ثلاثة أعشار في المائة نسبة الأمية في عهد صدام، إن 24 ألفا من علماء العراق هم ثروة الأمة أين تعلموا هل تعلموا في سفارات واشنطن أو بين أحضان سيدات أوروبا؟ لقد تعلموا في الجامعات العراقية أين كانوا هم هل هناك دولة عربية عرضت على أن تحمي هؤلاء العلماء؟ إن هؤلاء العلماء آرائهم هي التي جعلت أميركا والصهاينة يضربون العراق.
إن شيطنة صدام حسين جرى صناعتها عبر تاريخ طويل من الأكاذيب، يعني أبلسته وجعله إبليس يعني جحيم دانتي في حلابجة والمقابر الجماعية التي أُسِس لها هذا التاريخ الطويل (1). ففي نهاية عقد الثمانينات، وخلال عقد التسعينات، انفق النظام العالمي الجديد ووسائل الإعلام، ملايين الدولارات في تصوير الرئيس (صدام حسين) على انه شيطان العصر، إلى الدرجة التي أضحى يعتبر بها من قبل 95% من الرأي العام الغربي (سفاح بغداد). ولم يكن صدام فقط تلك الشخصية الشريرة التي تحاول تصنيع أسلحة الدمار الشامل كما هي صورته لدى أولئك القابعين في أمريكا، ولكنه ـ كذلك ـ الطاغية الذي سمم شعبه الكردي في حلبجة. لم يكن الرئيس العراقي من قام بهذا العمل، بناء على تقرير الكلية الحربية الأمريكية الذي اثبت أن أكراد حلبجة ماتوا ـ كنتيجة مباشرة ـ لهجوم إيراني بغاز الفسجين. لكن الإعلام الغربي الواقع في قبضة اللوبي اليهودي، لم يكن ليسمح للحقيقة بالظهور في
_________
(1) محاكمة صدام بين الرفض والإدانة - برنامج الاتجاه المعاكس - تقديم فيصل القاسم ـ 6/ 7/2004م(1/188)
حملته المسعورة لتشويه صورة النظام العراقي، ورسم صوره شيطانية جديدة لصدام حسين (1).
إعدام صدام حسين
مباشرة بعد صلاة عيد الأضحى المبارك في بغداد تم أعدام صدام حسين بينما جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يحتفلون بتقديم الأضاحي لله عز وجل ابتهاجا بعيد الأضحى المبارك، وبصرف النظر عن تمثيلية المحاكمة المهزلة، فإن إعدام الرئيس العراقى كان قراراً سياسياً مدروساً من حيث تنفيذه وتوقيته من جانب الإدارة الأميركية. الهدف من التنفيذ البشع والاستعراضى هو الانتقام، والهدف من التوقيت هو المزيد من إهانة الأمة العربية. صدام لم يكن رئيس دولة عربية كبرى وحسب، بل ترأس عدداً من مؤتمرات القمة العربية، أى أنه كان في لحظة ما رئيس الأمة العربية.
لم ُيعدم الأميركيون أسيرهم صدام لأنه وافق على إعدام 148 مواطناً في الدجيل قبل ثلاثين عاماً، فهم يقتلون مثل هذا العدد أو أكثر منه كل يوم. ولم يقتلوه لأنه كان دكتاتوراً فصدام ليس نسيجا وحده بين الحكام. ولم يقتلوه لأنه حارب إيران فقد وقفوا إلى جانبه حينها. ولم يقتلوه لأنه اجتاح الكويت وضمها فقد جس نبضهم عندما أبلغهم بذلك سلفاً ولم يعترضوا. الذين أعدموا صدام أعدموه لأنه بنى صناعة حربية، وانتج صواريخ، وبدأ مشروعاً نووياً، وهدد أمن إسرائيل كدولة احتلال، وكاد يسيطر على البترول العربى لاستعماله كسلاح لاسترداد الحقوق العربية المهضومة. وقوف صدام في وجه الاحتلال بصلابة محا كل خطاياه السابقة للاحتلال، وإعدامه على يد الاحتلال الأميركى جعله شهيداً وأدخله التاريخ كرمز للإرادة القومية ورفض الخضوع، جنباً إلى جنب مع الذين شنقهم العثمانيون في دمشق، والانجليز في فلسطين، والإيطاليون في ليبيا.
فصدام رغم كل المؤاخذات، سجل السبق بقصف إسرائيل، ورفع مستوى التعليم في بلاده .. ودعم بعض الدول العربية .. وحتى بعد وقوعه في الأسر فقد بقي
_________
(1) العراق أولاً - حرب إسرائيل الخاطفة على نفط الشرق الأوسط (عملية شيخينا) - تأليف جوفيالزـ ترجمة مروان سعد الدين ص13 - الاوائل للنشر والتوزيع/ دمشق- ط1 2003(1/189)
مرفوع الرأس مرتفع المعنويات ولم يركع ولم يهادن .. بل ظل يحترم شعبه وقد بعث له رسالة للوداع جاء فيها: ها أنا أقدّم نفسي فداءً.(1/190)
الفصل الثاني
الخلفية الدينية للهجمة الأمريكية البريطانية على العراق
يحتل العراق مكاناً رئيسياً في فكر الحركة الأصولية المسيحية المعاصرة، بسبب ارتباطه كأرض وشعب وحضارة، بأهم حادثه تعرض لها اليهود في تاريخهم وهى السبي البابلي، مما جعله يرتبط مباشرة بكثير من العقائد المسيحية المستمدة من التوارة وسفر الرؤيا بالذات، والتي سطرها أنبياء اليهود خلال السبي البابلي وبعده، كفكرة المسيح المنتظر، وقيام معركة (هرمجيدون) بين قوى الخير والشر، وغيرها من الأفكار، التي انتقلت إلى المسيحية مع ما يسمى بحركة الإصلاح الديني البروتستانتي. فكما كان للبعد الديني أثر رئيس في صياغة السياسة الأمريكية البريطانية المتحيزة لإسرائيل، فإن هذا البعد كان له نفس الدور في صياغة هذه السياسة تجاه العراق والمنطقة، حيث لعب التيار الديني المسيحي البروتستانتي دوراً رئيساً في صياغة هذه السياسة، انطلاقاً من إيمان إتباع هذا التيار، بحرفية النصوص التوراتية وبنبوءاتها المزيفة التي يعملون على تطبيقها حرفياً على ارض الواقع اعتقاداً منهم بأنهم ينفذون أمرا ألهيا، للتعجيل بالعودة الثانية للمسيح.
فمن خلال عرضنا السابق اتضح لنا، أن الحرب الأمريكية على العراق لم تكن لتحرير الكويت، بل أنها كانت حرب مبرمجه ومخطط لها مسبقاً من اجل حماية مشروعها الصليبي في المنطقة (إسرائيل)، ولهذا فإن الهجمة الشرسة التي يتعرض لها العراق الشقيق منذ عام 1990 وحتى الآن، والتي لم تنتهي باحتلاله من قبل أمريكا، لا يمكن تفسيرها على أساس أنها تطبيق لقرارات الشرعية الدولية، بل يمكن فهمها فقط على أساس أنها تطبيق حرفي للنصوص التوراتية ونبوءات وردت في العهد القديم توعدت مضطهدي إسرائيل بالدمار والخراب. فبابل العراق هي التى سبت اليهود ودمرت الهيكل، وآشور من قبله قامت بنفس الشئي. ولذلك يرى(1/191)
إتباع التيار الديني الأصولي في أمريكيا أنه لا بد من الانتقام من كل مضطهدي إسرائيل تنفيذاً لما ورد في التوراة!.
فالحرب الأمريكية على العراق لم تكن كرامة سواد عيون الكويتيين أبداً، ولا لحمايتهم من العدوان العراقي أو لتخليصهم من الاحتلال العراقي للكويت ... بل كما يقول د. صالح زهير الدين: "بأن العدوان الأمريكي والبريطاني على العراق ومن بعده الحصار والعقوبات، لها جذورها التي تتغلغل عميقاً في التاريخ بدءاً من الحقد اليهودي المتجذر في (عقدة الأسر البابلي) مرورا بتنامي عقيدة (الصهيونية المسيحية) في كل من بريطانيا والولايات المتحدة وتطلعها لاستعجال عودة المسيح المنتظر، وصولا إلى تحكم رؤوس هذه الصهيونية في قرارات ومؤسسات هاتين الدولتين، ليأتي أسلوب الحصار والعقوبات ضد العراق كإحدى إفرازات هذه العقلية ونتائجها المباشرة".
ويضيف: "ومن هذا المنطلق نرى أن التركة الثقيلة التي ورثها العراق من الإمبراطورية الآشورية والبابلية مثلت جوهر العداء التاريخي اليهودي للعراق، لان (عقدة الأسر البابلي) كانت لا تزال إحدى اكبر العقد التاريخية اليهودية وأهمها في التاريخ اليهودي. ولهذا سيبقى العراق كما كان منذ تاريخه ـ عقدة يهودية تلاحقه إلى الأبد، طالما هناك يهودي واحد مأسور في عقدة (الأسر البابلي) هذه ومرهون لها .. إذ ليس هناك مثل العراق أرضاً، احتلت في الأيدولوجيه الصهيونية ومصادرها الأولى مكانة مشحونة بتراكم من العناصر التاريخية والدينية بعد أن أقام العبرانيون في ارض العراق أكثر من ألفي سنه، وارتبطت بهذه الأرض أهم واعنف واقعة في تاريخهم وهي (الأسر البابلي) " (1).
ولذلك لا يخلو الفكر المعاصر للصهيونية، من شحنة دينية في النظرة إلى هذا البلد، حيث يتخذ الاهتمام الصهيوني بالعراق من وعد ألهي مصدراً له، منسوباً إلى وصية في التوراة لإبراهيم أن "لنسلك أعط هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر
_________
(1) خلفيات الحصار الامريكى البريطاني للعراق - د. صالح زهير الدين ـ ص 8(1/192)
الكبير "الفرات" (1)، حيث تحولت هذه الوصية إلى دعوة معاصره كما وردت على لسان موشي دايان، بعد ساعات من دخول مدينة القدس، في السادس من حزيران/ يونيو سنة 1967م، حيث قال: "لقد استولينا على أورشليم ونحن في طريقنا إلى يثرب وبابل".
هذا ولم يغب هذا الهاجس القديم عن كثير من المواقف المتعلقة بالعراق حيث أطلق زعماء الحركة الصهيونية على حملة تهجير اليهود ونقلهم من العراق إلى فلسطين أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات من هذا القرن اسم عملية (عزرا ونحميا) إشارة إلى الكاهنين اليهوديين الذين خرجا من بابل ووضعا العهد القديم، لتشبيه خروج اليهود منتصف هذا القرن من العراق بخروجهم من الأسر البابلي في العراق قبل أربعة آلاف سنه (2)، وذلك في إطار إصباغ الصبغة الدينية على هذه الحملة وكأنها جاءت تحقيقاً لنبوءات التوراة.
على هذا الأساس، ليس من الغرابة أن كانت أهداف اليهودية المتعلقة بالعراق هي ذاتها أهداف الصهيونية المسيحية، في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، التي تتخذ التوراة قاعدة ومنطلقاً، ومن الأسر البابلي محوراٌ للاقتصاص من العراق في كل عصر وزمان، وليس في عصر الرئيس صدام حسين فقط (3). وهذا هو ما يحدث الآن في ظل غياب الوعي العربي لكل ما يحدث، والذي جعلنا للأسف نقبل، ليس فقط بتدمير العراق، بل بقتل أطفاله وتجويع شعبه بحجة تطبيق قرارات الشرعية الدولية، التي لا تطبق إلا على العرب فقط؟! والذي جعلنا نقبل أيضا بفرض حصار جائر على ليبيا لمجرد أن سيادة الرئيس ريجان وأتباع التيار الديني
_________
(1) تبين لنا قراءة النصوص المقدسة في منطقة الشرق الأوسط أن جميع شعوب المنطقة من بلاد النهرين إلى مصر بما في ذلك الحيثيون، قد تلقوا وعوداً مماثلة، حيث كان الإله يعد كل شعب بالأرض. ففي مصر، نجد المسلة الضخمة في الكرنك، والتي شيدت في عصر تحتمس الثالث بين عامي 1480م و1475م قبل الميلاد، تمجيداً لانتصاراته في غزوة مجيدو وقادش وقردميش (الواقعة على نهر الفرات)، وقد دونت عليها عبارة الإله: أمنحك هذه الأرض بامتدادها في جميع الجهات لتكون لك شرعاً. لقد جئت لأزودك بكل السبل لكي تجتاح الأراضي الغربية. وعلى الجانب الآخر في منطقة الهلال الخصيب في بلاد ما بين النهريين، نجد في أنشودة الخلق البابلية، أن الإله مردوخ "يحدد لكل نصيبه" ويأمر ببناء بابل وتشييد معابدها. ومن مصر إلى بلاد ما بين النهريين، كان الحيثيون ينشدون لربة الشمس قائلين: أنت تحرسين امن السموات والأرض، وتعيين حدود الأرض. الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - روجيه جارودى ـ ص45
(2) خلفيات الحصار الامريكى البريطاني للعراق - د. صالح زهير الدين ـ ص 9
(3) المصدر السابق - ص 14(1/193)
الأصولي كانوا يعتقدون أن ليبيا هي من قوى الشر التي ستهاجم إسرائيل في معركة هرمجيدون الذي بدأ العد التنازلي لإشعالها في المنطقة تنفيذاَ لنبوءات التوراة!!
يقول الاستاذ شفيق مقار: "بطبيعة الحال، قد يقع أي استشهاد بنصوص التوراة في سياق معاصر كهذا كضرب من الأغراب أو كإصرار على (إضاعة الوقت في هذه التواريخ القديمة). إلا أنه قد يحسن بشعوبنا وحكامنا ومفكرينا إن لم يكن لشيء فلغلبة التقوى الدينية العارمة على أدمغة الأميركيين المتعجلين للمجيء الثاني وابتداء العصر الألفي السعيد ـ أن يضيعوا قليلاً من الوقت في التأمل في نوعية (النبوءات) التي يعجل الأميركيون منذ بضعة عقود بالإعداد العملي لتحققيها، لا فيما يخص فلسطين والبلاد العربية، بل فيما يخص كافة دول العالم. فتلك (التواريخ القديمة) فاعلة فعلها في هذه الأيام، من خلال وحش اليهوَ ـ مسيحية ذي الأنياب القادرة على التمزيق، محققة الشهوات القديمة إلى الأرض، كل الأرض، لا أرض (أولئك الفلسطينيين) فقط ومشبعة سعار العداوات القديمة الراقدة في الروح، كخراريج الجحيم وشهوة الانتقام التي جعلت من صلوات شعب الله المختار وصلوات اليهوـ مسيحيين الأتقياء في سفر المزامير الذي لم يكف ولا يكف رؤساء أميركا عن الاستشهاد به، صلاة تقول:
"كيف نرنم ترنيمة للرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني ليلتصق لساني بحنكي أن لم أذكرك أن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحى. اذكر يا رب لأعدائنا يوم أورشليم القائلين هدوا هدوا حتى أساسها. يا بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا طوبى لمن يمسك أطفالك ويهشم على الصخرة رؤوسهم" (1)؟!!
أحقاد قديمة بثوب معاصر
ربما تكون الفقرة السابقة واضحة في تفسير الأسباب الحقيقة للعدوان الأمريكي البريطاني على العراق، باعتباره تنفيذاً لنبوءات وأوامر توراتية، وليست كما
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار - ص 449(1/194)
تزعم هاتان الدولتان، بأنه جاء لتحرير الكويت وتطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وغيرها من الادعاءات. ودعونا نقارن ما يحدث على الأرض الآن بما جاء في التوراة اليهودية الحاقدة، بشأن العراق، شعباً وأرضاً.
التوراة وآشور العراق
لعبت الإمبراطورية الآشورية التي دامت بين سنه 626ـ911 ق. م دوراً مهماً في تغيير وجه الشرق، حيث حكمها خلال هذه الفترة خمسة عشر ملكاً، وبلغت الإمبراطورية أوج عظمتها واتساعها في عهد بعضهم، بحيث ضمت جميع أراضي الهلال الخصيب ومن ضمنها أجزاء من مصر. ولقد لعبت هذه الإمبراطورية دوراً رئيسياً في القضاء على مملكة إسرائيل نهائياً وسبى سكانها. ففي عهد سرجون الثاني، تم احتلال عاصمة مملكة إسرائيل (السامرة) ومن تم القضاء على مملكة إسرائيل نهائياً في عام 722 ق. م (1). كما أن الآشوريين شنوا حملات أخرى على مملكة يهودا في عهد سنحاريب، واجبروا اليهود على دفع الجزية.
وبالرغم من أن مثل هذه الحروب كانت أمر عادى بين ممالك المنطقة في ذلك الوقت، إلا آن اليهود دون غيرهم خلدوا هذه الحروب في توراتهم، وانزلوا اللعنات والويل والدمار بالشعوب والدول التي قامت بها. فقد تنبأ الكاهن ناحوم، بدمار نينوى عاصمة مملكة أشور .. لأنه حسب ما جاء في التوراة: "لاقوا هذا المصير من جراء كبريائهم ووحشيتهم". ويصف ناحوم بقسوة أسباب دمار نينوى فيشير إلى عبادتها للأصنام، وفظاظتها، وجرائمها، وأكاذيبها، وخيانتها، وخرافاتها، ومظالمها، ولأنها كانت مدينة مليئة بالدم، ومثل هذه المدينة لا يحق لها البقاء، كما يزعم هذا الكاهن الممتلئ حقداً على أشور.
وحي بشأن نينوى، كما ورد في كتاب رؤيا ناحوم الالقوشى
"الرب إله غيور ومنتقم وساخط ينتقم من أعدائه، ويضمر الغضب لخصومه ... من يصمد أمام سخطه؟ من يتحمل فرط اضطرام غضبه؟ ينصب غضبه كالنار
_________
(1) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة - ص642(1/195)
وتنحل تحت وطأته الصخور. الرب صالح، حصن في يوم الضيق، ويعرف المعتصمين به. ولكنه بطوفان طام يخفى معالم نينوى، وتدرك الظلمة أعدائه" (سفر ناحوم1، 2ـ8). وتضيف التوراة الحاقدة: "منك خرج يا نينوى من تآمر بالشر على الرب، والمشير بالسوء .... وهذا ما يقوله الرب: مع أنكم أقوياء وكثيرون فإنكم تستأصلون وتفنون. أما انتم يا شعبي فقد عاقبتكم أشد عقاب ولن أنزل بكم الويلات ثانية. بل أحطم الآن نير أشور عنكم، وأكسر أغلالكم. وها الرب قد أصدر قضاءه بشأنك يا أشور: لن تبقى لك ذرية تحمل اسمك. وأستأصل من هيكل آلهتك منحوتاتك ومسبوكاتك، وأجعله قبرك، لأنك صرت نجساً" (سفر ناحوم 1، 11 - 14) (1).
حصار نينوى: "قد زحف عليك المهاجم يانينوى، فاحرسي الحصن وراقبي الطريق، منعي أسوارك، وجندي كل قوتك. لأن الرب يعيد بهاء يعقوب ومجد إسرائيل، ... نينوى كبركة نضبت مياهها، إذ فر أهلها. وتعلو الصرخة: "قفوا، قفوا". ولا من مجيب يلتفت، انهبوا الذهب، لا نهاية لكنوزها أو لنفائس ثروتها" (سفر ناحوم 2، 1ـ9).
صرخة الخراب
"أين نينوى عرين الأسود ومرتع الأشبال ... ها أنا أقاومك. يقول الرب القدير. فأحرق مركباتك فتصبح دخاناً، ويلتهم السيف لحوم أبنائك، وأستأصل من الأرض غنائمك ولن يتردد في ما بعد صوت مندوبيك" (سفر ناحوم 2، 11ـ13).
خطايا نينوى
"ويل للمدينة السافكة الدماء الممتلئة كذباً، المكتظة بالغنائم المنهوبة، التي لا تخلو أبداً من الضحايا. كل هذا من أجل كثرة زنى نينوى الفاتنة الآسرة ومن أجل سحرها القاتل. لقد استعبدت الشعوب بعهرها والأمم بشعوذتها. ها أنا أقاومك، يقول الرب القدير، فأكشف عارك لأطلع الأمم على عورتك والممالك على خزيك.
_________
(1) ربما كان هذا النص التوراتي الحاقد هو احد النصوص التوراتية التي شرعت لنهب وسرقة آثار العراق بعد احتلال بغداد.(1/196)
وألوثك بالأوساخ وأحقرك وأجعلك عبرة. وكل من يراك يعرض عنك قائلاً: قد خربت نينوى فمن ينوح عليها؟ أين أجد لها معزين"؟ (سفر ناحوم 3، 1ـ7) (1).
الدمار المحتم
"هل أنت أفضل من طيبة الجاثمة إلى جوار النيل المحاطة بالمياه المنتنة، بالبحر وبأسوار من المياه، كوش ومصر كانتا قوتها اللامتناهية، وفوط وليبيا من حلفائها. ومع ذلك فقد وقعت أسيرة واقتيدت إلى السبي، وتمزق أطفالها أشلاء في زاوية كل شارع، واقترع على عظامها، وصفد نبلائها بالأغلال. وأنت تسكرين وتترنحين، وتلتمسين ملجأ من الأعداء" (سفر ناحوم 3، 8ـ11). "ها قد نام رعاتك يا ملك أشور، وغرق عظمائك في سبات عميق، تشتت شعبك على الجبال ولا يوجد من يجمعهم. لا جبر لكسرك، وجرحك مميت. وكل من يسمع بما جرى لك يصفق ابتهاجاً لما أصابك، فمن لم يعان من شرك المتمادى؟ ". (سفر ناحوم 3، 18ـ19)
"ويل للأشوريين ... يا شعبي المقيم في صهيون، لا تخف من أشور عندما يضربك بقضيب، ويرفع عليك عصاه كما فعل المصريون، فإنه عما قليل يكتمل سخطي، وينصب غضبي لإبادتهم. ولا يلبث الرب القدير أن يهز عليه سوطاً كما ضرب المديانيين عند صخرة غراب، ويرفع قضيبه فوق البحر مثلما فعل في مصر. في ذلك اليوم يتدحرج حمله عن كتفك، ويتحطم نيره عن عنقك لأن عنقك أصبح غليظاً". (سفر اشعيا 10، 5ـ27)
سقوط أشور: "لقد أقسم الرب القدير قائلاً: حقاً ما عزمت عليه لابد أن يتحقق، وما نويت عليه حتماً يتم. أن أحطم أشور في أراضى وأطأه على جبالي، فيلقى عنهم نيره، ويزول عن كاهلهم حمله" (سفر أشعيا 14، 24ـ25). وفي إدانته لاشور يعبر يهوه (الرب) عن حقده اللاهب بأردأ وأخبث وأنذل أساليب الحقد العنصري والكراهية المتوقحة وفي بلاغة هي قمة البذاءة والتوقح والقدرة على الذم والتحقير يقول بلسان أشعيا: "قد حلف رب الجنود قائلا انه كما قصدت يصير وكما نويت اثبت إن أحطم أشور في ارضي وأدوسه على جبالي ويسقط أشور بسيف غير رجل ويأكله
_________
(1) بعد قراءة هذا النص التوراتي وغيره الكثير، هل نتوقع غير ما حدث في أبو غريب .. !!؟(1/197)
سيف غير إنسان". (1) هذا جزء بسيط جداً مما ورد بالتوراة الحاقدة من صنوف الدمار واللعنات، المشبعة بالحقد والكراهية وبرائحة الدم والانتقام على آشور العراق لأنها سبت اليهود، أما بابل فنصيبها أكبر والحقد عليها أقوى، وشوق اليهود والأصوليين المسيحيون للانتقام منها أعظم وأشد .. !!
الحقد على بابل
يقول حزقبال على لسان يهوه: "إني أجازي بابل وجميع سكان أرض الكلدانيين بكل شرهم، وها أن ذا عليك أيها الجبل المفسد يقول الرب، الذي يفسد كل الأرض، فأمد يدي عليك أدحرجك من الصخور، وأجعلك جبلاً متوقداً، بل تكون أخربة أبديه". أما لماذا هذه الحقد والكراهية التي صبها أحبار اليهود على بابل، فالجواب بسيط ويعود إلى حادثة السبي البابلي. فمن المعروف انه بعد زوال الدولة الآشورية بسقوط نينوى سنة 612، تأسست على أثرها الدولة البابلية التي دام حكمها 73، حيث تم في عهدها تدمير مملكة يهودا وسبى اليهود إلى بابل (2).
ففي العام 598 م، استولى نبو خذ نصر ملك الكلدان على القدس بعد حصار دام ثلاثة اشهر، فكان رفيقاً متسامحاً في تعامله مع اليهود المهزومين لدرجة انه لم يقرب معبدهم، واكتفى أن اخذ الملك اليهودي يهواشين وحاشيته إلى نفي مريح في بابل، مع تكريمهم، ولكن سدقياً الملك اليهودي الجديد الذي عينه البابليون في القدس، ثار مرة ثانيه على أسياده، وتحالف مع ملك مصر ضد البابليين، مما اغضب نبوخذ نصر غضباً شديداً، فجاء هذه المرة بنفسه وحاصر القدس واستولى عليها، ودمر المعبد واخذ سدقيا والكثير من كبار القوم إلى بابل مكبلين بالحديد، ولم يترك بالقدس سوى فقراء اليهود، ثم استمر الآسر البابلي كما صار يعرف ـ ثمانية واربعين عاماً. وقد تركت هذه الحادثة أثراً بليغاً على اليهود، واليهودية كدين حيث تم خلال فتره الأسر البابلي صياغة كثير من العقائد اليهودية، وبالذات عقيدة المسيح المنتظر، الذي سيعيد بناء مملكة إسرائيل، ويحاكم أعداء إسرائيل وينتقم من أمم
_________
(1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص143 - ط 1/ 2004 - دار الطليعة - بيروت
(2) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة - ص662(1/198)
الأرض التي ناصبت اليهود العداء. ولهذا لن نستغرب من حجم الحقد والكراهية التي دونها أنبياء اليهود وأحبارهم في أسفار التوراة على بابل، وتوعدوها بالخراب والدمار، بل والإزالة من الوجود، بحيث أصبحت بابل رمزاً لكل رذيلة.
نبوءة عن دمار بابل 13
رؤيا إشعيا بن آمواص بشأن بابل: "انصبوا راية فوق جبل أجرد. اصرخوا فيهم لوحوا بأيديكم حتى يدخلوا أبواب العظماء. إني أمرت مقدسي واستدعيت جبابرتي المفتخرين بعظمتي لينفذوا عقاب غضبى. ها جبلة على الجبال مثل صوت أقوام غفيرة. صوت صخب ممالك مجتمعة، لأن الرب القدير يستعرض جنود القتال. يقبلون من أرض نائية، من أقصى السماوات هم جنود الرب وأسلحة سخطه لتدمير الأرض كلها. ولولوا، فإن يوم الرب بات وشيكاً قادماً من عند الرب محملاً بالدمار. لذلك ترتخي كل يد، ويذوب قلب كل إنسان. ينتابهم الفزع، وتأخذهم أوجاع ومخاض، يتلوون كوالدة تقاسى من آلام المخاض. ويحملق بعضهم ببعض مبهوتين بوجوه ملتهبة". (اشعياء 13، 1ـ7)
يوم الرب المقبل 9
"ها هو يوم الرب آت مفعماً بالقسوة والسخط والغضب العنيف، ليجعل الأرض خراباً ويبيد منها الخطاة ... وتولى جيوش بابل الأدبار حتى ينهكها التعب، عائدين إلى أرضهم كأنهم غزال مطارد أو غنم لا راعى لها. كل من يؤسر يطعن، ومن يقبض عليه يصرع بالسيف، ويمزق أطفالهمعلى مرأى منهم (1)، وتنهب بيوتهم، وتغتصب نساؤهم" (اشعياء 13، 9ـ16).
_________
(1) أن ما حدث ويحدث لأطفال العراق الآن ليس ببعيد عن هذا الحقد الوارد في التوراة الحاقدة والتي يؤمن المسيحيون الأصوليون بحرفيتها، بل يعتبرون ما يحدث وكأنه تصديقاً لما جاء بالتوراة، بل أنهم على استعداد لتهيئة الظروف لجعل النبوءة تتطابق مع الواقع.(1/199)
سقوط بابل بيد الماديين
"أما بابل، مجد الممالك وبهاء وفخر الكلدانيين، فتصبح كسدوم وعمورة اللتين قلبهما الله. لا يسكن فيها، ولا تعمر من جيل إلى جيل، لا ينصب فيها بدوى خيمته، ولا يربض فيها راع قطعانه، إنما تأوي إليها وحوش القفر وتعج بيوت خرائبها بالبوم، وتلجأ إليها بنات النعام، وتتواثب فيها الماعز البرية، وتتعاوى الضباع بين أبراجها، وبنات آوى بين قصورها الفخمة. إن وقت عقابها بات وشيكاً، وأيامها لن تطول! " (اشعياء 13، 19ـ22)
إدانة ملك بابل
"في ذلك اليوم يريحكم الرب من عنائكم وشقائكم وعبوديتكم القاسية، فتسخرون من ملك بابل قائلين: لأنك خربت أرضك، وذبحت شعبك، فذرية فاعلي الإثم يبيد ذكرها إلى الأبد. أعدوا مذبحة لأبنائه جزاء إثم آبائهم، لئلا يقوموا ويرثوا الأرض فيملئوا وجه البسيطة مدناً. إني أهب ضدهم، يقول الرب القدير، وأمحو من بابل اسماً وبقية ونسلاً وذرية، وأجعلها ميراثاً للقنافد، ومستنقعات للمياه، وأكنسها بمكنسة الدمار" (اشعياء 14، 3ـ23).
سقوط بابل
"انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل. اجلسي على الأرض لا على العرش يا ابنة الكلدانيين، لأنك لن تدعي من بعد الناعمة المترفهة. خذي حجري الرحى واطحني الدقيق. اكشفي نقابك، وشمري عن الذيل، واكشفي عن الساق، واعبري الأنهار، فيظل عريك مكشوفاً وعارك ظاهراً، فإني أنتقم ولا أعفو عن أحد. إن فادينا، الرب القدير اسمه، هو قدوس إسرائيل. اجلسي صامته وأوغلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين، لأنك لن تدعي بعد سيدة الممالك".
"قد سخطت على شعبي ونجست ميراتي. أسلمتهم إلى يديك، فلم تبدي نحوهم رحمة بل أرهقت الشيخ بنيرك الثقيل جداً. وقلت: سأظل السيدة إلى الأبد. لذلك لم تفكري بهذه الأمور في نفسك ولا تأملت بما تؤول إليه. فالآن اسمعي هذا(1/200)
أيتها المترفهة المتنعمة المطمئنة، القائلة في قلبها: أنا وحدي وليس هناك غيري، لن أعرف الترمل ولن أثكل. لذلك ستبتلين بكلا الأمرين معاً في لحظة، في يوم واحد، إذ تثكلين وتترملين حتى النهاية على الرغم من كثرة سحرك وقوة رقاك. قد تولتك طمأنينة في شرك، وقلت: لا يراني أحد ولكن حكمتك ومعرفتك أضلاك، فقلت: أنا وحدي، وليس هناك غيري. سيدهمك شر لا تدرين كيف تدفعينه عنك، وتباغتك داهية تعجزين عن التكفيرعنها، ويفاجئك خراب لا تتوقعينه" (اشعياء 47، 1ـ11).
هذه أمثلة بسيطة لما حوته التوارة من ألوان الحقد والكراهية، والرغبة في القتل والدمار ليس لبابل العراق وأطفال العراق فقط ... بل للمنطقة كلها كما سنرى. ففي العهد القديم وما صبه الأحبار الكرام فيه من أشكال الجوع وصنوف الكراهية وضروب الاشتهاء والظمأ إلى الدماء، وما سجلوه فيه مما لا سبيل إلى وصفه ـ مهما بدا ذلك غير لائق ـ إلا بمحاضر جلساتهم مع الإله، الذي صوروه دائماً مدلها بحبهم، ساعياً ورائهم، متوسلاً إليهم إن يرضوا عنه ويعبدوه، ومخططات تآمرهم معه على سائر خليقته. في ذلك الكتاب الدموي الذي تشجب بجواره وتبهت أفظع قصص الرعب والإثارة، كشف الأحبار والكهنة المقاتلون، من قديم، عن خططهم (1)، وأحقادهم تجاه المنطقة كلها، وليس بابل العراق. أما لو جئنا لكتاب سفر الرؤيا آخر كتب العهد الجديد، والذي أضيف إلى الكتاب المقدس بطريقه، مريبة فإننا سنجدد العجب العجاب، من أصناف الحقد والكراهية التي صبها علي بابل العراق.
يوحنا وحقده على بابل
عبر يوحنا اللاهوتي عن حقده على بابل في رأياه التي ذيل بها العهد الجديد، مستلهماً ما جاء في التوراة من صنوف الحقد والكراهية والإدانة، التي اشتهر أنبياء بني إسرائيل بإنزالها بالشعوب والأمم الأخرى جميعها. فقد كان اللاهوتي قد رأى في روما أفظع خطر يهدد اليهودية في زمانه، ولذلك اسماها باسم بابل التي كان على
_________
(1) قراءة سياسة للتوراة ـ شفيق مقار ـ ص 8(1/201)
يدها سبى اليهود، لذلك فانه ـ كالسائد في زمانه ـ جسد روما في شخص نيرون، مثلما جسد أسلافه جبروت بابل في شخص نبوخذ نصر (1).
وبالرغم من أن سفر الرؤيا كتب في جو من التطلع إلى ظهور المسيح المنتظر لينقذ المؤمنين من اضطهاد الدولة الرومانية في عهد نيرون، إلا أن الإشارة إلى بابل كرمز للشر والطغيان فهمه المسيحيون الأصوليون في أمريكيا وبريطانيا بحرفيته، بحيث أصبحت تطلعات اليهود ومن تبعهم من المسيحيين تدور حول شيء واحد هو التطلع إلى ظهور المسيح اليهودي المنتظر الذي سينقذ اليهود (شعب الله المختار) من آلامه ويملكه على العالم. "واغرب ما تضمنته معتقدات العالم الآخر اليهودي، هو محاكمة الأمم حيث تشهد محاكمة أعداء إسرائيل الأرضيين. ومجمل هذه المعتقدات مستوحى من حياة تشتت وصلت إلى مداها الأبعد، في الفترة الرومانية وولدت حقداً وكراهية لبقية الشعوب، وولدت آمالاً مأساوية بنهاية العالم لخدمة مصالح اليهود في عالم آخر مادي أو غير مادي للانتقام من أمم الأرض التي ناصبت اليهود العداء" (2).
جام الغضب على الفرات وعلى تل مجدو
يصف يوحنا في رأياه سيناريو معركة هرمجيدون والمقدمات لها فيقول: "ثم سكب الملاك السادس جامه على النهر الكبير الفرات فجف ماؤه لكي يكون طريق الملوك القادمين من المشرق سالكاً، وجمعهم إلى الموضع الذي يقال له بالعبرية هرمجدون ـ تل مجدوـ وذكرت بابل العظيمة أمام الله ليعطيها كأس خمر غضبه" (سفر الرؤيا،16). ثم يضيف: "ثم جاء واحد من السبعة ملائكة الذين معهم السبعة جامات وقال لهم هلم فاريك دينونة العاهرة الكبرى الجالسة على المياه العديدة التي زنا بها ملوك الأرض وسكر سكان الأرض من خمر زناها وعلى جبهتها مكتوب لغز، بابل العظمى أم العاهرات ونجاسات الأرض ورأيت امرأة سكرى من دماء القديسين ومن ماء شهداء عيسى" (سفر الرؤيا، 17).
_________
(1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص236
(2) العرب واليهود في التاريخ ـ د. احمد سوسة ص406(1/202)
سقوط بابل (رؤيا، 18)
ثم يتنبأ يوحنا اللاهوتي ـ اقصد اليهودي ـ بسقوط بابل وما سيحل بها من دمار فيقول: "ثم بعد هذا رأيت ملاكا آخر نازلاً من السماء له سلطان عظيم وصرخ بصوت عظيم سقطت بابل العظمى وصارت مسكناً للشياطين وملاذاً لكل روح نحسه وقفصاً لكل طائر نجس كريه لأنه من خمر غضب زناها شربت جميع الأمم وزنا بها ملوك الأرض، خطاياها وصلت عنان السماء، اسقوها من الكأس التي سقتكم منها وضاعفوا لها ضعفاً لقاء أعمالها، بقدر ذلك أعطوها عذاباً وحزناً. في يوم من الأيام سوف تأتيها الكوارث: الموت والأحزان والمجاعة وسوف تحترق بالنار كلياً، ورفع ملاك جبار حجر رحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً: هكذا وبكل عنف سوف يلقى ببابل العظمى حتى لا يعد لها وجود بعد اليوم" (1).
كورش وإعادة اليهود المسبيين
لم يتمكن اليهود من العودة إلى القدس إلا بعد أن تمكن كورش الاخمينى من فتح بابل في عام593 ق. م، حيث سار في فتوحاته حتى احتل سوريا وفلسطين ومن ضمنها أورشليم، فسمح لمن أراد من اليهود من أسرى نبوخذ نصر، بالرجوع إلى فلسطين، وأعاد إليهم كنوز الهيكل التي كان قد أخذها نبوخذ نصر وأمر بإعادة بناء الهيكل على نفقة بيت الملك (2). وهذا الأمر بدوره يفسر السبب الذي من اجله أسبغ العهد القديم على قورش لقب المسيح رغم أن قورش كان وثنياً. يقول مدون (العهد القديم) أن كورش أطلق نداء في كل مملكته، وكذا بالكتابة قائلاً: "هكذا قال كورش ملك فارس: أن الرب اله السماء قد أعطاني جميع ممالك الأرض، وهو أوصاني بأن ابني له بيتاً في أورشليم، وعلى كل واحد من شعب الرب أن يرجع إلى هناك، وليكن الرب معكم" (سفر الأخبار الثاني 36). ولذلك كان اشعيا يرى في كورش مخلصا اختاره الرب كي يخلص اليهود واعتز به اعظم الاعتزاز ورأى فيه المسيح المنتظر، لهذا عمل اشعيا على إقناع كبار المسبيين بخطة التعاون مع كورش وخيانة بابل
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص243ـ244
(2) العرب واليهود في التاريخ: حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الآثارية / بقلم د. أحمد سوسة - ص674 - (سلسلة الكتب الحرية؛ 14) - بغداد، وزارة الاعلام، مديرية الثقافة العامة.(1/203)
كخطوة أولى باتجاه العودة وعزم على تحويل أمل العودة واسترجاع الملك إلى إرادة فعالة مخططة والى عمل إيجابي" (1).
يقول الرب على لسان اشعيا: "اسمع لي يا يعقوب، ويا إسرائيل الذي دعوته .. إن الرب أحب كورش، وهو ينفذ قضاءه على بابل ويكون ذراعه على الكلدانيين. لقد دعوت أنا بذاتي (كورش) وعهدت إليه بما أريد، وسأكلل أعماله بالنجاح. اقتربوا مني واسمعوا: منذ البدء لم أتكلم خفية، ولدى حدوثها كنت حاضراً هناك. هناك قد أرسلني السيد الرب وروحه بهذه الرسالة: "هذا ما يقوله الرب فاديك قدوس إسرائيل .. اكسروا أغلال الأسر. ارحلوا عن بابل. ارفعوا أصواتكم بالغناء حتى يذيع في أرجاء الدنيا أن الرب قد فدى عبده يعقوب. لم يعطشوا عندما اجتاز بهم الصحراء. فجر لهم المياه من الصخر. شقه فتدفقت منه المياه. أما الأشرار فلا سلام لهم يقول الرب" (اشعياء 48، 12ـ22).
ثأر اليهود من العراق
من نافلة القول أن الأسر البابلي لم يكن ليبرر حقداً يهودياً أبديا ضد بابل لقرون طويلة قادمة سوى أنهم خلدوه في العهد القديم. ولكن هذا العداء لم يكن مستغرباً طالما أن اليهود كانوا ينظرون إلى بابل أسوأ النظر ويضمرون لها اشد الحقد والعداء، فهي سابيتهم وسيدتهم وهم عبيدها وأسراها (2). وهذه المعتقدات اليهودية الحاقدة علي البشرية هي التي تحرك حكام البيت الأبيض وبريطانيا تجاه المنطقة والعراق. فمنذ أن قام يوحنا بوصم بابل في رأياه، باللقب البغيض (أم العاهرات ونجاسات الأرض)، أصبحت بابل العراق مرتبطة فوراً في أذهان اليهود والمسيحيين الأصوليين - في الغرب بكل أوصاف الرذائل والطغيان والاضطهاد والفساد، وأصبحت عندهم إلى الأبد رمزاً لكل رذيلة ولكل شيء بغيض على وجه الأرض، حتى أن (القديس أوغسطين) نفسه في اعترافاته عن أيام صباه كتب: "انظروا مع أي نوع من الناس رتعت في شوارع بابل، وكيف تمرغت في وحولها كما
_________
(1) الصهيونية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان - ص109ـ116 الجزء الأول (الدعوة والدعاة) - بيسان للنشر والتوزيع - ط1 1995
(2) اصول الصهيونية في الدين اليهوي - د. اسماعيل راجي الفاروقي - ص 70 - مكتبة وهبه - ط.2 1988(1/204)
لو كنت دهاناً من الطيب والقرفة فتمسكت بسرتها، لأنه كان من السهل إغوائي". وعن والدته المتدينة البعيدة عن كل مجون كتب يقول: "والدتي التي تجري دماؤها في عروقي، ابتعدت كثيراً عن وسط بابل" (1). حتى إن جنود كرمويل، في غمار إسباغ هوية إسرائيل على أنفسهم، كان تركيزهم على بابل، حيث اتخذ التركيز طابعاً يهودياً خالصاً حيث كانوا يرددون: "سيف على الكلدانيين وعلى سكان بابل وعلى رؤسائها وعلى حكمائها. سيف على أبطالها. سيف على خيلها وعلى مركباتها. سيف على خزائنها فتنهب. حر على مياهها فتنشف" (سفر ارميا 50:35ـ38). فإنجلترا، في هذيان الحمى التطهيرى، لم تصبح (مصر) و (ادوم) و (مواب) فحسب، بل باتت أيضاً (بابل).
ومن نبع الكراهية المصفاة لبابل، بلد السبي، استمد جنود كرمويل بوصفهم إسرائيل المسبية في وطنهم إنجلترا ضراوة خاصة في مقاتلة "البابليين" أي جند شارل الأول" (2).
يقول الاستاذ محمد فاروق الزين: "ان من أكثر الألغاز حيرة وغموضاً أن يعرف المرء السبب الذي من اجله قررت الكنيسة في القرن الرابع أن تدرج (رؤيا يوحنا) ضمن الكتاب المقدس والأكثر غموضاً وحيرة كيف أن (الرؤيا) بعدما أصبحت سفراً من أسفار الكتاب المقدس، تركت هذا الأثر العجيب الذي لا يمحى عبر القرون ليس في العقل الغربي فحسب وإنما في عملية اتخاذ القرارات عند الغربيين تجاه منطقة الشرق الأوسط حتى بعد ألفي عام من الزمن. واليوم نجد في الغرب وفرة من الكتب التي تجد العلاقة صريحة بين عراق اليوم وبين بابل (أم العاهرات ونجاسات الأرض)، ومنها كتاب شارل تايلور بعنوان (صدام بابل العظيمة)، وكتاب شارل داير من ندوة دالاس اللاهوتية بعنوان (صعود بابل) وعلى غلافه صورة صدام، وحتى بعد هزيمة العراق ذكر شارل داير أن العراق قد يبرز من جديد بدور بابل نجاسات الأرض، وان صدام نفسه قد يعود للظهور بصورة (وحش الرؤيا) عدو المسيح فلا يستغرب المرء
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص244
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص120(1/205)
إذاً أن تستمر العقوبات الاقتصادية على العراق دون أن تحقق غرضاً سوى معاناة الشعب العراقي" (1).
ومن الجدير بالذكر أن (شامبرز) كان هو أول من نبه في كتبه إلى خطورة البابليين - أي العراقيين واعتبر أن البابليين سيكونون مرشحين لقيادة هذه العالم وانتزاع السيطرة من قوى عظمى مسيحيه ولذلك فهناك اعتقاد لدى البعض منهم بأن أمريكا إذا لم تنتصر على العراق وتبيدها في هذه الحرب فان العراق سيصبح في غضون سنوات قليله قوة عظمى يحسب لها ألف حساب، مما سينقل مركز الثقل الدولي إلى منطقة الشرق الأوسط وان التاريخ سيعيد كرته من جديد ويكتب للمسلمين السيطرة على العالم. كما أن نصوص سفر الرؤيا، فيها إغراء لليهود بقتال العراق وتدمير أهله بحجة أن فيها سبعة جبال من ذهب نقي. حيث تقول كتب التيار التجديدي للميسوديت: "أن العرقيين إذا نجحوا أولاً في السيطرة على الذهب وما يرتبط به من جبل الذهب، فإنهم قد يسيطرون على كل المنطقة وأنهم سيدفعون في اتجاه الحرب مع إسرائيل وان العرقيين سينتصرون على إسرائيل في هذه الحرب بل وسيزيلون هذه الدولة من الوجود وأنهم سيطورون المسجد الأقصى بدلاً من هدمه، وعندما يصل بهم الأمر إلى هذا الحد فإن ذلك يعنى عدم عودة المسيح وتأخيره إلى مئات الأعوام الأخرى حتى يتحقق الانتصار من جديد للعالم المسيحي اليهودي المشترك" (2).
وليس من شك أن أتباع الصهيونية المسيحية في أمريكا وبريطانيا، كانوا متشربين روح العهد القديم في النص الحاقد الذي يتحرق كاتبه لسحق رؤوس الأطفال البابليين بالحجارة "طوبى لمن يجازيك يا بابل كما جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويسحقهم على الصخور" (المزامير ـ المزمور 137). وليس هذا النص فقط، بل مئات غيرها وردت في التوراة وسفر الرؤيا صبت جام غضبها وحقدها، ولعناتها على بابل العراق. ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يستشهد (مناحيم بيغن) وهو يوقع معاهدة السلام مع مصر بالنص الحاقد السابق، أمام الرئيس أنور
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين - ص 251ـ262
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقاص122(1/206)
السادات والرئيس جيمي كارتر، وفيه المطالبة بالثأر من العراق بسبب سبي نبوخذ نصر لليهود" (1).
وهكذا يبدو أن ذوبان العراق ببابل، وذوبان بابل بالعراق، جعل الحقد اليهودي التاريخي يزداد ذوباناً في نفوس اليهود على امتداد كل العصور حتى عصرنا الحاضر، ضد العراق، وقد ارتضى العراق، أن يدفع، في كل عصر، ضريبة ذوبانه ببابل، وذوبان بابل فيه، باعتبار أن التخلي عن الأصل هو بحد ذاته تخل عن الهوية والانتماء والوجود برمته، وهذا ما لا يرضاه الشعب العراقي في أي زمان ومكان (2).
_________
(1) المصدر السابق- ص123
(2) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق - د. صالح زهير الدين - ص 14(1/207)
الفصل الثالث
الأصولية المسيحية وفكرة عودة المسيح
تعتبر عقيدة المسيح المخلص، أو المسيح المنتظر، إحدى أركان العقيدة اليهودية الأساسية، التي ابتدعها اليهود أثناء السبي البابلي، وتتلخص هذه العقيدة في إيمان اليهود بمخلص من نسل داود، سوف يأتي في نهاية التاريخ، فيفدى شعب إسرائيل، وذلك بإنقاذه من النفي، والعودة به إلى الأراضي المقدسة، حيث يحطم أعداء إسرائيل، ويعيد بناء الهيكل، ويتخذ من أورشليم عاصمة له. وقد انتقلت هذه العقيدة وغيرها من الأفكار اليهودية إلى المسيحية، ولكن مع الفارق في الفهم والتفسير، ولكن جاءت البروتستانتية لتصبغ على هذه العقيدة نفس المعاني التي أرادها اليهود، فأصبح مسيحهم المنتظر، هو المسيح اليهودي بلحمه ودمه، وليس المسيح عيسى عليه السلام الذي رفضه اليهود كما رفضته البروتستانتية، وأتباعها، مما يسمون المسيحيين الأصوليون، وأصبح مسيحهم هو المسيح اليهودي المحارب، وليس المسيح عيسى (رسول السلام).
ولتوضيح كيفية ظهور هذه العقيدة في الفكر اليهودي بعد السبي البابلي سنلقي نظرة على تاريخ اليهود العبرانيين في فلسطين حتى تلك الفترة وكيف تحول هذا الفكر من تقافة الانفتاح إلى ثقافة الانغلاق والعنصرية والتعالى، فصنع لنفسه تاريخاً مزوراً قائم على الاحلام والتمنيات والاحقاد والاحساس بالاضطهاد، فكان لابد من الاستعانه بالثقافات الاخرى وتبنى اساطيرها وتأويلها وفقاً لمتطلباته.
العبرانيون بنو اسرائيل
سكن الإنسان أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم، وهناك آثار تعود إلى العصر الحجري القديم (500 ألف - 14 ألف ق. م)، وخلال الألف الثالث قبل الميلاد هاجر إلى فلسطين العموريون (الأموريون) والكنعانيون، وكذلك اليبوسيون والفينقيون (وهما يعتبران من البطون الكنعانية)، وعلى ما يظهر فقد كانت هجرتهم إلى فلسطين حوالي 2500 ق. م. ويرى ثقات المؤرخين أن العموريين والكنعانيين(1/208)
واليبوسيين والفينيقيين قد خرجوا من جزيرة العرب. وقد كانت هجرة الكنعانيين واسعة في تلك الفترة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، وقبل قدوم العبرانيين اليهود بمئات السنين.
اما العبريون فهم قبائل سامية تحدرت من شبه الجزيرة العربية وراحت ترتحل، شأنها شأن سائل القبائل، لتجوب منطقة الهلال الخصيب من بلاد ما بين النهرين إلى مصر لتستقر آخر الامر في فلسطين وتتحضر بعد استقرارها واتصالها بالثقافة الكنعانية. فهم موجة من موجات الهجرات الآرامية الكبرى، حيث ان بعض الآراميين لم يجدوا أرضاً لهم طوال مدة مديدة في تلكم الساحة التى انداحت فيها موجتهم أى فيما بين النهرين وسورية ومصر وفلسطين، فتحولوا إلى طبقه هامشيه لا ارض لهم و يؤجرون أنفسهم لأى عمل ... وهم يشكلون أحياناً كتائب مسلحة مرتزقة لخدمة الأمراء أو يؤلفون عصابات تقطع الطرق وتنشر الرعب في قلوب الضعفاء، ولهذا اطلق عليهم الـ (عبيرو) التى ترد في المدونات للمصرية (1). والخابيرو أو العابيرو، كلمة كلدانية تعني عابري الحدود أو المرتزقة. يقول فيليب حتي: "الخابيرو ليس اسماً عرقياً وإنما تسمية أطلقت على جماعات من الرحل والأجانب والأشقياء المستعدين للانضمام إلى صفوف أي جيش لقاء أجر أو بدافع الحصول على الغنائم" (2).
ولقد كان (سيناريو) هذه الهجرات هو نفسه دائماً، فالغزاة الرحل سواء منهم العموريون والآراميون والعبريون والأنباط ينتقلون في الهلال الخصيب من حياة الترحل إلى حياة الحضر متمثلين الحضارة الكنعانية الاصلية ليرفدوا هذه الحضارة عبر كل موجة بما لدى البداوة من فضائل (3). فبنو اسرائيل بعد توغلهم في
_________
(1) في الخطاب والمصطلح الصهيوني (دراسة نظرية وتطبيقية) - د. عبد الوهاب المسيري - ص 158 - دار الشروق- الطبعة الأولى 2003
(2) تاريخ سورية ولبنان وفلسطين- فيليب حتي - ج1 ص173، وراجع أيضاً كتاب العرب الساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل ـ د. احمد داوود - طباعة دار المستقبل /دمشق- ط1 1991.
(3) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص26(1/209)
فلسطين بقوا زمناً غير قليل محتفظين بصفات ومميزات سكان الصحاري في اخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم ونفورهم من كل انواع التغيير والتجديد (1). ولكنهم بعد ذلك - شأنهم شأن من سبقهم من مهاجرين رحل متحدرين من جذر واحد- قد استفادوا من الحضارة الكنعانية حينما استقروا في فلسطين وأغنوها على مدى ثلاثة قرون بما لديهم دون ان يلغوا اصالتها واستمراريتها (2).
وعندما جاء العصر البرونزي الوسيط (2000 - 1550 ق. م) شهد النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد حكم الهكسوس الذين سيطروا على فلسطين خلال القرون (18 - 16ق. م) وعلى ما يظهر ففي هذا العصر (حوالي 1900ق. م) قدم إبراهيم عليه السلام ومعه ابن أخيه لوط عليه السلام إلى فلسطين من (أور الكلدانيين) وقد غادر بلاده مع بعض أفراد عائلته ليعبد الله عملاً بما أنزل عليه من الوحي. فعشيرته كانت تعبد الاصنام، وهو كان مؤمناً موحداً. وكانت حاران (حران) تقع إلى الشمال الشرقي لما بين الفرات وخابور، أول محطة له، وفيها مات أبوه (تارح) فأكمل السير بعد وفاته حتى وصل إلى شكيم (نابلس) (3).
وقد كان إبراهيم عليه السلام أول الأنبياء الذين نعلم أنهم عاشوا في فلسطين وماتوا فيها، وهو أبو الأنبياء فمن نسله جاء الكثير من الأنبياء كإسحاق ويعقوب ويوسف وإسماعيل ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام. وعلى كل حال فإن أبا الأنبياء إبراهيم الخليل كان رسولاً من أولي العزم من الرسل، وكان له دوره الدعوي في نشر رسالة التوحيد في فلسطين حيث كان يؤسس المساجد ويقيم المحاريب لعبادة الله في كل مكان ذهب إليه. ويظهر أنه لم يجد عناء أو عنتاً من أهل فلسطين ولم يضطر لتركها بسبب دينه ودعوته فظل مستقراً يتنقل بحرية فيها حتى توفاه الله.
_________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 17
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص47
(3) فلسطين من الاسكندر إلى الفتح العربي الإسلامي- د. نقولا زيادة-الموسوعة الفلسطينية، المجلد الثاني بيروت،1990.(1/210)
ولقد رزق ابراهيم من هاجر بابنه الأول اسماعيل، ثم رزق بابنه الثاني اسحق من زوجته سارة، ويعتبر اسماعيل جد العرب، كما يعتبر أخوه اسحاق جداً لليهود، وقد ولد لاسحاق عيسى ويعقوب، وقد ولد ليعقوب اثنا عشر ولدا يعتبر كل منهم أبا لسبط من أسباط اليهود، ومن أولاده كان يوسف الذي نقم عليه اخوته وحسدوه فباعوه إلى تجار مصر وادعوا أنه قتل، وفي مصر دخل يوسف في خدمة فرعون وأصبحت له سلطة واسعة فأرسل وراء أبيه واخوته، وهكذا انتقلت أسرة يعقوب إلى مصر (1).
وعلى كل حال، يظهر أن يوسف وإخوته أبناء يعقوب (إسرائيل) نعموا بحرية العمل والعبادة في مصر وكان لهم دورهم في الدعوة إلى التوحيد، غير أن الأمر لم يستمر على حاله في أجيالهم المتعاقبة، فوقع بنو إسرائيل تحت الاضطهاد الفرعوني حتى أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل منها إلى الأرض المقدسة، لان بنو إسرائيل كانوا في تلك الفترة هم أهل الحق وحملة راية التوحيد، وكان فرعن مصر في ذلك الزمان متكبراً متعجرفاً يدعي الألوهية، فقاد من آمن من قومه شرقاً فأتبعهم فرعون وجنوده، وحدثت قصة انشقاق البحر وإنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل وهلاك فرعون وجنوده.
وبعد إنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل تبرز فصول معاناة موسى وهارون مع بني اسرائيل، ويظهر من صفات هؤلاء ضعف الإيمان والجهل والجبن، فمن كادوا يخرجون من البحر حتى أتوا على قوم يعبدون أصناماً، "قولوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة"!!!، ثم عندما يذهب موسى لميقات ربه يعبد قومه العجل رغم وجود هارون بينهم، وكادوا يقتلون هارون عندما نهاهم عن كفرهم. ثم يقود موسى بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة ويقول لهم: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، ولكنهم يختارون الارتداد على أدبارهم، "قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون"، ولا ينفع فيهم النصح فيكررون، "قالوا يا موسى إنا
_________
(1) راجع، فلسطين من أقدم العصور إلى القرن الرابع قبل الميلاد.- د. معاوية ابراهيم. -الموسوعة الفلسطينية، المجلد الثاني، بيروت،1990.(1/211)
لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون"، ويتألم موسى عليه السلام ويلجأ إلى ربه "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، ويستجيب الله لنبيه "قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض"، وهكذا يحكم عليهم بالتيه بعد أن كانوا على أبواب الأرض المقدسة، ويظهر أن الله سبحانه قد حرمها على هذا الجيل من بني إسرائيل حتى ينشأ جيل غيره يصلب عوده في جو من خشونة الصحراء، فهذا الجيل أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل. وتوفي موسى عليه السلام قبل أن يستطيع دخول الأرض المقدسة.
وبعد أن نشأ جيل صلب جديد وبعد سنوات التيه قاد بني إسرائيل نبي لهم هو يوشع بن نون عليه السلام ويسميه اليهود (يشوع) وهو الذي عبر بهم نهر الأردن وانتصر على أعدائه واحتل مدينة أريحا، وكان عبوره نهر الأردن حوالي 1190 ق، ثم استولوا على معظم جنوب فلسطين، وبقي الكنعانيون في قسم منها، كما بقي الفلسطينيون في القسم الغربي، ومنذ عهد القضاة وهو العهد الذي ابتدأ بعد وفاة يوشع، عاش الأقوام الثلاثة مئات السنين، تخللتها سلسلة من الحروب الكنعانية-الاسرائيلية (1).
وعلى الرغم من محاولة القضاة إصلاح قومهم فقد ساد عصرهم الفوضى والنكبات والخلافات والانحلال الخلقي والديني، وقد استوطنوا في تلك الفترة في الأراضي المرتفعة المحيطة بالقدس وفي السهول الشمالية في فلسطين، حيث تغير نمط حياة العبريين تغيراً جذرياً لدى انغماسهم في قلب الحضارة الكنعانية، نعم لقد هجر هؤلاء البداة الجفاة خيامهم ليقيموا لهم بيوتاً على نمط بيوت الكنعانيين، ولقد خلعوا عنهم لباس جلود الخراف ليرتدوا الأنسجة الصوفية الملونة .. وحتى المعبد نفسه بنى على طراز اجنبى في مخططه وزخارفه (2). ويصف المؤرخ (جيمس برستد) المدن الكنعانية المزهرة يوم دخلها العبرانيون بقوله: "إنها مدن فيها البيوت المترفة، وفيها الصناعة والتجارة والكتابة والمعابد، وفيها الحضارة التي سرعان ما
_________
(1) الموجز في تاريخ فلسطين - الياس شوفاني - مؤسسة الدراسات الفلسطينية-1998.
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم -ص77 - 79(1/212)
اقتبسها العبرانيون الرعاة البدائيون، فتركوا خيامهم وقلدوهم في بناء البيوت كما خلعوا الجلود التي ارتدوها في الصحراء وارتدوا الثياب الصوفية الزاهية الألوان، وبعد فترة لم يعد في الإمكان أن يفرق المرء بين الكنعانيين والعبرانيين بالمظهر الخارجي، فقد اقتبسوا الحضارة الكنعانية كما يقتبس المهاجرون الجدد إلى أمريكا في يومنا هذا طرق المعيشة الأمريكية" (1).
فالشعب العبري وهو يتنقل من حياة الترحل إلى الحياة المستقرة السائدة لدى المزارعين وساكني المدن في كنعان كان قد تمثل حضارتهم ولغتهم وكتابتهم بل أنماط عبادتهم واختلط بالسكان الأصليين عن طريق الزواج. واذا استثنينا معارك بعض قادتهم كيشوع وداوود وبعض غزواتهم العابرة يمكن القول إنهم قد تعايشوا مع أهل البلاد أحسن تعايش (2).
وقد امتد عهد القضاة قرناً ونصف قرن من الزمن، حكم خلاله اثنا عشر قاضياً كان آخرهم صموئيل، واتفق الاسرائيليون بمشورة صموئيل نفسه على تعيين (شاول بن قيس) ملكا عليهم لتوحيد قبائلهم، غير أنه قتل في إحدى حروبه مع الفلسطينيين، وجاء بعده الملك داوود سنة (1010ق. م-971 ق. م) ومن بعده سليمان (971 ق. م-931 ق. م) وكان عهده عهد سلام لا حرب على العكس من أبيه، كما عرف بالحكمة، ونشاطه التجاري. وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكته إلى قسمين شكّلا دولتين منفصلتين متعاديتين في كثير من الأحيان، وعانتا من الفساد الداخلي والضعف العسكري والسياسي والنفوذ الخارجي، لكن ذلك لم يستمر طويلاً وانتهى حكم القضاة على يد الأشوريين سنة 724 ق. م، وفي عهد (نبوخذ نصر الكلداني) في القرن الخامس قبل الميلاد حدث سبي بابل وحكم الكلدانيون فلسطين (3).
_________
(1) تاريخ الحضارة- جيمس هنري برستد - مركز المعلومات الوطني الفلسطيني- http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص97
(3) الحق التاريخي في فلسطين - مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html#file4(1/213)
حركة الأنبياء (ثقافة الانفتاح)
بدأت حركة الأنبياء مع الهزات الكبيرة في تاريخ اسرائيل منذ منتصف القرن الثامن ق. م. ولم يكتف الانبياء بالتنبؤ بالكارثة مشيرين إلى انها عقاب من يهوه على شعبه الجاحد بل راحوا يرسمون له رؤى مستقبلية تتجاوز النكبة. لقد انجز الانبياء نقله نوعية ضخمة في هذه العقيدة واحتفضوا بما فيها من جوهر وهو أن للتاريخ معنى، ولكنهم لم يعودوا يبحثون عن هذا المعنى في الماضي وفي الوعد بالأرض والسلطة لصالح شعب واحد فحسب يدين بانتصاراته لمشيئة الله ... بل راحوا يفتحون هذا التاريخ على المستقبل ليعطوه مغزى كونياً: فالهزائم والانتصارات عل حد سواء هى جزء من مشروع الهي. وفي هذا المنظور الجديد يمكن أن ينظر إلى ملك آشور وملك بابل الجديدة نبوخذ نصر وقورش ملك فارس على أنهم أداة تنفذ الإرادة الإلهية. وهكذا وعلى الرغم من ضعف مكانة اسرائيل السياسية ظلت محوراً للتاريخ: فالانهزامات والانتصارات كلها مظاهر تترجم عن مشروع الله تجاه (شعبه) (1).
فعندما قام الملك الآشوري شلمنصر الخامس، ومن بعده سرجون الثاني بتأديب هوشع آخر ملوك (إسرائيل) وقضى على دولته سنة 721 ق. م، وقام الآشوريون بنقل سكان إسرائيل إلى حران والخابور وكردستان وفارس وأحلوا مكانهم جماعات من الآراميين، فان ذلك لم يكن الا عقاب الهي لليهود لعدم التزامهم بالعهد والشريعه. فمملكة (يهودا 923 - 586 ق. م) انتشرت فيها العبادة الوثنية وفسدت أخلاق القوم بشيوع اللواط، ويقال ان احد ملوكهم يوحاز بن يوتام علق قلبه بحب الأوثان حتى إنه ضحى بأولاده على مذابح الآلهة الوثنية وأطلق لنفسه عنان الشهوات والشرور، وأضل منسي بن حزقيا قومه عن عبادة الله وأقام معابد وثنية.
ولهذا قإن أشعيا بعد ان فضح - في القرن السابع ق. م، وأرميا في القرن السادس- عيوب قادة اسرائيل وخيانتهم للعهد الأول بشرا بعهد جديد، عهد يمتاز باسيحائه الوجدان الداخلي وبانفتاحه على ماهو عالمي. على هذا فإن انجاز هذا
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص88(1/214)
الوعد لن يتحقق لا بممارسة طقوس حرفية ولا بنصر مؤزر يعد به الله. وهاهنا تظهر - اول مره- في النصوص العبرية لدى اشعيا تلك العلاقة بين فكرة المخلص وبين فكرة (المتألم الصالح) التي ستظهر في سفر أيوب في القرن السادس كما عبرت عنها سابقاً الأدبيات الدينية البابلية في الألف الثاني ق. م. يقول سفر اشعيا: "أنه رجل الآلام .. لقد حمل عنا آلامنا .. وقتل بسبب جرائمنا".
وهذا العهد كما قلنا يمتاز بانفتاحه على العالمي. صحيح ان العبريين قد نقلوا (رسالة) وأنهم من هنا امتازوا بعض الامتياز بالقياس إلى الشعوب الأخرى، ولكن مع مجئ كبار الانبياء كان تجاوز لهذه (الاستثنائية) والعنجهية القبلية. جاء في سفر أشعيا: "سأجعل منك نوراً للأمم حتى يعم سلامي وخلاصي أقاصي الأرض" (1). إن الانبياء لم يقتصروا على القول بالانتقال من الخصوصية إلى العالمية فحسب وإنما تشكلت على أيديهم عملية تحول حقيقية في مفهوم القيم، فمقولات الإيمان التقليدية مازالت قائمة ولكنها عرفت تحولاً روحياً نوعياً.
وهكذا لم يعد الوعد خاصاً بامتلاك أرض أو بتحقيق نصر عسكري. جاء في المزامير: "مجدوا اسم يهوه .. لقد انتصر على الملوك الأقوياء .. وأهلك الملوك الأشداء وجعل من أرضهم إرثاً لنا". لقد صار الوعد تبشيراً بملكوت الله الذي يشمل العالم ليغمره بالسلام والمحبة بين الشعوب. يقول أشعيا على لسان يهوه: "سوف اخلق لكم سماوات وأرضاً جديدة .. حينئذ ستقبل عليها كل الأمم .. سنجعل من حرابنا مناجل للحصاد ومن سيوفنا محاريث للفلاحة ولن يتعلم أولادنا فنون الحرب". ان تحقيق الوعد لا يكون بتمركز البدو الرحل الآخذين بالتحضر في أرض خصبة هي (أرض الميعاد) ولا بقيام دولة كمملكة داوود، وانما بمجئ ملكوت الله (2).
السبي البابلي
بعد وفاة سيدنا سليمان انقسمت مملكته إلى قسمين شكّلا دولتين منفصلتين متعاديتين في كثير من الأحيان، وعانتا من الفساد الداخلي والضعف العسكري
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص92
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص93(1/215)
والسياسي والنفوذ الخارجي، لكن ذلك لم يستمر طويلاً (1). ففي عام 639 ق. م قتل منسي، ملك يهودا، وحينما أصبح ابنه (جوزياس) راشداً استغل ضعف مصر وسقوط المملكة الآشورية فحاول ان يسترجع استقلاله ليعيد إقامة مملكة داوود بالسيادة على مملكة الشمال. وفي عام 621 ق. م وفي اثناء ترميم المعبد في اورشليم (اكتشف) بل نبش (كتاب الشريعه) الذي قدمه الكاهن الاكبر للمعبد إلى الملك. وقد قام جوزياس مستغلاً فرصة عجز الآشوريين عن فرض عباداتهم الخاصة فألح على الالتزام الصارم الدقيق بهذا التشريع فجمع شيوخ يهودا في المعبد وأعلن عليهم حسب التقاليد القديمة في سيناء حلفاً مشتركاً بين يهوة وشعبه. وكان ذلك خطوة هامة على طريق إعادة الوحدة فيما بين المملكتين على اساس قانون مشترك يقوم على الحق الإلهي.
ولكن الوضع الدولي لم يهيئ سبل النجاح أمام مشروع جوزياس، حيث قام جوزياس بمهاجمة فرعون مصر وهو يمر بجيشه بفلسطين عام 609 ق. م. وكان اللقاء بالقرب من (مجدو) حيث غُلب جوزياس وقتل في المعركة ... وهكذا انهار مشروعه السياسي وأصبحت فلسطين مقاطعة تابعة لمصر. ولكن هذه التبعية لم تدم طويلاً حيث قام ملك بابل نبوخذ نصر منذ عام 605 ق. م بسحق الفرعون واسترجاع فلسطين منه ... وعندما حكم يهوياكين 598 - 597 ق. م حاول ان يتخلص من سيطرة بابل، بالتحالف مع مصر فحاصر بنوخذ " القدس وأخذ الملك مع عائلته ورؤساء اليهود وحوالي عشرة آلاف من سكانها (فيما يعرف بالسبي الأول) وبعض خزائن الهيكل إلى بابل، ثم إن بختنصر عيّن صدقيا بن يوشيا 597 - 586 ق. م حيث أقسم له يمين الولاء، غير أن صدقيا في آخر حكمه ثار على البابليين الذين ما لبثوا أن زحفوا للقدس وحاصروها 18 شهراً حتى أسقطوها، وأخذ صدقيا أسيراً وربط بالسلاسل من نحاس وسيق إلى بابل، حيث يذكر أنه قتل أبناؤه أمامه وسملت عيونه، وخرب نبوخذ نصر القدس ودمر الهيكل ونهب الخزائن والثروات، وجمع حوالي 40 ألفاً من اليهود وسباهم إلى بابل "السبي البابلي الثاني". وهاجر من بقي من
_________
(1) الحق التاريخي في فلسطين - مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html#file4(1/216)
يهود إلى مصر ومنهم النبي إرمياه، وبذلك سقطت مملكة يهودا 586 ق. م .... وهكذا اختفت سلالة داوود الملكية، رمز الوعود والآمال واختفى معها الأمل بالسيطرة الشاملة ... واستمرت حياة الشعب العبري في فلسطين بدون ملوكه وبدون ارستقراطيته الكهنوتية والتجارية (1).
وفي الفترة البابلية كان معظم الاسرائيليين، بما في ذلك سكان يهودا، من الوثنيين خلال الجانب الاعظم من هذه الحقبة، فقط قلة قليلة من الاسرائيليين اتبعوا النزعات التي انبثقت منها اليهودية في وقت لاحق (2). وهنا يسجل التلمود أن سقوط دولة اليهود وتدميرها لم يكن إلا "عندما بلغت ذنوب بني إسرائيل مبلغها وفاقت حدود ما يطيقه الإله العظيم، وعندما رفضوا أن ينصتوا لكلمات وتحذيرات إرمياه". وبعد تدمير الهيكل وجه النبي إرمياه كلامه إلى نبوخذ نصر والكلدانيين قائلاً: "لا تظن أنك بقوتك وحدها استطعت أن تتغلب على شعب الله المختار، إنها ذنوبهم الفاجرة التي ساقتهم إلى هذا العذاب". وتشير التوارة إلى آثام بني إسرائيل التي استحقوا بسببها سقوط مملكتهم، فتذكر على لسان أشعيا أحد أنبيائهم: "ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الآثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراء" (3). وتقول ايضاً: "والأرض تدنست تحت سكانها لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي" (4).
حياة السبي وأثرها في تشكيل الشخصية اليهودية
تعتبر حقبة السبي البابلي نقطة تحول هامة في تاريخ اليهود، إذ شهدت مخاضاً عسيراً، انتهت بولادة دين جديد، وفكر جديد، وتاريخ جديد للشعب اليهودي. فخلال فترة السبي، أعاد علماء اليهود كتابة تاريخ الشعب اليهودي حسب وجهة نظر جماعة الفريسيين، فحلت تقاليد جديدة بدلاً من القديمة، ونشأت مبادئ الانعزال اليهودي،
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص95 - 96
(2) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك، نورتون متسفينسكي - ص23 ترجمة ناصر عفيفي - الناشر الكتاب الذهبي مؤسسة روز اليوسق- 2001
(3) سفر أشعيا - الإصحاح الأول
(4) سفر أشعيا - الإصحاح 24(1/217)
والابتعاد عن المؤثرات الدينية والثقافية لدى الشعوب الأخرى، وكان من نتائج ذلك أن شحنت العقائد الجديدة للشعب اليهودي بالحقد على البشرية، وغرست في نفسه فكرة الحصول على (الوعد) من الرب بتملك العالم، والسيطرة على سائر الشعوب (1)، عن طريق مسيح مخلص ينتقم لهم من الشعوب التي اضطهدتهم.
وهكذا وضع الفريسيون الأسس التي قامت عليها الشخصية اليهودية خلال العصور القادمة، بحيث انه لا يمكن تحليل هذه الشخصية من دون تظهير جذور العنف الكامن فيها، والكشف عن أصالته التوراتية التلموديه، والتي تشكل أساسا معرفيا يتحكم بأنماط السلوك للجماعات اليهودية، ويوجه ردود أفعالها في كل المراحل. ويعجب المرء وهو يتابع قراءته المتأنية للفكر اليهودي، من خلال توقيعاته في الخطاب التوراتي المتداول فيما بينهم، وذلك لما يجده من طروحات تلبس رداء القداسة، وتدعي أن مصدرها السماء، وهي ليست أكثر من أوهام وأحقاد وضغائن يندر وجودها في فكر ومعتقدات أي أمة بغض النظر عن مصدرها، وضعياً كان، أم غير ذلك (2).
فحقبة السبي البابلي تعتبر نقطة تحول هامة في تاريخ اليهود، حيث كان تاريخهم بعد موت سيدنا سليمان، تاريخ تدهور وانحلال، وفي السبي البابلي زاد من وطأة شعورهم بهذا التاريخ العاثر، شعورهم بالاضطهاد، وكان للظواهر المقلقة في نفوسهم والأحوال الاجتماعية المضطربة في حياتهم، انعكاس واضح الأثر في مشاعرهم النفسية الجياشة، فحفلت الآثار الأدبية التي وضعها هناك كهنتهم وشعراؤهم، بالمرثيات الشعرية الضافية، تندب حظ اليهود العاثر وتعبر عن آمالهم بالخلاص مما يعانون من ذل الأسر ومحنة السبي، ورهق التشريد، والعودة إلى فلسطين ونما في نفوسهم توق ونزوع إلى مخلص ينقذهم من عار الخيبات التي منوا ويمنون بها، ويخلصهم من الاضطهاد الذي يلحق بهم، أو من الشعور بالاضطهاد الذي يعانون منه (3).
_________
(1) النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة - غازي محمد فرج 145ـ146 - دار النفائس- ط1 1990
(2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص109
(3) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي ـ جورجي كنعان ص113(1/218)
فبعد السبي والتشتت، ومعاناة الشعور بالقهر، والتشرد، والخوف، وعدم الاستقرار، التي عاشها اليهود خلال السبي، لم يبق لليهود ما يبث في نفوسهم الهدوء، ويدب في روعهم الاطمئنان، غير الآمال يزرعها أنبياؤهم في صدورهم، وغير الأحلام ينشرونها في وجوههم المتعبة، وكان مدونو العهد القديم من البراعة أن يجعلوا من هذه الأماني والأحلام، نبوءات تدفق في نفوسهم الرجاء بأن يهوه (الرب) سيفتقدهم، وينقذهم من عذاب الأسر وذل السبي، ويعيدهم إلى (أرض الميعاد) فكان الوعد بيوم الرجاء بالخلاص الآتي، ورسخت في أذهانهم فكرة المسيح المخلص، الذي يأتي في سطوة زمنية وينقذهم مما صاروا إليه من ذل وهوان، ويعيد لهم مجد داود وسليمان، وكانت رأياهم عن المسيح المنتظر، ملكا من نسل داود، مملكته في الدنيا، يخضع الشعوب لسيطرتهم، ويضع أقدامهم فوق رقاب الأمم.
يقول النبي أشعيا: "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى (والد داود) القائم راية للشعوب، إياه تطلب الأمم، ويكون محله ممجداً، ويكون في ذلك اليوم أن السيد (يهوه) يعيد يده ثانية، ليقتني بقية شعبه التي بقيت من أشور، ومن مصر، ومن فتروس، ومن كوش، ومن عيلا، ومن شنعار، ومن حماة، ومن جزائر الأمم، ويرفع راية للأمم، يجمع منفيي إسرائيل، ويضم مشتتي يهوذا، من أربعة أطراف الأرض، فينقضان على أكتاف الفلسطينيين غرباً، وينهبون بني المشرق معاً، يكون على ادوم ومؤاب امتداد يدهما، وبني عمون في طاعتهما". (سفر أشعيا 11، 10ـ14)
فحياة السبي التي عاناها اليهود عمقت في نفوسهم عقدة الحقد والكراهية للشعوب، كل الشعوب، ولم يبق لهم ما يروون به غلة الحقد والانتقام غير الحلم ـ النبوءة، فكان اعتقادهم بمجيء المسيح الملك لينتقم لهم من أمم الأرض، وكان الحلم ـ الرؤيا أن أصل يسى (داود) ـ المسيح، يقوم رأيه للشعوب في ذلك اليوم ينقضان على أكتاف الفلسطينيين، وينهبون بني المشرق، ويخضعون أدوم ومؤاب وبني عمون ـ الشعوب التي قهرتهم وأذلتهم، ثم قذفتهم خارج تخومها عندما رأتهم(1/219)
ينغلقون على نفسهم في قوقعة التعصب المتحجرة والعنصرية الشوهاء، ويصلون الشعوب، كل الشعوب، بنار الحقد والكراهية (1).
لقد كان اليهود أقليات متناثرة، تعيش في قلق وخوف وإحساس بالخطر المحدق بها (الحقيقي والوهمي)، وكانت غير محبوبة في المجتمعات التي تعيش فيها، وكانت قريبة من الطبقات الشعبية، ولكنها مكروهة منها، لأنها كانت تعيش في عزله عن الجميع. وقد نتج عن هذا الوضع الشاذ، إحساس زائد بالذات، ولذا فقد أعضاء الجماعات اليهودية وقياداتهم قدراً كبيراً من علاقتهم بالواقع، وانفصل فكرهم عنه، وأصبحت النبوءات مجالاً للتعويض عما يلاقونه من اضطهاد، فتحولت نبوءات أنبيائهم إلى صياغات لفظية، يمارسون من خلالها الانتقام من أعدائهم، عن طريق الحط من شأنهم وإظهار التفوق اليهودي، خصوصاً في آخر الأيام بعد عودة المسيح حيث يبطشون، ويبطش ربهم بكل أعدائهم. وقد كان أنبيائهم ينغمسون في هذه التهويمات اللفظية، في الوقت الذي كانوا يعانون فيه صنوف العذاب، ويعاملون معاملة الحيوان في بعض الأحيان (2).
تاريخ بالتمني
عاش بنو إسرائيل بين الأمم، والمماليك الراقية، الممتازة عليهم غنى وحضارة وقوة، وكانوا لضعفهم وفقرهم وقلة شأنهم، يتلظون بنار الحسد من الممالك الأخرى ذوات الحضارات العريقة، لوفرة ما تراه فيه من خصب، ما يفاض عليها من وفر ورخاء. فكان أنبياؤهم ينفظون ضعفاً وسخيمه (تغلي صدورهم حقدا وضغينة) ويحقدون على عظمتها، ويرجون موتها، وتحطيمها من قبل إلههم يهوه، ليقيم لهم مملكة أرضية على أنقاضها. فعندما لم يستطيعوا تسديد ضرباتهم المعهودة إلى المصريين، الضربات التي اشتهروا بإنزالها بالأفراد والأقوام المطمئنة مباغتة وغدرا، ابتكروا وسيلة أخرى للنيل من المصريين الذين أعطوا مثلاً رائعاً في المحبة والرحمة، والحنو الصادق وحسن المعاملة. هذه الوسيلة هي نوع من الشماتة أو
_________
(1) المسيح القادم (مسيح يهودي سفاح) - جورجي كنعان ص169
(2) اليد الخفية (دراسات في الحركات اليهودية الهدامة والسرية) - د. عبد الوهاب المسيرى- ص35 بتصرف - ط دار الشروق 1998م(1/220)
التشفي، تبرد غلة الحقد العنصري المستعر في قلوبهم، وتهدئ من وحشية الحسد الذي ينهش أكبادهم من الأمم المستقرة في أرضها، المطمئنة في بيوتها، والرخية بخيرات وجهد شعبها. من ذلك مثلا ما فعله موسى بأمر من يهوه (الرب) حين "مد يده على مياه المصريين ـ فتحول الماء في النهر دماً. وكان الدم في كل ارض مصر. ومات السمك وانتن النهر". وما فعله هرون بأمر من يهوه (الرب) أيضا حين "مد يده بعصا وضرب تراب الأرض، فصار بعوضاً على الناس وعلى البهائم. وكل تراب الأرض صار بعوضاً في جميع ارض مصر. فهذه الضربات وغيرها التي اشتهوا أو تمنوا إنزالها بالمصريين وزعموا أو توهموا إن إلههم (يهوه) قد أنزلها بهم هي نماذج فريدة في الشماتة والتشفي والانتقام، وبالحري الشعور بالانتقام ولو بالوهم والزعم (1).
ونحن نعرف من الخبرة المعاشة دور الحلم في عملية التداوي من المخاوف وتحقيق الرغبات التي تمارسها الذات الفردية في معرض سعيها إلى صون توازنها في مواجهة إجتياحات العالم الواقع. لهذا اجتهد كهنة اليهود عند كتابة العهد القديم في عصر السبي وما بعده، لوضع عقائد تتيح تجميع القبائل في ظل نظام ملكي وهيكل موحد، باعتبار ذلك الاستجابة الوحيدة الممكنة للتحدي الذي نشأ عما تعرض له اليهود، من ضغوط خارجية كان معظمها ناجماً عن شراسة وعدوانية اليهود تجاه الشعوب التي حلوا بأرضها، وما عانوه من حزازات وتمزقات نجمت عن شراسة قبائله وعدوانيتها تجاه بعضها البعض للفوز بأكبر نصيب ممكن مما ينهب من أراضي الشعوب وثرواتها.
وقد لعبت كتابات اليهود هذه دوراً رئيسياً في تشكيل الشخصية اليهودية والسمات التي تميزها من ذلك العصر وحتى الآن، مثل اتصاف هذه الشخصية بالانطوائية والكآبة والتشكك والتشاؤم والشعور بالدونية والإحساس بالفشل والحساسية المفرطة للنقد والحاجة للمديح والإطراء والإحساس بالافتقاد للجذرية. وقد نتج عن هذه الصفات انفصام في الشخصية اليهودية، تمثل في التناقض بين الشعور بالاستعلاء والشعور بالدونية والاضطهاد، وهذا التناقض جعل الشخصية
_________
(1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص133(1/221)
تتسم بالروح العدائية ضد الآخر، بل تصل إلى حد التوحد في المعتدى حتى يغدو اليهودي الضحية متوحشاً له ضحاياه يقتل بدل أن يُقتل، ويستعبد بدلاً أن يُستعبد، والهدف الجماعي لعملية التوحد بالمعتدي هو أن يتحول الحمل ذئباً حتى لا يبقى أمامه خطر يخشاه (1).
وفي تحليله للشخصية اليهودية المعاصرة، ركز المرحوم مصطفى زيور على انقلاب هذه الشخصية من الاستكانة والذل والاختناق في الغيتوات (حارات اليهود) وبين تحولها إلى الشراسة والارهاب عبر عصابات شتيرن وارغون والهاغاناه وغيرها، ومن ثم عبر اتحاد هذه العصابات لتأليف جيش الدفاع الاسرائيلي. ولا يقصر زيور آلية التوحد بالمعتدي على خريجي المعتقلات النازية. بل هو يرى أن هذه الآلية قد انتشرت كالوباء بين اليهود عبر التعاطف مع الضحايا اليهود. وينهي زيور تحليله بالتقرير بأن ما يجمع بين التجمعات اليهودية الاسرائيلية بالرغم من اختلافها في كل شيء انما يتلخص بهذا التوحد بالمعتدي الذي أتاح لليهود التحول، من المذلة إلى الطغيان، ومن الخنوع إلى السفاحية. لذلك يستنتج المحلل الحاجة الاسرائيلية ـ النفسية لممارسة العدوان. فشخصية المتوحد بالمعتدي تفقد تماسكها إن هي توقفت عن العدوان. لأنه يطمئنها مانعاً تفجر موجات القلق والرعب فيها. وكأن لسان حالها يقول ما دمت أنا المعتدي فلا خوف علي من الارتداد إلى ما كنت عليه، يهودياً تائهاً رعديداً يفتك به الناس في كل مكان. من هنا يمكن استنتاج هشاشة الشخصية الإسرائيلية. وعدم قدرتها على تحمل أي إحباط. كون الإحباط يصيب هذه الشخصية بالتهاوي والتفكك مهدداً بزوال الهوية الزائفة. لذلك فان القادة الاسرائيليين مجبرين على تأمين أفضل مستويات الروح المعنوية ليهودهم (2).
وهذا التوحد في المعتدى طغى علي الشخصية اليهودية وأضحي السمة الرئيسية التي تميزها، بحيث يمكن اعتبار التاريخ اليهودي كله ناتج عن هذه السمة.
_________
(1) الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية / دكتور رشاد الشامي- سلسلة عالم المعرفة - الكويت. يونيو 1986
(2) أضواء على المجتمع الاسرائيلي ـ دراسة في التحليل النفسي "- للمرحوم مصطفى زيور-. جريدة الأهرام بتاريخ 8/ 8/1968 - التحليل النفسي للشخصية اليهودية- المركز العربي للدراسات المستقبلية- http://mostakbaliat.com/(1/222)
"فاليهود في الأساس هم بدو رحل لم يستطيعوا أن ينتجوا تراث خاص بهم، بل لجئوا إلى نهب تراث الشعوب الأخرى وبالذات تلك التي خضعوا لسيطرتها، ونسبوها إلى أنفسهم، وسجلها كهنتهم في العهد القديم على شكل نبوءات وتمنيات، مضفين عليها هاله من القداسة. وبدورهم اخذ أنبياء الجماعة يفرغون ذواتهم من طاقاتهم بتحويل مشاعرهم الأليمة المقهورة المشحونة بالحقد والكره والتعصب، إلى مبالغة في توعد الآخرين وفي اتهامهم وفي العدوان عليهم بالكلام البذيء المجرح ليكون ذلك هو البديل عن البطش بهم أو عن أي أسلوب عنيف آخر" (1).
يقول الأستاذ شفيق مقار في كتابه (السحر في التوراة والعهد القديم): "ينبغي أن تظل نصب أعيننا ونحن نبحث في أصول الديانة التي صاغها الكهنة حول يهوه، حقيقة أساسية لا مؤدى لغيابها أو تغييبها عمداً على سبيل التقى والورع، تلك الحقيقة أن وراء كل سرد للتاريخ أو ـ بالأحرى ـ تأليف للتاريخ في كل سفر من أسفار التوراة والعهد القديم، نهجاً ثابتاً لا سبيل إلى تسميته إلا بـ (التأريخ بالتمني)، والذي استمات المؤلفون اليهود في إيهامنا بأن كتابهم موحى به من السماء وانه (كلمة الله). ولكن كيف يكون كذلك وهو منقول نقلاً في كل كتاباتهم المقدسة، من الأدب الديني لشعوب أخرى اعرق حضارة؟. فتلك الكتابات لا تكاد تضم شيئاً لا نجده منقولاً من كتابات تلك الشعوب. لكنهم ينكرون ذلك بطبيعة الحال ويتمسكون بإرجاع تاريخهم إلى آدم سعياً إلى قدم وأصالة يظلان أسطوريين ككل تاريخهم. وفي جذور ذلك الإصرار على التشبث بالقدم والتاريخ التليد والأصل العريق، يظل يصرخ الشعور بصغر الشأن والضياع. وكما يعمد المريض بالهذيان إلى ضروب هذيانه ليخفف بها من وقع الواقع المحبط المعاكس على نفسه الممزقة بالعذاب، عمد أولئك المؤلفون والمحررون إلى إعادة كتابة تاريخ للعالم والبشرية بالتمني ليصنعوا لأنفسهم وشعبهم المبارك تاريخاً مقدساً فريداً أخص لا يجعلهم متساوين مع
_________
(1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص152(1/223)
غيرهم من البشر فحسب، بل ويجعلهم أعلى وأرفع وأعظم امتيازاً من كل أولئك الأغيار الآخرين" (1).
فكرة الشعب المختار
تكرر التوراة في العديد من نصوصها وصف اليهود بأنهم شعب الله المختار ومن عداهم (غوييم)، حيث تحولت فكرة الاختيارية هذه إلى مزاعم عقيدية تستند على الاصطفاء والاستثناء والاستعلاء والعداء وادعاء القداسة. فالزعم بالاختيار راسخ في نفوس اليهود والتي يتشربها الطفل منهم منذ الصغر ومنها: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك وقد اصطفاك الرب لتكون له شعباً خاصاً على جميع الشعوب التي على وجه الأرض". وهم كذلك يعتقدون أنهم شعب استثنائي: "أنا يهوه إلهكم الذي ميزكم من الشعوب". أما الاستعلاء على بقية الشعوب فهو فعل عبادة كما في الخطاب التوراتي: "يقف الأجانب ويرعون غنمكم أما انتم فتدعون كهنة الرب تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم ينآمرون". أما الروح العدوانية فتتجسد على لسان إلههم يهوه: "فلا تقطعوا عهدا مع سكان هذه الأرض". وأيضا يبشرهم: "فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو يعبر أمامك كنار آكلة هو يقرضهم وهو يذللهم أمام وجهك فتطردهم وتبيدهم سريعاً كما كلمك الرب إلهك". هم أيضاً شعب الله المقدس والاعتداء عليه اعتداء على الرب: "أسير بينكم وأكون لكم إلها وانتم تكونون لي شعباً". وفي موضع آخر: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك". هكذا أدت هذه النصوص إلى نمو الوعي العنصري بفكرة الشعب المختار والى الإيمان بجنس وأمة متفوقة، كتب لها تاريخ خاص لا تندمج في أمة أخرى ولو عاشت بينها أجيالا، والواقع أن هذه الكتابات الملفقة تؤسس لأسطورة شعب الله المختار بمضمونها العنصري" (2).
فالعهد القديم كله من أول إلى آخر سفر فيه، له هدف واحد غلب على كل شيء: "الادعاء بأن اليهود شعب ذو خصوصية فريدة تضعه فوق كل السائمة الأمميه، وأنهم شعب عريق له أسلاف عظام هم إبرام واسحق ويعقوب، وان الله وقع في
_________
(1) السحر في التوراة والعهد القديم ـ شفيق مقارـ ص329 - رياض الريس للكتب والنشر - لندن - قبرص - ط1 1990
(2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص113(1/224)
عشق أولئك الناس لأسباب تخصه من فجر التاريخ وميزهم وجعلهم شعبه المختار والأخص، وتعاقد مع آبائهم ـ شرط أن يتختنوا ـ على إعطائهم أراضى شعوب عديدة ذات ارض خصبه وحضارات عريقة، وطرد تلك الشعوب من طريق الشعب الأخص المختار وأبادتها حتى لا تضايقه" (1).
وهذا الادعاء بالخصوصية والتفوق المزعوم لا يمكن تفسيره الا بنقيضه، حيث لعبت هزائم قبائل بني إسرائيل الكثيرة والمؤلمة أمام الحضارات العريقة لبلاد ما بين الرافدين وحضارات مصر الفرعونية دورا مهما في محاولة تعويض هذه الهزائم عن طريق إقامة ميثاق مقدس مع يهوه. الأمر الذي سيعوضهم النقص الذي كانوا يشعرون به لدى مقارنة نفسهم مع الحضارات المحيطة بهم. وهذا ما نراه واضحاً في أحاديث قادة إسرائيل مع الرب وتضخيمهم ومبالغاتهم كما هو جلي في موقفهم من الشعوب والأمم الكبرى. أننا نعثر في التوراة على رغبة الإله اليهودي في أن يجعل من كنعان (أهل فلسطين الأصليين) ملعوناً وعبداً، بينما تصبح بابل المكان الذي تبلبلت فيه السن الشعوب والأمم، وتصبح مصر وأهلها، أي من أنقذ اليهود - حسب أساطير التوراة نفسها- من المجاعة والموت، تهمة وشتيمة. في حين يتحول (الخروج) وأحكامه كما وضعت على لسان موسى إلى سفر عن مشاركة الملاك إياه في طرد الكنعانيين والاموريين والحثيين والغرزيين والحوبيين واليبوسيين. بحيث طالب إلههم موسى في (العدد) بالانتقام لبني إسرائيل من المديانيين بقتل ذكورهم وسبي نسائهم وأطفالهم وسرقة مواشيهم وحرق مدنهم، كما لو أن قيمة (العدد) تتمثل في تعداد من ينبغي طرده وقتله. بينما تمثل قوانين وتعاليم (التثنية) في تعاملها مع الأعداء ضراوة عنصرية دموية الظاهر والباطن. في حين لا نعثر في التوراة كلها على مديح أو ثناء لأي شعب من الشعوب التي أرست أسس الحضارة الإنسانية. على العكس أنها تكتظ بالشتائم القبيحة والأحكام المبتذلة والكراهية الوسخة، التي تكشف عن طبيعة النفس الغضبية اليهودية وإلهها" (2).
_________
(1) قراءة سياسية للتوراة - شفيق مقار ـ ص181 - رياض الريس للكتب والنشر - لندن-قبرص- ط1 1991
(2) ثالوث الإله القومي والشعب المختار والقوة الغضبية (الصورة والمعنى في الصراع العربي - اليهودي) - د. ميثم الجنابي- مجلة المؤتمر عدد 1174 - 14 - آب-2006 - http://www.inciraq.com/Al-Mutamar/2006/1101_1200/1174/060814_1174_5..htm(1/225)
فمن ناحية علم النفس الإجتماعي يقول بعض المحللون بأن إيديولوجية (شعب الله المختار) يمكن شرحها بعقدة النقص لدى القبائل الإسرائيلية لدى مقارنة نفسها بالحضارات القديمة المجاورة. وقد عزّز هذه الفكرة طبقة الكهنة المتعطشة إلى السلطة و طبقة (الأنبياء) من أتباع يهوه. فقد قامت هاتان الطبقتان بعملية غسل دماغ، دامت طويلاً، للقبائل اليهودية من أجل إقناعها بخصوصيتها وبمركزها الرئيسي لدى يهوه. ولكن كانت نتائج عملية غسل الدماغ سلبية تماماً بالنسبة لعلاقات القبائل اليهودية مع جيرانها. إثر هذه العملية إمتلأت قلوب الإسرائيليين بالحقد تجاه جيرانهم من الكنعانيين والمصريون لكونهم أتباع ديانات أخرى وبكون دياناتهم لا تقيم وزناً ليهوه حامي إسرائيل. هذا الحقد الإسرائيلي أدى إلى تقوقع القبائل اليهودية في مواطنها وإلى عدائها الشديد لجيرانها. كذلك فإن شعور القبائل اليهودية بالضعف بالمقارنة مع جيرانها أدى إلى خلق طبقة الكهنة لصورة مرعبة ليهوه، هذا الإله المتعطش للدماء بشكل عجيب لا يمكن مقارنته بآلهة الشعوب المجاورة" (1).
وهنا يسلط فرويد أضواء علم النفس على تلك الفئة التي دونت هذه القصص الملفقة فيقول: "أنها فئة منبوذة، مشردة، قابعة في زوايا الأسر ولا وطن لها، مهيضة الجناح، لا حول ولا قوة لها تستند إليهما. هذه الفئة جلست لتدون تاريخ جماعة خرجت من مصر قبل ثمانمائة عاماً، لمست بعض خيوطه من روايات الأسلاف وهى تغط في خضم الأحلام التي كانت تساورها وتستأثر بتفكيرها. فتارة تحلم بالقوة التي تسندها، وتارة أخرى بالجاه الذي يرفع منزلتها ثم بالوطن الذي تأوي إليه. فاتخذت من الاهها يهوه، ومن شخصية النبي موسى، قوة دينية تتشبت وتتسلح بها على الأعداء. كما اتخذت من إرجاع أصلها إلى إبراهيم الخليل وحفيده يعقوب أصالة النسب التي تجعلها الشعب المختار. ومن كنعان اتخذت عقيدة الوطن الموعود الذي
_________
(1) التلفيق والعدوانية في الايديولوجية الصهيونية -الكاتب: د. فيصل دراج كاتب وناقد فلسطيني ـ دمشق 31 - 3 - 205(1/226)
يفيض لبناً وعسلاً، وعزوا كل ذلك إلى الآله يهوه، والى إبراهيم ويعقوب وكلهم بريئون من هذه الفئة" (1).
وهذه السمة في تأليف تاريخ مصطنع لليهود لم تفت أي باحث أو مفكر أزاح عن عينيه وعن فكره غشاوة الورع المكذوب الذي يفرض على العقل وجوب تصديق ذلك التلفيق للتاريخ باعتبار التصديق مطلباً إيمانياً. "فكتابات اليهود المقدسة لا تكف عن التغني بأمجاد بني إسرائيل العسكرية، إلا أن هذه الأمجاد هي الأخرى، فيما نعتقد، أسطورية كتاريخهم كله. والدليل ماثل في انه قلما جاء أي ذكر لليهود في تواريخ الأمم. وان ذكروا على الإطلاق، كان ذلك ذكراً لانتصار حققه الشعب صاحب التاريخ عليهم، لا انتصار حققه اليهود عليه، ومن المدهش اننا لا نجد في اى نص مصري ادنى اشاره أو تلميح إلى تلك الاقامة الطويلة التى اقامها العبريون في بلاد الفراعنة (2). فقد كان وجودهم عابراً كغزو استعماري، ثم خرجوا من مسرح الأحداث - هذا إن كان لهم وجود قبل اليونان -· وهم لم يصنعوا أية حضارة, بل كانوا لصوص حضارة، وطفيليين وهامشيين. حتى كتابهم الديني وهو الإنتاج الوحيد لديهم، كان سرقة من تراث الآخرين.
يقول غوستاف لوبون في كتابه (اليهود في تاريخ الحضارات الأولى): "إن اليهود في فلسطين لم يعرفوا سوى الرعي وسوى العمل الزراعي القليل وهم لم يقدموا للحضارة شيئا"ً. كما أن المؤرخ اليوناني هيرودت عندما زار فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد، لم يذكر شيئاً عن اليهود. مما يعني أنه لم يكن لهم وجود، أو وجودهم ضئيل لا قيمة له، وبالتالي لم يثر انتباهه (3). كما انه لا وجود لاية آثار تثبت ولادة عصر جديد للحضارة في فلسطين بوصول العبريين اليها. وقد قررت (كالين كينيون) وهى تحصي ما عثرت عليه من حفرياتها الأثرية ما يلي: "ان احدى الصعوبات الرئيسية في تحديد توقيت دقيق لدخول الاسرائيليين إلى فلسطين هى عدم وجود أية إشارة أثرية تسمح لنا بالقول بأن هناك برهاناً مادياً عن وصول شعب
_________
(1) رسائل حضارية في مواجهة اليهوديةـ الأب فوتيوس خليل ـ ص65
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص36
(3) راجع كتاب: المعتقدات الكنعانية - د. خزعل الماجدي(1/227)
جديد". ثم تستنتج الكاتبة قائلة: "لابد من التسليم بأن المجموعات الاسرائيلية التى كانت تصل إلى فلسطين هى من البدو الرحل ... ولقد اقتبسوا لدى تمركزهم كل ما لدى سابقيهم في هذه الارض من أدوات ووسائل .. إن الثقافة الفلسطينية كانت في جوهرها كنعانية" (1).
ويؤكد الأب ديفو على: "ان (الشعب الاسرائيلي) لم يتكون الا بعد استقراره في أرض كنعان". أما المورخ (نوث) في كتابه (تاريخ اسرائيل) فيصل إلى النتيجة نفسها إذ يقول: "إن اتحاد اثنتي عشرة قبيلة في اسرائيل .. لا يبدو ظاهرة ذات أثر إلا بعد أن احتلت هذه القبائل الأرض ذات الثقافة الفلسطينية .. أما تاريخها فلم يبدأ إلا على أرض فلسطين" (2).
وهكذا فإن انتصاراتهم التي تحفل بها كتاباتهم المقدسة ليست إلا من قبيل التعويض الأدبي (التأليفي) عن شعورهم بالافتقار إلى ما شهدوه لدى الأمم التي عاشوا بينها من قوة عسكرية وسطوة سياسية. "فبالنظر إلى تاريخ مصر على كثرة ما اكتشف منه، لا يشير إلا لماماً في لمحات إلى القبائل البدوية، بينما تتحدث التوراة بالتفاصيل عن مصر وملوكها ومدنها وطبائع أهلها، مما يشير إلى معرفة واضحة من جانب الإسرائيليين بشئون مصر والمصريين، وهو أمر طبيعي تماماً حيث أن وضع إسرائيل كقبائل هامشية ما كان يشغل حيزاً هاماً في المدونات المصرية، بينما كان المدون الإسرائيلي لا يستطيع أغفال مصر" (3).
ومما تقدم يمكننا الآن ان نضع المرحلة العبرية من تاريخ فلسطين في سياقها الصحيح لنرى إلى ما استعارته من الحضاره الاخرى وما قدمته لها. يقول (ديل ميدكو) في كتابه (التوراة الكنعانية المكتشفه في رأس شمرا): "على الرغم من اجتياح البلاد من قبل العبريين ظلت الحضارة الكنعانية هي السائدة حتى سيطرة
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص64
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم -ص64 - 65
(3) رب الزمان - سيد محمود القمني - ص 42 - مكتبة مدبولى الصغير - ط1 1996(1/228)
الآشوريين في عهد حكام يهودا واسرائيل (1). ويقول شبنجلر: "لم يكن الكلدانيون وغيرهم بحاجة إلى إختلاق ما يدللون به على سطوتهم، فهم - في ظل آلهتهم ـ غزوا العالم وأخضعوه. أما اليهود، فلم يكن لديهم إلا تأليفهم الأدبي، فتشبثوا به، وحولوه إلى برهان نظري على عظمتهم تعويضاً عن غيبة أي دليل موضوعي إيجابي ملموس. وفي التحليل النهائي، يظل ذلك التأليف للتاريخ كنز اليهود الوطني وهو كنز مدين بوجوده لكونه ظل الاستجابة التي استجابوا بها لشعورهم بصغر شأنهم، (2) وضياعهم وحاجتهم المستمرة لمخلص، والذي حاول كهنتهم شد أزرهم وتعزيتهم بأن المسيح المنتظر سيأتي ليضع حداً لمعاناتهم وتشتتهم.
رؤيا الخلاص والمسيح اليهودي
كان اليهود طوال تاريخهم، كلما نأى بهم التشتت عن ارض فلسطين، كلما اشتعلوا حنيناً إليها، وازدادوا تشبثاً بفكرة مجيء المخلص الذي يجمع شمل التائهين المشردين، ويعيدهم إلى فلسطين. "هكذا قال رب الجنود: هاأنذا اخلص شعبي من أرض المشرق، ومن أرض مغرب الشمس، وآتي بهم فيسكنون في وسط أورشليم ويكونون لي شعباً، وأنا أكون لهم ألهاً" (سفر زكريا 8).
وكانوا كلما اشتد اضطهادهم، أو كلما اشتدت معاناتهم من الشعور بالاضطهاد، كلما ضري الأمل في صدورهم وقوي الرجاء في نفوسهم، بأن إلههم يهوه سيفتقدهم ويجمعهم من الأراضي التي تشتتوا فيها، ويأتي بهم إلى فلسطين، فالنبي حزقيال يعبر عن رغبة يهوه (الرب) بافتقادهم وعزمه إلى إعادتهم، بصور من الحلم - النبوءة، حيث يقول: "كما يفتقد الراعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمه المشتتة، هكذا افتقد غنمي أخلصها من جميع الأماكن التي تشتتت إليها، أخرجها من الشعوب واجمعها من الأرضي وآتي بها إلى أرضها .. وأرعاها على جبال
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص53
(2) السحر في التوراة والعهد القديم - شفيق مقارـ ص330(1/229)
إسرائيل، واقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها عبدي داود، هو يرعاها وهو يكون لها راعياً، وأنا يهوه أكون لهم ألهاً، وعبدي داود رئيساً في وسطهم" (سفر حزقيال 43) (1).
وقد ظل اليهود في السبي البابلي ما يقارب خمسمائة سنه يسعون لإقامة دولة لهم في فلسطين باستخدام قوتهم فكان الإخفاق حليفهم وأورثتهم المحاولات العقيمة شعوراً باستحالة تحقيق أحلامهم في العودة، وتشييد إمبراطورية تخضع لها الأمم باستخدام طاقاتهم البشرية، فعمدوا إلى ابتكار قوة خارقة تحقق لهم أحلامهم، وراحوا ينتظرون هذه القوة في شخص داود آخر، أو ما يسمى بـ (المسيح المنتظر). ففي ذلك اليوم يقوم أصل يسى (داود) راية للشعوب، يقول أشعيا: وأنا يهوه أكون إلهاً وعبدي داود رئيساً يقول الرب" (سفر اشعياء 10).
وهكذا برزت فكرة المسيح المنتظر في الفكر اليهودي في وقت متأخر، ولم تظهر إلا بعد سقوط دويلة اليهود واسرهم في بابل ثم خضوعهم للفرس. وهذا ما دفع كثيرين من الباحثين إلى الاعتقاد بأن فكرة المنقذ المخلص مستعارة من الزرادشتية التي كان يدين بها الفرس (2). فاليهود حين عجزوا عن تأسيس دولة وإقامة ملك، أوكلوا هذا الأمر إلى إلههم ومن هنا كانت المعتقدات المستمدة من فرائض يهوه وأحكامه، جميعها تدور حول محور واحد هو الشؤون السياسية، حيث ظل يهوه (الرب) أسير حوادث تاريخية معينه، وحبيس آمال سياسية خاصة بهم، كتب على نفسه أمر تحقيقها أو الظفر بها، فأخضعه أتباعه اليهود لهم وجعلوا منه قائداً يعمل على تحقيق نزواتهم، حين كانوا قبائل رحلاً يبتغون الاستقرار في قطعة أرض تكون وطنًا لهم، فاتخذوا من يهوه إلهاً قومياً، وزجوه في مسألة البحث عن وطن وتعيين الأرض، ثم إصدار وعده بتمليكهم هذه الأرض، فكان أن تسلحوا بوعد إلههم حين فكروا بغزو الأرض وظلوا متسلحين به فترة استيطانهم القصيرة، وما فتئوا يرفعونه في وجه أصحاب الأرض ـ الفلسطينيين والعالم- وثيقة شرعيه تجيز لهم
_________
(1) الاصولية المسيحة في نصف الكره الغربي - ص110
(2) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص406(1/230)
اقتلاع أصحاب الأرض من أراضيهم، أو إبادتهم، ليتسنى لهم الاستقرار في الوطن الموعود (1).
والواقع أن الشوق إلى المسيح أو المخلص أو المهدي هو من شوق الإنسان إلى (الفردوس المفقود) أو (عصر الإنسانية الذهبي) الذي تتفق النصوص الميثولوجية على أن الإنسانية ولدت وعاشت في ظلاله ردحاً من الزمن قبل أن تبدأ مصاعبها، ولكن تطلع اليهود إلى المسيح المخلص لم يكن شبيهاً بغيره من تطلعات الشعوب الأخرى. فبالرغم من أن التطلع إلى بطل قومي أسطوري محارب يأتي في نقطة ما من زمن مقبل فيتحقق على يديه خلاص الجماعة البشرية المبدعة لأسطورته وانتصارها على أعدائها، ويحل بفضله عصر ذهبي من العلو والرخاء والسلم ـ هو تطلع أنساني قديم نجده شائعاً في ثقافات العديد من شعوب العالم القديم، التي أقام أودها وصلب عودها دائماً ما ظلت تبدعه من أساطير .... غير أن شعوب الشرق الأدنى القديم التي أبدعت أساطير عامه عن أبطال منقذين كانت شعوباً مستقره في أوطانها، ولم تكن قبائل من بدو رحل باحثه عن ارض تغزوها وتستوطنها مستجلبه باستمرار قدراً غير مألوف من الكراهية والعداء بفضل ما اتصفت به من جشع وشراسة دموية وما امتلأت به من مشاعر الخصوصية.
ولذا نجد أن الحلم العام في حالة الشعب اليهودي اتصف بخصوصية فريدة. ففي حين حارب جلجامش ضد البغي وذهب إلى حد تحدى الموت ذاته، وتمرد بروميثيوس على الاحتكار السماوي للنار فسرقها ليضع أقدام البشر على درب الحضارة ودفع ثمناً مخيفاً لتمرده، نجد أن البطل، المسيح المنتظر الذي تمخض عنه شعور اليهود محاطاً بمخاطر ما أحاطته دمويته به من كراهية وعداء حيثما حل، بطل يقول له يهوه: "اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك .. الرب يهوه عن يمينك يحطم في يوم زجره ملوكاً يدين بين الأمم. ملأ جثثاً أرضاً واسعة. سحق رؤوسها" (المزمور110: 1ـ6) (2). والمقارنة بين الحالتين تدل على طبيعة النفس العبرية وهي طبيعة عنيفة حاقدة .. وتدل على ان النص التوراتي لابد وان يكون قد حرف
_________
(1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان ص111
(2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص40(1/231)
في العصور اللاحقة، لاسيما عصر المنفى وهو عصر الحقد الاكبر، فعكس روح الحقد والكراهية والعنف (1).
ففي السبي البابلي أخذ اليهود يتطلعون إلى مجيء بطل يعيد لهم (مملكتهم) الضائعة لا بعملهم وكدهم، بل بعمل خارج عنهم، ومن الطبيعي أن ينظر الإنسان، إذا ما حل بما حوله الانحلال والتدهور، إلى عصر ماض، يعكس عليه آماله وتطلعاته، وعندما جال العقل اليهودي، خلال السبي البابلي بنظره في العصور السالفة، توقف عند عصر داود، واخذ العقل اليهودي ينصبه في مخيلته مثالاً لما يجب على التاريخ أن يكون، فالعصر الداودي بخيره المادي الكبير وبثرائه ورخائه وباستقراره السياسي، ووحدته أصبح في نظر اليهودي عصراً ذهبياً، لم يكن التطلع إليه مجرد أمل، أي الأمل بحدوث شيء معين طيب، وإنما كان التطلع إليه تطلعاً إلى تحقيق مشيئة الرب، لأن الدولة الداوديه هي مشيئة الرب في الأرض، والتطلع إلى تحقيق مشيئة الرب تعبد (2). ولذلك أصبحت مملكة داود مثلهم الأعلى، وكانوا كلما ساءت ظروفهم وتدهورت أحوالهم، كلما أمعنوا في إضفاء الرونق والجلال على عصر داود، إلى أن جعلوا منه صخرة خلاص، عليها تتحطم الأمم جميعها ومنها يكون خلاص اليهود.
هكذا كانت البدايات الأولى لظهور النزعة المسيحانية لدى اليهود منذ بداية زوال (دولة) اليهود التي كانت قائمه في فلسطين، أي منذ هدم الهيكل. فمنذ ذلك الحين، فيما يروى مؤرخو اليهود ظهر الاعتقاد بمجيء (المسيح) الذي سوف يخلص بني إسرائيل من المنفى، ويعيد إليهم مجدهم التليد وقد اتخذ هذا الأمل المسيحاني شكل أمل مزدوج: أمل مزدوج في العودة إلى العصر الذهبي لليهود، وأمل في قيام عالم أفضل مختلف كل الاختلاف عن عالمنا، وهذا الخلاص المسيحاني لن يحدث إلا عند نهاية الزمن. والتعجيل بمعجزة مجيء العصر المسيحاني لا يمكن أن يأتي إلا من الله، وما على الإنسان إلا أن يصلي لله ويحسن عمله أملاً في ألا يتأخر الخلاص، وكل محاولة للعودة إلى ارض إسرائيل قبل ظهور الإشارات الآلهيه، كفر وهرطقة وثورة
_________
(1) اصول الصهيونية في الدين اليهوي - د. اسماعيل راجي الفاروقي - ص18 - مكتبة وهبه - ط.2 1988
(2) اصول الصهيونية في الدين اليهودي - د. اسماعيل راجي الفاروقي - ص 61 - مكتبة وهبه - ط2 1988(1/232)
ضد الإله وعودة اليهود إلى ارض آبائهم شأن من اختصاص الإله وحده، ولا تتم بقرار من بني البشر (1).
هكذا وضع كهنة اليهود خطة الرجوع إلى فلسطين، وبناء الهيكل في صهيون، ليكون عرشاً للمسيح المنتظر، الذي يأتي في سطوة زمنية، وينقذهم من حكم الدول التي استعبدتهم، ويعيدهم إلى أرض الرب ومهد الأنبياء. فعجز اليهود في تشتتهم وقصورهم المادي، كانا ينتهيان بآمالهم إلى مجرد الرجاء من اله داود، أن يبعث إليهم من لدنه مخلصاً، ينقذهم من هوان الأسر ويعيدهم إلى أرض فلسطين، بمعجزات ربانية تعوض عنهم قصورهم وعجزهم، وبتعبير الكاتب (جون اليجرو): أن ما عجز اليهود بقواهم الذاتية عن تحقيقه، سوف يحققه يهوه (الإله) بجنده السماوي تحت قيادة المسيح المحارب، سليل بيت داود، وابن الله، وسيكون ذلك المسيح الذراع اليمنى للملك المنشود، ولسوف تبيد أنفاسه ذاتها الأشرار الذين جرؤا على الوقوف في وجه قصد يهوه المتمثل في أن يحكم شعبه المختار العالم (2).
وقال السيد يهوه: "في ذلك اليوم أقيم مظلة داود الساقطة، وأحصن شقوقها وأقيم روحها وأبنيها كأيام الدهر، لكي يرثوا بقية أدوم وجميع الأمم .. وأرد سبي شعبي وأغرسهم في أرضهم" (سفر عاموس 9). وقال يهوه: "إني أجمع جميعك يا يعقوب أضم بقية إسرائيل" (سفر ميخا2) ... "وأجعل عيني عليهم أرجعهم إلى هذه الأرض أبنيهم ولا اهدمهم، أغرسهم ولا اقلعهم، أعطيهم قلباً ليعرفوني أني أنا يهوه، فيكون لي شعباً وأنا أكون لهم إلهاً" (سفر أرميا 24).
من التشرد إلى الرغبة بحكم العالم
يزخر تاريخ اليهود على النحو المدون به في العهد القديم بالكثير من الاشارات إلى اشكال الصراع التى تجسدت فيما عرف بأنه "الحرب" فالتوراة تطبع العقيدة الاسرائيلية بعد ذلك برباط وثيق بين "حرب اسرائيل" و "رب اسرائيل"، حيث يصبح
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد السقا ص36 أو صراع اليهودية مع القومية الصهيونيةـ د. عبد الله عبد الدائم ص 25
(2) المسيح القادم (مسيح يهودي سفاح) - جورجي كنعان ص167(1/233)
الرب هو "رب الجنود" الذي يمهد لبنى اسرائيل السبيل لتحقيق مآربهم في الغزو والاحتلال وطرد الشعوب (1).
فلم يكتفي كهنة اليهود بالحلم بالعودة وتأسيس دولة، بل بالرغبة بحكم العالم واستعباده. فبمقدار ما كان شعورهم بالضعف والمهانة يقوى، بمقدار ما كان الأمل بالعودة يقوى، وراح أنبياءهم يضخمون صورة الأمل والإطار الذي يحتضن هذه الصورة، فإذا صورة المملكة التي يحلمون بإنشائها صورة خيالية لا نظير لها في عالم الواقع لأنها بنت خيالهم، وكان إطار تلك الصورة إمبراطورية عالمية واسعة الأرجاء بعيدة الحدود، يكونون فيها سادة والشعوب جميعها عبيداً، وتكون صهيون عاصمة العالم.
قال يهوه (الرب) مخاطباً ابنته السيدة المدللة - إسرائيل -: "بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك، ويلحسون غبار رجليك" ... وقال مخاطبا صهيون التي اشتهاها مسكنا له: "وبنو الغريب يبنون أسوارك .. وملوكهم يخدمونك تنفتح أبوابك دائما ليؤتى إليك بغنى الأمم، وتقاد ملوكهم .. ارفعي عينيك حولك وانظري قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك يأتي بنوك من بعيد وتحمل بناتك على الأيدي وتتحول إليك ثروة البحر، ويأتي إليك غنى الأمم" (سفر أشعيا 6، 49). ويقول يهوه (الرب) مخاطباً شعبه المختار في مكان آخر: "وعلى الأيدي تحملون وعلى الركبتين تدللون .. ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم، أما انتم فتدعون كهنة الرب تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون" (سفر أشعيا 61، 66).
بهذه الرؤى ـ الأحلام ـ التنبوءات وأمثالها، ظل أمل العودة إلى فلسطين، دائم الاتقاد في صدورهم كظاهرة ورع روحيه مقدسة، وقد لبثوا دهراً يتخيلون المسيح الموعود ملكاً، صاحب عرش وتاج يفتح فلسطين بالسيف ويعيد فيها بناء الدولة الدائله، لكي يقاد إليها ملوك الأمم فيسجدون لإسرائيل ويلحسوا غبار رجليها (2).
_________
(1) المجتمع الاسرائيلى وثقافة الصراع - د. عمر عبد العلى علام - ص 52 - دار العلوم للنشر والتوزيع - ط1 2007
(2) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان - ص115(1/234)
إلى هذه الدرجة من العنصرية ومحدودية الأفق تهبط الفقرات السابقة بمعنى الربوبية .. ويبلغ الافتراء على الله ذروته في مفهوم التوراة المتداولة عن الربوبية. "لقد جعلوا من رب العالمين شيخ قبيلة" (1) ... فالرب في التوراة ليس رب العالمين ولا رب الأكوان كلها إنما هو رب إسرائيل وحدها، ولهذا وفي آخر الزمان يأتي الله بكل الشعوب والأمم لتلحس تراب نعل حذاء إسرائيل ... فالروببيه والعناية وإسباغ النعم هي أمور يجب أن تنفرد بها إسرائيل وحدها والله ليس رباً للشعوب والأديان الأخرى. فكل ما عدا شعب إسرائيل (جوييم) حيوانات وكل ما عدا الديانة اليهودية خزعبلات. وما عرضناه من الصور الغاضبة، الحاقدة، الساخطة الناقمة، في اطر من السحق والقتل والذبح، يعبر عن مفهوم بني إسرائيل القدماء للإله، وعن الصورة التي حملوها في نفوسهم عنه (2)، مما دفع توماس جفرسون وهو من أعظم الآباء المؤسسين لأميركا إلى القول في (الأفكار الحية) عن الإله الذي اقطع فلسطين (لشعب إسرائيل إلى الأبد)، بأنه فظ، حقود، مزاجي، ظالم (3). والهاً هذا شأنه "يختار شعباً ويمنحه امتياز اغتصاب وتدمير الآخرين، لا يمكن إن يكون إلها للبشر أجمعين، كما قال جان جاك روسو" (4).
فكرة المسيح المخلص ونهب أساطير الشعوب الأخرى
يذهب اغلب الباحثين إلى القول بأن اليهود أثناء فترة السبي البابلي اخذوا فكرة المخلص عن البابليين أو الفرس، فالديانة الزرادشتيه، التي وضع مبادئها زرادشت (660ـ583 ق. م) تبشر بظهور مخلص من بيت زرادشت، مرة كل ألف عام لكي يناصر (هرمازدا) اله الخير، على أخيه (الهرمان) اله الشر، كلما أمعن الفساد في الأرض واستفحلت الشرور. كما كان البابليون يعتقدون انه كلما استشرى الفساد في الأرض واستغرقت البشر حمأة الشرور والآثام عاد إليهم (ماردوك) ليطهرهم ويشيع الخير فيهم.
_________
(1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص71
(2) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص146
(3) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص154
(4) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبهـ ص275(1/235)
ويبرر هؤلاء الباحثين استنتاجهم السابق بالقول، انه بعد انتهاء مملكتي إسرائيل ويهودا على يد الأشوريين والبابليين، عاش اليهود في كنف الإمبراطورية الفارسية ثم تحت حكم السلوقيين ثم الرومان مجرد تابعين محكومين فحسب، لهذا لم يتمكنوا من إبداع أساطير ذات ملامح حضارية مستقره؟. ومما يؤكد ذلك أن وثائق بلاد النهريين ومصر وكنعان عن الخلق والجنة والطوفان وغيرها، يرجع تاريخها إلى الفترة من منتصف القرن الثامن والعشرين إلى حوالي القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، هذا في حين أن أقدم مصادر التوراة يرجع تاريخها إلى منتصف القرن العاشر أو التاسع قبل الميلاد، ومن المعروف أن أول تدوين للعهد القديم حدث بعد وفاة النبي موسى عليه السلام بحوالي خمسمائة سنه أي حوالي القرن السابع قبل الميلاد (1).
يضاف إلى ذلك أن يهود السبي البابلي كان لهم النصيب الأكبر في تكوين الديانة اليهودية، حيث مارس اليهود شعائرهم الدينية وواصل كهنتهم أعمالهم الدينية بتحرير أهم فصول التوراة، والتمهيد لتدوين التعاليم اليهودية فيما سمي بـ (التلمود البابلي)، حتى أن السبي البابلي كان عاملاً قوياً في تطوير الديانة اليهودية في القرون التي تلت ذلك، حيث دونت خلالها أهم فصول التوراة، التي دونها الكهنة اليهود باللغة الآرامية. وحتى ما ورد في التوراة من مزامير وأمثال وأشعار وشرائع وما إلى ذلك من أساطير وقصص فهي أيضاً مستقاة من المصادر الأدبية القديمة لمختلف الثقافات التي اطلع عليها كتبة التوراة ومن المعتقدات والتقاليد الاجتماعية التي عاشوها ومارسوها فعلاً في فلسطين وبابل وهى كنعانية بابلية مصرية الأصل (2).
كما يرى البعض أن كتاب التوراة هو في مجمله، لا يخرج عن إطار التراث العربي (مع الفارق) الذي كان يحفظ مدوناً في الذاكرة لعشائر عربيه عاشت أحداثاً معينه في منطقة بدويه جد ضيقه من شبه الجريرة العربية، وان كثيراً من مدوناته إنما كانت
_________
(1) أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم - د. كارم محمود عزيز ـ ص242ـ243 - - دار الحصاد للنشر والتوزيع /دمشق- ط1 1999
(2) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص268ـ369(1/236)
جزءاً من ذلك التراث الذي تناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل. فقصة التكوين البابلية وقصة الطوفان هي نفسها التي تحدثت عنها القيم المسمارية قبل ألفي عام من أحداث التوراة، وقصة أيوب، والأمثال والمزامير، والأناشيد، كانت كلها بعضاً من التراث المتداول، جمعه مدونو التوراة إلى جانب أخبار تلك العشائر البدوية العربية في منطقة عسير من شرق بلاد غامد في شبه جزيرة العرب (1).
ويكشف فرويد عن النهب اليهودي من الديانة المصرية عند حديثه عن ثنائية العقيدة الدينية عند اليهود فيقول: "أن كلمة (أدوناي) في العبرية ـ وهى اسم الرب في العقيدة الموسوية ـ هي تحريف لكلمة آتون المصرية ـ أي إله التوحيد. ويعرض العلامة ديورانت في (قصة الحضارة) الفارق بين ديانة التوحيد الموسوية من جهة، وديانة أحبار التوراة في وقت لاحق من جهة أخرى فيقول: إن تراتيل إخناتون في تصوير الإله ليست من أولى قصائد التاريخ الكبرى فحسب، وإنما هي شرح بليغ لعقيدة التوحيد، إذ يرى أن إلهه هو رب الأمم كلها. وفي مديحه له يذكر مصر قبل غيرها من البلاد التي يوليها كلها عنايته. ويعلق (ديورانت) على ذلك بقوله: إلا ما أعظم الفرق بين هذا وبين العهد القديم، عهد اله القبيلة ... الخاص بفئة معينة. ثم يضيف ديورانت فيقول: ثم انظر إلى ما في القصيدة من مذهب حيوي حينما يقول: أن "آتون" لا يوجد في الوقائع والانتصارات الحربية ... وإنما في أزهار الأشجار، وفي جميع صور الحياة والنماء .. وليس كيهوه رب الجيوش، بل كان رب الرحمة والسلام" (2).
وهكذا فأنه يمكننا بسهولة ملاحظة أن النهب في الأسطورية السومرية/ البابلية، كان على نطاق واسع، مثلما كان من الأسطورية المصرية والاختلاف الوحيد بين أسطورتي الخلق البابلية واليهودية أن البابلية حسمت الصراع بين الإله (مردوخ) وقوى الفوضى الأولى (تيامات وجيشها) بانتصار مردوخ الكامل عند بدء الخليقة، بينما جعلت الأسطورة اليهودية الصراع مستمراً ومتواصلاً إلى أن يحسم في آخر
_________
(1) العرب الساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل ـ د. احمد داوود ص95 - طباعة دار المستقبل /دمشق- ط1 1991
(2) رسائل حضارية في مواجهة اليهوديةـ الأب فوتيوس خليل ـ ص66(1/237)
الأيام بالانتصار الأخير الوارد في سفر الرؤيا. ولهذا نجد أن (بزوغ) السماء الجديدة والأرض الجديدة بدلاً من سماء الأيام الأولى وأرضها، الذي وقع في أسطورة مردوخ وتنبأ به سفر الرؤيا لن يكون إلا في (آخر الأيام) في الأسطورة اليهودية، نظراً لتأخير المعركة الأخيرة مع التنين انتظاراً لمجيء المسيح المنتظر والعصر الألفي السعيد. ولن يكون ذلك إلا بتحقيق مخطط للخليقة وتسيد شعبه المختار الأخص على العالم بعد القضاء على كل أعدائه الأمميين أي من يتظاهرون أنهم بشر وهم في حقيقتهم سائمة (1).
فأحبار اليهود وكهنتهم لم يكتفوا بنهب أساطير الشعوب الأخرى، بل عملوا على تشويهها ومسخها إشباعاً لأحقادهم الدفينة علي شعوب المنطقة والبشرية، ومحاولة منهم لإخفاء هذه السرقة والنهب المنظم لتراث الشعوب الأخرى. فهناك مزامير عديده استوحت من الطراز الكنعانى كما تشهد بذلك نصوص رأس شمرا، حيث أنه بناء على حل رموز النصوص العديدة التي وجدت في رأس شمرا، (أوغاريت القديمة)، يستنتج أن الكلمات والتعابير العبرية التي كان يشتبه العلماء في أن لها معاني دينية، ظهر أنها متصلة بأفكار العبادة في اللغة الكنعانية، وأن جميع القوانين، والطقوس والاحتفالات، والأغاني، والأمثال الإسرائيلية، استعيرت من العموريين والكنعانيين الذين كانوا يعيشون في البلاد قبل أن يأتي العبرانيون إليها (2). كما ان هناك مزامير اخرى ولاسيما المزمزر 104 كأنها نسخ للأناشيد المصرية. .. وفي ظل هذا الجو من التلفيق والتوفيق ستولد الاسفار الخمسه (التكوين والخروج واللاويون والعدد والاشتراع) وهى نواة التوراة التى تتضمن جوهر العقيدة اليهودية. كما ان الاساطير المتصلة بالخلق قد اقتبست في جوهرها من الاساطير القديمة فيما بين النهرين، ولا سيما من الحكايات الآشورية- البابلية، فحكايات خلق العالم والفردوس الارضي والطوفان قد سبق أن وجدت مدونة في عبارات قريبة جداً من عبارات التوراة في الاشعار السومرية أو في ملحمة جلجامش، التى ترجع إلى الالف الثاني ق. م (3).
_________
(1) قراءة سياسية للتوراة ـ شفيق مقار ـ ص165
(2) القدس في العصر البرونزي (1000 - 3000 ق. م) "، ضمن كتاب القدس في التاريخ، ص 41 - 40، وينظر ص 43 - 42.
(3) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم ص77 - 81(1/238)
وفي كتابه (العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم) يناقش (د. بشار خليف) اختلاقات التوراة وانتحالاته لتراث المشرق العربي في شقيه الرافدي والكنعاني، ويقدم إضاءة على تيار فكري تاريخي جديد في إسرائيل ظهر في الثلث الأخير من القرن العشرين بما يسمى المؤرخون الجدد في إسرائيل والذين أحبطهم التنقيب الأثري في فلسطين في العثور ولو على دليل بسيط عن تواجد حضاري مهم للعبرانيين والوارد في التوراة، ما أدى إلى نقدهم ونقضهم للروايات التوراتية .. حيث يشير إلى مقولة الباحث الإسرائيلي (زئيف هيرتزوغ (:
"إن الحفريات الأثرية المكثفة في أرض (إسرائيل) خلال القرن العشرين، قد أوصلتنا إلى نتائج محبطة، كل شيء مُختلق، ونحن لم نعثر على شيء يتفق والرواية التوراتية. إن قصص الآباء في سفر التكوين (إبراهيم - يعقوب - اسحق) هي مجرد أساطير. نحن لم نهبط إلى مصر، ولم نخرج منها. نحن لم نته في صحراء سيناء. نحن لم ندخل إلى فلسطين بحملة عسكرية. وأصعب الأمور أن المملكة الموحدة لداود وسليمان التي توصف في التوراة بأنها دولة عظمى، كانت في أفضل الأحوال مملكة قبلية صغيرة. إنني أدرك باعتباري واحداً من أبناء الشعب اليهودي وتلميذاً للمدرسة التوراتية، مدى الإحباط الناجم عن الهوة بين آمالنا في إثبات تاريخية التوراة، وبين الحقائق التي تتكشف على أرض الواقع" (1). ويشير المؤلف إلى أن طروحات هذا التيار سوف تؤدي إلى انهيار المدرسة التوراتية الأثرية (2).
فالأدلة العلمية كثيرة قاطعه لم تعد تترك مجالاً لأدنى شك في أن كثير من حكايات التوراة، نهبت من أساطير الشعوب الأخرى حيث أنه وفي وجه هذه الأدلة، لم يعد يجدي الإنكار، ولذا صار اعترافاٌ عاماً. لكن (شطارة) الشعب المختار ودعاته وتبعية أتباعه الأمميين جعلتا من غير المقبول أن يعترف بالنهب دون أن يستغل ذلك
_________
(1) عالم الآثار الإسرائيلي " زئيف هيرتزوغ " صحيفة هآرتس 28/ 10/1999 - نقلاً عن السفير اللبنانية 1/ 11/1999
(2) العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم - د. بشار خليف - دار الرائي للدراسات والترجمة - دمشق 2004.(1/239)
الاعتراف لفائدة تعود على عملية النصب والتلفيق الكبرى التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ (1).
وبعد أن اتضحت لنا أبعاد هذا التزوير والنهب لأساطير الشعوب الأخرى (2)، لنا أن نسأل كما يقول (شفيق مقار) .. "ما الذي أعطاه الشعب المختار الأخص للشعوب التي نهب من ثقافتها وفكرها الديني لقاء ما نهب، إلا المذابح والإبادة والتخريب وهدم المدن العامرة وحرقها ونهب ثروات الشعوب المادية بعد ثرواتها الدينية والثقافية. وان شئت أن تحدد الشعوب التي يدين لها الشعب المختار الأخص بأعظم ما نهب، فابحث عن الشعوب التي يكن لها ذلك الشعب اكبر قدر من العداء ويطوي لها جوانحه على أفظع قدر من الحقد والضغينة والكراهية، وستجد أن الشعوب الأمميه التي تتصدر قائمة الكراهية المشبوه لكل الأمميين، شعوب مصر وكنعان وما بين النهرين، لأنها الشعوب التي سرق منها الشعب المختار أكثر مما سرق من أية شعوب غيرها، ونحن نعرف جزاء سنمار الذي كان نصيباً لكنعان المسكين (الشعب الفلسطيني) لقاء نهب الشعب المختار لإلهه (آيل) وفكره الديني، وفي مقابل ضيافته وفتحه أبواب أرضه، الأرض التي تفيض باللبن والعسل" (3).
السبي البابلي وظهور النزعة القبلية المغلقة
من خلال عرضنا السابق لتاريخ اليهود قبل السبي البابلي لاحظنا انهم مثلهم مثل القبائل السامية الآخرى التى هاجرت من الجزيرة العربية، حاولوا الاستقرار في مناطق الهلال الخصيب، حيث استقروا في فلسطين في النهاية على يد سيدنا ابراهيم، وعاشوا مع الشعوب الاخرى التى سبقتهم في فلسطين كالكنعانيين والفلسطينيين. وحيث انهم كانوا بدو رحل فقد استفادوا من هذه الشعوب واختلطوا بها وقلدوها في كثير من شؤونها حتى انهم في كثير من اوقاتهم عبدوا آلهة هذه الشعوب وحدث تزاوج بينهم وبين تلك الشعوب، وحتى ادعائهم بالتميز وانهم شعب مختار وحاملي الشريعة اصبح لها معنى آخر عند انبيائهم حتى بشر بعضهم بملكوت
_________
(1) قراءة سياسية للتوراة - شفيق مقار ـ ص181
(2) راجع رد على التوراة - نذرة اليازجي -ص 48 - دار طلاس- ط3 1990
(3) قراءة سياسية للتوراة ـ شفيق مقار - ص155(1/240)
الله والسلام الذي سيعم كافة الامم. وخلال مرحلة السبي البابلي في العراق، وهي الفترة التي يظهر أنهم بدأوا فيها بتدوين التوراة، كان اليهود قد تركوا الالتزام بدينهم وقلدوا الدول التي يعيشون فيها بعبادة الأوثان.
ولكن عندما لاحت الفرصة لليهود للعودة من السبي البابلي، انتهز هذه الفرصة عدد قليل منهم لأن الكثير من المسبيين أعجبتهم الأرض الجديدة، ولكن القلة المتشددة التي عارضت الاندماج حفظت بني إسرائيل من الاندثار (1). مما ادى إلى حدوث سقوط جديد في أحضان النزعة القبلية وعودة إلى الحرفية والتعصب بإقامة سلطة ثيوقراطية دينية قهرية كهنوتية، حيث سبق لهذه الحركة أن أطلت برأسها قبل قرن من الزمن في عهد جوزياس ولكنها أسقطت على يد الأنبياء (2).
فعندما فرض ملك فارس (قورش) على حكام مقاطعاته احترام العبادات المحلية كي يضمن سيطرته على اتباعه المتعددى المشارب. واصدر أمر إلى الحكام الفارسيين في مصر باحترام عبادة الإله (سيت) في الدلتا، وأصدر قورش كذلك عام 537 ق. م قراراً يسمح للإسرائيليين بإعادة بناء الهيكل وللمنفيين بالعودة إلى بلدهم. لم ير وجهاء العبريين انطلاقاً من تعصبهم العرقي في هذا الاجراء السياسي الذي يسمح بالعودة إلى ممارسة العبادات القديمة في مصر وما بين النهرين والذي ينسجم مع تقاليد الهلال الخصيب ... لم يرى وجهاء العبرين في هذا الاجراء الا ما يعنيهم ونظروا إلى قورش على أنه منفذ المشيئة الإلهية، هذا بالرغم من ان الجماهير التي بقيت في فلسطين لم تبد حماستها لإعادة بناء المعبد. فقد ورد في سفر (حجي) في هذا الصدد: "لم يحن الوقت بعد لإعادة بناء بيت يهوه". فقد كان الناس في أكواخهم القمئية يحلمون ببيوت خاصة بهم .. وعبثاً حاول النبي (حجي) أن يعدهم بأن بناء المعبد ستكفل لهم الازدهار الزراعي .. وهكذا لم يبدأ العمل في
_________
(1) تاريخ فلسطين قبل الإسلام- مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html#file4
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص94(1/241)
الهيكل إلا عام 520 ق. م أى بعد سبعة عشر عاماُ، ولم يدشن المعبد الجديد الا عام 515 ق. م (1).
ان من عاد من الوجهاء إلى بلده - وقد بقيت الأكثرية في بابل (2) - قد وصل إلى هدفه فلقد أصبح رئيس الكهنة لديهم يهيمن على كل اسرائيل بعد اعادة بناء المعبد ... وبفضل تعاون أرستقراطية أورشليم مع المحتل الفارسي أصبح كبار الكهنة الصديقيون الذين كانوا قد شغلوا المناصب الكهنوتية -أباً عن جد منذ داوود وسليمان- مالكين لزمام السلطة العليا على انهم موظفون ووكلاء لملك الفرس. وهكذا ظهرت آثار النزاع بين العائدين من بابل وبين الذين ظلوا في فلسطين - يشهد بذلك سفر عزرا- ولكن الخلاف قد تجاوز قضية إعادة بناء المعبد إلى خلاف خاص .. وذلك حينما طلب المنفيون العائدون - ومعظمهم من الملاكين الاغنياء - إلى الفلاحين الفقراء البائسين إرجاع أرضهم إليهم. وواقع الحال أن عقليتين راحتا تصطرعان على كافة الصعد، فالمنفيون القدامى الذين انقطعوا عن بلدهم وشعبهم زماناً طويلاً كانوا يدعون أنهم وحدهم حملة التقاليد الموروثة ولابد لهم من فرض التقيد بها بصرامة ودقة.
ولكي يحرص عزرا على مثانة جدران العشيرة وتماسك أسوارها فقد أولى أهمية خاصة لتحريم الزواج بالاجانب وشدد على الانكماش والانكفاء بدقة وصرامة وبمزيد من التقوقع، واجبر اليهود الذين كانوا قد بقوا في ارض فلسطين وتزوجوا من كنعانيات غير يهوديات وأنجبوا منهن أولادا، أجبرهم على ترك زوجاتهم .. وراح عزرا يقول لليهود إن سبب سبيكم هو اختلاطكم بأهل الأرض، فانتم شعب مقدس بل انتم شعب الله المختار فلا يجوز لكم حتى ملامسة أجنبي. (3). جاء في سفر عزرا: "لا تزوجوا بناتكم لابنائهم ولا تأخذوا بناتهم لابنائكم، ولا تهتموا ابداً لسلامتهم وسعادتهم". وألح عزرا على طلاق النساء الاجنبيات وطردهن مع أولادهن. ولم يجرؤ أحد على الاعتراض. وهكذا إلى أن فرغوا من حل مشكلة المتزوجين من غريبات.
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص98 - 99
(2) يذكر أحد المؤرخين أن عدد الراجعين كانوا 42 ألفاً وهم أقلية بالنسبة للعدد الحقيقي
(3) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحيةـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص246ـ247(1/242)
لقد قُضي على الحركة النبوئية المتطلعة إلى العالمية وانتصر التعصب تحت وطأة عصا طبقة الكهنوت التى كانت بعد سقوط المملكة تمتلك جميع السلطات، تدعمها في ذلك سلطة المحتل الزمنية، حيث يمكن القول ان فترة السيطرة الفارسية هي التى تمت فيها عملية اضفاء الطابع القانوني على الكتب المقدسة، وهذا يعني ان التشريع اليهودي لم يكن نقطة البداية في تاريخ اليهودية اذ ان نقطة البداية تعود فعلاً، إلى عصر السبي البابلي ثم جاء التشريع الموسوي متأخرا عنه (1). وهكذا الغي منذئذ كل تطور جديد وبدأ حكم المجامع الدينية وأحبار الشريعة، و قضى كلاً من عزرا ونحميا على مستقبل هذا الازدهار الرائع لثقافة الانبياء ونزعتهم الروحانية ... ولم يعمل الانتقال من الخضوع للسيطرة الفارسية إلى نير السيطرة اليونانية على فلسطين (332 - 331ق. م) على احداث ايه تغيرات عميقة في الحالة الراهنة.
وهكذا كان تسلم جوزياس للسلطة عام 639 ق. م منعطفاً في تاريخ فلسطين والديانة اليهودية: "فلقد راح صوت الانبياء يخمد بعد تلك الهبة النبوية الكبيرة، لان ما زرعه الانبياء من خميرة حية قوية في العقيدة اليهودية، قد أجهزت عليه الطقوسية الحرفية للتقاليد الدينية التى طغت عليها الاعتبارات السياسية، ووقعت هذه الجماعة التى اغنت التراث الروحي الانساني بتعاليم انبيائها، لسلطان شكلانية النصوص وحرفية الشريعة ولن يقدر لها أن تسهم إسهاماً نوعياً في التاريخ العالمي" (2).
ويمكن تسمية هذه الفترة بعد السبي البابلي بالقرون المظلمة في تاريخ فلسطين، فلقد جفت ينابيع الابداع الروحي وتحجرت روح الايمان وطغت المؤامرات السياسية المشتبكة الجشعة. هذا، وفي ظل حكم ملوك يهودا المعتمدين على المحتلين المتناوبين عليهم لم تنقطع فلسطين عن اداء دورها التاريخي فحسب، بل صارت أداة مسخرة في يد القوى الغربية الكبرى. لقد توقف الابداع الروحي في هذه المرحلة التاريخية الخاضعة لنير ملوك محتلين مغامرين متعاونين مع كل الاسياد
_________
(1) ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ص 49
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص100 - 101(1/243)
المتعاقبين على ارضهم .. نعم لقد أصبحت أرض الكنعانيين، أرض تلاقي الحضارتين الزاهرتين، حضارة ما بين النهرين ومصر، الارض التي سبق لها ان شهدت ولادة ثقافة وعقيدة جديدتين تشهد بغناهما توراة أوغاريت الكنعانية، هذه الارض التى تقبلت العقيدة الابراهيمية بخضوعها المطلق لله، والتى رنت في جنباتها أصداء الرسالات العظيمة للأنبياء .. إن هذه الارض تبدو في هذه المرحلة وكأنها تخرج من التاريخ فلم يظهر فيها الا أسماء ملوك تابعين لفارس وللسلوقيين اليونان ثم الررومان، ولم تعرف الا اسماء قادة اجانب سفاحين من قطاع الطرق الفاسدين يدعمون من الامراء التافهين من يفوق غيره بالعطاء (1).
عيسى المسيح عليه السلام
كان اليهود الذين رجعوا من الأسر البابلي قد تجمعوا في القدس، حيث تمتعوا خلال حكم الفرس ببعض الامتيازات. وما إن حل الحكم الإغريقي حتى أصبح وضعهم يتأرجح بين المد والجزر، ولاقوا أسوء الحالات في عهد الملك السلوقي أبيفان، الذي دمر الهيكل ونهب خزائنه واجبر اليهود على نبذ اليهودية واعتناق الوثنية. وبعد استيلاء الرومان على فلسطين، لم يكن حال اليهود فيها بأحسن من حالهم في عهد الإغريق، هذا بالرغم من إعادة بناء الهيكل، حيث شهدت فلسطين في عهد هيرودوس إضراب الأحوال بسبب سوء تصرف الموظفين الرومانيين. واهم ما تخلل هذه الفترة من أحداث هو ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وبدأ دعوته، تم محاكمته وصلبه.
"فمن المتواثر أن السيد المسيح ولد في أعقاب ثورة جائحة، اشتعلت في أقاليم فلسطين على الخصوص، أهدرت فيها دماء الألوف من الغلاة اليهود وأتباعهم لأنهم هبوا في وجه الدولة الرمانية بسبب تفشى الظلم والفساد" (2)، حيث أخذت الأحوال تسوء بين السلطة الرومانية واليهود، حتى وصلت إلى ذروتها في سنة 70م، عندما قام (فسبسيان) ابن الإمبراطور الروماني، بقمع تمرد اليهود ودخل القدس ودمر
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص102 - 103
(2) حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح ـ ص 45 - دار الحرية للطباعة/ بغذاد(1/244)
الهيكل نهائياً (1). والذي يهمنا هنا هو ظهور المسيح عليه السلام، الذي أرسله الله ليصلح حال اليهود الذين عادوا إلى سابق عهدهم، في تخليهم عن أوامر الله ونواهيه وانحرفوا عن الطريق القويم بالرغم من أن الله أرسل لهم العديد من الرسل لهدايتهم، ولكنهم رفضوا دعوتهم وتآمروا عليهم فحلت بهم المصائب وعاشوا في ضيق شديد، واخذوا ينتظرون ظهور مسيح ليخلصهم مما هم فيه من تشتت واضطهاد، جلبوه على أنفسهم بسبب ضلالهم وانحراف كهنتهم الذين حرفوا أوامر الله ونواهيه، فعاش عامة الناس في ضيق وضياع شديد، بسبب ظلم الحاكم الروماني من ناحية، وانحراف كهنة الهيكل من ناحية أخرى.
وقد سبق لنا أن رأينا كيف تحجر وانكمش ذلك الايمان الأول العظيم وبخاصة بعد النفي، فالشكلانية والانكماش والتعصب العرقي تتجلى كلها لدى الجماعة اليهودية في زمن المسيح بكل فئاتها. في القمة طبقة رجال الكهنوت من الصدوقيين .. حيث ترفض هذه الطبقة كل ما لم يرد حرفياً في الشريعة، وترفض كذلك كل اجتهاد وتجديد. أما امتيازاتهم الكنسية فكانت وراثية. ومنذ ان فقدت فلسطين استقلالها راحوا يتعاونون مع المحتل الفارسي، ثم المصري ثم اليوناني فالروماني. وقد ظهر الفريسيون آبان حكم المكابيين حينما رفض هؤلاء متابعة النضال السياسي بعد حصولهم على حرية العيش حسب تعاليم التوراة بصرامة وتشدد، فعليهم إذن أن يلتزموا بالشريعة التزاماً حرفياً دون أي تنازل كي يطبقوها على كل مسلك حياتي يومي، منطلقين من تفسيرات تبريرية ملزمة ليجعلوا الحياة اليومية مجموعة من الطقوس الشكلية الضيقة. والى جانب هذه اليهودية الرسمية هناك جماعة الاسينيين التي انفصلت عن العالم لتعيش في الاديرة حياة الرهبنه، بما تقضية من التزامات أخلاقية صارمه مبنية على تفسير تنائي يقتضي الانقطاع عن العالم لتكوين (شعب الله) الحقيقي والعيش على أمل رؤيوي في انتظار (رب العدالة). أما يسوع فقد ظهر بمعزل عن كل هذه الطوائف، والشخص الوحيد الذي يرتبط به هو يوحنا المعمدان. "لقد تنبأ يوحنا المعمدان بمجئ ملكوت الله كما سيتنبأ به يسوع، وقد دعا الناس جميعاً لا اليهود وحدهم إلى أن يعدوا أنفسهم لذلك.
_________
(1) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسه - ص 676(1/245)
جاء في إنجيل متى: "لا تظنوا أن ابراهيم أب لكم وحدكم لأني أقول لكم إن الله قادر أن يصنع من هذه الحجارة أولاد لابراهيم". وهذا ليس قطيعة أو انفصالاً عن (الشعب المختار) و (العهد) و (الوعد) ولكنه رفض لقصر صفة (شعب الله) على شعب مخصوص يورث كل ما وعده به الله لنسله.
ان هذا الانتقال من الإطار القومي إلى العالمية هو ما بشرت به رسالة يسوع" (1).
ومن أمثلة انحراف الكهنة وتضييقهم على الناس هو ما قام به الكاهن عزرا، الذي حرم الزواج من اجنبيات واجبر اليهود على ترك زوجاتهم الاجنبيات. وتطور هذا الأمر مع ورثة عزرا من كهنة وقسيسين بحيث انه في الوقت الذي ظهر به يسوع مبشرا بدعوته كان هناك ما لا يقل عن ستمائة قانون تقيد اليهود في جميع تصرفاتهم اليومية، ومن هنا إذا عدنا إلى العهد الجديد لوجدنا إن يسوع كان يتحدى هذه القوانين، والأمثلة على ذلك كثيرة أبرزها قوله: "هل صنع الإنسان للسبت أو السبت للإنسان؟ ". وهكذا فانه يمكننا النظر إلى دعوة السيد المسيح عليه السلام كمحاولة لكسر هذا الطوق العنصري ولإطلاق نظر هذه الجماعة التي انغلقت على نفسها، لكي تعيش حياة عادية على أساس أبوة الله لجميع أبناءه وإخوة البشر ومحبتهم لبعضهم بعضاً، وهذا هو جوهر الدعوة التي أطلقها يسوع وهو جوهر الحضارة السورية كلها، جوهر محبة وانفتاح منذ فجر التاريخ، من هنا كان لا بد من قتل يسوع لكي لا يكسر طوق العنصرية هذا" (2).
في مثل هذا الظرف ولد السيد المسيح عليه السلام، وبرزت على صفحات ذلك العصر المريج صورة مشرقة .. زالت معها شرائع الهيكل وشرائع روما. فقد جاء سيدنا عيسى برسالة جديدة تدعوا إلى المحبة والتسامح والغفران، فأقبلت عليه الجموع حتى أحست السلطة الدينية والدنيوية بالخطر المقبل من ذلك الداعية المحبوب الذي التفت حوله الجموع .. فجاءوه في ميدانه بعد أن ترك لهم ميدانهم، ووقع الاشتباك الذي لابد منه بين سلطة شعارها المبالغة في الاتهام والبحث عن المخالفات والعقوبات، وبين دعوة شعارها تيسير التوبة للخاطئين وتمهيد سبيل الرجاء في
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص109 - 110
(2) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحيةـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص246ـ247(1/246)
الغفران. فقد كان التبشير بالغفران والتوبة اكبر ذنوب الداعي الجديد، لان الخطايا والعقوبات بضاعة السلطان القائم (1)، سواء كهنة الهيكل أو السلطة الرومانية.
لقد جاء عيسى المسيح عليه السلام بشريعة جديدة ... شريعة تهدم كل عرف قائم وتعصف بكل شكل ظاهر، هذا بالرغم من انه أعلن: "لا تظنوا أنني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لانقض بل لأكمل" (متى 5:17) .. ولكنه، قبل أن يعلن انه ما جاء لينقض بل ليكمل، كان قد ناقض الجوهريات الأساسية لشريعة الهيكل بقولة، فيما عرف باسم موعظة الجبل: "طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السموات. طوبى للحزانى. لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء. لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش إلى البر .. طوبى للرحماء .. طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون" (متى 5:3ـ10).
لقد جاء المسيح ليقيم مملكته الروحية على أنقاض ما أفسده اليهود من الشريعة، إذ لا يعقل إن يأتي المسيح ليتم (فساد الشريعة) التي انتحلها اليهود لأنفسهم من دون أنبياء الله وما أوصوا به. ففي سفر ارميا النبي يقول لليهود: "محروقاتكم غير مقبولة ذبائحكم لا تلذ لي" (أرميا 6:2). وفي سفر أشعيا: "لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة، البخور هو مكروهة لي، رؤوس شهوركم وأعيادكم أبغضتها نفسي، صارت علي ثقلا، مللت حملها، فحين تبسطون أيديكم، أغمض عيني عنكم وان أكثرتم الصلاة لا اسمع أيديكم ملآنة دما" (أشعيا 1:11ـ15)، وعلى لسان عاموس النبي يطلق صرخته في وجه هذا الشعب "ابعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابتك لا اسمع" (عاموس:23)، أما المسيح فوجدهم "كالقبور المبيضة من الخارج ومن الداخل عظام نتنه" (متى 23:27). وفي موضع آخر يصرخ عيسى الناصري "يا مراءون حسناً تنبأ عنكم أشعيا قائلاً: "يقترب إلي هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه، أما قلبه فيبتعد عني بعيداً (متى 15:7ـ8) (2).
فيسوع - خلافاً للأحبار الربانيين- لا يبشر في الكنيس وإنما هو مبشر جواب يتوجه إلى كل الناس لا إلى فئة معينة. وهو لا يستخدم أبداً الأمر والزجر في
_________
(1) حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح ـ ص 184
(2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان ص186(1/247)
استشهاده بالنصوص المقدسة أو بالتعاليم ... وحينما يشير إلى الشريعة يتحدث عنها حديث انسان يقطع صلته بالتقاليد المتحجرة، وإن كان يصرح بأنه لم يأت لينقض العهد. ولكنه يعارض الشريعة حيناً ويهجم على السبت بجرأة ويصرح بأن السبت خلق للانسان ولم يخلق الانسان للسبت، وهو لا يراعي المحرمات الخاصة بطقوس الطهارة. وفي (موعظة الجبل) يشكك في شريعة موسى لا ليهجم على حرفيتها ويدعو إلى الأخذ بروحها فحسب، بل ليربطها بالوجدان الذاتي الداخلي. إنه يتناول شريعة موسى بقوله: "قيل لكم قديماً: العين بالعين والسن بالسن. وأنا أقول لكم. من ضربك على خذك الأيمن فأعطه الأيسر". ومن الصعب عليك أن ترى في شريعة المحبة إكمالاً للعهد، إنها تنقضه وتنفيه.
"قديماً قيل لأجدادكم .. أما انا فأقول لكم"، إن هذه اللازمة التي رددها يسوع في موعظته على الجبل تظهر لنا ما في رسالته من نقض لشريعة موسى. إن يسوع يحرر مفهوم الإرادة الإلهية من تحجره في ألواح شريعة موسى، يحرره من كل شكلانية وحرفية وطقسية ضيقة. وحينما يسأله أحد أحبار اليهود المسيح قائلاً: "ما أهم وصية في الشريعة؟ " يجيبه يسوع بقوله: "أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. تلك هي الوصية الأولى والكبرى. أما الثانية فمثلها وهي: أن تحب قريبك مثلما تحب نفسك". بهاتين الوصيتين يتلخص الناموس وشريعة الأنبياء. إن هذا الحب ينقض نقضاً جذرياً مفهوم الحب لدى اليونان وكذلك مفهومه لدى اليهود .. ان مفهوم الحب لدى اليونان هو ليس حب الآخرين بل هو الحب للحب. .. أما المحبة - حسب رسالة يسوع- فلا تقيم فرقاً بين الغريب وبين المواطن في مدينة أو الفرد في قبيلة، ولا بين الصديق والعدو ... ان هذا الحب هو بداية لإنسانية جديدة تهئ نفسها لاستقبال ملكوت الله الآتي.
ومن الواضح هنا التناقض الجوهري بين تعاليم السيد المسيح وبين ما جاء في العهد القديم، فحياة يسوع كلها، أقواله وأفعاله، هي في الواقع، إدانة للإيمان(1/248)
والثقافة اليهودية (1)، والتناقض واضح بين ما قاله المسيح وما قيل للقدماء في العهد القديم:
"قيل للقدماء لا تقتل ومن يقتل عليه العقاب. أما أنا فأقول لكم إن من يغضب على أخيه باطلاً يأثم ويجزى".
"قيل للقدماء لا تحنث. أما أنا أقول لكم لا تحلفوا .. وليكن كلامكم كله نعم ... نعم .. لا ... لا .. وما زاد على ذلك فهو من الشيطان".
"سمعتم انه قيل عين بعين، وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقابلوا الشر بالشر، ومن لطمك على خدك الأيمن فحول له خدك الأيسر، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه ميلين".
"سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، واغفروا لمن يسئ إليكم ويطردكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فانه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين ويرسل غيثه للأبرار والظالمين. وأي اجر لكم إن أحببتم من يحبونكم .. أليس العشارون يفعلون ذلك؟ وأي فضل تصنعون إن خصصتم إخوتكم بالسلام؟ أليس العشارون يفعلون ذلك؟ فتعلقوا انتم بالكمال، فان الله كامل يحب الكمال".
بهذه الشريعة ـ شريعة الحب ـ نقض المسيح كل حرف في شريعة الأشكال والظواهر، وقضى على شريعة الكبرياء والرياء وعلم الناس أن الوصايا الإلهية لم تجعل للزهو والدعوى والتيه بالنفس ووصم الآخرين بالتهم والذنوب، ولكنها جعلت لحساب نفسك قبل حساب غيرك، وللعطف على الناس بالرحمة والمعذرة، لا اقتناص الزلات واستطلاع العيوب (2)، شريعة فتحت ملكوت السماء أمام الجميع، بعد أن أغلقها كهنة اليهود، في وجه الشعوب الأخرى "الأمميين"، حيث تحولت الدعوة من
_________
(1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر - روجيه جارودي - ص164 - دار عطية للطباعة والنشر والتوزيع- ط.2 1997
(2) حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح ـ ص 188(1/249)
خاصة إلى عامة، ومن أمة واحدة إلى سائر الأمم، واندثرت مع يسوع الأسطورة القاتلة، أسطورة (الشعب المختار) والتي هي تبرير أيديولوجي لكل سيطرة سياسية أو دينية.
"لقد كان ظهور المسيح ـ في الواقع ـ هو اللحظة التي انفتحت فيها طاقة رائعة في تاريخ البشر والآلهة: انه المسيح الذي عده البشر أفضل ممر للكمال الإلهي، انه أكثرهم ضعفاً وتجرداً من المال، وما من شيء في الماضي اليهودي أو اليوناني كان ينبئ بمثل هذا التحول الجذري لفكرة الإنسان عن الإله: فالمسيح ليس ابنا لزيوس ولا ليهوه ولا لأي اله قدير، فمع المسيح لم يعد التعبير عن التعالي الإلهي يتم بكلمات خارجية أو سلطوية، القطيعة هنا كانت جذريه، قطيعة مع اله الأسلحة زيوس الذي يلوح بسيفه في مهارة صاعقة، منذ مجيء المسيح لم يعد التعالي والتجاوز اللإنساني يتصور وفق سلطة الحكام المقتدرين، الذين يحكمون من أعلى السموات أو من على قمة جبل الأوليمب على أفعال البشر، يهبونهم النصر أو يلحقون بهم الهزيمة ليصلحوا أمرهم أو يهذبوهم. إنما هو المسيح الذي عاش ابسط حياة البشر بلا جاه ولا مال ـ فقد مات ابسط ميتة، ميتة العبيد المتمردين فهؤلاء وحدهم كانوا يسمرون على الصليب" (1).
نعم .. لقد كانت حياة يسوع خرق مستمر لشرائع التوراة اليهودية. فبينما يحكم الله، في العهد القديم، على الذين لا يقبلون شريعته بالإبادة أو بعذاب الهاوية (تثنية 2ـ22، اشعيا 13ـ9، أيوب 24ـ19)، يقول يسوع على العكس: "إني لم آت لأدعو الصديقين بل الخطاة" (مرقص 2ـ17) (2). شريعة هذا حالها كان لابد لها من الصدام مع شريعة الهيكل وشريعة الحاكم الروماني، وكان السجال بينهما هو السجال بين شريعة الحب والضمير، وشريعة الظواهر والأشكال. فكان لابد من التخلص من صاحبها، وتنحيته جانباً (3) .. وكل ذلك يظهر أن موت يسوع ناجم عن حياته وأقواله وأفعاله: "أن خرقه المستمر للتوراة يستحق، في نظر الكهنة اليهود، الموت مراراً.
_________
(1) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبهـ ص240
(2) نحو حرب دينية؟ جدل العصر ـ روجيه جارودى ص163
(3) حياة السيد المسيح - خير الله طلفاح ـ ص 193(1/250)
فالإله الذي يكشف لنا عنه يسوع ـ كما يقول اللاهوتي الأسباني (غونزالير فوس) ـ ليس اله العهد القديم" (1)، بل اله آخر مختلف تماماً.
"لقد كانت عظمة الله تتجلى قبل المسيح في قوة الملك أو الامبراطور .. وها هي ذي تتجلى الآن في الفقر والافتقار إلى كل قوة مادية، علي المستوى الإنساني، في خيبة المسيح-الانسان الذي خانه حتى أتباعه في اللحظة الحاسمة وأنكروه أو هجروه ولزموا الصمت، كما تتجلى في محاولة قتله بذلك الاسلوب المعيب، وهو أسلوب الصلب المتبع في اعدام العبيد العصاة. وحينما يصرح يسوع قائلاً في انجيل يوحنا: "إن مملكتى ليست من هذا العالم"، فهذا لا يعني أنه يستسلم أمام ضلالات الوجود لكي ينجو بنفسه إلى عالم آخر، وإنما ليبشر بعالم آخر ممكن التحقق، يختلف عن هذا العالم ولا يخضع لضلالاته وقوانينه الظالمة" (2).
عيسى ليس المسيح المنتظر
جاء المسيح عليه السلام واليهودية تقبع تحت الحكم الروماني ... ثورة الماكبيين قد انتهت وديست هذه الأمة بالصغار والشناءة. الولاة عليها أجانب (هيريدوس الايدمي) و (بيلاطس النبطي) ... فهل يقود المسيح ثورة ضدهم ويحرر اليهود؟ لم يفعل المسيح ذلك كما يتوقع اليهود لقد قاد ثورة في قلب اليهودية وأراد إن يقلبها من داخلها لتعيش مع العالم بسلام ومحبه، كانت دعوته ضد العنف ومع الحب والحنان والأخوة والسلام، ولهذا لما بعث المسيح عليه السلام أنكر كهان الهيكل بعثته، وآمن به بعض اليهود وبعض أبناء الأمم المقيمين في فلسطين، والكهنة لا يرون في عيسى عليه السلام بأنه المسيح المنتظر (3). فاليهود كانوا ينتظرون مسيحاً محارباً خاصاً بهم، ذلك أن انتظار المسيح المحارب هو أحد أهم المعتقدات اليهودية، ويفترض عندهم ـ كما تنبأ أنبياء العهد القديم أن يأتي المسيح المحارب من سلالة داود فيعيد تأسيس مملكة داود بالقوة، وينقذ اليهود من النفي، ويعيدهم إلى الأرض المقدسة حيث يسحق أعدائهم ويعيد بناء معبد سليمان، وتعود
_________
(1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر - روجيه جارودى ص168
(2) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص112 - 113
(3) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية ـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص50ـ51(1/251)
القدس عاصمة لهم. ولكن لما لم تكن أي نبوءة من تلك النبوءات قد تحققت حتى عصر الهيكل الثاني، فإن النتيجة التي لا مهرب منهاـ كما يقول اليهودـ هي أن عيسى عليه السلام ادعى باطلاً انه مسيح الرب.
فالإنعام بلقب (مسيح الرب) على أي بطل أسطوري أو تاريخي .. ظل مرتبطاً بالاعتبار الأساسي في الديانة اليهودية، وبالغرض الذي نشأت من اجله أصلاً، وهو إقامة الملك ودوامه ... فقورش بات ـ لوقت ـ المسيح المنتظر رغم عدم عبادته ليهوه، بل وعدم كونه من شعب يهوه المختار أصلاً. فاشعيا يؤكد أن يهوه قال له عن قورش: "انه راعى، فكل مسرتي يتمم. لأنه يقول أورشليم إنها ستبنى ويقول للهيكل سوف تؤسس" (اشعياء 44:28). وبذلك الوعد من قورش بإعادة بناء أورشليم والهيكل الثاني بات قورش المسيح المنتظر وقد جاء ليحقق النبوءة: "هكذا يقول يهوه لمسيحه قورش .. " (اشعياء 45: 1).
غير أن ذلك الرضا اليهودي كله كما صوره اشعيا كان في غمار فورة الفرح بانتصار الفرس على بابل، التي من عنف وحشية الكره اليهودي لها تغنى منشد المزامير قائلاً "انه مبارك كل من يمسك بأطفالها ويهشم رؤوسهم على الصخر". أما بعد أن فترت الفورة وخمدت النار، فإننا نفاجأ في التلمود بيهوة وهو يشكو لمسيحه قائلاً: "إني أشكو لك من قورش! فقد كنت أظن انه سيعيد بناء بيتي ويجمع شعبي من المنفى! ولكنه لم يفعل أكثر من انه قال: من منكم من كل شعبه يرغب في العودة ليكن ألهه معه ويصعد إلى أورشليم" (سفر عزرا 1: 3).
وعلى إيه حال، فإننا نجد أن المسيح الموعود لم يأت لليهود، وأنهم ظلوا يأتون في شخص هذا وذاك من أبطال حكايتهم المتفق عليهم، وظلوا يكتشفون أن من أتوا به ليس هو. وعندما ظهر يسوع، عيسى بن مريم، وقال انه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله، وظل يتحدث عن الأب الذي في السموات بدلاً من رب الجنود المحارب المنتقم، وألقى موعظة قال فيها: "طوبى لصانعي السلام"، لم يكن من الممكن ـ بطبيعة الحال ـ أن يعترف به أحد بوصفه المسيح المحارب المنتظر، بل وصف (معاذ الله) بالمجنون وبالمشعوذ وبالدجال وبالمضلل وبمفسد إسرائيل(1/252)
وهادمها" (1). لأنه نفى أن يكون لمهمته أي علاقة بالحرب أو سحق الأعداء أو تأسيس مملكة جغرافية على الأرض. فقد أوضح لليهود بجلاء انه لم يأت لكي يقودهم في حرب ضد إمبراطورية روما (2) بل بشرهم بقوله: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون". فالمسيح الذي وعد يهوه اليهود به، مسيح محارب صنديد أشبه بالسفاح يشوع. وعيسى يقول هنا عكس ذلك، وانه جاء ليكون صانع سلام وليعظ البشر بأن يكونوا صانعي سلام، وينبههم بأنهم يصبحون أبناء الله فقط عندما يكونون صانعي سلام. وهذا النص يناقض بالكامل الموقف التوراتي من أساسه. فاليهودية جعلت الإله "رجل حرب، ورب الجنود" والمسيح يناقض ذلك باله رحيم وآله سلام.
يقول (ايثلبرنت ستوفر) من جامعة علوم الدين بزيورخ: "المسيح يعلن رسالة جديدة من الله وديناً جديداً لم يعد لها أي اتصال بالتوراة". ويقول عالم آخر من علماء الدين هو (جنزاليس فوس)، في كتابه (القرب من يسوع): "أن الرب الذي دعا له يسوع ليس هو الرب الذي دعا إليه العهد القديم" (3). فاليهودية علمت اليهود، أنهم لا يحصلون على رضا يهوه إلا إذا ظلوا شعباً محارباً دموياً. وفي العهد القديم نصوص كثيرة لا تحصى تبين أن ذلك الإله المحارب أوشك أن ينقلب على شعبه فيفترسه في كل مره قصر الشعب فيها لسبب أو لآخر، عن القيام بمذبحة جماعية أمر بها. وعندما استجلب الشعب على نفسه بتلك الشراسة الدموية عداء وكراهية كل من احتك به أو عايشه من شعوب، وتعرض للتدمير والسبي والمذلة والتشتيت، كان وعد معبودة له بالخلاص والفداء على يدي مسيح محارب دموي ينفذ "سخط الرب على كل الأمم وغضب الرب على جيوشهم ويحرمهم ويدفعهم إلى الذبح حتى تطرح قتلاهم ويصعد نتن جيفهم وتسيل الجبال بدمائهم" (اشعياء 34: 2ـ3)، إذ يقود جيش الشعب في يوم الهول هذا الذي يعد يهوه شعبه بأن "يضرب فيه كل خيل الشعوب المعادية لإسرائيل بالعمى وراكبيها بالجنون ويجعل أمراء يهودا كمشعل نار فيأكلون كل الشعوب عن اليمين وعن اليسار ويلتمس هلاك كل الأمم الآتين على أورشليم"
_________
(1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص55
(2) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص28
(3) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص 161)(1/253)
(زكريا 12:4ـ6)، وإذ ذاك ـ على كل تلك الأشلاء وبحار الدم والجيف المنتنة - تقوم مملكة يهوه على الأرض بسيف المسيح المحارب.
لكن مسيح المسيحية، الذي اعتبره اليهود كاذباً ومفسداً ومضللاً ودعياً (1)، يناقض ذلك كله، ويقول: "انه المسيح (ابن الإنسان)، ويعلم بأن مملكة الله (ملكوت السموات) ليست للمحاربين شاربي الدماء، بل للمساكين بالروح، وللمطرودين من اجل البر". ويتمادى فيقول أن اليهود، ما لم يكونوا رحماء وأنقياء قلب وصانعي سلام لن يكونوا أبناء لله ولن يكون لهم ملكوت السموات. وهذا بحكم كل كلمة في التوراة والعهد القديم، كفر وهرطقة، ومخالفة لكلام الله إلى موسى والى النبييم، وادعاء قائله بأنه المسيح ادعاء باطل ومكذوب استحق أن يشنق بسببه كاللصوص والقتلة فيموت مصلوباً، ويمحى اسمه وذكره، كما يعلم التلمود (2).
ديانة المسيح أم ديانة بولس ويوحنا؟
لم يكتفي اليهود بالتآمر على سيدنا عيسى عليه السلام، والوشاية به للحاكم الروماني وصلبه، بل عملوا على محو تعاليمه من الوجود وتحريفها وتشويهها، لأنها تتناقض مع كل ما جاء في كتبهم المليئة بالحقد على البشرية جمعاء، والتي تفوح منها رائحة الدم والقتل. وهذا الأمر ليس غريباً على الذين ألفوا التلمود (كتاب الحقد البشري) وصانعوا الماسونية (نظام التآمر الذي دس رؤوس اليهود والصهيونية في جميع مناصب القرار في العالم)، والذين أشعلوا الحروب والثورات وأججوا الفتن عبر التاريخ كله .. فهم المفسدون منذ الأزل في الأرض (3).
فبعد السيد المسيح عليه السلام، قام تلاميذه بالدعوة للديانة الجديدة، وانتشروا في البلاد لنشر مبادئه، ووضعوا أناجيلهم المعروفة، ولكن الديانة الجديدة
_________
(1) استغفر الله على هذا الكلام الذي لا يتورع اليهود عن وصف أنبياء الله به في كل كتبهم، وهذه مشكله كبيره يواجها أي كاتب يريد أن يبحث في الديانة اليهودية، حيث انه يضطر إلى نقل كلامهم كما هو ليبين إلى أية درجه وصل كفرهم وتطاولهم على أنبياء الله ورسله، وهذا الأمر ليس بجديد عليهم، فالتوراة لا تتورع عن نسبه صفات وتصرفات بديئه للأنبياء الذين يفترض بهم العصمة. وأيه قراءه للتوراة توضح إلى أيه درجه وصلت افتراءاتهم على الأنبياء.
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص74ـ75
(3) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص69(1/254)
دخلت مرحلة خطيرة على يد بولس الرسول (شاءول الطرطوسي)، الذي لعب دوراً خطيراً في تزييف المسيحية (1)، حيث انه كان يهودياً من اشد أعداء المسيحية، ولكنه ادعى أن السيد المسيح ظهر له وهو في طريقه إلى دمشق وطلب منه الدعوة للمسيحية، وفعلاً بدأ بولس الرسول بالدعوة للمسيحية ولكن على طريقته، حيث أنه كان أول من قال بأن المسيح ابن الله، فأخرج المسيحية عن عقيدة التوحيد التي كانت عليها، وحاول أن ينشر عقيدته الجديدة في بلاد الشرق ولكنه جوبه بمعارضة شديدة بسبب ما انفطر عليه أهل الشرق من ميل للتوحيد، مما دفع بولس إلى الدعوة إلى عقيدته الجديدة في أوروبا، حيث وجدت هذه العقيدة آذاناً صاغية وأرضاً خصبة هناك. "فالتثليث ونزول الإله من السماء وتضحيته بنفسه وتكفيره عن خطيئة البشر وصعوده مرة أخرى، كانت لها جذور قديمة في الأساطير الأوروبية، حيث لم يكن التوحيد عميق الجذور هناك" (2).
لهذا فإن كثير من الباحثين يعتبرون أن بولس هو المؤسس الحقيقي للمسيحية. يقول (ويلز) في كتابه معالم التاريخ الانسانية ج 4 ص 1312: "إن المسيحية (قامت على نظريات بولس، لا على قضايا المسيح) أى ان مسيحية اليوم يجب ان تسمى (بوليسية) " (3)، حيث وضع بولس العديد من الرسائل بين فيها فهمه للديانة الجديدة، هذا بالرغم من انه لم يكن يعرف شيئاً عن حياة المسيح ولا عن بعثته ورسالته، ولم يكترث أن يعرف، لأن رسالة المسيح على الأرض بالنسبة له لم تكن تحمل أي معنى، ولذا صرف كل طاقته في البحث عن ماهية المسيح وعن مغزى صلبه وقيامته (4)، ثم عودته الثانية في صورة المسيح اليهودي المحارب، والتي اعتقد أنها قريبة الوقوع لينقض على الشر ويقيم مملكة الله في الأرض، والأخطر من ذلك كله هو ربطه العهد الجديد بالعهد القديم بالرغم من الاختلافات الجوهرية بين الاثنين.
_________
(1) مسيحية بلا مسيح - د. كامل سعفان- ص 17 - دار الفضيلة.
(2) سلسلة مقارنة الأديان ـ المسيحية- د. احمد شلبي ـ ج 2 ـ ص 111 - القاهرة, مصر: مكتبة النهضة المصرية, 1979
(3) مسيحية بلا مسيح - د. كامل سعفان - دار الفضيلة - ص39 أو كتاب معالم التاريخ الانسانية ج 4 ص 1312
(4) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص140(1/255)
لقد كان بولس حريصاً على أن يجعل من يسوع، خلافاً للسنة التقليدية اليهودية، الفصل النهائي في العهد القديم، وإتماماً للمواعيد التي وعدت بها إسرائيل، حيث ألزم نفسه منذ البداية بمهمة أساسية وهى أن يجعل من يسوع (مسيا إسرائيل)، هذا بالرغم من أن يسوع (المسيح) رفض دائماً هذا اللقب المرتبط بنظام اليهود السياسي (1). لهذا فقد اخذ بولس يبشر بقرب نهاية العالم وعودة المسيح ثانية ليكمل ما لم يكمله في نزوله الأول، مستلهماً كل ذلك من أسفار العهد القديم.
فقد رأى بولس أن حياة ومعاناة المسيح (وموته وقيامته) وصعوده إلى السماء، كلها لم تكن سوى مؤشرات لنهاية العالم، وكان يعتقد أن قدره القيام بدور فريد في أحداث عصره، ومن هذا الدور إنذار المؤمنين بالنهاية الوشيكة، حيث كانت تلك القوة الدافعة وراء مهمة بولس، وكان الوقت قصيراً يوشك على النفاذ، والعالم على وشك أن يتبدد: "أقول لكم يا إخواني أن الزمن ـ الباقي ـ قصير وان العالم بشكله الحالي قارب نهايته" (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينثوس 7/ 29،31). وبعد أن انتهت حسب رأيه مهمته التبشيرية في المشرق، بدأ يخطط للذهاب إلى أقصى العالم ـ إسبانيا ـ لينذر الناس هنالك أن عليهم التوبة قبل النهاية الوشيكة، وكتب إلى أتباعه في روما يقول: "وحيث لم يعد مكان لي في هذه المناطق - في المشرق فسأمضي ماراً بكم إلى إسبانيا" (رسالته إلى أهل روميه 15/ 23،28). كان يخشى أن يدركه الوقت فينتهي العالم قبل أن ينذر الناس في إسبانيا وفي طريقه إليها، كان يريد المرور بروما للقاء أتباعه فيها.
لقد كان لدى بولس هاجس قوي، بل عقيدة أن (الرب) -يقصد نهاية العالم حسب تعبيره- كان وشيكاً، ليس بالنسبة له بمفرده، وإنما للعالم أجمع، وقد تكون هذه أكثر معتقداته أهمية وأقواها من حيث كونها القوة الدافعة وراء نشاطه التبشيري، وقد توقع بولس حدوث هذه النهاية حرفياً وليس مجازاً، وعاجلاً وليس
_________
(1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر ـ روجيه جارودى ص173(1/256)
آجلاً، أي خلال أيامه شخصياً وأيام معاصريه (1). ولهذا فإن بولس لم يكن ينوي تأسيس ديانة جديدة للأجيال القادمة حتى أن كلمة (المسيحية) لم تظهر في كتاباته ولا مرة واحده، لقد كان همه الأول إنذار البشرية بالنهاية القادمة، وبالعودة الثانية للمسيح.
والمسيح الذي كان ينتظره بولس ويبشر بنزوله، مختلف كلياً عن عيسى المسيح عليه السلام، بل هو مسيح يهودي، محارب من نسل داوود. كتب بولس مبشراً بمجيء المسيح الثاني، وكأنه مجيء داود جديد منتصر: "انه لا بد أن يملك إلى أن يضع جميع أعدائه تحت قدميه" (رسالة إلى أهل كورنته 15ـ25). وهو هنا يرجع إلى مزمور داود (110) الذي يعظم القوة الحربية التي لا هوادة فيها: "الرب يحطم في يوم رجزه ملوكاً .. ملأ جثثاً أرضاً واسعة، سحق رؤوسها" (المزامير110ـ5ـ6) (2).
وهنا يجب أن نلاحظ كما يقول جارودى: "إننا لا نجد، لدى الإنجيليين، أي رجوع إلى مذابح السكان الوثنيين أو المشركين، وهى مذابح أوجبها إله قاس (تثنية 20ـ16)، إلا عند بولس الذي يستذكر استئصال الكنعانيين كسابقة تبشر بانتصارات أخري" (13ـ16ـ19). فمثله مثل جده الملحمي، سوف يضع المسيح كل أمراء الأرض عند أقدامه (الرسالة الأولى لكورنثوس 15: 25)، لان مسيح بولس يعود إلى القانون الذي يقضي طبقا لقانون (تاليون)، قانون (العين بالعين)، إنه مسيح الله الذي يثأر ويجد العدل في رد الإيذاء بالإيذاء (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس)، ويقدم بولس دليلاً تاريخياً على قدرة الله، يتمثل في انه بعدما قضى على سبع دول من بلاد كنعان، وزع أراضيهم كميراث (أعمال الرسل 13:19) أنها الفقرة الوحيدة في الأناجيل التي ترد فيها هذه المذابح بوصفها علامات على عناية الله، ومنذ ذلك الحين أسس لاهوت بولس تحت اسم المسيحية، لاهوتا للسيطرة (3).
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص148 - ط 3/ 2002 - دار الفكر المعاصر / بيروت
(2) نحو حرب دينية؟ جدل العصر / روجيه جارودى ص185
(3) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبه ـ ص241(1/257)
يقول يسوع: "وأنا لا أدين أحداً" (يوحنا 8ـ15). "وأني لا افعل شيئاً من نفسي" (يوحنا 8ـ28). أما بولس فيقول، على العكس، وبروح العهد القديم: "سيأتي يسوع المسيح ليدين الأحياء والموتى"، (الرسالة الثانية إلى تيموتاوس 4ـ1) (1). فمسيح القديس بولس ليس هو يسوع، مسيح بولس هو الترجمة اليونانية للمسيا اليهودي الذي عليه أن يعيد مملكة داود، وعليه إذاً أن يكون من نسل داود، وان يتمم ما بدأه هذا القائد الحربي لحفنة من المرتزقة، حدثتنا كتب (صموئيل والملوك) عن مغامراتها الدموية الفظيعة، لم يكن يسوع داود الجديد كما لم يكن ابناً لإله الحروب ورب الجيوش، ولم تكن المحبة التي بشر بها استكمالاً لما ورد في العهد القديم من عنصرية ودموية، والتي قصرت أن يحب بعضكم بعضاً على حدود القبيلة الضيقة. فالنصوص التلمودية تقتضي هذا التفسير، بينما قال يسوع: "هذه وصية جديدة لن تجدوها في شريعة موسى، كما قيلت لليهود: "حيث اذهب أنا لا تقدرون انتم أن تأتوا، أقول لكم انتم الآن (للحواريين) وصية جديدة تحبوا بعضكم بعضاً" (يوحنا 13:33ـ34) (2).
يسوع يقول: "ولابد، من قبل، أن يكرز بالإنجيل في جميع الأمم" (مرقس 13ـ10)، بينما يقول بولس في رسالته إلى أهل رومية (1ـ17) "اليهودي أولاً ثم اليوناني". فبعد أن حطم عيسى المسيح الأسطورة القاتلة، أسطورة (الشعب المختار)، عاد بولس ليحييها ثانية بـ (اليهودي أولاً). فاقتداءً بيسوع المسيح صرح بطرس الرسول بقوله: "انتم تعلمون انه محظور على اليهودي أن يخالط أجنبياً أو أن يدنو إليه. أما أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن أحد انه نجس أو دنس" (أعمال الرسل 10ـ28). ويضيف: "في الحقيقة قد علمت أن الله لا يحابى الوجوه، بل أن من اتقاه في كل أمره، وعمل البر، يكون مقبولاً عنده" (أعمال الرسل 10ـ34ـ35). وهكذا قضى عيسى المسيح على امتيازات الشعب المختار، الذي يعطيه الله النصر على كل شعب لا يتبعه، ويأمره بإبادته. وهنا لابد من التحديد والاختيار بين العهد القديم والعهد الجديد، ولأي اله يسوع هو الابن؟ من المؤكد انه ليس ابناً (ليهوه) رب
_________
(1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر / روجيه جارودى ص163
(2) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص 156(1/258)
الجيوش والمذابح، وتقسيم العالم إلى طاهر ونجس، إلى مختار ومستعبد، اله بولس الغيور المنتقم "إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً" (رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكى 1ـ6) (1).
فكرة العودة الثانية للمسيح
لأن بولس نظر إلى السيد المسيح ودعوته من منظار يهودي فقط، باعتبار المسيح هو المخلص والملك المحارب الذي سيفدى المؤمنين، كان لابد من اختراع فكرة العودة الثانية، لينجز المسيح في هذه العودة ما لم يتمكن من انجازه في ظهوره الأول، وهو قيادة المعركة النهائية بين الخير والشر في عودته الثانية، والتي أعتقد بولس أن هذه العودة ستحدث في حياته. وفي هذا النطاق من تفكير بولس لم ير حاجة لعمل إصلاحات اجتماعيه، ولا لتكوين نظام اجتماعي جديد، حيث لم يتوقع أن يستمر العالم بعده، ومن الطريف أنه على عكس ما توقع كان لرسائله دور كبير في تكوين مجتمعات المستقبل التي لم يتخيل أنها ستكون أصلاً. كان يظن أنه بنهاية العالم في أيامه، سيعود المسيح فوق السحاب على صورة ابن الإنسان المذكور في الفصل السابع من سفر دانيال، وكان المفترض على المسيح في ظهوره المجيد الثاني، أن يقضي على الإمبراطورية الرومانية، وينشئ بدلاً منها مملكة الله على الأرض، وتوقع بولس أن يكون معظم معاصريه على قيد الحياة، لمشاهدة المجيء الثاني للمسيح حسب ما جاء في رسائل بولس: " ثم نحن الأحياء والباقون سنلتقي معاً في السحاب لملاقاة الرب عيسى ـ في الجو" (2).
وقد علق علي ذلك أحد الباحثين بقوله: "كان ظن بولس أن المسيح سيعود ويظهر لصحابته وأنصاره المخلصين في القدس، حيث المفترض أن تنشأ إسرائيل جديدة، ولم يدر في ذهنه أنه ستنشأ كنيسة مسيحية بكوادرها من رجال الدين البطاركة والقسس والشماسين مع كتاب العهد الجديد، فتستمر كل يوم أحد أسبوعاً
_________
(1) نحو حرب دينية؟ جدل العصر / روجيه جارودى ص175
(2) رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي 4/ 17(1/259)
بعد أسبوع إلى ما لا نهاية، مثل هذا التخيل كان سيذهل بولس، فبالنسبة له كان الوقت قد انتهى أو قارب، ولا مجال للبدء بديانة جديدة من الصفر".
هذه العقيدة المتعلقة بنهاية العالم، والتي روج لها بولس، تكشف إلي أي درجة سار بولس علي خطى أحبار اليهود، كما أنها تزودنا بوسيلة قيمه لفهم نظرياته الاجتماعية فيما يتعلق بالمحافظة على الأوضاع الراهنة، وعدم محاولة تغيير أي شيء في الأمور الفردية البسيطة. فعلى الأغلب أنه اعتقد بعبث وعدم جدوى محاولات التغيير طالما الوقت الباقي قصير جداً، وأن المسيح وقتما يعود في القريب العاجل سيقوم هو نفسه بإحداث التغييرات الجذرية على أية حال، ولذلك كتب: "بسبب الأزمة الراهنة اعتقد من الأفضل لكم أن لا تغيروا شيئاً، هل أنت متزوج؟ لا تطلب الطلاق، هل أنت عازب؟ لا تبحث عن زوجه، الزواج ليس إثما ولكن من يتزوج يواجه المتاعب في الجسد أريد أن أغنيكم عنها، وأنا أقول لكم أن الوقت ـ الباقي قليل" (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينثوس 7/ 26ـ29). ولعله نصح الناس بعدم الإقبال على الزواج، لهذا السبب إذ كتب: "من الحسن للرجل أن لا يتزوج" (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينثوس 7/ 1).
وهكذا كان هاجس بولس بنهاية التاريخ سبباً لإصراره من البداية على تجاهل رسالة عيسى الدنيوية، واعتقاده بعدم أهميتها. فطالما أن المخلص سيعود قريباً جداً عاجلاً غير آجل، فينتهي تاريخ العالم، وتتأسس مملكة الله على الأرض، فلا يمكن أن يكون هنالك من مغزى أو هدف للمجيء الأول لعيسى، سوى أنه كان أضحية إلهيه، ذبحت على الصليب، لتكفر عن خطايا البشر قبل النهاية المقبلة، وكذا انصبت كافة جهود بولس التبشيرية في هذه النقطة (1).
سفر الرؤيا والمسيح اليهودي
مع أن الأحداث برهنت خطأ توقعات بولس، فقد استمر بعضهم بالاعتقاد بها، حيث جاء بعده، بعدة سنوات يهودي آخر هو (يوحنا اللاهوتي ـ مؤلف سفر الرؤيا)، ليكرر تنبؤات مماثلة، مستقاة من التوراة اليهودية التي جاء المسيح ـ عليه السلام ـ
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف - محمد فاروق الزين ص149(1/260)
لنقضها، وليعزز ما قام به بولس من إعادة المسيحية إلى أحضان اليهودية، هذا بالرغم من أن الكنيسة لم تعترف بسفر الرؤيا في البداية، غير أنها في أوقات لاحقه قررت إدخال سفر الرؤيا ضمن العهد الجديد، فجعلته جزءاً من الكتاب المقدس رغم فشل نبوءات يوحنا بشكل سافر، مثلما فشلت قبله نبوءات بولس.
والرؤيا كتاب وضعه يوحنا اللاهوتي في أواخر القرن الأول، في جزيرة بطمس بتركيا، التي كان قد نفي إليها في أثناء الاضطهاد الشديد على الكنيسة، وهو موجه أصلاً إلى الجماعات المسيحية في آسيا الصغرى، لتشديد عزيمتهم، وحضهم على الثبات في المسيح رغم المحن. فكما وضع أنبياء اليهود مؤلفاتهم الرؤيوية في أوقات أزمة وأزمنة شدائد، لإعطاء أمل بقرب تدخل يهوه لصالح شعبه، وضع يوحنا اللاهوتي كتاب الرؤيا، في اشد أوقات المصاعب تأزماً في تاريخ المسيحية، حيث يطالعنا الكاتب بمشهد يظهر فيه المسيح قائلاً: "هذه رؤيا أعطاها الله ليسوع المسيح، ليكشف لعبيده عن أمور لابد أن تحدث عن قريب. وأعلمها ليوحنا عن طريق ملاك أرسله لذلك" (رؤيا يوحنا اللاهوتى ـ الإصحاح الأول). ثم يدون يوحنا الرسائل التي أمره بإبلاغها إلى الكنائس السبع. وبعد ذلك تتوالى الإِعلانات المتعلقة بما سيحدث في آخر الزمان من ضيقات وبلايا وأحداث رهيبة، وحروب تنتهي بهزيمة إبليس وجنده. ثم ينهي الكاتب رأياه بوصف الدينونة في اليوم الأخير، وينتهي إلى وصف الحالة الأبدية، حيث يتم النصر للمسيح في السماء الجديدة والأرض الجديدة، إذ يتحقق الخلاص النهائي للمؤمنين على يد المسيح المنتظر!! (1).
هذا السيناريو الذي وضعه يوحنا في رؤياه ليس له أي صله بالمسيح والمسيحية، التي بشر بها عيسى عليه السلام، بل انه مستقى بالكامل من التوراة اليهودية الحاقدة بكل ما فيها من ولع بالدمار وإزهاق الأرواح، وعشق للدم، والتي سطرها كهنتهم، ونسبوها إلى إلههم (يهوه) الذي سينتقم من كافة الأمم في آخر الزمان على يد مسيح يهودي، محارب "عيناه كلهيب نار .. متسربل بثوب مغموس بدم" (رؤيا 19:12). و "رجلاه شبه النحاس النقي كأنها محميتان في آتون .. وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه" (رؤيا 15:1). وهنا يمكن ملاحظة أن صورة المسيح
_________
(1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان ص 117(1/261)
اليهودي الواردة في سفري دانيال وحزقيال، لم تغب عن بال يوحنا اللاهوتي وهو يكتب رؤياه، ولهذا يؤكد كثير من الباحثين أن يوحنا اللاهوتي، كان كاهناً يهودياً نشأ وتتلمذ على التراث اليهودي، واخذ به إيماناً وعقيدة، فجاءت رؤياه يهودية بمضمونها وبصورها وبتطلعها إلى مجيء المسيح المنتظر اليهودي. ومما يعزز هذا القول هو "إن هناك جماعة يهودية عاشت في القرن الأول الميلادي تسمى (المتهودون)، كانت تؤمن بالمسيحية دون أن يمنعها هذا الإيمان من استمرار ولائها للدين اليهودي والشريعة الموسوية، بل أن هذه الجماعة اليهودية كانت في واقع الأمر تسعى، ولدوافع قومية إلى تهويد المسيحيين من الأمم. ولم يشعر هؤلاء اليهود الذين آمنوا بالدين المسيحي الجديد بأي تعارض بين يهوديتهم وبين تحولهم إلى الدين المسيحي. وساعد على تحولهم للدين المسيحي اعتقادهم بقرب مجيء المسيح المنتظر" (1).
وسواء كان يوحنا اللاهوتي يهودياً من عدمه، فإن النتيجة التي نطمئن إليها هي أن رأياه كانت يهودية من أولها الي آخرها، ولم تكن لها أي علاقة بالسيد المسيح عليه السلام. "فكما هو الحال في كل ما له علاقة باليهودية فقد تركز الحلم العام الذي تمخض عن المسيح المنتظر، على مهمة محددة بالغة الوضوح لا لبس فيها، هي ملء الأرض بالجثث، وسحق الرؤوس، وجعل كل ما عدا الشعب اليهودي، موطئاً لإقدامه، وانتداب اليهود بقيادة ملكهم المسيح المنتظر لحكم الأرض، كل الأرض نيابة عن يهوة" (2). لهذا فإن يوحنا اللاهوتي، في مستهل الرؤيا، أو في الخطفة الأولى يقول: "كنت في الروح في يوم الرب، فسمعت ورائي صوتاً عظيماً كصوت بوق .. ولما التفت لأنظر الصوت، رأيت سبع منائر من ذهب" (رؤيا 1: 10ـ12). ويتحدث يوحنا في رؤياه عن "الممسك السبعة الكواكب في يمينه، الماشي في وسط السبع المناير الذهبية" (رؤيا 2: 1).
_________
(1) الهرطقة في الغرب ـ د. رمسيس عوض ص18 - سينا للنشر /القاهرة- الانتشار العربي /بيروت- ط1 1997
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار- ص40 - رياض الريس للكتب والنشر- 1992(1/262)
"فمند البداية كانت رؤياه مؤطرة بإطار شمعدان المينورا اليهودي، فمنائر يوحنا الذهبية هي الـ "منارة من ذهب نقي" (سفر الخروج 22: 31)، التي أمر يهوة عبده موسى بصنعها. وقام بصلئيل الذي "دعاه الرب وملأه من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة" (سفر الخروج 25: 30)، "بعمل التصنيع طبقاً للتصميم الذي لقنه يهوه لموسى في الجبل" (خروج 37: 17ـ24)، "فصنع المنارة من ذهب نقي" (سفر الخروج 37: 17). وفي رأياه وإنخطافه يقول يوحنا: "ثم نظرت وإذا هيكل خيمة الشهادة قد انفتح في السماء" (رؤيا 15: 5)، ويقول في فصل آخر: "وانفتح هيكل الرب في السماء وظهر تابوت عهده في هيكله" (رؤيا 11:19).
فاللاهوتي، وقد اصعد خيمة الشهادة، والهيكل، وتابوت العهد، بل والمينورا، إلى السماء، وأقام عرش الله في الهيكل، كان لا بد أن يتم عمله ويرفع بقية عدة هيكل خيمة الشهادة إلى السماء، لتستكمل الشعائر بشكل أصولي يهودي حول عرش الله، ولذا رفع (مذبح الذهب)، ورفع أيضاً المبخرة والبخور" (1).
وهكذا جاءت صور يوحنا محمومة ومركبة، استعار معظمها من دانيال ومن حزقيال. فمن الصور المحمومة مثلاً: "برد ونار مخلوطتان بدم، وألقيا إلى الأرض" (رؤيا 8: 7). "جبلاً عظيماً متقداً بالنار القي إلى البحر فصار ثلث البحر دماً" (رؤيا 8:8). "سقط من السماء كوكب عظيم متقد كمصباح ووقع على ثلث الأنهار وعلى ينابيع المياه" (رؤيا 8:10). "ضرب ثلث الشمس وثلث القمر وثلث النجوم" (رؤيا 8: 12). "رأيت الخيل في الرؤيا والجالسين عليها، لهم دروع نارية وكبريتية، ورؤوس الخيل كرؤوس الأسود ومن أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت" (رؤيا 9:17). "سكب الملاك جامه على البحر فصار دماً" (رؤيا 16: 4) "وسكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأعطيت أن تحرق الناس بنار" (رؤيا 16: 8). ومن الصور المركبة "وحول العرش (عرش الله) أربعة حيوانات مملوءة عيوناً من قدام ومن وراء" (رؤيا 4: 6). "رأيت وحشاً طالعاً من البحر، له سبعة رؤوس، وعشرة قرون، وعلى قرونه عشرة تيجان" (رؤيا 13: 1). ومن الصور التراثية التي يزخر بها كتاب العهد القديم: "المنائر السبع التي من ذهب" (رؤيا 1: 12). "سمعت صوتاً من أربعة قرون، مذبح الذهب الذي أمام
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص248(1/263)
الله" (رؤيا 9: 13). "وانفتح هيكل الله في السماء وظهر تابوت عهدة في هيكله" (رؤيا 11: 19).
ولم يقتصر الأمر علي هذه الصور المركبة والتراثية الواردة في التوراة، بل إن الصفات التي نسبها يوحنا إلى ألهه هي الصفات ذاتها التي نسبها أنبياء التوراة إلى يهوه، منها مثلاً الغضب، يقول اللاهوتي: "معصرة غضب الله العظيمة" (رؤيا 24: 19). "سبعة جامات من ذهب مملوءة من غضب الله" (رؤيا 15: 7) "اسكبوا جامات غضب الله على الأرض" (رؤيا 16: 1). كما أن هذا الإله يتجلى ليوحنا كما تجلى يهوه (الرب) لأنبياء بني إسرائيل جميعاً. يقول يوحنا "فلما رأيته سقطت عند رجليه كميت، فوضع يده اليمنى علي قائلاً لي: "لا تخف، أنا هو الأول والآخر" (رؤيا 1: 17). وهذا المسيح اليهودي كالإله اليهودي يهوه اختار جماعة معينه من البشر واختص بهم الهاً كما اختصوا به شعباً: "اشتريتنا (اخترتنا) من كل قبيلة ولسان وشعب وجعلتنا كهنة" (رؤيا 5: 10). "سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم" (رؤيا 21:3).
أما عن النهاية ويوم القيامة بعد معركة هرمجدون، فقد اختار الرب "المختونين من بني إسرائيل، مائة وأربعة وأربعين ألفاً" (رؤيا 7: 4). "ووقف على جبل صهيون ومعه مائة وأربعة وأربعون ألفاً" (رؤيا 14: 1) أما البقية الباقية من الأمميين فليس لها سوى الدمار والإبادة في هذه المحرقة الإلهية، وذلك كرامة شعبه المختار. ونلاحظ هنا أن هذه الوحشية والدموية التي أفرغها يوحنا اللاهوتي في رؤياه، ليست بعيده عن الفكر اليهودي، فالوحشية والدموية صفة ملازمة لحكى العهد القديم عن يهوه وعن الشعب اليهودي، إلى الحد الذي جعل المؤرخ اليهودي "ادوارد ماير" يصف يهوه بأنه "شيطان دموي من شياطين البراكين، لكنه هكذا رأى حزقيال وغيره من "نبييم" اليهودية ما تنبغي أن تكون عليه الإلوهية (1). فزوروا التاريخ فاختصوا لأنفسهم بتاريخ جعلوا فيه الخالق قائداً حربياً مولعاً بسفك الدماء، وإزهاق أرواح
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص303(1/264)
الناس ما عداهم، تنفيساً عن نفوسهم المتعفنة بالخرافات والعامرة بأصناف الشر والكراهية للآخرين (1).
وبالرغم من أن دعوة السيد المسيح جاءت لتنقض كل هذه الأحقاد والوحشية والدموية التي تميز بها العهد القديم، من خلال الدعوة للمحبة والسلام والرحمة، إلا أن هذه الدعوة والمبادئ السمحة لم تصمد طويلاً، حيث جاء يوحنا اللاهوتي الذي لم يكن حوارياً، بل كان كاهناً يهودياً، جاء ليفسد ما قام به السيد المسيح، ويعيد الأمور إلى العهد القديم ودمويته، وقد كتب المفسر الكبير (دود) في كتابه مؤسس المسيحية: "أن المسيانيه في العقلية الدارجة قد ارتبطت بالدور السياسي والعسكري (لنسل داود)، وهذا الدور كان آخر ما يرغبه عيسى عليه السلام". وأضاف كذلك في (مواعظ مملكة الرب): "أن كلمات يسوع لا يوجد ما يوازيها في التعاليم اليهودية، ولا يجب حسبان مهمة يسوع على أنها محاولة إصلاح اليهودية فقد أتى يسوع بشيء مختلف عنها تماماً، ويبتعد عنها كل البعد، ولا يمكن أن يتوافق مع النظام التقليدي" (2).
ولكن ما قام به بولس ويوحنا، قلب هذه الأمور رأساً على عقب، حيث اقتبس يوحنا رؤياه بكل صورها الوحشية والدموية، من التراث اليهودي، وقدم مسيحه اليهودي بصورة بطل محارب، اختار جماعة معينة من البشر واختص بهم. وبفضله ستقوم مملكة صهيون التي سيحكم منها شعبه المختار الأمم والشعوب جميعها. فالمعركة بين جيش القديسين بقيادة المسيح اليهودي المنتظر، وبين جيش الأشرار بقيادة جوج ومأجوج، عند الموضع الذي يدعى هرمجيدون بالعبرية، لن تنشب قبل عودة اليهود جميعاً إلى الأرض المقدسة، وإقامة الدولة اليهودية، لأن مجيء المسيح المنتظر مرتبط بعودة اليهود إلى ارض فلسطين، وطرد أعداء إسرائيل ـ العرب ـ منها، كما يعتقد الأصوليون المسيحيون، الذين يعتقدون أن الخلاص الذي يتطلعون إليه، كان محوره اليهود، لأنه بغير اليهود لا مجيء ثان (3).
_________
(1) رسائل حضارية في مواجهة اليهودية ـ الأب فوتيوس خليل ص41
(2) أمريكيا طليعة الانحطاط روجيه جارودى ـ ص156
(3) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص148(1/265)
تفسير المتناقضات
منذ البداية، بدا كما لو كانت المسيحية وليدة لليهودية أو بالأقل ـ امتداد لها. وقد أوجد ذلك الانطباع وقواه تراوح آباء الكنيسة في موقفهم من تخريبية شاول (بولس) الذي امتلأ من الروح القدس بغتة بعد اضطهاد طويل للديانة الجديدة، فغير اسمه إلى بول، وشمر عن ساعد الجد، وبحجة الترويج للمسيحية عمل على تخريبها بردها إلى اليهودية، وإفراغ تعاليم المسيح من مضامينها المسيحية. كما قوى ذلك الانطباع وأضفي عليه تصديقاً رسمياً، قبول آباء الكنيسة بالجمع بين كتابات اليهود الدينية (العهد القديم)، وبين الأناجيل التي تعتبر تأريخاً بشرياً لحياة المسيح وترديداً لتعاليمه.
فبعد انقضاء عشرات السنين على وفاة بولس، ورغم عدم تحقق نبوءاته عن نهاية العالم، وعن المجيء الثاني لعيسى فإن الكنيسة بقيت متمسكة بها ولم تبحث لنفسها عن أية إمكانية للتراجع أو المراجعة، ولقد ارتبطت نهائياً والى غير رجعة بفكر بولس وبنظرياته اللاهوتية، ولم يعد هنالك إمكانية لبحث الأمور من جديد، ولا العودة إلى رسالة عيسى التاريخية. فقد صار هناك مؤسسه كنسيه مبنية على فكر بولس، ولم يعد من مصلحة أحد نسفها. وكان البديل الوحيد الذي ألزمت الكنيسة نفسها به هو محاولة البحث عن مخرج منطقي للاهوت بولس، رغم عدم وجود شيء من هذا القبيل. فالتناقض الجوهري بين تعاليم السيد المسيح وبين ما جاء في العهد القديم، جعل محاولة آباء الكنيسة التوفيق بين العهد القديم والجديد فاشلة (1). ولهذا الغرض وللمحافظة على مسار الكنيسة وإيجاد مخرج لها فقد لزم أن يقوم المنظرون واللاهوتيين بمحاولات لتفسير المتناقضات وإخراجها بشكل فلسفي تفسيراً رمزياً غير حرفي، حيث حاول آباء الكنيسة الإفلات من ذلك المأزق الخطر بالتشبث بحيلة الكناية والرمزية .. وفي الوقت نفسه ركزوا سيراً على خط أوغسطين، على حكاية العصر الألفي السعيد، فقالوا إنها لا يجب ان تأخذ مأخذاً حرفياً نظراً لأنها مسألة روحانية لا مادية وإنها كناية عن العصر الذهبي الذي دخلته
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص72 - 73(1/266)
الكنيسة بعد صلب المسيح وقيامه وصعوده، وبذلك تكون الكنيسة الكاثوليكية نهاية للتاريخ، والتجسيد الماثل في العالم لمملكة الله على الأرض (1).
وبالرغم من نجاح هذه التفسيرات في إبقاء المسيحية بعيدة عن اليهودية ولو بصورة جزئية، إلا أن انقسام الكنيسة إلى غربية وشرقية أضعف الكنيسة، وساهم بصورة أو بأخرى في تشويه ما قد تبقى من رسالة عيسى الحقيقية، واستمرت الأمور على هذا النحو حتى مطلع القرن السابع بمجيء الإسلام الذي أعاد الأمور إلى نصابها، بكشف النقاب عن رسالة المسيح الحقيقية وأنصافها.
الانقلاب البروتستانتي
في القرن الخامس عشر الميلادي، ازدادت الأمور سوءاً، فبدلاً من التفسير الرمزي للكتاب المقدس، والذي اعتمدته الكنائس المسيحية المعروفة الكاثوليكية والأرثوذكسية، ظهرت ما سميت بحركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر، الذي رفض التفسير الرمزي للكتاب المقدس، ودعا إلى الأخذ بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، وأعلن أن تفسير الكتاب المقدس ليس حكراً على البابا، بل من حق المؤمنين القيام بذلك (2)، وكان ذلك بداية تهويد المسيحية، ودخولها في أحضان التوراة، والكهنة والحاخامات اليهود، الذين جاء عيسى المسيح عليه السلام لمحاربتهم.
فكما وضحنا سابقاً، فقد كان المسيحيون يكرهون اليهود، ويبغضونهم، ويضطهدونهم طوال القرون الماضية، حيث كانوا ينظرون إليهم على أنهم قتلة المسيح، وأنهم من أشد الطوائف التي قامت بتعذيب واضطهاد تلاميذ المسيح والمسيحيين الأوائل، ولكن هذه النظرة تغيرت بعد حركة الإصلاح الديني التي دعا لها (مارتن لوثر)، الذي تنظر له الفرق البروتستانتية على أنه المصلح، الذي قاد حركة الإصلاح الديني المسيحي في مواجهة البابوية الكاثوليكية، التي كانت تبيع
_________
(1) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص61
(2) حياة لوثر زعيم الإصلاح ـ ا. موريس - ترجمة القس باقي صدقه- ص36 - دار الثقافة المسيحية/ القاهرة - ط2(1/267)
صكوك الغفران. فقد دعا (لوثر) المسيحيين إلى إجلال اليهود وتعظيمهم فقال لهم: "شاءت الروح القدس أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس للعالم عن طريق اليهود وحدهم، إنهم الأطفال ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات أسيادهم اليهود" (1).
وقد ساعد على نجاح دعوة لوثر وقادة ما سمى بالإصلاح الديني، ذلك التعاون المستمر والمتعاظم بين قادة اليهود في العالم، وقادة الإصلاح الديني، حيث "أثمر هذا التيار الذي بدأه بولس، وأوصله إلى مرحلة تهويد المسيحية، مارتن لوثر، وكالفن، وسائر قادة الانقلاب البروتستانتي، الثمرة المسمومة التي باتت تعرف باسم (اليهو ـ مسيحية) والتي من خلالها يكثر ذكر شيء غريب اسمه الحضارة (اليهو - مسيحية) " (2).
وعلى ذلك الضرب من الانجراف الفكري والروحي، حققت البروتستانتية مشروع بولس الرسول بتهويد المسيحية وإفراغها من محتواها، الذي انبنت عليه تعاليم الناصري، إذ ردت المسيحية إلى حضن اليهودية، ولم يكن من قبيل المصادفة أو العبث أن بولس ذاك، أفرخت تحريفيته الانقلاب البروتستانتي في القرن السادس عشر الميلادي، "فكان بولس بإعادته تهويد المسيحية، هو الجد الأكبر لكل عقائد السيطرة التي بدأت في القسطنطينية بربط الكنيسة بالسلطة منذ القرن الرابع الميلادي، ثم الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، ثم الاستعمار الذي انقلب إلى تبشير ديني" (3).وهكذا فقد انبثقت المسيحية من اليهودية. ثم عادت و ذابت في اليهودية.
العقيدة التدبيرية من دابي إلى سكوفيلد
وضحنا سابقاً كيفية نشوء البروتستانتية وانتشارها في بريطانيا، وما أفرزته من جماعات متطرفة وصل بها الأمر إلى المطالبة باعتماد التوراة دستوراً للدولة، حيث لم تكن هذه الجماعات إلا بداية لمزيد من التهويد المنظم للبروتستانتية،
_________
(1) المنظمات الصهيونية المسيحية - احمد تهامي سلطان ص9 - - ط1 - مكتبة التراث الإسلامي
(2) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص83
(3) أمريكيا طليعة الانحطاط روجيه جارودي ـ ص 157(1/268)
وبداية لمزيد من التطرف والتهود الذي وصل إلى ذروته في طائفة (أخوة بليموت). فقد استطاع لاهوت الأيام الأخيرة الذي روج له بولس ويوحنا اللاهوتي، السيطرة على خيال وتفكير أتباع المذهب البروتستانتي، حيث اعتنقته في البداية طائفة بروتستانتية بريطانية غير معروفه في القرن التاسع عشر الميلادي هي طائفة (أخوة بليموث) التي كان باعث إلهامها رجل يدعى (جون نلسون داربي)، حيث اتبع نهجاً لتفسير الكتاب المقدس يدعى (التدبيريه)، بمعنى أن كل شيء مدبر ومبرمج، وأن على الإنسان العمل على تحقيق البرنامج الإلهي وفق التفسير الحرفي للنبوءات التوراتيه، حيث أدى ذلك إلى إرساء قواعد الأصولية الدينية الإنجيلية (1)، وكان أحد الجوانب الرئيسة في هذه العقيدة، هو الفصل بين إسرائيل والكنيسة في خطة الله للخلاص.
كان اعتقاد (داربي) وإيمانه، بأن نبوءات العهد القديم التي ترتبط بعودة اليهود المشتتين إلى أرض إسرائيل قبل تغربهم، يجب أن تتحقق حرفياً، وكانت هذه العقيدة تتعارض مع التعليم الواسع الانتشار للكنيسة الغربية في ذلك الوقت، والذي كان ينظر إلى النبوءات العبرانية القديمة من خلال عدسة (لاهوت الأيام الأخيرة) لأوغسطين والمعروف بـ (الاستبدال) حيث حدد أوغسطين الكنيسة كوريث للوعود ـ أي أنها إسرائيل الجديدة، التي تتطلع بشوق إلى أورشليم الجديدة (الأبدية) وهكذا أزال الوعد المرتبط بالأرض من هذه المعادلة.
وقد راج تعليم (داربي) بشكل كبير في كلٍُّ من بريطانيا وأمريكا، ويقول البعض أنه أصبح أكثر قبولا في بداية القرن الماضي من خلال وعظ وكرازة القس (دي ال. مودي). ولكن التحول الكبير حدث عندما نجح الأمريكي (سيروس سكوفيلد) في التقدم خطوات طويلة في عملية التهويد المنظم للمسيحية، من خلال ربط تفسيره للإنجيل بماضي وحاضر ومستقبل إسرائيل. "ففي اعتقاد سكوفيلد فأن عودة المسيح لن تحدث إلا باكتمال العوامل الأربعة التي، تفرض العودة: العامل الأول: عودة اليهود إلى فلسطين، العامل الثاني: السيطرة الكاملة على القدس غير
_________
(1) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص31(1/269)
المقسمة، والعامل الثالث: إعادة بناء الهيكل، أما العامل الرابع والأخير، فهو خوض حرب هرمجيدون" (1).
ومن خلال نشر الكتاب المقدس لسكوفيلد، الذي يعد من أكثر تفسيرات الإنجيل انتشاراً في أمريكا، والذي يستخدم رسومات وخرائط ملونه عليها رموز متعددة، ليبين النبوءات على مجموعات معينه من المؤمنين، تعززت عقيدة القدرية وأصبح لها إتباع عديدون، حيث حملت فيما بعد كلية (دالاس) للاهوت مشعل هذه العقيدة، والتي كان من ابرز خريجيها القس (هال ليندسي) صاحب الكتاب المرتبط بهذه العقيدة والذي يدعى (كوكب الأرض العظيم)، الذي كان قرأ على نطاق كبير (2)، وبيع منه أكثر من 20 مليون نسخة. وبنظر أصحاب عقيدة (التدبيرية) فإن الحدث الرئيس الأكثر أهمية في القرن العشرين، كان تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948م، والذي كان البرهان الإيجابي على أن (داربي) كان على صواب. واكتسب هذا الحدث مصداقية اضافيه بسبب الانتصار السريع والحاسم للدولة الصهيونية في حرب الأيام السته عام 1967م، حيث هتف التدبيريون أن يد الله حققت هذا بكل وضوح، وأن النبوءات القديمة التي أعطاها الله لإسرائيل بدأت تتحقق أمام أعينهم ـ أي أن ما حدث كان تحقيقاً حرفياً لنبوءات العهد القديم.
وهكذا لعبت أفكار المفكر الديني المتطرف (سيروس سكوفيلد) دوراً رئيساً لانتشار هذه المفاهيم حيث وضع النبوءة في المركز الرئيس لمفهومه عن المسيحية، وجعل منها قلب نظامه الديني، من خلال زرع آراءه الشخصية في الإنجيل، بحيث لم يعد العامة قادرين على التفريق بين كلمات (سكوفيلد) وكلمات الإنجيل. كما كان يرى سكوفيلد ـ متأثرا ببولس ـ بأنه لا أمل في هذا العالم، وإننا لا نستطيع العيش بسلام فيه .. وكان يردد بأن عالمنا سوف يصل إلى نهايته بكارثة وبدمار، وبمأساة عالمية نهائية. ولكنه كان يقول أيضا: "إن المسيحيين المخلصين (المولودون ثانية) يجب أن يرحبوا بهذه الحادثة، لأنه بمجرد ما تبدأ المعركة النهائية فإن المسيح سوف يرفعهم إلى السحاب، وأنهم ينقذون، وأنهم لن يواجهوا شيئاً من
_________
(1) أساطير في ثوب ديني وتحالف استراتيجي / رضا محمد حرب - جريدة الخليج العدد 8674
(2) عندما تختلط الأساطير بالنبوءاتـ جون هيوبرز- جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672(1/270)
المعاناة التي تجرى تحتهم على الأرض" (1). وهذا المفهوم هو الذي شجع كثير من الجماعات المتطرفة على الانتحار الجماعي، لتنجوا من المحرقة الكبرى، كما سنوضح ذلك لاحقاً.
عندما تختلط الأساطير بالنبوءات
تلك كانت عقيدة التدبيرين، ولكنها لم تكن بالضرورة الصوت السائد للكنيسة الإنجيلية الرئيسة في تلك المرحلة، ولم تصبح تلك العقيدة سائدة ومسيطرة إلا عندما اندمجت الأسطورتان: الأسطورة التدبيرية، والأسطورة الأمريكية ـ كما يقول (جون هيوبرز) منسق الإرساليات للشرق الأوسط وجنوب آسيا في الكنيسة المصلحة في أمريكا، والذي يحاول تفسير انتشار عقيدة التدبيريين المتعلقة بقصة تأسيس إسرائيل، من خلال ربطها بالأسطورة الأمريكية (قصة تأسيس أمريكا) حيث يسرد (جون هيوبرز) القصة كالتالي على الأقل بصيغتها الموجزة: "إنها قصة أناس مضطهدين يتوقون لأرض يستطيعون فيها أن يمارسوا إيمانهم بحرية تحت إرشاد الله وقوته، ويتغلبون على صعاب جمة، ومعارضة كثيفة لإنشاء دولة خاصة بهم. وتأتي هذه المعارضة من (متوحشين) يفعلون كل ما بوسعهم لمنع هؤلاء المستوطنين الشجعان من تأسيس دولتهم. وان الطريقة الضعيفة التي يريد بواسطتها هؤلاء المتوحشون الأرض تبرر طردهم منها".
ويضيف (هيوبرز) بقوله: "وهنا على ما اعتقد يكمن تفسير واحد ـ على الأقل ـ لهذه السيطرة القوية الراسخة، التي للأسطورة (القدرية) على الوعي والإدراك الأمريكي (حتى خارج الدوائر الإنجيلية) حيث أنها تعطي صدى لأفكار أسطورة الرياديين الأمريكيين. إننا نسمع قصتنا الخاصة بنا من خلال قصة (إسرائيل) ونقارن أنفسنا بالصهيونيين، لأن خبرتهم تظهر بأنها تماثل خبرتنا، حيث إننا نناقش هنا التاريخ الحقيقي بدلاً من التاريخ التفسيري". ويختم جون هيوبرز بالقول: "لا أريد أن أبالغ بهذا الأمر حيث أن الذين يقبلون عقيدة التدبيرية إنما يفعلون هذا بشكل رئيس، لأنهم مقتنعون أن هذه أفضل طريقة لقراءة الكتاب المقدس، لكن هذه
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص 71(1/271)
السيطرة التي تفرضها هذه العقيدة على خيال وتفكير الإنجيليين الأمريكيين، حتى على الذين لا يقارنون أنفسهم بالإنجيليين لا يمكن تفسيرها على ما اعتقد إلا بالروابط الواضحة بين القصة الصهيونية والقصة الأمريكية" (1).
وهكذا فان هذا التراث الذي افرزه التهويد المنظم للمسيحية، والذي أدى إلى ظهور ظاهرة ما يسمى بالأصولية المسيحية (2)، يعني في جانب بارز منه، أن هذه الظاهرة إذا ما استمرت وتعمقت، فإنها ستترك آثارا كبيرة داخل المجتمع الأمريكي نفسه، وبخاصة تجاه طرح منظومة قيم مختلفة، مستندة إلى مبادئ توراتية، كما سيكون لهذه الظاهرة أبعادها على مستوى العلاقات الأمريكية مع العالم الخارجي، وبخاصة في إطار الهيمنة الثقافية والقيمية الأخلاقية ولعل هذا النوع من الهيمنة قد يدفع باتجاه إدخال (الاصطفاء الإلهي) في السياسة الدولية (3).
_________
(1) عندما تختلط الأساطير بالنبوءات ـ جون هيوبرز- جريدة الخليج 15/ 2/2003 م عدد8672
(2) استخدمت كلمة أصولي عاغم 1920م في البداية لتعني هذا التحالف من البروتستانت المحافظين المتشددين الذي كانوا يسعون للحفاظ على المؤسسة البروتستانتية الإحيائية التي قامت في القرن التاسع عشر، وقد ابتكر هذه الكلمة محرر صحفي معمداني محافظ اسمه كيرتس لي لوز كوصف مميز لجماعة في معركة في المؤتمر أو التجمع المعمداني الشمالي (أكبر التجمعات المذهبية المعمدانية في شمال الولايات المتحدة) وانطوى الدفاع عن الأصوليين على الرغبة في الكفاح من أجل تعاليم أصولية معينة أنكرها التحرريون وتفاوتت قوائم هذه التعاليم وتنوعت لكنها اشتملت في العادة على معتقدات بعصمة الكتاب المقدس وولادة عيسى من امرأة عذراء وصحة معجزاته والتكفير عن الخطيئة من خلال موت المسيح وقيامه عيسى وعودته مرة أخرى. وتميز الأصوليون عن بقية المحافظين البروتستانت برغبتهم في المحاربة من أجل هذه المعتقدات والتعاليم ودرجوا على النظر إلى العالم من خلال صور تنطوي على الحرب أما الحرب فكانت على جبهتين: إذ كانوا يحاربون ضد عقيدة تحديثية في مذاهبهم وكذلك ضد بعض الاتجاهات الواضحة السائرة نحو العلمانية في ثقافتهم (الدين والثقافة الأمريكية جورج مارسدن ـ ترجمة صادق إبراهيم عودة ـ ص196"
(3) الصهيونية المسيحية .. أصولها ونشأتها د .. يوسف الحسن / الخليج 15/ 2/2 .. 3 عدد8672(1/272)
الفصل الرابع
عقيدة الهرمجدون أو معركة (مجدو)
تحتل هذه المعركة أهمية بالغة في الفكر البروتستانتي المسيحي، وتنبع أهميتها من كون غالبية أتباع التيار المسيحي الأصولي في أمريكيا يؤمنون بقرب حدوث هذه المعركة، ويترقبون ساعة وقوعها، باعتبارها الحدث الذي سيظهر من خلاله المسيح، ليقضى على قوى الشر، التي تحارب اليهود، حيث بعدها يدخل اليهود الذين تبقوا على قيد الحياة في الديانة المسيحية، ويبدأ العصر الألفي السعيد، حيث يحكم المسيح العالم من مقره في القدس! والمسيحيون البروتستانت لا يؤمنون فقط بقرب وقوع هذه المعركة، بل إنهم على استعداد للمبادرة بإخراج أحداثها وصنعها، لتأكيد مزاعمهم. وأخطر ما في الأمر هو أن هذا الإيمان لا يقتصر على طبقة الناس البسطاء، بل وصل إلى أعلى مستويات صناع القرار في أمريكيا، كما حدث مع الرئيس (رولاند ريجان) الذي كان يعتقد عندما رشح نفسه للانتخابات الأمريكية، بأن المسيح يأخذ بيده ليقود معركة (هرمجدون)، وهذا يعنى أنه كان على استعداد في أي لحظه لخوض غمار حرب عالمية نووية، معتقداً أنه بذلك ينفذ تخطيطاً إلهياً مقدراً سلفاً.
والاعتقاد بمجيء يوم يحدث فيه صدام بين قوى الخير وقوى الشر، هو من العقائد المشتركة بين اليهود والبروتستانت، الذين يعتقدون بأن حديث الإنجيل عن تدمير الأرض بالنار، يعنى أن الأرض ستدمر في حرب نووية فاصلة لا مفر منها. ومن العجيب أن رجال الدين البروتستانت من المبشرين وغيرهم، يذكون في أتباعهم هذا الاعتقاد ويحيونه، متبعين في ذلك اليهود أحياناً، ومستقلين بالاعتقاد أحياناً أخرى، حيث جني هؤلاء المبشرين الكثير من الفوائد والمغانم من وراء زرع الشعور بدنو يوم القيامة في الناس. "ولا شك أن الحديث عن غيبيات ستحدث وربطها بغيبيات حدثت يجذب الانتباه بقوة، ويجلب بإلحاح وشدة نظر من يوجه إليه الحديث، فالخوف من المجهول، وترقب المنتظر أمر طبيعي في مكنون النفس البشرية. ولم يقتصر رجالهم في استغلال تلك المشاعر، وراحوا يؤججون نيران الحماسة في(1/273)
الناس، للمساهمة في صنع الأحداث الجسام التي ستسبق مجيء اليوم الآخر، ومن تلك الأحداث طبعاً عودة اليهود إلى فلسطين، واستيلاؤهم على القدس، وهدمهم للأقصى وبناؤهم للهيكل، ومن ثم انتظارهم لمجيء المسيح وحدوث المعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر، أو ما يعرف بمعركة (مجدو) أو هرمجدون" (1).
مجدّو
"بتشديد الدال. بمعنى موضع الجيوش ومخيمها في اللغة الكنعانية، وهو تل المتسلم، وتقع على بعد30 ميلا شرقي ساحل البحر المتوسط. فالطريق من مصر إلى آسيا يمر في الأراضي السهلية الفلسطينية موازيا الشاطئ، وفي سيره نحو الشمال يعترضه جبل الكرمل. وعند الساحل بالقرب من قيسارية، ممرات طبيعية تصل الساحل بمرج ابن عامر، وأجودها ممر مجدو، وبالقرب من منتهاه توجد تله ترتفع 82 قدما تعرف (تل المستلم) تشرف على سهل مرج ابن عامر، وبذلك يكون ممر مجدو مفتاح الطريق إلى مصر والجنوب، وإلى سوريا والشمال، ولذلك مرت بها الغزوات السابقة كلها، وهى اليوم خراب" (2). وقد جاء في قاموس الكتاب المقدس الصادر عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى: "أن (هرمجدون) اسم عبري، معناه جبل مجدو، وهو موقع تنبأ كتاب الرؤيا أنه سيتحول إلى ساحة للحرب، يجتمع فيه كافة ملوك الأرض في يوم قتال الرب (رؤيا 16 - 16) " (3).
وقد يتساءل المرء باستغراب، لماذا تل مجدو؟ وما هو الشيء الخاص جداً بهذا الموقع بفلسطين؟ المفترض أن تقع فيه معركة كونيه رهيبة لإفناء البشرية. والجواب على ذلك هو، أن هذا التل كان موقعاً استراتيجياً، يقع على مسافة ثلاثين كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من مدينة حيفا اليوم، وفي القرن العاشر قبل الميلاد كانت تربض عليه قلعة كنعانية، ويبدو أن احتلال العبرانيين لهذه القلعة، والمعارك الضارية التي جرت مع الكنعانيين وبعدها مع المصريين للدفاع عن القلعة، ومنها
_________
(1) قبل أن يهدم الأقصى - عبد العزيز مصطفى ص 47
(2) معجم بلدان فلسطين ـ محمد شراب ص650 - دار المأمون للتراث/ دمشق - ط1 1987.
(3) شهود يهوه - بين برج المراقبة الأمريكي وقاعة التلموذ اليهودي - تأليف/ حسين عمر حماده - دار قتيبه 1990 - ص145(1/274)
المعركة التي قتل فيها الملك اليهودي جوشيا في العام (609) قبل الميلاد، وهو يحاول الدفاع عن القلعة ضد المصريين، مما أدى إلى ذكريات مريرة عند اليهود، استمرت لقرون عديدة، إلى أن قرر يوحنا ـ مؤلف الرؤيا ـ وهو يهودي من أتباع بولس ـ أن يخلد الذكريات اليهودية عن تل مجدو بطريقته الخاصة.
وقد ارتبطت مجدو في الاعتقاد القديم، بأنها الأرض التي كان الفاتحون القدامى يعتقدون أن أي قائد يسيطر عليها يمكنه أن يصمد أمام الغزاة، ويعتقد اليهود ومن تبعهم في ذلك من البروتستانت .. أن جيشاً من مائتي مليون جندي يأتون إلى (مجدو)، لخوض حرب نهائية. ففي التوراة، وفي الإنجيل، وفي رؤى القديسين إشارات إلى هذه المعركة الهائلة، التي يسمونها معركة هرمجدون .. تجري على أرض فلسطين وأطرافها، المسلمون والنصارى واليهود، حيث يتصور كل فريق إن المعركة سوف تنتهي لصالحه.
يقول المسيحيون: "إن المسيح سوف ينزل من السماء في أعقاب هذه المعركة، وأنه لن ينزل إلا إذا جرت دماء المسلمين انهاراً ... وطائفة الإنجيليين في أمريكا تدفع باليهود لإشعال الحرب، لتتعجل نزول مسيحها .. وكان رونالد ريجان (وهو من هذه الطائفة) يحلم بأن يكون هو الرجل المحظوظ، الذي يشعل فتيل تلك المعركة. أما اليهود فيقولون: أن القادم هو المسيح الحقيقي، وانه ملك اليهود وان ما جاء من قبل لم يكن هو المسيح، ولهذا لم يؤمنوا به ولم يتبعوه. وكل طرف يحلم بأن تتم التصفية الإلهية لحسابه ... وتظل هرمجدون أسطورة ... ولكن لا شك أن الله يدفع بالأحداث إلى ذروتها .. وأن الأرض حبلى بالكوارث .. والله وحده يعلم كيف تنتهي؟ ومتى؟ وأين؟ ولحساب من؟ " (1).
وفي الحقيقة فإن الاعتقاد بـ (هرمجيدون) أصله في التوراة، التي عند اليهود، وقد تبعهم في ذلك المسيحيون البروتستانت، الذين يأخذون بالتفسير الحرفي للتوراة، وقد وضحنا في السابق دور ذلك في جعل البروتستانت يؤمنون بحرفية كل ما جاء في التوارة، من قصص تاريخية، ونبوءات. وقد جاءت الإشارة إلي ذلك اليوم
_________
(1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص104(1/275)
في التوراة في سفر حزقيال. فعن قدوم قوى الخير تقول التوراة: "بعد أيام كثيرة تفتقد في السنين الأخيرة، تأتى إلى الأرض المسترة من السيف المجموعة من شعوب كثيرة على جبال إسرائيل، التي كانت خربة للذين أخرجوا من الشعوب آمنين كلهم، وتصعد، وتأتى كزوبعة، وتكون كسحابة تغشى الأرض، أنت وكل جيوشك وشعوب كثيرون معك" (سفر حزقيال 38، 8ـ10).
وتتحدث التوراة عن أوصاف ذلك اليوم، فتقول: "ويكون في ذلك اليوم يوم مجيء يأجوج على أرض إسرائيل يقول الرب إن غضبى يصعد، وغيرتي في نار سخطي تكلمت أنه في ذلك اليوم، يكون رعش عظيم في إسرائيل، فترعش أمامي سمك البحر، وطيور السماء، ووحوش الحقل، والدبابات التي تدب على الأرض، وكل الناس الذين على وجه الأرض، وتندك الجبال، وتسقط المعاقل، وتسقط كل الأسوار إلى الأرض، واستدعى السيف عليه في كل جبالي. يقول السيد الرب: "فيكون سيف كل واحد على أخيه، وأعاقبه بالوباء وبالدم، وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة، الذين معه مطراً جارفاً، وحجارة برد عظيم، وناراً وكبريتاً .. " (سفر حزقيال - الاصحاح 38).
وفي سفر حزقيال ـ أيضاً ـ الأمر لحزقيال بأن يوجه الكلام إلى قوم يأجوج ومأجوج: "وأنت يا بن آدم تنبأ على يأجوج وقل: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ماشاك وتوبال، وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال، وآتى بك على جبال إسرائيل، وأضرب قوسك من يدك اليسرى، وأسقط سهامك من يدك اليمنى، فتسقط على جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك، أبدلك مأكلاً للطيور الكاسرة من كل نوع، ولوحوش الحقل، على وجه الحقل تسقط لأني تكلمت. يقول السيد الرب: وأرسل ناراً على مأجوج، وعلى الساكنين في الجزائر آمنين، فيعلمون أنى أنا الرب" (سفر حزقيال - الاصحاح 39).
وتحدث التلمود أيضاً عن معركة الهرمجيدون، ومما ذكر فيه عن الحرب التي ستشتعل قبل مجيء المسيح في (هرمجدون)، ما يلي: "وقبل أن يحكم اليهود نهائيا ـ أي قبل أن يحكموا العالم ـ يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم(1/276)
ليأتي المسيح الحقيقي، ويحقق النصر القريب" (1). ويبقى اليهود سبع سنوات يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر، وحينئذ تنبت أسنان أعداء بنى إسرائيل بمقدار اثنين وعشرون ذراعاً خارج أفواههم .. !! " (2).
وحتى بروتوكلات حكماء صهيون تحدثت عن هذه المعركة: "إننا نقرأ في شريعة الأنبياء أننا مختارون من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية كي نكون قادرين على القيام بهذا العمل، إن كان في معسكر أعدائنا عبقري فقد يحاربنا، ولكن القادم الجديد لن يكون كفؤاً إلا لأيد عريقة كأيدينا .. إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة لم ير العالم مثيلاً لها من قبل، والوقت متأخر بالنسبة إلى عباقرتهم" (3).
سفر الرؤيا ومعركة هرمجيدون
لا شك أن كتاب الرؤيا آخر كتب العهد الجديد، قد أخذ بلب الجماهير المسيحية خلال القرون الأولى، بل أنه استمر في سحر العديد منهم ـ في نصف الكره الغربي ـ لدرجة أو لأخرى حتى يومنا هذا، "ذلك أن سفر الرؤيا الذي كتب في مناخ من التوقع والأمل بالخلاص الفوري، غذى ودعم المعتقد المسيحي الغربي من زاويتين:
أولاً: ساند القناعة المسيحية بعودة المسيح الوشيكة رغم تنبؤ بولس بوقوعها في حياته، لأن المسيحيين في القرن الأول والثاني لم ييئسوا قط من تحقيق تلك النبوءة.
ثانياً: كان على المسيح في مجيئه الثاني أن يحقق وينجز ما لم يحققه في المجيء الأول" (4) ألا وهو قيادته للمعركة الفاصلة بين الخير والشر (هرمجيدون) وانتصاره فيها.
_________
(1) التلمود وتعاليمه وغاياته ـ ظفر الإسلام خان ص61 - دار النفائس
(2) الكنز المرصوص في فضائح التلموذ - د. محمد عبد الله الشرقاوي ص 196 - مكتبة الوعي الإسلامي
(3) بوتوكلات حكماء صهيون ـ ترجمة محمد خليفة التونسي ـ البروتوكول الخامس - ص123 - تقديم الاستاذ / عباس العقاد- دار الكتاب العربي 1951
(4) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ـ ص 241(1/277)
ويوحنا اسم تسمى به صاحب الرؤيا التي ذيل بها (العهد الجديد)، وهو شخصية غامضة مختلف على هويتها، ولكن المعروف ـ أن يوحنا كان كاهناً يهودياً من فرقة العرافين، عرفت منذ زمن اليشع باسم (بنى الأنبياء)، ويبدو انه هرب أو رحل إلى جزيرة بطموس، وهى إحدى الجزر الصغيرة أمام الساحل التركي، وادعى لنفسه صفة المبعوث من المسيح إلى الكنائس السبعة التي في آسيا، حيث أرسل لها رسائل ينذرها بقرب عودة المسيح المخلص.
ويعود احتلال كلمة هرمجيدون هذه الأهمية المميزة في الفكر المجيء الأصولي، إلى سفر الرؤيا، الذي يحصل المسيحيون الأصوليون على معظم معلوماتهم عن الأيام الأخيرة منه، حيث يرى هؤلاء أن الله استخدم يوحنا ليقدم لنا وصفاً عما ستكون عليه هذه المعركة النهائية. ومن الجدير بالذكر أن كلمة هرمجيدون هي كلمة عبرية وردت مره واحدة في الكتاب المقدس، وفي سفر الرؤيا بالتحديد، في الفصل 16، الآية 16: "وجمعهم في مكان يدعى باللسان العبري هرمجيدون" (1).
وليست اللفظة وحدها، هرمجيدون هي العبرانية، "فرؤيا يوحنا اللاهوتي كلها عبرانية، وهو ما قرره الرجل صراحة قبل أن يتحدث عن هرمجيدون، إذ أعلن أنه نظر "وإذا قد انفتح هيكل خيمة الشهادة أو السماء" (يوحنا 15:5)، ثم أعلن انه عندما سمع "صوتاً عظيماً من السماء" سمعه "من الهيكل" ... فالرؤيا كلها عبرية أي مأخوذة من رؤى العهد القديم، وبالأخص من حزقيال ودانيال، وقد كان الأجدر بدلاً من وضع رؤيا يوحنا كحاشية في ذيل العهد الجديد، أن توضع كمعبر، أو كهمزة وصل بين العهدين" (2).
ومن الجدير بالذكر أن سفر الرؤيا الذي كتبه يوحنا العراف الملقب باللاهوتى ـ في أواخر الستينات من القرن الأول، لم يكن يعتبر سفراً مقدساً وقت كتابته، وحتى حلول القرن الرابع الميلادي، إذ بعد مؤتمر نيقيه 325م طلب الإمبراطور قسطنطين من يوزيبيوس اسفف قيسارية اعداد كتاب (مسيحي مقدس) للكنيسة الجديدة،
_________
(1) يد الله - ص 26
(2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص227(1/278)
وليس مؤكداً أن كان يوزيبيوس في ذلك الوقت قرر إدخال كتاب الرؤيا ضمن أسفار العهد الجديد، ذلك أن بعض المراجع المسيحية لم تكن تؤمن بصحة معلوماته، وعليه فقد يكون سفر الرؤيا أضيف إلى الكتاب المسيحي المقدس، بعد زمن يوزيبيوس بكثير. والجدير بالذكر أن نسخة البسيطة السريانية للكتاب المقدس، والتي تتبناها الكنيسة الشرقية لا تشتمل على سفر الرؤيا.
كما كتب (ديونيسيوس) أسقف الإسكندرية، الذي كان معاصراً ليوزيبيوس، إن يوحنا مؤلف الرؤيا ليس الحواري يوحنا بن زبيدى قطعاً، وأضاف أنه لا يستطيع فهم الرؤيا، وأن الكثيرين من معاصريه انتقدوا الرؤيا بشدة، وذكروا أن المؤلف لم يكن حوارياً ولا قديساً، ولا حتى عضواً في الكنيسة، بل هو سيرنثوس الذي تزعم الطائفة المنحرفة المعروفة باسمه (1). وقد نشر (كميل خباز) كتابا بعنوان (الزؤان في الكتاب المقدس) "وضح فيه إن التآمر على الدين المسيحي من قبل اليهود قديم قدم المسيحية وقال: "إن ثمة يهود وضعوا مؤامرة سريه تهدف إلى القضاء على المسيحية بأساليب متعددة ومنها: تحريف الإنجيل. فقد اثبت الباحث المذكور إن رؤيا يوحنا وهي آخر الأسفار المقدسة عند المسيحيين هو نبوءة كاذبة ومدسوسة، كما أنها تؤلف إحدى حلقات تلك المؤامرة" (2).
الأصوليون المسيحيون وهرمجيدون
تتلخص نظرية هرمجيدون كما يراها الأصوليون المسيحيون في القول: أن نهاية العالم أوشكت على الحدوث بعد تحقق الشرط اللازم لوقوعها، وهو إنشاء إسرائيل، وتجميع اليهود فيها، ولم يبق سوى أن يعود المسيح بصورة الملك ـ المحارب فيسحق أعداءه في معركة تل مجدو الرهيبة. أما دور المؤمنين في الوقت الحاضر فهو المساهمة بتسريع تحقق الأحداث المتوقعة، والتمهيد لإنشاء مملكة الله على الأرض، التي سيكون المسيح على رأسها. والمخيف أن العديد منهم يحبذ حصول كارثة نووية، كأنسب وسيله لتحقيق المجيء الثاني بأقصى سرعة، ومن
_________
(1) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين - ص 242
(2) أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحية ـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص58(1/279)
هؤلاء من بيدهم مقاليد الأمور مثل الرئيس الأسبق (ريجان) والرئيس الحالي (بوش). ويجد الواعظون بهذا المخطط البهجة خلال مواعظهم في وصف الفظائع التي ستحدث خلال معركة تل مجدو، ويتحدثون عنها بإسهاب أمام جمهورهم سريع التصديق، ومن هؤلاء الوعاظ الأصوليون أسماء شهيرة مثل (جيري فالويل) و (جيمي سواجارت) و (بات روبرتسون) و (هال ليندسي).
والمشهور عن أمثال هؤلاء اعتقادهم ـ بسبب تأثرهم بفكر بولس ويوحنا ـ أن ليس هناك ما يخشاه المرء من انتشار الأسلحة النووية ولا من إمكانية اشتعال حرب عالميه ثالثه نتيجة نشوء إسرائيل، لأن مثل هذه التطورات مرغوبة لكونها جزءاً من مخطط إلهي من شأنه تسريع عودة المسيح. فالأصوليون لا يؤمنون بضرورة العمل من أجل السلام، بل قبولهم الحرب كأمر لا مفر منه تحقيقا لإرادة الله ـ حسب زعمهم. ومن ذلك أن وزير الداخلية الأمريكي الأسبق (جيمس واط) صرح أمام مجلس النواب: انه باعتبار العودة الوشيكة للمسيح ونهاية العالم، فليس من مبرر للقلق على البيئة، ولا التذمر من تخريب الموارد الطبيعية (1). ولإزالة المخاوف لدى الجمهور الأمريكي عن هذه النظرية، فإن البعض ينفيها، ويرى أن هرمجيدون الواردة في سفر الرؤيا، ليست إلا أحداثاً خاصة بـ (موت) المسيح، وبعثه وتدمير الهيكل في عام 70 قبل الميلاد. كما يرى آخرون في هرمجيدون، أنها مثال تصويري للصراع الروحي بين الخير والشر. وقد كانت تلك المعتقدات، وما شابهها حية ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وبخاصة في مسائل الانشغال العام بالشيطان، وبالمسيح الدجال وبنهاية العالم" (2).
_________
(1) النبوءة والسياسة 20
(2) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ـ د. يوسف الحسن ـ ص 175(1/280)
سيناريو هرمجيدون حسب (سفر الرؤيا) (1)
يبدأ سيناريو هرمجيدون ـ حسب يوحنا اللاهوتي ـ بما يسميه (أناشيد الظفر في السماء)، محاولاً تبرير هذه المعركة الرهيبة، فيقول: "لأنه أدان العاهرة الكبرى ـ بابل ـ التي أفسدت الأرض بزناها وبفسوقها، وأنتقم لدم عبيده منها". وبعدها مباشره يصور يوحنا مشاهد هذه المعركة فيقول: "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس ابيض والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً واسمه كلمة الله، وتبعته جيوش السماء على خيول بيضاء، وقد كتب على ثوبه وعلى فخذه: ملك الملوك ورب الأرباب. ورأيت الوحش وملوك الأرض وجيوشهم مجتمعين لشن الحرب على الجالسين، على الفرس وجيشه، فقبض على الوحش، وعلى النبي الزائف معه، وألقي الاثنان أحياء في بحيرة النار المتقدة بالكبريت، والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس المنبعث من فمه، وجميع الطيور شبعت من لحومهم" (سفر الرؤيا ـ الفصل 19).
ففي معركة هرمجدون، كما في كل معركة طرفان يتصارعان، وفي النهاية يخسر واحد، وينتصر آخر. وبما أن معركة يوحنا، هي معركة كونية فاصلة بين عالمين، فقد استعار لها يوحنا الكثير من الصور الغائمة المبهمة، أخرجها بصيغ من الألغاز والرموز، وبلسان الرائي: "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس ابيض والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً. بالعدل يحكم ويحارب. عيناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله مكتوب لا يعرفه أحد إلا هو. مستربل بثوب مغموس بدم، ويدعى اسمه كلمة الله. من فمه يخرج سيف ماض، لكي يضرب به الأمم. وهو سيرعاهم
_________
(1) يشبه سفر الرؤيا سفري دانيال وأخنوخ من حيث الشكل. ولقد كانت رؤى النبوءات الرمزية أحد الأساليب التي يلجأ إليها يهود ذلك العصر في كثير من الأحوال؛ ووجدت رؤى أخرى غير رؤى يوحنا، ولكن هذا السفر سما عليها جميعاً في بلاغته الجذابة. ويستند الكتاب إلى العقيدة الشائعة التي تقول إن حلول ملكوت الله يسبقه حكم الشيطان، وانتشار الشرور والآثام، فيصف حكم نيرون بأنه هو بعينه عهد الشيطان، ويقول إنه لما خرج الشيطان وأتباعه على الله غلبتهم الملائكة جيوش ميخائيل، وقذفت بهم إلى الأرض فقادت العالم الوثني هجومه على المسيحية. ونيرون هو الوحش وعدو المسيح في هذا الكتاب فهو مسيح من عند الشيطان، كما أن يسوع مسيح من قبل الله. ويصف روما بأنها "الزانية العظيمة الجالسة على المياه الكثيرة التي زنى معها ملوك الأرض"، "وسكر سكان الأرض من خمر زناها" وهي "زانية بابل" مصدر جميع الظلم والفساد، والفسق والوثنية، ومركزها وقمتها. هنالك ترى القياصرة المجدّفين المتعطشين للدماء، يطلبون إلى الناس أن يخصّوهم بالعبادة التي يحتفظ بها المسيحيون للمسيح.(1/281)
(الأمم) بعصا من حديد، يدوس معصره خمر، سخط وغضب الله القادر على كل شيء. وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب: ملك الملوك ورب الأرباب" (رؤيا 19:11ـ16). وهذه صورة المسيح اليهودي المنتظر ـ البطل السماوي المحارب على رأس جيش من "الأجناد السماوية يتبعونه على خيل بيض لابسين بزاً أبيض نقياً" (رؤيا 19: 14).
وفي الطرف المقابل يقف "الوحش وملوك الأرض وأجنادهم مجتمعين ليصنعوا حرباً مع الجالس على الفرس ومع جنده" (رؤيا 19:19). تساعدهم قوى الشر ممثلة بـ "أرواح نجسة شبه ضفادع. أرواح شياطين صانعة آيات تخرج على ملوك العالم، وكل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم يوم الله القادر على كل شيء .. إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون" (رؤيا 16: 13ـ 16). وقبل أن تضع الحرب الكونية أوزارها، يقول الرائي:"ورأيت ملاكاً واحداً واقفاً في الشمس، فصرخ بصوت عظيم قائلاً للطيور جميعها: هلم اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك، ولحوم قواد أقوياء، ولحوم خيل، والجالسين عليها، ولحوم الكل حراً وعبداً صغيراً وكبيراً" (رؤيا 19: 17).
وكان من الطبيعي، بمفهوم الرائي يوحنا، أن ينتصر في المعركة الكونية بطل السماء ـ المسيح المنتظر، "فقبض على الوحش، والنبي الكذاب معه، الصانع قدامه الآيات التي أضل بها الذين قبلوا سمة الوحش والذين سجدوا لصورته، وطرح الاثنان حيين في بحيرة النار المتقدة بالكبريت، والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه. وجميع الطيور شبعت من لحومهم" (رؤيا 19:20 و 21).
هكذا تحددت مهمة المسيح المنتظر بوضوح، ومنذ البداية، وهى سحق الرؤوس، وملء الأرض بالجثث، وجعل الأمم جميعها موطئاً لأقدام بنى إسرائيل، وانتداب اليهود بقيادة المسيح المنتظر لحكم الأرض، نيابة عن يهوه (الرب)، أى إقامة ملكوت يهوه على الأرض. وهذه الصورة التي رسمها يوحنا اللاهوتي في رؤياه، تعتبر الأكثر تعبيراً عن صورة المسيح الذي ينظره اليهود. فالأوصاف التي طرحها يوحنا هي لمسيح يهودي، محارب. "عيناه كلهيب نار .. متسربل بثوب مغموس بدم" (رؤيا19:12) "رجلاه شبه النحاس النقي كأنها محميتان في آتون .. وسيف ماض ذو(1/282)
حدين يخرج من فمه" (رؤيا 15:1). ثم يكرر يوحنا اللاهوتي هذه الصفة التي ينسبها إلى مسيحه، بصيغة من البلاغة التفصيلية، فيقول: "ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب الأمم، وسيرعاهم بعصا من حديد، وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله" (رؤيا 19: 15). "وله على ثوبه، وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب" (رؤيا 19: 16).
ومسيح يوحنا كائن مركب، "له سبعة أرواح الله والسبعة الكواكب" (رؤيا 3: 1). "وله سبعة قرون وسبع أعين" (رؤيا 5: 6). "والممسك السبعة الكواكب في يمينه" (رؤيا 2: 1)، وهذه أوصاف وصور مقتبسة أو مستعارة من دانيال وحزقيال، ارتبطت بيهوه (الرب)، أو قل أن يهوه نسبها إلى مسيحه الذي وعد جماعته (اليهود) به، ليقود جيشهم في مذبحة الأرض، التي سيرتفع أثرها ملك صهيون على أمم الأرض (1). ومسيح يوحنا ليس فيه من المسيح المسيحي (يسوع الناصري)،غير صفة الخروف، ولكن (خروف) يوحنا (المسيح) لا يبدو واقفاً على جبل الزيتون يعلم التلاميذ مثلاً. ولا "يطوف المدن كلها والقرى يعلم مجامعها" (متى 9: 35) وإنما يبدو "واقفاً على جبل صهيون" (رؤيا 14: 1) حيث شد داود إطناب خيمته. و (خروف) يوحنا (المسيح) لم يأت ليخلص البشرية (الفداء)، وإنما ليخلص بني إسرائيل "من بين كل قبيلة ولسان وشعب وأمة" (رؤيا 5: 9). والذين "اشتراهم بدمه" (رؤيا 5:9) أي خلصهم ـ فداهم ـ هم "مائة وأربعة وأربعون ألفا مختومين على جباههم من كل سبط من بني إسرائيل" (رؤيا 7: 4) (2).
ومسيح يوحنا يهودي، فهو "الأسد الذي من سبط يهوذا، أصل داود" (رؤيا 5: 5)، "الذي له مفتاح داود" (رؤيا 3: 7)، والذي رفع جماعته (بني إسرائيل) فوق البشر جميعهم، "وجعلتنا لألهتنا ملوكاً وكهنة" (رؤيا 5:10) "ومسحهم سادة على الأرض" (رؤيا 5:10). ومسيح يوحنا اليهودي، سيقود جيش القديسين ضد جيش الأشرار المؤتلف بقيادة (يأجوج ومأجوج) في "الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون" (رؤيا 16:16).
_________
(1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان ص118
(2) الاصولية المسيحة في نصف الكره الغربي - ص117(1/283)
وبعد المأدبة التي أقامها الإله احتفالاً بانتصاره على أعدائه، يقول الرائي: "ثم رأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية، وسلسلة عظيمة على يده، فقبض على التنين الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة وطرحه في الهاوية، وأغلق وختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد حتى تتم الألف السنة. وبعد ذلك لابد أن يحل زماناً يسيراً" (رؤيا 20:1 1ـ3).
ففي هذه المعركة الكونية لم يكن هناك نهاية، وإنما كان فيها "قيامه أولى لهؤلاء الذين ليس للموت الثاني سلطان عليهم. بل سيكونون كهنة لله والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة" (رؤيا 20: 6). "أما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السنة" (رؤيا 20: 5). "ثم متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض: (يأجوج ومأجوج) ليجمعهم للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر" (رؤيا 20: 7). وهنا تكون المعركة الكونية، وينتهي التاريخ يقول الرائي: "فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة (أورشليم)، فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم. وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب، وسيعذبون نهاراً وليلاً أبد الآبدين" (رؤيا 20: 9).
وفي نهاية هذه المعركة الفاصلة يبدأ الحساب، يقول الرائي: "ثم رأيت عرشاً عظيماً ابيض والجالس عليه، الذي من وجهة هربت الأرض والسماء، ولم يوجد لهما موضع، ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله، وانفتحت أسفار، وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة. ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم. وسلم البحر الأموات الذين فيه، وسلم الموت والهاوية الأموات فيهما. ودينوا كل واحد بحسب أعماله، وطرح الموت والهاوية في بحيرة النار" (سفر الرؤيا 20: 11 - 15).
وهكذا ينتهي التاريخ معه الأرض والسماء، وتولد سماء جديدة وأرض جديدة وأورشليم جديدة. ولما كان يوحنا اليهودي، واقعاً تحت تأثير التراث اليهودي، وعنصرياً متعصباً كما هو حال أنبياء بني إسرائيل جميعاً، لم ير في الأرض الجديدة غير أورشليم وغير شعب الله الخاص. ولم يبقَ من تاريخ الأرض الأولى غير أسماء أسباط بني إسرائيل الإثني عشر، ممهورة على أبواب أورشليم الجديدة الإثني عشر.(1/284)
والصورة بريشة الرائي يوحنا: "ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد، وأنا يوحنا ـ رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازله من السماء من عند الله، مهيأة كعروس مزينة لرجلها، وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم. وكان للمدينة سور عظيم وعال، وكان لها اثنا عشر باباً، وعلى الأبواب أسماء مكتوبة هي: أسماء أسباط بني إسرائيل الإثنى عشر" (رؤيا 21: 1ـ12).
وليس هنا مجال البحث في السؤال: لماذا لم يجهز مسيح يوحنا اليهودي المنتظر في المعركة الكونية الأولى، على الشرور المتمثلة بالتنين، الحية إبليس الشيطان؟ ولماذا قيده ألف سنة حتى إذا ما انقضت "حل من قيوده، ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض؟ " (رؤيا 20:7). ولماذا تعين على البشر أن يعانوا مرة أخرى من عبث قوة الشر بعد نعيم السنين؟. ولا مجال ايضاً للبحث في الإجابة عليه. فالمهم هو نتيجة المعركة .. انتصار المسيح المنتظر على رأس قديسيه (مختارية)، على شعوب وأمم الأرض قاطبة. وقيام مملكة صهيون، وتسيد شعب يهوه المختار على الأمم جميعها (1).
علامات ومقدمات معركة هرمجدون العظمى؟!
مع أن البروتستانت يعلمون بأن أكثر الناس سيسخرون من إنذاراتهم عن هرمجدون، إلا أنهم مع ذلك يؤكدون أنها ستأتي بغتة على شعوب العالم، وأن رئيس المهاجمين يدعى (جوج) وهو اسم للشيطان إبليس بعد ما تم طرحه إلى الأرض. وجوج يهاجم مجتمع العالم الجديد، لأنه غير راض عن نمو هذا المجتمع. ويرى البروتستانت أن الله عين زمان حرب هرمجدون القريبة، والتي يزعمون بأنها، ستسبق أسعد أيام الجنس البشرى على مدى تاريخه، وان جموعاً كثيرة يزداد عددها باستمرار تنتظر هذه الحرب الكونية .. عندما يصل العالم إلى منتهاه .. والبروتستانت يخمنون أن وقت نهاية النهاية بات قريباً، استناداً للمؤشرات التوراتية والواقعية،
_________
(1) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجي كنعان ص121(1/285)
حيث أن الوقت الباقي للشيطان منذ تم طرحه إلى الأرض هو زمان قليل (1)!!. وهذه بعض المقدمات والعلامات التي يعتقدون أنها تدل على قرب وقوع هذه المعركة.
هجرة اليهود إلى فلسطين
يعتبر الأصوليون المسيحيون تجميع اليهود في أرض فلسطين مقدمة ضرورية لعودة المسيح المنتظر، وقيام معركة هرمجيدون، ولهذا لم يذخر هؤلاء جهداً في هذا المجال، حيث تكاثفت جهود الحكومات البريطانية والأمريكية المتعاقبة لتحقيق هذا الهدف. وقد عرضنا في السابق لهذه المحاولات التي بدأت حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بوقت كبير، وما تلاها بعد قيام إسرائيل، وجهود أمريكا وبريطانيا في هذا المجال، والذي وصل إلي ذروته في عهد الرئيس ريجان، الذي سخر كل أحاديثه وتصريحاته للحديث عن انتهاك موسكو لحقوق الإنسان، بسبب رفضها السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، حيث نجحت الضغوط التي مارسها على موسكو في فتح أبواب هجرة اليهود الروس إلى فلسطين، والذين وصل أكثر من مليون ونصف منهم إلى إسرائيل في فترة وجيزة.
ويبدو أن ريجان قد ذهب بعيداً في إيقانه من أن المسألة أصبحت مسألة وقت بالنسبة لمجيء اليوم الموعود، فهو يعتقد أن لا عقبات هناك تحول بين ذلك اليوم وبين حدوثه، حيث قال ريجان للقس ملز: "إن كل النبوءات الأخرى التي تعين تحقيقها قبل معركة مجدو قد حدثت، والفصل 38 من حزقيال يقول: إن الله سيأخذ بنى إسرائيل من وسط الكفار، حيث سيكونون مشتتين، ثم سيلم شملهم مرة أخري في أرض الميعاد. وقد حدث هذا بعد قرابة ألفى سنة، ولأول مرة في التاريخ، فإن كل شيء مهيأ لمعركة مجدو، والمجيء الثاني للمسيح" (2). وقد نسى ريجان أنه شخصياً كان له الدور الأساسي في فتح باب الهجرة أمام يهود الاتحاد السوفيتي بحجة احترام حقوق الإنسان.
_________
(1) شهود يهوه - بين برج المراقبة الأمريكي وقاعة التلموذ اليهودي - تأليف/ حسين عمر حماده - دار قتيبه 1990 - ص158
(2) النبوءة والسياسة (الانجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية) - جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك- ص 51 - دار الشروق - ط4 1998(1/286)
المسيح يدعوك لتبني مستوطنة
في مقال له يقول محمد عبد العاطي: "كان الأمر مستغربًا بالنسبة لي في البداية .. فأعدت القراءة مرة ثانية وثالثة .. ثم قرًّبت عيني من شاشة الكمبيوتر .. فوجدت أن ما قرأته صحيح (يسوع المسيح يدعوك لتبنِّي مستوطنة)، لكي تفوز بملكوت السماء ورضا الرب يسوع، ادعم مستوطنات السامرة. وتحت هذا النداء صورة لعائلة يهودية مكونة من: أب، وأم، وثلاثة من الأولاد، متكئين على حجر أمام إحدى المستوطنات، وحولهم عبارة تخرج من عين دامعة تقول: تذكرهم في صلواتك .. وظللت أتابع هذا الموقع الغريب علي شبكة الإنترنت، فقرأت العنوان التالي: اتصل بنا الآن، كي تعرف كيف تستطيع أنت وكنيستك وطائفتك التي تنتمي إليها، شد أزر هؤلاء المستوطنين الشجعان.
وبالفعل اتصلت بهم فوجدت صفحة كبيرة ـ باللغة الإنجليزية طبعًا ـ عبارة عن خطبة لرئيس المنظمة التي تقوم على الموقع، والتي تطلق على نفسها اسم (منظمة النبي يوشع) ويدعي (تد باكت)، عرفت فيما بعد أنه من كبار أساقفة البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس حاخامًا يهوديًّا، ورحت أقرأ ما قال فكانت كلماته الطويلة والمسهبة حول عملية السلام الدائرة رحاها الآن في الشرق الأوسط وكيف أنها ـ على حد تعبيره ـ تزييف وخداع، واختتم مقالته بقوله: هذا هو الوقت المناسب الذي يتوجب على المسيحيين فيه أن يتوجهوا لعملية السلام الحقيقية، التي ستؤدي للمصالحة والحب، ودعم الشعب اليهودي الذي تنحصر رغبته في الإقامة على الأرض التي أعطاها له الرب. وأضاف الأسقف (تد باكت) أن هؤلاء اليهود لا يسعون لطرد العرب، ولا يقومون بتدمير القرى والبيوت، ولا يقصفون الأحياء السكنية!! كل ما يبتغونه هو أن يعيشوا حياتهم (داخل مستوطناتهم) بسلام حقيقي.!!
ويتابع الكاتب مقاله: دفعني الفضول لمتابعة الموضوع نفسه في الصحف الإسرائيلية، فوجدت فيها الكثير من المقالات والإعلانات الموجهة لمسيحيي الغرب تناشدهم استكمال هذه المستوطنة أو تلك، فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة(1/287)
(هآرتس) مقالة، تذكر فيها أن حملة التبرعات التي تقوم بها المنظمات المسيحية البروتستانتية في الولايات المتحدة وأوروبا وبلدان الشرق الأقصى أسفرت عن بناء 45 مستوطنة من بينها مستوطنة عيناب التي تكلفت 4.5 مليون دولار. وتضيف الصحيفة أن هذه التبرعات تمت تحت شعار) تبنَّ مستوطنة). وعن الفلسفة المسيحية التي دعت الأسقف (تد باكت) للقيام لتأسيس تلك المنظمة يقول: هنالك مقولة للنبي يوشع تؤكد أن الكثير من غير اليهود ـ الغويم ـ يأتون إلى البلاد قبيل الخلاص، لإيمانهم أن الخلاص سيأتي من إسرائيل، واستنادًا إلي هذه المقولة تؤمن طائفتنا أن بقاء دولة إسرائيل وازدهارها خطوة هامة تمهد الطريق لعودة المسيح وتخليصه لليهود، ولهؤلاء المؤمنين من غير اليهود. ويضيف (باكت) أن الرئيس الأمريكي نفسه من أنصار هذا المذهب.
أما الجمعية الأخرى التي تنشط في جمع التبرعات داخل الأوساط المسيحية لصالح المستوطنات اليهودية فهي جمعية (شوفا يسرائيل) أو (عودة إسرائيل) وهذه المرة الجمعية يهودية وليست مسيحية كسابقتها، ويبدي بعض أفرادها تخوفهم من أن تتحول التبرعات التي تقوم (شوفا يسرائيل) بجمعها من المسيحيين في الولايات المتحدة، إلي وسيلة تبشيرية في أيدي البروتستانت، إلا أن ميل (بورتشتاين) ـ مستشار تجنيد الموارد في الجمعية وصندوق تنمية السامرة ـ طمأنهم، بقوله: حسب الطريقة التي نعمل بها لا نواجه تلك المشكلة بالمرة، والفكرة ببساطة تقوم على أننا لا نجمع التبرعات من منظمة، أو من شخص واحد فقط، بل نكلف أتباعنا بالتنقل بين كل الطوائف الإنجليكانية، وبالتالي لا يمكن لجهة بعينها أن يكون لها تأثير علينا.
أما الحاخامات، فيقولون إن المشكلة في الشريعة التوراتية عندنا ليست في عملية جمع التبرعات في حد ذاتها، ولكن في الطريقة التي تجري بها، ولذا نراهم قد نشطوا في إعطاء الإرشادات الدينية لمن يتولون عملية الجمع، والتي منها تأكيدهم على ألا ينشأ موقف من عملية الجمع يظهر فيه المسيحي في صورة المتفضل على اليهودي، لأن المعروف لا يأتي إلا من قبل اليهودي فقط.!! ويضيفون موجهين(1/288)
كلامهم لجامعي التبرعات: عليكم ألا تقولوا إن هذا المال لمساعدة اليهود الفقراء أو المهاجرين الذين ليس لديهم مال أو أنه تفضل منكم وإنما هو تبرع .. تبرع وفقط.!!
وفي إحدى الحملات التي أقيمت في الولايات المتحدة، لجمع التبرعات كانت هناك صورة كبيرة للصليب، وضعت كخلفية خلف المنصة، فأبي حاخام ولاية فلوريدا أن يبدأ الحفل إلا بعد أن يغطوا الصليب حتى لا يظهر، وفعلوا ما أراد ونجح الحفل، وأعلنت تلك الصحف عن إقامة حفل آخر ينظمه موقع (النبي يوشع) للعديد من أصحاب مواقع الإنترنت في الولايات المتحدة، تحت شعار (ليس هناك مسيحي في العالم لا يؤمن أن اليهود هم الذين سيستقبلون المسيح في نهاية المطاف) " (1).
تدمير الأقصى
تدمير المسجد الأقصى شرط رئيس لازم، وبالغ الأهمية في مخطط اليهود والأصوليين المسيحيين لعودة المسيح، ويوضح المبشر الأصولي (أوين) سيناريو تدمير الأقصى فيقول: "إن إرهابيين يهوداً سينسفون المكان الإسلامي، مما يرغم المسيح المنتظر على التدخل. إن اليهود يعتقدون أن قدومه سيكون الأول، ونحن المسيحيين نعلم بأن هذه ستكون الثانية؟. نعم لابد بالتأكيد من أن يكون هيكل يهودي ثالث". وعندما سئل (القس ديلتش): "إذا نجح اليهود الذين تؤيدهم ودمروا قبة الصخرة والمسجد الأقصى فأدى ذلك إلى اشتعال نيران الحرب العالمية الثالثة، فهل تعتبر نفسك من المسئولين عن ذلك؟ أجاب قائلاً: كلا .. لأن ما سيفعله أولئك اليهود هو إرادة الله" (2).
فاليهود ليسوا وحدهم الذين يسعون إلى هدم الأقصى، بل يقف معهم الأصوليون المسيحيون، حيث كان الشخص الذي قام بمحاولة إحراق المسجد الأقصى عام 1968م شخص أسترالي بروتستانتي وليس يهودياً. وهنا تجب الإشارة إلى أمر غاية في الأهمية، وهو تضخيم العرب والمسلمين لقوة اليهود وقدرتهم على
_________
(1) المسيح يدعوك لتبني مستوطنة ـ محمد عبد العاطي - اسلم اون لاين - http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/fan-20/alqawel.asp
(2) يد الله - غريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك ـ ص70(1/289)
الوصول إلى ما يريدون من خلال نفوذهم القوى في كل مكان، غافلين عن الدور الكبير الذي يلعبه البروتستانت في هذا المجال، والذين تفتح لهم كل الأبواب في البلاد العربية والإسلامية، فيقومون بتنفيذ المهام المطلوبة منهم نيابة عن اليهود. ولو تمعنا في لجان التفتيش الدولية التي عملت بالعراق، فسنلاحظ أن غالبية أعضائها من البروتستانت، وعلى رأسهم (بتلر) و (لاكيوس) اللذين كانا يعملان بتنسيق كامل مع المخابرات الإسرائيلية، انطلاقاً من إيمانهم الديني، كما أن كافة المؤامرات التي نسبت إلى الموساد الإسرائيلي، لم يكن لها لتتم إلا بمساعدة المسيحيين البروتستانت الذين يقدمون كل ما يستطيعون لليهود كواجب ديني مفروض عليهم.
وهنا أود أن أوجه نصيحة لجميع صناع القرار العربي بضرورة الحرص في التعامل مع كل ما هو انجلوسكسونى بروتستانتي، لأنهم جميعاً عملاء لإسرائيل ومستعدون لخدمتها بكل الوسائل، وأن الذراع الطويلة للموساد الإسرائيلي، لم تكن كذلك إلا بفضل هؤلاء البروتستانت، الذين يقدمون خدمات مجانية لإسرائيل انطلاقاً من إيمانهم الديني. وتؤكد (جريس هالسل) هذه الحقيقة عندما كشفت، عن أن معظم المحاولات التي جرت لحرق المسجد الأقصى، أو هدمه، وبقية المقدسات الإسلامية في القدس، من أجل إقامة الهيكل، موَّلَها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدّون، إن لم يشاركوا فيها!!.
ولما كان لاهوت (هرمجدون) في صلب اهتمامات بعض المتهودين البروتستانت، وعلى رأسهم القس (جيرى فالويل)، الذي يقوم بتسيير رحلات منظمة إلى الأراضي العربية الفلسطينية، فإن غريس هاليسل صاحبة كتاب (المبشرون البروتستانت والنية القاتلة)، اطلعت أثناء إحدى رحلاتها مع جماعة فالويل على نمط تفكير أتباعه، ومنهم (أوين) الذي شرح لها ضرورة تدمير أحد أكثر الأماكن الإسلامية قداسة في مدينة القدس، ألا وهى قبة الصخرة المشرفة، التي يجلها أكثر من بليون مسلم في جميع أنحاء العالم. وأضاف (اوين) أن النبوءة تتطلب تدمير اليهود لقبة الصخرة، لبناء الهيكل اليهودي على أنقاضها، وأن الإرهابيين اليهود الذين قصفوا المسجد الأقصى بهدف تدميره ومحوه من الوجود كانوا أبطالاً، وأن المشرفين على(1/290)
(مؤسسة هيكل القدس) أرسلوا خمسين ألف دولار للدفاع القضائي عن الإرهابيين، الذين أدينوا بالتآمر على تدمير قبة الصخرة" (1).
ومع أن الإسرائيلي (أشر كاوفمان) يؤكد أن المسجد الأقصى لم يبنَ في نفس مكان الهيكل، فان الأصوليين يرون أنه، لو نجح الإرهابيون اليهود في تدمير المسجد الأقصى، وبناء هيكل سليمان مما يؤدي لاشتعال الحرب العالمية الثالثة، فهذه ليست مسؤولية الإرهابيين، بل هي مشيئة الرب. وقد أثرت هذه النظرية في السياسة الأمريكية، فعندما أحرق المسجد الأقصى في أغسطس 1969م، استخدمت أمريكا الفيتو ضد إدانة مجلس الأمن لإسرائيل، وعندما اعتدى اليهود على المصلين في المسجد الأقصى، وقتل 21 فرداً وجرح 150، عادت أمريكا لتستخدم الفيتو ضد إدانة إسرائيل، وكان (جيمس دي لوشي) راعي الكنيسة المعمدانيه في هيوستن قد أعلن في 1984م أن أتعاب المحاماة ومصاريف الدفاع عن المتهمين بالهجوم على المسجد الأقصى قد كلفت كنيسته الكثير، وكان هؤلاء الإرهابيين قد خططوا لضرب المسجد الأقصى بالقنابل من الجو بالهليكوبتر ولكنهم تنازلوا عن الخطة بعد التأكد من أن حائط المبكى سيصاب أيضاً" (2).
بناء الهيكل
استعداداً لتنفيذ مخطط هدم الأقصى وبناء الهيكل، تم في أمريكيا جمع 100 مليون دولار لحساب بناء الهيكل المزعوم، بالتزامن مع قيام جماعة أمناء جبل الهيكل بوضع حجر أساس الهيكل الثالث المزعوم في ساحة المسجد الأقصى، بعد موافقة المحكمة العليا الصهيونية على بنائه، بناء على طلب جماعة أمناء جبل الهيكل اليهودية المتطرفة، والتي اختارت توقيت وضع حجر الأساس، ليكون احتفالاً بيوم عيد الحداد اليهودي، والذي يزعم فيه اليهود قيام الرومان بهدم الهيكل الثالث خلال عام 70 م، وقد أعرب المتطرف اليهودي (جيرشون سالمون) رئيس جماعة أمناء جبل الهيكل عن ارتياحه لحكم المحكمة الصهيونية ووصف الحكم بأنه قرار تاريخي
_________
(1) قبل أن يهدم الأقصى - عبد العزيز مصطفى ـ ص 89
(2) معركة آخر الزمان ونبوءة المسيح منقذ إسرائيل ـ باسل حسين ص 56 - دار الأمين - ط1/ 1993(1/291)
شديد الأهمية، سيعجل في بناء الهيكل، حيث يعتبر أن "كل يوم يمر على اليهود دون أن يبدءوا في بناء الهيكل، يعتبر وصمة عار في جبين الأمة اليهودية" (1).
وبالرغم من أن التوراة لا تأمر ببناء مساجد مشيدة، وإنما تأمر ببناء مساجد من طوب الأرض مسقوفة بجريد وعصى. "مذبحا من تراب، تصنع لي، وتذبح عليه محرقاتك، وذبائح سلامتك. غنمك وبقرك. في كل الأماكن التي فيها أصنع لاسمي ذكراً، آتي إليك وأباركك. وإن صنعت لي مذبحاً من حجارة، فلا تبنه منها منحوتة. وإذا رفعت عليها إزميلك، تدنسه. ولا تصعد بدرج إلى مذبحي، كيلا تنكشف عورتك عليه (2). بالرغم من ذلك، فإن الرئيس (جورج بوش الابن)، وجميع أتباع طائفة الميسوديث يؤمنون، بفكرة هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل على أنقاضه، ويعتبرون أن ذلك هو الذي سيمهد لعودة المسيح الذي سيظهر بعد إنشاء هذه الهيكل المقدس ـ على حد قولهم. ويرى أصحاب هذا المذهب، أن الإسرائيليين الذين يعيشون فيما يسمونه بالأراضي الإسرائيلية المباركة، هم الجنود المخلصون الذين سيتحملون أن يكونوا في طليعة الصفوف التي تقاتل إلى جانب المسيح، حتى يتم القضاء على كل المسلمين أولا، ثم القضاء على المسيحيين غير المخلصين ثانياً.
ويرى أتباع هذا المذهب، أن الوقت قد حان لظهور المسيح منذ عام 2000م، وأن المسيح لن يستطيع أن يخرج إلى النور، طالما ظل المسجد الأقصى قائماً. فالهيكل المقدس لا بد أن يتم بناؤه على أنقاض هذا المسجد، وقد تبرع الكثيرون وفي المقدمة منهم (بوش) و (بلير) من أجل صنع أعمدة هذا الهيكل وتزيينه، وكذلك الانتهاء من رسوماته وتصميمه، وقد وافق (شارون) على أن يكون التصميم الأمريكي الذي وافق عليه بوش لإقامة الهيكل هو المعتمد لدى حكومته.
المقاومة الفلسطينية
لكي يربط البروتستانت خرافات الماضي بمآسي الحاضر التي جلبته حركة الاستيطان الصهيوني العنصري على أرض فلسطين العربية، يقولون: "وعملا
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص368
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ أحمد حجازي السقا ص185(1/292)
باسمه، يبين يهوه الآن لشعبه معنى النبوة المتعلقة بالفلسطينيين، وفي هذه الساعة العصيبة التي يضطهد بها العدو (الفلسطينيين) شعب يهوه بقساوة، تنشأ لهم تعزية من عملهم، بأن يهوه يطلعهم عن السبب الذي لأجله يسمح بمثل هذا الاضطهاد، وعلى ما ستؤول إليه النتيجة النهائية (1). فهم يعتبرون أعمال المقاومة، التي يقوم بها الفلسطينيون والمسلمين لتحرير بلادهم، أعمال اضطهاد لليهود، وبأنها ترمز إلى أمور معينة عظيمة الحدوث عند نهاية العالم؟. ويميل البروتستانت إلى تصديق ذلك، لأن الفلسطينيين ـ كما يعتقدون ـ كانوا شعباً نبوياً ومخبرين مسبقاً عن نوع خصوصي من أعداء يهوه، أي أن الفلسطينيين قد أنبئوا سلفاً عن طريق التنبؤ عن أعداء يقوم يهوه بعمل حازم قوى ضدهم عند نهاية العالم.
ويرى بعضهم كجماعة (شهود يهوه) "في عرب فلسطين هيئة الشيطان التي تحارب يهوه مرة، ويرون في الكنيسة الكاثوليكية هيئة الشيطان، التي تحارب يهوه مرة أخرى. فالفلسطينيون الذين يبرزون كالعنصر الديني لهيئة الشيطان هم طليعة مضطهدي شعب يهوه المختار ... ولكي يزيد أحبار شهود يهوه من أوار الضغينة والحقد على الفلسطينيين يذهبون إلى أن الفلسطينيون (عائقون) أي أنهم عبدة إبليس وأنهم يدينون بديانته. وهم أولاد حام من مصرايم، وكانت آلهتهم داجون السمكي الشكل، وبعل زبوب" (2).
عودة الفوضى وحدوث كوارث وانهيار اقتصادي
المبشرون، والقسس، من أمثال (جيرى فالويل)، و (هال لندزى)، و (بات روبنرتسون)، والمسيحيون اليمينيون الآخرون، يعتقدون بأن الإنجيل فيه نبوءة تدل على العودة الوشيكة للمسيح بعد فترة حرب نووية وكوارث طبيعية، وانهيار اقتصادي، وفوضى اجتماعية، وإنهم يعتقدون بأن هذه الأشياء لا بد أن تحدث قبل المجيء الثاني للمسيح، ويعتقدون بأن هذه الأشياء بينة بوضوح في الإنجيل.
_________
(1) شهود يهوه بين برج المراقبة الامريكى والتلموذ اليهودي ـ حسين عمر حماده ص110
(2) شهود يهوه بين برج المراقبة الامريكى والتلموذ اليهودي ـ حسين عمر حماده ص111(1/293)
ويعتقد الأصوليون المسيحيون أنه "لما كان مجيء المسيح يعتبر تجديداً للعالم، فلابد وأن يسبق مجيئه عودة للفوضى، ويعتبرون أن كل الآلام والمصاعب التي تحملها اليهود والمسيحيون ـ عبر تاريخهم ـ تفسر وتقبل على أنها (آلام المخاض). وبعد مجيء المسيح وانقضاء فترة (المخاض) فإن العالم، الجديد المقبل لن يكون كالعالم (اليوم): فالسلام سيعم العالم الجديد، البكاء والأنين يختفيان من العالم، ولن يكون بعد ذلك شكوى أو احتجاج أو حزن، تبارك إسرائيل بمجيء المسيح المسيحي، وينتهي عنها الضغط، وتتبوأ مركزها العالمي الذي أعده لها الرب. ويتبدل مصير إسرائيل لدرجة أن كثيراً من الغرباء سيحاولون الانضمام إلى الطائفة" (1).
السلام يحل بعودة المسيح فقط
يركز القس (بيلى جريهام) في دعوته على أن يوم مجدو على المشارف، وقد حذر عام 1970م من أن العالم يتحرك بسرعة نحو معركة مجدو، وأن الجيل الحالي قد يكون آخر جيل في التاريخ، وقال: "إن أكبر معركة في التاريخ ستقع في هذا الجزء من العالم (الشرق الأوسط) ". أما عن علاقة هذا اليوم بقضية الأرض المقدسة، وبناء الهيكل، ومجيء المسيح، فإن النصارى الإنجيليين يعتقدون بأنه لن يكون هناك سلام حقيقي في الشرق الأوسط ولا في العالم إلى أن يأتي المنتظر الموعود، ويجلس المسيح على عرش داود في القدس، ويحارب أعداء إسرائيل. وسوف تعلم جميع الأمم عندئذ أن جميع الآلام التي كابدها بنو إسرائيل على مر قرون- سبيهم وتشتتهم- إنما كانت بسبب ذنوبهم وآثامهم. ولذلك حجب الله وجهه عنهم، وأسلمهم ليد أعدائهم، فهلك أكثرهم. وبسبب نجاستهم ومعاصيهم الكثيرة، رفض الله أن يتدخل لمصلحتهم، ولكن هذا كله سينتهي في اليوم القادم، لأنهم سيرجعون إليه تائبين فيشرق الله بوجهه ويباركهم، وهذه الأحداث ستقع في زمان الضيقة العظيمة الذي سيسبق مجيء الرب يسوع المسيح بصفته ملك الملوك ورب الأرباب" (2).
_________
(1) العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص405
(2) راجع معركة هرمجيدون وتأسيس مملكة الرب في التوراة والإنجيل والقرآن - تأليف كارلوتا جيزن ـ نشر مكتبة دار الكتاب العربي بالقاهرة ودمشق سنة 2002(1/294)
ومن العجيب ـ أيضاً ـ أن الحديث عن (الهرمجدون) يتداول على نطاق واسع، وعلى أعلى المستويات، وفي أدق القضايا العالمية وأخطرها. قال المبشر (جيمى سواجارت) في برنامج تلفزيوني أذيع في 22 سبتمبر 1985م: "يجب أن لا نتوصل إلى اتفاقات مع الإتحاد السوفيتي .. إن معركة (هرمجدون) مقبلة، ستقع هذه المعركة في سهل مجدو .. إنها مقبلة، في وسعهم أن يوقعوا كل معاهدات السلام التي يريدون .. كلها لن تحل .. ومشكلات أوروبا لن تحل، بل ستصبح أسوأ .. حتى يأتي المسيح المخلص". وينظم هذا المبشر رحلات دورية إلى الأرض المقدسة، يطوف فيها بالمسيحيين الإنجيليين في أنحاء القدس شارحاً لهم كيف ومتى ستحدث الأحداث العظام في هذه المناطق؟!! (1).
أما (جيرى فالويل) فقد قام برحلة إلى فلسطين عام 1983م، اصطحب فيها 630 مسيحياً استقلوا الطائرة من نيويورك إلى تل أبيب، وذهبوا إلى (مجدو) مكان المعركة المنتظرة. وفي خطبة ألقاها (جيرى فالويل) يوم 2 ديسمبر1984م، قال معلقاً على اقتباس من سفر الرؤيا، ومشيراً إلى معركة مجدو: "إن هذه الكلمة (مجدو) تنزل الخوف في صدور الناس، سيحدث اشتباك أخير، وسيدمر الخالق هذا الكون" وقال: "وبالرغم من التوقعات الوردية وغير الواقعية من جانب حكومتنا بشأن اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، فإن هذه المعاهدة لن تدوم طويلاً". ثم قال: "من المؤكد أننا نصلى من أجل سلام القدس، ومن المؤكد أننا نكن الاحترام لمن وقعا اتفاقية السلام، إنني أعلم وأنتم تعلمون، أنه لن يكون هناك سلام حقيقي في الشرق الأوسط إلى أن يجلس المسيح يوماً على عرش داود في القدس". وعموماً فإن الحديث عن مجدو في الأوساط المسيحية، البروتستانتية، واليهودية، لا يفوت هؤلاء وأولئ، عندما يحدث أي حدث غير عادى على أرض الواقع، حيث يربطون ما حدث بما سيحدث، ويرجعون هذا وذاك إلى ما حدث بالأمس ...
_________
(1) النبوءة والسياسة ص 41(1/295)
هرمجيدون في العقل البروتستانتي
لا يتسع المجال هنا لتغطية كل ما قيل عن هرمجيدون، ولكننا سنعرض في البداية لأقول بعض المسيحيين البروتستانت الذين سعوا إلى تحقيق الحلم الصهيوني منذ أكثر من قرن ونصف، من خلال عملهم في صندوق استكشاف فلسطين الذي أسس في إنجلترا عام 1839 لإعداد فلسطين لتكون وطناً لليهود، لنبيّن أي روح كانت تغدي نشاطات هؤلاء، والى أي مدى ذهب تفكيرهم من أجل تحقيق النبوءات التوراتية للتعجيل بالعودة الثانية للمسيح، وكل ذلك حدث قبل تأسيس الحركة الصهيونية.
ففي صيف 1892م عقدت لجنة (صندوق استكشاف فلسطين)، سلسلة محاضرات أبرزها محاضرتان عن انطباعات اثنين من زعماء الصندوق، حول عمليات الاستكشاف خلال السنوات الممتدة من 1865 ـ 1892 م. وقد جاء في المحاضرة الأولى التي ألقاها (وولتر بيسانت)، (الأمين الفخري للصندوق، وقبل ذلك الأمين الفعلي له مدة 25 عاماً)، قوله: "كنا نقوم بثورة كاملة في فهم ودراسة التوراة. كنا نحيي العظام وهي رميم. كنا نستعيد مجد فلسطين في عهد هيرودوس. كنا نستعيد بلاد داوود. كنا نرد إلى الخارطة أسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يهوشع. لقد أعدنا للقدس مجدها وفخامتها. لقد أعدنا البلاد (فلسطين) إلى العالم بالخارطة وبالأسماء، والأماكن المذكورة في التوراة، واسمحوا لي أن أفاخر بذلك إذا علمتم أن شخصاً واحداً (يقصد كوندر) قد استعاد من الأسماء القديمة أكثر مما فعله جميع الباحثين والرحالة حتى الآن" (1).
وفي المحاضرة الثانية تحدث كلود كوندر عن دوره في أعمال (الصندوق) فأشار إلى الهجرة اليهودية التي شهدتها البلاد وخاصة مدينة القدس، وقال: "أن عدد اليهود في مدينة القدس عام 1837 لم يكن يتجاوز بضع مئات، أما الآن (1892م) فقد بلغ عددهم أربعين ألفاً، وأصبحوا يسيطرون على التجارة في المدينة، ولم يعد اليهود أقلية مضطهدة وجبانة، وإنما يبدون سادة المدينة". وأضاف كوندر "أستطيع القول
_________
(1) راجع الاستشراف وأبحاث الصراع العربي الإسرائيلي - إبراهيم عبد الكريم - دار الجليل -1993(1/296)
دون تبجح أنه كان لي ولآخرين غيري دور ما في هذه الحركة". أما عن المستقبل الذي يتصوره لفلسطين، فقد بيّن كوندر "أن الذي نتوقع أن نراه في فلسطين، إذا كان مستقبلها سلمياً، هو زيادة تدريجية في عدد السكان المزارعين (يقصد المستوطنين اليهود)، وانتشار المستعمرات المزدهرة. أما الفلاحون المسلمون الذين أخذ تطرفهم يخبو تدريجياً، فإنهم بتعرضهم لهذا النفوذ سيزدادون ذكاءً ونشاطاً، ولكنهم لن يعودوا سادة البلاد، وأي محاولة عنيفة للتدخل في تطور بلد، يستطيع إعالة شعب كبير مزدهر تطوراً سلمياً، سيؤدي حتما إلى حدوث مشكلة فلسطينية هائلة ينبغي حلها في (كركميش ومجدو) " (1).
فبالإضافة إلى ما جاء من اعتراف صريح حول إسهام (صندوق استكشاف فلسطين) في إيجاد مرتكزات مادية للمشروع الصهيوني، توضح روح ونبرات هاتين الشهادتين، كما لو أن (بيسانت وكوندر)، يتحدثان بلسان شخصية صهيونية معاصرة، الأمر الذي يشير إلى حالة من التوحد في الرؤية مع الصهيونية في مرحلتها الجنينية آنذاك .. فمن نفي الهوية القومية الواحدة لعرب فلسطين، إلى الثناء على (القدرات اليهودية)، إلى مقولة (الصفة اليهودية للبلاد)، ثم إلى (الرسالة التمدينية والتطويرية للاستعمار اليهودي وانعكاسها على الفلاحين العرب)، ما هي إلا إشارات قليلة، لكنها توحي بالكثير من النزعات الصهيونية، التي كانت تعتمل في نفوس العاملين ضمن (الصندوق)، ولا تختلف بشيء عما دأبت الصهيونية على ترويجه ..
ولكن تظل نقطة أخيرة، تفوح منها رائحة القتل والإبادة التي تنتظر الشعب الفلسطيني، في ظل الصراع على الأرض، هي الإشارة إلى ضرورة (حل المشكلة الفلسطينية)، التي ستنشأ على طريقة الحروب التي حُسمت في التاريخ الغابر، أو لنقل في الرواية التوراتية، في منطقة كركميش ومجدو. إن مجرد التذكير بكركميش ومجدو بالنسبة لقارئ (الكتاب المقدس) ينبئ عن فهم حرفي للرواية، ومحاولة إسقاطية على العصر الحديث. ومن المقدر أن يكون الصهيونيون، فيما بعد، قد استلهموا من هذه الفكرة مما يعزز طبيعة كيانهم الإحتلالي التوسعي في
_________
(1) أبحاث توراتية في فلسطين ـ القس الأميركي ادوار روبنسون (أستاذ أدب التوراة في كلية الاتحاد الدينية بنيويورك)(1/297)
فلسطين، وتقرير كيفية التعامل العُنفي مع سكان البلاد الأصليين منتقلين من المحرضات الذهنية، إلى الوقائع المادية، ليربطوا خرافات الماضي بمآسي الحاضر، وكأنها ليست إلا تحقيقاً لنبوءات توراتية (1). وقد غمرت الغبطة وجه (فولويل) حين اختتم حديثه الصحفي مع (روبرت شير) قائلاً: "إنني أؤمن بما يؤمن به الرئيس ريغان". ويفضل القس (فولويل) موضوع هرمجدون على أي نبوءة أخرى ففي 2/ 12/1984م ألقى موعظة كنسيه صاخبة تقول: "فجمعهم إلى الموضع، الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون. ويضيف (فولويل) سيكون هناك اشتباك آخر وأخير، وعندئذ سيتخلص الرب من هذا الكون، وفي الإصحاحين (21 و 22) من سفر الرؤيا يتابع (فولويل)، جاء إن الرب سيدمر هذا الكون وسيرافق الدمار انفجار هائل، وحرارة عاليه، كما يقول القديس بطرس نفسه" (2).
_________
(1) 1).
وإذا كانت هذه آراء صهاينة مسيحيون قبل قرن من الزمن، أما الآن فقد أصبح الوعظ بلاهوت تل مجدو الشغل الشاغل لليمين المسيحي الأصولي الأمريكي في هذا العصر. فمن خلال شبكة هائلة من مئات الإذاعات وقنوات التلفزيون، يقوم عشرات الألوف من الوعاظ الأمريكان في الكنائس وعلى الإذاعات والتلفزيون، ومدارس الأحد، بالتغلغل في قلوب وعقول عشرات الملايين من الأمريكيين.
"ففي عام 1980م عندما كان (ريغان) مرشحاً للرئاسة، اختتم مقابلة تلفزيونية مع الإنجيلي جيم بيكر قائلاً: "قد نكون نحن الجيل، الذي سيشهد هرمجدون في يوم من أيام حياتنا". وفي مقابلة لاحقه مع العديد من ضيوف بيته، أشار ريغان إلى (أن جيلنا هو الذي يمكن أن يحقق هرمجدون)، وفي مقابلة صحفيه أجراها الصحفي (روبرت شير) في آذار 1981م مع (جيري فولويل) صاحب محطة الحرية للبث التلفزيوني، كشف فولويل النقاب عن حديث مشترك دار بينه وبين ريغان ومؤداه، أن ريغان يؤمن بأن العالم يسير نحو نهايته المحتومة سريعاً، وأن التاريخ يصل إلى منتهاه وأن العالم لن يعيش أكثر من خمسين سنة أخرى (النبوءة والسياسة - ص 50
(2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان ص154(1/298)
ومنذ عام 1970م دأب (بيلي جراهام) على إنذار جمهوره، بقوله: "إن العالم يسير حاليا بسرعة نحو معركة (تل مجدو) وأن الجيل الحالي من الشباب قد يكون آخر أجيال التاريخ". وقال للرئيس الأسبق ريجان، بأن "عيسى المسيح على الأبواب وقد يعود في أية لحظة". أما (هال ليندسي) فقد باع عشرين مليون نسخه من كتابه (كوكب الأرض العظيم الفائت)، الذي زعم فيه أن العد التنازلي لنهاية التاريخ قد بدأ منذ نشوء دولة إسرائيل. وفي روح مشابهة لما كتبه يوحنا في رأياه، زعم (هال ليندسي) أن المسيح العائد سوف يحرق الأرض بسكانها باستثناء (144000) يهودي سوف يتم إنقاذهم (1) (. أما تبريرات هؤلاء لضرورة قيام هذه المعركة، فهي تبريرات دينية مستمدة من نبوءات الكتاب المقدس، حيث يعتمد خطابهم الديني على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجّل بظهور (المسيخ الدجّال) وجيوش الشر، ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا بعودة المسيح المخلّص، لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم المليء بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص ـ عندهم ـ رهين بعودة المسيح فقط، أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعي لتحقق هذه النبوءة، أو الإسراع بإجبار يد الله "النبوءة! وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام دولة إسرائيل الكبرى، وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثَم فلا بد من تقديم وحشد كل التأييد المادي والمعنوي، المطلق وغير المحدود أو المشروط لدولة إسرائيل، لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلّص
التعجيل بقدوم المسيح
رأت الأصولية المسيحية في النصف الثاني من القرن العشرين، أن من المناسب أن تُعَجّل من القدوم الثاني للمسيح بواسطة الدولة اليهودية إسرائيل، وهم مستعدون أن يقاتلوا المسلمين حتى آخر يهودي. وعندما سأل أحدهم (ليني ديفس) أحد أقطاب الأيباك (اللوبي الصهيوني الأمريكي) السابقين إن كان يعلم بأن التلاقي في الأهداف بين الصهاينة اليهود، والصهاينة المسيحيين سينتهي حين قدوم
_________
(1) النبوءة والسياسة 39(1/299)
المسيح، حيث أن للصهاينة المسيحيين معتقداتهم وأجندتهم الخاصة حينئذ، أجاب: إن هؤلاء يثيرون قرفي وخوفي، ولكن حتى أن أري المسيح يسير فوق جبال القدس، فإني أدعم كل من يريد أن يكون صديقا لإسرائيل (1). والطريف أن هذا التأييد لا يعني الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن بعض هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلّص سيقضي على كل اليهود أتباع المسيخ الدجّال، الذين سيرفضون الإيمان به، أي أنهم يدعمون إسرائيل باعتبارها وسيلة تحقق النبوءة فقط. ولكن بالرغم من ذلك، فقد تلقف هذه العقيدة كبار القادة اليهود في أمريكا وإسرائيل، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذي يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية في إسرائيل، واستغلوها جيدًا للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد، وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف في أمريكا، أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يُدرّه عليهم الإيمان بهذه النبوءة، من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود، ولهذا يحرص زعماء إسرائيل على استضافة قادة اليمين المسيحي المتطرف في إسرائيل باستمرار، كما أنهم لا يفوتون مناسبة للاجتماع بهم للحصول على دعمهم المطلق.
فبفضل هذه النبوءة تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على إسرائيل، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الإسرائيلية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعاً أجرته مجلة التايم الأمريكية سنة 1998م أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء في الكونجرس وحكّام ولايات، بل وتؤكد (جريس هالسيل) أن) جورج بوش)،) وجيمي كارتر)،) ورونالد ريجان (كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة، بل إن الأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية كما سنوضح لاحقاً. (2)
وفي فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معاني المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح في أحاديثهم في صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م
(2) يد الله - ص18(1/300)
جوادًا، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحًا برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر في معركة الهرمجدّون. وقد باع كتاب عن هر مجيدون 25 مليون نسخة، ولا يتقدم عليه في مبيعات السبعينات إلا الكتاب المقدس، وتم إنتاج فيلم سينمائي عن كتاب هرمجيدون هذا، وقد انتشرت شهرة أمثال هذا الكتب من الجمهور المسيحي إلى الجمهور العلماني، وهذا يعنى إنها تفشت في الثقافة الأمريكية الآن، واهم أفكارها، أن الله يطلب من الأمريكيين تدمير الكرة الأرضية. ويقدر عدد الأصوليين في الولايات المتحدة بخمسين مليون، ومنهم المتشددين أمثال (جيم جونز)، الذي قال حين قاد أتباعه إلى الموت: "إن النهاية ستصل بسرعة، لذلك دعونا نرافقها، دعونا نسبق الحشود" (1). وقد تجاوزت عقيدة هرمجيدون المعتوهين إلى ارفع مستويات السلطة الحكومية مثل وزير الدفاع (كاسبار واينبيرج) 1982م، فهي عقيدة قاتلة ومعدية.
ففي نهاية الستينات من القرن العشرين سلم الألوف كل ممتلكاتهم إلى الكنسية لأن النهاية اقتربت، وهناك أكثر من 1200 حركة تعتقد بهذا المصير الوشيك، نظمت الكثير منها عمليات انتحار جماعي، وقتل جماعي، ويدعون بعضهم إلى عدم زرع الأشجار أو التخطيط للمستقبل، لأن العالم لن تبقى له حياة بما يكفى، ويلجأ بعضها إلى العنف، وتقتل السلطات منهم الكثير في تبادلات إطلاق النار بين الشرطة وميلشيات الحركات، التي قام أحد أعضائها بتفجير مدينة أوكلاهما 1995م. وتتجه حركة منتدى الحملة الصليبية من أجل المسيح نحو جمع مليار دولار، لنشر المسيحية في العالم، ويقوم فيها 16 ألف أكاديمي مسيحي ـ يتزايدون بنسبة أكاديمي واحد كل يوم ـ بعمل ثقافي خاص بتكلفة مليارى دولار سنوياً، وتستقطب الحركة ما لا يقل عن 20 مليوناً، كما أن مساهمات المدخرات تزيد على نصف مليار دولار.(1/301)
رونالد ريجان، والحكايات الخرافية عن هرمجدون
كما أسلفا، فإن الاعتقاد بمعركة مجدو، وأنها وشيكة الوقوع قد سيطر على قطاع عريض من البروتستانت، ومنهم أشخاص اعتلوا أعلى كراسي المسئولية في العالم، ومن هؤلاء الرئيس الأمريكي (رونالد ريجان). يقول الأمريكي (اندرولانج) مدير الأبحاث في معهد الدراسات المسيحية ومقيم بواشنطن، "لقد أجريت دراسة عميقة عن ريجان والاعتقاد بمجدو، ووجدت أن ريجان قد نشأ على ذات نظام المعتقدات، التي نشأ عليها كل من (كلايد، وجيرى فالويل، وجيمى سواجارت) ومبشرين آخرين، وإن لدى ريجان اعتقاد بهذا اليوم على الأقل إلى وقت قريب من توليه الرئاسة". وقد عقد (لانج) مؤتمراً صحفياً، نظمه معهد الدراسات المسيحية، وقال في المؤتمر: "إنني وآخرين من المعهد أردنا التحقق في أمر ريجان وأيدلوجية مجدو بالنظر إلى إمكانية أن يعتقد رئيس ما ـ شخصياً ـ بأن الله قد قدر سلفاً حرباً نووية، هي إمكانية تثير عدداً من الأسئلة المخيفة، فهل سيؤمن رئيس معتقد بهذه الإمكانية بجدوى التفاوض على نزع السلاح حقاً؟ وهل سيكون إذا وقعت أزمة نووية واعياً ومتعقلاً؟ أم أنه سيكون تواقاً للضغط على زر ما شاعراً بذلك أنه يحقق تخطيط الله المقدر سلفاً لنهاية الزمن؟!! " (1).
كما نشرت صحيفة (الغارديان) البريطانية نقلاً عن صحيفة (الواشنطن بوست) الأمريكية دراسة جاء فيها: "إنه يجب أن نشعر جميعاً بالقلق عندما يتحدث الرئيس الأمريكي (رونالد ريجان) عن إرادة الله والمعركة الفاصلة بين الخير والشر على أرض الشرق الأوسط في حياة هذا الجيل. وكرر (ريغان) اعتقاداته حول نهاية العالم من خلال معركة هرمجدون التي ستنشب في الشرق الأوسط خمس مرات في أربع سنوات. وقد رفض البيت الأبيض الاستجابة لطلبات إجراء مقابلات صحفية مع الرئيس الأمريكي (ريغن) حول معركة هرمجدون الفاصلة الكبرى. كما رفض تقديم أسئلة مكتوبة إلى ريغن حول معركة هرمجدون (2).
_________
(1) النبوءة والسياسة - جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك ص44
(2) المسيح القادم (مسيح يهودى سفاح) - جورجي كنعان ص41(1/302)
ومع أن (ريغن) لم يقدم تعريفه الخاص لتعبير هرمجدون، فإن القواميس تفسر التعبير باعتباره المكان الذي ستدور فيه المعركة الفاصلة النهائية بين قوى الخير والشر، والتي سينتصر فيها المسيح المنتظر القادم من السماء على الديكتاتور الفوضوي الشيطاني وجماعته الأشرار، وليعلن بعدها العصر الألفي السعيد، حيث يمر ألف عام من السلام والسعادة، يكون الشيطان خلالها مقيداً بالسلاسل، ثم يبدأ زمن الخلود. وخلال حملة الترشيح لانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1980م ذكر ريغن للواعظ التلفزيوني (جيم باكر) ـ وهو ثالث أكثر المبشرين الإنجيليين التلفزيونيين شعبية في أمريكا، إذ يصل حديثه إلى ما يقارب ست ملايين عائلة يومياً أي 6,8% من مجموع المشاهدين ـ إلى الحاجة إلى صحوة روحية، وقال فجأة قد نكون الجيل الذي سيشهد (هرمجدون). وفي خطاب لريغن أمام مجموعة من زعماء اليهود في نيويورك، كشف عن الارتباط بين هرمجدون والشرق الأوسط، وذلك من خلال قوله أن (إسرائيل) هي الديمقراطية التابثه الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في المنطقة، التي ستقع فيها المعركة الفاصلة الكبرى (1).
وبعد ستة أسابيع من تنصيب (ريغن) ذكر (جيرى فالويل) المؤيد الرئيس لحملة (ريغن) الانتخابية وصاحب برنامج (ساعة في أزمنة الإنجيل القديم) الأسبوعي، والذي يصل إلى 5,6 مليون عائلة، أي ما يعادل 6,6% من مجموع المشاهدين في أمريكيا، أن ريغن متفق معه حول نبوءة التوراة حول هرمجدون وأن المحرقة النووية ستقع خلال أقل من ستين عاماً، وأنه سيتم في هذه الحرب تدمير روسيا بالأسلحة النووية، وأن المسيحيين في الاتحاد السوفيتي سيبتهجون وسيصعدون إلى السماء في غمضة عين، وبهذه الطريقة سينجون من المحرقة. ويعتقد (فالويل) أن دمار الاتحاد السوفيتي سيتم عندما يتحرك نحو الشرق الأوسط وخاصة إلى إسرائيل. وفي أكتوبر (تشرين) 1983م كشف ريجان النقاب عن أن معركة مجدو ليست فقط عقيدة لا تزال تسكن قلبه، بل إنها لا تزال تشغل باله. فقد اتصل هاتفياً مع (توم داين) من اللجنة المركزية الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة، التي هي أقوى مجموعة ضغط قوية لإسرائيل، ليوجه له الشكر على جهوده لإقناع الكونغرس بإعطاء (ريغن)
_________
(1) النبوءة والسياسة - جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك ص50.(1/303)
تفويضاً بالاحتفاظ بمشاة البحرية الأمريكية في لبنان لمدة ثمانية عشر شهراً، وقال (داين) إن (ريجان) قال له "كما تعرف .. ؟ إنني أستند إلى أنبيائكم القدامى في العهد القديم، وإلى المؤشرات التي تخبر بمجدو، وأني أتساءل إذا كنا الجيل الذي سيشهد ذلك .. لا أعرف إذا كنت لاحظت أياً من هذه التنبؤات، ولكن صدقني إنها تصف الوقت الذي نمر به" (1).
ولما نشرت صحيفة (الجيروزيليم بوست الصهيونية) أقوال ريغن الآنفة، أجرى صحفيان من مجلة (بيبول) حديثاً مع (ريغن)، جاء فيه: إنك ذكرت أن هذا الجيل سيشهد هرمجدون، وان الكثير من نبوءات التوارة تقع حالياً، فهل تعتقد ذلك حقاً؟ فرد (ريغان) قائلاً: لم أقل ذلك علناً من قبل، ولكن تحدثت مع المحيطين بي الآن من رجال الدين، وقد قالوا انه لم يكن هناك زمن وقعت فيه نبوءات متعددة معاً مثل الآن، وكانت هناك أوقات اعتقدنا فيها باقتراب نهاية العالم، لكن ليس في مثل هذه الأوقات. وأعتقد أنه عندما يأتي ذلك الوقت فإن الجيل الموجود سوف يفعل ما يعتقد أنه الحق، وريغن يعنى بعبارة (عندما يأتي ذلك الوقت) أما وقت نهاية العالم، أو وقت حدوث هرمجدون.
والأدهى من ذلك أن ريجان وقتما كان حاكما على ولاية كاليفورنيا، طلب من الواعظ (بيلي جراهام) أن يخطب في مجلسي الولاية التشريعيين ما يسمونه خطاب الوضع العام للولاية، وكان ذلك في تموز من العام (1971م) وبعد الخطاب وجه ريجان السؤال التالي إلى جراهام قائلا: "هل تعتقد أن المسيح سيعود عاجلا" فأجابه جراهام: "كل المؤشرات تقول إنه على الأبواب، وقد يعود في آية لحظة" فوافقه ريجان وكان مسروراً من أجابته، ثم قال: "لقد تحققت جميع النبوءات التي يجب أن تسبق تل مجدو، كل شيء يحدث كما هو متوقع، ولا يمكن للنهاية أن تكون بعيدة بعد اليوم". ثم عندما أصبح ريجان رئيساً اتخذ في عام 1983م الترتيبات لحضور الزعيم الأصولي (فولويل) مجلس الأمن القومي، ليناقش مع كبار موظفي أمريكا خططاً لحرب نووية مع روسيا كما وافق ريجان على أن يخطب (هال ليندسي) مؤلف كتاب كوكب الأرض العظيم الفائت أمام مخططي وزارة الدفاع الأمريكية ـ البنتاجون
_________
(1) النبوءة والسياسة - جريس هالسيل ـ ترجمة محمد السماك ص51(1/304)
ـ حول احتمالات نشوب الحرب النووية مع روسيا. وفي العام 1983م استخدم (ريجان) تعبير "الامبراطوريه الشريرة" إشارة إلى الإتحاد السوفيتي بمعنى أن السوفييت من قوى الشر التي تدعم قوى الظلام، التي تحارب تحت لواء الوحش عدو المسيح في معركة تل مجدو الرهيبة، حيث يفترض في تلك المعركة أن تقاتل إسرائيل وحلفاءها من قوى الخيرـ كذا ـ إلى جانب المسيح عند مجيئه الثاني (1).
وحيث وضع الرئيس الأسبق ريجان معركة تل مجدو نصب عينيه، فقد وجد من واجبه الديني العمل على زيادة الجبروت العسكري الأمريكي استعدادا للمعركة الرهيبة، وليس من شك في أن عقيدة ريجان بقرب انتهاء التاريخ في تل مجدو كان لها الأثر الأكبر في توجيه سياسته الاقتصادية، وسياسة التسلح العسكري الأمريكي. فخلال فترتين متتاليتين من رئاسته تفاقم عجز الميزانية الفدرالية إلى مستوى مذهل لم يسبق له مثيل في تاريخ أمريكا، وقد انبثقت سياسة ريجان الاقتصادية المبنية على الإنفاق التضخمي من اعتقاده بعدم وجود مبرر للقلق من تفاقم الدين العام، ما دامت (الخطة الإلهية) اقتضت نهاية التاريخ العاجل، ثم أن الإنفاق تركز على التسلح باعتباره الوسيلة المثلى لضمان المستقبل، في الوقت الذي تم فيه تخفيض الإنفاق على البرامج الاجتماعية المحلية، وفي ذلك قال ريحان: "لا يمكن لمعركة تل مجدو أن تحدث في عالم مجرد من السلاح". ومن المعروف أن الوعاظ الأصوليين من أمثال (جيري فالويل) (وهال ليندسي) (وبات روبرتسون) يؤمنون بأن المجيء الثاني لن يتحقق إلا بعد سلسلة من الكوارث والفوضى الاجتماعية والانهيار الاقتصادي وحرب نووية في تل مجدو (2).
ولم يكتف الرئيس ريجان بالإيمان بمثل هذه الخرافات، بل المصيبة الكبرى هي أن رئيس اكبر دوله في العالم والتي لديها مخزون من أسلحة الدمار الشامل، قادرة على تدمير الأرض وإفناء الحياة عنها، كان يؤمن أيضاً بالتنجيم والأبراج، حيث أثر ذلك على قراراته السياسية وعلاقاته مع الدول. يقول (كيتى كيلى) في كتابه (نانسى ريجان ـ فضيحة في البيت الأبيض): اظهر الرئيس (ريجان) اعتقاده في
_________
(1) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص104
(2) يد الله ـ جريس هالسيل ـ ص17(1/305)
التنجيم بالنسبة للانتخابات الرئاسية في البرازيل، لأن المنجمين قالوا له: "إن (تانكويدو نيافيز) سوف ينجح. وعند لقائهما في البيت الأبيض قال له ريجان: "إن أبراجنا نحن الاثنين متوافقة، ولذلك فإن العلاقة حسنة بين قطرينا" (1). ويضيف (كيتى كيلى): "في الوقت الذي كانت السيدة الأولى تدير العملية الرئاسية كانت منجمتها (جوان كويجلى)، من خلفها تقودها، حيث أقنعتها هذه العرافة بأن الرئيس يجب ألا يظهر أمام الجماهير إلا بعد 120 يوماً، نتيجة "مجالات الحقد والبغض لكوكبي اورانوس وزحل"، والتي قالت أنها تحولت ضده. وعلى أساس كلام المنجمة التي تتقاضى 3000 دولار شهرياً، أجبرت نانسى زوجها ريجان على عدم الخروج من البيت الأبيض، ولكنها وافقت رغم ذلك على أن يخرج يوم 27 يناير 1987م ليلقى خطاب الاتحاد في الكونغرس" (2).
فرئيس هذا حاله، كانت معجزة أن مرت فترة رئاسته بدون حدوث كارثة كونية، بسبب إيمانه بالخرافات وبأقوال المنجمين. وعندما يستعيد المرء أحداث الماضي القريب، يصاب بالذعر كيف أن أقوى أمة على وجه الأرض متحالفة مع إسرائيل، آمن رئيسها بلاهوت تل مجدو، وتطلع واستعد بجد ونشاط لتحقيق النهاية الرهيبة، فلم يكن أقل من معجزة أن انتهت ولاية (ريحان) دون انفجار حرب نووية بسبب نبوءات أصر أصحابها على تحقيقها قسراً. غير أن ما نخشاه حقيقة من تسلط أو إغراء هذه النبوءات هو ما ذكره (ارنست ناجل) عن التنبؤ المحقق لنفسه. وهو الذي يتألف من تنبؤات لا تصدق على الوقائع الفعلية، أو الوقت الذي تصاغ فيه هذه التنبؤات، غير أنها تغدو صادقة بسبب الأفعال التي تتخذ كنتيجة مترتبة على الاعتقاد بصحة تلك التنبؤات (3). وهنا يقول الكنسي البريطاني (روبرت جيوبت): أن من النتائج الجانبية المرعبة للاعتقاد بأن الله قضى مسبقاً بهرمجيدون هو أنه يصبح من اليسير (خلق) الحالة الموصوفة، بحيث إن التفسير يقود إلى تحقيقها. ويقول (ستيفن اولبرى) مؤلف
_________
(1) نانسى ريجان ـ فضيحة في البيت الأبيض كيتى كي - يوسف فكرى, نهال الشريف - ص475 - دار الهلال,1991
(2) نانسى ريجان ـ فضيحة في البيت الأبيض كيتى كي ص470
(3) صدام الحضارات - صامويل هنتنجتون -ترجمة طلعت الشايب ـ تقديم د. صلاح قنصوه ص25 - الناشر: سطور- 1998(1/306)
(مناقشة النهاية الكارثية): "إن القضية الحقيقية هي الكيفية التي يجرى فيها تفسير نبوءة نهاية الزمن تكون كل توقعاتنا، بحيث أنها تجعل الحرب النووية تبدو تحقيقاً شريراً لقدر إلهي " (1).
وإذا أردنا أن نلخص فترة رئاسة ريجان لأمريكا فإننا نقول: "لقد استخدم ريجان القوة، لا بل البلطجة لفرض سياساته فكانت الغاية قذرة، والوسيلة أقذر وآمن بعقائد خرافية جعلته يدلل إسرائيل ويضرب بيد من حديد ويختلق حروباً ومشاكل وتسيل الدماء في كل مكان" (2).
محور الخير .. ومحور الشر (أبناء النور وأبناء الظلام)
كان الرئيس الممثل (رولاند ريجان) من أوائل الرؤساء الأمريكيين، الذين استخدموا تعبير إمبراطورية الشر، بصوره علنية فجه، حيث كان يقصد بها الإتحاد السوفيتي السابق، بسبب اعتقاده الديني من أن روسيا ستهاجم إسرائيل في معركة هرمجيدون، تم تبعه بعد ذلك كثير من الساسة في استخدام هذا التعبير. ولكن جاء أخيراً الرئيس (جورج بوش الابن)، وكرس هذا المفهوم وأضفى عليه بعداً عالمياً بعد أحداث سبتمبر، وذلك في خطابه عن حالة الاتحاد في يناير 2002م عندما قسم العالم إلى قسمين، أشرار يحاربون أمريكيا وأخيار يقفون معها، بل تعدى هذا الأمر ووصف دول بعينها بأنها تمثل محور الشر (العراق وإيران وكوريا الشمالية)، أو ما اسماها بالدول المارقة.
ففي ذلك الخطاب، استعمل بوش الابن خمس مرات كلمة (الشر)، وأشار إلى ابن لادن نفسه بأنه الشرير. وتتكرر لفظة الشر بانتظام في خطاب الولايات المتحدة الانجيلي ـ السياسي. "فقد عرفت عبارة (إمبراطورية الشر) رواجاً كبيراً في عهد (ريجان)، وكان لها وظيفة محددة: تسويق مشروع (حرب النجوم) مع اعطاء الولايات المتحدة تفوقاً مطلقاً على الاتحاد السوفيتي في الميدان العسكري. لأجل ذلك، كان يجب تركيز كل طاقة الأمة على عدو رمزي، هو الدب السوفياتي. وعاد الكلام عن
_________
(1) يد الله - غريس هالسيل ص110
(2) زعماء ودماء ـ ايمن ابو الروس ص114(1/307)
الشر اليوم، ولكن مصحوباً بنقيضه المشرق الخير. فإذا كان لابد من محاربة الشر فهذا لا يمكن إلا بواسطة الخير. والقوى المنضمة إلى الخير هي في معسكر الأخيار. أن هذه التبسيطة الثقافية تسمح لأنصار الحرب الأخلاقية بأن يبرروا الغاية بكل الوسائل المتاحة" (1).
"إحدى خصائص محور الشر الأساسية ـ على الطريقة الأمريكية ـ هي أنه ذو شكل متغير فهو يمثل حيناً بليبيا وإيران، وحيناً بسوريا. وفي سنة 1990م كان العراق، تم بمقتضى الظروف صار الصومال، تم حماس أو واحدة من قبائل الفلبين. ويشمل هذا التصنيف أكراد حزب العمال الكردي ولا يشمل أكراد حزب الاتحاد الكردي، الذين يتمتعون بدعم وكالة المخابرات المركزية. وفي السنوات الفائتة نالت القوى المسلحة الثورية الكولومبية ( FARC) شرف التسجيل على هذه اللائحة، التى يظهر فيها بين حين وآخر كل من السودان واليمن، حسب الظروف. إن محور الشر هو كناية عن جردة انطباعية على طريقة بريفير تعود علة بقائها إلى مصالح سيد البيت الأبيض المتقلبة (2).
وبالرغم من الكثيرين بدأو ينظرون بريبة وشك إلى مثل هذه التعبيرات، إلا أن ذلك لا يجب أن يعمينا عن الأبعاد الفكرية والدينية الراسخة الجذور لمثل هذه التعبيرات، والتي حفل بها التاريخ الأمريكي منذ بداياته. ففي بلد للدين فيه نفوذ كبير على السياسة، فإن مفردة (الشر) مرتبطة بمفردة (الشيطان)، وبهذا المعنى يستخدم الدين لمواصلة أهداف غير نبيلة على عكس ما يُزعم، حيث أن من يجسدون هذا الشر تغيروا عبر الحقب الزمنية .. في الأول كان الهنود هم الذين يجسدون هذا الشر، ثم عوضوا فيما بعد بالأفر وأميركيين، لكن هؤلاء تركوا منصبهم للفوضويين الذين تبعهم الشيوعيون. أما اليوم فوجوه الشر هي العراق وإيران وكوريا الشمالية
_________
(1) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص85
(2) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص85(1/308)
(1). أما وجوه الخير فهي بالطبع أمريكيا وإسرائيل والدول البروتستانتية التي يشع منها النور في عالم تغمره الظلمة؟!.
هذا التقسيم للعالم إلى خير وشر مستمد في الأساس من معتقدات دينية يؤمن بها المسيحيون البروتستانت، حيث يعتقدون إنطلاقاً من إيمانهم بكل ما ورد في التوراة وسفر الرؤيا، أن هناك قوة شريرة يسمونها (أبناء الظلام) ستقدم يوماً على حرب ضد قوى الخير ممثلة في إسرائيل وأشياعها من دول العالم البروتستانتي (أبناء النور)، وهم يضمون المسلمون ودول أخرى إلى جانب قوى الشر. وفكرة تقسيم الشعوب إلى خيره وشريرة نبعت أصلا من التراث اليهودي، الذي استقرت فيه فكره عن شعب بدائي من شعوب الأناضول، عرف في النقوش الآشورية باسم (السيميراي) بوصفه شعباً محارباً شيطانياً يسكن الغيم والظلمة، وأنه تحالف مع الحية ـ الشيطان ـ ضد يهوه، ومن ذلك التصور، نبعت فكرتان في فلكلور العهد القديم:
1. فكرة الشر الرابض هناك بأقصى الشمال، متربصاً بالأخيار (شعب يهوه).
2. فكرة (أبناء الظلام) بوصف التسمية مظلة شاملة يندرج تحتها ـ جنباً إلى جنب مع شعب جومر السيميري ذاك ـ حشد من شعوب أخرى شريرة ومعادية لـ (الشعب) الذي بات - تعريفاً له بالنقيض ـ (أبناء النور).
ولقد كان من الطبيعي أن يلاقي ذلك التصنيف تقبلاً فورياً واسعاً لدى الأصوليين المسيحيين في أمريكا، إذ اتسق مع تصنيف العقل الأميركي التبسيطي للبشر إلى أخيار Goodies وأشرار Baddies! إلا أن التصنيف قبل أن يصل إلى العقل الأميركي المعبرن، كان قد ظل يفعل فعله المدمر بكفاءة عالية في إبداع سيناريو (يوم يهوه) الذي ستكون فيه نهاية الذبيحة الكبرى، على كل الأمم، أي (أبناء الظلام) أعداء (أبناء النور) (الأمة المقدسة) بني إسرائيل: "لقد قضى يهوه إله إسرائيل بحرب على كل الأمم (الجوييم، الأغيار)، وبقديسي شعبه سوف يضرب بجناح قوي" (2).
_________
(1) المجتمع الأميركي بعد 11 سبتمبر ـ المؤلف: صوفي بودي جندرو - ط1 2002 - الناشر: مطبوعات [المؤسسة الوطنية للعلوم السياسية]- باريس كامبردج بوك ريفيوز
(2) المبشرون البروتستانت والنية القاتلة - غريس هالسل 150 - - كتاب مترجم نشر في جريدة الشرق الاوسط على حلقات اعتبارا من 17/ 10/1986(1/309)
ومن الطريف أن زعماء التيار الديني البروتستانتي الأصولي مثل (فالويل وروبنسون وغيرهم، يسمون دولاً بعينها ويجعلونها في مصاف القوى الشريرة التي ستشهد معركة مجدو ـ منها ليبيا وأثيوبيا!! وتقول (جريس هالسل) أن حركة الربط بين قصص الكتاب المقدس، وأسماء دول أو شعوب في عالمنا المعاصر، هي حركة قوية وقديمة، والكثير من المبشرين يكررون دائماً أن أعداء أمريكا هم أعداء الصهاينة، وبحسب نبوءة الكتاب المقدس ستقوم روسيا والصين بغزو الكيان الصهيوني مثلاً، وأن على أمريكا أن تقود معركة رهيبة تضع حداً للتاريخ الإنساني ضد 12 دولة تملك السلاح النووي، وأن الكتاب المقدس يحوى نبوءات تهز الدنيا! ومعركة هرمجيدون يمكن أن تقع في أي وقت لتحقيق نبوءة حزقيال، وعلى أمريكا أن تكون مستعدة للنهاية، التي اقتربت، وسيبدأ من الآن مسلسل حروب صغيرة، يتم فيها قتل نصف البشرية قبل هرمجيدون (1).
فمثلاً يقول القس (فالويل) زعيم الأغلبية الأخلاقية: "إن النبي العبراني (حزقيال) تنبأ قبل 2600 سنة بقيام أمة شريرة إلى الشمال من فلسطين، قبيل موعد المجيء الثاني للمسيح. وقال: "إننا نقرأ في الإصحاحين 38 و 39 من سفر حزقيال، أن تلك الأمة سيكون اسمها (روش) مكتوب هكذا في الآية 2 من الإصحاح 38 من سفر حزقيال من الكتاب المقدس بالحرف (روش) ( Rosh, R ـOـSـ H) ، بل وأن حزقيال يحدد بالاسم مدينتين من مدن (روش) هما (ماشك) (وتوبال). وكل هذا في الآية 2 من الإصحاح 38 أيضاً، والاسمان قريبان للغاية من اسمي موسكو وتبلسك: ماشك ـ موسكو، وتوبال ـ تبلسك، وكلا المدينتين من المدن العاصمية الرئيسة في روسيا اليوم. وقد ذكر حزقيال أيضاً، في الآية 3، أن تلك الأمة ستكون معادية لله، ولذا فإن الله سيعاديها. وقال حزقيال أيضاً إن روسيا، روش ستغزو إسرائيل في آخر الأيام، وذلك في الآية 8، تم قال إن ذلك الغزو سيكون بمساعدة حلفاء روش، وذلك في الآيتين 5،6، وحدد أولئك الحلفاء بالاسم: إيران (التي كنا نسميها فيما مضى فارس) وجنوب أفريقيا أو الحبشة، وشمال أفريقيا أو ليبيا، وأوروبا الشرقية (المدعوة بجومر هنا في حزقيال 38) وقوزاق جنوب روسيا واسمهم في ذلك الإصحاح توجرمه.
_________
(1) يد الله ـ جريس هالسيل 34(1/310)
فالقس (فالويل) له منطق على هواه لا يعوقه شيء حتى الكتاب، الذي سيتشهد بالآيات منه. لأن (روش) لا تعني روسيا، بل تعني (رأس) أو (رئيس) باللغة العبرية، وماشك وتوبال لا تعنيان موسكو وتبلسك، بل هما اسمان وردا في سفر التكوين، لاثنين من أبناء يافث، وكذلك (جومر) لا تعني أوربا الشرقية، فماشك وتوبال وجومر ومأجوج من أسماء بني يافث تكوين (10: 2)، وأسماء أقوام سكنت أسيا الصغرى، لكن القس (الطيب) جيري فالويل، قرر أنها كلها أسماء أماكن معاصرة، روسيا، وموسكو، وتبلسك، وأوروبا الشرقية، تنبأ حزقيال بأنها ستهاجم إسرائيل مع حلفائها الأشرار إيران، وليبيا والحبشة أو جنوب أفريقيا. وأخذ ذلك الاعتقاد عنه - مع استبعاد جنوب أفريقيا - الرئيس الأميركي المولود ثانية رونالد ريغان.
غير أنه وقع ارتباك هنا فيما يخص الأسماء، ففي حين أكد جيري فالول أن (روش) هي روسيا، رأى (بات روبرتسون)، والمؤشر في يده، والخريطة على الحائط أمام المؤمنين، أن (روش) هي الحبشة، أما روسيا فهي يأجوج ومأجوج، وفي حين أكد جيري فالول أن (جومر) هي أوروبا الشرقية، أكد روبرتسون للمؤمنين أن (جومر) هي اليمن الجنوبية، وفي حين أعلن فالول أن (توجرمه) هم القوقاز، أكد (روبرتسون) أنهم الأرمن وأن اسمهم التوراتي (بث توجرمه)، توخياً للدقة العلمية، أما ليبيا فأطلق عليها القس روبرتسون، من ذاكرة مشوشة فيما يبدو، اسم (بوت) وربما تبث ذلك الاسم بتلك الصورة مما كان المصريون القدماء يدعونه ببلاد بونت (التي يرجح أنها ما يعرف الآن باسم إريتريا، أو ما يعرف باسم الصومال، فهي منطقة شبه أسطورية ورد ذكرها باستمرار في النصوص الفرعونية من المملكة القديمة). وبكل تأكيد، لم تعرف ليبيا في أي وقت باسم (بوت) أو بونت، بل عرفت باسم (لهابيم). فالخلاف على أشده جغرافيا بين المبجل (فالويل) والمبجل روبرتسون، والبلد الوحيد من فريق (أبناء الظلام) الذي اتفقا على تسميته، هو إيران ـ فارس القديمة (1).
ونتيجة لتأكيد روبرتسون أن الحبشة لا جنوب أفريقيا، هي التي ستنضم إلى جيش أبناء الظلام، وبصرف النظر عن تسميته لها بـ (روش) رحب الرئيس الأميركي ريغان بذلك التباين اللاهوتي، نظراً لإخراج جنوب أفريقيا من الحلف في رواية
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص134(1/311)
روبرتسون. إلا أن (فالول) لم يتقبل الأمر مستسلماً، بل تمسك بأن (روش) هي روسيا، وبأن توجرمه هم القوزاق لا الأرمن، ودلل على ذلك بتركيز شديد (1). ولكن هذا الخلاف بين روبرتسون وفالويل حول الحبشة وجنوب أفريقيا، حسم أخيراً بعد أن حل السودان مكان الحبشة فيما يسميه اليمين المسيحي المتطرف في أمريكيا بجيش أبناء الظلام، وبالذات بعد وصول الاتجاه الإسلامي إلى الحكم، وكلنا لاحظ الهجمة الأمريكية الشرسة على السودان وضربه بالصواريخ، بالإضافة إلى دعم الحركة الانفصالية في الجنوب، بكافة السبل. وقد علق احد الكتاب السودانيين على ما يحصل في جنوب السودان بقوله: "لقد تبنت إدارة جورج بوش الابن أجندة اليمين المسيحي الأمريكي، في مواصلة دعم حركة قرنق وقواتها عسكرياً ومادياً ودبلوماسيًا عن طريق منظمات مسيحية غربية، تصنّف نفسها تحت اسم (منظمات غير حكومية) وذلك لضمان استمرار الحرب بين الخير والشر. وفي هذا السياق يجتذب الانتباه بصفة خاصة أن اليمين المسيحي يولي اهتماماً أكبر لسلاح الدعاية. ففي غضون الشهور الأخيرة اندلعت على نحو فجائي حملة إعلامية في الوسائل الأمريكية وغير الأمريكية، قوامها تحقيقات صحفية وأفلام تسجيلية ومقابلات تلفزيونية وتسريبات إخبارية، كلها تتعلق بجنوب السودان وجون قرنق.
وهي حملة صليبية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تبث رسالة إعلامية تصوّر جنوب السودان، وكأنه تيمور الشرقية، وجون قرنق وكأنه مسيح جديد (2).
حرب يأجوج ومأجوج
تقول عقيدة هرمجيدون أن هناك معارك ستقع للتمهيد للموقعة الكبرى ومنها حروب يأجوج ومأجوج، وترى أن يأجوج المذكور في حزقيال هو روسيا، وأن حزقيال قد أخبرنا عن مصير الوثنيين في الأيام الأخيرة وهم جيران الكيان الصهيوني وآخرين بعيدين عنها، "نعم لم تكن هناك روسيا أيام حزقيال، ولكن الله يعرف أنها
_________
(1) لو قارنا أسماء الدول التي وردت في الفقرة السابقة بالهجمة الشرسة التي تشنها أمريكا على الدول العربية والإسلامية فإننا سنلاحظ تشابه كامل بين ما ورد في النصوص التوراتية وبين ما تقوم به الإدارة لأمريكية على ارض الواقع، بحيث يمكن القول أن التوراة أصبحت المرجع الرئيس لرسم سياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
(2) جريدة البيان الإماراتية 30ـ4ـ2002م(1/312)
كانت ستتواجد" وسوف يهاجم يأجوج الصهاينة، وسيغضب الرب كما يقول حزقيال وسفر الرؤيا وستكون نار غضبه هي الصواريخ الحديثة التي ستدمر 5/ 4 الروس الشيوعيين، وسيتم القضاء ـ أيضاً ـ على بقية الأمة الروسية هناك أي مأجوج، وستقدر السلطات الصهيونية على ذلك بمعونة حلفائها أميركا وبريطانيا الذين سوف يستخدمون قبرص.
ويشير سفر دانيال إلى سفن راسية في (شيتيم) التوراتية التي هي قبرص (11/ 30) وسوف تنضم دول كثيرة إلى روسيا، ومنها ألمانيا التي ستتعرض للدمار هي الأخرى، ولن يكون هناك سلام مع روسيا حتى يعود المسيح ويجلس على عرش داود، والشعب الروسي هو العدو رقم واحد للكيان وبالتالي للرب. وستكون المحنة الكبرى أقرب منها للهولوكوست لأنها ستكون انتقام الرب من عالم غير مؤمن، والمحنة هي من اجل الصهاينة وقد اتفق العهد القديم والعهد الجديد على حدوثها وملامحها (زيفانيا 18/ 1 ملاخي 1/ 4) أن نار غضبه سوف تبتلع الأرض كلها وسيكون حريق الهولوكوست النووية كالفرن.
المبشرون البروتستانت والنية القاتلة
هذا عنوان كتاب للكاتبة الأمريكية (جريس هالسل) التي عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق (ليندون جونسون)، وهي صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة)، كما اشتهرت بكتاباتها عن الحركات الأصولية المسيحية وعلاقاتها مع إسرائيل، حيث صدر لها حديثاً كتاب جديد بعنوان (يد الله) (1) يمكن أن يعد بجدارة أهم ما صدر في الشأن الديني الأمريكي في الأعوام السابقة، وربما كان من أهم الكتب التي عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي الذي يصل إلى حد الابتزاز ـ للنبواءت الدينية في العقد الأخير من القرن العشرين.
وكتاب (يد الله) عبارة عن إجابات على أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من فعاليات دينية، ومراجع كنسية أمريكية مختلفة.
_________
(1) يد الله ـ تأليف جريس هالسل - ترجمة محمد السماك(1/313)
وتتصدى فيه (جريس هالسل) ـ ربما لأول مرة ـ لظاهرة المنصّرين التوراتين التلفزيونيين، الذين يمثّلون اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يُعرف إعلاميًّا بـ (الصهيونية المسيحية) وهي الظاهرة التي تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الديني في العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتي صنعها عدد من المنصّرين التوراتين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية، التي تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدّون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذي يُعدّ أكبر وأهم حركة تنصير في تاريخ المسيحية، ـ إقامة ما يعرف بـ) حزام التوراة (، والذي يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتي تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينيًّا، والمؤمنين بنبوءة الهرمجدّون، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة.
وتكشف (جريس هالسل) في كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة، التي تُدِرّ مليارات الدولارات سنويًّا على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية في أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم) بات روبرتسون) الذي يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر في أمريكا)، فقد أسس وحدة شبكة البث المسيحية CBN، وشبكة المحطة العائلية إحدى أكبر الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذي يُعَدّ الأوسع نفوذًا وتأثيرًا في السياسية الأمريكية، بما مكّنه من الترشيح في الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات، التي يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدي نبوءاته التلفزيونية (1)، وكذلك (بات بيوكاتن) الذي كان مرشحًا لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح. وتُعَدّ برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال: (هالويل)، (وجيري فالويل)،) وتشارلز تايلور)، (وبول كراوسي)،) وتشال سميث)، (وروبرتسون)،) وبيوكاتن) من أكثر البرامج جماهيرية في الولايات المتحدة. كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت، التي تحمل هذه البرامج رواجًا رهيبًاً، في أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (2).
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 283
(2) - المبشرون البروتستانت، والنية القاتلة- جريس هالسيل- ص 87(1/314)
وينتشر المنصّرون التوراتيون في معظم أنحاء الولايات المتحدة، في عدة آلاف من الكنائس التي يعملون في كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة، بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التي كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدّون، التي بشّرت بها التوراة، والتي سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون، الذي يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذي أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار! (1)
نفوذ الجماعات المسيحية
أصبح للجماعات المسيحية البروتستانتية المنظمة صوت مسموع بشأن الصراع العربي الإسرائيلي في أمريكا، حتى أنها باتت قوة سياسية قادرة على الوصول إلى الرأي العام، عبر مختلف وسائل الأعلام، كما أنها أصبحت قادرة على توجيه الأصوات الانتخابية، التي لا يستطيع الحزبان الديمقراطي والجمهوري ضبطهما في حملتهما الرئاسيتين، حتى أن أكثر المرشحين لرئاسة الجمهورية الأمريكية أصبحوا مضطرين لحضور اجتماعات هذه الجماعات التي تبلغ 800 ألف هيئة، منها1500 هيئة بارزة وأتباعها يقدمون سنوياً ما يزيد عن 370 مليون دولار أمريكي، على شكل هبات وتبرعات، وتبلغ إعفاءات البريد التي أقرها الكونغرس للجمعيات الدينية 600 مليون دولار سنوياً (2).
وتحلّل) جريس هالسل) كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتي حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الموشكة في الهرمجدّون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة، التي دفعت ببعضها إلى القيام بإنتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلّص وقيام القيامة، ومنها جماعة
_________
(1) يد الله ـ تأليف جريس هالسل ـ ترجمة محمد السماك
(2) شهود يهوه - بين برج المراقبة الأمريكي وقاعة التلموذ اليهودي - تأليف/ حسين عمر حماده - دار قتيبه 1990 - ص25(1/315)
(كوكلس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد، وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة، والتي قاد فيها (كورش) أتباعه، لانتحار جماعي قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذي قاد انتحارًا جماعيًّا لأتباعه أيضًا في (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثي) الذي دبّر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات.
وتشير الاستفتاءات والمسوح الإحصائية فيما يتعلق بمعركة هرمجيدون إلى أن 39% من الشعب الأمريكي يعتقد بتدمير الأرض بهرمجدون نووية. وأن 61 مليون أمريكي يستمعون بانتظام إلى الوعاظ الذين يؤكدون أنهم لن يستطيعوا عمل شيء لمنع الحرب النووية في حياتنا، بل إن إحدى محطات التلفزيون الأمريكية التابعة لشركة شبكة الإذاعة المسيحية (سى. بى. أن)، والعاملة في جنوب لبنان تقدم أخبارها التلفزيونية من المنظور الهرمجدونى السابق. ومن بين الآلاف الأربعة من الأصوليين الإنجيليين الذين يحضرون سنوياً مؤتمرات الإذاعيين الدينية الوطنية، هناك ما يقارب من ثلاثة آلاف يؤمنون بأن المحرقة النووية هي القادرة فحسب على إعادة المسيح المنتظر إلى الأرض. وتبث هذه القناعة ألف وأربعمائة محطة دينية في أمريكيا. وأن غالبية الآلاف الثمانين من القسيسين، الذين يذيعون في أكثر من أربعمائة محطة إذاعية، هم من المؤمنين بهذه القناعة. كما أن معظم مدارس الإنجيل في الولايات المتحدة الأمريكية، تعلم لاهوت هرمجدون حسب رؤية (ديل كرولى) الابن، وهو قسيس في العاصمة واشنطن. وهناك مائة ألف طالب يدرسون في هذه المدارس الإنجيلية، يؤمنون بهرمجدون، وسيخرجون إلى العالم ويصبحون قساوسة مبشرين بهذه العقيدة.
وتشير (غريس هالسل) في كتابها (المبشرون البروتستانت والنية القاتلة) إلى أن الذين يعتقدون بهرمجدون يضمون بين صفوفهم الأغنياء والفقراء والمشهورين والمغمورين، ومنهم بعض أباطرة النفط والغاز وتجار الأسلحة وبارونات صناعة البوظة، وقد أرسل هؤلاء مئات الآلاف من الدولارات لمساعدة الحركات السرية الإرهابية الصهيونية. وتذكر (هالسل) إن الكثيرين من أتباع عقيدة هرمجدون يؤمنون أن "دولة إسرائيل الحديثة وأرض صهيون التوراتية(1/316)
متطابقتان". وأنه ينبغي تخليص كل (أراضى إسرائيل المقدسة) من النيل إلى الفرات وتمليكها لليهود (1). وتضيف (هالسل) إنها لا ترغب بانتقاد بعض الأصوليين المؤمنين بالإنجيل، الذين أسسوا العديد من الجماعات والمشافى الكبيرة والكنائس العديدة، ولكنها تتساءل إن كان في ذهن هؤلاء القوم، وهم يقومون بمثل هذه الإنشاءات الحضارية أية فكرة عن تدمير هذا العالم وتسليمه لليهود بعد ذلك (2).
_________
(1) يقول بول بوبر في كتابه (عندما يتلاشى الوقت): أن النبوءات الوشيكة الوقوع تتطلب اقتلاع العرب ليس من القدس فقط، إنما من معظم الشرق الأوسط .. لقد وقفوا في طريق الوعود الإلهية لليهود.
(2) المبشرون البروتستانت، والنية القاتلة- جريس هالسيل- ص 58(1/317)
الفصل الخامس
التراث الذي تركه الكتاب المقدس للشرق الأوسط
يمكن للمرء الاستنتاج أن النبوءات الواردة في كتاب الرؤيا، كانت تمثل ـ وقت كتابتهاـ مشاعر فئات من المسيحيين تجاه مضدهديهم، وجلهم من المحرومين والمعدمين والمتذمرين والناقمين والمعادين للسلطة، وحتى القابلين منهم للاشتراك في عمليات تخريب أو عصيان مسلح، وقد ناقض مسيحيون آخرون من أتباع بولس مشاعر هؤلاء، إذ قبلوا كتابات بولس بوجوب الخضوع للسلطات الحاكمة المتجسدة في نيرون نفسه في ذلك الوقت، باعتبار أنه معين من الله، وقد يكون أن بولس كتب مرئياته بغرض تهدئة أتباعه، ولتجنب الاحتكاك مع السلطات الرومانية، ولإعطاء السلطة الانطباع أن المسيحيين مواطنون مسالمون يتقيدون بقوانين السلطة الحاكمه.
فمن المعروف أن كتاب الرؤيا تمت كتابتة بعد حريق روما، وقطعاً قبل أن يدمر الرومان القدس في العام 70 م، لان أقصى ما توقعه المؤلف في رأياه ألا يتم تدمير سوى عشر المدينة (رؤيا 11/ 13)، كما تنبأ أيضا أن يبقى معبد القدس سالماً (رؤيا 11/ 1ـ2)، وتلك من جملة نبوءاته التي ثبت خطؤها الفاضح. والملفت للنظر انه رغم الفشل السافر لنبوءات يوحنا عن المجيء الثاني، ونهاية التاريخ، ورغم أن مسيحية بولس ـ المرتكزة على هذه النبوءات ـ لم تكن مقصودة للأجيال القادمة، فقد تمكنت المسيحية من الانتشار ليس فقط في العالم اليوناني ـ الروماني لذلك الحين، بل لأجيال قادمة على مستوى العالم كله تقريباً، والأكثر عجباً أن المسيحية الغربية ـ في شقها البروتستانتي ـ لم تيأس حتى يومنا هذا من تحقق المجيء الثاني (1).
"والمثير للدهشة في نبوءات المجيء الثاني، ونهاية التاريخ، والمشاعر المترتبة عليها، أنها كانت العامل المؤثر تاريخيا في تكييف مشاعر وسلوك المسيحيين الأصوليين تجاه الشرق الأوسط وسكانه، حيث سوغ هؤلاء الاصوليون لانفسهم
_________
(1) المسيحية والاستشراف والإسلام - محمد فاروق الزين ـ ص252(1/318)
استخدام أبشع الوسائل والأسلحة الفتاكة لتحقيق اهدافهم، بسبب التفسير البشري لسفر الرؤيا الذي عبثت فيه أهواء البشر وفهمهم القاصر، بحيث كان تفسير سفر الرؤيا يتردى من سيئ إلى أسوأ كلما تقدم الزمان وتعاقب على تفسيره مختلف الأشخاص" (1). فالملاحظ أن من يعتبرون أنفسهم حجاجا إلى فلسطين، من المسيحيين الأمريكيين الأصوليين، يضعون على صدورهم لوحة صغيره كتب عليها: "نحن نحبك يا إسرائيل، لأن الله يحبك". والواضح أن الوعاظ الأصوليين من آمثال (جيري فالويل) نجحوا في أن يجعلوا من رؤيا يوحنا نوعا من التقديس لإسرائيل، في حين أنها ليست سوى ميثولوجية، عملت على تشويه رسالة المسيح بشكل سافر، والنتيجة البحتة لكل ذلك أن الأصوليين المسيحيين في الغرب جعلا من تقديس إسرائيل ديانة جديدة لهم، تعلو على ديانة المسيح الحقيقية، فقد تعمد الوعاظ الأصوليين، ونجحوا في أن يجعلوا من رؤيا يوحنا وسيلة هائلة لمساعدة إسرائيل، فكان أن تكيفت السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط عموماً ونحو فلسطين خاصة، لدرجة أن جعلت مصير أمريكا مرتبطاً بمصير إسرائيل، وقد قالها (فالويل) بلا مواربة: "لو أهملنا حماية إسرائيل، فلن يكترث بنا الله". وبعبارة مختصره ومبسطه: فإن إسرائيل هي العمود الفقري للعقيدة المسيحية الأصولية، ومن دونها تنهار هذه العقيدة (2).
وبعد مرور قرابة ألفي عام على رحيل يوحنا، واستنادا إلى رأياه لا يزال المسيحيون الأصوليون في نصف الكرة الغربي، مقتنعين مع أتباعهم، بأن نشوء إسرائيل في فلسطين كان مقدمة حتمية لا بد منها لتحقق المجيء الثاني، ونهاية التاريخ، حيث يمكن تلخيص العقلية المسيحية الأصولية الغربية بإيجاز بالعبارة التالية: لا يمكن للمسيح أن يعود ما لم تكن هنالك إسرائيل يمكنه العودة إليها"، وبعبارة أخرى، لما صارت إسرائيل حقيقة واقعة، فقد بدأ العد التنازلي لنهاية العالم.
_________
(1) الصليب والهلال - المؤلف: محمد عارف زكاء الله - الناشر: ذي آذرز، كوالالمبور- الطبعة: الأولى/2004 - الجزيرة نت
(2) المسيحية والاستشراف والإسلام - محمد فاروق الزين ـ ص259(1/319)
فالأصوليين المسيحيون في أمريكا، يؤمنون إيماناً شديداً، بأن اليهود هم شعب الله المختار وأن الله تعالى أعطاهم الأرض المقدسة، وأنه تعالى يبارك الذين يباركون اليهود ويلعن الذين يلعنونهم، والأصوليون الغربيون كأجدادهم منذ ألفي عام، لم يداخلهم اليأس إطلاقاً من تحقق نهاية فورية للتاريخ، هذه النهاية التي ستبدأ بمعركة تل مجدو في فلسطين، والمفترض أن تكون المعركة النهائية والفاصلة بين قوى الخير بقيادة المسيح العائد، وبين قوى الشر بقيادة عدو المسيح، وبالطبع سيخرج المسيح من المعركة الرهيبة ظافراً، وبنتيجة هذا النصر الحاسم سوف يقيم مملكة الله على الأرض فعلياً وليس مجازاً، ثم يحكمها بنفسه لمدة ألف عام من مقر قيادته في القدس، ولابد لليهود عندئذ من الإقرار بعيسى مسيحياً لهم، فيتحولون إلى المسيحية، ويشتركون مع المسيح في حكم العالم خلال تلك الألفية السعيدة، التي سيقيد فيها الشيطان ثانية في نهاية الألفية كي يعود لخداع العالم في أركان الأرض الاربعه (1).
من هو عدو المسيح (وحش الرؤيا)؟
صورة الشخص الشيطاني أو عدو المسيح، تعتبر من الصور النمطية في العقلية الأمريكية الأصولية، حيث ترتبط هذه الصورة بالاعتقاد بان عدو المسيح سيقود قوى الشر في المعركة الأخيرة مترئساً جميع شعوب العالم. وقد قام الأصوليين المسيحيون بإسقاط هذه الصورة على القادة والزعماء الذين يعادونهم. ففي القرن السادس عشر، وصف (مارتن لوثر) و (جون كالفن) مؤسسا الكنيسة البروتستانتية، البابا بأنه عدو المسيح، وفي القرن الحالي، وصف كلا من (هتلر) و (موسولينى) و (ستالين) بأنهم أعداء المسيح. وبعد انتهاء الحرب الباردة، وبروز الاتجاهات الأمريكية باتخاذ الإسلام عدواً بديلاً، أصبح الاعتقاد لدى الأصوليين المسيحيين بأن عدو المسيح لابد أن يكون مسلماً، ويطلقون هذه الصفة على الرئيس العراقي (صدام
_________
(1) سفر الرؤيا 20/ 8(1/320)
حسين) (1).
"فمنذ صلاح الدين حتى حكم صدام حسين والمسيحيون الأصوليين يرون الزعماء الإسلاميين كمسيح دجال أو على الأقل نظيره" (2).
أما عن مصدر هذه الفكرة فإننا نجد أن سفر دانيال يتحدث عن عدو المسيح، الذي سيظهر ويسبب الخراب، ويشوه المعبد في القدس، ويتحدث سفر الرؤيا عن وحش يخرج من البحر بسبعة رؤوس وعشرة قرون، سيحكم خلال السنوات السبع للمحنة الكبرى ويقنع الناس، وفي البداية سوف يسيطر على عشرة من الأمم الأوروبية والإتحاد الأوربي والسوق الأوربية المشتركة وحلف ناتو، وكلها تعنى عودة الإمبراطورية الرومانية في العصر الحديث، وسيخرج عدو المسيح من رومانيا، حسب رأى القس كلايد (3)، وان له شخصية شيطانية بالمطلق، وهو يهودي حقيقي ـ حسب رأى القس فالويل ـ غير أن الشيطان يساعده، وسوف يطبع علامة على اليد اليمنى، أو على جبين كل شخص، كما جاء في سفر الرؤيا (13، 17ـ18) "فلا يستطيع أحد أن يبيع ويشترى إلا إذا كانت عليه علامة الوحش، أو الرقم الذي يرمز لاسمه! ولابد هنا من الفطنة: فعلى أهل المعرفة أن يحسبوا عدد اسم الوحش. إنه عدد الإنسان، وهو الرقم (ست مئة وستة وستون) " (4).
_________
(1) ظهرت في الآونة الأخيرة كتابات عديدة حاولت الربط بين صدام حسين وشخصية السفياني الواردة في بعض الأحاديث الضعيفة، حيث استوقفتني كثيراً مثل هذه الكتابات، وبالذات وأنها تتطابق مع ما جاء في التوراة اليهودية وسفر الرؤيا بشأن معركة هرمجيدون. وهذا يعني أن مثل هذه الأقوال ما هي إلا إسرائيليات لا علاقة لها بالدين الإسلامي، حيث استمد كثير من الكتاب مصادره من كتاب الجفر ومن كتب الباطنية وأحاديثهم. يقول الشيخ سلمان بن فهد العودة: هذا الموضوع (موضوع السفياني) لا يصح فيه حديث، وإنما روايات ضعيفة منقطعة خرجها نعيم بن حماد في كتاب الفتن وغيره، والغالب أنها من وضع الأمويين لأغراض سياسية. ويقول عالم آخر: أن أحاديث السفياني كلها ضعيفة، ولا يصح منها شئ، وحتى على فرض صحة شيء منها، فإن تطبيقها على شخص بعينه أمر في غاية الخطورة، وهو من الرجم بالغيب كما حدث في تطبيق أحاديث المهدي على أناس بأعيانهم .. كما أن التشبت بأحاديث الملاحم والفتن بهذه الطريقة هو نوع من الهروب من الواقع وانتظار الفرج بالخوارق وهذا ليس دأب المؤمن الذي يواجه الواقع بالعمل والجد وبذل الأسباب "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.
(2) عالم بوش السري/ الديانة والمعتقدات الأعمال و الشبكات الخفية- اريك لوران- ترجمة سوزان قازان - ص93 - ط.1.- بيروت، لبنان دار الخيال، 2003.
(3) يد الله - جريس هالسيل ص35
(4) من الطريف أن وزبر الدفاع الامريكى رامسفيلد، حدد المدة التي تستغرقها الحرب على العراق بستة أيام، أو ستة أسابيع أو ستة اشهر، ولا ندرى لماذا حدد هذا الرقم؟ هل لان العيون الأمريكية ستة على ستة كما يقال بمصطلحات فحص العيون، أم لان العرب لهم علاقة بهذا الرقم منذ حرب حزيران (حرب الأيام الستة)؟ أم تريد الولايات المتحدة تدمير العالم في ستة أيام طباقاً تم تستريح، وذلك حسب النص التوراتي الذي يشير إلى أن الله خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع .. ربما يكون كل ذلك، ولكن الأقرب إلى العقلية الأمريكية الأصولية والتي يمثلها رامسفيلد وعصابته، هو ارتباط هذا الرقم بسفر الرؤيا وما جاء به عن ما يسموه "الوحش" أو "عدو المسيح" والذي يرى أن عدد اسمه هو 666.(1/321)
فعدو المسيح اليهودي حقيقي، ولكنه شرير بالكامل، سوف يسيطر على قادة العالم عندما يضع فيهم أرواحاً شيطانية، فيسيطر بذلك على جيوش العالم دون علم من هؤلاء القادة، وسيموت مئات الملايين من الناس في الحرب الكبيرة، ثم يرسل الله المسيح لكي يذبح عدو المسيح، ثم في ساعة واحدة يدمر الأرض، وبذا يبرهن الله على قوته من خلال انتصار ابنه على الشر! ويقول بعض مفسري الكتاب المقدس من العصور الوسطى ـ إن عدو المسيح يجب أن يكون مسلماً، حيث يرى أصحاب هذه العقيدة أن الله يتوقع عودة اليهود إلى وطنهم، وتلك هي الخطوة الأولى، أن تقوم دولة يهودية، وعلى المسيحيين بعد ذلك أن يبشروا الأمم بعقيدة هرمجيدون بما في ذلك الأمة الصهيونية (1) ".
التفسير السياسي للتوراة
هكذا تخطط الصهيونية لإيقاع العالم في حرب شاملة، وفتنة اسمها (هرمجدون)، وهي مقتلة أسطوريه وصليبيه يحارب فيها العالم المسلمين حرب فناء، وتسيل فيها دماء المسلمين أنهاراً لا تتوقف حتى ينزل المسيح من السماء .. (واليهود يعتقدون أن ما جاء في الماضي لم يكن مسيحاً) وانما المسيح الحق هو ذلك الذي سوف يأتي لنصرتهم كي يتوجهم في آخر الزمان على رأس جميع الأمم .. وبخبث شديد ادخل الصهاينة هذه الأسطورة في التراث المسيحي الأمريكي، وبشكل محدد في وجدان بعض الفرق الإنجيلية، فأصبحت تؤمن بها إيماناً أعمى، وكان (دونالد ريجان) يردد حكاية (هرمجدون) ويؤمن بها، ومثله كثيرون.
مما تقدم يتضح لنا أن المشهد الديني في الصراع العربي الصهيوني، هو عامل حاسم في هذا الصراع تكويناً ومساراً، وقد آن الأوان لقراءة هذا المشهد وتحليل وقائعه، وتأثيراته، والتعامل معه، وبخاصة أن مخاطره تتجاوز المسائل اللاهوتية،
_________
(1) يد الله ـ جريس هالسيل - ترجمة محمد السماك ـ ص41(1/322)
الموضوعة شروحها في قوالب عبرانية، كما تتعدى حدود الكنائس إلى مطابقة الفكر والمعتقدات النبوئيه التوراتية على الأحداث السياسية الجارية، المتعلقة بالصراع العربي مع المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني الإحلالي العنصري، وذلك بإخضاع كل القيم السماوية والأرضية لإمتيازات خاصة بجماعة معينه من البشر، ومن ثم فان هذه المعتقدات المتهودة، هي إنكار لمثل العدل ومحبة الفرد الإنساني الواردة في تعاليم الأديان السماوية (1).
"وإذا صح القول بأن ما كانت ترمى إليه الحملات الصليبية في العصور الوسطى، هو تنظيم العالم بحسب ما يمليه الكتاب المقدس، فإنه يصح القول أيضاً ـ بأن ـ ما يرمى إليه الصليبيون الجدد في القرن العشرين هو إعادة تنظيم الشرق المتوسطى، بل والعالم، بحسب ما يمليه الكتاب المقدس، بحيث يتوافق مع رؤية اليمين الأصولي المسيحي للنظام العالمي الجديد، الذي وضعته مؤخراً زعيمة الإمبريالية الحديثة ـ الولايات المتحدة الأمريكية" (2).
يقول (شفيق مقار) في مقدمة كتابه (قراءة سياسية للتوراة): "الدارس للتوراة، بل وللعهد القديم كله، الذي تشكل التوراة أسفاره الخمسة الأولى، لا يمكن أن يغيب عنه انشغال من كتبوا تلك الأسفار بملكية الأرض، ونهب الثروة، وإقامة الملك على أشلاء الشعوب، التي تؤخذ أراضيها وتنهب ثرواتها. والكتاب إذ يحاول أن يستنطق التوراة، فيجعلها تفصح عما فيها من مضامين سياسية، ومطامع إقليمية ظلت تتسع رويداً من تملك كل الأرض من النيل إلى الفرات، فباتت في ختام العهد القديم طموحاً إلى تملك العالم بأسره في ظل حكم صهيون (حاكمة الأمم). الكتاب إذ يحاول ذلك ـ يستظهر مخططات قديمة خطرة (على اليهود كبشر، وعلى العالم بأسره) وأنماط سلوك وأفكار مدمرة بذرت بذورها من أزمنة سحيقة بأيدي ساسة وقادة عسكريين كهان، باسم الدين، وبادعاء أن الله ـ على ما يدعون ـ هو الذي وضعها في أيديهم والزمهم بتسميم تربة العالم بها، ليجنى ثمارها شعب اصطفاه
_________
(1) الصهيونية المسيحية .. أصولها ونشأتها د. يوسف الحسن ـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672
(2) الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي - جورجى كنعان ـ ص181ـ183(1/323)
لنفسه شعباً أخص دون سائر خلقه" (1). وهذه الرغبة في السيطرة على الأرض التي سطرها حاخامات اليهود في توراتهم، ليست ببعيدة عما يخطط له الصهاينة في العصر الحاضر، بل لا نجاوز الصواب إذا قلنا أن كل من يريد فهم ما يرجى وما يراد بالمنطقة، لا بد أن يطلع بداية على ما حوته التوراة من خطط قديمة لشعوب المنطقة، ودعونا نقارن المخططات المعاصرة بما حوته التوراة اليهودية.
مصير العرب
يدرك اليهود والأصوليين الأمريكيون أن البحر البشرى الضخم الذي يفترش الأرض التي لم تنتقل ملكيتها بعد لليهود، هم العرب والمسلمون .. كما يعرفون أن يهوه أمر منذ زمن ارميا: "بهلاك كل ممالك الأرض التي على وجه الأرض "وحدد بالاسم ... كل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية" (ارميا 25:24ـ26).
مصير مصر
كشفت مقالة نشرتها مجلة كيفونيم (توجهات)، التي تصدرها (المنظمة الصهيونية العالمية) في القدس، عن خطط إسرائيل الاستراتيجية في عقد الثمانينات وما بعدها، تجاه المنطقة العربية، ومما جاء فيها بشأن مصر: "لقد غدت مصر، باعتبارها كياناً مركزياً، مجرد جثة هامدة، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار المواجهات التي تزداد حدة بين المسلمين والمسيحيين. وينبغي أن يكون تقسيم مصر إلى دويلات منفصلة جغرافياً هو هدفنا السياسي على الجبهة الغربية خلال سنوات التسعينات. وبمجرد أن تتفكك أوصال مصر وتتلاشى سلطتها المركزية، فسوف تتفكك بالمثل بلدان أخرى، مثل ليبيا والسودان وغيرهما من البلدان الأبعد ... ومن تم فإن تشكيل دولة قبطية في صعيد مصر، بالإضافة إلى كيانات إقليمية
_________
(1) قراءة سياسية للثوراة - شفيق مقار - ص9ـ10(1/324)
أصغر وأقل أهمية، من شأنه أن يفتح الباب لتطور تاريخي لا مناص من تحقيقه على المدى البعيد، وان كانت معاهدة السلام قد أعاقته في الوقت الراهن" (1).
وهنا نرى أن توقيع مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل لم تشفع لها وتستثنيها من مخططات اليهود والصهاينة المسيحيون، الذين يدركون أن هذه الاتفاقية ليست إلا فتره للهدنة، ليتمكنوا خلالها من الانقضاض على الدول العربية دولة بسبب عزل مصر عن محيطها العربي، باعتبارها تشكل مركز الثقل في المواجهة، ليأتي حسابها الكبير بعد ذلك تنفيذاً لأوامر التوراة اليهودية للانتقام من المصريين، الذين اضطهدوا اليهود وأخرجوهم من مصر. هذه هي خطط الصهيونية الاستراتيجية تجاه مصر والسودان وليبيا، والتي تبدو كتطبيق حرفي لما ورد في التوراة في مواضع كثيرة، وتعالوا نقارن ..
نبوءة بشأن مصر
احتلت مصر مكاناً مركزياً في التفكير اليهودي، لاسباب متعددة منها الحضاري والسياسي والدينى، حيث كانت الحضارة المصرية القديمه من اعرق الحضارات التى ظل بنو اسرائيل يحسدونها على ما وصلت اليه من ازدهار وقوه انعكس على نفوذها وسلطانها في المنطقة كلها، بينما كان اليهود مجرد قبائل رحل لا دور حضاري لهم. يضاف إلى ذلك ان مصر شهدت نزوح اليهود اليها، ثم خروجهم من ارض مصر بقيادة النبي موسى، وتيههم "في الأزمنة الأخيرة لإسرائيل، زمن أنبياء ارميا واشعيا، وقبل زمن من تدمير الهيكل على يد طيطس الروماني وتشتيتهم في بقاع العالم، وقف أنبياء إسرائيل على عتبات النهاية، يتنبأون بعودة المجد السليماني، وقيام دولة إسرائيل مره أخرى، وأنها حينذاك ستسود العالم، لكن قيامها كان يشترط أولاً وأخيراً خراباً تاماً لمصر وإذلالاً لها، وهو ما يفصح عن التكوين النفسي والعقلي ومدى التشوه، الذي لحق بنفوس القوم تجاه مصر" (2).
_________
(1) مجلة كيفونيم، القدس، العدد 14 فبراير 1982ص49ـ59 نقلا عن كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية- روجيه جارودى ص271 - تقديم محمد حسنين هيكل - دار الشروق- ط1 1998
(2) رب الزمان - سيد محمود القمني - ص 44(1/325)
"فاليهود لم تستند على أعتاب صدورهم أو تطرق أبواب نفوسهم القيم الإنسانية، والفضائل الخلقية، كإطعام الجائع، وإعطاء المحتاج، وحماية الخائف، التي كان المصري القديم يقدسها معتقداً أنها الأساس في حياته، وفي مماته أيضاً. وعلى النقيض كان بنو إسرائيل في الأخلاق والسلوك. فقد عبروا عن محبتهم وحسن معاملتهم بطوفان من الحقد العنصري المرير، واغرقوا به المصريين الذين فتحوا لهم قلوبهم بمحبة وأبوابهم بالكرم، واسكنوا الرعاة الجياع في أرضهم الخيرة المعطاء، وقابلوا هذه المعاملة الحسنة بسلوك فريد من الحيل والدهاء والمكر والحقد والغدر. فمن جهة استغلوا ثقة المصريين وطيب قلوبهم وكرم ضيافتهم ونقاء سرائرهم وصفاء نواياهم، وائتمروا ليلة عزموا على الخروج من مصر أن "يطلب كل رجل من صاحبه، وكل إمرأة من صاحبتها أمتعة فضه وأمتعة ذهب ... ليكون حين تمضون أنكم لا تمضون فارغين" (سفر الخروج)، كما قال لهم اللههم. ومن جهة أخرى رموا أو رمى إلههم مصر بتلك الضربات الرهيبة، التي يقشعر لهولها الضمير، ويذهل لحقدها الفكر، وتشحب بجوارها أفظع قصص الرعب" (1).
ويعبر يهوه الرب عن حقده اللاهب على مصر بكلمات يصغر عما فيها من صور حاقدة شائنة ملتاثه، كل ما في الدنيا من كلمات البذاءة والتوقح والذم والتحقير. يقول اشعياء: "ها هو الرب قادم إلى مصر يركب سحابة سريعة (2)، فترتجف أوثان مصر في حضرته، وتذوب قلوب المصريين في داخلهم. وأثير مصريين على مصريون فيتحاربون، ويقوم الواحد على أخيه، والمدينة على المدينة والمملكة على المملكة، فتذوب أرواح المصريين في داخلهم، وأبطل مشورتهم، فيسألون الأوثان والسحرة وأصحاب التوابع والعرافين. وأسلط على المصريين مولى قاس، فيسود ملك عنيف عليهم. هذا ما يقوله الرب القدير. وتنضب مياه النيل، وتجف الأحواض وتيبس. تنتن القنوات، وتتناقص تفرعات النيل وتجف، ويتلف القصب والأسل. وتذبل النباتات على ضفاف نهر النيل والحقول والمزروعات كلها تجف، وكأنها لم
_________
(1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص148
(2) يفسر بعض المسيحيون قوله في إنذار مصر: (هو ذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر) أن المسيح ـ الذي هو الرب ـ قد وصل إلى مصر وهو طفل يرضع على سحابة. راجع عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص222(1/326)
تكن مخضرة. فيئن الصيادون وطارحو الشصوص في النيل وينوحون ويتحسر الذين يلقون شباكهم في المياه. ويتولى اليأس قلوب الذين يصنعون الكتان الممشط، ويفقد حائكو الكتان الفاخر كل أمل. ويسحق الرجال، أعمدة الأرض، ويكتئب كل عامل أجير".
ويضيف اشعياء فيقول: "رؤساء صوعن حمقى، ومشورات فرعون غبية. كيف تقولون لفرعون نحن من نسل حكماء، وأبناء ملوك قدامى؟ أين حكماؤك يا فرعون ليطلعوك على ما قضى به الرب القدير على مصر؟ قد حمق رؤساء صوعن وانخدع أمراء نوف وأضل مصر شرفاء قبائلها. جعل الرب فيها روح فوضى، فأضلوا مصر في كل تصرفاتها، حتى ترنحت كترنح السكران في قيئه. فلم يبق لعظمائها أو أدنيائها ما يفعلونه فيها. في ذلك اليوم يرتعد المصريون كالنساء خوفاً من يد الرب القدير، التي يهزها فوقهم. وتغدو أرض يهودا مثار رعب للمصريين، فيعتريها الفزع من ذكرها، لأن الرب القدير قد قضى قضاءه على مصر" (اشعياء 19، 1ـ17). ثم يؤنب اشعيا بني جلدته الذين يلجأون إلى مصر وفيئها في الملمات، ويقول: "ويل للبنين المتمردين .. الذين يذهبون إلى مصر للمعونة .. ليلتجئوا إلى حصن فرعون، ويحتمون بظل مصر، فيصير لكم حص فرعون خجلاً، والاحتماء بظل مصر عاراً" (سفر اشعيا الإصحاح 30).
ويقول يهوه بلسان حزقيال: "هأنذا عليك يا فرعون ملك مصر، فاجعل حذائي في فكيك، أتركك في البرية، بذلتك طعاماً لوحوش البر ولطيور السماء. هاأنذا اجلب عليك سيفاً واستأصل منك الإنسان والحيوان وتكون ارض مصر مقفرة خربة واجعل أرض مصر خرباً خربة مقفرة، لا تمر فيها رجل إنسان ولا رجل بهيمة أشتت المصريين بين الأمم وأبددهم في الأراضي" (1). أما ارميا فقد وقف يعبر عن مكنون كل إسرائيلي تجاه مصر (2) في قوله: "اخبروا مصر، واسمعوا في مجدل، واسمعوا في نوف (منف) وفي تحفنيس، قولوا انتصب وتهيأ الآن، لأن السيف يأكل حواليك ..
_________
(1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص144
(2) رب الزمان - سيد محمود القمني - ص 45(1/327)
نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك .. نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن .. هاأنذا أعاقب آمون نوف وفرعون مصر وآلهتها والمتوكلين عليه" (سفر ارميا الإصحاح 46).
هذا هو مصير مصر كما تريده التوراة اليهودية الحاقدة، وغيره الكثير الذي يعمل الصليبيون الجدد على إخراجه إلى ارض الواقع، والذي لا يقل عما جاء بحق بابل وآشور والفلسطينيين، لأن مصر احتلت مكاناً خاصاً ورئيساً في الفكر اليهودي، وذكريات الخروج من مصر والتيه في سيناء ... الخ، سجلها اليهود في ثوراتهم الحاقدة، وتوعدوا المصريين بالدمار والقتل وكل أصناف الويلات كما جاء في النص السابق. فمن الحرب الأهلية وتقسيم مصر .. إلى أبطال المشورة وتسليط ملك قاس على المصريين، بل يصل الحقد اليهودي على مصر إلى حد تمنى جفاف مياه النيل وتلف الضرع والزرع.
واعتقد أنه ليس صدفة أن تتطابق هذه الرؤية التوراتية مع ما جاء في التقرير السالف الذكر، وما يخطط لمصر على أرض الواقع. فالمحاولات الإسرائيلية الأمريكية لخلق فتنة طائفية في مصر على أشدها، .. وإسرائيل وصلت إلى بوابة البحر الأحمر في جزيرتي حنيش الكبرى والصغرى، وهي تثبت أقدامها في أعالي النيل ومنطقة البحيرات. وفي المستقبل القريب سوف يدور الصراع حول المياه .. والنيل والبحيرات هي المخزن الاستراتيجي الهائل لمصر وللأمة العربية، وقد بدأت أولى فصول المؤامرة على مياه النيل بإعلان بعض الدول الأفريقية رغبتها في إعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل، حيث ستكون مصر والسودان من اكبر المتضررين من ذلك.
وفي نفس السياق يتم تهديد الحدود الجنوبية لمصر وهى السودان، من خلال ما يحدث في الجنوب، وفي الشرق في دارفور وأريتريا، حيث الأيادي الصهيونية الأمريكية واضحة في كل ما يحدث هناك من مؤامرة كبرى ليس على السودان فقط، بل على مصر أيضاً وعلى الأمة بأكملها. وكان المفروض أن تفيق الأمة وان تتقارب وتتوحد، ولكنا نقرأ العكس، (اسياس افورتي) يفتح معسكرات تدريب لجون قرنق(1/328)
ولجيش المعارضة، الذي يعده الصادق المهدي (1)، ونحن نحارب بعضنا بعضاً، بل وتقف بعض الدول العربية موقف المتفرج من التمرد المدعوم إسرائيلياً وأمريكياً في الجنوب، بل وتستقبل قادة التمرد وتعقد المفاوضات معهم.
وهنا لابد أن نشير إلى أن توقيع مصر لاتفاقية السلام، وتعاون قيادتها التام مع أمريكا في مجالات عديدة لن يشفع لمصر، وسيأتي اليوم الذي سينقلب فيه أصدقاء اليوم إلى أعداء، كما حدث مع كثير من الدول قديماً وحديثاً، والمسألة ليست إلا استفراد بالدول العربية واحدة تلو الأخرى، ولكن المصير واحد كما حددته التوراة الحاقدة، بل أن أحقاد اليهود ومؤامراتهم، وصلت إلى درجه تمنى أن يتم ضرب الدول العربية بعضها ببعض كما حدث في العراق.
دينونة مصر بيد ملك بابل
لم يبخل النبي حزقيال على مصر، وهو يوجه كلام الرب الإسرائيلي إلى الفرعون المقبل حيث يقول: "وأوحى إلي الرب بكلمته قائلاً: يا ابن آدم، تنبأ وقل: هذا ما يعلنه السيد الرب: ولولوا قائلين: يا لليوم الرهيب! إن يوم الرب بات وشيكاً، يوم الرب قريب، إنه يوم مكفهر بالغيوم، ساعة دينونة للأمم، إذ يجرد سيف على مصر، فيعم الذعر الشديد أثيوبيا، عندما يتهاوى قتلى مصر، ويستولى على ثروتها، وتنقض أسسها. ثم تسقط معهم بالسيف أثيوبيا وفوط ولود وشبه الجزيرة العربية وليبيا وشعوب الأرض المتحالفة معهم. حقاً يسقط مناصر مصر، وتذل كبرياء عزتها، فيتهاوى بالسيف سكانها من مجدل إلى أسوان، يقول السيد الرب. فتصبح أكثر الأراضي المقفرة وحشة، وتضحي مدنها أكثر المدن خراباً! فيدركون إني أنا الرب حين أضرم ناراً في مصر، وينهار جميع حلفائها. في ذلك اليوم يسرع رسلي إلى أثيوبيا المطمئنة ليثيروا فيها الرعب في يوم هلاك مصر، الذي لابد أن يتحقق.
لأني سأفني جماهير مصر بيد نبوخذ نصر ملك بابل. إذ يقبل هو وجيشه، أعتي جيوش الأمم، لخراب ديار مصر، فيجردون عليها سيوفهم، ويملأون أرضها بالقتلى. واجفف مجاري نهر النيل، وأبيع الأرض لقوم أشرار، وأخرب البلاد فيها بيد غرباء. أنا
_________
(1) إسرائيل البداية والنهاية ـ د. مصطفى محمود ص35(1/329)
الرب قضيت. تم أحطم الأصنام وأزيل الأوثان من ممفيس، ولا يبقى بعد رئيس في ديار مصر، والقي فيها الرعب. وأخرب فتروس، وأضرم ناراً في صوعن، وأنفذ إحكاما في طيبة. وأصب غضبي على سين حصن مصر، وأبيد أهل طيبة. وأضرم ناراً في مصر، فتقاسي سين أشد الألم، وتتمزق طيبة شر تمزيق، وتتعرض ممفيس للرعب في كل يوم. ويتساقط بالسيف شبان آون فيبسته، ويسبى بقية سكانها. ويظلم النهار في تحفنحيس، عندما أحطم أنيار مصر هناك، وتتلاشى كبرياء عزتها. أما هي فتغشاها سحابة وتسبى بناتها. وهكذا أنفذ أحكاماً في مصر، فيدركون أني أنا الرب" (1).
فهذا الحقد الذي صبه حزيقيال على مصر ليس إلا جزء يسير مما امتلأت به التوراة اليهودية الحاقدة، والتي يسعى اليهود والأصوليين المسيحيون إلى إخراجها إلى أرض الواقع، حيث أن أهم ما في النص التوراتي السابق هو إشارته إلى أن دمار مصر سيكون على يد ملك بابل، أي العراق. وبالطبع هذا الأمر ليس مستبعداً في ظل الوضع الحالي في العراق، والتي وصلت فيه حكومة عميله للاحتلال لسدة الحكم، مستعدة لعمل أي شيء، حيث لاحظنا محاولاتها المستمرة للتمحك بسوريا كمقدمه لجرها لحرب لتدميرها حسب الأجندة الصهيونية. كما أن موقف القيادة المصرية، التي يعتبره كثير من العراقيين والعرب، بأنه كان متآمراً بصورة فاضحة مع الأمريكان منذ بداية غزو الكويت، وحتى احتلال بغداد، يمكن أن يسهل حدوث مثل هذا الأمر مادام الجميع يتم توجيههم في النهاية من واشنطن وتل أبيب لتطبيق السيناريو التوراتي المعد مسبقاً بغض النظر عن كل اتفاقيات السلام التي وقعت مع بعض الحكومات العربية، والتي سيكون مصيرها كمصير اتفاقية غزه أريحا، والتي ضربت بها إسرائيل وأمريكا عرض الحائط، لأن التوراة منذ البداية حددت مصير أريحا المدينة الملعونة، كما جاء على لسان السفاح يوشع: "ملعون الرجل الذي يبنى هذه المدينة، وليفقد بكره حينما يضع أساسها ويفقد أبناءه عندما يضع أبوابها .. فهي المدينة الملعونة "أريحا" لا تسكنوها " (2).
_________
(1) سفر حزقيال - 30
(2) سفر يوشع الإصحاح 6/ 26(1/330)
إلى هذا الحد يصل التطابق بين النصوص التوراتية، والممارسات على ارض الواقع، وربما هذا ما كشفه احد القادة الصهاينة، عندما قال: أننا نطبق على العرب بروتوكولاتنا حرفياً .. فعقولهم بأيدينا ... لأن غزونا الثقافي لهم أهم من غزونا العسكري ... ولن يأتي عام 2000م، حتى تكون المنطقة مهيأة لمليكنا المنتظر" (1). فنحن أمام دولة غادرة معتدية لا ذمة لها ولا عهد ولا ميثاق. لقد مزقت ميثاق مدريد واتفاق اوسلو، وهجمت بجرافاتها على أسوار القدس، وهي تمارس البلطجة في حماية الراعي الأمريكي رئيس الكون .. فماذا يمنعها من خرق كامب ديفيد واكتساح سيناء؟ (2). فالرؤية الإسرائيلية للعملية السلمية عبر عنها أحد الجنرالات الإسرائيليين، باعتبارها جزءا من الحرب ليس إلا. فهذا الجنرال يقول لمراسل صحيفة بوسطن غلوب الأميركية " ... بهذه الطريقة نقلب منطق (كلاوس فيتز) رأساً على عقب, حيث نجعل من الدبلوماسية حرباً لكن بوسائل أخرى". هذا هو جوهر الرؤية الإسرائيلية لـ "العملية السلمية"، فهي عملية استثمار في الوقت لإتاحة المجال للإستراتيجيات الحربية والعسكرية، لأن تكرس نفسها وتستمر في إذلال الآخرين (3).
هذا هو توهمهم .. ومن أجله يعملون .. وعنه لا يحيدون مهما كانت الحوائل والعقبات .. ولذا فإن مناداتهم بالسلام لا تكف عن النعيق .. إنه في نظرهم سلام .. ولكنه السلام المشوب بالحذر والترقب .. السلام الذي لا يعطل لهم عملاً، ولا يوقف لهم خطة، ولا يؤثر في مشاريع التوسع .. وهم ينطلقون في هذا من قاعدة عريضة هي قاعدة (أحلام اليقظة) في عالم ملئ بالمتناقضات، يحكمه المنجمون والعرافون، وتحدد مساره نبوءات بنى صهيون التي دفعت اليهود إلى التعجيل باتفاقية غزة أريحا أولاً" (4).
_________
(1) جريدة يدعوت احرنوت الإسرائيلية 1968
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص113
(3) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين المؤلف: نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز
(4) اريحا المدينة الملعونة -ماذا يخطط اليهود لفلسطين حتى عام 2000؟ من محمد عزت محمد عارف- ص33 - دار الاعتصام, 1994(1/331)
ريجان وليبيا
في ضروب الهذيان التي امتلأت بها أدمغة المتنبئين والعرافين اليهود، واكتظت بنتائجها صفحات العهد القديم، كان هذيان عن "لهابيم" (ليبيا الآن)، وكيف أن لهابيم هذه من الأمم الكثيرة التي ستزحف جيوشها على أورشليم المدينة المحبوبة، وعلى أرض إسرائيل أمة القديسين (1). وهنا يروى (جيمس ملز) الذي كان رئيساً لمجلس شيوخ ولاية كاليفورنيا ـ ضمن مقالة نشرتها له مجلة (سان رييجو ماجازين) في أغسطس 1985م: أن ريجان سأله أثناء مأدبة حضرها، عما إذا كان قد قرأ الفصلين (38، 39) من (حزقيال)، فأكد ملز لريجان أنه قد قرأ بالفعل، وناقش فقرات حزقيال التي تتحدث عن يأجوج ومأجوج، وعندئذ تحدث ريجان بحرارة عن تحول ليبيا إلى الشيوعية!! وأصر على أن هذا علامة تدل على أن يوم معركة مجدو ليس ببعيد، "لأن تحول هذه الدولة إلى الشيوعية يجعلها من القوى الشريرة، التي ستنضم مع الجيش الشرقي الكبير ضد إسرائيل".
ثم قام (ملز) بتذكير ريجان بأن حزقيال قال أيضاً: "إن الحبشة ستكون بين القوى الشريرة، فقال ريجان: "إنني أوافق أن كل شيء لم يأخذ مكانه بعد، ولكن لم يبقَ إلا حدوث هذا الشيء فقط، إذ يجب أن يسيطر الحمر على أثيوبيا! " وعندما قال ملز: "إنه لا يعتقد أن هذا أمر مرجح"، قال ريجان: "اعتقد بأن هذا أمر لا مفر منه، إنه ضروري لتحقيق النبوءة القائلة بأن أثيوبيا ستكون من الأمم الكافرة التي ستقف ضد إسرائيل" (2).
وبالطبع فإنه من المستحيل إثبات العلاقة بين المعتقدات المعلنة من هذا النوع، وبين عمل قد يقدم عليه الرئيس باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة. فالكثير من الناس لديهم معتقدات دينية ليس لها تأثير واضح على أعمالهم الرسمية، ولكن يبدو أن هذا لا ينطبق على الرئيس الممثل (رونالد ريغان)، فمنذ عام
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص386
(2) النبوءة والسياسة - جريس هالسيل ص48(1/332)
1986م والجماهيرية الليبية تعتبر العدو الدولي الأول بالنسبة لريغن. ولكن هل كان لذلك التصور علاقة بتفسير ريغان لنبوءات التوراة؟.
حسب رواية (جيمس ميلز)، فإن ريغن كان يكره الجماهيرية الليبية باعتبارها أحد أعداء (إسرائيل) الذين تذكرهم النبوءة، وبالتالي فإنها عدوة يهوه. ويذكر جيمس ميلز في عدد آب 1985م من مجلة (سان رييجو) أنه في حفل عشاء أقيم عام 1971م ساكرامنتو ـ كاليفورنيا على شرف ريغن حاكم الولاية آنذاك، بدأ ريغن فجأة بالتحدث مع جيمس ميلز الجالس بجانبه حول نبوءة الكتاب المقدس، وحتمية الحرب ضد الاتحاد السوفيتي، (الذي يمثل يأجوج ومأجوج في الكتاب) في حرب عظيمة مدمرة نسبة إلى هرمجدون. ويذكر (جيمس ملز) أن (ريغن) قال له بحدة: إن الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر حزقيال ينص على أن أرض إسرائيل ستتعرض للهجوم على يد جيوش الأمم الكافرة، وعلى أن ليبيا ستكون بين هذه الدول، وتابع ريغن هل تفهم ذلك؟ إن ليبيا الآن شيوعية، وهذا دليل على أن يوم هرمجدون ليس ببعيد. ويبدو أن ريغن بقى متمسكاً بمثل هذه القناعة حتى عام 1986م" (1).
وهنا يتضح أنه عندما ضرب ريجان ليبيا عام 1986م بحجة تفجير (كباريه) أمريكي في ألمانيا، كان الهدف الوحيد هو إضعاف ليبيا قبل دخولها المعركة ضد إسرائيل، التي سيقودها المسيح، حيث تدلل حالة الرئيس العصبية الحرجة أيام رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية، وما أمر به من قصف للأحياء في الجماهيرية الليبية، وما استخدمه من أسلحة أمريكية متطورة في لبنان عن طريق قوات الغزو الصهيوني العنصري، على همجية محاولات الاختبار (الهرمجدونية) التي كان يعتقد بها (ريغن). وكيف أن هذه المحاولات المدمرة قد باءت بالفشل، وانتهت بالبوار والخسران؟!.
"ففى حالة ليبيا، عندما تسلط حزاذ حزقيال على رأس المستر ريجان، كان المطلب الرئيس لإطلاق الكراهية من عقالها متوفراً، وهو كون ليبيا (ايراب)، أي عرب. أما المبرر الأخلاقي، أي الشرارة المشعلة لفتيل تفجير الكراهية فكان الإرهاب.
_________
(1) النبوءة والسياسة - ص18(1/333)
بطبيعة الحال، لم يقف (ريغان) ليقول للعالم انه كره ليبيا، لأنها (عدوة الله)، ومن الأمم التي رأى حزيقيال أنها ستزحف بجيوشها المتحالفة مع جوج ومأجوج لتحارب إسرائيل أو معركة هرمجيدون، لا لشئ إلا لان خبراء وزارة الخارجية الأمريكية أوعزوا إلى من كان لهم تأثير عليه أن يقنعوه بالا يقول ذلك. ولذا استعيض عن حكاية هرمجيدون بمسألة الإرهاب. فذلك مبرر سامق ومقبول دولياً بما فيه الكفاية، ويصلح كساتر جيد لعملية اغتيال أمه تحت غطاء الدفاع عن الحضارة كما نعرفها، وإعلاء حكم القانون الدولي، في غمار توجيه ضربه وقائية إلى أمه اعتقد رئيس الولايات المتحدة إنها ستكون من الأمم (التي كرمل البحر) التي ستسير في صفوف يأجوج ومأجوج، أو يوم الهول الكوني لتحارب إسرائيل" (1).
تقسيم لبنان
إذا كان هذا هو ما تخبأه التوراة لمصر وليبيا، والتي يسارع الأصوليين المسيحيون وصناع القرار في أمريكيا إلى أخرجه إلى أرض الواقع، فإن نصيب لبنان في هذا المجال لا يقل عن ذلك، حيث يتوعد التقرير السالف الذكر لبنان بالقول: "بالرغم مما يبدو في الظاهر، فإن المشكلات في الجبهة الغربية أقل من مثيلتها في الجبهة الشرقية. وتعد تجزئة لبنان إلى خمس دويلات .. بمثابة نموذج لما سيحدث في العالم العربي بأسره" (2). أما لماذا وكيف؟ .. فقد أجاب الغزو الصهيوني الأمريكي الهمجي، المتكرر على لبنان، ومحاولات تقسيمه إلى دول طائفية، علي هذا السؤال منذ فتره، والجميع يعرف قصة هذا الغزو الإجرامي واندحاره علي يد المقاومة اللبنانية البطلة. أما لماذا؟ فكما قلنا سابقاً فلنبحث في ثنايا التوراة اليهودية الحاقدة ...
_________
(1) المسيحية والتوراة شفيق مقار ص390
(2) مجلة كيفونيم، القدس، العدد 14فبراير 1982ص49ـ59 نقلا عن كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية- روجيه جارودي ص271.(1/334)
نبوءة ضد صور
يقول أشيعياء: "ولولي يا سفن ترشيش، لأن صور قد هدمت، فلم يبقَ بيت ولا مرفأ. تماماً كما بلغكم النبأ وأنتم في أرض قبرص. ... وعندما يذيع النبأ في مصر، يتوجعون لأخبار صور. أعبروا إلى ترشيش، انتحبوا يا أهل الساحل، هذه مدينتكم المبتهجة التي نشأت منذ القدم، والتي تنقلها قدماها للتغرب في أرض بعيدة؟. من قضى بهذا على صور واهبة التيجان، التي تجارها أمراء ومكتسبوها شرفاء الأرض؟ إن الرب القدير هو الذي قضى بذلك، ليحط من كبرياء كل مجد، وليذل كل شرفاء الأرض. أمخرى عباب البحر يا ابنة ترشيش كما يخترق النيل أرض مصر، إذ زال مرفاك من الوجود. بسط الرب يده على البحر، وزعزع ممالك، أصدر أمره على كنعان كي تدمر حصونها، وقال: "لن تعودي تعربدين أيتها العذراء، التي فقدت شرفها، يا بنة صيدون هبي واعبري إلى قبرص، ولكنك لن تجدي هناك راحة".
"تأملي في أرض الكلدانيين وانظري إلى شعبها، فهم وليس الأشوريون الذين سيجعلون صوراً مرتعاً للوحوش، وسينصبون حولها أبراجهم، ويمسحون قصورها على وجه الأرض، ويحولونها إلى خراب. انتحبي يا سفن ترشيش، لأن حصونك قد تهدمت". "في ذلك اليوم تظل صور منسية طوال سبعين سنة، كحقبة حياة ملك واحد، وفي نهاية السبعين سنة يصيب صور مثل ما جاء في أغنية العاهرة: "خذي عوداً وطوفي في المدينة أيتها العاهرة المنسية. أتقني العزف على العود وأكثري الغناء لعلك تذكرين". وفي نهاية السبعين سنة يفتقد الرب صور، فترجع إلى عهدها، وتزني مع كل ممالك الأرض. أما تجارتها وأجرتها فتصبح قدساً للرب. لا تخزن ولا تدخر، لأن تجارتها توفر غذاء وفيراً، وثياباً فاخرة للساكنين أمام الرب" (اشعياء 23، 1ـ18).
أما لماذا كل هذا الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام التي صبتها التوراة على صور؟ فتجيب التوراة علي ذلك .. لأن صور الشريرة، "قالت على أورشليم هه قد انكسرت، ومصاريع الشعوب قد تحولت إلى. امتلئ إذا خربت (هي) ". (حزقيال 26: 1ـ2). وبطبيعة الحال لم تقل صور ذلك لأحد وبخاصة لحزيقيال القاعد هناك عند(1/335)
نهر الخابور، لكن يهوه قرأ طبعاً ما دار في خلد صور .. وقرر انه سينتقم من صور انتقاماً رهيباً لشماتتها في أورشليم.
والذي حدث هو أن صور لكونها مدينه ساحليه حصينة ظلت بمنجاة عن الاجتياح والاستسلام لغزوات البابليين والآشوريين .. ولهذا كانت صور مصدر حسد لازدهار تجارتها وثرائها. ولهذا قرر حزيقيال أن يهوه سيخرب صور، ويمرغ أنفها في الرغام: لأنه هكذا قال الرب يهوه: "حين أصيرك يا صور مدينة خربة كالمدن غير المسكونة .. وأجلسك في أسافل الأرض أو الخرب الأبدية مع الهابطين في الجب لتكوني غير مسكونة .. أصيرك أهوالاً ولا تكونين، وتطلبين فلا توجدين بعد إلى الأبد يقول الرب يهوه" (حزقيال26:19ـ21). فقد تفجرت كل ضروب الحسد والإحباط والغيظ في دماغ حزقيال وتدفقت كالحمم البركانية لتصب صنوف النقمة وضروب المقت لكل من كانت له يد في رخاء الجار المحسود صور. فالمسألة ضلت باستمرار، مسألة أحقاد واشتهاء، وكراهيات وجشع، صيغت كلها صياغات إلهية، وأضيفت عليها قداسة ظلت نابية لما أغرقت فيه من دنيويات وشراهات إنسانية. ولكن تلك الإلهيات تكتسب، بمرور الزمن، قداسة كثيفة .. وعندما تصل إلى الأجيال اللاحقة، عبر موصل إنسان آخر من موصلات القداسة، تصبح ذات فعل مدمر بحق" (1).
غزو لبنان مستمد من التوراة
إن ضراوة التنبؤات التي صبتها التوراة على صور، يأخذها الأصوليين المسيحيون علي محمل الجد، ويفعلون كل ما بوسعهم لإخراجها إلي أرض الواقع. ففي عام 1983م نظم المبشر (جيرى فالويل) رحلة إلى فلسطين، لإطلاع المسيحيين على الأماكن المقدسة هناك، وخصوصاً الأماكن اليهودية التي تتعلق بالعقائد التوراتية، وهناك نظم لقاءات مع قادة سياسيين ودينيين في إسرائيل، ونظم لهم لقاء مع (موشى أرينز) وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، (وهو كان في السابق سفيراً لإسرائيل في أمريكيا، وولد في أمريكيا)، وحدثهم (أرينز) في ذلك اللقاء فقال: "إن غزو لبنان 1982 كانت بإرادة إلهية، فهي حرب مقدسة، مستمدة من العهد القديم، وهذا يؤكد
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص298 ـ 299.(1/336)
النبوءة، إذ أن هذا الغزو يمكن أن يعنى أن معركة مجدو قد اقتربت". وحينها أصدر الأصوليين بيانا قالوا فيه: "أن معارضي الغزو لا ساميون (السيف المسلط على أي صوت حر)، وأن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، وعن شعبها، بالوسائل التي تراها مناسبة، واتصل (فولويل) الأصولي بمناحيم بيجن وقال له مبروك على النصر الذي جعلنا فخورين بإنتاج الطائرة أف -16 (التي قتلت ألوف الفلسطينيين واللبنانيين وفيهم المسيحيون) " (1).
وفي حزيران / يونيه 1982م وبعد ثلاثة أيام من بدء الغزو الصهيوني العنصري لأراضي لبنان العربية، شرح (بات روبرتسون) الذي يستضيف عرضاً كلامياً يومياً لمدة تسعين دقيقة من خلال برنامجه التلفزيوني بنادي السبعمائة، والذي يصل إلى أكثر من 16 مليون عائلة، أي إلى 19% من مجموع المشاهدين الأمريكيين شرح أهوال معركة هرمجدون الوشيكة، حتى أنه أعاد النبوءة التي أعلنها في كانون الثاني/ يناير 1982م، والتي أكد فيها أن حساب العالم سيحل في خريف 1982م، وأن القضاء النهائي سيحل بالاتحاد السوفيتي. لأنهم سيقومون بمغامرات عسكرية ستجلب نهايتهم!!. وليوضح (بات روبرتسون) نبوءته ذهب إلى السبورة تتبعه آلة التصوير التلفزيونية ليحدد موضع (دول الشرق الأوسط) على الخريطة، معيداً صياغة نبوءة حزقيال بقوله: "في العصور القادمة عندما تتم إعادة تجميع إسرائيل من الأمم، سأتسبب في حدوث شيء ما، هذا الشيء إنني سأضع الكلابات في أفواه التحالف، الذي سيقوده شخص شيطاني، والدول التي ستكون معه هي بيت توغارما (يقصد ارمينيا)، وبوت (يقصد ليبيا)، وروش (يقصد الحبشة) ونحوم (يقصد اليمن الجنوبية)، وفارس (يقصد إيران). وتابع (روبرتسون) قائلاً: كل شيء جاهز، ويمكن حدوثه في أي وقت. ومن المؤكد أن شيئاً كهذا سيحدث بحلول خريف 1982م وبهذا تتحقق نبوءة حزيقيال" (2).
ويضيف روبرتسون: "إن الولايات المتحدة الأمريكية موجودة في نص حزقيال. وإننا ننتظر المعركة النهائية المحتومة". ولقد حذا حذو روبرتسون العديد من
_________
(1) معركة آخر الزمان ونبوءة المسيح منقذ إسرائيل - باسل حسين ص 54ـ55
(2) النبوءه والسياسة - ص28(1/337)
الإذاعيين الذين يبشرون بلاهوت هرمجدون في الإذاعة والتلفزيون ومن على المنابر، وهذا التبشير يتضمن أن الرب كان يعلم منذ البداية، أننا الأحياء اليوم، سندمر كوكب الأرض. ومن الجدير بالذكر أن روبنسون يمتلك محطة وإذاعة تلفزيون الأمل في جنوب لبنان والتي تبث برامجها من منظور لاهوت هرمجيدون، كما أنه شارك مع الجيش الإسرائيلي بقيادة المجرم (شارون) في غزو لبنان" (1).
تقسيم سوريا والعراق وتحطيم قوتهما
حين عجز جماعة بني إسرائيل الصغار الشأن عن قهر الأقوام والأمم، واستعبادها وبالتالي لم يستطع قضاتهم وملوكهم تحقيق وعود يهوه، وتستعر ألسنة الخيبة في صدورهم، صاروا يتلمظون مرارة الفشل الذي ظل يرافقهم دائما. ونهشت أكبادهم ضراوة الذل الذي عانوه (على زعم التوراة) في حياة العبودية في مصر، وفي أرض كنعان. فأوكل أحبارهم أمر النيل من الأقوام، والأمم إلى إلههم يهوه. وقد تمثل الوقوع بهم في أشكال من الضربات، اشتهوا أو تمنوا إنزالها بالأقوام والأمم الأخرى. خذ مثلاً من هذه الضربات قول يهوه (الرب) بلسان النبي أشعيا عن بابل: "انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل. اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين، انك لا تعودين تدعين ناعمة ومترفة. اكشفي نقابك شمري الذيل اكشفي الساق اعبري الأنهار، تنكشف عورتك وتري معاريك .. اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين لأنك لا تعودين تدعين سيدة الممالك".
ويقول رب الجنود: "واقطع من بابل اسما وبقية ونسلا وذرية، واجعلها ميراثاً للقنفذ واكنسها بمكنسة الهلاك. وتصير بابل بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين كتقليب الله سدوم، وعمره لا تعمر إلى الأبد، ولا تسكن إلى دور فدور لا يخيم هناك إعرابي، ولا يربض هناك رعاة، بل تربض هناك وحوش القفر ويملأ البوم بيوتهم، وتسكن هناك بنات النعام، وترقص هناك معز الوحش. وتصيح بنات آوى في قصورهم، والذئاب في هياكل تنعمهم" (2).
_________
(1) الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني - الأب مايكل برير - ترجمة احمد الجمل و زياد منى ص 65
(2) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص137ـ138(1/338)
ومثلاً آخر من هذه الضربات قول يهوه (الرب) عن دمشق بلسان النبي أشعيا: "هوذا دمشق تزال من بين المدن. وتكون رجمة دم مدن عر وعير متروكة، وتكون للقطعان ويزول الحصن من أفرايم، والملك من دمشق وبقية الأمم". ويعبر يهوه (الرب) عن حقده على دمشق بلسان النبي ارميا قائلاً: "ارتخت دمشق والتفتت للهرب. أمسكتها الرعدة وأخذها الضيق، والأوجاع كماخض. يسقط شبانها في شوارعها، ويهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم، يقول رب الجنود وأشعل ناراً في سور دمشق" (1). فبعدما أنذر أشعياء أهل بابل بالهلاك أن لم يؤمنوا في يوم الرب، انذر أهل فلسطين للغرض نفسه. ثم انذر موآب، ثم انذر دمشق. والسؤال هنا: هل بعدما أهلكت أمريكا العراق، وقد أهلكت فلسطين من قبل، سوف تهلك دمشق؟. من المؤكد أن هذا ما تنوي عمله، تطبيقاً للأحقاد التوراتية التي تنبأت بذلك" (2).
وهذا الذي ورد في التوراة صيغ بطريقه أخرى في التقرير الصهيوني السابق الذكر، الذي يقول بشأن سوريا والعراق: "وينبغي أن يكون تقسيم كل من العراق وسوريا إلى مناطق منفصلة، على أساس عرقي، أو ديني، أحد الأهداف الأساسية لإسرائيل على المدى البعيد. والخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف، هي تحطيم القوة العسكرية لهذين البلدين. فالبناء العرقي لسوريا يجعلها عرضة للتفكك، مما يؤدى إلى قيام دولة شيعية على طول الساحل، ودولة سنية في منطقة حلب، وأخرى في دمشق، بالإضافة إلى كيان درزى قد ينشأ في الجولان الخاضعة لنا، وقد يطمح هو الآخر إلى تشكيل دولة خاصة، ولن يكون ذلك على أي حال إلا إذا انضمت إليه منطقتا حوران وشمالي الأردن. ويمكن لمثل هذه الدولة، على المدى البعيد أن تكون ضمانة للسلام والأمن في المنطقة. وتحقيق هذا الهدف في متناول يدنا" (3).
أما عن نصيب العراق فيضيف المقال: "أما العراق، ذلك البلد الغنى بموارده النفطية، والذي تتنازعه الصراعات الداخلية، فهو يقع على خط المواجهة مع
_________
(1) المصدر السابق - ص140
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص221
(3) مجلة كيفونيم، القدس، العدد 14 فبراير 1982ص49ـ59 نقلا عن كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية- روجيه جارودى ص271(1/339)
إسرائيل. ويعد تفكيكه أمراً مهماً بالنسبة لإسرائيل، بل انه أكثر أهمية من تفكيك سوريا، لان العراق يمثل على المدى القريب أخطر تهديد لإسرائيل" (1). وبالطبع لا حاجه بنا إلي مزيد من التوضيح للحقد اليهودي والمسيحي الصهيوني علي العراق، والذي وضحناه سابقاً والذي نشهده منذ 18 سنه على ارض الواقع، والذي يريد المتهود بوش الابن أن ينجز آخر فصوله، التي بدأها والده في بداية التسعينات، بمباركه ودعم بعض الأنظمة العربية، وسنزيد الامر ايضاحاً في الفصول القادمه عند حديثنا عن حرب بوش على العراق.
حقد يهوه على الفلسطينيين
كان حقد يهوه (الرب) على الفلسطينيين نارا آكلة، لا ترحم أحدا، ولا تبقي على شئ. فالرب يمد يده عليهم ويقطع كبرياءهم؟ ويرسل ناره على سور غزة فتأكل قصورها، ويقطع الساكن من اشدود وماسك القضيب من اشقلون، وأرد يدي على عقرون فتهلك بقية الفلسطينيين". ويقول بلسان ارميا: "يصرخ الناس ويولول كل سكان الأرض بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين .. لأن الرب يهلك الفلسطينيين، أتى الصلع على غزة، أهلكت اشقلون، آه يا سيف الرب حتى متى لا تستريح؟ كيف يستريح والرب قد أوصاه على اشقلون؟ وعلى ساحل البحر هناك واعده". وبلسان حزقيال يقول الرب: "هاأنذا أمد يدي على الفلسطينيين .. وأجري عليهم نقمات عظيمة واقطع كبرياء الفلسطينيين". كما يقول بلسان صفنيا: "فتكون اشقلون للخراب، وعقرون تستأصل .. يا كنعان أرض الفلسطينيين إني أخربك بلا ساكن" (2).
نبوءة بشأن أدوم (الأردن)
في عصرنا هذا، حارب اليهود أهل مصر ليأخذوا بثأرهم من فرعون، الذي كان يقتل أبناءهم، ويستحي نساءهم، ثم صرحوا، وهم يعقدون الصلح مع المصريين، بأنهم سوف ينصرفون عنهم من الآن إلى العراق، ليأخذوا بثأرهم من نبوخذ نصر،
_________
(1) المصدر السابق
(2) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص141(1/340)
الذي ضرب عليهم الذلة والمسكنة" (1). أما بالنسبة للأردن فقد قرر كهنة اليهود منذ القدم بأنهم سيأخذون بثأرهم من أرض بابل، وهي العراق ومن أرض أدوم ومؤاب وبني عمون، وهي الأردن. وانظر إلى قولهم في المزمور المائة والسابع والثلاثين: "اذكر يا رب لبني أدوم يوم أورشليم القائلين: هدوا .. هدوا حتى إلى أساسها. انه يقول: لما جاء نبوخذ نصر ملك بابل ليخرب أورشليم كان أهل أدوم ومؤاب شامتين في اليهود وفرحين بعذابهم". والمقصود بأدوم هم سكان الأردن، أو العرب بني إسماعيل عليه السلام؟ (2).
وهنا يغرق يهوه (الرب) بنهر من الحقد والضغينة على مؤاب وعمون، فيقول بلسان النبي اشعيا: "خربت مؤاب بنهر، وهلكت .. في كل رأس منها قرعة. كل لحية مجزوزة. في أزقتها يأتزون بمسح. وعلى سطوحها، وفي ساحاتها يولول كل واحد منهم سيالاً بالبكاء. وتكون بنات مؤاب كطائر تائه كفراخ منفرة، تولول بنات مؤاب على مؤاب كلها يولول ويداس مؤاب في مكانه، كما يداس التبن في ماء المزبله .. وصرح ارتفاع أسوارك يخفضه يضعه يلصقه الرب بالأرض إلى التراب". وعن ربة بني عمون (عمان الأردن الحالية) يقول الرب بلسان أرميا: "وتصير ربة بني عمون خراباً. وتحرق بناتها بالنار. اصرخن يا بنات ربة. وتنطق بمسوح اندبن وطوفن بين الجدران، لأن ملكهم، يذهب إلى السبي هو وكهنته ورؤساؤه معا. هاأنذا اجلب عليك خوفاً من جميع الذين حواليك وتطردون .. وليس من يجمع التائهين".
وبلسان حزقيال يقول الرب: "هاأنذا أمد يدي عليك، واسلمك غنيمة للأمم. واستأصلك من الشعوب وأبيدك من الأرض". وبلسان عاموس، قال الرب: "أضرم ناراً على سور ربة فتأكل قصورها. ويفيض حقد يهوه (الرب) على مملكة أدوم كنهر لا تستوعبه ضفتاه". ويقول يهوه بلسان اشعيا: "هوذا على أدوم ينزل الرب .. للرب سيف قد امتلأ دماً .. إن للرب ذبيحة في بصرة، وذبحاً عظيماً في أرض أدوم .. إن
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص84
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقاص91(1/341)
للرب يوم انتقام .. وتتحول انهار أدوم زفتاً وتربها كبريتاً، وتصير أرضها زفتاً مشتعلاً ليلاً ونهاراً، لا تنطفئ إلى الأبد، يصعد دخانه من دور إلى دور تخرب" (1).
نبوءة بشأن الجزيرة العربية
بالرغم من أن كثير من حكام العرب، كانوا ولا يزالون خدم للاستعمار والصهيونية، ومكنوا للأمريكان والبريطانيين من السيطرة علي أرض العرب، بداية من تآمرهم علي الخلافة الإسلامية، ومروراً بخيانة وتآمر بعضهم وتعاونهم الكامل مع أعداء الأمة، ومحاربة كافة المشاريع الوحدوية والنهضوية للأمة العربية، وأخيراً تآمرهم الواضح والفج على العراق الشقيق. بالرغم من كل ذلك لا يخفي البريطانيون والأمريكان والصهاينة كراهيتهم واحتقارهم لهؤلاء. فهذا (لورانس) عميل المخابرات البريطانية في الجزيرة العربية خلال الحرب العالمية الأولى، والذي لقبوه زورا وبهتانا لورنس العرب، يقول: "كم أتعبني هؤلاء العرب، أنهم تجسيد للساميين المنحطين، أن العقل العربي شاذ وغارق في الظلمة والكآبة والاعتزاز المفرط بالنفس، ويفتقر إلى قواعد المنطق". وعن دوره في قيادة الثوار العرب ضد العثمانيين، كتب يقول: "بما أنني لست مغفلاً فقد كان واضحاً منذ البداية انه في حال فوزنا بالحرب، فستصبح الوعود التي قطعناها للعرب، حبراً على ورق" (2). وهذا ما حدث، حيث قلب الإنجليز ظهر المجن للعرب مرات عديدة، ولكن العرب لم يستوعبوا الدرس ولم يفهموا، إن وعد الإنكليزي مهما كان صادقا مضمونا ـ سوف يخلفه بمجرد أن يتعارض مع مصلحته، التي لا تعرف حدودا وأن أسلوب الحرب الإنكليزية لا يعرف معنى للرحمة أو للشرف أو للمواثيق أو للتردد .. ولقد حفظ الهنود ذلك الدرس غيباً، ولكن حين لا تنفع الدروس والعبر" (3).
ولكن هل يفهم العرب الدرس الآن بعد كل ما حدث معهم قديماً وحديثاً، والتي كان آخرها وعود حرب تدمير العراق، والتي جاءت تنفيذاً لنبوءات توراتية حاقدة، عملت إدارة بوش الأول والثاني على تنفيذها بحذافيرها على العراق كما وضحنا
_________
(1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص140
(2) المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص275
(3) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص68(1/342)
وسنزيد الأمر إيضاحاً في بقية أجزاء هذا الكتاب. فمن المفارقات هنا، أن الهجمة الشرسة التي يتعرض لها العراق الشقيق قد تم تحديد جهتها بناء على نبوءة توراتية، حيث تنبأ بها أشعياء وحدد منطقة المهاجمين لبابل في يوم الرب، بأنها ستكون الجنوب (الكويت والسعودية) إذ يقول: "وحي من جهة برية البحر كزوابع في الجنوب. عاصفة. يأتي من البرية. من أرض مخوفة. وقد أعلنت لي رؤيا قاسيه" (1).
أما الرؤية القاسية التي يعنيها اشعياء فهي خاصة بهؤلاء العرب الذين حددت مصيرهم التوراة بقولها: "ستبيتين في صحارى بلاد العرب يا قوافل الددانيين، فاحملوا يا أهل تيماء الماء للعطشان، واستقبلوا الهاربين بالخبز، لأنهم قد فروا من السيف المسلول، والقوس المتوتر، ومن وطيس، المعركة. لأنه هذا ما قاله لي الرب: في غضون سنة مماثلة لسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وتكون بقية الرماة، الأبطال من أبناء قيدار، قلة. لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم" (سفر اشعياء 21، 13ـ17). وفي جبل سعير يقول يهوه (الرب) هاأنذا عليك يا جبل سعير، اجعل مدنك خربة، وتكون أنت مقفرا واستأصل منك الذاهب والآيب، وأملا جبالك من قتلاك" (سفرحزقيال) (2).
وباختصار إن الضربات الحاقدة، التي قال أنبياء بني إسرائيل إن إلههم يهوه أنزلها، أو هو على وشك إنزالها بالأقوام والممالك التي عاش بنو إسرائيل في ظلها، أو احتكوا بها مثل ممالك مصر بابل أشور، صيدون، صور، دمشق .. وممالك الكنعانيين مثل أدوم بني عمون مؤاب حاصور .. ومدن الفلسطينيين مثل غزة اشقلون وعقرون هي كثيرة جداً، إلى درجة أن ضربات يهوه (الرب) شملت أمم الأرض بأسرها، كما يقول النبي أشعيا: "إن للرب يهوه سخطاً على كل الأمم، وحموا على كل جيشهم، قد حرمهم (دفعهم إلى الذبح) فقتلاهم تطرح، وجيفهم تصعد نتانتها، وتسيل الجبال بدمائهم"، والى حد أن قارئ التوراة يخلص إلى نتيجة مفادها، إن
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ أحمد حجازي السقا ص224
(2) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص143(1/343)
تنبوءات أنبياء التوراة كانت أشبه بشلال لعن متدفق، لدرجة أن (اللعنة أكلت الأرض) كما يقول النبي اشعيا" (1).
هذا ما تخبأه التوراة للعرب كافة، وهذا ما كشف عنه الصهاينة عبر مجلتهم كيفونيم .. دمار وقتل وتخريب وإذلال، وكأن امتنا أمة ميتة وجثه هامدة لا حراك فيها. لقد كذبوا وكذبت مجلتهم كيفونيم ... وكذب منجميهم وأحبارهم .. إننا قطعاً لسنا ذلك القلب الميت الذي تصورته صحافتهم في الثمانينات من هذا العصر ... إن ذلك القلب الميت قد هزم التتار ودحر الصليبين وحطم خط بارليف ... ونحن (الأمة العربية) ما زلنا مخزن الوقود في العالم رغم الاستنزاف الحاصل ... ونحن رمز لحضارة إيمانيه عريقة بين حضارات وثنيه وعلمانية، وماديه تملأ هذه الدنيا بضجيجها .. ونحن رأسمال عملاق (وإن كانت مودعاً في البنوك اليهودية) ولكننا نستطيع أن يكون لنا صندوق عربي للدفاع، لنصنع أمننا، ونبني دفاعاتنا، ونستطيع أن نكون تكتلًا عربياً له وزنه، وخطورته ... وقديماً قال، عنا أعظم الأنبياء: إننا خير أجناد الأرض .. وهي كلمة نبي قال عنه أعداؤه: إنه الأمين الذي لم يجرب عليه أحد انه كذب في شيء" (2).
التوراة وكيفية التعامل مع الآخرين
لم ترسم التوراة اليهودية فقط الخطط والبرامج لكيفية التعامل مع دول المنطقة، بل وحددت كيفية التعامل مع شعوبها تنفيساً لأحقاد وضغائن قديمة جديدة. وقد تقصى الدكتور (أسعد زروق) موقف التلمود من العرب، فوجد أنه في بعض نواحيه، تعبير عن نفس الانعزالية المتعالية التي تميز بها اليهود. وقد جاء في سفر سوكاه (52ب) أن الإله قد ندم على خلقه أربعة أشياء: المنفى، والكلدانيين، والإسماعيليين (أي العرب)، ونزعة الشر" (3). فالعودة إلي النصوص التوراتية والتلمودية، تفضح الممارسات الصهيونية بحق الآخرين من البشر (الأجانب، أو الغرباء) حسب تعبيراتهم، وتبين أن ما تنفذه الدولة اليهودية الصهيونية، ما هو إلا
_________
(1) المصدر السابق - ص146
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - مصطفى محمود ص15.
(3) البروتوكولات واليهودية والصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري ص 55(1/344)
من وحي التعاليم التوراتية التلموذية. وهاكم مجموعة من الأمثلة والنماذج المستمدة من النصوص المذكورة مطبقة على الواقع الحي على الأرض، والناس" (1).
جمعت قوانين الحرب في العهد القديم في سفر التثنية، وفيها بيان في كيفية الاستيلاء على المدن، وأسلوب التعامل مع أهل البلاد (2)، وهي أصبحت مرجعاً وقانوناً ومصدراً لإلهام ووحي القادة الصهاينة، ومنها: "إذا تقدمت إلى مدينة لتقاتلها فادعها أولا إلى السلم، فإذا أجابتك وفتحت يكن جميع الشعب، الذي فيها تحت الجزية، ويتعبدون لك، وان لم تسالمك وحاربتك فحاصرتها، وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذكر بحد السيف، وأما النساء والأطفال وذوات الأربع، وجميع ما في المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك، وكل غنيمة أعداءك التي أعطاكها الرب إلهك" (3). وفي هذا السفر نرى ملامح الذبح والسلخ الدائمين ونشم منه رائحة الشي والحرق، باعتبارها الإثارة المغرية للروح اليهودي في التعامل مع كل ما هو حي. وهي إثارة يحددها الادعاء الكبير للإله القومي، الذي ما هو في افضل الأحوال سوى شيطان أمرد. وهو اله لا يربي في الإنسان بعدا إنسانياً، بسبب خضوعه لنزوات عبدته. لذا نراه في سفر (التكوين) يحزن ويتأسف ويرغي ويزبد في رغبته لمحو الإنسان عن وجه الأرض" (4).
ويقول التلمود: "أنه مسموح لليهودي بقتل غير اليهودي دون معاقبة، وعليه ـ أيضا ـ ألا ينقذ غير اليهودي من خطر يهدد حياته مثل وقوعه في حفرة". ويفسر ذلك الحاخام الشهير (ميمانود) بقوله: "إن الشفقة ممنوعة لغير اليهودي، فإذا رأيته واقعاً في نهر ومهددا بخطر، فإنه محرم عليك أن تنقذه منه لأن السبعة الشعوب الذين كانوا في أرض كنعان، وكان مطلوب إبادتهم، ولكنهم لم يقتلوا عن آخرهم، وإنما
_________
(1) العنصرية الصهيونية اليهودية والبعد الايديولوجى الديني ـ على حسن طه ص60 - دار الهادي /بيروث- ط1 2002
(2) المجتمع الاسرائيلى وثقافة الصراع - د. عمر عبد العلى علام - ص 53 - دار العلوم للنشر والتوزيع - ط1 2007
(3) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص115
(4) ثالوث الإله القومي والشعب المختار والقوة الغضبية (الصورة والمعنى في الصراع العربي - اليهودي) - د. ميثم الجنابي- مجلة المؤتمر عدد 1174 - 14 - آب-2006 - http://www.inciraq.com/Al-Mutamar/2006/1101_1200/1174/060814_1174_5.htm(1/345)
هرب بعضهم واختلط بباقي الشعوب والأمم، ولذلك فإنه يلزم قتل الأجنبي، إذ يحتمل أن يكون من نسل السبعة الشعوب، وبالتالي فعلى اليهود قتل من يتمكن من قتله، فإذا لم يفعل ذلك فانه يخالف الشريعة". ويرى الحاخام (ميمانود) ـ أيضاً: "إن وصية (لا تقتل): "هي خاصة فقط بمنع قتل اليهود" (1).
ويوضح إسرائيل شاحاك في كتابه، الديانة اليهودية ذلك بقوله: "عندما تكون الضحية من الأغيارـ يختلف الوضع تماماً، فاليهودي الذي يقتل أحد الأغيار يكون مذنباً فقط بارتكاب معصية ضد شرائع السماء، وهي معصية غير قابله لعقوبة صادرة عن محكمه، أما التسبب غير المباشر، بقتل أحد الأغيار فهذا ليس بمعصية على الإطلاق، وعلى هذا النحو يشرح أحد أهم المعلقين على شرائع التلمود (شولحان عاروخ) ذلك بقوله: "على المرء ألا يرفع يده لإيذاء الغريب، ولكنه يستطيع أن يؤذيه بطريقة غير مباشرة، كأن يزيل السلم بعد إن يكون الشخص المعين قد سقط في هوة إذ لا يوجد خطر هنا، لأن الأذى لم يرتكب بصورة مباشرة". ويشرح (موسى بن ميمون) المبدأ الأساسي التلمودي بوجوب الامتناع عن إنقاذ حياة الغرباء (من غير اليهود) فهناك حكمة تلموديه تقول: "لا تدفع الأغيار إلى البئر فهذا محرم، ولا تنقذ أحدا منهم، إذا ما وقع فيه، لأنه محرم أيضاً .. وهناك عشرات من الأمثلة التلموديه التي قام بفضحها الأب (آ، ب برانايتس) في كتابه فضح التلمود الصادر عن دار النفائس ومن إعداد زهدي الفاتح" (2). وهكذا فإن ذهنية الإباده هذه التي حواها التلمود، تتجلى في التربية الاستئصاليه تجاه الأغيار، وتظهر بوضوح في العديد من النصوص التوراتيه مثل: "هو ذا شعب كلبوءة يقوم، وكشبل ينهض، لا يربض حتى يأكل الفريسة، ويشرب دم الصرعى". فعبارات القتل والإفناء والاستئصال تتكرر في الأسفار التوراتيه عند كل حديث أو احتلال لمدينة وقرية وبلدة، وتعدد التوراة عدد الملوك الذين قتلهم (يشوع) وأفني شعوبهم، فيقول: "جميع الملوك واحد وثلاثون" (سفر يوشع).
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 11
(2) على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيلـ حمدان حمدان ص183(1/346)
وليس غريباً بعد كل ما تقدم أن يعمد الصهاينة إلى التذكير الدائم بهذه الأساطير باعتبارها وقائع تاريخية، وبطولات يجب تمثلها وإعادة إنتاجها، حيث يتبين لنا أن محتويات التوراة هي المخزون الحقيقي للإرهاب والعنف، وفي هذا النص تجليات ذهنية الإبادة والعدوان والتوسع: "بقيت ارض للامتلاك كثيرة جداً كل بقاع الفلسطينيين وكل أرض الكنعانيين إلى تخوم الأموريين وأرض الجبليين وجميع لبنان جهة مشرق الشمس، من بعل جاد حتى جبل حرمون إلى مدخل حماه، كل سكان الجبل من لبنان إلى مياه مسروفوت كل الصيدونيين، سأطردهم من وجه بني إسرائيل وكل جبل حرمون وكل باشان ـ الجولان إلى سلكة" (1).
وفي سفر يوشع ذلك السفاح الذي جاء غازياً لأرض فلسطين، والذي ارتكب من المجازر والمذابح الفظيعة ضد سكان فلسطين، نجده يكشف عن أحقاده ودمويته ليبرر جرائمه فيقول على لسان اله الدمار (يهوه): "تجازى السامرة لأنها تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون تحطم أطفالهم والحوامل تشق" (2). فالذي يضحك ويبكى هو أن إله الدمار المزعوم عند يشوع ومن إليه من مصاصي الدماء .. قد أطلق العنان لعدوانيته ونيران حقده دفعه واحدة (3). وليس يوشع فقط، بل كافة أسفار التوراة تكشف عن حقدها الدفين ودمويتها، وترسم الطريق لأعداء البشرية حول كيفية التعامل مع الشعوب: "والآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة وطفلاً ورضيعاً. بقراً وغنماً. جملاً وحماراً (سفر استر: 10ـ3). "فأرسل جدعون رسلاً إلى كل جبل أفرايم قائلاً انزلوا للقاء المديانيين، وخذوا منهم المياه إلى بيت بارة والأردن، فاجتمع كل رجال أفرايم واخذوا المياه إلى بيت بارة والأردن" (سفر القضاة 7:24ـ25) .. "وأما امصيا فتشدد واقتاد شعبه وذهب إلى وادي الملح وضرب من ساعير عشرة آلاف. وعشرة آلاف أحياء سباهم بنو يهوذا، وأتوا بهم إلى رأس سالع وطرحوهم عن رأس سالع فتكسروا أجمعون" (سفر الايام 25:11ـ12).
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص118
(2) سفر يوشع 13ـ16
(3) رسائل حضارية في مواجهة اليهوديةـ الأب فوتيوس خليل ص48(1/347)
هذه هي طريقة التعامل مع الآخرين التي رسمتها التوراة ... من تكسير العظام، وقتل الأطفال وشق النساء، وسرقة المياه ... إلى إنزال الدمار بأرض اللبن والعسل، حتى أنهم لم يتورعوا عن إبادة الحيوانات، مدعين أن كل ذلك هو إرضاء للإله يهوى وبأمر منه؟!! أو ليس ما يحدث على أرض الواقع يوضح لنا بجلاء عن التطابق الكامل بين ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية وبين ما جاء في التوراة، بل لا نبالغ إذا قلنا إن ما يحدث علي الأرض ما هو إلا تطبيق حرفي للوصايا التوراتية الإجرامية، حتى الأوصاف التي يطلقها الصهاينة على أعدائهم مستمدة من التوراة في أدق تفاصيلها. وعلى سبيل المثال لا الحصر جاء في سفر صموئيل: "فخرج المخربون من محلة الفلسطينيين في ثلاثة فرق" (سفر صموئيل 13ـ17) .. والمعلوم أن الحكومة ووسائل الإعلام الإسرائيلية تستخدم عبارة مخربيين لوصف رجال المقاومة الفلسطينيين، هذا في حين يطلق على مجرمي الحرب أمثال الإرهابي شارون وغيره من رؤساء الوزراء عبارة (داوود ملك إسرائيل) على اعتبار أن مملكة داوود هي أسمى ما وصلت إليه دولتهم.
إسرائيل وشارون ونادي القتلة
إن الأحزاب كلها من حزب العمل إلى حزب ليكود تعتمد التوراة مرجعاً لتأسيس سياسة تقول: ان فلسطين ملك الصهاينه بموجب صك من الله ... وهذه القراءة الاصطفائية تخلع طابعاً من الامتياز والأفضلية على أكثر نصوص التوراة شراسه كي تبرر المظالم وألوان الاغتصاب الراهنة ... وبهذه القراءة تبدو تلك النصوص بما فيها من سلب ونهب وابادة للسكان الأصليين من الكنعانيين، وكأنها شرط للإبقاء على العهد مع يهوه. جاء في سفر العدد: "وكلم الرب موسى قائلاً: قل لبني اسرائيل إنكم عابرون الأردن إالى ارض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم .. وإن لم تطردوا سكان الارض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكاً في أعينكم ومناخس في جنوبكم ويضايقونكم على الارض التي انتم ساكنون فيها فيكون أنى افعل بكم كما هممت أن افعل بهم".(1/348)
وهكذا نقرأ في سفر العدد تصوراً سابقاً بل تبشيراً بما يمارسه الصهاينة اليوم تجاه الفلسطينيين من شارون إلى الحاخام مائير كاهانا. أما سفر الاشتراع (التثنية) فلا ينص على اغتصاب الارض وطرد السكان الاصليين فحسب، وانما يطالب بذبحهم. يقول هذا السفر: "عندما يوصلك الرب إلهك إلى ارض كنعان .. ويطرد من أمامك كافة الأمم .. ستوقع عليهم الحرمان وتبيدهم". أما سفر يوشع، سفر المذابح، فهو من النصوص الكلاسيكية المقررة في مدارس اسرائيل، أضف إلى ذلك أنه يستخدم للإعداد النفسي للجنود الأغرار في الجيش" (1).
ففي إسرائيل، فإن الإرهابيين الأشد تعطشاً للدماء والأكثر تطرفاً والأعظم وحشية هم دائماً من يرفعون إلى أعلى عليين في القيادة العليا، ولهذا ليس من المستغرب أن أفظع الجرائم تمت علي أيدي مجرمين ومصاصي دماء، احتلوا قمة الهرم القيادي في إسرائيل، ابتداء من (بن جريون) (وبيغن) وانتهاء بالإرهابي شارون الذي فاق الجميع في إرهابه وجرائمه. فالموضة الآن هي الإشادة بالتطرف، وتمجيد القتلة، وتقديس العنف في التعامل مع العرب، والنظر إلى عمليات نهب الأرض والاستيطان، على إنها مجرد عمليات تصحيح أوضاع لا أكثر (2). وربما لذلك وصف الرئيس بوش المجرم شارون بأنه رجل سلام. "فشارون بالنسبة لبعض المتطرفين المسيحيين ذوي مذهب (الإعفائية) هو الرجل الذي (اختاره الرب لإنجاز تكهنات نهاية العالم). وهم يرجعون إلى مسيرته، فهو عرف السلطة، ومن ثم زال نفوذه وثقته لدوره في مجازر صبرا وشاتيلا، ويستندون إلى ما جاء في الكتاب المقدس: (الرجل العادل سقط سبع مرات ثم نهض) " (3).
وبمناسبة مرور عام على أحداث 11 سبتمبر كتب المحلل السياسي (ديفيد ديوك) مقالاً خصص جزء كبير منه للحديث عن جرائم شارون ضد الشعب الفلسطيني، وكأنه أراد أن يعقد مقارنه بين ما يسمونه إرهاباً إسلامياً غير مثبت، وإرهاب رسمي يتفاخر به فاعلوه، فقال: "أود اليوم رسم تاريخ موجز لخمسين سنة
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص154 - 155
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص31
(3) عالم بوش السري- اريك لوران - ترجمة سوزان قازان ص97(1/349)
من الجرائم الشارونية ضد الإنسانية، بدءاً بمذبحة قبية، ومروراً بغزو لبنان، ومذابح صبرا وشاتيلا، إلى المجازر الجماعية للرجال والنساء والأطفال في مخيم جنين. ولتبيان جانب من جوانب هذه الوحشية التي لا يمكن تصورها، والتي انطوى عليها إرهابي الإرهابيين (شارون) سوف اقتبس مباشرة من مقابلة حاور شارون فيها الصحفي الإسرائيلي (عاموس عوز) سنة 1982م إبان غزو لبنان.
يقول شارون: "حتى لو بدا لي ببراهين الرياضة البحتة أن الحرب الدائرة في لبنان حالياً هي حرب قذرة لا أخلاقية، فلست أبالي .. بل فوق ذلك، لو أنك تبرهن لي أننا لن نستطيع خلق نظام صديق موال لنا في لبنان، ولن ندمر السوريين، أو حتى منظمة التحرير الفلسطينية، فحتى عندها لن أبالي، لقد كان الأمر يستحق خوض تلك الحرب. وحتى لو تم قصف الجليل بصواريخ الكاتيوشا في غضون عام، فلا يهمني ذلك في الحقيقة، فلسوف نشن حرباً أخرى، ونقتل وندمر المزيد والمزيد حتى ينالهم منا ما يقولون معه كفى كفى حسبنا ما لقينا. لئن حاول أي شخص أن يمسنا بسوء، فإن رجال الشر يمزقونه إرباً .. فهم يصطادون ويمسكون بأي شيء يودون التهامه ويثير شهيتهم، بل أنهم لا يعانون من عسر الهضم، كما أن السماء لا تعاقبهم ... وربما سيبدأ العالم عندها يخافني أخيراً بدل أن يشعر بالآسي والشفقة نحوى. بل لعل رعدة الذعر منى تبدأ بالسريان في أوصالهم فيرتجفون من جنوني، عوضاً عن الإعجاب بنبلي وكرم أخلاقي حمداً لله على هذا".
ويضيف شارون: "دع أسنانهم تصطك من الرعب فيهابوننا ويرتجفون، ثم لينعتوننا بالدولة المجنونة. ودعهم يفهمون أننا بلد وحشي، ضار، ومتهور، يهدد بالخطر من حوله، وأننا لسنا بلداً عادياً وانه يمكن أن يجن جنوننا إذا قتل من أطفالنا، مجرد طفل واحد قد يخرجنا عن طورنا، فنحرق الأخضر واليابس ونضرم النار في كل حقول النفط في الشرق الأوسط، لقد أحطتهم في واشنطن وموسكو ودمشق والصين علماً، بأنه إذا أطلقت النار على أي من سفرائنا أو حتى قناصلنا، أو أصغر موظفي سفاراتنا فلن نتورع عن إشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة، هكذا وبكل بساطة.(1/350)
وحتى في الآونة الراهنة فإنني على استعداد لأتطوع للقيام بالمهمة القذرة من أجل إسرائيل، وان اقتل من العرب بقدر ما هو ضروري لنا، وان ارحل واطرد واحرق منهم جموعاً غفيره لدرجة تجعل كل إنسان يكرهنا. وان اسحب البساط من تحت أقدام يهود الشتات، بحيث نضطرهم للهرولة إلينا، وهم يبكون .. وحتى لو استدعى الأمر نسف أو تفجير كنيس أو كنيسين من دور عبادتنا هنا أو هناك، فلست أبالي .. ولا يضيرني بعد أن أنجز المهمة أن يقدموني للمحاكمة أمام محكمة (نورمبيرج) وليسجنوني عندها مدى الحياة، بل اشنقوني إن أردتم بصفتي مجرم حرب فالأمر الذي لا تدركونه معشر القوم، هو أن عمل الصهيونية القذر لم ينجز بعد، وما يزال أمامنا شوط بعيد نقطعه لإنجاز المهمة" (1).
ويعلق ديفيد ديوك على ذلك بقوله: "تفوه شارون بهذه التصريحات عام 1982م وها هو اليوم يحاول إنجاز مهمة الصهيونية القذرة، لاحظوا الموقف الذي يعبر عنه (شارون) في ذلك اللقاء، فهو يبارك إبادة الجنس البشرى، ويهدد بإيقاد نار الحرب العالمية الثالثة. قلبه أقسى من الحجر، وينضح باحتقار كل من هو خارج دائرة الشعب اليهودي، كما عليكم أن تلاحظوا أيضاً أنه لا يبالى بموت بعض اليهود، في الطريق لتحقيق مآربه ولا يأبه بتصاعد مد الكراهية لليهود في العالم. وهذا هو في الحقيقة ما يريده بالضبط، بحيث يتمكن من حملهم أما على مضاعفة دعمهم لـ إسرائيل دعماً كاملاً أو الهجرة إليها" (2).
هذه التصريحات التي أدلى بها شارون، تكشف بجلاء عن الأثر التوراتي الواضح على العقلية اليهودية المريضة، والحاقدة على الجنس البشري، وعلى العرب والفلسطينيين بشكل خاص. وهنا نتساءل لماذا صب العهد القديم زحام لعنته على مجتمعات هذه الأرض، من مصر، إلى أشور، مرورا بالفلسطينيين، والكنعانيين، والمؤابيين، والعمونيين، والآراميين، والبابليين وهل لفق لهم تهمة استعباد جماعته ـ بني إسرائيل ـ كما فعل مع المصريين؟. الواقع أن مجتمعات هذه الأرض التي
_________
(1) عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوكـ ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002 - عدد 8510
(2) المصدر السابق - جريدة الخليج(1/351)
أغرقها يهوه (الرب) بطوفان من حقده الغشوم، أعطت في تعاملها مع جماعة بني إسرائيل المغتربين في أراضيها مثلاً رائعاً في المحبة والرحمة، والحنو الصادق وحسن المعاملة (1). ولكن الصهيونية كحركة سياسيه عدوانية، تخطط للهيمنة والسيادة، وتضمر الحقد لكل ما هو عربي وإسلامي، وتحمل لنا ثأراً قديماً، يعكسه هذا الكم من الغل والحقد، الذي يعشش في قلوب هذه العصابة، ويجمعها على التآمر والتخريب والقتل طوال هذه الألوف المؤلفة من السنين دون أن يطفئ سيال الدم هذا الغل .. لقد طردوا شعباً، ونهبوا أرضه، واستوطنوا مدنه وقراه، وقتلوا شيوخه وأطفاله، ولم يكفهم كل ما فعلوا" (2). فإسرائيل تقتل وتخرب وتفسد كل يوم تمهيداً للخاتمة، التي تحبك خيوطها. وهي تطحن تحت أضراسها ثأراً تاريخياً لا يهدأ، ولا ينطفئ له نار، ولا يخبو له أوار، وهي لا تريدنا إلا سباياً ولاجئين مطرودين بالأبواب، ومتسولين عبيد لقمة، كما عاشت أيام السبي البابلي، وكما طوردت فلولها أيام النازيه" (3).
_________
(1) المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص148
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص28
(3) المصدر السابق- ص48(1/352)
الفصل السادس
النظام الدولي الجديد ووعود حرب الخليج
يتساءل البعض عن الذي حدث للولايات المتحدة، التي أصدرت الإنذار الشهير في عهد الرئيس الأميركي الأسبق (دوايت أيزنهاور) لأطراف العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م بالتوقف عن عدوانهم, حتى تصل إلى عهد الرئيس الحالي (جورج بوش)، الذي يكتب خطابات موجهة للشرق الأوسط، يغتبط بها اليمين الإسرائيلي، لأنها صيغت كما يشاء ويهوى؟. كيف حدث التردي الأميركي في الموقف الشرق أوسطي، ليصل إلى مرحلة يقول فيها بوش الابن عن رئيس الوزراء الإسرائيلي (أرييل شارون) "إنني أتعلم من هذا الرجل كلما جاء وزارنا في واشنطن", وذلك أثناء الترحيب بشارون خلال زيارته السادسة إلى البيت الأبيض في يونيو/ حزيران 2002م؟. ما الخطأ الذي وقع، بين لحظة أيزنهاور تلك, ولحظة بوش المتتلمذ على يد شارون سنة 2002م؟ ما الذي حدث حتى تدهورت السياسة الأميركية في المنطقة .. إلى حالة (الأسرلة) التامة؟. فالولايات المتحدة التي وافقت بل وصممت قراري مجلس الأمن 242 و 338، واللذين يتعاملان مع الضفة الغربية وقطاع غزة كأراض محتلة, هي نفسها التي ـ حسب وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد ـ ترى أن احتلال تلك الأراضي هو غنيمة حرب عادية, ومن المفهوم أن يحتفظ المنتصر بالجائزة بعد الحرب.
الولايات المتحدة التي رفضت اعتبار القدس عاصمة إسرائيل باعتبارها أرضا محتلة أيضاً، وهي موضع صراع عاصف بين الطرفين, هي نفسها التي تشتري أرضاً (مسروقة أصلاً من الفلسطينيين)، لتقيم عليها سفارتها, تبعاً لقرارات الكونغرس في منتصف التسعينيات بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. الولايات المتحدة التي كانت تنتقد المستوطنات باعتبارها عقبة أمام السلام, أصبحت تتراخى في نظرتها تلك, وتتراجع في نقدها، وتقول: إن سياستها هي قبول ما يتفق عليه الطرفان. وهي تعلم أنه ليس ثمة توازن قوة عند الطرفين، وتعلم أنه بتخليها عن الضغط والنقد، فإنما هي تقر للقوة الطاغية فرض ما تريد. الولايات المتحدة التي علقت(2/6)
مؤقتاً في سبتمبر 1953 م مساعداتها لإسرائيل، لأنها انتهكت القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن فيما يتعلق بمياه نهر الأردن, هي نفسها التي تسخف القانون الدولي والأمم المتحدة برمتها، ليس فقط حيال فلسطين, بل حيال العالم كله (1).
الوسيط المخادع
إن الجواب على كل ما سبق هو ما قمنا بتوضيحه في صفحات هذا الكتاب، حيث بدأ العرب مؤخراً يدركون، أن هذا (الوسيط النزيه)، وهو ما تهوى الإدارات الأميركية المتعاقبة ـ بما فيها إدارة بوش الراهنة ـ نعت نفسها به في سياق تعاملها مع أطراف الصراع العربي الإسرائيلي، لم يكن سوى وسيط مخادع بامتياز, خلال مسيرة تدخل أميركي في الشرق الأوسط، امتدت حتى ولادة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، حيث تحول هذا الوسيط النزيه أو المخادع، إلى وسيط متآمر وغادر .. بل وطرف في النزاع بعد انفراده بقيادة النظام الدولي وعدم حاجته لإخفاء الأسباب الحقيقية لمواقفه الغادره تجاه القضايا العربية. وهنا يجب أن نؤكد "أن الغدر وعدم الوفاء بالوعود، عادة أمريكية أصيلة، منذ الهنود الحمر وحتى الآن، ولهذا لم ولن يجنى العرب إلا الحصرم من ارتمائهم في الحضن الأمريكي، لأن التماس الأمان في حضن أمريكا بلاهة .. فحضن الأفاعي أكثر أمناً من هذا الحضن الغادر" (2).
وعود حرب الخليج http://www.aljazeera.net/books/2003/7/ - TOP
كلنا عايش أحداث حرب الخليج الثانية، والتصريحات والوعود التي أطلقتها الإدارة الأمريكية وأعوانها، من الزعماء والساسة العرب، عن ولادة نظام عالمي جديد، سيتمكن من خلاله العرب والفلسطينيين بالذات، من الحصول على حقوقهم كاملة، حيث جاءت هذه التصريحات والوعود، رداً على مبادرة الرئيس العراقي الراحل (صدام حسين)، الذي طالب بحل القضية الفلسطينية مقابل انسحابه من الكويت. وقد استهجنت أمريكيا وبعض الدول العربية، هذا الطرح من الرئيس العراقي، على اعتبار أنه لا توجد صلة بين المشكلتين، هذا بالرغم من إدراك الذين عارضوا هذه المبادرة،
_________
(1) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين المؤلف: نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003كامبردج بوك ريفيوز
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ـ ص112.(2/7)
إن الهدف منها كان تعرية الموقف الأمريكي الذي يكيل بمكيالين، والذي عمل على تطبيق قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية بحذافيرها على العراق، في حين أن هناك أكوام من القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، مكدسة في أقبية الأمم المتحدة، والتي عملت أمريكيا بالذات على عدم تنفيذها. وإزاء هذا الموقف المحرج، الذي تعرضت له السياسة الأمريكية، والذي أظهر بوضوح ازدواجيتها وكيلها بمكيالين، وجد ـ حتى الذين رفضوا المبادرة العراقية وأيدوا الموقف الأمريكي ـ أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه. فكان لابد من تبرير هذه السياسة الفجة التي اتبعتها أمريكيا في حرب الخليج، والتي لم تترك أي مجال للتفاوض وحل المشكلة بالطرق السلمية.
وهنا نشطت الدعاية الأمريكية وعملائها وأذنابها في المنطقة العربية، من كتاب وصحفيين وساسة، والذين برهنوا عن انتهازية لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، وأخذوا ينظرون ويبررون، ويفلسفون الموقف الأمريكي، الذي جاء حسب تحليلاتهم الخائبة نتيجة لانهيار نظام القطبين، وبزوغ فجر النظام العالمي الجديد. ولم ينسَ هؤلاء من تقديم تحليلاتهم الخائبة عن هذا النظام الدولي الجديد. فقالوا إن إسرائيل ستفقد في ظله قيمتها الإستراتيجية، التي كانت لها قبل انتهاء الحرب الباردة، وبالتالي فإن أمريكيا ـ حسب زعمهم ـ ستعمل جاهدة على حل الصراع العربي الإسرائيلي وفق قرارات الشرعية الدولية، وستمارس ضغوطها من أجل حصول الفلسطينيين على حقوقهم كاملة. وقد كان بعض هؤلاء المحللين، متفائلاً أكثر من اللازم، حين طرح إمكانية استخدام أمريكيا للقوة العسكرية، لتطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي، مثلما فعلت مع العراق الشقيق!! وقد انطلت هذه الكذبة على كثير من الدول والشعوب العربية، وبالذات التي وقفت موقفاً مؤيداً لأمريكا، حيث تمكنت أمريكيا من تنفيذ مخططها بضرب القوة العسكرية العراقية، ليس من أجل الكويت، أو من أجل تطبيق قرارات الشرعية الدولية، بل من أجل حماية مشروعها الصليبي في المنطقة العربية، والمتمثل في إسرائيل، والذي شعرت أنه بات مهدداً من القوة العراقية الضخمة والمتطورة.(2/8)
النظام الدولي الجديد عزز الانحياز الأمريكي لإسرائيل
شكلت حرب الخليج الأولى فرصة ذهبية لأمريكا لصياغة نظام دولي جديد، يتفق مع استراتيجيتها الكونية التي تشكل إسرائيل حجر الزاوية بها، حيث ساهم انهيار المعسكر الشرقي، وهزيمة العراق وطرده من الكويت، في تعزيز وزيادة حجم الانحياز الأمريكي لإسرائيل، وليس العكس كما روج لذلك، غالبية محللينا السياسيين. ونوضح ذلك فنقول: إننا لو تأملنا السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية، في ظل نظام القطبين، فإننا سنجد أنها كانت تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسين:
الأول: حماية المصالح الأمريكية الكبيرة في المنطقة العربية، وبالذات المصالح النفطية.
الثاني: تقديم كافة أنواع الدعم الممكن لإسرائيل.
ولكن وجود المعسكر الشرقي وعلى رأسه الإتحاد السوفيتي، وظهور الأنظمة العربية الثورية على الساحة في ذلك الوقت، كان يجعل من تحقيق هذين الهدفين معاً، أمراً صعباً. فالمصالح الأمريكية في المنطقة العربية كان يمكن الحفاظ عليها بسهولة، في ظل غياب الانحياز الأمريكي لإسرائيل، والعكس صحيح. وقد كانت الإدارات الأمريكية المختلفة تدرك ذلك، وكانت تدرك أيضاً أن انحيازها لإسرائيل سيهدد مصالحها الحيوية في المنطقة العربية (1)، وسيثير المشاعر العربية المعادية لها، وسيدفع كثير من الدول العربية إلى تعزيز علاقاتها بالمعسكر الشرقي، وهذا ما لا تريده أمريكيا.
إذاً كيف استطاعت أمريكيا التعامل مع هذه المعضلة الصعبة، أي الحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة العربية، وتقديم كافة أنواع الدعم الممكن لإسرائيل، من غير أن يؤدى ذلك إلى تعاظم الدور السوفيتي، والمد الثوري القومي في المنطقة العربية؟. والإجابة على ذلك هو أن السياسة الأمريكية، اتبعت أسلوبين يكمل كلاً منهما الآخر لحل هذه المعضلة:
_________
(1) العلاقات العربية الأمريكية والضغط الصهيوني ـ اندرو كارفلى ـ ترجمة أسعد حليم ـ ص 4 - الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1970.(2/9)
فمن ناحية، عمدت السياسة الأمريكية إلى تخويف الدول العربية التقليدية من الخطر الشيوعي الزاحف عليها من الخارج، ومن الخطر الثوري القومي الزاحف عليها من الداخل، وذلك من أجل دفع هذه الدول إلى الارتماء في الأحضان الأمريكية، باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على حمايتها من هذين الخطرين. ومن الناحية الأخرى، لجأت أمريكيا إلى تبرير سياستها المنحازة لإسرائيل، بعوامل متغيرة، بعيدة كل البعد عن العامل الحقيقي ـ الثابت الديني ـ كالقول بأن سبب هذا التحيز يعود إلى ظروف الحرب الباردة، واللوبي الصهيوني، وغيرها من العوامل المتغيرة الأخرى، وكل ذلك من أجل إبقاء آمال الدول العربية معلقة بإمكانية حدوث تغيير في الموقف الأمريكي، تبعاً للتغيرات الدولية. وقد نجحت أمريكيا في تمرير سياستها تلك على الدول العربية.
فالدول التقليدية التي كانت تخشى على سلطانها من التطلعات السوفيتية، للوصول إلى المياه الدافئة، ومن التطلعات العربية القومية الرامية إلى تحقيق الوحدة العربية، لم تجد أمامها إلا الارتماء في الأحضان الأمريكية، لحمايتها من هذه التطلعات. لهذا قامت هذه الدول بتعزيز علاقاتها مع أمريكيا، على حساب موقفها المعلن من القضية الفلسطينية. وانطلاقا من موقفها الضعيف هذا، لم يكن بمقدورها تهديد المصالح النفطية الأمريكية، كرد فعل على الانحياز الأمريكي لإسرائيل (1)، وكل ما كان بوسعها عمله هو انتظار اللحظة التي سيتغير فيها الموقف الأمريكي تبعاً للتغيرات الدولية.
أما الدول العربية الثورية، التي تبنت الدور القيادي لمواجهة إسرائيل، فإنها انطلاقاً من فهمها الخاطئ لطبيعة العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، سعت إلى تعزيز علاقاتها بدول المعسكر الشرقي، أملاً في إحداث التوازن الكافي للضغط على الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل. ولكن تجارب الهزائم العربية المتكررة أمام إسرائيل من ناحية، وانخفاض التأثير السوفيتي على الساحة الدولية، من ناحية أخرى، أدى إلى انقسام هذه الدول إلى تيارين مختلفين:
_________
(1) الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الاستيعاب والتصفية ـ د. محمد شديد ـ ترجمة كوكب الريس ـ ص 243: 244.(2/10)
الأول: بحث عن خلاصه الفردي، فأحدث شرخاً كبيراً في صفوف الدول العربية الثورية، وذلك عندما قام بتعزيز علاقاته مع أمريكيا، أملاً في استرجاع أراضيه المحتلة، كما فعل السادات في اتفاقيات كامب ديفيد، والذي كان يقول دائماً أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكيا.
أما التيار الثاني: فإنه ظل متمسكاً بموقفه الثابت تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وسعى إلى تعزيز هذا الموقف بعد زيارة السادات للقدس، من خلال مجموعة دول الصمود والتصدي، ولكن هذا التيار لم يصمد طويلاً لأسباب كثيرة، يعود بعضها إلى خلافات بين الدول المكونة لهذه المجموعة، ويعود بعضها الآخر إلى التحديات الكبيرة التي خلقتها أمريكيا وأعوانها أمام دول هذا التيار من أجل تعجيزه وإفشاله، والتي كان آخرها، حرب الخليج الثانية، التي وجهت الضربة القاضية لهذا التيار وللنظام العربي كله.
وبانهيار المعسكر الشرقي والنظام العربي بعد حرب الخليج الثانية، تحررت أمريكيا من كافة القيود التي كانت تحد من تحركها في ظل نظام القطبين، وأصبحت يدها الآن مطلقة، للتصرف كيفما تشاء تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. فالمؤتمر الدولي للسلام الذي كانت أمريكيا ترفض انعقاده في ظل نظام القطبين، خوفاً من أن يأتي مخالفاً لشروطها، سارعت إلى عقده تحت مسمى جديد، هو مؤتمر مدريد للسلام، لتفرض من خلاله على الدول العربية سلامها الأمريكي بعيداً عن أي تأثيرات خارجية من الإتحاد السوفيتي أو المجموعة الأوربية، وحتى الأمم المتحدة.
والدول العربية التي لم تستطع أمريكيا، في ظل نظام القطبين، جرها إلى مفاوضات سلام مع إسرائيل، ها هي الآن تجلس جميعها مع إسرائيل على مائدة المفاوضات المتعددة الأطراف والثنائية، ملبية لكافة الشروط والمطالب الأمريكية ـ الإسرائيلية. أما الدول العربية التي لم توافق على عملية السلام، في ظل الرعاية الأمريكية المنفردة لها، فإنها وجدت نفسها معزولة ومحاصرة، إما بقرارات مجلس الأمن الأمريكي، وبإجماع دولي، بتهمة احتضان الإرهاب الدولي وانتهاك حقوق الإنسان، وإما بحملات إعلامية عدائية، ومشاكل حدودية مفتعلة مع جيرانها، لتكون في أية لحظة ذريعة لتدخل عسكري أو حصار اقتصادي، سيباركه مجلس الأمن(2/11)
الأمريكي، ولو بدعوى التسبب في تلوث البيئة وثقب الأوزون! وما حدث ويحدث في العراق والسودان وفلسطين ولبنان خير دليل على ذلك.
ومن خلال ما تقدم يتضح لنا ان الموقف الأمريكي ما بين ايزنهاور وبوش، لم يتغير أو يتبدل، بل ان الظروف الدولية هي التى فرضت هذا التلاعب وتغيير المواقف، بسبب الانتقال من نظام القطبين والحرب الباردة إلى نظام القطب الاوحد، والنظام الدولي الجديد. وبالتالى فإن الوسيط الأمريكي الذي نصفه بالمخادع، لم يكن مخادعاً ابداً ولكننا نحن كعرب، مسئولين ومثقفين لم نستطع قراءة حقيقة الموقف الأمريكي تجاه الصراع العربي الاسرائيلي بشكل صحيح، ولهذا لم نتمكن في ايه لحظه من معرفة توجهات هذه السياسه، واستراتيجياتها، وبقينا نتصرف ونفسر الاحداث باثر رجعي وبعد فوات الاوان.
الدعوة لانعقاد مؤتمر السلام
بعد انتهاء حرب الخليج وتدمير القوة العراقية، سارعت أمريكيا إلى الدعوة إلى انعقاد مؤتمر السلام بمدريد، ليس من أجل الوفاء بوعدها الذي قطعتها على نفسها أثناء حرب الخليج، أو لحفظ ماء الوجه لمن هللوا ونظروا وأيدوا موقفها تجاه العراق، بل لاستغلال حالة الضعف والتشتت العربية، التي نشأت جراء هذه الحرب، لفرض حل للصراع العربي الإسرائيلي وفق تصورها. وفعلاً فقد انعقد المؤتمر بحضور رمزي للاتحاد السوفيتي والمجموعة الأوربية، وبدأت المفاوضات العربية الإسرائيلية في حينها، واستمرت أكثر من عام من غير إحراز أي تقدم يذكر، ولم تقم أمريكيا باستخدام القوة، أو حتى ممارسة أي ضغط على إسرائيل، لإرغامها على تطبيق قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، بل العكس هو الذي حدث، حيث قدمت الدول العربية كثير من التنازلات، في الوقت الذي لم تقدم فيه إسرائيل أي تنازل يذكر، بل استمرت في موقفها المتعنت وبدعم كامل من أمريكيا، التي عملت بطريقتها الخاصة على تفتيت موقف المفاوض العربي.
وأصبحت الحكومات ومنظمات المقاومة التي كانت تتغنى يومياً بشعارات المواجهة والمقاومة، تتبرأ كل يوم من نية الحرب، وحتى من نية الاستعداد لأي مواجهة .. وتخشى أن تجتمع حتى لا يفهم اجتماعها بأنه إعداد لشيء، وراياتها البيضاء مرفوعة طول الوقت وأياديها ممدودة للمصالحة. وهي تصرخ بأكثر من هذا(2/12)
بأن الحرب ستكون كارثة على الكل وعلى المعتدي، وعلى المعتدى عليه، وأنها ليست حلاً ولا وسيلة إلى أي مكسب (1).
اتفاقيات أوسلو تفكيك الصراع وكمائن الاتفاقيات
في خطاب معبر يصف أحد زعماء الهنود الحمر لشعبه الزحف اللانهائي للمستوطنات والمستوطنين البيض، فيقول: "يا إخوتي، لقد سمعت من الأب الأعظم (يقصد جورج واشنطن) أحاديث بديعه، لكنها كلها كانت تبدأ وتنتهي: انزح قليلاً فأنت قريب منى ... " ففي هذا التقليد الإنكليزي العريق الذي يقول ما لا يفعل، ويعد بما لا يفي، اقترح (واشنطن) عقد سلسله من الاتفاقيات مع الهنود، بهدف الاستيلاء على الأراضي الغنية، والمناطق الإستراتيجية اللازمة لأمن المستوطنين في مقابل .. وعود .. بعدم المساس بما تبقى لهم من الأرض، ومن هذه الوعود التي يقدمها المتفاوضون للهنود أن الولايات المتحدة ستفعل ما في وسعها للحيلولة دون قيام مواطنيها بالصيد أو الاستيطان في أراضيهم" (2).
وما حدث مع الهنود الحمر قديماً يحدث مع العرب والفلسطينيين، برعاية انجلوسكسونيه قديمه بدأت مع سايكس بيكو وبلفور وويلسون .. واستمرت حتى اللحظة مع بوش وبلير. فبالرغم من صلابة الحقوق الفلسطينية وثباتها، على كافة المستويات القانونية والسياسية والأخلاقية، إلا أنها بدأت تتعرض للتهشيم التدريجي، وتنزلق على منحنى آخر لتتحول من (حقوق وطنية) إلى مجرد نزاعات سكانية، حيث كانت الضربة القاسية قد حلت بها في أعقاب حرب الخليج الثانية 1991م المترافقة مع انهيار الاتحاد السوفياتي, مع ترتيبات مؤتمر مدريد، واتفاقية أوسلو، التي أزاحت الأمم المتحدة وفكرة مؤتمر جنيف والقانون الدولي جانباً, حيث استحوذت الولايات المتحدة على إدارة الملف منفردة.
ورعى ما سموه بـ (الوسيط النزيه) تصميم أوسلو بشكل مفرغ، فارغ من أي محتوى قانوني يربط الحل بإنهاء الاحتلال وتحميله مسؤولية ما حدث، وبالتالي
_________
(1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص110
(2) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص108(2/13)
تعامل مع كل القضايا الكبرى ـ كالانسحاب وتفكيك الاستيطان واللاجئين والقدس وغيرهاـ من منظور أنها قضايا موضع نزاع لا قضية احتلال. وهكذا كانت كارثة أوسلو في نقل كل المسار، من مسار إنهاء احتلال شعب وأرض محتلة إلى مسار جديد، برعاية وتشجيع الولايات المتحدة، وهو مسار التفاوض بين طرفين متساويين، على قضايا متنازع عليها، وصارت الحقوق المعترف بها دولياً ساحة تمارين تفاوضية، تتم المقايضة بها بشكل تجاري سخيف (1).
الكونغرس ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس!
بادر السناتور الجمهوري (روبرت دول)، خلال شهر أيار 1995م بتقديم مذكرة إلى مجلس الشيوخ الأمريكي للمطالبة بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، حيث حظيت هذه المذكرة بتأييد أغلبية كبيرة من الكونغرس بمجلسية الشيوخ والنواب، واتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا ينص على اعتراف رسمي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو قرار يلزم الحكومة الأمريكية بنقل سفارتها إلى القدس. وقد كانت نتائج التصويت على القرار بأغلبية ساحقة، إذ وصلت نسبة المؤيدين في مجلس الشيوخ إلى 93 في المائة، أما في مجلس النواب فكانت لا تقل عنها إلا قليلاً، نحو 90 في المائة. وبعد صدور هذا القرار، الذي إن دل على شئ فإنما يدل على مدى تغلغل الأفكار الصهيونية في عقول الصفوة الحاكمة الأمريكية، راهن البعض على إمكانية استخدام الرئيس كلينتون لحق الفيتو، ولكن الرد جاء سريعاً حيث أعلن البيت الأبيض أن الرئيس لن يستخدم هذا الحق. ولكنه في نفس الوقت سيسمح للرئيس باستخدام صلاحياته، لإرجاء تنفيذ القرار لفترات محددة، إن هو وجد ضرورة لحماية المصالح الأمنية القومية لبلده، ولكنها لا تمنع من التنفيذ إطلاقاً.
وللأسف فقد خرج علينا غالبية المحللين السياسيين العرب، بتفسيراتهم التقليدية لأسباب صدور هذا القرار، فمنهم من قال انه يدخل في إطار الحملة
_________
(1) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين ـ نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز.(2/14)
الانتخابية التي يقوم بها السناتور روبرت دول لخوض انتخابات الرئاسة، ومنهم من قال: أنه جاء بسبب ضغوط اللوبي الصهيوني، وغير ذلك من الأسباب، هذا بالرغم من أن القسم الثاني من القرار يحتوى 17 بنداً توضح سبب صدور القرار، أغلبها بنود مبنية على معلومات توراتية صهيونية صرفه، جوهرها، أن مدينة القدس مدينة داوودية يهودية صهيونية، وتؤكد أن القدس هي المركز الروحي للشعب اليهودي. وبالرغم من كل ذلك لم يولِ أحد من محللينا السياسيين هذه البنود أي اهتمام، ولم يسألوا أنفسهم عن السبب الذي جعل القرار يصدر بهذه الأغلبية الساحقة، وعن السبب في إجماع الديمقراطيين والجمهوريين بهذه الطريقة على هذا القرار، إذا كانت المسألة دعاية انتخابية للجمهوري روبرت دول؟! وإذا كان اللوبي الصهيوني قوى لهذه الدرجة في الكونغرس الأمريكي، فما معنى الاستمرار في المراهنة على أمريكيا؟ والحديث الدائم لكثير من الزعماء العرب، عن صداقتها للعرب، والتي لم تستطع منع صدور قرار يمس مشاعر العرب والمسلمين في كل مكان؟؟!!
وهنا نتساءل: ما مصلحة أميركا الحقيقية من وراء هذا الدعم الأعمى لإسرائيل الذي يعود عليها نفسها بالأذى الشديد؟ ولماذا تتعامى عن العنف الإسرائيلي, وتبرره وتعتبره دفاعاً عن النفس وتوفر له غطاء دبلوماسياً؟ وأين المصلحة الأميركية في حشد الكراهية في عوالم العرب والمسلمين عبر احتقار القضية الأهم، التي تثير عواطف وأعصاب معتدليهم وتشد من أزر متشدديهم؟ (1). فأي شريك لعملية السلام هذا الذي يمسح لنفسه بنسف عملية السلام، من خلال قفزة على التزامات وتعهدات قطعها على نفسه؟!. وهل بقى لأمريكا أي مصداقية بعد صدور هذا القرار؟! وهل بقى لبل كلينتون أي حجة بعد رفضه استخدام حق الفيتو بحق القرار؟ .. بالطبع لا، إلا إذا كان البعض مصر على إغماض عينيه عن الحقيقة الساطعة، وهي أن الإدارة الأمريكية ـ بكامل هيئاتها ـ والشعب الأمريكي ـ بوجه عام ـ ينظرون إلى علاقتهم بإسرائيل، من منظار ديني بحث، سيكون له أكبر
_________
(1) الوسيط الخادع .. دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين ـ نصير عاروري الطبعة: الأولى 2003ـ كامبردج بوك ريفيوز(2/15)
الأثر على الصراع العربي الإسرائيلي، وبالذات في ظل النظام العالمي الجديد بكل سلبياته على المنطقة العربية.
فالنظام العالمي الجديد الذي استبشر به كثير من العرب، وظنوا أنه سيعيد لهم حقوقهم المسلوبة، وسينشر الأمن والسلام، في المنطقة لم يمهلهم طويلاً، حيث بدأت ملامحه تطفو على السطح، وتصيبهم بنفس المرارة وخيبة الأمل التي أصابتهم مراراً في العصر الحديث، من خلال تجاربهم الطويلة والفاشلة مع كلِّ من الحكومتين البريطانية والأمريكية. وسيعلم العرب أن النظام العالمي الجديد لن يهدأ له بال إلا بعد أن يتوج جهوده الكبيرة في خدمة إسرائيل، بجعل الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، أمراً واقعاً ومقبولاً دولياً وعربياً وإسلامياً، لتكون عاصمة للنظام العالمي الجديد، حيث سيحكم المسيح ويبدأ عصر الألف عام السعيد، كما يقولون؟!
بل كلينتون
إن تحرر السياسية الأمريكية من ضغوط نظام القطبين، والتي كانت تدفعها إلى اللجوء إلى أساليب مختلفة، لتبرير سياستها المنحازة لإسرائيل، كما أسلفنا، هذا التحرر ربما يفسر لنا عدم حاجة الرئيس الأمريكي (بل كلينتون)، إلى إخفاء مشاعره الدينية تجاه إسرائيل، حيث أعلن خلال حملته الانتخابية عن عزمه، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس (1). وبالطبع لا يمكن فهم هذا الإعلان من قبل (كلينتون) على أنه جاء لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة، أو بسبب ضغوط اللوبي الصهيوني وغيرها من الأمور.
فأمريكيا ليس لديها أي مصلحة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، من وراء اعترافها بالقدس كعاصمة لإسرائيل، بل العكس هو الصحيح. فهذا الإجراء لو حدث، فإنه سيؤدى إلى ردود فعل عنيفة، واستياء عام في الدول العربية والإسلامية، وحتى الدول المسيحية، غير البروتستانتية وعلى رأسها الفاتيكان. فهذه الدول جميعاً لها وجهات نظر مختلفة تجاه الوضع النهائي لمدينة القدس، تختلف كثيراً عن وجهة
_________
(1) جريدة القدس الفلسطينية ـ العدد: 8342 ـ الخميس 24ـ12ـ1992م.(2/16)
النظر الإسرائيلية والأمريكية المؤيدة لها. إذاً لا يمكن فهم هذا الإعلان من قبل كلينتون، إلا بالنظر إلى الخلفية الدينية السائدة في أمريكيا والتي يعتبر كلينتون جزءاً منها.
الخلفية الدينية لبل كلينتون ... !!
سيعتبر الكثيرون الحديث عن الخلفية الدينية للرئيس بل كلينتون نوعاً من التعسف والتجنى في غير محله، وبالذات بعد التهم التي لاحقته بشأن علاقاته الغرامية مع (بولا جونز) و (مونيكا لوينسكى)، حيث سيقول هؤلاء كيف يمكن الحديث عن تدين كلينتون وهذه أفعاله؟!!. وللرد على ذلك نقول: إن ما قام به كلينتون لا يختلف في شيء عما قام الرئيس الأمريكي (كليفلاند)، الذي جاء إلى البيت الأبيض مجتازاً باب النجاح في الانتخابات التي جرت 1884م اجتيازاً عسيراً، بهامش ضيق من الأصوات بسبب الفضيحة التي طاردته، عندما اتهمته سيدة تدعي (ماريا هيلبين) بأنه أب لابنها دون زواج. حيث غفر الأمريكيون لـ (كليفلاند) ـ كما رأيناهم يغفرون لكلينتون ـ فضيحته مع (مونيكا)، وسمحوا لذلك المحامي المنتمي للحزب الديمقراطي (كليفلاند)، الذي عمل في الشرطة ـ قبل أن يصبح حاكما لولاية نيويورك ـ أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية (1).
كما أنه لا يختلف عما قام به كثير من رموز الكنيسة البروتستانتية في أمريكا، مثل (جيمى سواجارت) و (جيم بيكر) اللذين مارسا الزنا لمرات عديدة، ولما افتضح أمرهما لم يخجلا من ذلك، وذهبا إلى الكنيسة، وأعلنا التوبة أمام إتباعهم، وعلى الهواء مباشرة، وعادا بعد ذلك لممارسة الوعظ في الكنيسة مره أخرى، وكأن شيئاً لم يحدث. بل أن الأمر وصل إلى درجة أن بعض البروتستانت التحرريون ساموا علناً أشخاصاً يمارسون الشذوذ الجنسي جهاراً، فجعلوا منهم قساوسة، حيث اعتبروا تقبل الشواذ جنسياً، والذين كانوا منبوذين سابقاً تعبيراً عن أخلاقيات المسيح!؟ (2). وهذا أمر طبيعي في العقيدة البروتستانتية، التي تؤمن بحرفية كل ما جاء في الكتاب
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص 204
(2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص268(2/17)
المقدس، الذي يضم بين دفتيه مئات القصص والراويات عن ممارسة الفاحشة واللواط وغيرها، والتي تنسب للأسف ليس لأشخاص عاديين، بل تنسب للأنبياء والصالحين!!.
إذ فخطيئة كلينتون من وجهة النظر الدينية ـ ومنظومة القيم، التي يقوم عليها المجتمع الأمريكي، لا تنفى تدينه، وإيمانه بحرفية كل ما جاء في الكتاب المقدس، وليس أدل على ذلك أنه شوهد أثناء أزمة اتهامه، وهو يخرج كل يوم أحد من الكنيسة، حاملاً في يده نسخته الشخصية من الإنجيل!! (1).
وبالعودة إلى نشأة كلينتون، نجد أنه ولد في ولاية اركنسو، وتولى حكمها فيما بعد. والواقع أن المدينة التي ترعرع فيها بيل في اركنسو، وهي هوت سبرينغ (أو الربيع الحار)، كانت تحتوي على نوعين من النشاطات: الكازينو، وسباق الخيل، من جهة، والمعمدانية أو الأصولية المسيحية الجديدة من جهة أخرى. ولقد كان تأثير الأصولية المسيحية كبيراً عليه، ولا يزال حيث انعكس ذلك بصوره كبيره على موقفه من إسرائيل، حيث كان (بيل كلينتون) كريماً في الوعود التي أطلقها لصالح الدولة العبرية، وصريحاً في انتقاده للإدارة السابقة عليه. وجاء في رسالة بعث بها إلى الناخبين ـ أثناء حملته الرئاسية ـ يطلب دعمهم ما حرفيته: "نعم إسرائيل وأميركا على منعطف طرق اليوم، نطلب منك دعماً مالياً سخياً، أن بوش يستطيع أن يجمع الملايين بدعوة أصدقائه الأغنياء إلى العشاء. هل تساعدوني على إرجاع المنطق إلى العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية؟. الرجاء أجيبوا اليوم وكونوا كرماء، اقسم أني إذا انتخبت رئيساً، لن أخيب أمل إسرائيل أبداً". والتزاماً بوعوده، فقد جاءت التعيينات اليهودية في الإدارة الكلينتونيه بحصة مهمة لها وزنها وتأثيرها على الصعيدين الداخلي والخارجي (2).
كما أن كلينتون نفسه وضح الخلفية الدينية التي تدفعه للتعاطف مع إسرائيل التي زارها في عام 1981م، حيث وصف هذه الزيارة التي تأثر بها كثيراً، بأنها كانت، زيارة دينية أكثر منها سياسية. كما أنه تأثر كثيراً بقصة موت أحد رجال الدين
_________
(1) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل- - ترجمة / ميرفت أبو خليل - ص 34 - دار الآداب للنشر والتوزيع /بيروت - ط1 2003
(2) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق د. صالح زهير الدين ص 86ـ87(2/18)
المسيحيين، كان قد مات مؤخراً، وتحدث إليه طويلاً قبل ذلك، حيث قال له هذا القس: "إنه يأمل في أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، ولكنه قال له أيضاً: "إنه يجب عليه أن يحافظ على إسرائيل ... لأنه إذا تخلى عن إسرائيل، فلن يغفر له الله". وعلق كلينتون على ذلك بقوله: "أعتقد أنه ينظر إلى الآن ـ يقصد القس ـ وإذا ما انتخبت فلن أتخلى عن إسرائيل" (1).
هكذا يؤكد (بل كلينتون) كسابقيه من الرؤساء الأمريكيين على الأبعاد الدينية والتوراتية لعلاقته بإسرائيل، حيث أنه لم يبخل منذ توليه الرئاسة في تقديم كافة أنواع الدعم للدولة اليهودية. فقد قام بزيارتين لإسرائيل، ليؤكد للجميع دعمه وتأييده لها، ومن تابع هاتين الزيارتين، لابد وأنه لاحظ مدى مشاعر الحب والود التي يكنها الرئيس بل كلينتون لإسرائيل وارض إسرائيل. ففي خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي خلال زيارته الأولى، كان (بل كلينتون) يتغنى باليهود وإسرائيل، وبالقيم اليهودية التي منحها الشعب اليهودي للعالم الحر .. وفي الزيارة الثانية لاحظنا مدى تأثره باغتيال رابين، حيث جاء وطاف حول قبر رابين وكأنه يطوف أمام قبر نبي أو مكان مقدس، ولإظهار هذه القدسية ارتدى القبعة اليهودية، وودع رابين بكلمات عبرية قائلاً (شالوم حافير) (وداعاً يا صديقي).
كما أن حرص الرئيس كلينتون وإدارته على إسرائيل ومصالحها، بلغ أكثر من حرص الإسرائيليين على أنفسهم، فقد حدث أن أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً بإدانة إسرائيل لقيامها بمصادرة مساحات واسعة من الأراضي في مدينة القدس، فقامت أمريكيا باستخدام حق الفيتو ضد القرار، ولكن في اليوم التالي أجبرت الحكومة الإسرائيلية ـ بعد ضغوط من أعضاء الكنيست العرب ـ على إلغاء هذا القرار، بعد أن هددوا بالتصويت ضد الحكومة في جلسات الكنيست. أما موقفه العدائي والحاقد من العراق، فليس بحاجة إلى توضيح، حيث أنه وخلال فترة رئاسته، ارتكب أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي، من تدمير وحصار جائر راح ضحيته أكثر من نصف مليون طفل عراقي، هذا بالرغم من أن العراق التزم بكافة قرارات مجلس
_________
(1) جريدة القدس ـ العدد: 8329 ـ السبت 7ـ11ـ 1992م.(2/19)
الأمن الأمريكي الظالمة، والتي لم تقنع هذه الإدارة بالكف عن مهاجمة العراق والبحث يومياً عن مبررات لتدميره.
كلينتون ومونيكا وضرب العراق
يعتبر الرئيس الأمريكي (بل كلينتون) من المغرمين بكل ما هو يهودي، فوزراءه ومستشاريه أغلبهم من اليهود .. ! وحتى عندما أراد أن يرتكب الفاحشة، اختار تلك اليهودية مونيكا، سائراً على خطى الملك الفارسي قورش الذي أصبح بطلاً من أبطال العهد القديم بعد مغامرته مع (استر) اليهودية، التي تمكنت من إغوائه ودبرت مؤامرة للانتقام من أعداء بنى قومها ـ أثناء السبي البابلي ـ في مذبحة قتل فيها 75 ألف قتيل، وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من آذار، الذي أصبح عيداً من أعياد اليهود يحتفلون به سنوياً، كما إنها تمكنت في النهاية من إقناع قورش بإعادة اليهود إلى فلسطين، وبناء الهيكل الذي دمره الملك البابلي نبوخذ نصر.
ولما كان الرؤساء الأمريكيون يتسابقون للحذو حذو قورش والتشبه به، كما فعل الرئيس ترومان الذي قال عندما قدمه (إيدى جاكوبسون) إلى عدد من الحاضرين في معهد لاهوتي يهودي، ووصفه بأنه الرجل الذي ساعد على خلق دولة إسرائيل. فرد عليه ترومان بقوله: "وماذا تعنى بقولك ساعد على خلق؟ إنني قورش ... . إنني قورش". فربما أراد (كلينتون) أن يحذو حذو قورش بان يعيد إخراج الرواية حتى في أدق تفاصيلها، فاضطر إلى إقامة تلك العلاقة مع تلك اليهودية، حتى لا يخرج عن السيناريو المحدد سلفاً في سفر استر، وحتى لا يتهم بعدم الإيمان بحرفية كل ما جاء في الكتاب المقدس فيكون من الخاسرين ... .. !! ويكفى تأمل ما قامت به إدارة كلينتون ضد العراق من حصار همجي حاقد، وتدمير لمقدرات هذا البلد العظيم وتقتيل لأطفاله، وكل ذلك من أجل عيون إسرائيل ومونيكا .. ؟!
حصار العراق والقيام بعمل الرب!!
يشكل العراق في الدعاية الأمريكية والبريطانية مشكلة في الشرق الأوسط ـ حيث يتماهى العراق بصورة عامة مع الرئيس العراقي، الزعيم الذي أضفيت عليه(2/20)
صفات شيطانية وبصورة منتظمة، استبعد من كل مفاوضات .. هذا هو رئيس الدولة العربية، الذي لا بد من إبقائه (في الحصار) و (داخل القفص) أو (داخل القمقم) أو ـ حسب تفكير أمريكي ـ بريطاني لاحق ـ لابد من الإطاحة به لإزالة كل تهديد مزعوم يشكله على جيرانه والغرب والعالم. فقد حكم استراتيجيو واشنطن بأنه لضرب (الملك الشيطاني)، ولإنجاز جداول أعمال سرية واسعة فإن أي عمل ضد العراق مسموح به. لقد عانى العراق لأطول من عقد من غارات الصاروخ كروز والقصف الذي لا ينتهي بالقنابل، والهجمات الإيرانية في الجنوب، والغزوات التركية في الشمال والتخريب الإرهابي والمحاولات الانقلابية ضد الرئيس العراقي، والدعايات السوداء التي لا تعرف ندماً، ونظام عقوبات مستمرة، وهي ما اعترف أكثر مسئولي الأمم المتحدة اتزاناً، بأنها اكتسبت أبعاداً للإبادة الجماعية (1).
فعلاً إنها إبادة عرقية لشعب العراق، تدار من قبل واشنطن ولندن ليس إلا .. هذه ما شهدت به أهم الأسماء العالمية التي انخرطت في الجهد القاري الخاص بفك الحصار عن العراق. وتشمل هذه الأسماء (نعوم تشومسكي) , (ودينس هاليداي) الذي استقال من منصبه الرفيع كمسؤول عن برنامج الأمم المتحدة في العراق احتجاجاً على لاإنسانية الحصار واستهدافه شعب العراق بدل النظام, وجون بيلجر الصحفي والكاتب البريطاني الناقد, وروبرت فسك من الإندبندنت, وغيرهم أمثال النائب البريطاني (جورج جلوي)، (ورامس كلارك) المدعي العام الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية، الذي قدم شكوى جنائية ضد الولايات المتحدة الأمريكية وآخرين لجرائمهم ضد شعب العراق، والتي تسببت بوفاة أكثر من مليون وخمسمائة ألف شخص، بينهم سبعمائة وخمسون ألف طفل تحت الخامسة من العمر، وإلحاق الأذى بكل السكان بعقوبات مبيدة جماعياً (2).
وبالرغم من هذه الإبادة الجماعية لأطفال العراق، إلا أن ذلك لم يؤثر في صناع القرار في واشنطن، فعندما سئلت مادلين أولبرايت ـ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة ـ عن رأيها في تسبب الحصار في موت أكثر من نصف مليون طفل عراقي،
_________
(1) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - ص17 - مركز دراسات الوحدة العربية - ط1 2003
(2) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق ـ د. صالح زهر الدين ص211(2/21)
أجابت قائلة: "إننا نعتقد أن ثمرة الحصار تستحق ذلك" (1). هذا التصريح الخالي من كل بعد إنساني هو في الواقع البوصلة التي نستهدى بها في تحليلنا، ورصدنا لجوهر وخلفيات السياسة الأميركية والبريطانية تجاه العراق. ذلك أن أولبرايت وبفجاجتها المعهودة ـ لكن المفيدة لناحية عدم إخفاء الدوافع الحقيقية تحت ستار اللغة الدبلوماسية المخففةـ قد وضعت النقاط على الحروف بشكل جلي: الولايات المتحدة لا يهمها مصير مئات الآلاف من أطفال العراق الأبرياء, بل يهمها المضي بصرامة في تنفيذ سياستها الخارجية، الهادفة إلى المحافظة على مصالح أميركا في الشرق الأوسط أولاً وأخيراً، وبالأساس الحفاظ على أمن إسرائيل.
وإذا كانت العنجيهة (الأولبراتية) قد صدمت كثيرين آنذاك، إلا أنها لم تصدم (أنتوني آرنوف) محرر كتاب (العراق تحت الحصار)، الذي يموضع تلك العنجهية في إطار سياسة خارجية عامة للولايات المتحدة تنظر من خلالها نظرة عنصرية للعرب والمسلمين باستخفاف واحتقار، وبأنهم وبلدانهم وشعوبهم مجرد مصدر للنفط وللإرهاب, بما يستوجب نهب الأول ومحاربة الثاني (2). فالمسألة هي كما يقول (ويليام بلوم): "إن زعماءنا قساة لأن من يرغبون ويستطيعون أن يكونوا قساة وعديمي الرحمة بصورة متطرفة هم وحدهم الذين يستطيعون أن يحتلوا مناصب القيادة في مؤسسة السياسة الخارجية، ربما كان ذلك منصوصاً عليه في مواصفات الوظيفة. إن الأشخاص القادرين على الإعراب عن قدر من التعاطف الإنساني والتقمص العاطفي مع الأغراب البعيدين، الذين لا حول لهم ولا قوة - ناهيك بالجنود الأمريكيين ـ لا يصلحون رؤساء للولايات المتحدة ولا نواباً للرئيس، ولا وزراء خارجية، ولا مستشارين للأمن القومي، ولا وزراء خزانة، كما أنهم لا يريدون ذلك" (3).
لكن ماذا تريد الولايات المتحدة بالضبط من العراق بعد كل التدمير الذي لحق به، جراء القصف الجوي اليومي، والذي تم بصمت ومن دون أي ضجيج إعلامي؟.
_________
(1) قرن أمريكي آخر ـ نيكولاس غايات ـ ترجمة رياض حسن ـ ص177 - ترجمة رياض حسن- دار الفارابي- ط1 2003.
(2) العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب تأليف أنتوني آرنوف (محرر) ـ ص13ـ14 - خدمة كمبردج بوك ريفيو.
(3) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيدـ ص 36.(2/22)
يجيب على ذلك الرئيس جورج بوش الأول، الذي كان المهندس الأساسي لحملة العقوبات، والذي قاد حملة التحريض على حرب الخليج عام 1991م وكان مصمماً ـ إلى جانب من خلفوه في الرئاسة ـ على أن يؤمن بقاء الحظر الاقتصادي والغارات على الدوام. ففي يوم 19 كانون الثاني / يناير 2000م أشاد بالطياريين الأمريكيين في قاعدة أحمد الجابر الجديدة في الكويت، قائلاً: "إنهم (يقومون بعمل الرب) في مواصلتهم الإغارة بالقنابل على العراق، وأضاف معلناً: "نحن الولايات المتحدة بلد أخلاقي ... وأنتم (الطيارون الأمريكيون) تعلنون بياناً أخلاقياً" (1).
ولا أعرف أي رب هذا الذي يؤمن به (جورج بوش الأب)، الذي تسبب في إبادة جماعية لشعب العراق، إلا أن يكون (رب الجنود يهوه) الذي يتحرق شوقاً على قتل أطفال العراق: "طوبى لمن يحطم رؤوس أطفال بابل بالحجارة". هذا هو البيان الأخلاقي الذي يعنيه الرئيس بوش الأب، والذي تسبب حسب دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة والأمومة (يونيسيف) في أن ثلث الأطفال العراقيين أقل من خمس سنوات (أي 96 ألف طفل)، يعانون من نقص تغذية مزمن. وارتفعت نسبة وفيات الأطفال من 61 في الألف العام 1990م، وهى السنة التي فرض فيها الحظر على العراق، إلى 117 في الألف العام 1996م. وقد تضاعف المتوسط الشهري لعدد الأطفال الذين يموتون نتيجة إصابات رئوية حادة، ونتيجة نقص التغذية والإسهال بمعدل عشر مرات، وارتفع من 589 وفاة عام 1989م إلى 5750 عام 1996م (2).
وعلى الصعيد الصحي، فإن بيان بوش الأخلاقي، الذي زينه بنظام العقوبات، تسبب في كارثة إنسانية لا يمكن وصفها خاصة على مستوى حظر استيراد الأدوية والغذاء، بزعم أن الكثير منها يحتوي على مواد وعناصر يمكن للعراق استخدامها في إنتاج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، حيث كان استيراد أي مواد من الخارج يتطلب موافقة لجان عديدة من الأمم المتحدة ـ المشرفة على الحصارـ والمرور بـ14 خطوة تسيطر عليها الولايات المتحدة، التي كانت ترفض الكثير من صفقات الدواء والطعام
_________
(1) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - مركز دراسات الوحدة العربية ص257.
(2) خلفيات الحصار الأمريكي البريطاني للعراق - د. صالح زهر الدين ص247(2/23)
حتى من دون تقديم أي تبريرات (1). وهكذا فقد كانت عمليات الحصار الأميركية على العراق قتلاً بطيئا لكل العراقيين، فتوفي مئات الآلاف من الأطفال بسبب الجوع والمرض، وتدنت مستويات المعيشة لدى الملايين، واتسعت مساحة الفقر حتى شملت عائلات كانت ميسورة. لقد قضى الحصار على الطبقة الوسطى العراقية، ودفع الشعب العراقي للعيش في خوف ومرض وجهل لسنوات طويلة، فقد انخفض الدخل الفردي في العراق من 4000 دولار عام 1980م إلى أقل من 300 دولار عام 1999م، وهاجر عشرات الآلاف من أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية العالية (2).
إلى جانب ما تقدم برزت في حرب الولايات المتحدة المستمرة ضد العراق مسألة دور الإعلام وأنماط التحكم فيه في الغرب، لنقل ما تراه واشنطن, أو ما تريد للرأي العام أن يراه، من خلال ما يقوله الأعلام ضمناً، أو يسكت عنه قصداً، حيث أن الإعلام الغربي ارتكب سبع خطايا في حق الشعب العراقي. فهناك إهمال أو تخفيف لأثر العقوبات على الشعب العراقي, وهناك إهمال للتقارير التي تنقض وجهة النظر الغربية، وترى معدلات الوفاة وغيرها على حقيقتها, وهناك أيضاً الإصرار على شخصنة الحرب وكأنها موجهة ضد صدام حسين فقط، والتغافل المقصود عن ذكر الشعب العراقي أو العراق كدولة (3).
يضاف إلى هذه التكتيكات والخطايا أساليب التغطية نفسها، حيث كان يتم عادة خلق توازن قوى وهمي لتبرير الضربات القوية وبلا رحمة, إضافة إلى المبالغة في تصوير قوة الجيش العراقي، والتهديد الذي يمثله للجوار, وكذا الانتقائية في اختيار الخبراء، الذين يدلون بتعليقات حول الشأن العراقي والعقوبات، حيث يتم التركيز على موضوعات تافهة وسخيفة، في الوقت الذي تغفل به جرائم بشعة ترتكب بحق الشعب العراقي والإنسانية، في عملية تضليل وتعتيم متعمدة من قبل وسائل الإعلام الأمريكية وإذنابها. ولكن بالرغم من هذا التعتيم والتضليل الإعلامي،
_________
(1) العراق .. تقرير من الداخلـ تأليف: ديليب هيرو ـ كامبردج بوك ريفيوز
(2) زلزال في أرض الشقاق العراق (1915ـ2015) ـ ـ كمال ديب ـ عرض/ إبراهيم غرايبةـ المصدر: الجزيرة ـ 19/ 2/2004م
(3) العراق تحت الحصار: الأثر المميت للعقوبات والحرب تأليف ـ أنتوني آرنوف- - ط1 2000 - الناشر: بلوتو برس- لندن
خدمة كمبردج بوك ريفيو- الجزيرة نت(2/24)
كانت هناك كثير من الأصوات الشريفة، والشجاعة في الغرب، والتي تمردت على الخطاب الرسمي في بلدانها، ورفضت الانصياع لمنطق تحقيق المصلحة القومية النفعية تحت أي ظرف وبأي ثمن, ولو كان ذلك الثمن تدمير شعوب وسحقها, وإرجاع بلدان بأكملها إلى قرون التاريخ السحيق.
وبعد ...
هذه هي قصة حرب الخليج الثانية وما تبعها من حصار، والتي تبدو وكأنها سيناريو معد مسبقاً، تم تنفيذه بإتقان، لتدمير القوة العراقية، التي تهدد إسرائيل، حيث استخدمت دول عربية ككبش فداء، لتمرير هذا المخطط من خلال تبعيتها الكاملة وتآمرها مع أمريكا، وعدم إدراكها لما يعد لها وللمنطقة على أيدي الأمريكان والإنجليز والصهاينة. فكانت حرب الخليج الثانية، التي لم تنته بتدمير العراق، ونهب ثروات المنطقة واحتلالها، بل استمرت لمدة 13 عاماً من خلال فرض حصار جائر وهمجي على الشعب العراقي، أدى إلى مقتل ملايين العراقيين من أطفال وشيوخ، بالإضافة إلى ترسيخ الاحتلال الأمريكي لمنطقة الخليج، وزيادة القواعد العسكرية فيها واتساعها، مما خلق جو من عدم الاستقرار في المنطقة، بسبب التهديدات الأمريكية المستمرة بالحرب على العراق، والتي ألحقت أضرار هائلة باقتصاديات هذه الدول، وقضت على سيادتها واستقلالها.
والآن تكرر أمريكيا نفس المحاولة، لضرب صمود وشموخ الشعب العراقي، الذي لم تهز إيمانه ويقينه تلك الحرب الهمجية، والحصار الجائر، الذي لم يشهد التاريخ مثيلاً له، ولم تثنه التضحيات الجسام التي قدمها عن التخلي عن التزاماته تجاه القضايا العربية والإسلامية، وعلى رأسها قضية فلسطين، بل كان ولازال، أمل هذه الأمة في النهوض والتحرر. نعم كررت أمريكيا المحاولة، وضربت العراق، واحتلت أراضيه، ليس لتحرير الكويت التي لم تحرر، أو لتطبيق قرارات ما تسمى بالشرعية الدولية، بل من اجل تدمير البقية الباقية من القوة العربية، لإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة، حسب المتطلبات التوراتية لإسرائيل، والتيار الديني الأصولي في أمريكا، لتكون هذه الحرب (هرمجيدون) فرصة للانتقام من كافة مضطهدي إسرائيل، ومقدمة ضرورية لعودة مسيحهم المنتظر، وتدمير الأقصى(2/25)
وإقامة إسرائيل الكبرى، وسنكمل حديثنا عن هذه الحرب في الفصول التالية، في اطار حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي ...(2/26)
الباب الثالث
حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى(2/27)
الفصل الأول
الدين والدولة
أمريكا دوله لها روح كنيسة
قد يبدو القول بوجود دور قوى وفعال للدين في العملية السياسة، وفي الحياة العملية في بلد صناعي متقدم كالولايات المتحدة، في أواخر القرن العشرين، في أسوأ الحالات، كتقول وادعاء، وفي أقلها سوءاً، كإسقاط لأفكار مسبقة عن تأثير الغيبيات ... غير أن ذلك يسقط من الاعتبار الحقيقة الماثلة في أن قادة المجتمع الأمريكي السياسيين والروحانيين على السواء، عنوا بأن يتخذوا مواقفهم منذ نشأة جمهوريتهم وحتى الآن، على قمة متاحة من الأرض الأخلاقية العالية، مستمدين باستمرار السند والمبرر لكل تصرف أمريكي في شؤون أمريكا والعالم من الدين والأخلاقيات العليا، ومن المصطلحات ذات الرنين الأخلاقي القوى، كـ (الحقوق الإنسانية)، و (القانون الدولي)، و (الحضارة) وما أشبه، ومسبغين على أنفسهم وعلى بلدهم عباءة الاضطلاع بعبء رسالة حملت العناية الإلهية ذاتها لا أقل، الأمة الأمريكية بها لصالح البشر جميعاً (1).
وعندما قمت في عام 1993م بنشر دراسة بعنوان (الصليبيون الجدد .. الحملة الثامنة) في جريدة القدس في فلسطين، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب يحمل نفس العنوان ـ نشر في كل من فلسطين ومصر، محاولاً إبراز الأبعاد الدينية للتحيز الأمريكي البريطاني لإسرائيل ـ استغرب في حينه كثير من الأصدقاء هذه التسمية، اعتقاداً منهم أن العصر الذي نعيش فيه لم يعد به مجال للحروب الصليبية، والعداوات الدينية، ولكنهم بعد قراءة الكتاب والأمثلة العديدة التي وردت فيه لتأكيد هذا البعد، هالهم ضخامة الدور الذي يلعبه الدين في رسم سياسة وتوجهات أكبر دولة في العالم، تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي (2).
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص323
(2) بعد أحداث 11 سبتمبر بثلاثة أسابيع قمت بنشر دراسة بعنوان "حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى" في كثير من الصحف والمجلات العربية وعلى صفحات الإنترنت، محاولاً توضيح ما يجرى وعلاقته بالتيار الديني الأصولي الذي يحكم أمريكيا، وبالذات بعد توجيه التهمة للعرب والمسلمين، بدون وجود أي دليل على علاقة المسلمين بهذا العمل، حيث نشرت الدراسة في جريدة الشعب المصرية وصحيفة الجماهيرية الليبية وكثير من المواقع العربية على الانترنت.(2/28)
فبالرغم من إدراكي، أن الحديث عن حروب صليبية في هذا العصر، يعتبر أمراً مستهجناً لدى البعض، إلا أنني سأستمر في محاولة إبراز هذا الدور الذي يلعبه الدين في السياسة الأمريكية، انطلاقاً من إيماني أن الدين ـ كان ولا يزال ـ هو الملهم والمحرك الأساسي لكافة الأفعال البشرية. فكما يقول المؤرخ الإغريقي (بلوكارل): قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور ... ومدن بلا مدارس ... ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد.
الأصولية المسيحية وعلمانية الغرب
من الأخطاء الشائعة لدى معظم المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، اعتقادهم بلادينية الحضارة الغربية، قياساً على الإفرازات الأخلاقية والفكرية لهذه الحضارة، التي تفصل بين الدين والدولة. وهذا الاعتقاد خاطئ وربما يصدق على بعض الدول الغربية، ولكنه لا يصدق عليها كلها. فهو يصدق على الدول الكاثوليكية مثل إيطاليا وفرنسا وأسبانيا، ولكنه لا يصدق على الدول البروتستانية مثل بريطانيا وأمريكيا.
فالدول الكاثوليكية قبل أن تأخذ بمبدأ فصل الدين عن الدولة، كانت تخضع لسلطة البابا، وكان لزاماً عليها إطاعة أوامره، حيث بلغت سلطة البابا في ذلك الحين شأواً عظيماً. فقد كان البابا يدعى حق السيطرة الدينية والدنيوية على كل شيء، وكانت الكنيسة تفرض ضريبة الأعشار على إتباعها وتجمع التبرعات وتضمها لمواردها الخاصة، فضلاً عن إعفاء أملاكها من الضرائب. وكان للبابا نواب يمثلونه لدى كافة الملوك والأمراء في أوروبا (1). ولكن عندما تأثرت هذه الدول بأفكار عصر التنوير وبحركة الإصلاح الديني، قامت بفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، بحيث لم يعد للبابا أي سلطان عليها. ولكن هذا الدول عندما فعلت ذلك فإنها خالفت قرارات المجامع المسكونية، التي اعتبرت كل المسيحيين بمن فيهم الحكام خاضعين
_________
(1) الاجتماع الديني (مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية) ـ د. أحمد الخشاب ـ ص 212(2/29)
للبابا وملزمين بطاعة أوامره، لأنه رئيس الكنيسة التي تحمل سلطان الله على الأرض (1).
وهذا الوضع الجديد الذى نشأ في هذه الدول، نتيجة فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، يجعل الحديث عن علمانية هذه الدول له ما يبرره، وربما هذا ما يفسر قوة الأحزاب الشيوعية في البلدان الأرتوذكسية والكاثوليكية، في حين أنها غير قوية في البلدان الأخرى، وعلى الأخص في البلدان البروتستانتية. فمن بين الأعمال المبكرة لماركس, والتي لم تحظ بالكثير من الشهرة, تعليق كتبه على إنجيل يوحنا. يجزم ماركس فيه: "بأن المسيحية, بصيغتها البروتستانتية على وجه الخصوص, هي الشيء الوحيد القادر على إعادة صنع حياة دمرتها الخطيئة" (2)، لأن العامل عندما وجد انه مبعد عن مجتمع تدعمه الأوساط الكاثوليكية، انضم إلى اكليروس آخر مستكمل التكوين (3)، وهذا يعنى أن الدين الذي وصفه ماركس بأنه افيون الشعوب، هو الدين المسيحي بشقه الكاثوليكي والارثوذكسي، وليس الدين المسيحيى بشقه البروتستانتي، الذي مدحه ماركس وغيره من مفكري التنوير كما سنلاحظ، بسبب فصله بين الدين والدولة.
أما الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكيا، فإنها بتبنيها للمذهب البروتستانتي، قبلت بمبدأ فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، الذي نادى به (لوثر) خلال محاولته تحجيم سلطة الكنيسة الكاثوليكية، كما وضحنا ذلك سابقاً. فإلى جانب الإصلاحات الدينية الكاسحة التي قام بها (مارتن لوثر) و (جون كالفن)، فإنهما ربما اقترحا إلغاء الصلة التي تربط بين الكنبسة والدولة، والتي كانت تمثل جزءا أساسياً في الكاثوليكية في ذلك الوقت. ولكن في الحقيقة أيد كل من (مارتن لوثر) و (جون كالفن) إضفاء الطابع الرسمي على الكنائس التي أسهما في تأسيسها (4). وقد جاءت بعد لوثر فرق بروتستانتية متعددة مثل المعمدانيين لتؤكد هذا المبدأ، حيث كانوا أول من نادى بمبدأ فصل الدين عن الدولة، لأسباب دينية
_________
(1) المسيحية ـ د. أحمد شلبي ـ ص 252 ـ253
(2) إنجلز .. مقدمة قصيرة جداًـ تيريل كارفرـ مراجعة/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت
(3) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 83 - عويدات, 1982
(4) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص25(2/30)
أصولية أدعوا خلالها بأن الكنيسة في بدايتها الأولى لم يكن لها أي علاقة بالدولة. لهذا فإن الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكيا عندما قامت بفصل الدين عن الدولة، فإنها فعلت ذلك استجابة لعقيدة دينية، وليس استجابة لأفكار ونظريات فلسفية علمانية كما حدث في الدول الكاثوليكية والأرثوذكسية.
فنتيجة للثورة على الكنيسة الكاثوليكية خلال عصر الإصلاح، "رأي الغرب في العلمانية - كما قال الفيلسوف الإنجليزي البروتستانتي (جون لوك) (1) - الطريقة الجديدة والأفضل ليكون المرء متديناً، معتبراً أن الخلاص الروحي ينبغي أن يقوم على ترك الأفراد ليقرروا بأنفسهم في نهاية المطاف، الطريقة التي يرشدهم بها الكتاب المقدس لتحقيق ذلك الخلاص, سواء كان ذلك عن طريق العمل الصالح أم برحمة من الله" (2). وهذه الطريقة الجديدة التي عرفت فيما بعد بالعلمانية، لم تكن تعني الابتعاد عن الدين، بل الاقتراب منه أكثر ولكن بدون وساطة من رجال الكنيسة، لهذا فإن الدين ظل يلعب دوراً رئيساً في حياة هذه الدول، بالرغم من أنها تفصل بين السلطتين الزمنية والدينية، لأن هذا الفصل لم يأتِ نتيجة لنزعة الحادية تنكرت للدين، بل جاء تلبية لمعتقد ديني.
وهذا الوضع الجديد للدين في هذه الدول يتمشى مع رأى (كالفن) في علاقة الكنيسة بالدولة، حيث كان يقول: "إن الكنيسة والدولة مقدستان، وقد خلقهما الله لكي يعملا في انسجام كالروح والجسد لمجتمع مسيحي واحد. فعلى الكنيسة أن تضع القواعد التي تنظم التفاصيل الخاصة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وعلى الدولة أن تدعم هذه القواعد باعتبارها ذراع الكنيسة الطبيعي" (3). وهكذا أصبح لفصل الدين
_________
(1) جون لوك اسم لامع في تاريخ الفكر السياسي الغربي, ولا يخلو كتاب له علاقة بالعلوم السياسية من اسم هذا المفكر. لوك الفيلسوف والاقتصادي والمجادل العتيد (1632ـ1704) عاصر فترة حرجة ومهمة في تاريخ ميلاد النظام السياسي البريطاني الحديث. وقد شهدت فترة حياته الحرب الأهلية وإعدام الملوك وإعلان الثورة وقيام الجمهورية، كما شهدت فترة تهدئة النزاع الديني الذي مزق البلاد منذ بداية الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية في روما (33ـ1534) وتحول بريطانيا من دولة ملكية مطلقة إلى دولة ملكية دستورية ذات حكومة محددة المهام والصلاحيات.
(2) لوك .. مقدمة قصيرة جداـ تأليف/ جون دون ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
(3) قصة الحضارة ـ ول ديورانت قصة الحضارة ـ ول ديورانت - زكي نجيب محمود، , محيى الدين صابر ـ ج 23،24 ـ ص 215 - دار الجيل, 1988(2/31)
عن الدولة معنى جديد في ظل المذهب البروتستانتي ... أنه توزيع للمهام أو تقسيم للعمل حسب تقاليد النظام الرأسمالي.
رأى فولتير وكانط
من المفكرين الذين هاجموا نشاط المنظمات والمؤسسات الدينية الكاثوليكية، الفيلسوف الفرنسي (فولتير) الذي تربى في مدارس الآباء اليسوعيين، فوقف عن كثب على أساليب جماعة الجزويت الدينية، وكان لهذا أثره في مهاجمته الكنيسة الكاثوليكية، إذا أنه كان يعتقد أن هذه الجماعات وأمثالها من الهيئات الدينية، تقوم بممارسة نواحٍ تدميرية سرية، وتشترك في المؤامرات والاغتيالات السياسية، كما أنهم يتسترون وراء المظهر الديني والهدف الثقافي ليسيطروا على عقول النشئ، ويستغلونهم لتحقيق أغراضهم، التي تتنافى مع طبيعة وظيفتهم الاجتماعية كهيئة دينية. ويبدو أن وقوفه على مثل تلك الممارسة الخطيرة، والأحداث الجسيمة التي ألصقت بالقساوسة، قد كان من أهم العوامل المحفزة له على الشك في رجال الدين، ونقمته على المذهب الكاثوليكي وكنيسته. ويبدو أنه لم يتخذ موقفاً خاصاً إزاء الدين ذاته، لأنه عالج الموضوع من زاويته الشخصية. ففي الوقت الذي هاجم وانتقد رجال الكنيسة الكاثوليكية، امتدح المذهب المسيحي البروتستانتي ورجال كنيسته، زاعماً أن هذا المذهب لا يخرج عن حدود طبيعته الدينية إلى الأغراض الاجتماعية الملتوية التي تقصد إلى تحقيق أغراض سياسية واقتصادية تجارية ومالية.
والواقع أن آراء فولتير، تعتبر امتداداً طبيعياً للنزعة التحررية من ربقة السلطة الكنسية والبابوية التي كانت تمارس منظماتها ألواناً من النشاط التدميري، لتحقيق أهدافها النفعية بما يحفظ لها السطوة والسيطرة في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يبدو لنا أن فولتير يندد بفكرة الاضطهاد الديني أكثر من تنديده بالوظيفة الاجتماعية للهيئات الدينية، ومعنى ذلك أن حملاته ضد الكنيسة الكاثوليكية كان مرجعها إلى تعصبها ضد الطوائف الدينية الأخرى كالبروتستانتية. وآية ذلك أنه يشير في فلسفة التاريخ إلى(2/32)
أن الدين مظهر فطرى للمجتمع الإنساني عن طريقه يتحقق السلام والوفاق بين الأفراد والجماعات. فإذا حاد عن وظيفته الاجتماعية الطبيعية أصبح معول هدم، وأساس اضطهاد، وعامل تفرقة ومشاحنات (1).
وانطلاقاً من فهم (فولتير) السابق للدين، لم يكن مستغرباً أن يبدى إعجابه بالمذهب البروتستانتي في رسائله عن الانجليز: "فقد إثارة دهشته الحرية التي كان يعمل في ظلها الكتاب الانجليز. فقد كتب (بولينج بروك) و (بوب واديسون) و (سويفت) كل ما أرادوا في جو من الحرية التامة. هنا شعب له آراؤه الخاصة به، شعب أصلح دينه وشنق ملكه، واستورد ملكا آخر، وأنشأ مجلسا نيابيا أقوى من أي حاكم في أوروبا. ولا وجود لسجن الباستيل هنا، وهنا ثلاثون مذهباً دينياً بغير قسيس واحد. هنا أشجع المذاهب الدينية جميعاً، مذهب الأصحاب (الكويكرز)، الذين أثاروا دهشة العالم المسيحي بأخلاقهم المسيحية" (2).
أما الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كانط) فقد سار على نفس النهج في موقفه من الدين، وانتقد ممارسات رجال الكنيسة الكاثوليكية والكثير من طقوسها، حيث قال: "إن قيمة الكنائس والمعتقدات الدينية تكون بمقدار ما تعاون الجنس البشرى على التطور والرقي الأخلاقي، أما إذا تحول الدين إلى مجموعة من المراسيم والعقائد والطقوس الشكلية، وعلق الناس أهمية بالغة على هذه الطقوس والمراسيم وفضلوها على الناحية الأخلاقية، التي جاء بها الدين، وجعلوا المراسيم والطقوس امتحاناً تقاس به الفضيلة، فان هذا يعنى انتهاء أمر الدين وزواله. إن الكنيسة الحقيقية هي جماعة من الناس، مهما بلغ تفرقهم وانقسامهم يجمعهم ويوحدهم ولائهم لقانون أخلاقي مشترك. وقد عاش المسيح ومات لتأسيس مثل هذه الجماعة. لقد أسس المسيح الكنيسة الحقيقية للقضاء على نفاق ورياء رجال الدين ومراسيمهم، وطقوسهم الشكلية، ولكن ظهر بيننا طبقة كهنوتية من رجال الدين والقساوسة بطقوسهم ومراسيمهم التي طغت على فكرة الديانة المسيحية
_________
(1) الاجتماع الديني (مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية) الدكتور / احمد الخشاب ص
(2) حكمة الغرب - برتراند راسل - ص258(2/33)
الأصيلة النبيلة. لقد قرب المسيح ما بين ملكوت الله والأرض، ولكن أخطأنا في فهمه فاستبدلنا مملكة الله بمملكة الرهبان والقسيسين، التي نشأت بيننا" (1).
هذا هو رأي (فولتير) و (كانط) وغيرهم من مفكري عصر التنوير في فرنسا وألمانيا، والذين أصبحوا في نظر كثير من المفكرين العرب والمسلمين مثالاً يحتدي في قضايا الدين والحرية، حيث دعا هؤلاء إلى الانقضاض على الدين وتحييده من حياتنا، والاقتداء بالغرب والأخذ بالعلمانية. وليتهم فهموا مقاصد هؤلاء المفكرين جيداً ودوافعها، ولكنه التقليد غير الواعي للغرب فقط لاغير. فكما لاحظنا فإن (فولتير) يمجد الدين في شقه البروتستانتي وينقم على الدين المسيحي في شقه الكاثوليكي. فهي ليست رؤية ـ أحادية للدين ترفضه رفضاً تاماً كما يريد بعض مفكرينا ومثقفينا، بل هي دعوة إصلاحية للدين تلتقي في النهاية مع، أفكار قادة الإصلاح الديني البروتستانتي التي فصلت الدين عن الدولة، ولكن بدون إلغاء دور الدين في الحياة العامة والخاصة، بل ألغت سلطة رجال الكنيسة فقط، أو بالأحرى نزعت السلطة من يد البابا والكنيسة الكاثوليكية ومنحتها لكافة أفراد الشعب.
وهذا الدور الجديد للدين، في الدول البروتستانتية، ربما يفسر لنا كيف أن بعض الباحثين يذهبون إلى أن النظام الرأسمالي بأسره ـ والسائد في هذه الدول ـ هو وليد منظومة القيم الدينية، التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني وبالذات القيم الكالفينة (2)، لأن الإصلاح الذي وضعه (كالفن) طمس إصلاح (لوثر) وتفوق عليه في مكان تلاقيهما (3). كما أن الدكتور (غيات بوفلجه) يؤكد في كتابه (بين حضارة القوة وقوة الحضارة)، أن الحضارة الغربية المعاصرة هي نتيجة لتطور المذهب البروتستانتي في أوروبا، وتطور الفلسفات المادية وازدهار التقنية الحديثة بها، إذ ربط التطور العلمي بمدى قدرة الإنسان على الطبيعة، وعلى أخيه الإنسان (4).
_________
(1) المصدر السابق - ص356
(2) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 62
(3) المصدر السابق ـ ص 51
(4) بين حضارة القوة وقوة الحضارة ـ تأليف الدكتور غيات بوفلجة ـ عرض/سكينة بوشلوح(2/34)
نسق الدين ونشأة النظام الرأسمالي عند ماكس فيبر
اعتبر (ماكس فيبر) البروتستانتية وخاصة في أفكارها الكالفنية مصدر الإلهام الحقيقي لنشأة النظام الرأسمالي، إذ يؤكد أنها شكلت نسقاٌ ثيولوجياً له معناه، حيث أحتوى هذا النسق على عدد من القضايا التي شكلت في مجموعها نسقاً منطقياً له تماسكه واتساقه، وهذه القضايا هي:
1 - أن هناك إلهاً واحداً ترانسندنتالياً (متعالياً) ومطلقاً، هو خالق الكون ومالكه، حيث خصائص ومجالات فعله بدون الوحي بعيدة تماماً عن الفهم البشرى.
2 - أن هذا الإله قادر على كل الأرواح الإنسانية لأسباب بعيدة تماماً عن الإدراك البشرى، أما (الخلاص النهائي أو الموت والخطيئة الكاملة) فتمثل اعتقادات ثابتة من الأزل إلى الأبد، وليس للإيمان أو الإرادة البشرية تأثير عليه.
3 - أن الله لأسباب غامضة تتعلق به، خلق العالم، ووضع الإنسان بمفرده بداخله، وذلك لمضاعفة مجده.
4 - ولهذه الغاية فلقد قرر الله أن على الإنسان، دون اعتبار إلى أنه قد قدر الخلاص عليه أم الإدانة، أن يعمل لتأسيس مملكة الله على الأرض، وأنه سوف يخضع أثناء ذلك للقانون الإلهي.
5 - ترك مسائل هذا العالم ذات الطبيعة البشرية والجسدية لذاتها، بحيث تذهب إلى غير رجعة (إلى الموت أو الخطيئة) حيث لا مهرب منها إلا باللجوء إلى تحقيق مجد الله (1).
وقد شكلت العناصر السابقة في مجموعها كما يذهب (فيبر) نسقاً قيمياً يحكم ويضبط حركة التفاعل في النسق الرأسمالي. كما أن النسق الاجتماعي شهد هو الآخر ظهور عوامل ذات صلة بنشأة الرأسمالية تتصل بنشأة البروتستانتية ذاتها مثل:
1 - سيادة النزعة التقشفية: يرى (فيبر) أنه نظراً للتعالي الكامل لله، والانفصال بين المسائل الدنيوية والسماوية، فإن هذا الوضع استبعد تماماً الاتجاه
_________
(1) النظرية الاجتماعية لمعاصرة ـ دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع ـ د. على ليله ص 507 ـ 508 - دار المعارف - ط1 1981(2/35)
الصوفي للاتحاد بروح السماء والاستغراق في إطارها، بل أصبح على الإنسان أن يوجه طاقاته الدينية نحو الاتجاه الايجابي التقشفي، بدلاً من الاتجاه الصوفي السلبي. فالله لا يمكن الاقتراب منه كلية، وإنما يمكن خدمته فقط. ووفقاً لذلك فخدمة الله لا يمكن أن تكون في اتجاه الاستغراق الكامل في المسائل الحسية لهذا العالم أو التكيف معها، ولكنها تكمن في السيطرة على كل ما هو حي، وفي الخضوع للنظام من أجل مجد الله، وهذا ما يعنيه (فيبر) بالنزعة التقشفية. ويرتبط بذلك أن العمل من ناحية (وهو قيمة كالفنية) والتقشف، وعدم إنفاق المال فيما هو دنيوي من ناحية أخرى يؤدى إلى التراكم العقلاني لرأس المال (1).
2 - ازدهار العلم الحديث: يعتبر ازدهار العلم الحديث من العوامل الهامة لازدهار الرأسمالية، حيث يعتبر (فيبر) ذلك من نتائج الاعتقاد بصيغة الإله المتعالي. فما دام العالم اللامتناهي هو من خلق الله، فأفضل السبل لمعرفة الله هو أن ندرس أعماله.
3 - ازدهار التكنولوجيا: يرى فيبر أن ازدهار التكنولوجيا جاء نتيجة لرفض المنطق التقليدي لانجاز الأعمال، فهي تنطوي على أداء أكثر كفاءة لتحقيق مجد الله، كما تملى ذلك القيم البروتستانتية في مذهبها الكالفنى.
4 - تقسيم العمل: تعتبر ظاهرة تقسيم العمل والمهن في المجتمع عند (فيبر) كنتيجة مباشرة للتطور الإلهي للأشياء. فتباين البشر إلى الطبقات والمهن يعتبر بالنسبة (لمارتن لوثر) نتيجة مباشرة لإرادة السماء. فمواظبة الفرد ومثابرته في موقعه في إطار الحدود التي عينها الله له، تعتبر بالنسبة له واجباً دينياً.
5 - تقديس العمل: يرى (فيبر) أن الكالفنية، دعت إلى تقديس العمل، لأن هناك اعتراض أخلاقي على الركود إلى الدعة، استناداً إلى ما قد يملكه الشخص. لأن الإنسان على الأرض ينبغي لكي يتأكد من تحقيق مجد الله أن ينجز أعمال الله الذي خلقه في يومها. فلا فراغ ولا متعة، ولكن عليه أن يبدل النشاط فقط، لمضاعفة مجد الله وإظهار إرادته الواضحة. ويفسر (ماكس فيبر) ذلك في (كتاب البروتستانتية والرأسمالية)، حيث يرى أن الكالفني غير المطمئن إلى انتخابه، كان يفتش عن
_________
(1) الاجتماع الديني ـ د. احمد الخشاب ـ ص 100(2/36)
ازدهار أشغاله المثمرة، وحيث أنه لم يكن واثقاً من نجاحه لينصرف إلى الراحة، عمد إلى تشغيل أمواله مرات عديدة، وجنى أرباح عظيمة بطريقة حسابية دقيقة (1).
6 - إضاعة الوقت: يعتبر إضاعة الوقت ذنباً دينياً، لأن حياة الإنسان قصيرة جداً وقيمة، ومن تم فإضاعة الوقت من خلال الفراغ والترف أو النوم بأكثر مما تحتاجه الصحة، يجلب الإدانة الأخلاقية. فضياع ساعة وقت تعنى ضياع ساعة عمل في تأكيد مجد الله. وعلى ذلك فالتأمل السلبي لا قيمة له، ويستحق الإدانة إذا كان على حساب العمل اليومي. فليس اسعد لله من الانجاز الايجابي لإرادته.
7 - التبرير الديني لتخفيض الأجور واستغلال العامل: يؤكد (فيبر) أن رفع اجر العامل يعنى أنه سوف يجد لديه أكثر مما يحتاجه لإشباع حاجاته التقليدية وبالتالي سوف يدفعه ذلك إلى التقليل من كم العمل. ولما كان الإنسان الذي لا ينتج مادامت لديه الصحة والقدرة، هو الإنسان الذي يغفل مسئولياته الأخلاقية، فإن تخفيض اجر العامل تكون له مبرراته الدينية. فيجب علينا كما يقول (فيبر) أن نأخذ بالحكمة الكالفنية التي تقول: أن البشر يعملون فقط ماداموا فقراء (2).
هكذا شكلت العناصر السابقة المستمدة من المذهب البروتستانتي في مجموعها كما يذهب فيبر نسقاً قيمياً، كان مصدر الإلهام لنشأة النظام الرأسمالي. "فالديانة التي استصلحت أصلحت بدورها الخلق الاقتصادي. لقد كانت تخشى تراكم الثروات، ولكنها كانت تحارب سوء استعمال الثروة لا تجميعها، وحكماء انكلترا المجددون، حاولوا الجمع بين روح الأعمال ومقتضيات العقل، ومن هنا نشأ مبدأ المنافسة والصراع" (3).
دور الدين في الحياة الأمريكية
مما تقدم، اتضح لنا دور الدين والقيم الدينية المستمدة من المذهب البروتستانتي، في نشأة النظام الرأسمالي السائد، في كلاً من بريطانيا وأمريكيا،
_________
(1) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 63
(2) النظرية الاجتماعية لمعاصرة ـ دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع ـ د. على عليله ص 507
(3) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 62(2/37)
حيث لعب هذا المذهب على صبغ الحياة الأمريكية برمتها بصبغة دينية، وهنا يبرز خطأ شائع، بل وقاتل وقع فيه كثير من الكتاب والمفكرين العرب، من خلال محاولتهم التقليل من دور الدين في الحضارة الحديثة، على اعتبار أن الغرب لم ينجح، ولم يتقدم إلا بعد أن خلع رداء الدين، واحل محله ما يسمى بالعلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، حيث حاول هؤلاء الوصول إلى نتيجة أن العرب والمسلمين لن يتقدموا إلا إذا فعلوا نفس الشيء، ولست هنا في مجال الخوض في تفاصيل هذا الموضوع، لأن ذلك ليس موضوع الكتاب، ولكن هذا لا يمنع من إلقاء مزيد من الضوء على دور الدين في أمريكا، بعد أن بينا أثره في رسم السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، والعالم الإسلامي.
وحتى لا يكون حديثنا في هذا المجال مجرد سرد للتصريحات، والمواقف للسياسيين والمفكرين، ورجال الدين الأمريكيين ـ بالرغم من أهميتها ـ سنحاول الغوص بعمق في جذور الثقافة والفكر الأمريكي منذ نشأته، لنبين الدور المركزي الذي لعبه الدين ـ ولازال ـ في الحياة الأمريكية، وفي تشكيل الثقافة الأمريكية ومنظومة القيم، التي يؤمن بها الأمريكيون (1)، حيث "أن نظرة شاملة لطرق تفاعل الدين والسياسة في أمريكا، منذ التاريخ المبكر للهجرة إلي أمريكا، وبناء المستعمرات، وحتى الآن، ستجعلنا نتبين أنه لا يمكن فهم التاريخ الأمريكي المعاصر دون فهم جدلية العلاقة بين الدين والسياسة، التي تعد المنظور الكامل للتاريخ الأمريكي، حيث أن جذور الأحداث، التي تعرفها أمريكا المعاصرة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ والثقافة الأمريكية، وتعد العلاقة بين الدين والسياسة أحد أهم المؤثرات فيهما والمحركة لهما" (2).
وفي كتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية)، يحاول (صموئيل هنتنغتون) تحديد الهوية الحقيقية لأمريكا، حيث يرفض فكرة أن الولايات المتحدة، هي مجتمع من المهاجرين متعددي الأعراق والإثنيات والثقافات، ويرى على
_________
(1) راجع، المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حتى 1877 - محمد النيرب- ج1 ص60 - دار الثقافة الجديدة - ط1 1997
(2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكيةـ مايكل كوربت وجوليا كوربت ـ ترجمته د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي ص18(2/38)
النقيض أن الأميركيين الذين أعلنوا استقلال أميركا عن الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، كانوا مجموعة متجانسة من المستوطنين البريطانيين البروتستانت، الذين توافدوا إلى العالم الجديد من أوروبا، وخاصة بريطانيا، لكي يستقروا فيه ويعمروه للأبد. ويرى أن هؤلاء المستوطنين وضعوا بذور المجتمع الأميركي، انطلاقاً من مبادئهم وثقافتهم الأنغلو ـ بروتستانتينية التي لولاها لما قامت أميركا، التي نراها اليوم. ولذا يرى (هنتنغتون) أن لأميركا هوية محددة هي هوية هؤلاء المستوطنين، التي تقوم على ركائز أربع أساسية، هي العرق الأبيض، والإثنية الإنجليزية، والدين المسيحي البروتستانتي، والثقافة الإنجليزية البروتستانتينية. ويعتقد (هنتنغتون) أن الخصائص الأربع السابقة، انعكست بوضوح على جميع خصائص المجتمع، والدولة بالولايات المتحدة، وظلت سائدة حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً (1).
كما ان القارئ لتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها، يمكنه أن يلحظ إلى أي حد مثل الدين أساسا، أقيم عليه العالم الجديد (أمريكا). فقد جاء المستعمرون البيوريتانيون ـ الذين أسسوا مستعمرة خليج ماساتشوستس إلى العالم الجديد بدوافع دينية إلى حد ما. لقد جاءوا من إنجلترا إلى هنا لكي يحيوا حياتهم بالشكل الذي يتماشى مع رؤاهم الدينية، حيث تعذر ذلك في إنجلترا خلال الحكم العدائي لجيمس الأول، وشارلز الأول. ورأى الكثير منهم أنه من الأفضل لهم الذهاب إلى مكان آخر، لممارسة معتقداتهم. لذا قام البيوريتانيون بتأسيس مستعمرة خليج ماساتشوستس في عام 1630م وخلال العقد التالي هاجر أكثر من عشرين الف بيوريتاني إلى هذه المستعمرة (2).
فقد كان عام 1620م مرحلة رسو الباخرة ميلفور على الشواطئ الأمريكية، مقلة جماعة من المنشقين الدينيين، من جماعة البروتستانت، التي أنشأت انكلترا الحديثة (3)، بداية هجرة جماعات كبيره من البريتانيون المتعصبين، فراراً من
_________
(1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون ـ ط1 2004 - الناشر: سيمون آند سيشتر - الولايات المتحد- عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م
(2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوريت ص43
(3) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 76(2/39)
الاضطهاد الديني، الذي كانوا يعانون منه في بريطانيا وأوروبا، نتيجة الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث حملوا معهم تراثهم الديني المستمد من العهد القديم، وكانوا يسقطون الأحوال التي يمرون بها وكأنها جاءت مطابقة لما ورد فيه بشأن اليهود عند دخولهم أرض فلسطين، بعد خروجهم من مصر. معتقدين بأنهم (شعب الرب المختار) المكلف برسالة ما، والعالم الجديد هو (إسرائيل الجديدة)، والعالم القديم هو مصر الجديدة. ولهذا عقد البيوريتانيون عهداً مع الرب ومع بعضهم البعض، ببناء مجتمع يقوم على أساس القانون الإلهي. فكان لابد لهم أن يكونوا بمثابة مدينة تقف أعلى التل (أي مدينة فاضلة) تكون محط أنظار العالم أجمع.
- إن أي إنسان يدان قانونياً بعبادة إله غيرالهنا سوف يعدم.
- إن كل من يعمل بالسحر رجلا كان أو امرأة (أي تكون له صله أو يلجأ للاستعانة بالأرواح) سوف يعدم.
- إذا ما قام أي إنسان بسب الرب (الأب أو الابن أو الروح القدس)، سواء بالتغيير الصريح أو بالتجريح، أو عن طريق العمد، أو يلعن الرب بأسلوب مماثل سوف يعدم.
تلك مختارات من قوانين الإعدام، التي تشكل جزءاً من هيئة الحريات بماساتشوستس لعام 1641م، حيث حدد البيوريتانيون (التطهريون) اثنتي عشرة جريمة يعاقب فيها المرء بعقوبة الإعدام. والجرائم الثلاث الأولى (المذكورة أعلاه) تتعلق بالأمور الدينية. لقد جنح النظام البيوريتاني في أوجه إلى النمط الثيوقراطي. ففي هذه المستعمرة، سيطرت الكنائس البيوريتانية على الحكومة، وحرص البيوريتانيون بشكل جاد على استخدام كل من المنظمات السياسية والدينية في صياغة رؤيتهم للمجتمع، على أساس معتقداتهم الدينية (1).
_________
(1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1 مايكل كوربت، جوليا ميشتل كوربت ص39(2/40)
وهكذا لعب الدين دوراً مركزياً في حياة الأمريكيين منذ السنين الأولى. "فأمريكا هي الأمة الوحيدة في العالم التي شيدت على أساس الإيمان" (1)، ويصبح المرء أمريكياً عبر اعتناق جملة الطروحات الواردة فيما أطلق عليه (امرسون) اسم (تجربة دينية). "ففي التعابير التي كانت تدور على ألسنة سكان المراحل الأولى من تاريخ فيرجينيا ـ على سبيل المثال ـ أعلن أوائل المستوطنين عن أنفسهم بجرأة أنهم على حد قول (جون رولف) بأنهم "شعب له خصوصيته أشار إليه، واختاره إصبع الله لامتلاك تلك الأرض لأنه معنا دون شك". واليوم يعتقد الكثيرون في الولايات المتحدة، بأن الدولة مكلفة بمهمة خاصة، ويعين عليها أن تكون مثالاً يحتذى به في العالم اجمع. ويشعر كثير من الأمريكيين بأن الولايات المتحدة هي الأرض المختارة التي أسبغ الرب عليها نعمته (2).
"ويمكننا الحصول على صورة لا بأس بها، عن أثر الدين في الحياة الأمريكية، إذا لاحظنا أنه كانت توجد مقاعد في الكنائس عام 1860م تتسع لستة وعشرين مليوناً من السكان، الذين بلغ إجمالي عددهم 31 مليوناً. وتدل هذه الأرقام على أن المرء لو زار الولايات المتحدة يوم أحد في تلك الفترة لوجد على الأرجح أن أكثر من نصف الناس كانوا في الكنيسة" (3). وقد لاحظ (توكفيل) في تلاثينات القرن التاسع عشر أن الأمريكيين كانوا الشعب الأكثر تدينا (4) ً، وقد بقى ذلك صحيحاً إلى اليوم. "ففي أي عطلة أسبوعية، سيبادر ما يزيد على نصف مجموع الأمريكيين إلى الذهاب إلى إحدى دور العبادة، مقارنة بنسبة تتراوح بين 10، و20، بالمئة في أكثر البلدان الأوربية وكندا" (5). كما لاحظ (جيمس برايس) وهو زائر بريطاني للولايات المتحدة في عقد ثمانينات القرن التاسع عشر الميلادي أن رجال الدين كانوا أبرز مواطني أمريكا وأنهم كانوا يحصلون على " قدر من النفوذ كثيراً ما يفوق في اتساعه وقوته
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص5،
(2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ مايكل كوربت، وجوليا كوربت -ص50.
(3) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص59
(4) أمريكا والعالم - د. حسين فوزي النجار - ص43 - مكتبة مدبولي 1986
(5) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص52(2/41)
نفوذ أي رجل عادى علماني" (1).واكد توكفيل هذا المعنى فقال: «عند الأمريكيين يجب اعتبار الدين بمثابة المؤسسة السياسية الأولى» (2). ولهذا كانت القوة الدافعة لتحريم الخمر في أمريكيا هي الحملة البروتستانتية التي انخرط فيها الليبراليون والمحافظون البروتستانت.
وقد وصف أحد الكتاب (جمعية مناهضة الحانات) التي تأسست في 1895م على أنها في الحقيقة فرع الكنائس الميثودية المعمدانية، حيث أيد بشدة جميع البروتستانت الأمريكيين تحريم الخمر، ولم يكن هناك إلا بعض الاستثناءات (3).
أما في العصر الحاضر، فإن "هناك دلائل على أن أغلبية الأمريكيين في أواخر القرن العشرين، يغمرهم شعور ديني لافت للنظر، إذ عاد إلى الظهور ـ في أواخر عقد الثمانينات من هذا القرن نوع من المسيحية التقليدية إلى حد ما كقوة يعتد بها في الحياة الأمريكية السياسية والثقافية، حيث تبدو أهمية الدين من خلال كثرة وتكرار استخدام النصوص الدينية من جانب الساسة، مثل استخدام (كلينتون) في خطابه الافتتاحي عام 1997م لعبارة من التوراة، تقول: "استرشادا بالرؤية القديمة لأرض الميعاد، فلنوجه أبصارنا اليوم إلي أرض ميعاد جديدة". ويشير (مايكل كوربت) في كتابه "الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية" إلي تغلغل الدين في حياة الأمريكيين في قضايا عامة، وخاصة مثل شن الحرب وتفهمها، أو تبرير أسبابها، وتنظيم الحياة الشخصية، وحول ما يجب فعله أو الامتناع عنه، أو تبرير العبودية، والفصل العنصري أو رفضها. كما يعتبر المؤلف أن الصلاة الجماعية في الكنائس بأمريكا، هي نوع من دعم الدولة للدين، وفي نفس الوقت مساعدة الأفراد علي الإحساس بكل ما هو مقدس، ويرجع المؤلف ظهور التعليم العام، ونشأة العمل التطوعي إلي الدين (4).
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص112
(2) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 214 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001
(3) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص115
(4) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ج1ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت ـ ص50(2/42)
وفي هذه الأيام يجد منظمو استطلاعات الرأي باستمرار، مستويات من الإيمان الديني المعلن يمكن أن تدفع المرء إلى التشكيك في الاعتقاد الشائع القائل: إن الأمريكيين الآن أقل تديناً مما كانوا عليه منذ قرن مضى. إذ لا يقول خمسة وتسعون في المائة من الأمريكيين، الذي يجري استطلاع آرائهم كل مرة أنهم يؤمنون بالله وحسب، بل يقول أكثر من سبعين في المائة أيضاً أنهم لن يصوتوا لصالح مرشح رئاسي لا يؤمن بالله، (حتى وإن كانوا يحبونه حقيقة ... ويشاركونه آراءه السياسية). كما يقول سبعة من كل عشرة أن عيسى هو ابن الله المقدس. ويؤمن نفس العدد بحياة بعد الموت. كذلك يقول الثلث أنهم (ولدوا من جديد) كما يقول حوالي النصف أن (الكتاب المقدس) كلمة الله، وكل ما جاء فيه صحيح. ويقول ستة من كل سبعة، أن الوصايا العشر من الأمور، التي يجب العمل بها هذه الأيام، بينما يذكر سبعة وخمسون في المائة أن الدين "أمر هام جدا في حياتهم" (1).
وهذه المستويات العالية من الإيمان الديني، التي كشفت عنها الاستطلاعات، تؤكد النتيجة التي سبق وأن توصل إليها (الكسيس دي توكفيل) في كتابه (الديمقراطية في أمريكا) عندما قال: "في الولايات المتحدة السلطة المهيمنة سلطة دينية وبالتالي، لا يوجد بلد في العالم يتمتع فيه الدين المسيحي بالنفوذ الذي يتمتع به في نفوس الناس في أمريكا" (2). كما أن الكتاب المقدس ـ المصدر الرئيس للعقيدة المسيحية ـ يتمتع بمكانة خاصة حاسمة في نفوس الناس في أمريكيا، لأنه كان في وسع المصلح دائماً الاحتكام إلى المبدأ البروتستانتي القائل: إن الكتاب المقدس كان السلطة الوحيدة العليا التي تسمو على جميع التقاليد، وكان بإمكان الشخص العادي الذي يقف إلى جانب المعنى الواضح المبني على سلامة الفطرة للكتاب المقدس، وان يتجاهل سلطة رجال الدين المثقفين أو الكنائس ذات الهيبة والمقام.
وهكذا فقد اتفق جميع البروتستانت الأمريكيين تقريباً، من حيث المبدأ على أن الكنيسة الحقة والمدنية الصحيحة لابد وأن تقوما على الكتاب المقدس. "ولا يكاد يمكن للمرء أن يغالي في تقديره للدرجة العظيمة التي نظر بها البروتستانت
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص9
(2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة - ص71(2/43)
الأمريكيون إلى الولايات المتحدة، على أنها نتاج لحضارة ذلك الكتاب. فقد حظي الكتاب ذاته باحترام واسع بوصفه المرجع النهائي لجميع المواضيع بما فيها التاريخ والعلوم، إلى جانب اللاهوت والأخلاق. وطيلة القرن التاسع عشر الميلادي قرأ أطفال المدارس الأمريكيين دروساً في سلسلة كتب (ماك غفي) للقراءة عناوين مثل: (الكتاب المقدس خير المؤلفات المعتمدة) و (أمي التوراة) ".
ونتيجة هذا الأثر الكبير للكتاب المقدس، وبالذات العهد القديم، على الأمريكيين، لم يكن غريباً أن يصف الأمريكيون أنفسهم بعبارات وصور مجازية توراتية، واقتفوا اثر سوابق بيوريتان نيوانجلند في هذا المجال واستمروا يتحدثون عن أنفسهم على أنهم إسرائيل جديدة، وأنهم شعب يرتبط بميثاق مع الله. وكان المفهوم الميثاقي ـ القائل: إن نجاح الأمة (الأمريكية) وازدهارها نتيجة لبركات من لدن الله، ومن ثم الاعتماد على النظام الأخلاقي القومي ـ يمثل معتقداً علمياً وله تأثيره الكبير في كل حركة سياسية رامية إلى الإصلاح الأخلاقي. إضافة إلى ذلك فقد أحدثت إيقاعات الكتاب المقدس أثرها في الاستعمالات اللغوية البلاغية، وفي خطب (أبراهام لنكولن) مثال بارز على ذلك. وقدم الكتاب المقدس الكثير من أدبياتهم كما اقتصرت معرفتهم بالتاريخ إلى حد بعيد على التاريخ الموجود في الكتاب المذكور" (1)، باعتباره المصدر الوحيد للحقيقة. ولكن ادعاء الكتاب المقدس الحقيقة - كما يقول روبرت يانج- هو ادعاء مستبد، فهو يستبعد الادعاءات الاخرى كافة .. حيث لا تحاول القصص التوراتية كسب ودنا ... كما انها لا تتملقنا بحيث يمكن ان تسعدنا أو تفرحنا، انها تسعى لاخضاعنا، واذا رفضنا الخضوع فنحن مارقون (2). وربما هذا ما يفسر النظرة الاحادية والتعصب التى طبع بها المؤمنون بحرفيته من الاصوليون المسيحيون، امثال بوش وغيرهم الذين قسموا العالم إلى محورين شر وخير، ودول مارقه وخيره، وطالبوا الجميع بان يكونوا معنا أو ضدنا!!؟.
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص9
(2) اساطير بيضاء (كتابة التاريخ والغرب) - روبرت يانج - ترجمة احمد محمود - ص 232 - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 2003(2/44)
الديني والعلماني
بالرغم من المزج الذي يسترعي الانتباه بين العنصر الديني الواضح، والعنصر العلماني الواضح، في الحياة الأمريكية، والذي دفع المثقف الفرنسي (اليكس توكفيل) في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا، إلى القول: "إن الوعاظ والقساوسة الأمريكيين يتكلمون كساسة، والساسة يتكلمون كوعاظ" (1) ـ بالرغم من هذا المزج الذي قد يوفر دليلاً هاماً في فهم الثقافة الأمريكية، فقد ركز معظم المؤرخين الأمريكيين بصورة شبه حصرية على ما هو علماني فقط. ويعكس هذا الموقف وضع الأسرة الأكاديمية الحديثة. إذ أكدت التفسيرات السائدة للسلوك البشري خلال القرن الماضي على العوامل غير الدينية، علاوة على ذلك فقد تنبأت العديد من النظريات ولاسيما التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين، بأن الدين التقليدي شأنه في ذلك شأن الطب البدائي والمحراث الذي يجره الحصان سيختفي حتماً مع تقدم الثقافة والتعليم الحديثين. ومن ثم فإن معايير كثير من دراسات الإنسانية تمحورت حول الافتراض القائل بعدم ضرورة حمل الدين على محمل الجد، من أجل فهم العالم الحديث" (2).
وفي الولايات المتحدة وبلدان أخرى في أواخر القرن العشرين، أثبت هذا الافتراض بطلانه غير أن الأكاديميين كثيراً ما يتباطئون في التخلي عن تقاليدهم، التي درجوا عليها في تفسير الأمور والأحداث، حيث تغافلوا أو لم يدركوا طبيعة الدين في أمريكا، والكيفية التي نشأ بها، معتقدين انه لا يمكن إعطاء الدين دوراً في الحياة الأمريكية، طالما أن السلطة ليست في يد القساوسة ورجال الدين، كما كان الحال في أوروبا أيام سيطرة البابا على السلطتين الزمنية والدينية، حيث تناسى هؤلاء أن الدين الأمريكي ما هو إلا امتداد للمذهب البروتستانتي، الذي تمرد على سلطة البابا، ورفض رفضاً قاطعاً تمتعه بالسلطتين الزمنية والدينية، لما جلبه ذلك من مفاسد حسب اعتقادهم، ولهذا كان الفصل بين الدين والدولة مطلباً دينياً في المذهب البروتستانتي، ارتضاه المؤسسون الأوائل لأمريكا انطلاقاً من قناعتهم الدينية، التي
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص322
(2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 10(2/45)
تدعوهم إلى العودة إلى الأصول، وعدم الاعتراف بأي سلطه غير سلطة الكتاب المقدس، باعتباره مصدر العقيدة النقي (1).
فالحكومة المدنية ـ أي المتحضرة ـ كما يرى البروفسور (مايكل كوربت)، هي التي تؤيد الدين، بينما الحكومات الشمولية والديكتاتورية، هي التي تقف ضد الدين، حيث أن الإصلاح الكنسي البروتستانتي ربط بين الكنيسة والدولة، وجعل كلاً من الحاكم والمحكوم تحته تابعين لكنيسته، ولكنه في نفس الوقت لم يجمع السلطتين الزمنية والدينية معاً، لكن حركات إصلاحية راديكالية مسيحية رفضت ربط الكنيسة بالدولة، ورأت أن هذا الارتباط يدمر الكنيسة تماماً (2).
وهذا الاختلاف في النظر للعلاقة بين الدين والدولة في أمريكا هو الذي جعل البعض ينظر إلى العلاقة بين الدين والسياسة في أمريكا باعتبارها معضلة لم تتحدد بعد، متناسين انه يوجد في أمريكا ما يسمى الدين المدني، وهو دين مواز للكنائس الرسمية، يتغلغل في الحياة الأمريكية. وهو مجموعة من المعتقدات والطقوس والشعائر والرموز، التي تنتشر في الحياة الأمريكية منذ القدم، مثل اعتبار عيد الشكر عيدا قوميا للصلاة ـ كما أعلن (جورج بوش الأب) عام 1991م إبان حرب الخليج ـ وابتهال كلينتون في خطبه إلي الرب ليبارك أمريكا، واستهلال الجلسات الحكومية بالصلاة، ودعم الحكومة لقساوسة الجيش، كما ويظهر الدين المدني في الأغاني مثل (أمريكا الجميلة) و (فليبارك الرب أمريكا) وغيرها. كما أنه بينما يذهب بعض الساسة ورجال الدين إلي الفصل بين السياسة والكنيسة يذهب آخرون إلي عمق العلاقة بينهما، فالرئيس (جيفرسون) وهو من المؤمنين بالدين المدني، يري ضرورة الفصل، بينما (جيري فالويل) يقول: "أذا لم يتعلم المرء كلام الرب، ولم يعرف ما جاء بالأنجيل، فأنني أشك في قدرته علي أن يصبح قائداً فاعلاً، وقيادته لكل شيء، سواء أسرته أم كنيسته أو أمته لن تكون ناجحة دون هذه الأولوية" (3). وينحى نفس المنحى كثير من الساسة والمفكرين، ولكنه في كل الأحوال، لا يمكن لأحد أن ينكر الدور الذي يلعبه الدين في الثقافة الأمريكية.
_________
(1) المؤثرات الدينية في توجيه السياسة الغربية المعاصرة - محمود سلطان - ص 15
(2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ج1ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت ـ ص23،26
(3) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ تأليف مايكل كوربت، وجوليا كوربت ـ ص19(2/46)
فالدين ـ كان ولا زال ـ يلعب دورا مهماً في التاريخ الأمريكي، حيث اعتبر المهاجرون الذين استقروا في أمريكا طيلة العهد الاستعماري، أنهم ببساطة يمثلون المسيحية أو العالم المسيحي، حيث لعبت الجماعات البروتستانتية الحاكمة، دوراً مركزياً في تشكيل الثقافة الأمريكية. يقول (جورج مارسدن): إن قصة الإنجيلية الأمريكية هي قصة أمريكا ذاتها في السنوات 1800 ـ 1900م لأن الدين الإنجيلي هو الذي جعل الأمريكيين أكثر الأقوام المتدنية في العالم ... " ورغم وجوب الاعتراف بوجود قوى أخرى أيضاً، إلا أن المسيحية الإنجيلية كانت بارزة بصورة غير عادية في إعطاء شكل للقيم والثقافة الأمريكية في القرن التاسع عشر الميلادي. ولهذا يقول المؤرخ (وينثروب هدسن): "في عام 1900م لم يكد يوجد من يشك في الطرح القائل، "أن الولايات المتحدة كانت أمه بروتستانتية" (1). وهذا يعنى انه لا أحد يستطيع أن يفهم أمريكا وحرياتها إلا إذا وعى وتفهم التأثير الذي باشره ومازال يباشره، الدين في صوغ هذا البلد. فمن الخصائص الفريدة المميزة لنظام الحكم الجمهوري في أمريكا انه يستمد الحيوية المحركة له من قيم من يعيشون في ظله، والذين أكدوا أن تلك القيم تستمد بالقدر الأعظم من الدين. وهذا ما جعل الشاعر الإنجليزي (جيليبرت كيث) يصف أمريكا بأنها أمة لها روح كنيسة.
يقول شمعون بيرس: لقد وصفوا الشعب الأمريكي بالعملي - لكني غير مقتنع تماماً بهذا الوصف. فليس (الدولار) الذي يشكل حجر الاساس في المجتمع الأمريكي برغم كل المادية الموجودة فيه- ان حجر اساسه هو (الانجيل) في العهد القديم والجديد. وعلى الاساس نفسه، لم يكن وجود عدو مشترك هو اساس العلاقة الخاصة التي نشأت بين اسرائيل والولايايت المتحدة - انه القيم المشتركة. وانني لم اقتنع ابداً بالحديث القائل في وجود "نحالف استراتيجي" بين أمريكا واسرائيل - حتى في قمة الحرب الباردة. ولم اؤمن ابداً بالقول ان أمريكا احتاجت الينا في مواجهتها ضد الاتحاد السوفيثي (2).
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص112
(2) معركة السلام (يوميات شمعون بيريس) - تحرير ديفيد لانداو - ترجمة: عمار فاضل و مالك فاضل - ص 98 - الاهلية للنشر والتوزيع - عمان - الطبعة الأولى 1995(2/47)
الأصولية الأمريكية المتطرفة
في العصر الحاضر تنامى الدور الذي يلعبه الدين في الحياة الأمريكية بصوره مخيفة، بسبب تنامي قوة وتأثير الحركات الأصولية المتطرفة، التي تمكنت من الوصول إلى سدة الحكم أخيراً، ممثله بالرئيس المؤمن (جورج دبيليو بوش)، الذي يعكس بصورة دقيقه تماماً طبيعة بلده الذي يحكمه. فنسبة المؤمنين بالله في الولايات المتحدة تصل إلى 95% من السكان، وهي أكبر نسب التدين في العالم، بينما في أوروبا قد لاتصل النسبة إلى 65 %. كما أن الولايات المتحدة تحتوي على اكبر عدد من الكنائس في العالم، حيث أن هناك كنيسة لكل 865 مواطنا، وهو ما وصفه معهد (جالوب) للاستطلاعات تعليقا على استطلاع كان قد أجراه في مايو 2002 م، بأن ذلك حقيقي لأنه توجد رغبة عميقة إلى الاتجاه للشؤون الروحية. فهي حالة من الظمأ إلى الله. فبينما يصل عدد الأمريكيين الذين يذهبون إلى الكنيسة مرة واحدة في الأسبوع إلى 70% على الأقل تصل النسبة إلى 20% فقط في أوروبا الغربية، و 14% في أوروبا الشرقية، وبذلك فإن أمريكا على عكس أوروبا تريد أن تثبت بوضوح أن الحداثة لا تعنى التحلل من الدين (1).
_________
(1) 1).
كما أن أمريكا تعتبر نفسها (وطن الله)، وهذا وعى قديم متزايد ومترسخ الجذور منذ هروب (الكالفنيين) اتباع المصلح (كلفن)، على الباخرة (ماي فلارو) عام 1620م، الذين اعتبروا أنفسهم حجاجاً إلى وطن الخلاص، أو إلى مملكة الرب. وهذا الوعي التاريخي هو الذي عمل على منع الفصل بين الدين والدولة في أمريكا، ورفض اعتبار الدين إيماناً ذاتياً وعلاقة شخصية بين العبد وربه. ومنذ ذلك الحين وفيما بعد عام 1620م تم تأسيس أمريكا على أساس أنها دولة دينيه، وسيطر الدين على الدولة منذ ذلك الوقت وحتى الآن. فحاليا توجد العديد من الطوائف البروتستانتية اليمنية المتطرفة التي تقود الجميع. واستطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى تزايد هذه المجموعات بصورة مخيفة ((عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - احمد حجازي السقا ص 48(2/48)
ونظراً للمكانة التي يحتلها اليمين المسيحي الجديد في الحياة السياسية بالولايات المتحدة، فإنه من المفيد المقارنة بينه وبين منهاج التطهريين، الذين اتسمت آراؤهم بالأهمية في الفترة الاستعمارية والأيام الأولى لتأسيس الدولة، وهناك تشابهات عدة. فهناك تشابه في الأهداف، فكلاهما يرنو إلى الولايات المتحدة كدولة تمتثل لقوانين ومشيئة الرب كما يفهمونها. ويجب أن تتوافق الأخلاقيات الخاصة والعامة مع تعاليم الكتاب المقدس، الذي يفسر بشكل محافظ. كما يرغب كلاهما في استخدام العملية التشريعية لضمان توافق القانون المدني مع القانون الديني وتطبيقه على المؤمنين وغير المؤمنين. وأخيراً فإن كلاهما يرى أن المدارس العامة تأتي بعد البيت والكنيسة، كعنصر أساسي في تدريب الأبناء وفق معتقداتهم. وتضرب هذه الأهداف بجذورها في فهمهم للاهوت بشكل متشابه إلى حد بعيد، فهناك حقيقة واحدة مطلقة أوحى بها الرب للبشر ـ الرب والمتصف بالقوة والملك فالبشر مخطئون وضائعون بدون الرب، والولايات المتحدة أمة الرب المختارة، لتكون مثالا للحياة الورعة في الدنيا (1).
ويرصد (صموئيل هنتنغتون) مظاهر الصحوة الدينية في الولايات المتحدة خاصة خلال عقد التسعينيات، وهي صحوة سادت مختلف الطوائف الدينية الأميركية، وعلى رأسها الجماعات الإنجليكية التي زادت بنسبة 18% خلال التسعينيات، ونجحت في بناء عدد كبير ومؤثر من المؤسسات السياسية. ويؤكد (هنتنغتون) حقيقة أن المجتمع الأميركي هو أكثر المجتمعات الأوروبية تديناً، ما يجعله أرضا خصبة لعودة الدين، خاصة بعد أن ضاق الأميركيون بشكل متزايد منذ الثمانينيات بالمشاكل الأخلاقية، التي انتشرت في مجتمعهم. ويقول: إن هناك عودة عامة للدين في أميركا انعكست على الروايات الأميركية، وظهرت في الشركات والمؤسسات الاقتصادية، كما أثرت على الحياة السياسية من خلال الحضور الكبير، للقضايا الدينية والمتدينين في إدارة الرئيس الأميركي الحالي (جورج دبليو بوش). ويبشر بأن العودة للمسيحية ـ التي تعد أحد الركائز الأساسية للهوية الأميركية - تمثل عاملاً هاماً في دعم الهوية الأميركية ونشرها خلال الفترة الراهنة. كما أن الصحوة الدينية - وفقاً لتحليل
_________
(1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص159(2/49)
هنتنغتون ـ تصب مباشرة في الدور المساعد، الذي يمكن أن يلعبه الدين على الساحة الدولية وخاصة في تعريف عدو أميركا الجديد وهو الإسلام (1).
علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة
خلال هذا الكتاب عرضنا لمواقف كثير من الرؤساء والساسة الأمريكيين، حيث لاحظنا أثر الدين في تشكيل مواقفهم تجاه قضية اليهود وإقامة إسرائيل، وسنلاحظ بعد ذلك أيضاً كيف أن الدين لعب دوراً رئيساً في تشكيل مواقف الدولة الأمريكية من كثير من القضايا، مثل قضية الهنود الحمر، والزنوج، والعلاقة مع العالم الخارجي، وهذا يوضح الدور الذي لعبه الدين في الدولة الأمريكية منذ تأسيسها وحتى الآن.
فقد اعتمد الرؤساء الأمريكيون بدءاً من (جورج واشنطن) فصاعداً على الحس الديني، ليس للتأثير على عقول أبناء الشعب فحسب، بل على أفئدتهم أيضاً، لتأييد الأهداف الرئاسية. فالدين والسياسة شكلا نسيجاً متداخلاً عبر تاريخ الولايات المتحدة منذ الفترة الاستعمارية، وحتى وقتنا الحاضر (2)، حيث عملت الطبقة السياسية الأمريكية الحاكمه على استحضار الدين وجعله مكوناً أصيلاً في الممارسة والثقافة السياسية الأمريكية، وذلك في ظاهرة فريدة من نوعها في بلدان الديمقراطيات الغربية، التي فصلت منذ أمد بعيد بين الدين والدولة وبين الدين والمدرسة.
وهنا يرى البعض أن نقطة الامتزاج الروحي بين إيديولوجيا اليمين المتطرف الذي يمثل مصالح كبريات شركات السلاح والنفط في أمريكا، وبين المرجعيات الدينية المسيحية البروتستانيه المتهودة، قد وصلت إلى ذروتها في سبعينيات القرن العشرين المنصرم، إذ يأخذ في اعتباره الحقبة (الريجانيه)، التي بدأت مطلع الثمانينات من ذلك القرن، حيث أفسح هذا الحلف المقدس المجال إلى تنامي الشعور بالفوقية، وتبلور فكرة ونزعة السيطرة على العالم، باعتبار أن الأمة الأمريكية هي
_________
(1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون - ط1 2004 - الناشر: سيمون آند سيشتر - الولايات المتحدة ـ عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م
(2) الولايات المتحدة من الخيمة إلى الإمبراطورية - إعداد ديب على حسن - مراجعة وتدقيق اسماعيل الكردي - ص295 - الناشر: الأوائل للنشر والتوزيع - ط1 2002(2/50)
الأمة الأنقى والأميز والأرقى قيماً وحضارة، والأجدر بقيادة العالم على الطريقة الأمريكية الرائدة، في إشاعة الخير ومحاربة الشر (1).
بهذا التبسيط الشنيع لثنائية الخير والشر، اختزلت الطبقة الأمريكية الحاكمة فكرة العالم إذ شطرته إلى شطرين وفرزته إلى قسمين: قسم أخيار، وقسم أشرار. فوضعت في القسم الأول كل من يخضع لمشيئتها ويناصرها ويقلدها، ووضعت في القسم الثاني كل من تتغاير رؤاه معها، وكل من يبدي حرصاً وعقلانية على صيانة مصالحه. ورغم أن بعض رؤساء أمريكا السابقين حاولوا إدخال معتقداتهم الشخصية في طريقة ممارسة الحق الإمبريالي الأمريكي، وهذا ما كان (جيمي كارتر) قد فعله، وكذلك (رونالد ريغان)، الذي أطلق المصطلح الديني القديم المعروف، حول قوى الخير مقابل قوى الشر لوصف الاتحاد السوفيتي، بأنه (إمبراطورية الشر). إلا أن (جورج بوش الابن) يحاول الآن المزج بين تمسكه بالمسيحية المتشددة، ورغبته في وضع نظام عالمي جديد يقوم على المصالح الأمريكية، منطلقاً من فكرة: أن قدر الولايات المتحدة هو أن تشن الحرب للوصول إلى السلام، وهو ما تسميه الولايات المتحدة مفهوم (الحرب الوقائية). ولكن هل هذه النزعة العدوانية هي حقاً وليدة تلك الحقبة السبعينية من القرن العشرين، أم أن لها جذورها الممتدة عميقاً في بنية العقل والثقافة الأمريكية (بما في ذلك المكون الديني).
يقول الدكتور (حامد سلطان): "يبدو ظاهراً أن المبدأ الذي ساد نظام الإمبراطورية الرومانية، هو مبدأ خضوع الشعوب لروما، لا مبدأ (التنظيم العالمي) كما يدعي البعض، وهو يقوم على السيطرة المادية الخالصة. أما استناده إلى السيطرة الدينية والروحية فقد اجتاز مراحل نشير إليها في إيجاز. فمن المفهوم أن المسيحية عندما بدأت زحفها الروحي على روما، صادفت عقبات كثيرة ومقاومة شديدة من الحاكمين، والمسيحية دين يقوم في الأصل على فكرة السلام الخالصة، ومن تعاليمها الثابتة النهي عن القتل والتحذير من القيام به. والأناجيل الأربعة مجمعه على أن من يقتل بالسيف، بالسيف يُقْتَل. لذلك كان طبيعياً أن يرفض الرومانيون الذين دخلوا في المسيحية في المراحل الأولى أن يقوموا بأداء الخدمة
_________
(1) حول علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة / محمد الصياد الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672(2/51)
العسكرية في روما، أو أن ينخرطوا في الجيش الروماني، أو أن يشتركوا في الحروب، التي كانت تشنها الإمبراطورية الرومانية. وعلى اثر ذلك قام صراع عنيف بين دعاة المسيحية المسالمة ورجال الحكم في روما، وكان هذا الصراع في الحق صراعاً بين الروحية والمادية، وقد دام هذا الصراع قرابة أربعة قرون. ولكن ابتداء من القرن الرابع للمسيح ـ عليه السلام ـ بدأ رجال الدين المسيحي يتقهقرون ويحاولون التوفيق بين روح المسالمة المسيحية من جهة، وروح السيطرة العسكرية من جهة أخرى. وأخرج القديس (ايزيدور) والقديس (امبرواز) بعض النظريات في هذا الشأن، على أن الداعية الذي كان له الأثر الحاسم في إيجاد هذا التوفيق هو القديس (أوغسطين) الذي أخرج في هذا الشأن مؤلفين أولهما هو (العقيدة المخالفة)، والثاني هو (مدينة الرب) (1).
ويبدو واضحاً لمن يتفحص هذين المؤلفين، أن صاحبهما دعا المسيحيين إلى التخلي نهائياً عن فكرة المسالمة، التي قام على دعامتها الدين المسيحي في الأصل. وليس هنا مقام التفصيل في شأن نظرية أوغسطين، ويكفينا أن نذكر أن هذا القديس قام في مؤلفه الأول، بتسويغ فكرة الحرب وفق الحجج التاليه:
1) أن الحرب هي عمل من أعمال القضاء العادل المنتقم. فهي تقوم لإنزال العقاب بالعدل، ومن ثم فليس هناك ظلم يقع من جانب من يقوم بالحرب العادله.
2) أن الحرب هي لمصلحة المنهزمين، لأنها ترجع بهم إلى حال السعادة في السلام.
3) أن الحروب تقوم من أجل ضمان السلام (2).
وعندما ظهرت حركة الاصلاح الدينى على يد مارتن لوثر واخذت بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، واصبحت التوراة جزء اساسي منه بما تحتوية من معتقدات ومواقف تبرر الحرب والقتل، انعكس ذلك مباشرة على اتباعها، وتحول المسيح عيسى عليه السلام من رسول المحبة والسلام، إلى مسيح يهودي يأتمر بوصايا يهوه ورب الجنود. وبهذا الانقلاب الديني، كانت البروتستانتية في التاريخ الأوروبي، وما
_________
(1) أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية ـ الدكتور حامد سلطان ص102 - طبعة دار النهضة العربية عام (1968م) القاهرة
(2) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل ص34(2/52)
تفرع عنه في العالم الجديد، حركة انقلاب سياسية /لاهوتية/ فكرية/ اجتماعية، مازال العالم يشهد مسار ما تمخضت عنه صوب جائحة عالمية، لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما قد تتسبب فيه من دمار ومعاناة ومذابح (1)، بسبب تبنيها المعتقدات اليهودية العنصرية الحاقدة، التى لعبت دوراً رئيساً في نشوء الارهاب والاجرام البريطاني الأمريكي تجاه العالم؟.
وهكذا فإن الجذور الدينية للمواقف الأمريكية تجاه الحرب والسلام توجد في الكتب المقدسة المسيحية واليهوديه. وقد أدت هذه الكتب إلى ظهور ثلاث رؤى للحرب: الحرب المقدسة، والحرب العادلة والسلامية، حيث أن المسيحية كان لها السيادة في تشكيل المواقف على النحو التالي: إلى أن جاء حكم (قسطنطين)، ظلت السلامية هي الموقف السائد للمسيحية، وإلى جانب هذا الموقف يمكن ملاحظة موقفين آخرين معاديين للسلام، حيث ينص مذهب الحرب العادلة على جواز مشاركة المسيحيين في الحرب، وجواز إجبارهم على ذلك ما دامت الحرب تعلنها السلطة الصحيحة، ويتم فيها الالتزام بقواعد أخلاقية. وظهرت فكرة الحرب المقدسة، أو الحرب الصليبية خلال القرون الوسطى، حيث كان منهج الحرب المقدسة أو الحرب الصليبية، هو أحد المظاهر المهمة للمواقف في الولايات المتحدة تجاه الحروب، ومصطلح الحرب المقدسة كما هو مستخدم هنا، يعني حرب مقدسة يشنها الصالحون نيابة عن الرب ضد الكفار والمهرطقين سياسياً أو دينياً (2).
وفي ظل هذا التبرير الديني الجاهز للحرب، تحت مسميات مختلفة لم يكن مستغرباً أن نجد أمريكا تبرر حروبها المختلفة بنفس المبررات، حتى أن (ريشارد لاند) رئيس مفوضيه الحرية الأخلاقية والدينية لكنائس (بابست) في الولايات الجنوبية، برر الحرب على العراق في أحد مقالاته على خلفية أسباب دينيه بقوله: "قيادة حرب عادلة هي عمل مسيحي يقوم على الإيثار، فالأشرار يجب أن يعاقبوا، والأخيار يجب أن يكافئوا، لقد جاء وقت العنف". كما أن التيارات الأصولية المتطرفة بدأت تنادي بصورة متزايدة بوجوب شن حرب صليبيه ضد الإسلام، رغم أن عدداً من
_________
(1) المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص71.
(2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة ـ ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص122(2/53)
الأساقفة الكاثوليك وجماعات السود احتجوا على ذلك، إلا أنهم لن يؤثروا طالما أصر اليمين المسيحي المتطرف، على التأكيد أن الحرب ضد العراق، هي جزء من (الحرب ضد الشر) ليس ذلك فقط، بل أنهم بدءوا يقولون: إن أوروبا هي أداة للشيطان، لأنها لم تدعم أمريكا في حروبها الجديدة" (1).
الأصولية المسيحية والنظام الدولي الجديد
ربما يستغرب البعض هذا الربط بين الأصولية المسيحية، والنظام الدولي الجديد، على اعتبار أن مصطلح النظام الدولي الجديد، هو مصطلح سياسي جاء ليعبر عن موازين القوى في العالم، بعد انهيار المعسكر الشرقي بزعامة الإتحاد السوفيتي، والذي أفسح المجال أمام التفرد الأمريكي على الساحة الدولية، وتحول العالم إلى نظام أحادي القطبية بزعامة أمريكا، مما أتاح لها المجال لفرض سياساتها وهيمنتها على العالم. وقد غاب عن هؤلاء أن هذا المصطلح له جذور عميقة في الفكر الأصولي المسيحي في أمريكا. فعندما تأسست الأمة الجديدة، رأى الأمريكيون في أنفسهم منار هدى للعالم حيث رفع الشعور بكونهم أمة مختارة، أو إسرائيل جديدة، إحساسهم بالرسالة أو (المصير الواضح)، بأنهم سيصبحون قوة يعبر نفوذها القارات، بفضل تفوقهم الأخلاقي المفترض. وفي القرن العشرين عندما أصبح الأمريكيون قوة عالمية، كان الاعتماد على مثل الأمة المختارة الأعلى، أساساً منطقياً ومبرراً هاماً في السياسة الأمريكية الخارجية، من أجل التسريع بالنظام الدولي الجديد أو بالتعبير التوراتي (العصر الألفي السعيد)، الذي كان التطلع إليه عميق الجذور في الفكر الأمريكي، وليس كما يعتقد البعض، بأنه برز بعد الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشرقي، أو أنه من بنات أفكار السياسيين والاستراتيجيين المعاصرين.
"فخلال الحرب الأهلية، كانت المقالة الشائعة بين البروتستانت في الشمال، تعادل بصورة مفروغ منها، بين نجاح الاتحاد، وبزوغ فجر عصر جديد، أو ألفية حكم
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة - احمد حجازي السقا ص43(2/54)
المسيح. وكانت أنشودة معركة الجمهورية (1) تتمتع بشعبية، لأنها طبقت الرموز التوراتية الشائعة على قضية الاتحاد الشمالي. أما بالنسبة لأولئك الذين حملوا هذا التشبيه على محمل الجد، فكانت هذه الألفية فترة تتوج مسيرة تقدم الإنسانية، حيث سيحكم المسيح العالم ويغير مسار الحضارة، ويحدث تقدماً روحياً يحقق جميع أحلام الإنسانية، حيث سيشهد العصر المقبل نهاية للحروب، والرق، والعنف، والرذائل كالزنا، ومعاقرة الخمر، وسيحمل معه قفزات عظيمة إلى الأمام في العلم والتكنولوجيا والمعرفة الإنسانية، وتحقيق الديمقراطية، بما تحمله من وعود بالحرية والعدالة للجميع.
وإذا أريد للولايات المتحدة تحقيق مصيرها كقائدة في هذه المهمة، فإن عليها استئصال كبائر مثل: الرق للبرهنة على قدرة الأمة المكرسة نفسها للحرية والعدالة على الاحتمال والصمود. "ولذلك عندما تشكلت الأمة الجديدة تقبل الأمريكيون بسرعة حديث الميثاق المتعلق بالحصول على مباركة الله أو التعرض لخطر أحكامه. وقد أحب الأمريكيون النظر إلى أنفسهم على أنهم حملة رسالة خاصة. وتحدثوا فوراً، بصورة تكاد تماثل ما كان البيوريتان قد تحدثوا به، عن الولايات المتحدة بوصفها إسرائيل الجديدة، اختارها الله لتقوم بدور قيادي في حقبة جديدة من افتداء العالم" (2).
النظام الدولي الجديد .. والنظرية الكونية للتاريخ
نشر بعض وعاظ الضوء الجديد، أثناء اليقظة الكبرى، الفكرة القائلة: "إن الكرة الأرضية كانت تقترب من فجر عصر جديد، حيث تحدث الكتاب المقدس، الذي كان يعتبر على نطاق واسع المرجع النهائي حول جميع المسائل، عن عصر ألفي وألف سنة من حكم المسيح. ومع أواسط القرن الثامن عشر كان أكثر التفسيرات شيوعاً
_________
(1) تقول أنشودة الجمهورية: "وسط روعة الزنبق ولد المسيح على البحر، يحمل في صدره بهاء يغير من شكلك وشكلي نحو الأكثر روعة: وكما مات هو لإضفاء القداسة على البشر، فلنمت نحن لتحريرهم، بينما يسير الله قدماً". (جوليا وارد هاو)، (أنشودة الجمهورية - 1861) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 15
(2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص26(2/55)
يقدمه الإحيائيون الأمريكيون لهذه النبوءة، وهو أنها تنبأت بصورة رمزية بالعصر النهائي في التاريخ الذي سيأتي فيه روح المسيح أو الروح القدس لتحكم في العالم. وقد نظر إلى اليقظة نفسها على أنها بداية هذا العصر، الذي سيشهد إتباع الناس بأعداد كبيرة للإنجيل.
وكان من المحتم أن تتخذ هذه النبوءات دلالات سياسية. وحسب ما ورد في النص المقدس، فإنه لابد من يهزم المسيح الدجال كشرط لمجيء الألفية. وحسب ما درجت عليه العقيدة البروتستانتية، فإن الدجال يعني البابا. ولذلك فان أية هزيمة سياسية للبلدان الكاثوليكية، كانت خطوة نحو بزوغ فجر الألفية وفق نطاق المنشقين الأمريكيين. وتتوافق الحروب الفرنسية والهندية للأعوام 1756ـ1763م مع هذا التصور بدقة. فعلى سبيل المثال، وصف (صموئيل ديفيس) الإنجيلي المشيخي الشهير، الجهود البريطانية ضد فرنسا على أنها بداية هذا الصراع الحاسم العظيم بين الحمل والوحش، وجاهر قائلاً: "إن من شأن نصر بريطاني أن يساعد في إحضار سماء جديدة، وأرض جديدة. وعندما لم يجلب انتصار سنة 1763م في ذيوله عصراً جديداً مهيباً، بل إعادة تنظيم الإمبراطورية البريطانية، استلزم ذلك بعض التمرينات البلاغية من جانب الوعاظ المنشقين لوضع إنجلترا البروتستانتية في الصف الذي يقف فيه البابا (1). كما كتب (توماس بين) في عام 1775م يقول: إن لدينا من القوة ما يمكننا من أن نعيد بناء العالم مرة أخرى. فلم يحدث منذ عهد نوح حتى الآن، موقف مشابه لما هو عليه الحال في الحاضر، أن ميلاد عالم جديد أصبح الآن بأيدينا" (2).
ومن المفارقات الغريبة أن أول إعلان عن نظام عالمي جديد، خلال القرن الحالي، صدر قبل 50 عاماً من إعلان (بوش الأول) في الكونغرس عن نظامه العالمي الجديد. فقد استخدم (أدولف هتلر) اللغة ذاتها حيث قال: "أنا علي يقين تام من أن عام 1941م سيكون عاماً حاسماً في فتح الطريق أمام نظام جديد عظيم في أوروبا. سوف تكون أبواب العالم مشرعة للجميع ... ستساعد هذه السنة في توفير الأساس
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص50
(2) ميلاد عالم جديد (فرصة متاحة لقيادة عالمية) بقلم هارلان كليفلاند ـ تقديم روبرت ماكنمارا ـ ترجمة د. جمال زهران ص19.(2/56)
اللازم لتفاهم حقيقي بين شعوب الأرض، بما يضمن المصالحة بين كافة الشعوب والأمم" (1). فباسم نفس المسيحانية المنقذة، أعلن هتلر ألف عام من النازية كسيطرة، وكإعادة تجديد للعالم بواسطة نقاء الشعب المختار الجديد: الآريون (2). وبالطبع لم تجلب تطلعات هتلر لنظام عالمي جديد سوى الدمار والدماء لأوروبا والعالم، وانهارت أحلامه في بناء إمبراطورية عالمية يحكمها الجنس الآري، ولكن ذلك لم يمنع وجود نفس الأفكار والتطلعات على الطرف الآخر من المحيط، ممثلاً براعي البقر الأمريكي، حتى لو كان هذا النظام العالمي الجديد سيتحقق على أشلاء ملايين البشر، وأنقاض حضارات عريقة.
فنتيجة للحرب العالمية الأولى والثانية، تم رسم الحدود الاقتصادية للنظام العالمي الجديد، الذي يجب أن يكون خاضعاً لحاجات ومتطلبات الاقتصاد الأميركي، وقابلاً للتحكم والضبط السياسي الأميركي قدر المستطاع، ولذا كان يجب تفكيك سيطرة الإمبرياليات ـ خاصة الإمبريالية البريطانية منهاـ في الوقت الذي تعكف فيه واشنطن على توسيع الترتيبات الإقليمية الخاصة بها، في كل من أميركا اللاتينية، والمحيط الهادي، وفق مبدأ (ما يلائمنا يلائم العالم). لإن الأميركيين يؤمنون بأن الولايات المتحدة ترمز إلى شيء ما في العالم، شيء يحتاجه العالم، شيء سيحبه العالم، شيء سيتقبله العالم في آخر المطاف سواء أحبه أم لا.
فالتخطيط الأميركي للعالم، أقام إعادة بناء العالم الصناعي على نهج كفيل بتلبية احتياجات ومصالح قطاع المال والأعمال، الذي يمسك بخيوط السياسات، فالأولوية لاستيعاب فائض الصناعات الأميركية، وسد الفجوة الدولارية، وخلق فرص الاستثمار، فخطة (مارشال) وضعت الأسس للشركات المتعددة الجنسية، والاستثمارات، والصناعات الأميركية، لتمتد إلى ما وراء البحار، محمية بمظلة القوة الأميركية. وأسندت إلى أجزاء أخرى من العالم وظائف حددها مخططو وزارة الخارجية: على جنوب شرقي آسيا أن يزود الإمبرياليين بالموارد والمواد الأولية، ولكن ينبغي منح اليابان نوعا من الإمبراطورية باتجاه الجنوب، وأفريقيا تسلم للأوروبيين
_________
(1) إمبراطورية الشرالجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ ص45 أو القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003
(2) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبهـ ص68(2/57)
كي يستغلوها لأغراض إعمار بلادهم، وكان نصيب الشرق الأوسط من نصيب الولايات المتحدة وليس أوروبا. ووصف قادة الولايات المتحدة المملكة العربية السعودية، بأنها ينبوع قوة إستراتيجية مذهل، وإحدى أعظم الجوائز المادية في تاريخ العالم، ووصفت شرق آسيا بأنها بؤرة التجارة العالمية والتجديد التكنولوجي (1). http://www.aljazeera.net/books/2004/7/7-29-1.htm - TOP#TOP
الحرب الباردة وحلم تأسيس إمبراطورية أمريكية
بعد الحرب العالمية الثانية، أتاح السلام الأمريكي الأول بناء نظام عالمي جديد، قائم على المجابهة مع الشرق، ولكن متمتع بآليات قوية في النظام المالي (اتفاقيات بريتن وودز، صندوق النقد الدولي، البنك العالمي .. ) وفي الأمن الجماعي (منظمة الأمم المتحدة، حلف شمال الأطلسي). وكان يراد من ذلك أن يؤمن للولايات المتحدة موقعاً مهيمناً، إلى جانب إفساح المجال أمام أوروبا واليابان لكي تعيدا بناء نفسيهما بفضل مشروع مارشال (2).
وفي تلك الفترة وبمساعدة (إشعيا بومان) ـ الذي قاد مجموعة دراسات الحرب والسلام، التي أسست لولادة نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ـ أسس (روبرت ستروز) في عام 1955م معهد بحوث السياسة الخارجية، والذي قام عام 1957م بإصدار نشرة فصلية باسم (أوربز)، تخصصت في الشؤون الدولية، حيث كانت المهمة المعلنة لهذا المعهد ونشرته هي الدعوة إلي إقامة إمبراطورية أمريكية، والتخلي عن سيادة الدول والدولة القومية، خاصة في عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي! حيث نشر في العدد الأول للمجلة عام 1957م مقاله، عنوانها: (موازين الغد) جاء فيها:
"إن مهمة الولايات المتحدة هي توحيد العالم بأكمله تحت قيادتها خلال هذا الجيل. أما سرعة وكفاءة تحقيق الولايات المتحدة لهذا الهدف فسوف يقرر مصير
_________
(1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـ ترجمة سامي الكعكي ـ دار الكتاب العربي 2004. تقديم/ إبراهيم غرايبةـ الجزيرة نت 29/ 7/2004م.
(2) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص44(2/58)
الحضارة الغربية، وبالتالي المصير البشري ... فهل سيكون النظام العالمي الجديد القادم هو إمبراطورية عالمية أمريكية ... ؟ يجب أن يكون الأمر كذلك لدرجة أن تحمل الإمبراطورية العالمية تلك دمغة الروح الأمريكية. أما التهديد لهذه الرؤية، وهذه الإمبراطورية الأمريكية فسيأتي من آسيا كما جاء في مقال (أوربز): أما الإمبراطورية الأمريكية والجنس البشري فسوف لن يكونا متضادين، بل هما اسمان لشيء واحد هو النظام العالمي الجديد" (1).
ولكن هذا النظام الدولي الجديد، الذي عملت أمريكا على تأسيسه، لم يتحقق بسبب ظهور الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي شكل معضلة كبيرة في وجه دعاة تأسيس النظام العالمي الجديد، حيث توجهت جهودهم لمواجهة هذا الخطر الجديد من خلال تضخيم حجمه. فطوال 70 عاماً، أقنعت الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من العالم بأن هناك مؤامرة دولية تتربص به، مؤامرة شيوعية دولية، تسعى على اقل تقدير للسيطرة على الكوكب برمته، لأغراض ليس لها قيم تحقق الخلاص الاجتماعي، وجعلت العالم يعتقد انه يحتاج إلى الولايات المتحدة بطريقة ما لإنقاذه من غياهب الظلمة الشيوعية (2). ولهذا نشطت هذه القوى في بداية الحرب الباردة، حيث كانت السياسة الخارجية الأمريكية يجري تنفيذها تحت العلم الخفاق لخوض حرب صليبية أخلاقية ضد ما أقنع به محاربو الحرب الباردة الشعب الأمريكي، ومعظم العالم وأنفسهم عادة، وهو وجود مؤامرة شيوعية دولية حقود، ولكن ذلك كان خداعاً دائماً، فلم يكن هناك مطلقاً ذلك الوحش المسمى بالمؤامرة الشيوعية الدولية (3). ولكن تركيبة قوي اليمين المتطرف، شنت حرباً علي جبهتين ضد الشيوعية، حيث كانت أولي هاتين الجبهتين ما عرف باسم (المكارثية)، نسبة إلي السيناتور (جوزيف مكارثي)، والذي أذكى شرارة العنف السياسي، ليصل ذروته من خلال مزاعم لا أساس لها من الصحة، حول وجود الحمر، في إشارة إلي الشيوعيين، في كل الوزارات والدوائر الحكومية.
وقد كشف (ويليام سوليفان) عميل
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ ص43 أو القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003
(2) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيدـ ص 29
(3) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 44(2/59)
مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، إن الـ FBI هو الذي كان يغذّي مكارثي ويزوده بالمعلومات (1).
أما الذراع الثاني للحملة ضد الشيوعية، فكان بروز التعصب المسيحي الذي داعب تلك المشاعر المناهضة للشيوعية في الولايات المتحدة. فقد سمع اثنان من قوي اليمين المتطرف عن واعظ مغمور يلقي عظاته في لوس أنجليوس أمام عدد قليل من الجمهور. وهنا رأي هذان الرجلان أن ذلك الواعظ، يلاءم حاجتهما في التبشير بغرض مقاومة الليبرالية والشيوعية. وقام الرجلان بإجراء مقابلة مع ذلك الواعظ الذي هو (بيلي غراهام) ووعداه بمنحه كل دعمهم الإعلامي. وأوعزا إلي مجموعتهم الإعلامية بان تنفخ (غراهام) إعلامياً، وقاما بنشر صوره علي غلاف مجلة لايف، وبين عشية وضحاها، أصبح (غراهام) بطلاً قومياً أميركياً، وبدأ يلقي محاضراته وعظاته علي مئات الألوف من الجماهير، حيث ساهم في ذلك كون الناس قد شبعوا ضغوطاً، وقرروا أن يعودوا إلي دينهم لينعموا بالهدوء في روحانيته، بعد أن ملأ الملل صدورهم من الرأسمالية والمادية. وهكذا أخذ المدّ الديني يتعاظم أكثر فأكثر. واستمرت حركتهم ونمت بفضل قوة الإعلام ومئات محطات الإذاعة والتلفزة التي يملكونها، علاوة علي الميزانيات السنوية التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
وقد ساهم هذا المد الديني في إذكاء الحرب ضد الشيوعية، وإطلاق قوة الولايات المتحدة لتدير حملة صليبية قوية ضد الشيوعيين الكفار (2)، حيث وصلت هذه الحملة ذروتها في عهد (ريجان)، مما ساهم في انهيار الشيوعية تماماً في عهد (بوش الأب) بعد حرب الخليج الأولى. ولم يكن غريباً في هذا الوقت أن يتم إعادة نشر مقالة (اوربز) المشار إليها، والتي كتبت قبل 35 عاماً من انهيار الاتحاد السوفييتي، مره أخرى في شتاء 1993م، في إشارة واضحة للاقتراب من تحقيق
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003
(2) الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته -بقلم: دوان أولدفيد: أستاذة مشاركة في العلوم السياسية في جامعة نوكس. قدمت نسخة هذا البحث في الاجتماع السنوي لجمعية العلوم السياسية الأمريكية الذي انعقد في الفترة ما بين 28ـ31 آب/2003.- نقلاً عن موقع مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية(2/60)
هدف تأسيس نظام عالمي جديد، حيث ثم تفكيك الاتحاد السوفيتي من ناحية، وتدمير اكبر قوه عربية تهدد إسرائيل، وهى العراق، من ناحية أخرى، ولتبدأ بعدها مباشرة خطة القضاء على الإسلام ومحاربته في كل مكان كما نعيشها الآن.
حيث توجه مركز الثقل في الحرب الأمريكية صوب الإسلام والمسلمين، وبتحريض مسعور من دعاة صراع الحضارات وبارونان الشركات متعددة الجنسيات، ورموز اليمين المسيحي المتطرف، الذين زاد هوسهم الديني واعتقادهم بكثير من الخرافات التوراتية، التي عرضنا لها سابقاً. "وشكل هؤلاء تحالفاً مع المتعصبين اليهود المتطرفين، ليكونوا حركة متعصبة مسيحية يهودية، اتخذت مواقف ضد الإسلام غاية في التطرف. وأصبحوا قوة هائلة في الحزب الجمهوري وصياغة سياساته، حتى أن (هيرب زوايبون)، رئيس منظمة (أميركيون لإسرائيل آمنة)، حذر (بوش) في البيت الأبيض أنه في حال تبديل 10 بالمئة فقط من الـ 70 مليون مسيحي صهيوني لمواقفهم، فإنهم سيقلبون موازين الأمور ويدمرون رئاسة (بوش) ما لم يساند (شارون) في حربه الضروس ضد الفلسطينيين" (1).
عصر التنوير الجديد
في الفتره مابين ظهور حركة الإصلاح الديني وحتى الآن، شهد العالم حروب كثيره، لعبت فيها الدول البروتستانتية الانجلوسكسونية الدور الرئيس، حيث سيطر الغرب خلال هذه الفترة علي مقدرات العالم، وشكلت الدول القومية نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب ضمن الحضارة الغربية، حيث قامت تلك الدول بالتنافس والتفاعل، وشن الحروب بين بعضها البعض. وقد توسعت هذه الدول القومية الغربية، وقامت باستعمار حضارات أخري والتأثير فيها. وأهم ما تحقق خلال هذه الفترة هو القضاء على نفوذ الدول الكاثوليكية والأرثوذكسية، وسيادة البروتستانت ممثلين بالانجلوسكسون في بريطانيا وأمريكا على العالم. "وعندما صارت الولايات المتحدة لاعباً كونياً للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت بإزاحة أصدقائها
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربيـ 3/ 2/2003(2/61)
الأوروبيين لتحل محلهم، واستخدمت قدراتها وثرواتها الطائلة من أجل ترتيب النظام الدولي بعناية ومهارة" (1).
فبعد أن تمكنت أمريكا من القضاء على نفوذ الدول الكاثوليكية - كما سنعرض لاحقاً - ابتداء من حروبها في أمريكا اللاتينية وانتهاءً بالحربين العالميتين، ثم قضاءها على المعسكر الشرقي ـ التي تمثل دوله الكنيسة الأرثوذكسية ـ اقترب هذا الحلم الأمريكي من التحقق وأصبح النظام العالمي الجديد هو تحقيق إمبراطورية أمريكية عالمية، تعمّها المثل والقيم الأمريكية، حيث شهدت الأعوام الأخيرة من الألفية الثانية عرضا ضخماً وحماسياً من تملق الذات ـ ربما فاق كل سوابقه غير المجيدة بأية حال مصحوباً بتهليل مخيف لقيادة عالم جديد مثالي عاكف على وضع حد نهائي للبربرية، ومنذور لخدمة المبادئ والقيم لأول مرة في التاريخ. عصر من التنوير والبر طلعت شمسه علينا، وتتصرف فيه الأمم المتمدنة تحت قيادة الولايات المتحدة ـ وهي يومذاك في عز مجدها ـ بروح الغيرية والحمية الخلقية في التماسها المثل العليا.
ولادة النظام العالمي الجديد
مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره في نهاية عقد الثمانينات، أصبح النظام العالمي الذي ساد إبان الحرب الباردة طي النسيان، ومجرد تاريخ فقط، حيث حلّ محله النظام العالمي الجديد، الذي كانت أولى أولياته تحقيق الحلم الصهيوني، والسيطرة على العالم من خلال السيطرة على مصادر النفط في المنطقة العربية. وإذا كانت السيطرة علي النفط العالمي، أولوية معلنه لليمين المتطرف، وإن تم تجميلها ببعض المزاعم كمحاربة الإرهاب، ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الهدف المتعلق بالحلم الصهيوني المسيحي الأصولي، ظل غائباً عن الصورة لأهداف تكتيكية. وهكذا احتلت المنطقة العربية والإسلامية مركز الثقل بالنسبة لليمين الأمريكي المتطرف، وكانت علي رأس الأولويات علي أجندة النظام العالمي الجديد
_________
(1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـ ترجمة سامي الكعكي ـ بقلم/ إبراهيم غرايبة29/ 7/2004م(2/62)
الذي صاغ إستراتيجيته الكونية على هذا الأساس .. فكانت حرب الخليج الأولوية الأولي للنظام العالمي الجديد ... وكان العراق إلي جانب بقية دول الخليج المنتجة للنفط أولي الضحايا التي قدّمت لهذا النظام الجديد.
ففي الثالث والعشرين من آب (أغسطس) 1990م، أي بعد ثلاثة أسابيع من اجتياح العراق للكويت، استخدم (برنت سكاوكروفت) مستشار الأمن القومي، في عهد الرئيس (جورج بوش) مصطلح النظام العالمي الجديد للمرة الأولي حيث خاطب الصحافيين، قائلاً: "إننا نؤمن بأننا سنقيم أركان النظام العالمي الجديد علي أنقاض العداء الأمريكي ـ السوفييتي الذي كان قائماً". أما رئيسه بوش، فقد خاطب الكونغرس الأمريكي بعد ذلك بعدة أسابيع في 11 ايلول (سبتمبر) 1990 م قائلاً: "لقد ابتدأت شراكة جديدة بين الدول ... إن الأزمة القائمة في الخليج الفارسي، علي خطورتها ودمويتها، تمنحنا فرصة نادرة ... من خضم هذه الأوقات العصيبة ... قد يولد نظام عالمي جديد" (1).
وهنا يبدو الرئيس (بوش) يعيد تكرار أمنية سابقة تمناها الزعيم الصهيوني (إسرائيل زانغويل) في خطاب له في 2 ديسمبر 1917م، أي بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية، الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، بقوله: "سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة، عادت على اليهود بالمذابح، فهل ستؤدى الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين؟. وإذا كانت صليبية حقة، فإن تلك الحقيقة بالذات تأتى بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة". ولم ينسَ (زانغويل) في هذا الخطاب، أن يكمل صورة النظام الجديد الذي توقع ميلاده في ظل الحملة الصليبية الثامنة، حيث أشار إلى ضرورة طرد العرب من أرض فلسطين ليتسنى إحلال اليهود مكانهم، لإقامة الوطن القومي اليهودي. كما تمنى في هذا الخطاب أن يكتمل هذا العمل عن طريق جعل مدينة القدس مقراً لعصبة الأمم، بدلاً من لاهاى المفلسة، ليتسنى جمع الحلمين
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م(2/63)
العبرانيين، الأكبر والأصغر، ودمجهما في حلم واحد، ولتصبح العاصمة العبرانية ـ ملتقى الديانات العالمية الثلاث ـ مركزاً ورمزاً للعصر الجديد في الحال" (1).
ولكن هذا النظام العالمي الجديد الذي تمنى ولادته (زانغويل) و (بوش الأب) لم يبقَ أمامه إلا العدو الجديد، وهو العالم الإسلامي، فكان لابد من صناعة صورة العدو البديل .. وكان لابد من خوض حرب صليبية بين قوى الخير والشر، وبقيادة (بوش الابن) ليتحقق العصر الألفي السعيد بقيام إسرائيل الكبرى، وعودة المسيح ليحكم العالم من مقره في القدس ...
_________
(1) إسرائيل الكبرى ـ د. أسعد رزوق ـ ص 407.(2/64)
الفصل الثاني
الإسلام عدو بديل
هدف ثابت وصياغات متغيرة (1)
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001م، علي مركز التجارة العالمي في نيويورك، والبنتاغون في واشنطن، سيطر دعاة ومعتنقو عقيدة صراع الحضارات علي الساحة السياسية والإعلامية في أمريكا. فقبل الكشف عن أي دليل علي هوية المهاجمين، كانت الحملة المنظمة ضد الإسلام والمسلمين قد بدأت تبث سمومها عبر مختلف وسائل الإعلام، وذلك في غضون الدقائق العشر الأولي، التي أعقبت الهجمات. فقد وصف الكاهن (فرانكلين غراهام) الإسلام بأنه دين شرير. كما أن وسائل الإعلام والصحف الكبرى في أمريكا مثل نيويورك تايمز، والواشنطن بوست، قد أصدرت أحكامها مسبقاً علي الإسلام، وذلك علي لسان كتاب الأعمدة، الذين أجمعوا رأيهم علي أن المشكلة التي يعاني منها العالم هي الإسلام المتطرف، كما يدعي البعض، أو الإسلاميون كما يحلو للبعض الآخر تسميتهم. إلي جانب ذلك، فقد صور الإعلام الإسلام علي أنه دين عنف. وهذا ما دفع بالمواطن الأمريكي العادي الذي لا يشغله سوي قوت يومه إلي الاعتقاد بأن الإسلام والإرهاب هما وجهان لعملة واحدة. "وبذلك أصبحت الحرب ضد الإرهاب، سواء شعورياً أو لاشعورياً، حرباً ضد الإسلام، فأعلنت محطة (سي إن إن CNN) هذه الحرب قبل أن يقرها الكونغرس الأمريكي نفسه" (2). وهكذا يمكن ملاحظة أن هذا الهجوم المنظم على الإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر لم يكن عفوياً، ولم يكن مبرراً، بل جاء نتيجة لتخطيط منظم سبقه بمراحل واستمر لسنوات طويلة، محاولاً إبراز الخطر الإسلامي وتضخيمه، لغاية في نفس يعقوب، حيث لم تكن أحداث 11 سبتمبر إلا نقطة التحول الحقيقية من الأقوال إلى الأفعال من اجل استهداف الإسلام وأهله.
_________
(1) الإسلام عدو بديل .. هدف ثابت وصياغات متغيرة! - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين- 12 - 1 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/politics/2002/01/article9.shtml
(2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003(2/65)
يقول الفيلسوف الفرنسي (مونتسكيو): "إن الشعوب السعيدة، هي الشعوب التي لا تاريخ لها". وقياساً مع هذه النظرية الاجتماعية، فإن التاريخ الغني لشعوب هذه المنطقة الممتدة من أواسط آسيا حتى شواطئ الأطلسي، يعكس مدى افتقار شعوبها إلى السعادة، حيث لعب عاملان أساسيان الدور الأهم في اغناء تاريخ المنطقة. العامل الأول ديني، وهو هبوط وحي الرسالات السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام فيها والثاني حضاري، وهو قيام الحضارات الإنسانية الأولى فيها" (1)، حيث كان من نتيجة ذلك تحول المنطقة لمنطقة جذب للطامعين والغزاة على كافة مشاربهم وأهدافهم، وكان على المنطقة دفع ضريبة تميزها وفرادتها، حيث تعرضت المنطقة عبر تاريخها لسلسلة طويلة من الحروب. ولكن إذا نظر أي دارس للحروب المستمرة، التي تعرضت لها المنطقة، فسيلاحظ أنها جميعها فشلت فشلا ذريعاً في تحقيق أهدافها، حيث تمكنت شعوب هذه المنطقة من دحر الغزاة وردهم على أعقابهم.
وفي العصر الحديث تعرضت المنطقة العربية ـ ولازالت ـ لهجمة غربية شرسة، وبأساليب متعددة، بدءً من الغزو العسكري، وحتى الغزو الاقتصادي والفكري. فبعد زوال الاستعمار الغربي عن المنطقة العربية في منتصف القرن الماضي، لجأت الدول الغربية إلى إبقاء سيطرتها وفرض نفوذها على المنطقة بأساليب أخرى، اقتصادية وثقافية وعسكرية، من خلال بعض الأحلاف أو صيغ التعاون، مستخدمه كافة أساليب الضغط والتآمر للوصول إلى أهدافها. وقد نجحت هذه المخططات في تفتيت الأمة العربية، وإفشال أية مشاريع وحدوية، أو أي تعاون مثمر بين الدول العربية، حتى وصل حال الأمة إلى ما هو عليه الآن من ضياع وتشتت وغياب الهدف، وأصبح الحكام العرب ألعوبة في يد السياسات الغربية والأمريكية، وغذوا عاجزين عن اتخاذ أي موقف لا يروق للإدارة الأمريكية، التي كشفت عن أنيابها ومخططاتها القذرة تجاه المنطقة بعد انهيار المعسكر الشرقي، حيث بدأت في توجيه دفة العداء تجاه المنطقة، وبصوره فجه لم يسبق لها مثيل، وتحول أصدقاء الأمس إلى أعداء، وأخذت
_________
(1) موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد ـ محمد السماك ص 30 - دار النفائس- ط.2 1999(2/66)
أمريكا في إخراج مخططاتها وأحقادها الدفينة من خزائن التاريخ العفنة، وبالتعاون مع الصهيونية العالمية، من أجل إظهار العرب والمسلمين بصوره بشعة وغير إنسانيه لتبرير العدوان عليهم واستباحة مقدراتهم، حيث ساهمت عدة عوامل في صياغته هذه الصورة المرعبة للإسلام في عقول الغربيين يمكن إيجازها بالآتي:
أولاً ـ القادة والسياسيون
(حرب صليبية)، (حرب ضد الفاشية الإسلامية)، (حرب تغيير القيم)، مصطلحات ترددت بقوة على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 بما يؤكد أن الغرب وجد العدو البديل ممثلاً في المسلمين، بعد زوال الخطر الشيوعي، حيث أزاحت أحداث 11 سبتمبر الغطاء عن مكنون القلوب لدى زعماء غربيين تصرفوا بمنطق الحروب الصليبية، وأحيوا مقولات الداعين لتلك الحروب والمتمثلة في مواجهة خطر المسلمين الكفار. "فإستخدام التاريخ لأسباب سياسية يتضخم في الفترة المعاصرة. ويكفى مثال واحد لتبرير سباق التسلح أو السيطرة الاقتصادية، حيث يصطنع تاريخ الخصم على أنه شيطان. فقد كان الاتحاد السوفيتي هو (إمبراطورية الشر)، وبعد انهياره، وجد جورج بوش في الإسلام بديلاً ليبرر السياسة نفسها، وعلى النقيض من ذلك، ظهر تاريخ مقدس، كان في البداية تاريخ العبرانيين، تم استولى عليه المسيحيون الذين ادعوا وراثتهم له، ليبرروا حملاتهم الصليبية، تم استعمارهم" (1).
فقد استجاب الرئيس الأمريكي جورج بوش لكارثة 11 سبتمبر بشكل شبيه بما فعله البابا أوربان الثاني، الذي عبأ العالم المسيحي إلى (الحرب المقدسة)، وكان المسلمون بالنسبة له هم الشعب الكافر، حيث جعل بوش من الحرب الصليبية قرينة للجهاد وعزز من صورة القاعدة (2). وترددت أصوات بوش عن الحرب ضد الشيطان في لندن، حين أعلن رئيس الوزراء البريطاني في 17 سبتمبر 2001، دعمه للتحالف الذي تشكله الولايات المتحدة لخوض الحرب في أفغانستان، مشيرا إلى أن الحرب القادمة ستكون بين العالم المتحضر من ناحية، والتعصب من ناحية أخرى. وبعد
_________
(1) أمريكا طليعة الانحطاط ـ جارودى ـ ص181
(2) راجع كتاب "الحرب الصليبية .. وقائع حرب ظالمة"- الصحافي والكاتب الأمريكي جيمس كارول - نيويورك 2004 - ترجمة د. قاسم عبده قاسم - الجزء الثاني - مكتبة الشروق الدولية - ط1 2005(2/67)
خمس سنوات عاد بلير ليعلن في 2 أغسطس 2006، أن الحملة العسكرية في أفغانستان والعراق استهدفت تغيير القيم وليس مجرد إزاحة نظامي طالبان وصدام. ثم اكتمل مثلث الهجوم على الإسلام بسيلفيو برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا (السابق) الذي أعلن بعد أيام من أحداث 11 سبتمبر أن "الإسلام دين لا يحترم حقوق الإنسان ومبادئ التعددية والتسامح والحرية الدينية، وأن الحضارة الغربية تعلو على حضارة الإسلام" (1).
وهكذا يبدو واضحاً ان قادة الغرب وساسته، هم المسئولون في الدرجة الأولى عن هذا الموقف الخاطئ والظالم تجاه الإسلام وحركته السياسية والفكرية، فهم دائماً يحاولون انتخاب عدو موهوم لهذه الشعوب الغربية، ويضخمون لها أخطاره، ثم يقدمون أنفسهم منقذين ومخلصين ومدافعين عن هذه الشعوب تجاه هذا الخطر الداهم الموهوم. التهديد السوفيتي، التهديد الإرهابي، الأعداء الجدد، تلك هي عقلية البنتاجون ووكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي وآخرين، التي تجرى التنشئة عليها بصورة محمومة في الداخل والخارج، لتبرير مهامها الحاسمة المنقذة للحياة والمانعة للحوادث.
يقول الجنرال (دوجلاس ماك ارثر)، وهو يتحدث عن ميزانيات البنتاجون الضخمة عام 1957م: "لقد أبقت علينا حكومتنا في حالة خوف دائم، أبقت علينا في حالة فرار مذعور دائم مصحوباً بحماس وطني، يقترن بصرخة عن حالة طوارئ وطنية خطيرة. لقد كان هناك على الدوام شر ما رهيب يتحفظنا أن لم نحتشد خلفه بصورة عمياء بتقديم الأموال الباهظة المطلوبة. ومع ذلك فباسترجاع الماضي، يتضح أن هذه الكوارث لم تكن لتحدث أبداً، ويتضح أنها لم تكن حقيقية تماماً مطلقاً. فالهدف الشامل للسياسات العملية هو الإبقاء على الناس مستنفرين (ومن تم يرحبون بقيادتهم لبر الأمان) بتهديدهم بسلسة لا تنتهي من الغيلان، معظمها خيالي، كما قال (هـ. ا. منكن) في عام 1920 م" (2).
فالمجتمعات الغربية اعتادت الرفاهية الاقتصادية، التي لا سند لها في
_________
(1) جريدة الخليج - عدد 9982 - بتاريخ 17 - 9 - 2006
(2) الدولة المارقة ـ دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 51(2/68)
الاقتصاد الغربي سوى استمرار نهب ثروات العالم المستضعف المغلوب، والحصول عليها بأبخس الأثمان، وهذه المجتمعات لا تتحمل أي نكسة أو تراجع في عالم الاقتصاد والرفاهية والاستهلاك، ولابد لهؤلاء القادة من الاستمرار في دعم وضمان قيام هذه المعادلة غير العادلة، ولا يتم ذلك إلا بالحفاظ على عالم الاستضعاف كما هو منبعاً للمواد الخام، وسوقاً لاستهلاك ما يفيض عن حاجة الغرب، وهذا يستدعي إستنفار الرأي العام الغربي ضد الإسلام، الذي يحارب هذه المعادلة، وضد المسلمين الذين يجاهدونه لضربها وإحلال معادلة متوازنة سليمة محلها، تؤمن مصالح كل الشعوب على السواء.
ثانياً ـ الإعلام الغربي
ساهم الإعلام الغربي بدوره الأساسي الفاعل في معاضدة القادة والسياسيين، فتحالف معهم في تشويه صورة الإسلام وحركاته، ومبادئه وقيمه، بتقديمها إلى المجتمعات الغربية بأقبح صور الراديكالية والوحشية، والتخلف والعنف. فقد غذّى الإعلام الغربي الرأي العام في الغرب بصور وقصص وروايات عن الإسلام والمسلمين، أصبحت أشد من الكوابيس ضغطاً على عقل وقلب وفكر المواطن الغربي، وأوجد البون الشاسع، والمسافة الكبيرة، في الفكر والممارسة، بين المسلمين والغربيين، وخاصة على صعيد الجنس والحرية الشخصية، ومهد كل ذلك أمام السياسيين، مهمة التلاعب بالرأي العام الغربي وتوجيهه، وحشده خلف هذه السياسات الخاطئة في التعامل مع الإسلام والمسلمين.
يقول المستشرق الهولندي (رودلف بيترز): "أن اللغة الإعلامية اليومية ـ للغرب ـ تكرس الصورة المشوهة، ويساهم في التشويه بعض الفئات المتعلمة والصحافيون. إن نقد صحافتنا أمر واجب، لأنها تمضي بعيداً في تسويق مفهوم خاطيء، وهي تعيد ما قامت به أثناء الحرب الباردة من حماسة زائدة ضد العدو المفترض، وهي تتعاطى مع الأصولية باعتبارها خبراً جذاباً للقارئ، لأنها من ناحية تتبنى العنف والإرهاب، ومن ناحية أخرى تختلف عن الواقع الغربي وتتصارع معه، ويمكن أن تكون نيات بعض الصحفيين طيبة، ولكن(2/69)
يجب أن لا ننسى المقربين من المؤسسات السياسية الحزبية، التي لها مصلحة في التلاعب بالرأي العام وتوجيه. وحتى الصحافي الموضوعي يواجه عوائق مهنية في تغطية الموضوع الإسلامي، فرؤساء التحرير يبحثون عن خبر، والحديث عن الإسلام المعتدل أو المتنور لا يعد خبراً، ولا يجتذب القارئ" (1).
ثالثاً ـ المستشرقون
رغم أن المفروض بالمستشرقين أن يكونوا أكثر إحاطة من الإعلاميين والسياسيين بحقيقة الإسلام، ومعرفة بمبادئه العادلة السامية، وأصوله السليمة القويمة، وإطلاعاً على حركته السياسية ومظلوميتها في الداخل والخارج، وعدم إتاحة الفرصة لها ـ محلياً وعالمياً ـ لطرح مبادئها وتوجهاتها بشكل هادئ وسليم، فان هؤلاء المستشرقين كانوا ـ إلا قليلاً منهم ـ أكثر الشرائح الغربية مسؤولية عن تشويه صورة الإسلام والشعوب الإسلامية لدى الغربيين، شعوباً وحكومات وأحزاباً، ساسة وقادة وإعلاميين، وعلى عواتق هؤلاء المستشرقين تقع المسؤولية الكبرى في زرع العداء للإسلام لدى الغرب، وفي دفعه لإعلان الحرب عليه، باعتباره العدو الأول.
فهؤلاء بارتدائهم أثواب العلم والموضوعية، وحملهم لواء البحث والتحليل والتمحيص، كانوا أكثر نفوذاً وأبعد أثراً في الرأي العام الغربي، عدا عن أن دراساتهم وبحوثهم وأقوالهم كانت في الغالب هي المواد الرسمية الرئيسة للإعلاميين والسياسيين وسواهم. و قد أفصح المستشرق الأسباني (فرناندو دي أغريدا) رئيس قسم المطبوعات والنشر في معهد التعاون العربي التابع لوزارة الخارجية الأسبانية عن هذه الحقيقة، عندما أشار إلى أن دراسة الأوضاع العربية من قبل المستشرقين كانت تتم في الكثير من الأحيان بهدف تشويهها. ويقول وات في كتابه (ما هو الإسلام؟)، معبراً عن مدى انحياز الدراسات الغربية لجذور أصحابها عبر قوله: "إننا ورثة تحيز راسخ الجذور، يعود إلى الدعاية الحربية للقرون الوسطى، هذه الحقيقة يعترف بها الآن على نطاق واسع، فالدراسات الحديثة تشير إليها ضمن عوامل تكوين النظرة الغربية
_________
(1) الإسلام .. الغرب .. وإمكانية الحوار- ابراهيم محمد جواد - مجلة النبأ - عدد 39 - 4 - شعبان، رمضان 1420(2/70)
للإسلام. فعندما تقابل الفرسان الصليبيون مع العرب (البرابرة السارقين)، فوجئوا بحضارة تفوق حضارتهم. فرجع كثير من الفرسان منزعجين مما رأوا وعاينوا في الأرض المقدسة: مستوى معيشة لا تعرفه أوروبا ذلك الوقت، معرفة القراءة والكتابة، علوم طبية مزدهرة، فروسية حقيقية وتسامح، جسّدها صلاح الدين البطل الكردي. كانت حضارة تماثل تلك التي ازدهرت في الأندلس تجعل الخصوم المسيحيين يخجلون من أنفسهم، كاشفة لهم أنه إذا كان هناك برابرة، فذلك هم (1).
ولذلك فقد عمد هؤلاء الصليبيون على تشويه صوره المسلمين لكسب الدعم والتعاطف من شعوبهم وقد ساعدهم في ذلك كثير من رجال الدين وهذا ما يعترف به المستشرق الهولندي (فان كوننكز فيلد)، الذي أصدر عدة كتب تشرح الإسلام عقائد وأحكاماً اقترب فيها من الموضوعية والنزاهة، تحدث في كتابيه (أسطورة الخطر الإسلامي في الغرب)، و (حديث حول الإسلام في العصر الحديث)، مبيناً الصورة المشوهة التي يحملها الغربيين تجاه الإسلام، وأن لها جذوراً في الفكر اللاهوتي المسيحي. وقبل ذلك أشار الفيلسوف المؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) إلى هذه الظاهرة في التفكير الغربي الحديث الذي يزعم لنفسه التحرر والموضوعية والعلمية، ثم يقف بإزاء الإسلام وقضاياه موقفاً آخر تمليه عليه عصبية خفية (2).
كما أن المستشرقين أظهروا شبه إجماع على ضرورة التصدي للإسلام ومواجهة المد الإسلامي وقمع الظاهرة الأصولية، وإن كانوا قد اختلفوا في الأساليب التي طرحوها لهذه المواجهة، حيث كانت الحلول المقترحة لمواجهة المد الإسلامي كثيرة لا يمكن حصرها في هذا البحث، ولكنها جميعاً تؤكد على أن أصولية الإسلام تشكل خطراً كبيراً على الأمن والسلام، وعلى العلاقات بين الشرق والغرب. وأن المناهج الأصولية متزمتة وراديكالية لا ماضٍ ولا مستقبل لها. لهذا فإن قادة الغرب ـ استناداً إلى دراسات المستشرقين يراهنون على خيار واحد فقط، وهو سحق هذه التوجهات وتبديدها، ولو أدى
_________
(1) الإسلام عام 2000 - د. مراد هوفمان- ترجمة: عادل المعلّم - مكتبة الشروق.
(2) راجع كتاب حضارة العرب - غوستاف لوبون - عادل زعيتر - د. ن, 1969(2/71)
الأمر إلى سحق الحريات، ووأد الديمقراطيات، التي يتشدق بها هؤلاء القادة الغربيين ليل نهار، ويجعلونها واجهة لعملهم السياسي في بلدانهم وأمام شعوبهم (1).
رابعاً: الصهيونية العالمية وإسرائيل
أخيراً هناك ما قام ويقوم به الصهاينة والإسرائيليون من تشويه مستمر لصورة العرب والمسلمين، لدى الرأي العام الغربي، ومن تضخيم متواصل لخطر الإسلام عموماً، وخطر الإسلام الأصولي خصوصاً، على أساس أنه البديل الحالي عن الخطر الشيوعي السوفياتي، الذي انحسر عن كاهل الغرب في الآونة الأخيرة. "فقد كان التركيز الأصولي في مجال السياسة الخارجية الأمريكية منصباً على الخطر القادم من الشمال، كما في نبوءات حزقيال، أي خطر يأجوج ومأجوج والحلف الشرير بين (أبناء الظلام)، ضد أبناء النور، أي إسرائيل. إلا أن الاتحاد السوفيتي قد ضاع الآن من بين أيدي الأصوليين بوصفه الشيطان إبليس أو يأجوج ومأجوج، بل وسبب لأولئك الأتقياء خيبة أمل كبيرة لأنه ـ بانسحابه من حلبة الصراع مع قائدة حلف أبناء النور الولايات المتحدة، بل وانضواءه في الواقع تحت لوائه ـ قد جرد المسيحيين الأصوليين المؤمنين من الخصم الشرير، وحرمهم من فرصة إشعال حرب نووية مع ذلك الخصم الشرير، تعجيلاً، ـ من خلال تلك الحرب، هرمجيدون ـ بالمجيء الثاني للمسيح" (2).
ولهذا كان على الأصوليين اختراع هذا العدو، فالغرب كما تقول المستشرقة الإيطالية) إيزابيلا كاميرا دافليتو): "كان وما يزال بحاجة إلى اختراع عدو حتى يضمن لنفسه خطاً دفاعياً، ويظل مترفعاً ومتعالياً على ما تبقى من العالم لسنين طويلة، أو حتى لعقود، كان هذا العدو متمثلاً بالشيوعية وبالمعسكر الشرقي، وعندما انهارت الشيوعية برز لدى الغرب التساؤل التالي: من سيكون عدونا المقبل؟!. وإذا به يسحب من خزانة تراكم عليها غبار الزمن
_________
(1) الإسلام .. الغرب .. وإمكانية الحوار- ابراهيم محمد جواد - مجلة النبأ - عدد 39 - 4 - شعبان، رمضان 1420
(2) المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص417(2/72)
صورة العدو التاريخي القديم المتمثل بالعالم الإسلامي، لكن الغرب كان أيضاً ـ بحاجة ـ إلى وسيلة لإقناع مواطنيه بمصداقية هذا الاكتشاف الجديد والقديم، لذا كان طبيعياً أن يحاول ترسيخ ملامح البعبع من خلال تقديم الأصولية الإسلامية، والإرهاب الإسلامي في صورة العدو العنيف" (1).
ومعلوم أن الصهاينة والإسرائيليين يدركون أن الخطر الحقيقي، الذي يتهدد كيانهم هو ظهور تيار إسلامي قوى في الدول العربية. ونجد مشاعر مماثلة تساور العديد من المسيحيين ـ الأصوليين في ـ أمريكيا، فهم يعتقدون أن بقاء إسرائيل قوية جزء من مخطط الله، ويعتبرون المسلمين تهديداً لهذا المخطط، ولهذا يرى هؤلاء أن عليهم مواصلة معاداة المسلمين، لأن إسرائيل لا تزال في حالة تأهب عسكري، لمواجهة الدول الإسلامية المجاورة في غالبيتها (2). ولهذا فإن الأصوليين المسيحيين أكثر عداوة للإسلام والمسلمين، بل وأكثر جرأة في الطعن في الإسلام، وجرح مشاعر المسلمين، من حلفائهم اليهود. كما تدل عليه تصريحات (فرانك غراهام) و (بات روبرتسون) و (جيري فالويل) حول الإسلام خلال العام المنصرم. وقد لاحظت الكاتبة الأميركية (جريس هاسيل) أن الأصوليين المسيحيين في أميركا "مستعدون لتقبل نقد موجه لفرنسا أو إنجلترا، أو ألمانيا، أو إيطاليا، أو الولايات المتحدة، أو أي بلد آخر في العالم، لأن ذلك شأن سياسي، أما نقد إسرائيل فهو يساوي عندهم نقد الرب ذاته"، حسب تعبيرها (3).
تبدُّل الصياغة وصناعة صورة العدو
عندما غزا (صدام حسين) الكويت في أب 1990م، زود ـ من غير قصد ـ مخططي وزارة الدفاع بالشيء الذي كانوا يبحثون عنه، منذ تولي (غورباتشوف) قيادة الاتحاد السوفيتي. إنه عدو جديد يمكن للولايات المتحدة أن تضع عليه الملامة، وخطر على الأمن يبرر المحافظة على إنفاق عسكري مماثل لفترة الحرب
_________
(1) المستشرقون والإسلام معالجة منهجية خاطئة ـ إبراهيم محمد جواد
(2) لا سكوت بعد ـ اليوم ـ بول فيندلى ص12
(3) يد الله - غريس هالسل ص 80(2/73)
الباردة (1). وبعد أن تدخلت أمريكا ودمرت القوات العراقية وأخرجتها من الكويت، رأت أن توسع نظرتها للعدو الجديد باتخاذ الإسلام كعدو بديل، حيث كانت أول مره يرفع فيها شعار (الإسلام عدو بديل) على المستوى السياسي الغربي، في (منتدى الشؤون الأمنية الدولية) في ميونيخ عام 1991م، وكان الذي استخدم هذا التعبير، هو وزير الدفاع الأمريكي آنذاك ـ ونائب الرئيس الأمريكي حالياًـ ديك تشيني. وقد ـ لقي موقفه حينئذ ـ ردود فعل شديدة، في البلدان الإسلامية، وفي أوساط ثقافية ودينية غربية، تخوّفت مما يعنيه الصدام الكامن وراء تلك الشعارات، التي وصلت إلى مستويات مؤثرة في صناعة القرار السياسي الأمريكي ذو المنطلقات الصهيونية (2).
وقد سبق رفع شعار (الإسلام عدو بديل) ظهور العديد من الدراسات والأبحاث التي قامت بها كثير من مراكز البحث والجامعات الغربية، وبالتعاون مع دوائر استخبارية غربية، بهدف التعرف على أنجع الطرق لمواجهة الصحوة الإسلامية أو ما سموها بالأصولية الإسلامية، "بحيث أضحى موضوع دراسات الشرق الأوسط في الغرب هو ابرز العناوين التي تتم تحتها عملية الرصد والدرس والتحليل للعالم الإسلامي عامة، والعربي خاصة، من كافة الجوانب، من العقيدة إلى فن زراعة البساتين، والتي تطورت وتوسعت بشكل هائل منذ الحرب العالمية الثانية، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، ويكفي أن نعرف أن عدد المتفرغين للبحث في هذا المجال في جامعات أمريكا وكندا كان 363 في عام 1969م فأصبح 670 عام 1986م، وان عدد أعضاء (رابطة دراسات الشرق الأوسط)، في أمريكا عام 1977 م كان 823 عضواً، موزعين على 39 مجالاً، أهمها مجالات التاريخ والسياسة، والأدب، والدين، والاقتصاد، وعلوم الإنسان، والاجتماع، والتعليم، والقانون" (3). ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حرصت دول الغرب، خاصة أمريكا، على أن تنشئ مؤخراً عشرات المراكز في داخل البلاد الإسلامية ـ تحت مسميات مختلفة ـ لتتولى مهمة الرصد والفحص، وجمع المعلومات المباشرة، لتصب هناك في مراكز التخطيط والقرار، هذا
_________
(1) قرن أمريكي آخر - نيكولاس غايات - ترجمة رياض حسن - ص 150.
(2) الإسلام عدو بديل (هدف تابث وصياغات متغيره) - نبيل شبيب - اسلام اون لاين 12/ 1/2001
(3) الأصولية في العالم العربي - دكمجيان - دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع/ المنصورة، 1989(2/74)
فضلاً عن المؤسسات التقليدية القديمة، من جامعات، ومدارس أجنبية، تسهم كذلك في المهمة نفسها.
وعندما شهد العقد الأخير زيادة الوعي الإسلامي وعمقه في المجتمعات الإسلامية، في كل أنحاء العالم، كثفت الدوائر الغربية من نشاط الدراسات حول مناطق الصحوة الإسلامية في العالم، وهذا) دكمجيان) يكشف في مقدمة كتابه (الأصولية في العالم العربي)،عن أن دراسته تلك أعدت خصيصاً للحكومة الأميركية، وقد اعتمدت دراسته على كثير من المنشورات السرية، والرسائل، والنشرات الخاصة بالحركات الإسلامية في العالم العربي، وقدم خلالها تحليلاً لعمل وتحرك (91) حركة وجماعة إسلامية، وقد ساعده كما يذكر في جمع المادة العاملون في مركز هيئة البحث والتنمية في أميركا! وهذا يعني أن تلك الدراسات، بطريقة أو بأخرى سوف تكون مراجع أساسية، تستند عليها المخابرات الدولية بما فيها الـ ( C. I. A) الأميركية، وغيرها من مراكز المخابرات والاستخبارات في العالم، حيث أن أجهزة المخابرات وعملائها سوف لا تتعب كثيراً في التشخيص والنزول باتجاه التفاصيل. فالدراسات التي أعدت قد سهلت كثيراً من مهامهم. وعلى أثر تلك الدراسات وما تبعها من نتاجات متلاحقة، فان دوائر المخابرات قد شرعت بالمزيد من عملياتها ومخططاتها، فكان للإسلاميين مساحة واسعة من اهتمامات تلك الدوائر المخابراتية (1).
تصريحات ومواقف
هناك مقولة للكاتب الأمريكي (كال توماس) ـ وهو ينتمي إلى انتلاف اليمين المسيحي الذي يتخذ موقفاً صارخاً في تحيزه لإسرائيل وعدائه للعرب والمسلمين، تقول: "أن كلاً من اليمين واليسار في الولايات المتحدة يحتاج إلى أعداء، لكي يستفز بهم ـ وبأسلوب الصدمة الكهربائية ـ حملات جمع التبرعات .. وان اليمين يتطلع منذ
_________
(1) الصحوة الإسلامية في الدراسات الغربية / جعفر الموسوي- موقع شبكة العراق الثقافية - 1/ 6/2005(2/75)
التسعينات إلى عدو يحل محل الشيوعية، وقد يكون ذلك الإسلام" (1). فبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي وانحلال حلف وارسو، جرى تصعيد متعمد للعدوانية الغربية ضد الإسلام، فكتبت (كارين آرمسترونغ)، قبل عشر سنوات من إعلان (جورج دبليو بوش) الحرب الصليبية الأخيرة ضد الإسلام، قائلة: "يبدو الآن أن الحرب الباردة ضد الإسلام ستحل محل الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي" (2). وفي الأول من أيلول 1993 كرر الجنرال باول نفس الشئ:: إن الإمبراطورية السوفيتية قد حل مكانها شيء من نوع آخر مختلف - العراق وكوريا وشياطين آخرون ومخاطر ذات طبيعة إقليمية».الأمريكيون مستعدون إذاً لاستنباط مخاوف أخرى لاقناع الأمم وخاصة الأوروبية منها بتقبّل هيمنتهم العسكرية والسياسية للأبد (3).
أما مدير معهد بروكنغرز في واشنطن (هيلموت سوننفيل) فيقول: "إن ملف شمالي الأطلسي سوف يعيش، وأن الغرب سيبقى مجموعة دول لها قيم أساسية مشتركة. وستبقى هذه المجموعة متماسكة معاً من خلال الشعور بخطر خارجي: الموقف من الفوضى أو التطرف الإسلامي". وقال الرئيس الأمريكي الأسبق (ريتشارد نيكسون) في كتابه (أمريكيا والفرصة التاريخية): "إنه يوجد في العالم الإسلامي عاملان اثنان مشتركان فقط، هما الدين الإسلامي، والاضطراب السياسي" (4). ويضيف: "يحذر بعض المراقبين من أن الإسلام سوف يكون قوة جغرافية متعصبة ومتراصة، وأن نمو عدد أتباعه، ونمو قوته المالية سوف يفرضان تحدياً رئيساً. وأن الغرب سوف يضطر لتشكيل حلف جديد مع موسكو من أجل مواجهة عالم إسلامي معاد وعنيف". وقد عكس (نيكسون) في كتابه هذا، صورة بشعة عن العالم الإسلامي عندما قال: "إن معظم الأمريكيين ينظرون نظرة موحدة إلى المسلمين على أنهم غير متحضرين، وسخين، برابرة، غير عقلانيين، لا يسترعون انتباهاً إلا لان الحظ
_________
(1) انقلاب في السياسة الأمريكية، إعادة ترتيب الشرق الأوسط لصالح إسرائيل- عاطف الغمري ـ ص 81 - المكتب المصري الحديث- ط1 2004
(2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003
(3) أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 212 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001
(4) أمريكيا والفرصة التاريخية - ريتشارد نيكسون - ترجمة د. محمد زكريا اسماعيل ص 118 - دمشق, سورية: دار حسان, 1983(2/76)
حالف بعض قادتهم، وأصبحوا حكاماً على مناطق تحتوي على ثاني الاحتياطي العالمي المعروف من النفط" (1).
وفي ربيع 1990م ألقى (هنري كيسنجر) وزير الخارجية خطابا أمام المؤتمر السنوي لغرفة التجارة الدولية، قال فيه: "إن الجبهة التي على الغرب مواجهتها هي العالم العربي الإسلامي، باعتبار هذا العالم العدو الجديد للغرب، وأن حلف الأطلسي باق، رغم انخفاض حدة التوتر بين الشرق والغرب في أوروبا، ذلك أن أكثر الأخطار المهددة للغرب في السنوات القادمة آتية من خارج أوروبا. وفي نهاية التسعينات فإن أخطر التحديات للغرب ستأتي من ناحيتي الجنوب (المغرب العربي والشرق الأوسط)، وهو ما أكده فيما بعد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي Willy Claes)) والذي وصف الأصولية الإسلامية في خطاب رسمي له بأنها أعظم خطر راهن يواجه الحلف. ولهذا ألح، (برنارد لويس) ـ أشهر مستشرقي العصر الحديث (2) ـ على الحكومة الأمريكية بضرورة التعامل بقسوة مع المسلمين والعرب، وأعرب عن رغبته في أن تسقط الولايات المتحدة سلطتها عليهم. فوفقاً للويس، هناك غرب متقدم إنساني من ناحية، وهناك من ناحية ثانية (إسلام) ـ وهذا الأخير يشمل الدين والقانون والحضارة والجغرافيا والتاريخ. وفي ذهنه، لم يتغير المسلمون والإسلام عبر العصور، فهو يعتبر أن دراسة مخطوطه عربية تعود إلى القرن التاسع الميلادي تفيد منهجياً في تفسير السلوك السياسي للفلسطينيين عام 2002م.
وفي كتابه (الإسلام والغرب) ينظر لويس إلى المسلمين بوصفهم مجموعة متجانسة واحدة، يتمتعون بمميزات وأنماط سلوك مماثلة، ويمكن أن تفسر كل أعمالهم البغيضة بالعودة إلى القرآن وكتب الفقه الكلاسيكية (3).
_________
(1) أمريكيا والفرصة التاريخية - ريتشارد نيكسون - ترجمة د. محمد زكريا إسماعيل ص 187
(2) ولد برنارد لويس في لندن عام 1916م لأسرة يهودية، وقد أتم دراسة التاريخ الشرقي من جامعة لندن عام 1939م، وكان موضوع رسالته عن الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين، وعمل بالتدريس في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. ثم التحق بخدمة المخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وبقي يعمل فيها حتى عام 1974 ليلتحق بالتدريس في جامعة برنستون بالولايات المتحدة. وهو معروف بصهيونيته وعدائه للإسلام
(3) الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب - من قسم العالم إلى فسطاطين - اسعد أبو خليل ـ ص32(2/77)
انطلاقاً من هذه التصريحات والمواقف بدأ الغرب وعلى رأسه أمريكيا يستهدفون الإسلام، كطريقة بديلة للحياة، وعلي نحو صريح ومكشوف منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والنظام الشيوعي، وقبل أن تظهر علي المسرح حكاية أسامة بن لادن. وقد صرح السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1995م أن الإسلام السياسي كان خطراً بمقدار خطورة الشيوعية علي الغرب علي الأقل (1). وقد بلغ التحامل على الإسلام إلى درجة أن مجلة الايكونوميست البريطانية المعروفة برصانتها، نشرت على الغلاف موضوعاً بعنوان: (الإسلام الأيديولوجية البربرية المعادية للغرب). وجاء في دراسة أخرى نشرتها مجلة ألمانية متخصصة في الدراسات الإستراتيجية: "الواقع أن الأحاسيس المعادية للعرب وللمسلمين، تجعل من هذه الصورة الجديدة للعدو، المخطط لها أسرع نجاحاً، وأكثر قدرة في الحصول على الإجماع، يبدو ذلك واضحاً من إسراع مجموعات من الخضر بألمانيا، عند حصول (أزمة الكويت) للحديث عن صراع بين الإسلام والغرب، بل بين الإسلام والتنوير أو التحرير، وطالب آخرون من الخضر الألمان ببوليس دولي لحماية البيئة من العرب (2).
نظرية صراع الحضارات
يقول المفكر د. محمد عابد الجابري: "ان العقل الأوروبي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، وبالتالي لا يتعرف إلى (الأنا) إلا من خلال (الآخر). ومن هنا فهو لا يستطيع التفكير في المستقبل إلا من خلال (سيناريوهات) يرسم فيها لنفسه (الآخر) .. العدو المنتظر" (3). فقد وجد الغرب نفسه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ـ العدو المشترك ـ أمام فراغ كبير، أصبحت معه خلافاته وصراعاته الداخلية من دون سقف رادع. و وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها فجأة دولة، بل معسكراً وترسانة من الأسلحة، بل تحالفاً دولياً بنى سياسته واقتصاده وإستراتيجيته، وثقافته، ورؤاه المستقبلية على أساس أنه يواجه عدوا يتربص به، فإذا بالعدو
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003م
(2) موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد ـ محمد السماك ص 16ـ17
(3) مسألة الهوية (العروبة والإسلام .. والغرب) - د. محمد عابد الجابري مركز دراسات الوحدة العربية/1997م(2/78)
ينسحب بل يختفي (1)، ومن هنا جاءت نظرية وجوب اختراع عدو بديل، حيث وجد المنظرون الإستراتيجيون في الإسلام ضالتهم، وتم صياغة صورة العدو البديل على المستوى الفكري، كما كان مع نظريتي (نهاية التاريخ) لفوكوياما، و (صدام الحضارات) لهنتينجتون، لان الولايات المتحدة تحتاج لعدو توجه ضده المدافع الاعلاميه والسياسية والعسكرية. فهذه الآلة الضخمة يجب أن تشتغل وتنتج وإلا أصابها التآكل، لا بد لها من عدو يجسد (الشر)، فإذا لم يكن موجوداً يفقد (الخير المفترض) مبرر وجوده. لذلك ولو لم يكن هذا العدو موجوداً لوجب اختراعه، سقوط الاتحاد السوفيتي كاد يحرمها من هذه المعادلة، لكنها سرعان ما أعادت إنتاج مقولة (إمبراطورية الشر) بتعديلها لتصبح (محور الشر). فقد تغيرت التركيبة العالمية، وإن لم تستقر بعد إلا أنها استهدفت إيجاد عدو بديل.
وكانت حرب الخليج التي خاضها بوش الأب بمثابة الإعلان عن ولادة قيام نظام عالمي جديد، وموت النظام العالمي القديم، وبالتالي موت كل التوازنات والاتفاقات، التي كانت ترسم حدود العالم في ذلك الحين. سقط النظام القديم، وسقطت كل الضوابط والكوابح التي كان يقوم عليها.
فإذا صدقنا ما تحدث عنه (هنتنجتون) وأسماه صدام الحضارات، نجد أنه لو اندلعت حرب عالمية ثالثه فستصبح حرباً من نوع جديد هكذا قال (هنتنجتون)، فلن يكون سببها نزاعاً (أوروبياً - أوروبياً) ولكنها ستكون مواجهه بين الحضارات، بين المركز (وهو الغرب)، وبين الأطراف (أو المستعمرات القديمة). بل إن (هنتنجتون) يعطى أيضاً ـ كلاً ـ من المجموعتين صبغة دينيه: إذاً سيكون الصدام بين حضارة (يهودية مسيحية) وأخرى (إسلامية كونفوشيوسيه). فالولايات المتحدة في خطتها للسيطرة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، عينت (العدو البديل أو الشيطان) الذي يجب القضاء عليه، وهو الإسلام وحلفاؤه المحتملون، فيما يسمى بالعالم الثالث (2). ولهذا بدأ البحث في أوائل التسعينيات عن كلمة أخرى غير الإسلام، فبدأ
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص92.
(2) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص 25ـ26(2/79)
التركيز على (الأصولية) (1)، مع تصريحات تقول بتبرئة الإسلام كدين سماوي منها، وتثبيت فكرة أن الأصولية هي (الإسلام السياسي).
وبعدها بفترة بدأ التركيز على ربط الإسلام والمسلمين والعرب بـ (الإرهاب)، حيث ترسخ هذا المفهوم في أذهان معظم الأميركيين بعد التفجير في مركز التجارة العالمي في شباط فبراير 1993م، وحينها صب الحاقدون وقود كراهيتهم على النار المستعرة، وبدأ الحديث عن شبكة عالميه فائقة التنظيم، ومكونه من مجموعات الإرهاب الإسلامي، ومتربصة للانقضاض داخل الولايات المتحدة (2).
نظرية هنتنغتون الجديدة
إذا كان العرب والمسلمون قد استقبلوا كتاب المفكر والأكاديمي الأميركي المعروف (صموئيل هنتنغتون) قبل الأخير (صدام الحضارات) بالقلق والرفض الواسعين، لترويجه فكرة أن الصراع العالمي القادم سوف يكون صراعا بين الحضارة الغربية من ناحية، وحضارات الشرق، وعلى رأسها الإسلام من ناحية أخرى، فإنه حري بهم الانتباه لنظرية أخطر يروجها (هنتنغتون) في كتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية)، نظراً للدور الذي ينادي (هنتنغتون) بأن يلعبه الإسلام كدين وحضارة في تشكيل الهوية الوطنية الأميركية خلال الفترة الراهنة، وفي المستقبل المنظور.
فعلى الرغم من أن (هنتنغتون) لا يرى ـ في كتابه الجديد ـ أن الإسلام هو أحد التحديات الأساسية، التي أدت إلى تراجع شعور الأميركيين بهويتهم الوطنية خلال العقود الأخيرة، فإنه يرى أن العداء للإسلام والحضارة الإسلامية قد يساعد بشكل كبير في تحقيق التفاف الأميركيين المنشود، حول هويتهم الوطنية في المستقبل المنظور، حيث يطرح (هنتنغتون) رؤية لإعادة بناء الهوية الأميركية، تقوم على استشراف بعض التغيرات الجذرية الإيجابية الطارئة على المجتمع الأميركي في
_________
(1) الأصولية هي مصطلح غربي أطلق في الأساس ولا يزال عل الجماعات المسيحية المتطرفة التي نشأت بعد حركة الإصلاح الديني، حيث طالبت هذه الفرق بالعودة لأصول العقيدة المسيحية، وهى الكتاب المقدس، ونادت بالتفسير الحرفي لكلماته، وقد تميز نشاط هذه الفرق بالتطرف والعنف، ورفض الآخر.
(2) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص84(2/80)
الفترة الأخيرة، التي من شأن تأكيدها عودة الروح للهوية الوطنية الأميركية. ويعني (هنتنغتون) بهذه التغيرات تحولين أساسيين: أولهما عودة الأميركيين للدين المسيحي، وزيادة دور المسيحية في الحياة العامة الأميركية. وثانيهما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلام كعدو أساسي جديد لأميركا. ويبشر بأن العودة للمسيحية ـ التي تعد أحد الركائز الأساسية للهوية الأميركية ـ تمثل عاملاً هاماً في دعم الهوية الأميركية ونشرها خلال الفترة الراهنة. كما أن الصحوة الدينية ـ وفقا لتحليل هنتنغتون ـ تصب مباشرة في الدور المساعد الذي يمكن أن يلعبه الدين على الساحة الدولية وخاصة في تعريف عدو أميركا الجديد وهو الإسلام.
وهنا يرى أن عداء أسامة بن لادن لأميركا هو عداء ديني، وأن الأميركيين لا يرون الإسلام على أنه عدو لهم، ولكن الإسلاميين المسلحين، المتدينون منهم والعلمانيون، يرون أميركا وشعبها ودينها وحضارتها أعداء للإسلام. ونتيجة لذلك يرى (هنتنغتون) أن البديل الوحيد للأميركيين هو أن ينظروا لهؤلاء الإسلاميين المسلحين بأسلوب متشابه. ثم يبدأ في وصف نفوذ الإسلاميين المسلحين، ويقول: إنهم كونوا شبكة دولية لها خلايا عبر العالم، هدفها الأساسي هو تدمير الغرب، وإن المسلمين دخلوا في العقود الأخيرة حروبا طالت البروتستانت، والكاثوليك، ومسلمين آخرين، وهندوسا، ويهودا، وبوذيين، وصينيين، وحاربوا في كوسوفا، والبوسنة، والشيشان، وكشمير، وفلسطين، والفلبين. وإن مشاعرهم السلبية تجاه أميركا زادت في التسعينيات. ويضيف أن الشعوب الإسلامية لم تتعاطف مع الأميركيين بعد 11 سبتمبر، وأن عداوتها لأميركا عميقة، وليست بسبب إسرائيل، فهي مدفونة في الحقد على الثروة الأميركية، والسيطرة الأميركية، والعداء للثقافة الأميركية في شقيها العلماني والديني. وينهي (هنتنغتون) فكرته بتوقع دخول أميركا حروبا مع دول وجماعات مسلمة في السنوات القادمة، مما يرشح الإسلام بشكل واضح للعب دور العدو الأساسي والكبير، الذي يوحد الأميركيين ضده (1).
_________
(1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون ـ عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م(2/81)
الحملة على الإرهاب
منذ ظهر شعار (الإسلام عدوّ بديل) لم تتغير وجهة مسيرة الدول الغربية وسياساتها العدائية تجاه الإسلام والمسلمين، وجلّ ما هنالك أن بعض معالمها المرئية تبدّلت وفق متطلبات المرحلة الآنية. وهنا يأتي توجيه دفة الأحداث تحت عنوان تداعيات تفجيرات واشنطن ونيويورك، كمحطة جديدة على صعيد تلك السياسة الغربية. فلم تكن التفجيرات هي التي صنعت مسلسل التداعيات من بعدها، بل توفرت منطلقات مسبقة لتوظيف هذه التفجيرات، لتكون بمثابة الذريعة للتحرك وفق صيغة قائمة من قبل. وهذا ما يعنيه أيضًا اصطناع ما سُمِّي (الحدّ التاريخي) الزمني الفاصل بين ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وما بعده، لتبرير كل ما يتم تنفيذه بعد ذلك التاريخ بتلك التفجيرات (1).
صحيح أن مقتل الألوف في الولايات المتحدة في يوم واحد، بهذه الصورة، حدث هائل، ولكن لم يتحدّث أحد عن نهاية حقبة تاريخية، وبداية أخرى، عند مقتل الألوف دفعة واحدة في (سربرينتسا) وأخواتها، ولا عند مقتل مئات الألوف خلال فترة وجيزة في حرب الإبادة في رواندا، التي رفضت واشنطن بالذات وصفها بحرب الإبادة. أما فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي فحدث ولا حرج ... فحين يقتل جندي من جيش إسرائيل، أو من مرتزقته في جنوب لبنان، الذي كانت تحتله إسرائيل بطريقة غير شرعيه ـ أي حين يقتل مقاوم محتلاًـ فإن ذلك يعد إرهاباً، وإذا قصفت القوات الإسرائيلية المدنيين، وذبحتهم في قانا، أو ضواحي بيروت، أو في الأراضي المحتلة، ـ يسمى ذلك بالدفاع الشرعي. ومن اليسير تعداد مئات الأمثلة لاستخدام تلك الذرائع والافتراءات، مثل مكافحة الإرهاب، أو التدخل الإنساني، أو حماية حقوق الإنسان، لتبرير العدوان المباشر على الدول، أو فرض القيود على الاتفاقيات الاقتصادية معها، إذ تثار أحداث (تيان إن من) بينما لا يذكر شيء مطلقاً عن مذبحة أبشع وأفظع ارتكبها أرييل شارون، وراح ضحيتها عشرون ألف مدني في لبنان عام 1982م (2).
_________
(1) الإسلام عدو بديل - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين 12/ 01/2001م
(2) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص29(2/82)
وهناك حادثة تحمل دلالتها المؤثرة يرويها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في كتابه المعروف (فقه السيرة): جندي إنجليزي من المستعمرين القدماء العائدين من كينيا في أفريقيا، يحكي لزميله في لندن، كيف أنه وهو يحاول أن يفرغ رصاصتين في رأس أحد الثوار الكينيين من حركة (الماو ماو)، حاول هذا أن يعضه من ذراعه دفاعا عن نفسه، تصور يا (جون) يقول الجندي الإنجليزي العائد، كيف أنه أراد إلحاق الأذى بي باستخدام أنيابه كالكلاب الشرسة. يضحك (جون) حتى يستلقي على قفاه وهو يردد: أيها الإفريقي الدنس أيها الأسود المقرف!! (1). وهنا لا يقتصر الأمر على ازدواجية عنصرية في معايير النظرة الغربية والأمريكية، عمومًا إلى الإنسان وقيمته وحقوقه وحرياته، ولكنه مسألة (حسابات سياسية باردة)، ترتبط بمنظور السياسة الغربية التي تفخر بواقعيتها القائمة على موازين تلك الحسابات، وتغليبها على الأخلاق والقيم.
فما يجرى حتى الآن في أفغانستان والعراق، وما يمكن أن يتبعه من أحداث، يرتبط أولاً وأخيرًا بمسيرة عولمة "الهيمنة الأمريكية" نفسها، وشمولها للجانب العسكري إلى جانب الميادين الاقتصادية، والمالية، والسياسية، والفكرية. وهنا لا تمثِّل التفجيرات في نيويورك وواشنطن ـ على ضخامتها ـ سوى عنصر من عناصر عديدة يجري توظيفها لخدمة الهدف الأوسع نطاقًا. فها هي ذي أمريكا تمضي قدما تحت اغراءات التفرد والقوة وضغوط الهياج الشعبي، بكل أبعاده الدينية والعنصرية لإنزال الويل والثبور بهذه الحلقة، أو تلك من عالم الإسلام، ومحاولة احتواء، وربما إرغام كل زعامات هذا العالم على الانخراط تحت ما تسميه (مقاومة الإرهاب)، وهو يقينا لا يتحدد بهذه البقعة الضيقة أو تلك، وإنما سيمضي بقوة المذهب والتاريخ والمصلحة، لكي يطال عالم الإسلام كله (2).
فمع أواسط التسعينيات الميلادية، بدأت نقطة الثقل تتحوَّل في المواقف الكلامية العدائية من مصطلح (الأصولية) إلى كلمة (الإرهاب الدولي)، التي كانت ـ ولا تزال ـ مائعة فضفاضة، يمكن تفصيلها على مقاس الغرض السياسي المطلوب
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ص45 - دار الفكر بدمشق- ط1 2003
(2) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص37(2/83)
في كل حالة، وفي كل مرحلة بصورة قائمة بذاتها. فقد شهدت تلك الفترة قيام الرئيس (بل كلينتون) بصوره رسمية بتدشين ما يسمى الآن بالحملة على الإرهاب، حيث صرح عام 1996م أمام مؤتمر وزراء الخارجية والداخلية للدول السبع الصناعية، بقوله: "سيكون الإرهاب أحد أخطر التهديدات المؤثرة الموجهة ضد امتنا في القرن الحادي والعشرون" (1). وقد كتب (بول مارى) في (فبراير 1997م) مقال صحيفة لموند بعنوان (الحملة الصليبية الأخيرة للرئيس كلينتون ضد الإرهاب)، قال فيه: "في الخامس من أغسطس، وقع الرئيس كلينتون قانون (دماتوـ كيندى) معلناً وضع إيران وليبيا خارج القانون الدولي. ولقد كان مهتماً أن يكون محاطاً أمام كاميرات التلفزيون بأقرباء ضحايا طائرة شركة بان أمريكان، التي أسقطت فوق لوكربى، والتي حملت ليبيا مسئوليتها، برغم وجود تقارير تنفى هذا الزعم. لقد أعلنت واشنطن بهذا الاحتفال الرمزي والمعبر في آن واحد عن سياستها عن بدء الحرب من الآن فصاعداً على الإرهاب العدو الأكبر (2). وفي نفس العام وقبلها بعدة أشهر أعطت أمريكا لتلك الحملة بعداً استعراضياً عالمياً، في مؤتمر شرم الشيخ عقب إنفجارات القدس وعسقلان.
حيث حددت حكومة إسرائيل الهدف الجديد في شرم الشيخ عام 1996م إذ أعلنت مبادئ (مواجهة الإرهاب) والتدخل الإنساني وهما الذريعتان الرئيسيتان للاستعمار الجديد، حيث اعتبر شمعون بيريز إيران مركز الإرهاب العالمي دون أدنى دليل، وطبعاً اتسع مفهوم الإرهاب ليشمل كل أشكال مقاومة الشعوب للدفاع عن نفسها ونيل استقلالها، واستبعد هذا المفهوم كل أشكال إرهاب الدولة الذي يهدد هذا الاستقلال (3).
فبالرغم من أنه لا يوجد أي شيء يؤكد تورط الجماعات الإسلامية في حادث (اوكلاهوما سيتى)، الذي نفذته مجموعة من اليمين المتطرف عام 1995م، وحادث التاسع من أكتوبر عام 1995م ضد قطار ميامىـ لوس انجلوس، والذي أعلنت جماعة مسماة (أبناء الجوستافو) مسئوليتها عنه، كذلك حادث دكتور الرياضيات الذي أسمى نفسه (اونابومبر)، والذي كانت هوايته إرسال الطرود المفخخة، أو حتى موضوع
_________
(1) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى - ص233
(2) المصدر السابق ص231
(3) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى ـ ص 28(2/84)
الرجال الأحرار (فريمن) الذين قاوموا رجال الشرطة واحد وعشرين يوماً في خريف 1996م في أحد مزارع مونتانا. فإن كل هذا لا يمنع أن تكون الأصولية الإسلامية بالنسبة لأمريكا هي المتآمرة الأولى والممثلة للإرهاب (1).
ولهذا فإنه في تلك الفترة، تضاعفت الحملة الدعائية في الغرب ضد المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، مع إعطاء مسلسل الجرائم الدموية الرهيبة في الجزائر، والجارية بمشاركة (أطراف عديدة) على حساب الإسلام، وعلى حساب الجزائر، عنوان (الإرهاب الإسلامي). ثم في وقت متأخر نسبياً، بدأ الحديث يتركَّز على تنظيم القاعدة وابن لادن، وهو ما يمكن ربطه بالحاجة إلى (رمز)، في كل حملة عداء أو ما يستحق وصف (عملية غسيل الدماغ) لصناعة (صورة العدوّ)، وبالذات بعد غياب رموز الإرهاب اليساري الغربي عمومًا، واضمحلال مفعول ما كان يوصف برموز (الإرهاب الفلسطيني) في وعي الرأي العام الغربي من أفراد ومنظمات، نتيجة تحرّك عجلات مشروع أوسلو، فضلاً عن تساقط رموز دولية للإرهاب من أمثال (كارلوس). وفي يوم 20 أغسطس 1998م أطلقت الولايات المتحدة عدداً من صواريخ الكروز طراز توماهوك يتراوح بين 75ـ100 صاروخ من ست سفن حربية أمريكية وغواصة، على منشآت في أفغانستان والسودان، لتفتح ما وصفها الرئيس (بل كلينتون) بأنه (حرب طويلة) ضد الإرهاب (2).
تحديد الهدف .. ما هو "الإرهاب الإسلامي"؟
من يتكلم في الغرب الآن عن (الإرهاب الإسلامي) المزعوم، لا يعني إطلاقًا فئات محدَّدة منظمة تحمل السلاح، وترفع شعار (الإسلام ضد مصالح الغرب)، كما يشاع في الخطاب السياسي في العالم الإسلامي، بل يعني كل من يعتبر أن الإسلام هو المدخل العقدي، والحضاري، والفكري، والسياسي، والاقتصادي، إلى تغيير أوضاع المسلمين إلى الأفضل، بما يتضمنه ذلك من تغيير موقعهم على مستقبل الخريطة العالمية، بما يمكن أن يؤثر على مسيرة الهيمنة والعولمة الغربية الراهنة. بل بات
_________
(1) المصدر السابق ص237
(2) استهداف العراق - العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية - جيف سيموند - مركز دراسات الوحدة العربية ص43(2/85)
في كثير من الأحيان مجرّد انتماء المرء إلى الإسلام، أو إلى المنطقة الحضارية الإسلامية، مبررًا كافيًا لتشمله نظرة العداء الغربي، وعملية التطويع والتوظيف لتطبيق الأهداف الثابتة لشعار (العدو البديل). ومما يدل على ذلك ـ على المستوى السياسي ـ أن السلطات الأمريكية ـ التي تتقن توزيع الأدوار بين الحكومة ومجلسي الشيوخ والنواب، وأجهزة المخابرات، ووسائل الإعلام ـ لا تتردد عن كيل الاتهامات لدول شاع وصفها بالدول المعتدلة، رغم علاقاتها الوثيقة مع واشنطن، كالسعودية ومصر. كما نجد على المستوى الإعلامي، عشرات الأمثلة للخلط بين الحكومات والمنظمات والعلماء وعامة الشعوب، كلما أراد أحد الإعلاميين الأمريكيين التدليل على أن الإرهاب في المنطقة الإسلامية منتشر، وأنّ له جذوره في الإسلام نفسه، مما يساعد في نمو كثير من الأفكار النمطية عن الإسلام حتى في مبنى الكابيتول (1).
ففي عام 1990م ربط (دان كويل) نائب الرئيس الأمريكي في خطاب له أمام تلاميذ أكاديمية أنابولس التجربة الأصولية الإسلامية بالنازية والشيوعية، وأعلن (باب بوكانان) أي المرشح الجمهوري اليميني في الحملة الرئاسية عام 1992م: "طيلة ألف عام دار الصراع حول مصير البشرية بين المسيحية والإسلام وقد يكون الأمر كذلك ثانية في القرن الحادي والعشرين، لأنه في الوقت الذي يذلنا فيه الشيعة، يملآ إخوانهم في الدين بلدان الغرب. فمنذ الأسر الإيراني للعاملين الدبلوماسيين الأمريكيين في عام 1979م وعبر احتجاز الأمريكيين رهائناً في لبنان، إلى نسف مركز التجارة العالمية في نيويورك في 1993م بدا أن الخطر يزداد قرباً، وقدم فيلم وثائقي تلفزيوني عرض في ديسمبر 1994م بعنوان الجهاد في أمريكا صورة درامية للنزعة الإسلامية، وهي تضرب مباشرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبلغ من قوة هذا القلق أنه حين انفجرت قنبلة خارج مبنى حكومي في مدينة أوكلاهوما وقتلت المئات، كانت الاستجابة المباشرة لكثير من معلقي وسائل الإعلام وللشرطة هي أن الانفجار من فعل إرهابي الشرق الأوسط، وجرى البحث عن رجال ذوي تقاطيع شرق أوسطية، وتحدث خبراء الإرهاب في التلفزيون، وصدرت
_________
(1) الإسلام عدو بديل - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين 12/ 01/2001م(2/86)
دعوات إلى هجمات وقائية ضد العرب والمسلمين، ولكن كان الجناة مجانين من نبت أمريكي (1).
وفي عام 1992م عثر رالف برايبانتى، وهو عالم وكاتب بارز في الشؤون الإسلامية، في أحد مكاتب الكونغرس، على بحث يتضمن "معالجة للإسلام بوصفه العدو الكامن للولايات المتحدة، هي الأشمل من نوعها، والأكثر إثارة للخوف" كان برايبانتى يشير إلى كتاب ليوسف بودانسكى، مدير مجموعة العمل المتخصصة بالإرهاب والحرب في الحزب الجمهوري. ففي كتابه عن تفجير مبنى "مركز التجارة العالمي" في مدينة نيويورك عام 1993م، عمد (بودانسكى) المحرر التقني الأسبق لمجلة (القوات الجوية الإسرائيلية) إلى إطلاق عنان خياله، إذ كتب يقول: لقد باشر الإرهاب الإسلامي الحرب المقدسة - الجهاد ـ ضد الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، وهو يشنها عبر الإرهاب الدولي بالدرجة الأولى. كما حذر الأستاذ الجامعي الأمريكي (عاموس بيرلماتر) في عام 1984م، من حرب إسلامية شاملة تشن ضد الغرب والمسيحية والرأسمالية المعاصرة، والصهيونية، والشيوعية في وقت واحد (2). كما نجد على المستوى الفكري سلسلة لا تنقطع من الأمثلة، منها أوّل كتاب ظهر في ألمانيا بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن بعشرة أيام فقط، حمل عنوانًا يزعم التعريف بأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، وإذا به لا يترك منظمة ولا جماعة إسلامية، ولا عالمًا معروفًا، إلا و"يخترع" صلة ما بينه وبين الإرهاب، بما في ذلك جماعة التبليغ مثلاً، التي اشتهرت ببعدها عن كل صورة من صور العنف، ورفضها لكل عمل سياسي.
وهكذا يظهر أن المستهدف في الحملة القائمة هو الإسلام نفسه .. والأهم من الحملة ذاتها أن التغيير في العناوين الكلامية ـ للتعبير عنها خلال العقد الماضي ـ رافقه الثبات المطلق على الصعيد التطبيقي. فأصبح مضمون شعار العداء هو المحور الرئيس المطروح على بساط تبرير استمرار وجود حلف شمال الأطلسي بعد إلغاء
_________
(1) الإسلام وخرافة المواجهة -الدين والسياسة في الشرق الاوسط- فريد هاليداي- ترجمة محمد مستجير- ص 217 - مكتبة مدبولي-ط1 1997
(2) لا سكوت بعد ـ اليوم ـ بول فيندلى ـ ص87(2/87)
حلف وارسو، وهو محور المهام المطلوبة (أمنيًّا) فيما سُمِّي (هلال الأزمات)، وعرَّفه الأمين العام الأسبق لحلف الأطلنطي بأنه المنطقة الممتدة بين المغرب وإندونيسيا! كما أصبح المحور الرئيس المطروح رسميًّا لأهداف تشكيل عدد من فرق (التدخل السريع)، لا سيما من جانب البلدان الأوروبية الجنوبية، أي في المنطقة الإسلامية المتوسطية (1). فالمشهد السياسي العالمي الذي تدور إستراتيجيته منذ سنوات على اتهام الإسلام والمسلمين، وإشعال الفتن في كل بؤرة إسلامية من الصومال إلى أفغانستان إلى البوسنة إلى جنوب السودان، إلى اذربيجان إلى الشيشان، إلى طاجيكستان إلى بورما، إلى كشمير إلى فلسطين، إلى العراق إلى ليبيا إلى سوريا، كل هذا المسرح العريض يشهد بأن هناك تحريضاً مستمراً واتهاماً ظالماً بالزور والكذب، والتآمر وسعي بالفتن، وبالسلاح وبالدولار في كل أرض عربيه وإسلاميه لزعزعة أمنها وإرهابها والإيقاع بين أهلها وتشويه دينها ومبادئها، وما يجري منذ سنوات هو أفضل تمهيد وتبرير للحرب الخاتمة القادمة (2).
التطبيق العسكري والأمني للشعار
مع استخدام ألفاظ الأصولية والإرهاب وما شابه ذلك، أصبح العداء للإسلام هو أيضًا المحور الرئيس في نوعية ما أدخل من تعديلات على المهام الأمنية لحلف شمال الأطلسي، منذ قمة بروكسل عام 1993م، وجرى تثبيته في قمة واشنطن عام 1999م، ورافق ذلك تعديل مماثل لصياغات المهام الأمنية على مستوى الجيوش الوطنية في الدول الأعضاء، وهو ما يأخذ عادة شكل إصدار (كتاب أبيض) جديد من جانب وزارات الدفاع. ورافق ذلك ـ أيضًا ـ امتداد ظاهرة عقد الاتفاقات والتحالفات، وتشكيل قوات مشتركة بما يتعدّى حدود الحلف شرقًا ويصل إلى البلدان المرشحة للانضمام، ثم من وراء ذلك إلى الاتحاد الروسي والصين الشعبية ودول وسط آسيا، التي استقلت دون أن تخرج من هيمنة الأنظمة القديمة عليها،
_________
(1) الإسلام عدو بديل - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين 12/ 01/2001م
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص46 - كتاب اليوم / اخبار اليوم - الطبعة السادسة(2/88)
والمرتبطة بموسكو كما كانت ـ ولكن بلباس رأسمالي بعد اللباس الشيوعي السابق ـ هذا فضلاً عن العداء القديم المتجدد في الهند والفلبين وغيرهما.
لهذا يمكن التأكيد على أن التسويق السياسي والإعلامي لعبارات من قبيل: أن الحرب على أفغانستان (هي حرب ضد الإرهاب، وليست ضد الإسلام أو المسلمين) لا يمثل سوى تسويق مواقف كلامية تضليلية. أما المضمون الفعلي لما يجري، فقد بدأ الإعداد له على امتداد سنوات عديدة سابقة، ووصل الآن إلى مرحلة أولى للتنفيذ، قد تليها مراحل أخطر وأوسع نطاقًا، يتم فيها وضع رداء (مكافحة الإرهاب الدولي) الفضفاض فوق كل تحرّك عدواني جديد، وكل ضربة جديدة لأي جهة مستهدفة، صديقة كانت ـ الآن ـ أم عدوة، وسواء شاركت في مكافحة الإرهاب فعلاً أم لم تشارك (1). ومما له دلالاته انه لم يعد هناك نقاش كثير حول حق الغرب في التدخل في شؤون الدول الإسلامية، بل إن ما تجري مناقشته الآن هو، كيف يمكن الوصول لتحقيق أهداف الغرب بأقل قدر ممكن من الخسائر؟. ومن الطبيعي في ظل هذا الجو السائد أن يقبل التصرف الأمريكي المعتمد على القوة العسكرية المتفوقة، والمتجاهل للأمم المتحدة مع الادعاء بالاعتماد على قراراتها مادام الأمر المطروح هو العقلانية أو الإسلام! بل إن التدخل الأمريكي يصبح مع الوقت حملة (تبشيرية) من أجل الحضارة والحرية" (2)، حيث أن الشواهد على هذا الموقف كثيرة، غير أن ما يجري على الأرض ربما يكون اكثر إقناعاً، من حرب الخليج إلى حرب الإبادة التي يتعرض لها كلا من الشعب الفلسطيني والشعب العراقي، مرورا بحرب أفغانستان وما تبعها بما سمته أمريكا بالحرب على الإرهاب، واخيراً حربها الحالية ضد العراق.
وهنا يرصد المؤرخ التركي (كيريانجيل) في دراسة له أنه منذ عام 1798 م (عندما غزا نابليون مصر) وحتى عام 1953 م (عندما أطاح انقلاب عسكري أعدته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بنظام حكم محمد مصدق في إيران)، تعرض العالم الإسلامي إلى 318 هجوم عدواني من الغرب، وبين الفترة الممتدة من عام 1956م (العدوان الثلاثي على مصر)، حتى عام 1994م (العدوان الروسي على
_________
(1) الإسلام عدو بديل - نبيل شبيب ـ إسلام أون لاين 12/ 01/2001م
(2) موقع الإسلام في صراع الحضارات و النظام العالمي الجديد ـ محمد السماك ص18(2/89)
جمهورية شيشان)، أحصيت خمسة عشر هجوماً عدوانياً. والآن لا يبالغ الأمريكيون في الحديث عن حرب يمكن أن تمتد سنوات أو حتى عشرات السنين، كما قال مسئولون بريطانيون، فيما يشبه المزايدة على واشنطن. وقد سبق (لصامويل هنتنغتون) أن أشار إلى تورط الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس عشرة بين عامي 1980م و 1995م، طبقاً لتقارير من وزارة الدفاع الأميركية، في سبع عشرة عملية عسكرية في الشرق الأوسط، كانت كلها موجهة ضد المسلمين مباشرة، ولم تحدث أية عمليات من هذا القبيل إطلاقاً من قبل القوات العسكرية الأمريكية ضد أي شعب أو حضارة أخري. وخلص (هنتنغتون) إلي القول إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست في التطرف الإسلامي، بل في الإسلام كطريقة مختلفة للحياة اقتنع المسلمون بسموها وتفوقها علي غيرها (1).
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003م(2/90)
الفصل الثالث
جورج بوش والدولة الصليبية
دأب الزعماء الأمريكيون المدنيون والسياسيون على التحدث بصورة رسمية عن الأمة الأمريكية، كما لو أنها أمة مسيحية، أو على الأقل أمة تتبع الكتاب المقدس، حيث وصف كل من السياسيين ورجال الدين باستمرار أمريكا، بأنها إسرائيل الجديدة، والأمريكيين بأنهم شعب مختار، وشعب مرتبط بميثاق (مع الله)، بل إن خطابات تنصيب رؤساء الجمهورية طيلة القرن العشرين، قد طبقت العبارة البلاغية التي كان الحاكم (جون وينثروب John Winthrop) أول من استعملها عام 1630م، والتي تصف أمريكا بأنها "مدينة على تل" (1). فلا حاجة إلى القمر أو النجوم ليلاً، ولا حاجة إلى نور الشمس نهاراً. إنها القدس الجديدة التي لن تنطفئ (2).
وما دامت أمريكا مدينة على تل، وإسرائيل الجديدة وشعبها مرتبط بميثاق مع الله، فقد كان طبيعياً أن يلعب الدين دوراً رئيساً في الحياة الأمريكية، وكان طبيعياً وبديهياً أيضاً أن تكون الكلمة العليا للخطاب الديني، لشن حمله صليبيه في الداخل والخارج، لتبرير قتل الهنود الحمر ونهب ثرواتهم، واستعباد الزنوج، وتلقين العالم دروس في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فمادام هناك تكليف إلهي لأمريكا باعتبارها مدينه على تل، فإنه يحق لها ما لا يحق لغيرها، وليذهب الجميع إلى الجحيم ... "وهنا يمكن ملاحظة، أن عدم اتساق السياسية الخارجية الأمريكية وازدواجيتها ليس طارئاً، بل هو تعبير عن جانبين بارزين في الشخصية الأمريكية، وكلاهما تميز بأخلاقية ما. واحدة هي أخلاقية الميراث، التي شكل مزاجها المعرفي الشعور بالنقص الإنساني، والأخرى أخلاقية: التوكيد المطلق للذات التي أشعلتها
_________
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن ص53
(2) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص344(2/91)
الروح الصليبية ... والتي يأتي ضمنها تبرير التوسع، واستخدام القوة في شكل أقرب إلى الحملة الصليبية؛ لتحضير العالم على الطريقة الأمريكية" (1).
وهكذا فإن الروح الصليبية هي التي صاغت نظرة الأمريكيين إلى حروبهم في الداخل والخارج قديماً وحديثاً، حيث لم يكن (جورج بوش) خارج هذا السياق عندما وصف حربه على العالم الإسلامي بالحرب الصليبية. فعندما نشر (ايزنهاور) مذكراته عن سنوات الحرب العالمية الثانية ـ كان العنوان الذي اختاره لها هو: (حملة صليبية في أوروبا)، حيث أن الإشارة إلى الحروب الصليبية الدينية ـ الإيمانية - كانت لها مقاصد ومعبأة بمدلولات دينية (2)، ليست بعيده عن إحساس الأمريكيين الأوائل بكونهم أمه مختارة، لهم رسالة، من أجل التسريع ببزوغ فجر النظام الدولي الجديد، أو بالتعبير التوراتي (العصر الألفي السعيد). ونفس الشيء ردده قبل ذلك الزعيم الصهيوني (إسرائيل زانغويل) عندما، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين، بقوله: "سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة، عادت على اليهود بالمذابح، فهل ستؤدى الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين؟ وإذا كانت صليبية حقه، فإن تلك الحقيقة بالذات تأتى بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة" (3).
وربما هذا ما كان يعنيه بوش عندما وصف الحرب الذي ينوى خوضها ضد أفغانستان، وكثير من الدول الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب، بأنها حرب صليبية، حيث كرر هذه المقولة كثير من أقطاب حكومته، ووصفوا هذه الحرب بأوصاف مختلفة، مره بأنها حرب بين قوى الخير وقوى الشر، ومرة بأنها صراع الحضارات، إلى غيرها من الأوصاف، التي مرت هي وغيرها من التلميحات والتصريحات للمسئولين الأمريكيين، ولوسائل الإعلام الأمريكية مرور الكرام، ولم يتناولها محللونا بالدراسة والتحليل، بل اكتفوا بإقناع أنفسهم والرأي العام المسلم، بأنها مجرد زلة لسان، بدون أدنى محاولة لمعرفة الأبعاد الحقيقية لهذا الكلام. "فبقدر ما حاول بوش في أعقاب الحادي عشر من
_________
(1) أرض الميعاد والدولة الصليبية - والتر ا. مكدوجال - ترجمة رضا هلال - ص289 - دار الشروق - ط2 2001
(2) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 204 - المصرية للنشر العربي والدولي- ط.2 2002
(3) فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة - بيان نويهض الحوت ص(2/92)
سبتمبر أن يضبط أعصابه وأعصاب الأمريكيين تجاه أي رد فعل متهور ضد الوجود العربي الإسلامي داخل الولايات المتحدة، لامتصاص شحنة الغضب، وربما لنفخ النار فيها، كشف لأول مره في الخطاب الأمريكي المعاصر عن احتمال أن ينطوي الرد الأمريكي والغربي عموماً على بعد صليبي" (1).
بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية
كثيرون هم الرؤساء الأميركيون، الذين أكدوا تعلقهم بجذورهم الدينية فاستشهدوا في خطاباتهم باقتباس من الكتاب المقدس، إلا أن الدين لم يفرض يوماً وجوده في الحياة السياسية الأميركية بهذه الدرجة، قبل أن يطأ (جورج بوش الابن) عتبة البيت الأبيض، ولهذا كثرت الكتابة في الصحافة الأمريكية والعالمية عن الخلفية الدينية المؤطرة لتفكير الرئيس بوش، حيث أعدت مجلة (نيوزويك) الأمريكية ملفاً في عددها بتاريخ (10/ 03/2003م) عن الاعتقادات الدينية، التي تدفع (جورج بوش) إلى سلوكه السياسي والعسكري الحالي. وكيف ركب (بوش) موجة الأصولية البروتستنتية الصاعدة، وهو أحد أبنائها، ليقود أمريكا في مغامرات يطغى فيها الحماس الديني على البصيرة السياسية.
يتألف الملف من ثلاث مقالات، أحدها بعنوان (بوش والرب)، بقلم (هاوارد فاينمان)، أحد كتاب المجلة، والثاني بعنوان: (خطيئة التكبر) بقلم البروفسور (مارتن مارتي) وهو قسيس وأستاذ بجامعة شيكاغو، أما المقال الثالث فهو بعنوان: (البيت الأبيض: إنجيل على نهر البوتوماك)، وهو بقلم (كينيث وودوارد) من كتاب نيوزويك. كما نشرت صحيفة (الواشنطن بوست) عن نفس الموضوع من قبل مقالاً بعنوان: (بالنسبة لبوش .. إنه الإحساس بالتاريخ والمصير) يوم 09/ 03/2003م وآخر بعنوان: (عن الرب والإنسان في المكتب البيضاوي) بقلم القسيس (فريتس ريتسش) يوم 02/ 03/2003م وهو مقال تحليلي عميق تناول المنطق الداخلي لفلسفة بوش الدينية، وآثارها السلبية على أمريكا بلداً، وعلى المسيحية ديناً. وإذا كان العديد من الأمريكيين بدءوا يدركون المخاطر المترتبة على سياسات الرئيس (بوش) التي
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص35(2/93)
تأطرها رؤية دينية متحمسة، دون اعتبار للمصالح البعيدة المدى للأمة الأمريكية، أو لمطالب الضمائر الإنسانية في كل مكان، فإن الإنسان العربي والمسلم أولى بالاطلاع على خلفيات هذه السياسات التي تُرسم بدمه، وعلى وجه صحرائه النقي (1).
آل بوش
ولد جورج (دابليو بوش) لأبوين متدينين، هما جورج بوش الأب، وباربارا بوش في ولاية كونكتيكت الأمريكية عام 1946م، وانتقل به أبواه وهو صبي إلى ولاية تكساس، التي أصبحت موطنه ومكان صعود نجمه السياسي، وتزوج بوش عام 1977م، والتحق بالكنيسة الميتودية، التي كانت زوجته لورا عضواً فيها، وكان شخصاً عادياً غير متميز ينظر إليه الجميع على حد قول أحد المقربين، على أنه (ابن أبيه فحسب)، وكان يقضي الليل يعاقر الخمر، وعلى مر السنين أخذت لورا بوش تعرب عن استيائها، وقد غاظها انحراف زوجها، وفي العام 1985، غرق بوش في أزمة شديدة، وكان عندئذ في التاسعة والثلاثين من عمره، بعد أن تراكمت خسائره المهنية الواحدة تلو الأخرى (2).
والرغم من التاريخ الحافل لـ (جورج بوش الأب) كمقاتل في الحرب العالمية الثانية، ورجل أعمال نفط في تكساس، وسفير لأمريكا في الصين، ورئيس للمخابرات الأمريكية ونائب للرئيس، ثم رئيس لأمريكا، إلا أن (جورج بوش الابن) أكبر أولاده ظل فاشلاً وضيعاً، كما أنه خسر ملايين الدولارات في عمله في النفط فساعده أصدقاء والده بالملايين، فعاد مرة أخرى للبيرة والنبيذ، حتى يوم 27/ 7/1986م حين اكتمل عمره أربعين عاما، حيث يقول: إنه ركع على ركبتيه وأقسم لزوجته (لورا) بأن لا يعود إلى ذلك مرة أخرى طالباً مساعدة الله في تحقيق ذلك (3).
_________
(1) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية- مقال بقلم محمد الشنقيطي - الجزيرة نتـ4ـ2003
(2) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص11
(3) صحيفة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003ـ وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003م.(2/94)
غباء بوش
أصبح اتهام الرئيس بوش بالغباء وانعدام البصيرة، اتهاماً كلاسيكياً، تواترت عليه آراء العديد من الناس من مذاهب ومشارب شتى: من رئيس جنوب إفريقيا السابق (نلسون مانديلا)، إلى الكاتب الأمريكي (مايكل مور) مؤلف كتاب (رجال بيض أغبياء)، حيث احتل كتابه المثير والساخر، قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة لمدة طويلة. والكتاب يحمل على جورج بوش الابن ويتهمه بالغباء, وبأنه يمثل أمة غبية. ورغم أن الكتاب كان قد تمت كتابته قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001م ونشر بعدها, فإن ذلك لم يفقده أهميته، بل ربما قوى من أطروحته التي تركز على جهل وغباء الرئيس الأميركي وعدم إلمامه بالسياسة وصناعة القرار، حيث يتطرق) مايكل مور) بكثير من التفصيل لحياة الرئيس بوش وإخفاقاته المتكررة في مجال الأعمال، وضعف فطنته، ورداءة لغته الإنجليزية. وأهم من ذلك كله ماضي بوش السياسي كحاكم لولاية تكساس، وقراراته الغبية، المضرة بالبيئة والسكان والفقراء, والمحابية للأغنياء، وأداء بوش السيئ في الحكومة والحزب والحياة العامة، ومواقفه الرافضة للالتزامات الدولية، التي تبنتها إدارته في الفترة التي سبقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (1).
فقبل أن يصبح (جورج بوش) رئيساً، سأله أحد مراسلي مجلة غلامور في مايو 2000م حول مدي معرفته بالشؤون الخارجية، وكان السؤال عما إذا كان بوش يعرف ما هي طالبان؟ حيث أجاب بوش بأن هذا الاسم قد طرق مسامعه من قبل، وأنه يعتقد أنه اسم فرقة روك أند رول أمريكية. وعندما طلب منه المراسل أن يذكر له أسماء عشرة قادة دول، لم يستطع أن يذكر سوي اسم واحد فقط (2). ولإبراز حادثة تؤكد الطريقة التي يفكر ويتحدث بها بوش، التي تبرز تدينه وغباءه في صورة لا تخلو من التهكم والسخرية، قالت صحيفة دير شبيغل الألمانية: "إنه في بداية أكتوبر 2001م قام الرئيس بوش بدعوة خمسة من رجال الدين ثلاثة منهم مسيحيون، وواحد يهودي، وواحد مسلم، في البيت الأبيض للحديث عن الحرب ضد الإرهاب.
_________
(1) رجال بيض أغبياء ـ المؤلف ـ مايكل مور - الدار العربية للعلوم- كمبردج بوك ريفيو - الجزيرة نت
(2) إمبراطورية الشرالجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م.(2/95)
وتحدث معهم بصراحة شديدة، قائلا لهم ـ بصورة أدهشت الجميع: "أنتم تعرفون أنني كنت مدمناً للكحول، إذا كان كل شيء سار على نفس المنوال، لكنت الآن جالساً في أحد بارات تكساس بدلاً من البيت الأبيض، إنما يوجد سبب واحد فقط، لأن أكون هنا في المكتب البيضاوي وليس في بار، وهو أنني وجدت الإيمان وجدت الله" (1).
عائلة بوش ومنظمة الجماجم والعظام (2).
نقرأ عن نكات كثيرة يرددها الأمريكيون والإنجليز تسخر من بوش الابن وبلاهته السياسية، وتصفه كرئيس لا يتمتع بأي قدرات، وتبرز في الأخطاء اللغوية الكثيرة التي يستخدمها، والتعابير والكلمات الساذجة التي يقولها، أثناء أحاديثه ومقابلاته. ونشاهد الرئيس بوش وهو يتحدث عن الشعوب والدول الأخرى المصنفة، أمريكياً بالمعادية لمصالح الولايات المتحدة، فنتذكر أشرطة العراب، في أفلام المخدرات والعنف، وهو يجلس على كرسيه يتحدث إلى مساعديه، ويصدر أوامره لرجاله، (اقتلوا كل من يريد منافستنا نريد أن تكون الشوارع كلها تحت سيطرتنا، وتخلصوا من كل شخص يقف في طريقنا، أو يحاول تحدينا)، ونشاهده وهو يتحدث عن العراق والفلسطينيين وحركات المقاومة، التي أدرجها على قائمة الإرهاب، فنتخيله كرعاة البقر الأمريكيين، وهو يرتدى قبعته ويمتطى جواده ويبدأ بإطلاق النار، على الجميع دون التفريق بين شيخ أو امرأة أو طفل، كما حدث مع القبائل الهندية (السكان الحقيقيين للولايات المتحدة).
ولكن!! هذه البلاهة السياسية التي تميز بوش وروح الدعابة، التي يحاول أن يضفيها على شخصيته تخفى وراءها حقائق وأسراراً، وإستراتيجية خطيرة وخطيرة جداً تعود جذورها إلى العلاقة التاريخية لأسرة بوش مع المنظمة السرية، التي تسمى الجماجم والعظام " BONES & SKULLS " أو "إخوة الموت"، والتي تأسست في جامعة بيل، التي تعتبر من جامعات النخبة في الولايات المتحدة كجامعة هارفارد، عام 1832م على يد أعضاء في المنظمات الماسونية، حيث أصبحت من
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص46ا
(2) مقال نشر بجريدة الخليج الإماراتية بقلم /جمال عبد الحي التميمي / باحث إعلامي فلسطيني (جامعة تيمز فالى) لندن(2/96)
أكثر المنظمات، أو المجتمعات السرية تأثيراً في السياسة والمال في الولايات المتحدة. وقد أصبحت جامعة بيل (أمها المرضع). أما مؤسسها فهو الشاب الباطني (وليام راسل)، الذي تلقى السيامه الماسونية في ألمانيا على ما يبدو. ومنذ عام 1856م وحتى يومنا هذا وهذه الجمعية التي أصبحت نوعا من الطائفة النخبوية، تضم عديدا من الشخصيات الأمريكية البارزة بمن فيهم الرؤساء، الذين يجتمعون أسبوعياً في مبنى يطلق عليه اسم (الضريح) (1).
وتمارس هذه المنظمة طقوساً تشبه إلى حد كبير طقوس المنظمات الماسونية في السرية والاجتماعات. وتؤكد الوثائق أن (وليام روسل) و (الفانسو تافت) والد الرئيس (وليام هاورد) أشرفا على تأسيس هذه المنظمة، ومارست نشاطها العلني تحت اسم شركة روسل منذ 1856م وكان (بريسكوت بوش) الجد شريكاً فيها، وأن اغلب أعضاء هذه المنظمة كانوا وزراء ومستشارين للأمن القومي، ورؤساء CIA، ورؤساء للولايات المتحدة.
والمعروف عن آل بوش علاقاتها الممتدة منذ عقود طويلة مع شبكات المال والنفوذ، والأنظمة الدكتاتورية في جميع أنحاء العالم، وافتعال الحروب، والغزو لأغراض تجارية وتسويقية، فقد كان (صموئيل بوش) والد جد الرئيس الحالي للولايات المتحدة يمتلك معامل فولاذ، ومديرا لبنك فدرال ريزيرف في كليفلاند، ومستشارا للرئيس الأميركي (هربرت هوفر). وكان (بريسكوت بوش) ابن صموئيل أحد كبار الممولين الذين امتلكوا في العشرينيات من القرن الماضي بنوكا وشركات في أوروبا، حيث ورث جورج بوش الأب هذا المال والنفوذ. فاستلم منصب مدير المخابرات المركزية ( CIA) عام 1976م، وكان قد ترشح لانتخابات الكونغرس قبل ذلك مرتين، لكنه لم ينجح وتقدم في الحزب الجمهوري، ليكون نائب الرئيس نيكسون، لكنه اختار جيرالد فورد، ثم اختاره ريغان نائباً للرئيس وانتخب رئيسا للولايات المتحدة عام 1988م. وقد أدارت الاستخبارات المركزية في عهده، ثم في المرحلة التي كان نائباً للرئيس، ورئيسا مجموعة غامضة من الاستثمارات، والبنوك،
_________
(1) لهذا كله ستنقرض أمريكا ـ الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص 35(2/97)
والعلاقات التجارية مع رجال أعمال وسياسيين في جميع أنحاء العالم، منها البنك الدولي للقروض والتجارة، الذي كان يدير استثمارات قيمتها 30 مليار دولار، ويعمل في 73 دولة، ثم انهار البنك في أوائل التسعينيات على نحو مفاجئ ومريب، وقيل إنه كان يمول أعمال المجاهدين الأفغان، كما مول تجارة واسعة للمخدرات لتغطية نفقات القوات الموالية لأميركا في نيكاراغوا .. وبعد مجيء كارتر إلى السلطة استقال بوش من المخابرات المركزية، ليعمل في بنك هيوستن وفي الاستثمارات النفطية (1).
وتقول صحيفة الصن البريطانية أن (جورج بوش الابن) انتمى إلى منظمة الجماجم والعظام في جامعة بيل، وتشير الصحيفة إلى ان (الكسندرا روبينز) مؤلفة كتاب (أسرار القبر: الجماجم والعظام)، عرضت معلومات عن هذه المنظمة، حيث تقول: "إن منظمة الجماجم والعظام تأسست في عام 1830م وضمت في صفوفها عائلات مثل تافت وروكفيلر وهاريمان، المعروفة بعلاقتها بالماسونية، ومجموعة كبيره من القضاة والرؤساء وكبار مسئولي السي آي إيه، وكبار رجال الأعمال. وتؤكد الصحيفة نقلاً عن الكتاب أن تسعه أشخاص من عائلة بوش بمن فيهم (بريسكوت بوش) الجد، كانوا أعضاء مخلصين للمنظمة وأهدافها وتوقعت التحاق (باربارا ابنه جورج بوش) في المنظمة بعد تخرجها من جامعة بيل. وتقول الصحيفة: إنه يتم قبول خمسة عشر عضواً جديداً فقط في المنظمة كل سنة، ويتم ذلك من خلال طقوس تشبه الطقوس الماسونية في غرفة تسمى القبر، تزينها رسومات من الجماجم والعظام. ونقلت الصحيفة عن الصحافي (رون وزانيوم)، الذي استطاع تصوير اجتماع لأعضاء الجماجم والعظام، بأنهم أكثر وحشية وعدوانية مما تقول (روبينز) في كتابها. ويقول: إن هذه المنظمة تملك قوة كبيرة في السيطرة على الشؤون الأمريكية، أكثر من أي منظمة أخرى، أو حتى منظمات المافيا، وتمارس أبشع الأساليب ضد أعدائها.
إذاً فإن فهم طبيعة هذه المنظمة السرية وأهدافها السياسية، يجعلنا نستوعب طبيعة العدوانية السياسية والتهديدات المستمرة بشن الحروب، التي اعتاد بوش على
_________
(1) حرب آل بوش - أريك لوران- ترجمة: سلمان حرفوش ـ عرض/إبراهيم غرايبة(2/98)
استخدامها ضد الكثير من الدول والشعوب (1). فأعضاء هذه المنظمة يؤمنون في ما يسمى التفوق العسكري، كأسلوب وحيد للسيطرة على الشؤون السياسية الدولية. وهو ما يجعلنا نفهم لماذا عندما جاء بوش إلى الإدارة الأمريكية بعد انتخابه افتتح عهده بقرارات تطالب بالانسحاب من المعاهدة؟ التي وقعت مع الاتحاد السوفيتي عام 1972م، والتي تتضمن بنودها الحد من انتشار الأسلحة النووية والبالستية، والتي كانت تعتبر حجر الأساس في حفظ التوازن الدولي، والتوقف عن سباق التسلح، حيث تحجج بوش بالتحديات، التي تواجه الولايات المتحدة في ما يسمى مواجهة الإرهاب.
وكذلك رفض التوقيع على معاهدة الحد من الأسلحة البيولوجية والكيمائية، ووافق على الانسحاب من معاهدة كيتو، التي تهتم بالمناخ والتغييرات المناخية، التي يشهدها العالم. ولم يكتف بذلك، بل أكد على الاستمرار في برنامج التسلح وبرنامج حرب النجوم، وبدأ بإطلاق التهديدات ضد الكثير من الدول، ووافق على صرف 100 بليون دولار على مشروع نظام الصواريخ، الذي يهدف إلى توجيه الصواريخ العابرة للقارات والبالستية بالأقمار الاصطناعية، إضافة إلى 60 بليون دولار صرفت في وقت ريجان والجمهوريين خلال 15 سنة.
وتؤمن منظمة الجماجم والعظام باستراتيجية تسمى (فرض النظام بالقوة)، بعد إشاعة الفوضى والقلاقل، حيث تورط أعضاء المنظمة في إثارة الفوضى والقلاقل في كثير من الدول، مثل تورط المخابرات الأمريكية في حرب فيتنام، ودعم عملاء المخابرات لرجال المافيا في إيطاليا لزعزعة الحكومة الاشتراكية في السبعينات، وتورط (بوش الأب) في إيران كونترا، وتقديم السلاح والدعم لمتمردي
_________
(1) كشف استطلاع للرأي نشرته صحيفة غارديان البريطانية أن معظم البريطانيين والمكسيكيين والكنديين يعتبرون الرئيس الأميركي جورج بوش أخطر على السلام العالمي من زعيم كوريا الشمالية ورئيس إيران. ورأى حوالي 75% من البريطانيين أن بوش يمثل خطرا كبيرا أو متوسطا على السلام العالمي، ولا يتفوق عليه إلا زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي حصل على 87%. كما يرى 69% من البريطانيين و62% من الكنديين و57% من المكسيكيين بأن سياسة بوش جعلت العالم أخطر من ذي قبل. وفيما يتعلق بالحرب على العراق، فقد رأى 89% من المكسيكيين و73% من الكنديين و71% من البريطانيين و34% من الإسرائيليين أن تلك الحرب لم تكن مبررة. والاستطلاع المذكور أجرته في بريطانيا صحيفة "الغارديان" وفي إسرائيل صحيفة "هآرتس" وفي كندا صحيفتا "لابريس" و"تورونتو ستار" وفي المكسيك صحيفة "ريفورما", وأعد بالتنسيق مع معاهد مهنية لاستطلاع الآراء في كل من البلدان المذكورة.) الجزيرة نت 4/ 11/2006 ((2/99)
الكونترا في نيكاراجوا، وتقديم السلاح لفصائل المجاهدين في أفغانستان، ومحاولات الاغتيال لكثير من رؤساء الدول وزعمائها، والخطط التي أعلن عنها بوش بشأن العراق، وضم حركات المقاومة على قائمة الإرهاب، كلها تؤكد الإستراتيجية والذهنية الفكرية، التي يعمل من خلالها أعضاء هذه المنظمة أثناء وجودهم في موقع القرار السياسي في الإدارة الأمريكية. وتاريخ تلك المنظمة وأهدافها، قد يساعدنا على فهم واستقراء مفهوم النظام العالمي الجديد، الذي تروج له الولايات المتحدة، وتخوض الحروب، والاعتداءات ضد الشعوب الأخرى من اجل فرض المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لهذا المفهوم في ظل مسوغات وإرهاصات العولمة.
وتؤمن هذه المنظمة ونتيجة للعلاقة التاريخية بين اليهودية السياسية والماسونية، بإقامة علاقة فريدة وقوية مع إسرائيل، وهو ما يوضح لماذا أصبح بوش صهيونياً أكثر من شارون نفسه في الدفاع عن مصالح إسرائيل، ومعاداة العرب والمسلمين، والتنكر لحقوقهم التي أقرتها القرارات الدولية؟. فالرئيس بوش وأعضاء إدارته السابقة والحالية يعتنقون مبادئ اليمين المسيحي والصهيوني المتطرفة، بل أن بين أعضائها ما يزيد على عشرين عضوا يحملون الجنسية الإسرائيلية (1). ولهذا فإن طبيعة العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة في ظل إدارة بوش لا يمكن أن تفهم دون فهم تأثير مثل هذه المنظمات السرية المتطرفة، والتي ولدت في أحضان اليمين المسيحي المتطرف، الذي يغذيها بكافه أصناف الحقد والكراهية، وإباحة القتل والإبادة، والتي تجلت في حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي، التي بدأها في أفغانستان بدعوى محاربة الإرهاب .. ولن تنتهي في العراق .. فالقائمة طويلة.
الإعداد لترشيح بوش للانتخابات
نصت أهداف المنظمة على إقامة نظام عالمي جديد، تسيطر عليه حكومة الولايات المتحدة، حيث يؤمن أعضاء هذه المنظمة، أنه من خلال وجود حكومة قوية، وقوة عسكرية ضخمة في الولايات المتحدة، يمكن السيطرة على شؤون العالم
_________
(1) الصهيونية المسيحية مسخرة لخدمة إسرائيل - سمير مرقص ـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672(2/100)
السياسية والاقتصادية والمالية، وإنشاء ما يسمى (نظام عالمي جديد)، وكلنا يتذكر خطاب (بوش الأب) في الكونغرس الأمريكي عام 1991م وإعلانه عن قيام نظام عالمي جديد. ولهذا عمل (بوش الأول) منذ مطلع عام 1998م علي ضمان التنسيق والمساعدة مع مستشاره السابق لشؤون الأمن القومي، (برنت سكاوكروفت)، ووزير الخارجية السابق في عهد ريغان (جورج شولتز)، وذلك لترشيح نجله (جورج دبليو بوش) للرئاسة الأمريكية، حيث كانت الأجندة الجديدة تسعي إلي الضغط من أجل تنفيذ المرحلة التالية من النظام العالمي الجديد. وفي صيف 1998م، انطلقت رسمياً حملة (جورج دبليو بوش) الرئاسية حيث ظهر جنباً إلي جنب مع والده بوش الأول وكوندوليزا رايس، وكان يقف وراءهم خلف الكواليس فريق كبير مكون في معظمه من رموز كبري سابقة في إدارة (بوش الأب)، والذين تفاوتوا ما بين أولئك المخلصين المؤمنين بالنظام العالمي الجديد إلي زمرة اللوبي الصهيوني. وبعد أن فاز بوش الصغير وتشيني بالانتخابات، تم تعيين هؤلاء، في مناصب حساسة في إدارة الرئيس الجديدة، وذلك لاستكمال مهمتهم في تنفيذ المرحلة التالية من إعادة صياغة وتشكيل النظام العالمي (1).
تزوير الانتخابات
يرصد احد الكتاب نقاط الخلل في سياسات أميركا وفي ثقافتها السياسية, ويرى أن أشد ترجمة لذلك الخلل هو انتخاب جورج بوش رئيساً, وهو يسميه اللص وليس الرئيس, إذ يعتبره سرق الرئاسة من آل غور عن طريق التزوير، والتآمر، وكل الطرق القذرة. وهنا فإن الكاتب لا يستهدف الرئيس (جورج بوش الابن) فحسب, بل والأب، والبطانة التي حوله، والتي سهلت له الفوز, أو بكلماته, تآمرت معه على سرقة الفوز. فقد اقتضى الأمر ستة وثلاثين يوماً من المفاجآت السياسية ـ القضائية حتى الوصول إلى حل للمشكلة العويصة، التي جاءت لمصلحة عشيرة بوش، حيث أعيد فرز الأصوات أربع مرات، وصدر عن المحكمة العليا ثلاثة قرارات، وعن المحكمة العليا الانتخابية قراران، وتقدم بوش على منافسه بصوت واحد في الهيئة الانتخابية، في
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 28/ 2/2003م(2/101)
حين أن آل غور، نال نصف مليون صوت زيادة عما ناله خصمه، وبالرعم من ذلك فقد أعلن فوز بوش لنيله مائه وسبعه وثلاثين صوتاً إضافياً (1).
ف http://www.aljazeera.net/books/2002/8/ - TOP الفوز بالانتخابات بحسب مقاييس أي شخص عاقل، باستثناء قضاة المحكمة الأميركية العليا (المعينين من قبل نيكسون وريغان) كان من نصيب آل غور، ولكن الجهود التي بذلتها زمرة بوش (جورج الثاني, وابن عمه جيب, وجميع رفاق جورج الأول القدامى، اليمين المتطرف) للتأثير في نتائج الانتخابات، بما فيها التلاعب غير القانوني المباشر بالسجل الانتخابي، وما تبعه من أحكام خاطئة، صدرت بعد التصويت، بالاضافة للتلاعب الذي حصل عبر التصويت البريدي، والذي فاز فيه بوش بأربعة أخماس أصواته بشكل مريب (2)، كان لها الدور الرئيس قي تغيير نتائج الانتخابات وايصال بوش إلي سدة الحكم، ليدير أجندتها الخاصة بنظام عالمي إمبريالي جديد. "فالوجوة تتغير في البيت الأبيض، أما القابضون علي مقاليد السلطة وراء الكواليس، فهم أنفسهم لا يتغيرون" (3).
من مقارعة الخمر إلى الأصولية المسيحية
لم يسر (بوش الشاب) في البداية على خطى أبويه المتدينيْن، بل كان مدمناً على الخمر، وكان يقود سيارته وهو سكران، (وهو أمر تشاركه فيه زوجته، التي تسببت بمقتل إحدى صديقاتها أيام التلمذة, كما يشاركه فيه نائبه ديك تشيني) , وتم إلقاء القبض عليه بسبب تصرفات طائشة أخرى، حتى سبب أكثر من إزعاج لزوجته (لورا). وقد كانت لورا صاحبة الفضل في إقناعه بالكف عن الشراب، والأخذ بيده إلى الكنيسة، التي اعتادت الذهاب إليها. ولكن التغير في شخصية بوش ـ كما يقول ستيفن مانسفيلد ـ بدأ خلال اجتماع عقد عام 1984م في إحدى كنائس ميدلاند مع القس أرثر بليسيت، الذي كان يجوب العالم حاملا الصليب، للدعوة إلى المسيحية. وحضر الآلاف من أهالي ميدلاند محاضرة بليسيت، وبعد المحاضرة طلب
_________
(1) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص25
(2) رجال بيض أغبياء ـ المؤلف ـ مايكل مور كمبردج بوك ريفيو
(3) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي 27/ 1ـ 3/ 2/2003م(2/102)
(جورج دبليو) لقاء بليسيت. وخلال اللقاء وضح لجورج دبليو أنه غير متأكد من موقفه من المسيحية، ولكنه مع نهاية اللقاء شعر بالرغبة في التوبة، وطلب من بليسيت الدعاء له. وسرعان ما بدأ (جورج دبليو) في قراءة الإنجيل، والصلاة يوميا، وفي المشاركة بحلقة لدراسة الإنجيل مع بعض أصدقائه، وتوقف عن شرب الخمور، وبدأ الجميع يرون تحولا في حياة بوش على نحو أكثر جدية" (1).
ولكن الرجل الذي أثر في حياة جورج بوش الدينية ونقله نقلة جذرية من حياة الإدمان إلى حياة الأصولية المسيحية، هو القسيس (بيلي غراهام) الذي استغل شعبيته الهائلة في الحصول على صداقة كبار الزعماء السياسيين، وأصبح من المترددين بانتظام على البيت الأبيض طيلة عهود عديدة من الرؤساء (2). وقد أثنى بوش على شيخه (بيلي غراهام) مرة، فقال: "إنه الرجل الذي قادني إلى الرب". حيث استطاع القس (جراهام) إقناع بوش بالانضمام إلى طائفة (الميسوديث)، المعبرة عن التحالف الصهيوني المسيحي، وسار بوش مع هذه الطائفة حتى صار أحد أعمدتها الأساسية" (3). وتردد المعلومات أن (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني، انضم إلى طائفة الميسوديت منذ فترة، وانه أصبح منتظما في قراءة الكتاب المقدس للميسوديت، وأداء كل طقوس العبادة التي تقرها هذه الطائفة. وقد كان لانضمام بلير إلى الطائفة الفضل في وجود لغة مشتركة بينه وبين بوش، حيث يعتبر بلير أن بوش أستاذه في الطائفة.
وتشير المعلومات إلى أن بوش تدرج في المراتب الدينية لهذه الطائفة حتى وصل إلى مرتبة عالية يطلق عليها (المعلم)، ومن يحصل على هذه المرتبة، لا بد أن يكون قد درس باستفاضة متناهية مبادئ (الميسوديت)، وبدأ يطبقها ويدعو إليها عمليا، ولما كان عيسى معلما فإنه يريد أن يتشبه به كخليفة له، حيث نجح (بوش) في اجتذاب مئات الشباب للانضمام إلى الميسوديت، وكذلك برع في قدرته على إقناع الآخرين بهذه الافكار. وقد تسببت هذه التطورات الفكرية التي طرأت على
_________
(1) عقيدة جورج دبليو بوش ـ ستيفن مانسفيلد - ط1 2004 - الناشر: جا. بي. تارشر, أميركا - عرض/ علاء بيومي - الجزيرة نت 3/ 5/2004م
(2) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص 231
(3) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص126(2/103)
جورج الابن في قلق الأب على المستقبل السياسي لنجله، خاصة بعد تلك النزعة الدينية الغالبة التي قلبت حياته رأساً على عقب، حيث أن جورج بوش الابن، كان رافضاً للطريق السياسي في البداية، بحجة أن الرب يريده للعبادة والتدين، ونشر المذهب الديني الصحيح في العالم كله، وأن السياسة ستأخذه من هذا الطريق، ولكن بعد حوارات عدة، اقتنع بأهمية السياسة لنشر الدين (1). فمع بداية العام 1999م، راحت تراود (جورج بوش الابن) فكرة ترشحه للرئاسة، فكلم أمه (باربرا) بالأمر أولا، في أحد الأيام قبل أن يقصدا الكنيسة معاً لحضور القداس، وكانت العظة تتناول في ذلك اليوم شكوك موسى حول كفاءاته كزعيم، فكشفت باربرا لابنها بالعبارة التالية: "إن شخصك أشبه بشخص موسى". وعند عودتهما إلى البيت، أخذا بمشورة القس (ببلى غراهام) صديق آل بوش الشخصي، وأشهر مبشر في الولايات المتحدة والمستشار الروحي والمؤتمن على أسرار كثير من الرؤساء الأميركيين" (2).
يقول (ستيفن مانسفيلد): "إن فكرة ترشيح (جورج دبليو) نفسه للرئاسة جاءته أول مرة خلال حضوره صلاة بإحدى كنائس تكساس، وكان القس (مارك كرايج) يتحدث في تلك الصلاة عن قصة موسى (عليه السلام) ويقول: "إن موسى تردد بعض الشيء في قبول دعوة الله له لقيادة الناس"، في حين أن الناس في أشد الاشتياق، لقيادة تمتلك رؤية وشجاعة أخلاقية. وخلال الصلاة شعر (جورج دبليو) بأن الدعوة كانت موجهة إليه، وذلك قبل أن تلتفت إليه أمه الجالسة بجواره، وتقول له: إن القس "كان يتحدث لك"، وبعد فترة قصيرة اتصل جورج دبليو بالقس (جيمس روبيسون) وقال له: "لقد سمعت الدعوة، أعتقد أن الله يريدني أن أرشح نفسي للرئاسة" (3). ويقول (هوارد فاينمان) تحت عنوان (بوش والرب): "إن الرئيس بوش جمع عدداً من القساوسة قبل أن يرشح نفسه للرئاسة كي ينال بركاتهم، وأخبرهم بأنه تمت دعوته لينال منصباً أرفع في بلاده"! ولم يكن بوش أول رئيس أمريكي يفعل هذا، فقد سبقه ريجان الذي كان يصدق ما تقوله له قارئة الفنجان، والذي تحول بفضل الحظ الذي يؤمن به من نجم مطفأ في سماء هليوود إلى نجم ساطع
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص128
(2) عالم بوش السري ـ اريك لوران ـ ترجمة سوزان قازان ص17
(3) عقيدة جورج دبليو بوش ـ ستيفن مانسفيلد عرض/ علاء بيومي- الجزيرة نت - 3/ 5/2004م(2/104)
في البيت الأبيض. وقد لعب الواعظ الأمريكي بيلي جراهام دوراً في تنوير السانت بوش، بحيث اعترف بأنه ولد مرة أخرى، وحرر روحه من الداء القديم (1).
وبيل غراهام ـ لمن لا يعرفه ـ هو أبرز وجوه اليمين المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة اليوم وهو واعظ ذو شخصية كاريزمية يذهب إلى بوش وعائلته وأصدقائه بصورة دوريه ليس فقط للصلاة، بل للحديث عن قيادة العالم، وفي البداية كان (جورج بوش) يتابع ذلك بلا أدنى اهتمام. وتدريجياً بدأ اهتمامه في الازدياد إلى الحد الذي قال فيه يوما ما: "هناك حبة نبتت في قلبي، وبدأت أشعر أنني أتغير"، وكان ترك الخمر هو أول قرار يأخذه بعد التحول، ومنذ ذلك الوقت أصبح بوش واحدا من الستين مليون أمريكي، الذين يؤمنون (بالولادة الثانية للمسيح) وهذا ما دعاه للقول بأن المسيح هو أهم الفلاسفة السياسيين في جميع الأزمنة، لأنه ساعدني على التوقف عن شرب الخمر.
وباعتباره مرشح يمثل المحافظون الجدد أو اليمين المسيحي المتطرف، فقد ركز بوش خلال حملته الانتخابية على إبراز تدينه حيث كان يقول: "أنه يبدأ حياته كل يوم بقراءة في الإنجيل، أو على الأصح في (الكتاب المقدس)، الذي يشمل الإنجيل والتوراة العبرانية. ووضح الأمر أكثر (تونى ايفانز) الواعظ من تكساس، وأحد مستشاريه الروحيين، فيقول: "تعاليم الإنجيل كانت سبباً رئيساً لاتخاذ بوش قراره بالتقدم لانتخابات الرئاسة، إنه شعر أن الله يكلمه، وأن واجباته قد تحددت بتكليف من الله بقوله: إنني اقتنعت بأن ثقافتنا بكاملها يجب أن تتغير بصورة جذريه، وإلى الأبد، فنحن نحتاج إلى تجديد روحي في أمريكا. وبذا تحول بوش من إنسان غبي غائب عن الوعي بفعل الإدمان على الكحول إلى رئيس أمريكي ثم إلى قائد عسكري يسعى لشن الحروب، حيث كانت (الولادة الثانية) لبوش يوم 11 سبتمبر، فقد كان حتى هذا اليوم مجرد حاكم بلا هدف، ولكن الهجوم على نيويورك وواشنطن أعطيا رئاسته الهدف والسبيل، وبعدها بدأ في الحديث بمصطلحات دينيه مثل (معركة
_________
(1) أفق آخر خيري منصور - سانت بوش ـ الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695(2/105)
الخير ضد الشر) (العدالة الابديه) ـ (الحرب الصليبية) ثم مصطلح (محور الشر) الذي بدأ يضع فيه أعداءه، خاصة إيران والعراق وكوريا الشمالية" (1).
جدلية الدين والسياسة في تفكير الرئيس بوش
لاحظ كثيرون أثر الدين في رؤية بوش السياسية، بشكل غير معهود في الحياة الأمريكية: فهو يميل إلى التفسير الديني للأحداث السياسية الحالية، وقد قال في حديث للمذيعين الدينيين: "إن الإرهابيين يمقتوننا، لأننا نعبد الرب بالطريقة التي نراها مناسبة". كما يكثر في أحاديثه وخطاباته إيراد المصطلحات الدينية. فهو كثير الحديث عن (الرب) وعن (الصراع بين الخير والشر). وما مصطلح (محور الشر) إلا مثالاً واحداً على ذلك. وقد لاحظ أحد الكتاب أن بوش يفضل استخدام مصطلح (الحرية) على مصطلح (الديمقراطية)، وأن الحرية في عرف بوش ذات مدلول ديني، فهي ليست حرية الخيار السياسي بالضرورة، بل (حرية اكتشاف الرب) بكل المدلول المسيحي التبشيري لذلك. وذكرت مجلة نيوزويك أن أنصار بوش من الإنجيليين يأملون أن تكون الحرب على العراق فاتحة لنشر المسيحية في بغداد، كما يشير موقع (القس بيلي غراهام) على الإنترنت ـ وهو الأب الروحي للرئيس بوش ـ إلى "الجوع الروحي في العراق في الوقت الحاضر"، ولذلك مدلوله الخاص في السياق الحالي (2).
ويميل الرئيس (بوش) إلى اعتماد البرامج الاقتصادية والاجتماعية، التي ترسخ الدين المسيحي في المجتمع الأمريكي وفي العالم. ومن أمثلة ذلك داخلياً تخصيصه بنداً من الميزانية لتمويل المؤسسات التربوية والاجتماعية الدينية، من كنائس ومدارس دينية وغيرها، وهي سابقة في تاريخ الولايات المتحدة، اعتبرها كثيرون بداية النهاية للموقف الحيادي من الدين الذي يلزم الدستور الأمريكي الحكومة به. وبذلك يكون بوش هو أول رئيس أميركي يمول التعليم الديني من
_________
(1) مجلة دير شبيجل الألمانية بتاريخ 17/ 2/2003م ـ وجريدة الأسبوع العربي 24/ 2/2003
(2) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية- مقال بقلم محمد الشنقيطي - الجزيرة نت ـ4ـ2003(2/106)
ميزانية الدولة الأميركية، التي يفترض فيها أنها دولة علمانية تقف من الدين موقف الحياد" (1).
ويشير الكاتب الصحفي (بوب وودوارد) في كتابه الجديد: (بوش في الحرب) إلى قصة طريفة تكشف عن جانب من جدلية الدين والسياسة في تفكير الرئيس بوش. فقد حكى بوش للكاتب في إحدى مقابلاته معه أثناء إعداد الكتاب قصة لقائه الأول مع الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) في 2001م. يقول بوش:"دخل الرئيس بوتين وجلس ... وحضر المترجمان .. وأراد بوتين أن يبدأ الكلام، لكني بادرته بالقول: السيد الرئيس .. دعني أبدأ بالإشارة إلى أمر لفت انتباهي، وهو أن والدتك أعطتك صليباً، وأنكم باركتم ذلك الصليب في إسرائيل الأرض المقدسة. فقال: صحيح. فقلت: إن هذا الأمر يثير عجبي، لأنك كنت شيوعياً وضابطاً في (الكي جي بي) ومع ذلك كنتَ راغباً في حمل الصليب، إن هذا الأمر بالنسبة لي يحمل من المعنى أكثر مما تحمله مجلدات". ثم يضيف الرئيس بوش: " .. وبدأ بوتين يتحدث عن ديون روسيا ... لكني كنت مهتماً أكثر بمعرفة هذا الرجل (بوتين)، الذي علي أن أتعامل معه، ولهذا أردت التأكد من صحة قصة الصليب" (2). http://www.aljazeera.net/cases_analysis/2003/3/3-11-1.htm - TOP
ولكن هذا الحماس الديني الذي هو مصدر قوة الرئيس بوش وطاقته، فهو أيضاً مصدر ضعفه وسوء تقديره للأمور. وليس هذا رأي أعداء الرئيس بوش ومنتقديه فحسب، بل هو قول مساعديه ومقربيه كذلك. وقد ذكرت مجلة "نيوزويك" أن مستشاري الرئيس بوش يدركون أن "العديد من الأمريكيين ـ وكثيرين عبر العالم ـ يعتبرونه رجلاً أعمته معتقداته .. عن فهم تعقيدات العالم المحيط به كما هي". ولا ينكر مساعدو بوش هذه التهمة، بحسب المجلة، التي تضيف: "يقول مساعدو بوش: إن معتقداته المسيحية المتأججة تحت السطح تمنحه قوة وعزماً، لكنها لا تعينه على فهم السياسات اللازم اتباعها" (3).
_________
(1) البوشنية .. سيره يهودية / بقلم شوقي أبو شعيره ـ جريدة الخليج العدد 8609 - 14 ديسمبر 2002م
(2) بوش في الحرب ـ بوب وودوارد ـ ص 120 - الناشر (سايمون وشوستر) - أكتوبر 2006
(3) بوش .. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية- مقال بقلم محمد الشنقيطي - الجزيرة نتـ4ـ2003(2/107)
مكانة بوش على الخريطة الدينية الأميركية
تتسم الخريطة الدينية للولايات المتحدة بشيء من التعقيد، فلا يمكن رسم حدودها واضحة، وبيان مكانة بوش فيها بشكل مفصل في هذا الكتاب، ولكن يمكن القول إجمالاً: إن أنصار بوش هم في الغالب الأعم من البيض البروتستنت، وممن ينتمون للكنيسة المعمدانية أو الكنيسة المنهجية، التي ينتمي إليها بوش، ونتيجة لهذه العلاقة الحميمة بين بوش والتيار المسيحي الأصولي، وفرت الكنائس الإنجيلية المتصهينة لبوش فوزاً على منافسه الجمهوري (ماكين)، ثم فوزاً ملتبساً على منافسه الديمقراطي (آل جور). ولهذا فإن الذين يبرمجون الرئيس الأميركي هم قساوسة الحركة الصهيونية المسيحية. فالرئيس بوش هو من النوع الذي لا يدخل في نقاش مع نفسه، ولا يمارس التساؤل لكونه ـ أيضاً ـ ينطلق من مرجعية فكر ديني مطلق، لم يكن غريباً أنه صنف مجتمعات العالم إلى متحضرة وغير متحضرة، وخيرة وشريرة وعليها أن تختار أن تكون ضده أو معه، وتوعد من ليس معه بالعقاب الشديد. ومن هذا المنطلق الديني الأصولي يرى أن الأحداث التاريخية تتم كما قال الكاتب (جاكسون ليرز) على (يد إله عادل ومخلص) وأن رئاسته جزء من خطة مقدسة، حتى أنه قال لصديق له عندما كان حاكما لولاية تكساس: إن الله يريده أن يترشح للرئاسة .. وأوعز للولايات المتحدة بأن تقود حملة صليبيه تحريرية في الشرق الأوسط، بل ذهب (جاكسون ليرز) في هذه المقالة إلى القول بأن اللغة الدينية الأصولية كثيراً ما تستعمل في الثقافة السياسية الأميركية، خصوصاً بين أنصار بوش، الذين يؤمنون بأنهم يعملون بإرشاد الهي وينفذون إرادة الله" (1). http://www.aljazeera.net/cases_analysis/2003/3/3-11-1.htm - TOP
علاقة بوش مع الكنيسة الكاثوليكية
الكنيسة الكاثوليكية التي يقدر أتباعها بحوالي 60 مليون شخصاً، لا تربطها علاقة ود بالرئيس بوش، لأسباب سياسية ودينية وتاريخية كثيرة. فكما هو معروف تأسس الحزب الجمهوري في عام 1854م، بعد الهجرة الكاثوليكية المتنامية نحو أمريكا، وظهور تيارات دينية جديدة إضافة إلى ظهور العلمانية، حيث بدأت بعض
_________
(1) الدين في القرار الأمريكي ـ محمد السماك - ص63(2/108)
المفاهيم تؤثر سلباً في اللغة الدينية السائدة في ذلك الوقت، وشعر البيوريتانيون بأن دولة الفضيلة التي عملوا على تأسيسها، تدخل مرحلة الانحدار، فجاء تأسيس الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه الرئيس الحالي (جورج بوش) عام 1854م معيداً الخطاب الديني البيوريتانى إلى الوجود، ومعيداً الأمل البيوريتاني إلى الوجود. فالتف اليمين البروتستانتى حول هذا الحزب الجديد بقوة على اعتبار أن برنامجه السياسي، الذي تطغى عليه القيم الدينية ينسجم مع طموحاتهم ببناء أمريكا المسيحية، حيث يمثل الحزب الجديد القيم المسيحية البيوريتانية الحقيقية، (المبادئ المسيحية اليهودية)، والذي سوف يعمل على تحقيق النبوءة التوراتية بإقامة مملكة الرب (يهوه) (1). وفي أواخر السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حدث تحول يثير الاهتمام بوجه خاص، ألا وهو العلاقة الوثيقة المتزايدة بين اليمين المسيحي الجديد والحزب الجمهوري، حيث لم تبدأ هذه الصلة في أواخر السبعينات. فالعلاقة بين (بيلي جراهام) (ودوايت أيزنهاور) شيء معروف، مثله كمثل صلوات الإفطار في البيت البيض الأبيض أثناء فترة رئاسة نيكسون، ثم وصلت العلاقة إلى آفاق جديدة مع ترشيح (ريجان) ثم فترة رئاسته (2).
إن هذه الخلفية المتطرفة للحزب الجمهورى، ربما توضح سبب تطرف (بوش الابن) وتعصبه ليس فقط تجاه العرب والمسلمين، بل تجاه المسيحيين الكاثوليك، حيث ـ معروف عنه ـ علاقاته الحميمة بالتيار الأصولي المسيحي المتطرف في أمريكيا، وبأكثر زعماء هذا التيار تطرفاً، أمثال (جون ايفانس)، وغيرهم، والذين يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي ـ وبالذات دوله الكاثوليكية ـ هم من قوى الشر، التي ستحارب أمريكيا في المستقبل، ويسمون دولها العشر بالوحش الذي ورد ذكره في نبوءات التوراة (3). ولهذا لم يكن مستغرباً أن يرتبط بوش بعلاقات حميمة مع أكبر جامعة أصولية متطرفة، وهى جامعة (بوب جونز) الانفصالية المتشددة التي أسسها القس الأصولي المتشدد (بوب جونز) (4)، والتي تناصر الآراء المضادة للكاثوليكية،
_________
(1) أساطير في ثوب ديني وتحالف استراتيجي - رضا محمد حرب - الخليج العدد 8674
(2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة - ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص155
(3) يد الله - جريس هالسيل - 35
(4) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة - ص231(2/109)
حيث يصف رؤساؤها البابا بأنه عدو المسيح، ويمنعون الاختلاط العرقي بين الطلبة. وقد حرص (بوش) على زيارة هذه الجامعة باستمرار، حيث تسببت إحدى هذه الزيارات بجدل واسع، واتهمه منافسه للرئاسة (جون ماكين) باستخدامه الزيارة لتشويه صورته، واضطر بوش للدفاع عن نفسه ضد مزاعم التعصب، وأخبر الصحفيين في سياتل بقوله: اندهشت لأن الناس يصفوني بأني مناهض للكاثوليكية، أنا أرفض ذلك، فأنا حريص على التوحيد ليس التقسيم، يجب أن تتوقف حملة تشويه الصورة هذه، وبعث بوش رسالة للكردينال (جون اوكونور) في نيويورك معقل الناخبين الكاثوليك قائلاً: انه يشعر بأسف عميق لأنه لم ينأ بنفسه بوضوح عن سياسات جامعة بوب جونز.
بوش واليهود وإسرائيل
باعتباره أحد أعضاء الكنيسة الميثودية البارزين، كان بوش دائم التردد على إسرائيل، لأن الميثوديت تعتبر أن ارض إسرائيل هي البقعة المباركة في هذا العالم، وأن المسيحية الحقه جاءت لتقييم التحالف الروحي لإنقاذ العالم من خلال الاعتماد على التوراة، التي تمثل قيمة دينية عليا، وأن العالم لابد أن يبعث على أساس من التوراة والإنجيل الحق، ولهذا فإن بوش عندما يقرأ كل يوم في كتابه المقدس، فهو لا يقرأ الإنجيل المتداول بين المسيحيين، وإنما يقرأ الكتاب المقدس للميثوديت، الذي يجمع بين التوراة والإنجيل في مزيج مشترك، حتى أن صلواته التي يؤديها كل يوم وبانتظام، تعبر عن فكر الميثوديت والتحالف الصهيوني ـ المسيحي، ولا تعبر عن المسيحية المعروفة في الشرق أو الفاتيكان. والمتتبع لنشاط طائفة الميثوديت يرى أن أعدادها في تزايد مستمر بين الطوائف المسيحية، حيث أن هؤلاء هم بالأساس أصحاب هذه الفكرة في إقامة التحالف المسيحي ـ الصهيوني ضد الإسلام (1).
يقول (مات بروكس) اليهودي الجمهوري: "إن جورج بوش، وبسبب إيمانه الديني العميق، يعتقد أن إسرائيل هي وطنه الروحي، بقدر ما هي وطن روحي لي أنا
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص127ـ128(2/110)
اليهودي". ولبوش أصدقاء ذو اهتمامات بالغة العمق بإسرائيل، ولأنه بات أكثر تديناً في السنوات الأخيرة، فقد أصبح مهتماً بها بالعمق الذي يوليه أصدقاءه هؤلاء تماماً، هذا ما يقوله ـ أيضاً ـ صديق بوش الآخر اليهودي الأرثوذوكسي، الملتزم (دونالد ايترا) لمجلة نيوزويك. وتشير نيوزويك إلى أن موقف بوش من إسرائيل والفلسطينيين قد يكون في النهاية موقفا ايديولوجياً، وحتى دينياً متطرفاً، وليس موقفاًً سياسياً بحثاً. وتضيف أن زيارة بوش إلى إسرائيل في العام 1998م، التي رتبها له ضمن مجموعة من حكام الولايات الآخرين صديقه (مات بروكس)، وقام في أثنائها بجولة في طوافة مع شارون، فوق الضفة الغربية والجولان، لم تكن فقط زيارة استطلاع على جغرافية إسرائيل، ولا حتى جولة سياسية، لقد كانت رحلة في التاريخ التوراتى. وتشير المجلة إلى أنه وصديقه الآخر (دونالد ايترا) انتميا إلى جمعية سرية تدعى (سكول وبوناس)، عندما كانا في جامعة بيل، ويقول ايترا: إن تربية بوش اليهودية وتعلمه لها ومعلوماته عنها بدأت في تلك الفترة ... لقد تربى بوش مع مجموعة يهودية، وهو شخصياً يقدر عالياً الدين اليهودي. وقد صرح الرئيس بوش أكثر من مرة بأن "اليهود هم شعب الله المختار الوحيد على وجه الأرض" (1).
وخلال الأشهر السابقة من وجوده في البيت الأبيض، لم يثبت الرئيس الأمريكي ما يدحض هذه الآراء، بل إنه، وإضافة إلى إطلاقه يد المحافظين الجدد في السياسات الخارجية، الشرق أوسطية منها خصوصاً، بنى نظاماً يستند بكل صراحة إلى البروتستانت الأصوليين، هؤلاء المتعصبين المقتنعين بان الولايات المتحدة تؤدى دوراً مركزياً في صراع الخير التوراتى ضد الشر، وهذا الدور الذي يستند إلى يقين بأن هذا البلد ينبغي أن يقود العالم. وقد توصل أحد الباحثين الأميركيين مؤخرا ـبعد دراسته لكل أحاديث الرئيس الحالي بوش وخطاباته ـ إلى أن بوش أصولي مسيحي، يؤمن بأن الضفة الغربية وقطاع غزة منحة ربانية لليهود لا يجوز التنازل عنها، وهو نفس الاعتقاد الذي عبر عنه (التحالف المسيحي) بقيادة (بات
_________
(1) البوشنية .. سيره يهودية / بقلم شوقي أبو شعيره ـ جريدة الخليج العدد 8609 - 14 ديسمبر 2002م(2/111)
روبرتسون) مؤخراً في مسيرة له بواشنطن العاصمة، طالب فيها القادة الإسرائيليين بعدم التنازل عن الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن ذلك مناقض لإرادة الرب (1).
وربما كان إعجاب الرئيس (بوش) الشديد باليهود، وتبنيه لبرامجهم هو الذي دفعهم إلي الانضمام إلى الحزب الجمهوري. فبالرغم من وجود يهود في الحزب الديمقراطي، نظراً لانقسام اليهود إلى ليبراليين ومتدينين ـ وأحيانا تفادياً لوضع البيْض في سلة واحدة ـ فإن الجماعات اليهودية بدأت في الأعوام الأخيرة تميل إلى الحزب الجمهوري، لأن ولاءه للمسألة اليهودية نابع من اعتقاد ديني ثابت، مجرد من الاعتبارات السياسية والإستراتيجية في الغالب، بخلاف الحزب الديمقراطي ذي الميول الليبرالية، الذي يتعامل مع إسرائيل باعتبارها (دولة دنيوية) إلى حد ما، وربما هذا ما دفع الحزب الديمقراطي إلى محاولة استمالة اليهود من خلال ترشيح اليهودي (ليبرمان) لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات السابقة.
وربما يكون الخطاب الذى القاه بوش بتاريخ 15 مايو 2008 اما الكنيست الاسرائيلى بمناسبه استقلال اسرائيل خير معبر عن علاقته باليهود، ولاهميته سنعرضه بالكامل وللقارئ استخلاص المعانى المختلفة من خلاله:
وثيقة: كلمة الرئيس الأميركي جورج بوش أمام الكنيست في الذكرى الستين لقيام "إسرائيل"
الرئيس بيرس والسيد رئيس الوزراء،
السلام عليكم جميعاً. إن (زوجتي) لورا وأنا نتحمس للعودة إلى إسرائيل. لقد تأثرنا كثيراً بالاحتفالات التي حضرناها خلال اليومين الماضيين. أما الآن فيشرّفني الوقوف في هذا الوقت أمام أحد المجالس النيابية الديمقراطية العظيمة في العالم لأنقل أماني الشعب الأميركي على شكل الكلمات الآتية: عيد استقلال سعيد ([قالها باللغة العبرية)
إنها فرصة نادرة تتاح لرئيس أميركي لإلقاء كلمته أمام الكنيست .. ولا يؤسفني سوى غياب أحد أعظم الزعماء الإسرائيليين عنا ليشاركنا هذه اللحظة كونه
_________
(1) المصدر السابق.(2/112)
محارباً مخضرماً ورجل سلام وصديقاً. إن الشعب الأميركي يدعو الله لشفاء أريئيل شارون (رئيس الوزراء السابق).
إننا اجتمعنا لإحياء مناسبة بالغة الأهمية. كان دافيد بن غوريون قد أعلن قبل ستين عاماً في تل أبيب استقلال دولة إسرائيل القائم على أساس "الحق الطبيعي للشعب اليهودي لتقرير مصيره". وما تلا هذه الخطوة كان أكثر من مجرد إقامة دولة جديدة: إنه كان استيفاء وعد قديم مُنح لأبراهام وموشيه ودافيد بمعنى وطن قومي للشعب المختار على أرض إسرائيل.
ولم تمضِ إلا 11 دقيقة حتى نالت الولايات المتحدة، بإيعاز من الرئيس هاري ترومان، شرف أن تكون أول دولة للاعتراف باستقلال إسرائيل. كما أن الولايات المتحدة يشرّفها في هذه الذكرى المفصلية أن تكون أقرب حليف وأفضل صديق لإسرائيل في العالم.
إن التحالف بين الحكومتين لا يمكن كسره إلا أن مصدر الصداقة بيننا أعمق من أي حلف. إنه يعود إلى الروح المشتركة لكلا الشعبين، إلى الروابط القائمة على الكتاب المقدس والعلاقات الروحية. عندما نزل وليام برادفورد من السفينة "مييفلاور" [التي حملت طلائع المهاجرين الأوروبيين إلى أميركا الشمالية] عام 1620 فإنه استشهد بأقوال النبي إرميا: "هلم فنقصّ في صهيون عمل الرب إلهنا ". وكان مؤسسو دولتي قد رأوا أمام نواظرهم أرض ميعاد جديدة وقد أطلقوا بالتالي على بلداتهم أسماء مثل بيت لحم وكنعان الجديدة. وقد أصبح العديد من الأميركيين مع مرور الزمن يؤيدون بحماس فكرة نشوء دولة يهودية.
وقد مضت قرون من المعاناة والتضحيات قبل تحقيق هذا الحلم. إذ عانى الشعب اليهودي ويلات المجازر ومأساة الحرب الكبرى (الحرب العالمية الأولى) وفظائع المحرقة التي أسماها [الكاتب اليهودي الأميركي الشهير إيلي فيزيل "مملكة الليل". وكان أناس لا ضمير لهم قد سلبوا الحياة وفككوا عُرى العائلات لكنهم عجزوا عن مصادرة روح الشعب اليهودي وانتهاك الوعد الإلهي.(2/113)
عندما انبثقت رسالة قيام دولة إسرائيل لم تملك غولدا مئير (التي أصبحت فيما بعد رئيسة لوزراء إسرائيل) - التي كانت امرأة جسورة ترعرعت في ولاية ويسكونسين الأميركية - دموعها، ثم قالت: "لقد تمنّينا على امتداد ألفَي عام الخلاص وها هو ذا يأتي كبيراً وضخماً وتعجز الكلمات عن التعبير عنه".
غير أن فرحة الاستقلال جُوبهت بالقتال العنيف وهو صراع ما زال ممتداً منذ ستة عقود. لكن إسرائيل تمكنت على الرغم من العنف والتهديدات من إنشاء نظام ديمقراطي مزدهر في قلب الأرض المقدسة. إنكم استوعبتم مهاجرين قدموا من كل حدب وصوب؛ إنكم بنيتم مجتمعاً حراً عصرياً يقوم على محبة الحرية والعدالة وكرامة الإنسان؛ إنكم عملتم دون كلل على دفع السلام قدماً وحاربتم بشجاعة من أجل الحرية.
إن بلادي مُعجبة بإسرائيل غير أن هذا الإعجاب لم يأت من فراغ، إذ إن الأميركيين يرون عندما ينظرون إلى إسرائيل الروح الطلائعية التي صنعت المعجزات في المجال الزراعي وتصنع حالياً معجزة أخرى في المجال التكنولوجي. كما أننا نشهد الجامعات الراقية ودولة رائدة عالمياً في مجالات الأعمال والابتكار والفنون. إننا نشهد مورداً أهم من النفط أو الذهب ألا وهو الموهبة والعزيمة لدى شعب حر لا يسمح لأي عائق باعتراض سبيله نحو تحقيق ما قُدّر له.
لقد حالفني الحظ لأن أشاهد إسرائيل عن كثب وأطّلع على ملامحها: لقد مسستُ حائط المبكى وشاهدت انعكاس أشعة الشمس في بحيرة طبريا وأديت الصلاة في مؤسسة "ياد فشيم" (لتخليد ذكرى المحرقة). وقد زُرت صباح اليوم موقع "متسادا" الذي يخلد ملهمة الجرأة والتضحية. إن الجنود الإسرائيليين يؤدون يمين الولاء في هذا الموقع التأريخي قائلين: إن متسادا لن تسقط ثانية. أيها مواطنو إسرائيل، إن متسادا لن تسقط ثانية إذ إن الولايات المتحدة ستقف دوماً إلى جانبكم.
إن ذكرى (عيد الاستقلال) الحالية تشكل فرصة سانحة للتفكير ملياً في الماضي واستشراف المستقبل. عندما نسير نحو هذا المستقبل يستضيئ تحالفنا(2/114)
بمبادئ واضحة وإيمان مشترك يقوم على النزاهة الأخلاقية ولا يتأثر باستطلاعات مختلفة للرأي العام وتقلبات مواقف بعض النُخَب الدولية. إننا نؤمن بالقيمة المطلقة لحياة أي رجل وامرأة وطفل وبالتالي نعقد العزم على أن أي شخص في إسرائيل له الحق في ممارسة حياة طبيعية وجيدة ومطمئنة مثل مواطني أي دولة أخرى.
إننا نرى أن النظام الديمقراطي يمثل الطريق الوحيد لضمان حقوق الإنسان ولذلك فإنه من الخزي والعار إقدام الأمم المتحدة على تمرير قرارات روتينية ضد النظام الديمقراطي الأكثر حرية في الشرق الأوسط بداعي انتهاكه لحقوق الإنسان.
إننا نعتقد بأن الحرية الدينية هي من ثوابت المجتمع المتحضر ولذلك ندين بمعاداة اليهود (اللاسامية) بكافة أشكالها سواء لدى أولئك الذين يشككون علناً في حق إسرائيل في الوجود أو لدى آخرين يبحثون سراً عن مبررات لهذا الموقف. كما أننا نرى أن الأحرار عليهم أن يتطلعوا إلى السلام ويستعدون للتضحية من أجله وبالتالي نؤدي التحية للقادة الإسرائيليين على قراراتهم الجريئة.
كما أننا نعتقد بأن أي أمة تملك الحق في الدفاع عن نفسها ولا يجوز إجبارها على التفاوض مع قتلة يصرون على تدميرها.
إننا نظن أن استهداف حياة الأبرياء من أجل تحقيق أهداف سياسية لهو خطأ في أي زمان ومكان. لذلك نقف دوماً ضد الإرهاب والتشدد ولن نتخلى عن يقظتنا ولن نثبط من عزيمتنا على هذا الصعيد. إن مكافحة الإرهاب والتشدد هي التحدي الأبرز في عصرنا. ولا يقتصر الأمر على تصادم الجيوش فحسب بل إنه صدام للرؤى أي صراع عقائدي كبير. ويقف من جهة أولئك الذين يدافعون عن المثل العليا للعدالة والكرامة بدافع قوة العقل والحقيقة، فيما يقف من الجهة الثانية أولئك الذين يعتمدون رؤية محدودة من القسوة والسيطرة تجيز القتل والترهيب ونشر الأكاذيب.
ويتم شن هذا الكفاح بواسطة تقنيات القرن الحادي والعشرين لكنه أساساً صراع بين الخير والشر. ويدّعي القتلة بأنهم خرجوا من عباءة الإسلام لكنهم ليسوا متدينين. إذ لا يمكن لكل من يدعو رب أبراهام أن يضع حزاماً ناسفاً انتحارياً على(2/115)
طفل بريء أو يفجر ضيوف ليلة النظام في عيد الفصح اليهودي [يقصد الاعتداء الشنيع على فندق "بارك" بنتانيا في ربيع 2002 أو يوجه طائرات إلى عمارات تجارية مليئة بمستخدمين لا يرتابون بشيء [يقصد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001. في حقيقة الأمر لا يخدم الأشخاص الذين ينفذون هذه العمليات الهمجية أي هدف سوى رغبتهم في السلطة. إنهم لا يغلّبون أي أخلاق إلهية على مصالحهم الأنانية، كما أنهم يوجهون الكراهية والبغضاء بالذات إلى أشد المدافعين غيرةً عن الحرية وبضمنهم الأميركيون والإسرائيليون.
ولهذا السبب كان الميثاق التأسيسي لحماس قد دعا إلى القضاء على إسرائيل، ولذلك يردد أتباع حزب الله شعار "الموت لإسرائيل والموت لأميركا"، ومن هذا المنطلق تنص دروس أسامة بن لادن على أن "قتل اليهود والأميركيين هو من أكبر الفرائض"، فيما يحلم الرئيس الإيراني في إعادة الشرق الأوسط إلى القرون الوسطى ويدعو إلى محو إسرائيل عن الخارطة. ثمة أناس أخيار ومهذَّبون لا يسعهم استبطان ظلامية هؤلاء الأشرار مما يحملهم إلى تأويل كلامهم. هذا أمر طبيعي لكنه خاطئ تماماً. إننا - وبصفتنا شهوداً لشر الماضي - نتحمل مسؤولية جليلة لأخذ كلامهم مأخذ الجد. إن اليهود والأميركيين قد شاهدوا تبعات غض الطرف عن كلمات أدلى بها زعماء تأييداً للكراهية، ولا يجوز للعالم أن يكرر هذا الخطأ خلال القرن الحادي والعشرين.
هنالك من يعتقد بوجوب التفاوض مع الإرهابيين والمتشددين وكأن مقارعتهم ببعض الحجج البارعة قد تقنعهم بأنهم كانوا في ضلال مُبين. كنا قد استمعنا إلى هذه الأوهام السخيفة. عندما اجتازت الدبابات النازية حدود بولندا عام 1939 صرح أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي آنذاك بما يلي: "يا ربي، لو كان بمقدوري الحديث مع هتلر لربما كنا نتفادى كل هذا المشهد". يجب علينا أن نسمي هذا التوجه بمسمياته الحقيقية أي راحة النفس الخادعة الناتجة عن استرضاء خاطر (الأشرار) والتي كان التأريخ قد أظهر بطلانها مراراً وتكراراً.
ثمة آخرون يعرضون على الولايات المتحدة قطع علاقاتها مع إسرائيل وكأن هذه الخطوة وحدها كفيلة بحل جميع المشاكل في الشرق الأوسط. إن هذه حجة(2/116)
مستهلكة تصب في دعاية أعداء السلام وترفضها الولايات المتحدة جملة وتفصيلاً. إن عدد سكان إسرائيل يتجاوز قليلاً 7 ملايين نسمة غير أن تعدادكم يصبح 307 مليوناً عندما تواجهون قوى الإرهاب والشر لأن الولايات المتحدة الأميركية تقف إلى جانبكم.
إن الولايات المتحدة تناصركم في سعيكم لضرب الشبكات الإرهابية ورفض إيواء المتشددين. كما أن الولايات المتحدة تقف إلى جانبكم برفضها الشديد للطموحات الإيرانية بالحصول على الأسلحة النووية. إن السماح لأبرز راعٍ للإرهاب العالمي بامتلاك الأسلحة الأشد فتكاً سيكون بمثابة خيانة لا تُغتفر إزاء الأجيال القادمة. ويتعين على العالم حفاظاً على السلام عدم السماح لإيران بالحصول على السلاح النووي. ومن المتطلبات الأساسية لتحقيق الانتصار في هذه المعركة ضرورة طرح بديل عن العقائد المتشددة من خلال توسيع رؤيتنا الخاصة بالعدل والتسامح والحرية والأمل. إن هذه القيم هي حق لا يحتاج إلى أي مبرر لدى جميع الشعوب والأديان في كافة أنحاء العالم كونها هدية من الله عز وجل. كما أن حماية هذه الحقوق هي أفضل طريق لحماية السلام. إن الزعماء الذين يمكن لشعوبهم محاسبتهم لن يبحثوا عن المواجهة الدائمة وسفك الدماء؛ إن الشبان الذين تُحفظ لهم مكانتهم في المجتمع وتُسمع أصواتهم حول مستقبلهم سيفتر حماسهم للبحث عن مغزى حياتهم بالعقيدة المتشددة؛ إن المجتمعات حيث يتسنى للمواطنين التعبير عن ضمائرهم وعبادة ربهم لن تصدّر العنف بل ستكون شريكة للسلام.
إن أهم العِبر المستفادة من القرن العشرين هي تلك البصيرة الأساسية القاضية بأن الحرية تفضي إلى السلام. وتنحصر مهمتنا الحالية بتطبيق هذه العبرة في القرن الحادي والعشرين. وما من مكان آخر على وجه الأرض حيث يكون العمل على إنجاز ذلك أشد ضرورة وعجالة من الشرق الأوسط. ينبغي علينا مناصرة الإصلاحيين العاملين على تحطيم الأنماط القديمة من الطغيان واليأس؛ يتحتم علينا منح الملايين من عوام الشعب الذين يحلمون في حياة أفضل في مجتمع حر فرصة إسماع أصواتهم؛ يتعين علينا مجابهة النسبية الأخلاقية التي تقبل بدرجة متساوية جميع أشكال الحكم وتحكُم بالتالي على مجتمعات بأكملها بالرق والعبودية؛(2/117)
أما ما هو أهم من ذلك كله فهو ضرورة إيماننا بقيمنا وثقتنا بأنفسنا وسعينا اليقيني لتوسيع الحريات باعتبارها المسار المؤدي إلى مستقبل سلمي.
إن هذا المستقبل سيختلف بصورة دراماتيكية عن الواقع الحالي السائد في الشرق الأوسط. وبالتالي، وتزامناً مع إحيائنا الذكرى الستين لتأسيس إسرائيل، دَعُونا نحاول تصور ملامح المنطقة بعد 60 عاماً من الآن. إن هذه الرؤية لن تتحقق بسهولة أو بين ليلة وضحاها بل ستواجه مقاومة عنيفة، غير أنه يمكننا استشراف ملامح الشرق الأوسط مستقبلاً إذا ما كنّا نحن والرؤساء [الأميركيون] القادمون ومجالس الكنيست المقبلة سنبقى مصممين وواثقين من مثلنا العليا، لتكون كما يلي:
ستحتفل إسرائيل بعيد استقلالها المئة والعشرين وقد أصبحت من أعظم النظم الديمقراطية في العالم، وطن قومي آمن ومزدهر للشعب اليهودي. وسيتمتع الشعب الفلسطيني بوطن لطالما حلم فيه واستحقه لتكون لديه دولة ديمقراطية يسودها القانون واحترام حقوق الإنسان ورفض الإرهاب. وسيعيش الناس انطلاقاً من القاهرة وصولاً إلى الرياض وبغداد وبيروت في مجتمعات حرة ومستقلة حيث تعزَّز التطلعات إلى السلام بالروابط الدبلوماسية والسياحة والتجارة. وستكون إيران وسوريا دولتين مسالمتين وسيغدو الطغيان الحالي ذاكرة بعيدة فيما يستطيع الناس التعبير بحرية عن آرائهم وتنمية المواهب التي منحهم إياها الله. وستُهزم القاعدة وحزب الله وحماس في الوقت الذي سيدرك فيه المسلمون في المنطقة بأسرها فراغ رؤية الإرهابيين والظلم الذي تنطوي عليه قضيتهم.
وسيتسم الشرق الأوسط إجمالاً بعصر جديد من التسامح والتكامل. ولا يعني ذلك أن إسرائيل وجيرانها سيكونون أفضل الأصدقاء، غير أن إسرائيل ستفتح صفحة جديدة مفعمة بالآمال عندما سيكون زعماء المنطقة ملزمين بالتجاوب مع شعوبهم ويبذلون جل طاقاتهم في بناء المدارس وتوفير فرص العمل وليس في الهجمات الصاروخية والتفجيرات الانتحارية. وبالتالي سيتسنى للشعب في إسرائيل(2/118)
ممارسة حياة طبيعية وسيتم تطبيق حلم هرتصل ومؤسسي الدولة عام 1948 في نهاية المطاف.
إنها رؤية جريئة وقد يقول البعض إنها لن تكون أبداً قابلة للتحقيق. ولكن فكِّروا بما كنا قد شهدناه في عصرنا: عندما كادت أوروبا تقضي على نفسها في حرب شمولية وعمليات إبادة للشعوب كان من الصعوبة بمكان تصور قارة تنعم بعد مضي ستة عقود بالحرية والسلام؛ عندما قام طيارون يابانيون [خلال الحرب العالمية الثانية] بمهمات انتحارية تستهدف السفن الحربية الأميركية كان من المستحيل أن نتصور تحوّل اليابان بعد ستة عقود إلى نظام ديمقراطي ودعامة رئيسية للأمن في آسيا وأحد أقرب أصدقاء الولايات المتحدة؛ وعندما وصلت موجات من اللاجئين المعدمين إلى هنا حيث توجد صحراء محاطة بجيوش معادية كان من شبه المستحيل تصور تنامي إسرائيل وتحولها إلى إحدى الدول الأكبر نجاحاً وحرية على وجه البسيطة.
غير أن جميع هذه التحولات قد حدثت بالفعل. ولذلك من الممكن إحداث تحول مستقبلي في الشرق الأوسط ما دام الجيل الجديد من القيادات يملك الجرأة على دحر أعداء الحرية والإقدام على القرارات الصعبة المطلوبة لإحلال السلام والاستناد بحزم على صخرة القيم العالمية المتينة.
قبل ستين عاماً، عشية استقلال إسرائيل، توقفت عند عمارة في الحي اليهودي من البلدة القديمة في أورشليم القدس مجموعة من آخر الجنود البريطانيين لدى مغادرتهم المدينة. وطرق أحد الضباط الباب وقابل أحد الحاخامات الكبار. وقد أهدى الضابط إليه قطعة حديدية قصيرة - مفتاح باب صهيون - قائلاً إنها المرة الأولى منذ ثمانية عشر قرناً حيث يملك يهودي أحد مفاتيح أبواب أورشليم القدس. وعندها دعا الحاخام رب العالمين شاكراً إياه على أنه "بعث فينا روح الحياة وسمح لنا بالوصول إلى هذا اليوم"، ثم استدار نحو الضابط ولفظ الكلمات التي طالما انتظرها اليهود: "إنني أتقبل هذا المفتاح باسم أبناء شعبي".(2/119)
وقد تمكن الشعب اليهودي على مدى العقود الستة الماضية من إنشاء دولة كان ذلك الحاخام المتواضع سيتفاخر بها. إنكم بنيتم مجتمعاً عصرياً في أرض الميعاد. إنكم أصبحتم منارة للشعوب التي تحافظ على تراث إبراهام ويتسحاق ويعقوب، وإنكم أقمتم صرحاً ديمقراطياً عظيماً سيبقى إلى الأبد وسوف يمكنكم دوماً الاعتماد على وقوف الولايات المتحدة الأميركية إلى جانبكم.
بارك الله فيكم (1).
بوش والمسلمين
في مقابل هذه المواقف السابقة للرئيس بوش من اليهود، نجد مواقفه من المسلمين على النقيض. فمن سخريات القدر أنه بالرغم من أن الرئيس (بوش) مدين للمسلمين في أمريكيا بوصوله للحكم ـ حيث أعطوه 70% من أصواتهم، في حين أعطى اليهود أصواتهم للمرشح الديمقراطي (آل جور) ونائبه اليهودي (ليبرمان) ـ ولكن بالرغم من ذلك قلب بوش ظهر المجن للمسلمين، وتعرض المسلمون في أمريكيا، وفي العالم لأسوأ حملة إرهاب وتعصب وملاحقة في تاريخهم، بسبب حملة التضليل والتزييف التي قادتها إدارته الجمهورية اليمينية المتطرفة ضد المسلمين، فبعد أحداث11 سبتمبر في نيويورك، دعا الواعظ الأصولي (بات روبرتسون) أتباعه للصلاة "كي يمنع الرب انتشار الإسلام في أمريكا" كما قال: إن الإسلام دين تخلف ورق وعبودية، وأضاف: إن العالم الإسلامي مرتع لعمل الشيطان.
وهذا الكلام الذي قاله (روبرتسون) لا يختلف كثيراً عما قاله ويؤمن به الرئيس بوش، الذي تأثر كثيرا بأفكار القس جراهام وأصبح واحداً من مريديه المقربين وكان يبدو مقتنعاً بما يردده (جراهام) من أن المسلمين، هم الذين يشكلون الخطر الأكبر على عودة المسيح إلى الأرض، وإن هؤلاء المسلمين لا يتبعون ملة دينية، وإنما يتبعون رجلاً اسمه محمد .. الخ. وكان يقول له دائماً: إن المسيحية تعرضت للكثير من التغيير والتبديل على يد المسيحيين، الذين أرادوا تحويلها لمنافع
_________
(1) المصدر: وزارة الخارجية الإسرائيلية(2/120)
شخصية لهم، وقد آمن بوش بهذه الأفكار، وراح يرددها أمام زوجته والمقربين منه، وكان يقول لها: المسلمون ليسوا أصحاب ديانة والمسيحيون أصحاب ديانة، تعرضت للتغيير، والرب غاضب على هذا العالم الذي غير دينه.
وبالرغم من أن الرئيس بوش اضطر لأسباب دعائية إلى وصف الإسلام على أنه (دين سلام)، خلال زيارته للمركز الإسلامي بواشنطن في 17 سبتمبر2001م، إلا أن هذه التصريحات أثارت عاصفة من النقد في أوساط اليمين المتدين، إلى حد قول أحد رجال الدين: "يمكننا أن نتحمل 11 سبتمبر، ولكن لا يمكننا أن نتحمل 17 سبتمبر". كما وقف قادة اليمين المتدين موقفاً أكثر تشدداً تجاه الإسلام والمسلمين بعد أحداث سبتمبر، عبر عنه (فرانكلين جرام) ـ الذي ألقى دعاء افتتاح حفل تنصيب (جورج دبليو)، وذلك خلال مقابلة أجرتها معه قناة NBC الأميركية في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001م إذ قال: "لا أعتقد أن هذا (الإسلام) دين رائع ومسالم .. عندما تقرأ القرآن فإنه يدعو لقتل الكفار وغير المسلمين .. من قاموا بالطيران في أبنية ليسوا طائفة مسيحية (ما) .. الهجوم كان على بلدنا من قبل أعضاء بالديانة الإسلامية" (1).
وقد سار بوش على خطى معلمه في موقفه من الإسلام، حيث كان يرى في الإسلام انه دجل ديني، وأن المتخلفين والمتعصبين هم الذين يحركون الناس نحو هذا الإسلام، وقد دفعت هذه القناعة (جورج بوش) إلى الاقتناع الكامل بمقولات القس (جراهام) وابنه (فرانكلين) الذين أصبحا فيما بعد من أعز أصدقاء بوش، وكذلك رفيقه في كل خطواته الدينية والسياسية. وقد استطاع القس (جراهام) إقناع (بوش) بالانضمام إلى طائفة (الميثوديث) المعبرة عن التحالف الصهيوني المسيحي. وقد سار بوش مع هذه الطائفة حتى صار أحد أعمدتها الأساسية (2). وفي البداية كان (جورج بوش) يريد أن يكون داعية للميثوديت في البلدان الإسلامية والعربية، إلا أن (جراهام) و (فرانكلين) أقنعاه بأن المهمة الأولى هي تطهير المسيحية والرجوع إلى أصولها الأولى، بينما كان بوش يخالفهم، ويرى أهمية القضاء على
_________
(1) عقيدة جورج دبليو بوش ـ ستيفن مانسفيلد- عرض علاء بيومي- الجزيرة نت - 3/ 5/2004م
(2) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص126(2/121)
المسلمين أولاً قبل التفكير في إصلاح أحوال المسيحيين، ولهذا فان من كتبه المفضلة التي يقرأها يومياً في البيت الأبيض ـ طبقا لنيوزويك ـ كتاب للقسيس (أوزوالد شامبرز) الذي مات في مصر عام 1917م وهو يعظ الجنود البريطانيين والأستراليين هناك، بالزحف على القدس وانتزاعها من المسلمين. كما أن بوش كان ينفي دائماً في جلساته مسألة الوجود الديني للإسلام وكان يقر بأن المسيحية الحقه ستنتصر في النهاية.
وهذا التعصب الأعمى والحقد على الإسلام له جذور عميقة في عائلة بوش حيث أن الجد الأكبر لبوش الابن (1796ـ1859م) ألف كتاباً عن حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونشره في سنة 1831م ووصف فيه المسلمين أبشع الصفات، وشتم فيه محمداً صلى الله عليه وسلم. ولذلك يعد الكتاب من أشنع وأقذر ما كتب في الولايات المتحدة عن العرب والمسلمين، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. والكتاب موجود في مكتبة الكونجرس، ويحظر على أي ما كان الاستعانة به إلا عدد قليل ومحدود من المسئولين الأمريكيين. كما أن لجورج بوش الجد عشرات الكتب في شرح العهد القديم، ويعتبر كتابه المسمى (وادي الرؤى) عمل إحياء لرميم إسرائيل، وهو يذاع في أبرز المحطات الصهيونية الأمريكية الداعية إلى ضرورة العمل من أجل تجميع يهود العالم في فلسطين، وتدمير وسحق إمبراطورية (السارزان)، وهذه التسمية كانت تطلق على العرب والمسلمين إبان الحروب الصليبية في العصور الوسطى، وكان يطلقها الرومان على بعض رعاياهم وعبيدهم تحقيراً لهم. يقول (بوش الجد) في كتابه: "ما لم يتم تدمير إمبراطورية السارزان ـ المسلمين ـ فلن يتمجد الرب بعودة اليهود إلى وطن آبائهم وأجدادهم"، وهذا القول مقتبس من كتاب حياة محمد لجورج بوش (الجد الأكبر) لبوش الابن، وهذا الكتاب هدى الكثيرين لفكر (جورج بوش الابن) وأبيه قبل ذلك (1).
_________
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ أحمد حجازي السقا ص43(2/122)
بوش والحرب الصليبية
بعد أن عرضنا للخلفية الدينية المتطرفة للرئيس بوش، فإن ما يهمنا هنا بالدرجة الأولى، هو التعبير السياسي لها، والذي تجلى بعد أحداث 11 سبتمبر، في ذلك الخطاب الديني المتطرف، الذي يشبه إلى حد كبير الخطاب الديني، الذي كان سائداً إبان الإمبراطورية الرومانية، وتكفي عودة سريعة في هذا الصدد إلى جملة خطابات وتصريحات الرئيس بوش، التي أعقبت أحداث سبتمبر، للتيقن التام من ذلك، فعبارات الحرب العادلة والحرب الصليبية، (وهي العبارة التي نطق بها الرئيس بوش) ثم عاد فلحسها تحت وطأة المخاوف التي أبدتها بعض أوساط النخبة الأمريكية الحاكمة من عواقبها، فضلاً عن تقسيم العالم إلى معسكر خير وآخر للشر، تتقاطع كلياً مع تخريجات السلطة الدينية الكنسية، في عصر الإمبراطورية الرومانية التي ابتدعتها لإسعاف القيادة السياسية في الإمبراطورية، من تحقيق أهدافها الاستعمارية على بلدان المعمورة قاطبة. فالخطاب هو الخطاب، واللغة هي اللغة، والمفردات هي المفردات، لا يكاد يفرقها عن بعضها بعضاً سوى الزمن والمكان اللذين صيغت وخطت وقيلت فيهما، والشخوص الذين صاغوها وخطوها ونطقوا بها، فهل نقول ما أشبه الليلة بالبارحة؟ يبدو أن الأمر كذلك .. أو ليس التاريخ في بعض فصوله، يعيد إنتاج نفسه مرة بصورة مأساوية، وأخرى بصورة تراجيدية (1).
نعم إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن هذه المرة ليس بناء علي تخريجات سلطه كنسية، بل بناء علي رغبة جماعات مسيحية يمينية متطرفة، استطاعت السيطرة على مقاليد الحكم في أمريكيا، وتمكنت من الدفع بقيادة سياسية متطرفة إلي البيت الأبيض، ممثلة بجورج بوش الابن، الذي فاق سابقيه جميعاً في تأثره بالتخريجات اللاهوتية لسياسته، والتي كان أشهرها عبارة (الحرب الصليبية) التي وصف بها حربه على أفغانستان، حيث حاول البعض التقليل من شأنها، واعتبارها زلة لسان، متغافلين عن الكم الهائل من التعبيرات الدينية التي زخر بها خطابه السياسي.
فما يصدر عن رئيس اكبر دوله في العالم لا يمكن أن يكون زلة لسان، بل انه يعنى ما يقول حرفياً، ويبدو إن هذه كانت زلة لسان على النمط الفرويدي لا زلة لغة،
_________
(1) حول علاقة الدين بالدولة الأمريكية الحديثة / محمد الصياد ـ جريدة الخليج 15/ 2/2 .. 3م عدد8672(2/123)
وان بوش يضمر في الحقيقة ما يعلنه بات روبنسون وغيره من قساوسة الأصوليات المسيحية الأمريكية المتطرفة، حيث إن ما كان يطمح إليه هؤلاء على الدوام ـ بحسب القس فريتس - هو "قائد على منوال شخصية داود الإنجيلية، يوحد مطامحهم السياسية مع رؤاهم الدينية". وكل المؤشرات تدل على إيمانهم بأنهم وجدوا هذا القائد اليوم في شخص الرئيس بوش. يقول (دانا ميلباك) في جريدة واشنطن بوست: "أن بوش توصل إلى الاستنتاج بأن قيادته لأمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر كانت مسألة قدر .. كانت إرادة الله" (1). ويقول المقربون منه إن هجمات 11 سبتمبر لم تعطه معنى لرئاسته فقط، بل منحته مهمة ورسالة في الحياة. فبوش يعتبر قيادته لأمريكا بعد 11 سبتمبر أمراً إلهياً واختياراً ربانياً" (2). وربما كانت هذه الجبرية الدينية هي مصدر ما وصفه البعض بـ (التفاؤل الساذج) الذي يطبع خطاب بوش وقراراته، حتى أن أصدقاءه يأخذون عليه ذلك.
فبوش الابن الذي يفتخر بأنه لا يقرأ الكتب، ويسمى الإغريق بـ (الاغارقه) والذي تلعثم طويلاً، ولم يعرف في المناظرة التلفزيونية التي سبقت انتخابه اسم الحاكم العسكري لباكستان، لا يثير إعجابه، ولا يؤثر فيه، إلا كتاب واحد هو التوراة. وحينما سأل الصحفي الشهير (جيم لهرر) جورج بوش أثناء مناظرة تلفزيونية مع (آل غور) عن برنامجه اليومي، رد بوش بأنه يبدأ يومه بقراءة في الكتاب المقدس، وإطعام كلبه، وإعداد القهوة لزوجته. كما صرح مراراً بأن المسيح هو مثاله السياسي. وهذه مظاهر جديدة على السياسة الداخلية الأميركية، كما لاحظ البروفيسور (جون أسبوزيتو) مدير مركز التفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة (جورج تاون)، في كتابه الجديد (الحرب غير المقدسة) (3).
_________
(1) جريدة الخليج ـ11ـ3ـ2003م ـ عدد 8696
(2) الواشنطن بوست 09/ 03/2003م
(3) البوشنية .. سيره يهودية / بقلم شوقي أبو شعيره ـ جريدة الخليج العدد 8609 - 14 ديسمبر 2002م(2/124)
بوش يركب الزوبعة ويوجهه العاصفة
قال سانت بوش الابن في خطاب القسم يوم 21 يناير عام 2001م: "بوسع ملاك أن يركب الزوبعة وأن يوجه هذه العاصفة". وحسب تحليل هوارد فاينمان، فإن هذه العبارة مأخوذة من كتابي أيوب وحزقيال، فالزوبعة ترمز إلى صوت الرب!. يقول حزيقيال: "أوحى الرب إلى حزيقيال الكاهن ابن بوزي عند جوار نهر خابور، في ديار الكلدانيين، إذ كانت على يد الرب، فابصرت ريحاً عاصفة تهب من الشمال مصحوبة بسحابة هائلة، ونار متواصلة متوهجة بهالة حيطة من الضياء، ومن وسطها يتألق مثل النحاس اللامع البارق من وسط النار، ومن داخلها بدا شبهه أربعة كائنات حية تماثل في صورها شبه إنسان، وكان لكل واحد منها أربعة أوجه، وأربعة أجنحة" (سفر حزقيال).
موت الشرير
كم مره ينطفئ مصباح الأشرار؟ وكم تتوالى عليهم النكبات، إذ يقسم لهم نصيباً في غضبه؟ يصبحون كالتبن في وجه الريح، وكالعاصفة التي تطوح بها الزوبعة. أنتم تقولون: إن الله يذخر إثم الشرير لأبنائه، لا! إنه ينزل العقاب بالأثيم نفسه، فيعلم. فليشهد هلاكه بعينه، وليجرع غصص غضب القدير. إذ ما بغيته من بيته بعد فنائه، وقد بتر عدد شهور حياته (سفر أيوب).
كما قال الرئيس (المؤمن) (بوش) في ذكرى أحداث سبتمبر 2001م: إن النور يضئ في الظلمة والظلمة لن تهزمه". وحسب المرجعية التي وضعها السيد (فاينمان) لهذه العبارة، فهي إشارة إلي إنجيل يوحنا، ومأخوذة من كتب اليهود المقدسة حول مجيء المسيح! وعلينا أن نصدق بأن البيت الأبيض محفوف بالملائكة، وأن الرئيس قديس يتخفى في جلد نيرون! (1). http://www.aljazeera.net/books/2003/4/ - TOP
إعلان الحرب من كاتدرائية
إمعاناً في إضفاء المعاني الدينية على سياسته، وإحاطتها بهالة من القداسة، وكأن ما يقوم به ما هو إلا تنفيذاً لإرادة إلهية، عمد الرئيس بوش إلى اللجوء إلى
_________
(1) أفق آخر خيري منصور - سانت بوش ـ الخليج - 10ـ3ـ2003م ـ عدد 8695(2/125)
الكنيسة لإعلان حربه المقدسة على الارهاب. ففي 13 سبتمبر 2001م جرى تنظيم قداس لا مثيل له في الكاتدرائية الوطنية، وصلى فيها الرئيس بوش وعقيلته، وأربعة رؤساء سابقين ... وجميع الشيوخ والنواب تقريباً. وترأس كاردينال وحاخام وأمام (شيخ) بدورهم هذه الصلاة، وكان إنجيلي التلفزة الأكثر شهره في العالم، القس (بيلى غراهام)، الذي قام بهداية (جورج دبيليو بوش) نفسه قبل خمس عشرة سنه خلت، قد ألقى عظته التي دعا خلالها إلى إعادة البناء على أسس راسخة تقوم على الإيمان بالرب.
وبعد هذه العظة، صعد الرئيس (بوش) إلى المنبر، وقدم بدوره عظة كان مستشاره التوراتى الأصولي (مايكل جرسون)، قد أعدها له حيث قال: "إن مسئوليتنا تجاه التاريخ جلية ... علينا أن نرد على هذه الاعتداءات، ونحرر العالم من الشر" (1) ... وقد اتسمت هذه العظة بنبرتها الدينية، حيث علقت صحيفة واشنطن بوست عليها، قائلة: منذ تحول مذهب المحافظة الديني إلى حركة سياسية، يتولى رئيس الولايات المتحدة، لأول مره، زعامتها فعلاً ـ وهى زعامة لم يحظ بها قط (رولاند ريغان) نفسه، رغم ما أحاط به المحافظون الدينيون من رعاية. فقد أظهرت المجلات المسيحية والإذاعات والتلفزيونات الرئيس بوش وهو يصلى، بينما كان الخطباء الوعاظ يصفون زعامته بأنها نعمة من عند الرب. وقد شهد موكب من القادة الروحيين ممن إلتقوه على إيمانه، وشجعت بعض مواقع (الويب) الناس على الصوم والصلاة من أجل الرئيس (2).
وفي الرابع عشر من سبتمبر، التزمت الدول الثلاث والأربعون المنتمية للمجلس الأوربي ودول أخرى، بالوقوف ثلاث دقائق صمت، تحية لذكرى ضحايا الاعتداءات، تلبية لدعوة الرئيس بوش، حيث لم يكن لهجوم مماثل على أي بلد آخر، أن يطلق مثل هذا القدر المتدفق من العواطف، و بدا وكأن العالم كله قد شعر بفقدان البراءة مثل الأمريكيين تماماً (3). وكتب (جون ماري كولمباني) عموداً شهيراً
_________
(1) الحرب الصليبية - جيمس كارول - ترجمة د. قاسم عبده قاسم - ص48
(2) التضليل الشيطاني / تيرى ميسان ـ ص72
(3) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص12(2/126)
بعنوان (نحن كلنا أميركيون) في لوموند بتاريخ 12 سبتمبر 2001م تضامناً مع الأميركيين عقب تفجيرات 11 سبتمبر، وأثار هذا العمود ردود فعل في فرنسا، إذ رأى فيه البعض مبالغة وانسياقاً وراء الإدارة الأميركية (1)، التي أضفت، بتحريكها الشعور الديني، طابعاً من القدسية على ضحايا الاعتداءات، وعلى روايتها للأحداث على حد سواء، وغدا بعد ذلك كل طعن بصحة الرواية الرسمية، في العالم أجمع، بمثابة اختراق للقدسيات.
وهكذا عبر الجميع عن قبولهم الضمني بزعامة أصولي ملهم، يعلن عن عزمه على تولى قيادتهم في معركة هائلة ضد الشر، مما يعني أن جنون إنجيلي التلفزة، الصوفي السياسي أصبح معدياً! وإلا فلا يمكن تفسير هذا الاندفاع الورع، لا بالصدمة النفسية ولا بالاحترام الذي نكنه للأموات. فبالرغم من أن الولايات المتحدة كانت في الأصل تيواقراطية أسسها عدد من المطهريين الفارين من تعصب التاج البريطاني، إلا أن ذلك لا يعنى أن تصبح أمه متزمتة، يحل فيها انجيليو التلفزة محل الاستراتيجيين العسكريين. فلا وجود على كل حال، لأي سابقة تاريخية تلا فيها رئيس أمريكي إعلان الحرب من داخل كاتدرائية (2)، مما يعني أن لحظة الصلاة تلك شكلت نقطة تحول تاريخي، حيث كتبت واشنطن بوست تقول: إن الولايات المتحدة دخلت الحرب حينما دوى النشيد الوطني في أجواء الكاتدرائية. تلك هي ملاحظة يمكن توسيعها، والقول بأن العالم قد دخل الحرب باشتراكه في الجنازة الأمريكية.
_________
(1) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 ـ جون ماري كولمباني- ط1 2002 - الناشر فايار، باريس- عرض كامبردج بوك ريفيوز - الجزيرة نت
(2) التضليل الشيطاني / تيرى ميسان ـ ص70ـ71(2/127)
الفصل الرابع
أفغانستان .. بدايتها جهاد .. ونهايتها إرهاب
إعداد المسرح .. !
لمعرفة طبيعة الحملة التي شنتها أمريكا على أفغانستان، لابد من إلقاء الضوء على خلفية هذه الحملة، والمقدمات التي أوصلت إليها، ابتداء بالغزو السوفيتي لأفغانستان، ومروراً بحركة الجهاد ضده، ووصولاً بطالبان والقاعدة، واحتلال أفغانستان من قبل القوات الأمريكية. ففي سنة 1979م أقدم الاتحاد السوفيتي السابق على غزو أفغانستان واحتلالها. وخوفاً من انتشار النفوذ الشيوعي، مدت الولايات المتحدة يد المساعدة في تنظيم وتسليح المجاهدين، مقاتلي الإسلام في سبيل الله، الذين كانوا سيخوضون حرباً مقدسة ضد الجيوش الشيوعية السوفيتية، التي لا تعرف الله، فيلحقوا بها الهزيمة بعون الله، والأموال الأمريكية وصواريخ ستنغر (1)، حيث تقول الحقائق المتوفرة أن كل ما تم في أفغانستان منذ استيلاء الشيوعيون عليها وحتى الآن، كان مخططاً أمريكياً من الألف إلى الياء، والقصة نعرضها كما هي وكما أوردها الأستاذ (محمد حسنين هيكل) في كتابه من نيويورك إلى كابول، على لسان (بريجنسكى) مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس (كارتر).
يقول هيكل: "في الساعة الثانية من صباح يوم 27 ديسمبر 1979م انعقد مجلس الأمن القومي بحضور الرئيس كارتر، لبحث الدخول العسكري السوفيثى في أفغانستان، ولاستعراض الخيارات المفتوحة أمام الولايات المتحدة للرد عليه. حيث انتهت مداولات مجلس الأمن القومي الأمريكي برئاسة (جيمي كارتر) صباح 27 ديسمبر 1979م بتوجيه رئاسي، يقضي بأن يتوجه مستشار رئيس الآمن القومي (رنجنيو برجينسكي) إلى منطقة الشرق الأوسط بادئاً بالقاهرة، لمقابلة الرئيس (أنور السادات) والبحث معه في تنظيم جهد إسلامي شامل يساند المقاومة الإسلامية الأفغانية، في مواجهتها لجيش الاحتلال السوفيتي، ثم يتوجه مستشار
_________
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص137(2/128)
الأمن القومي بعد القاهرة إلى الرياض، لمقابلة الملك خالد، وولي العهد الأمير فهد، ووزير الدفاع الأمير سلطان، ويجري معهم محادثات تضمن حشد موارد السعودية ونفوذها لقيادة جهاد إسلامي ضد الشيوعية في أفغانستان، وإذا نجح (برجينسكي) في مهمته مع الرئيس السادات، فإنه يستطيع أن ينقل إلى القادة السعوديين ما يطمئنهم إلى أنهم ليسوا وحدهم في ساحة الجهاد. وأخيراً يتوجه مستشار الأمن القومي إلى باكستان ليقوي موقف الحكومة فيها بموارد السعودية ونفوذها، وبثقل مصر ووسائلها، وحتى تثق هذه الحكومة في إسلام أباد أنها سوف تكون وسط عمل إسلامي يلتف فيه من حولها، ويجمع على أرضها قوى الإسلام وإمكانياتها. وكان ذلك حلم باكستان، الذي بدأ بعيد المنال والآن أصبح في متناول اليد.
ويضيف هيكل: وطوال الأسبوع الأول من شهر يناير 1980م كان (زنجينيو برجنسكي) مستشار الرئيس (جيمي كارتر) للآمن القومي في زيارة سرية ممتدة للشرق الأوسط. ففي يوم 3 يناير قابل الرئيس (أنور السادات) لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة، وفي اليوم التالي 4 يناير كان في جدة يقابل الأمير فهد والأمير سلطان، ويوم 5 يناير وصل (برجنسكي) إلى إسلام أباد، ليرتب الأرضية للجهاد باسم الإسلام ضد الإلحاد (1).
وبالرغم من هذا التحرك الأمريكي لتجنيد دول إسلامية للجهاد ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، إلا أن المؤامرة الأمريكية كانت سابقة على الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، وبالذات بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، حيث تلقت المخابرات الأمريكية تكليفاً من د. بريجنسكي مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، بتحضير وإعداد دراسة شاملة حول الحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم العربي .. حتى تعرف الإدارة الأمريكية أفضل الأساليب للتعامل معها، حتى لا تتكرر مفاجأة الثورة الإسلامية في إيران (2).
_________
(1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 241
(2) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص97 - الفرسان للنشر - ط11 2003(2/129)
بريجنسكى يكشف المستور
كشف بريجنسكي أخيراً عن تفاصيل أكبر لحقيقة الحرب في أفغانستان، وكيف أنها بدأت حتى قبل الاحتلال السوفيتي. وقد كشف عن ذلك في سياق الحقائق، التي تكشف أخيراً، أن (برجنسكي) كان يتستر عليها بأستار سميكة من الغموض، ولكنه أخيراً فتح خزائن ذاكرته وأوراقه، واعترف في حديث طويل مع المجلة الفرنسية (لا توفيل أوبسرفاتور) (1) اعترافاً كاملاً وافياً، وقد جرى الحديث بالنص التالي:
سؤال: إن المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية (روبرت جيتس)، كتب في مذكراته، التي صدرت أخيراً بعنوان (من الظلال) أن المخابرات الأمريكية بدأت تساعد المجاهدين في أفغانستان بشكل مكثف، قبل ستة شهور من دخول الجيش السوفيتي إلى ذلك البلد، وقد كنت أنت في تلك الأيام مستشاراً للأمن القومي، لرئيس الولايات المتحدة، معنى ذلك أنك تعرف، وأنه كان لك دور، فهل ما ذكره جيتس صحيح؟.
برجينسكي: ليس بالضبط .. نحن لم نقم بـ زق الروس حتى يتدخلوا، ولكننا عارفين بما نفعل .. رفعنا درجة احتمال تدخلهم.
سؤال: هل معنى ذلك أن الروس كانوا على حق في تبرير دخولهم في أفغانستان على أساس أنهم اضطروا لمواجهة عملية سرية تقوم بها الولايات المتحدة ضدهم؟ كانوا يقولون ذلك ولم يكن أحد يصدقهم، والآن يظهر أن فيما قالوه شيئاً من الحقيقة. ذلك أمر يدعو إلى الأسف.
_________
(1) اجريت المقابله في يناير عام 1998 واعيد طباعتها تحت عنوان " كيف انشأت والرئيس كاتر المجاهدين- بريجنسكي - اعيد طبعه على موقع شبكة Counter Punch في 8 اكتوبر 2001. راجع كتاب "ما وراء 11 سبتمبر (مختارات معارضة) - تحرير فل سكراتون - تعريب د. ابراهيم يحيى الشهابي - راجعه وفيق زيتون - ص 35 - الحوار الثقافي - ط1 2004(2/130)
برجنسكي: الأسف على ماذا؟ إن العملية السرية التي قمنا بها كانت فكرة رائعة، لقد أدت إلى دخول السوفيت في فخ تمنينا أن يدخلوا في مثله .. وقد دخلوا .. فهل تريدون أن أقول لكم أنني آسف على مخطط وضعناه ونفذناه ونجح بامتياز؟ (1).
سؤال: هل تعرف أن ذلك معناه أنكم أعطيتم السلاح للإرهابيين، الذين أصبحوا أعداء لكم؟ ... إنكم خلقتم بذلك صورة الإسلام الإرهابي.
برجنسكي: أيهما أفضل للغرب انهيار الاتحاد السوفيتي، أو ممارسة الإرهاب بواسطة بعض الجماعات الإسلامية؟ أيهما أخطر على الغرب طالبان أو الاتحاد السوفيتي؟ (2).
وجواب بريجنسكي واضح، حيث كانت هزيمة السوفييت بالنسبة للأمريكيين أهم، مما قد تشكله الجماعات الإسلامية من خطر. فهي من ناحية، إثباتاً وتبريراً لعقيدة ريغان المتمثلة بتشجيع المقاومة المسلحة للأنظمة الشيوعية، وإذلالاً مؤكداً للسوفييت مقارنة مع ما عاناه الأمريكيون في فيتنام، ومن ناحية أخرى كان لهزيمة السوفييت في أفغانستان عواقبها، التي انتشرت في المجتمع السوفييتي ومؤسساته السياسية، وساهمت بشكل عظيم في تفكك وانهيار الإمبراطورية السوفييتية. فقد هزم السوفييت في نهاية المطاف بسبب ثلاثة عوامل، حيث لم يستطيعوا أن يجاروا بشكل فعال ـ أو علي الأقل يتعادلوا مع تقنية الحرب الأمريكية، ولا أن يواجهوها. أما السبب الثاني فكان الأموال السعودية، بينما تمثل السبب الثالث في الأعداد الضخمة من المسلمين وحماسهم للقتال (3).
يقول بريجنسكي: "يوم تدخل الروس بجيشهم في أفغانستان كتبت للرئيس كارتر مذكرة قلت له فيها: إن أمامنا الفرصة الآن لكي نجعل الاتحاد السوفيتي يذوقون مرارة الكأس التي شربناه في فيتنام. والحقيقة أننا ولمدة عشر سنوات، جعلنا الروس ينزفون دماً ولا ينزفون جهداً فقط، فهم حين دخلوا أضروا باقتصادهم
_________
(1) يبدو أن الإدارات الأمريكية المختلفة مغرمة بمثل هذه العمليات السرية ومنذ زمن طويل، وسيتضح لنا كيف أن أحداث 11 سبتمبر ما هي إلا عملية سرية نفذتها الإدارة الأمريكية لخلق مبرر لحملتها الصليبية على العالم الإسلامي.
(2) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 243
(3) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 3/ 2/2003 م(2/131)
وأرهقوا سلاحهم وأضعفوا معنويات جنودهم، وأضروا بهيبتهم، وذلك أدى في النهاية إلى تمزق الإمبراطورية السوفيتية" (1).
ويوضح الأستاذ محمد حسنين هيكل الأمر أكثر، بقوله: "فالعملية كما اتضح الآن، كان وراءها أكثر مما ظهر منها، لأن الجهاد الإسلامي الذي أعلن ضد الاتحاد السوفيتي لم يكن رد فعل طبيعياً لدخول الجيش السوفيتي، وإنما كان خطوة وسط في سياق جرى قبلها واستمر بعدها. كانت الخطوة الأولى قراراً أمريكيا بإزعاج السوفيت في جمهورياتهم الجنوبية، من قواعد في أفغانستان، حيث أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بدأت التحريض ضد الاتحاد السوفييتي باسم الإسلام ومن وراء حدود أفغانستان، بينما النظام الملكي يحكم في كابول، والعرش عليه الملك (ظاهر شاه) والسلطة الحقيقية في يد ابن عمه، ورئيس وزرائه السردار داود خان. وقد أدى التحريض إلى قلاقل أوصلت إلى عزل الملك (ظاهر شاه) وجاءت بـ (داود خان) لرئاسة الدولة في محاولة لتهدئة التحريض ولم تنجح" (2).
هذه هي قصه الحملة الأمريكية في أفغانستان، وقصة ما سمي بالجهاد الإسلامي، وما أفرزه من تنظيمات وجماعات إسلامية كان على رأسها تنظيم القاعدة، الذي أصبح بقدرة قادر العدو الأول لأمريكا. ففي حين أن العدو الحقيقي للعرب والمسلمين كان الاغتصاب الإسرائيلي في فلسطين، فإن العمل العربي والإسلامي ذهب للجهاد في أفغانستان مقاتلاً ضد الإلحاد المادي، الذي دخل من بوابات (كابول)، وكانت الخطط الأمريكية محكمة، والإشراف الباكستاني حازماً يشرف عليه رئيس المخابرات العسكرية الباكستانية الجنرال (حميد غول)، والتمويل الخليجي سخياً، وحشد السلاح وتجنيد المتطوعين شديد الهمة والعزم. وتقول كافة الشواهد أن شباباً عربياً مسلماً أضاع نفسه وهدفه وحياته في حرب لا معنى لها، ضد طرف لم تثبت عداوته للعرب ولا للمسلمين، لكنه اتهم بالإلحاد واختص بالعقاب، رغم وجود كثيرين غيره في عالم ضاع فيه الكثير من اليقين. فسقط شباب كثيرون ـ مسلمون وعرب ـ في هذه الفجوة بين الجهاد والإرهاب، وخرجوا من زمنهم ومن المستقبل،
_________
(1) الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد ـ ص 33
(2) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص130(2/132)
وكانت الأنظمة التي أرسلتهم إلى الجهاد ضد الإلحاد، هي نفسها الأنظمة التي استقبلتهم حين عودتهم إلى بلادهم بإيداعهم وراء قضبان السجون، بتهم ثابتة في بعض الأحيان، وبشكوك مستريبة مقدماً في أحيان أخرى (1).
سيناريو جاهز
في ظل التوجهات الأمريكية منذ عقدين من الزمان، والتي اتخذت الإسلام كعدو بديل، في استراتيجيتها الكونية، وسعت جاهدة لخلق وتضخيم الخطر الإسلامي لإقناع العالم بتوجهاتها العدائية تجاه الإسلام، فإنه لم يكن صدفة أن تلجأ الإدارات الأمريكية المتلاحقة إلى تضخيم هذا الخطر، بل وتشارك في صناعته، عن طريق استخدام بعض الحركات الإسلامية ورموزها، لتحقيق هذا الهدف. وأي مراجع ومدقق لبعض الحركات الإسلامية أو الأصولية ـ كما تسميها أمريكيا ـ سيكتشف أنها في غالبيتها نشأت وترعرعت بمباركه أمريكية (2).
فقد نجحت وكالة الاستخبارات الأميركية في الثمانينات في تجنيد متشددين إسلاميين، وتنظيم صفوفهم في حرب
_________
(1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 131
(2) نشرت جريدة الشعب المصرية دراسة "حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامى" التي أعددتها بعد أحداث 11 سبتمبر حيث علقت عليها بالقول: " تنشر الشعب هذا البحث الذي ورد إليها، وهو يكشف إلي أي حد سيطرت الخرافة والأسطورة على كثير من صناع القرار في الغرب، ومنهم رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية. البحث في عمومه جيد، لولا الأخطاء الحتمية التي يقع فيها من يتناول الشأن الإسلامي بمرجعية غير إسلامية، وعلي سبيل المثال فإن البحث الذي تصدي لكشف مدى انحراف الفكر الغربي، المتعلق بمنطقتنا، لا يتورع عن تبنى مقولاته ومقولات عملائه، من أن الولايات المتحدة هي التي صنعت الإرهابيين ومولتهم كي تستعملهم كذريعة بعد ذلك في الهجوم علي العالم الإسلامي وتدميره. وهي مقولة خاطئة، ويترتب علي الاقتناع بها أن نوغل في مزيد من الخطأ. التصور الصحيح للمسألة، أن أمريكا، كممثلة للغرب، وطليعة له، قد استطاعت أن تؤمن في معظم دول المنطقة، حكاما عملاء، وبتعبير ريتشارد نيكسون في كتابه " انتهزوا الفرصة"، أنهم ليسوا سوي وكلاء للولايات المتحدة في حكم شعوبهم .. وأن معظم من يطلقون عليهم الإرهابيين، هم الفئة المجاهدة التي رأت المخاطر المحدقة بالأمة، وحاولت أن تقاوم انجرافنا للهاوية، وقد كلف الغرب الوكلاء المحليين بمحاولة القضاء عليها، كما كلفت إسرائيل، وعندما عجزوا، جيش الغرب جيوشه كلها للقيام بالمهمة. لن نقول أن قصور البحث في تناول هذه النقطة لا ينال منه، لكننا في نفس الوقت نؤكد على أهمية وغزارة المعلومات الواردة فيه، وخطورتها". جريدة الشعب ـ مصرـ 12/ 10/2001م ـ ومع احترامي الشديد لكاتب هذا التعليق، الذي افترض بأنني اكتب بمرجعيه غير إسلامية، فإنني اعتقد انه غير رأيه الآن بعد تكشف كثير من الحقائق عما يسمى بتنظيم القاعدة، وتكشف الدور الخطير الذي لعبه ولا يزال يلعبه في خدمة المخططات الأمريكية.(2/133)
عسكرية ضد القوات السوفياتية في أفغانستان، والحكومة الشيوعية الأفغانية المتحالفة معها. وكانت الولايات المتحدة حسب (بريجنسكي) تسعى لاستدراج الروس إلى الفخ الأفغاني، وكانت ردة فعل كارتر ـ الرئيس الأمريكي الأسبق ـ على الغزو السوفياتي لأفغانستان مبنية على تأويل مغلوط للقرار الروسي بالتدخل. وبالنسبة للريغانيين الذين استلموا الحكم بعد كارتر، فقد كان الهدف الوحيد لديهم هو استنزاف الروس والتشهير بالسوفيات لدى الرأي العام، وكانت النتيجة المباشرة تدمير أفغانستان، وحصول تداعيات أشد سوءا بعد انسحاب الروس.
فبعد الانسحاب السوفياتي من افغانستان، استولت حركة (طالبان) -التي تدرب أعضاؤها على أيدي الباكستانيين- على كابول (1994) ثم على القسم الاكبر من البلاد، حيث تلقت الحركة دعماً عملياً من الولايات المتحدة حتى العام 2001. وبحسب بعض المصادر فان مسؤول وكالة المخابرات المركزية الاميركية في اسلام اباد، قام بزيارة كابول عام 1996 للاجتماع بزعماء طالبان. وقد نجم عن حرب افغانستان المأسوية عقدين كاملين من الإرهاب والحرب الأهلية. ملايين اللاجئين وتجارة مخدرات غير خاضعة للرقابة، اضافة إلى ثقافتي الكلاشنيكوف والجهاد، حيث تم توجيه بعض الجهاديين نحو كشمير و الشيعة وغيرهم من الاقليات في كل من افغانستان وباكستان، فيما اندفع قسم آخر منهم إلى دول عربية واسلامية اخرى، ثم انتقل الإرهاب إلى داخل الولايات المتحدة نفسها، وذلك لخلق حالة عامه من عدم الاستقرار في المنطقة ولابراز الخطر الإسلامي الذي يهدد السلم العالمي. فقد كانت سنوات حكم ريغان سنوات اقتصاد ضعيف، ولم يستفد من النمو إلا الأغنياء، وأصاب الركود الأجور الفعلية، وزادت ساعات العمل. والحال أنه ليس من السهل الاحتفاظ بالسلطة السياسية في ظروف كهذه، وثمة طريقة واحدة صالحة ومعروفة، هي بث الخوف. وقد استخدم هذا الأسلوب طوال عهد ريغان، ثم بوش، حيث دأبت القيادة على اختلاق الشياطين الواحد تلو الآخر لإرهاب السكان وحملهم على الإذعان (1).
_________
(1) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـترجمة سامي الكعكي ـ بقلم/ إبراهيم غرايبة29/ 7/2004م(2/134)
فأفغانستان عدوة اليوم، كانت قبل فتره حليف يتلقى الدعم من أمريكيا بكل الوسائل، والأفغان العرب الذين تطاردهم أمريكيا والحكومات العربية اليوم، هم حلفاء أمريكا بالأمس القريب ... الخ. وهذا يعني أن ما قامت به أمريكيا في السابق ما هو إلا عملية تجهيز للمسرح وللمعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر كما يسمونها، حيث تم إعداد المسرح بالكامل منذ فترة، وتم توزيع الأدوار، ولم يتبقَ إلا إشعال فتيل الحرب، والذي تمثل في تفجيرات نيويورك وواشنطن، والذي نؤكد أن الذين قاموا بهذا العمل الجبان هم من داخل أمريكيا، ومن الجماعات المسيحية الأصولية ـ وما أكثرها في أمريكيا ـ والتي تسعى إلى استعجال العودة الثانية للمسيح، والتي لابد أن يسبقها حسب اعتقادهم معركة فاصلة تسمى هرمجيدون بين قوى الخير، ممثلة بأمريكا وإسرائيل، وبين قوى الشر، ممثلة بالعالم الإسلامي وروسيا ودول أخري.
وبالرغم من إدراكنا لخطورة الحروب الدينية، وأنها ليس في مصلحة أي طرف، إلا أننا لن ندس رؤوسنا في التراب وكأن الأمر لا يعنينا، بل يجب توضيح هذا الأمر للرأي العام وفضح المخطط الأمريكي الرهيب الذي يسعى إلى زج العالم الإسلامي، بل العالم أجمع في صراع ديني رهيب، لتنفيذ نبوءات وخرافات توراتية مزيفه. فديننا الإسلامي يحثنا على الوقوف في وجه الظلم، وعلينا واجب يجب أن نقوم به من أجل إفشال هذا المخطط الرهيب، ليس فقط لحماية الإسلام والمسلمين، بل وأيضاً لتجنيب العالم بأسره، وأمريكيا بالذات ويلات هذه الحرب التي يريدها الساسة الأمريكان حرب عالمية ثالثة، أو ما يسمونها هرمجدون أو المحرقة الكبرى، التي يباد فيها ثلثي الجنس البشري، ليتحقق ما يسمونه العصر الألفي السعيد، ويعود المسيح إلى الأرض ويحكم العالم من مقره في القدس.
إنها خرافات ونبوءات رهيبة، ولكنها للأسف هي التي تحكم أمريكا الآن، وترسم سياستها الخارجية تجاه المنطقة والعالم، والمصيبة الكبرى، أن الاعتقاد بهذه الأمور ليس قاصراً على جماعات دينية متطرفة، بل يشمل غالبية صناع القرار في أمريكيا، من وزراء ورؤساء أمريكيون وقادة وجنرالات في وزارة الدفاع. وقد بينا سابقاً، كيف أن الرئيس الأمريكي السابق (رولاند ريجان) كان من أشد المؤمنين بهذه(2/135)
الخرافات؟. أما إدارة (بوش الابن) فكلها من اليمين المتشدد، التي تتميز ـ ليس فقط بانتمائها للتيار الأصولي المسيحي ابتداء من الرئيس ونائب الرئيس ووزير الدفاع، وعدد آخر من أقطاب الحكومة، بل والأخطر من ذلك هو غلبة التركيبة العسكرية لهذه الإدارة، حيث تعتبر من أكثر الإدارات في تاريخ ـ أمريكيا، التي تضم عسكريين بين صفوفها حيث بلغ عددهم أكثر من 30 عسكرياً مما يدل على التوجه العدواني والشرير لهذه الحكومة، والتي ستجر العالم إلى حروب مدمرة. فوزير الدفاع رامسفيلد، كان سبب اختياره لهذا المنصب ـ كما أشار (د. برهان غليوم) في مقابله مع قناة الجزيرة (1) ـ هو اطروحه قدمها لوزارة الدفاع الأمريكية، رسم فيها سيناريو الحرب بين قوى الخير والشر، والتي ستؤدى إلى معركة هرمجيدون، حيث لم يكن مصادفة أن يدعى أن جماعات إسلامية بقيادة أسامه بن لادن، ستقوم بالهجوم على نيويورك بواسطة الأقمار الصناعية، وتتسبب في أحداث دمار في المدينة، مما يتطلب رد أمريكي كبير على ذلك!!؟؟
قبيلة الإستراتيجيين الأمريكيين والإبقاء على السيطرة على العالم
في تحليله للمقاربات النظرية للإستراتيجية يقترب (ألان جوكس) في كتابه (إمبراطورية الفوضى) من (تحقيق أنثروبولوجي في قبيلة الإستراتيجيين الأمريكيين)، موضحاً أن هم هؤلاء هو كيفية الإبقاء على السيطرة الأمريكية على العالم؟ ويقول إن سنة 1993م شهدت ميلاد ثلاث مقاربات استراتيجية لعالم ما بعد الحرب الباردة.
أولها: (صدام الحضارات) لهيتنغتون الذي يعتبر من أبرز المنتجين للمقاربات لصالح المؤسسة السياسية العسكرية رغم انتمائه للمدرسة الواقعية، فإنه لا يؤمن بأولية الدول ـ الأمم كهويات إستراتيجية حقيقية في العلاقات الدولية، فأطروحته حول صدام الحضارات تقول بالصراع بين الحضارات، وليس الدول، وبالتحديد بين الحضارة الغربية والحضارتين الإسلامية، والصين، مع الإصرار على ضرورة منع أي
_________
(1) لقاء مع د. بهام غليوم مع قناة الجزيرة(2/136)
توافق بينهما حتى لا تعملا سوياً ضد الحضارة الغربية. وينتقد الكاتب أطروحة هيتنغتون وتصنيفه للحضارات، بإقصائه الأرثوذكس من الحضارية الغربية، بدعوى أنهم ليسوا من الكاثوليك ونظرته التبسيطية للإسلام. ويعتبر أن هم هيتنغتون في حقيقة الأمر هو كيف يمكن تقسيم العالم للسيطرة عليه؟.
ثانيها: (الثالوث التوفلري) أي الصدام بين الأمواج الثلاث للحضارات (الزراعية والصناعية والمعلوماتية) حيث تعتبر (ألفين وهادي توفلر) أن هذه الأمواج هي بنية عالم اليوم، وحسب (ألفين) و (هايدي توفلر) فإن (الحرب المعلوماتية) ـ بل حرب المعرفة ـ كـ (حرب الموجة الثالثة)، تأتي من ظهور الإليكترونيك الذي يحدث ثورة تكنولوجية ثالثة في تاريخ الإنسانية. ويقول المؤلف: إن مقاربتهما هذه تعتبر أن الأمواج الثلاث هي التي تطبع عالم اليوم حيث تتعايش فيما بينها بين موجة سفلى (الزراعية)، وموجة متوسطة (الصناعية)، وموجة عليا (المعلوماتية).
ثالثها: وآخرها مقاربة (أنطوني ليك)، مستشار الأمن القومي لكلينتون الذي طرح مقاربة (التوسع) أو التوسيع، لتحل محل (الاحتواء)، التي عُمل بها خلال الحرب الباردة. ومقاربة التوسيع تخص مجالين، اقتصاد السوق (ضد الاقتصاد الموجه)، والديمقراطية التمثيلية (ضد الأنظمة التسلطية والاستبدادية). ويقول المؤلف: إن مقاربة (ليك) الذي لاحظ تزايد عدد الديمقراطيات، مقاربة (توسيع العالم الحر) هي عملية هجومية، ولكن اقتصادية، على عكس مقاربة الاحتواء، التي كانت دفاعية عسكرية. ورغم عالميتها، تعمل مقاربة (ليك) وفق إطارات جغرافية مختلفة. حيث يقسم (ليك)، العالم إلى قسم البربرية، وقسم الحضارة. فالديمقراطية والسوق يوجدان في الشمال، بينما يغيبان في الجنوب ما عدا بعض الاستثناءات. لكن هناك فرقاً في هذا التقسيم بين الدولة غير الديمقراطية، والدولة الاستبدادية، مثل العراق الذي تتحكم فيه أمريكا عبر الحصار الاقتصادي والتهديد العسكري، وبين اللادولة الحربية مثل الصومال. أما المنطقة الوسطى الأساسية فتتشكل من البلدان غير الديمقراطية، والتي تحاول انتهاج ليبرالية اقتصادية، ونجد ضمنها الصين والعالم الإسلامي عامة، وهما القطبان الثقافيان لهيتنغتون .. وينادي (ليك) في حال الدول(2/137)
الاستبدادية بضرورة عمل أحادي أمريكي كلما اقتضى الأمر ذلك، وألاّ ترتبط أمريكا بالقيود التي تضعها الأمم المتحدة (1).
اللجنة الثلاثية واستراتيجيتها للقرن الحادي والعشرين
دفعت اللجنة الثلاثية بكثير من أعضائها ليصبحوا رؤساء أمريكيين. فمنذ إنشائها عام 1973م، كان كل من الرؤساء (كارتر)، (بوش)، و (كلينتون) من أتباع اللجنة الثلاثية. وأثناء اجتماع لهذه اللجنة الثلاثية في 19/ 3/1999م في واشنطن دي. سي، قدم (روبرت زوليك)، وهو متحمس آخر للصهيونية، تقريراً بعنوان استراتيجيات اللجنة الثلاثية للقرن الحادي والعشرين: في السلم أو الحرب، دعا فيه إلي التهيؤ لمواجهة نزاع عسكري مع الصين. وهذا يجب أن يفسر السبب في نشر القواعد العسكرية والقوات في الدول المجاورة للصين في آسيا الوسطي وأفغانستان، بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، كجزء من الخطة الرئيسية للنظام العالمي الجديد والتي حبكت خيوطها قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر). وعقد الحزب الجمهوري مؤتمره للبرنامج السياسي كما سيكون في عهد الرئيس بوش الصغير في فيلادلفيا في3/ 8/2000م، حيث احتضن سياسات النظام العالمي الجديد، وهي ذات السياسات التي عبرت عنها اللجنة الثلاثية، حيث وقد أصبح مبدأ صراع الحضارات هو المعتقد الرسمي لهم.
وسوف يلاحظ من الاقتباسات التي سنوردها علي لسان مهندسي هذا النظام العالمي الجديد، أن هناك إجماعاً علي مبدأ ينص علي عدم السماح لأية حضارة أو مجموعة من الحضارات الكبيرة، والدول التي تمثلها أن تصل إلي حالة الدولة العظمي. لقد تمكن الاعتداء الأمريكي علي أفغانستان وآسيا الوسطي من دقّ إسفين فرقة بين القوي غير الغربية الأخرى، مثل: الصين، روسيا، الهند واليابان، بحيث لا يكتب لها أن تتواصل فيما بينها أبداً. وقد تحققت هذه الرغبة الأمريكية بسرعة البرق في خلال بضعة أشهر بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، وهذا سبب آخر يدعونا
_________
(1) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكس(2/138)
إلي الإيمان بأن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) كانت أكثر من مجرد صدفة أو حدث عابر (1).
أزمة كيسنجر الاقتصادية تتطلب حرباً (2)
يعرض كيسنجر في كتابه (هل تحتاج أمريكا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين) الميلادي للجدل الذي دار في أميركا حول الإستراتيجيات القادمة، والتعامل مع المرحلة الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وسيادة تقنية المعلومات والاتصالات. وينبغي أن تقرأ هذه السياسات والأفكار التي يقترحها كيسنجرمرتين، إحداهما في ضوء افتراض أن أحداث سبتمبر لم تقع. والثانية مع تداعيات الأحداث وتفاعلاتها، وربما سيجد القارئ، وكأن هذه الأفكار هي برنامج اقترحه كيسنجر بعد الأحداث، أو أنها مراجعة للسياسات الأميركية والمواقف التي أدت إلى الأحداث. بالطبع ليس المقصود هنا هو أن (هنري كيسنجر) كان على علم مسبق بتنفيذ العملية، لكنه، ولا ريب، من الأشخاص المستعدين لاستغلال مثل هذه الأزمة لتحقيق أهداف مدروسة ومخطط لها مسبقاً.
في كتابه هذا يجتر (كيسنجر) ولعه (بالتفكير الجيوبوليتيكي)، الذي يدعي أنه قد تم إهماله أثناء إدارة الرئيس (كلينتون)، ويتم إحياؤه الآن في عهد الرئيس جورج بوش الابن. فهو يجاهر بأن "لجيوبوليتيك لم يختف بعد كجزء من السياسات العالمية، ويطرح (إستراتيجيات جيوبوليتيكية) لآسيا وروسيا وأجزاء أخرى من العالم. فكيسنجر يشعر بالذعر، لأن النظام الاقتصادي العالمي يتأرجح بدون سيطرة، وأن ذلك سيحول جميع مخططاته الكبرى إلى حطام. فهو لا يخفي فزعه من أن هذه الأزمة ستدفع دولا مثل البرازيل في أمريكا الجنوبية، وجنوب أفريقيا، وآسيا، إلى
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم -القدس العربي- 28/ 2/2003م
(2) هل تحتاج أمريكا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين- هنري كيسنجر- إصدار: نيويورك: سايمون أند شوستر 2001 - عرض: مارك بوردمان (كاتب بمجلة إكزكتف إنتلجنس ريفيو) - السويد - حسين النديم- 2001/ 10/18 - http://www.islamonline.net/arabic/economics/2001/10/article6.shtml(2/139)
قلب شروط اللعبة، وهي شروط تمكن هو ورفاقه في المؤسسات المالية ـ السياسية الأنجلو أمريكية من فرضها على العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. في مثل هذه الحالة النفسية والعقلية، لا يكون أمام (كيسنجر) إلا الحل الوحيد الذي طالما لجأ إليه في الأوقات العصيبة، وهو: إشعال حرب وتأسيس نظام دكتاتوري عالمي لإدارة الأزمة. أما بؤرة اهتمام هذه البنية الحربية فهي كالعادة الوضع المتفجر في الشرق الأوسط.
من البدايات الأولى للكتاب يبين (كيسنجر) قلقه من الوضع الاقتصادي العالمي، ويتناقض هذا القلق مع محاولاته كيل المديح للعولمة، وطبيعة القوة الأمريكية التي لا تقهر، فيحذر قائلا: "إن الأزمة الاقتصادية العالمية هي أكبر تهديد للديمقراطية المعاصرة". ثم يضيف: "إن وقوع أزمة مالية مهمة أخرى في آسيا أو في الديمقراطيات الصناعية، سيعجل بالتأكيد جهود دول آسيوية للحصول على سيطرة أكبر على مصائرها السياسية والاقتصادية عن طريق خلق بديل آسيوي للنظام الإقليمي الحالي". ويضيف: إن بروز تكتل آسيوي معاد يضم مزيجًا من أكثر دول العالم كثافة بالسكان (الصين والهند)، وأكثرها وفرة في الموارد الطبيعية (روسيا وآسيا الوسطى) وأكثرها تقدمًا من الناحية الصناعية (اليابان) لن يكون في المصلحة القومية لأمريكا". ويتذمر كيسنجر ويضطرب حين يفكر باحتمال أن يقلب "الهبوط الحاد" في الولايات المتحدة جميع أمنياته بخلق اتحاد التجارة الحرة للأمريكتين، واتحاد التجارة الحرة عبر الأطلنطي. وتصل حالة الذعر إلى ذروتها في الفصل السادس من الكتاب بعنوان (سياسات العولمة)، حيث يحذر (كيسنجر) في هذا الفصل من أن "العملية التي أنتجت ثروات أعظم في أجزاء من العالم من أي وقت مضى، قد تؤدي هي ذاتها إلى توفير آلية لنشر أزمة اقتصادية واجتماعية حول العالم. وكما كان الاقتصاد الأمريكي يمثل الماكينة العالمية للنمو، ستكون لهزة كبرى في الاقتصاد الأمريكي نتائج وخيمة على الاقتصاد في كل مكان".
في هذا السياق يدلنا هوس (كيسنجر) بالجيوبوليتيك إلى أنه وأصدقاءه يبحثون عن حرب، حيث يصر على تشابه حالة الشرق الأوسط مع أحوال حرب الثلاثين عاماً الأوربية في القرن السابع عشر الميلادي، وهذا يعنى أن (كيسنجر) يقول: إن وقوع حروب جديدة هو أمر لا مفر منه، لا .. بل ومرغوب أيضًا، أي إننا يمكن(2/140)
أن نشهد حرباً دينية كحرب الثلاثين سنة الدينية، التي شهدتها أوروبا، مما يعني وجود مخاطر انزلاق حقيقية خاصة تلك المتعلقة بصراع الحضارات (1). وبالرغم من أن نظرة كيسنجر إلى مستقبل آسيا ليس بنفس قسوة وصراحة نظرته إلى الشرق الأوسط، لكن النظرة الكيسنجرية، تقول بأن الحرب تلوح في أفق آسيا أيضاً. فهو يشبه الوضع في آسيا اليوم بالوضع في القرن التاسع عشر الميلادي. فآنذاك كانت السياسة الناجحة الوحيدة هناك هي سياسة (موازنة القوى) التي مارستها الإمبراطورية البريطانية. لذلك على الولايات المتحدة اليوم ممارسة سياسات "موازنة القوى" لمنع ظهور تجمع مناهض لأمريكا في آسيا، أو في أوراسيا عمومًا.
وإذا قارنا ظهور التحالف الأورآسيوي بين الصين ودول آسيوية أخرى وروسيا، وبعض الدول الإسلامية من جهة، وعملية التعبئة الجارية للأساطيل الأمريكية والبريطانية لدق إسفين في وسط القارة الأورآسيوية من جهة أخرى، فإن الصورة ستتضح أكثر في ضوء ما يقوله (كيسنجر). فالقضية التي تهم (كيسنجر)، هي منع ظهور بديل سياسي ـ اقتصادي حقيقي وقوي على هذه القارة الشاسعة، يستبعد أمريكا وبريطانيا عندما ينهار نظام العولمة المالي والنقدي الذي تسيطران عليه. فليس أمام الولايات المتحدة سوى الحرب لاسترداد سيطرتها وهيبتها، وتحولها إلى إمبراطورية كونية (لا تحتاج إلى سياسة خارجية) أو دبلوماسية. وقد قدمت عملية ضرب مركز التجارة العالمي، والبنتاجون يوم 11 سبتمبر الذريعة المناسبة للقيام بذلك. فكل من ينظر إلى حجم التعبئة العسكرية والسياسية، التي تقوم بها أمريكا يدرك أن القضية أكبر من (أسامة بن لادن) و (طالبان) إنها "حرب .. طويلة .. طويلة".
بريجنسكى ورقعة الشطرنج العظمى
في كتابه (رقعة الشطرنج العظمى) الذي صدر عام 1997م يقدم بريجنسكى رؤيته الجيوستراتيجية المثيرة، والجريئة، لتفوق أمريكا خلال القرن الواحد والعشرين. فالمسألة المركزية لتحليله هي كيفية ممارسة القوة على القارة الاوراسية (أوروبا وآسيا)، فهذه القارة هي الأضخم في العالم، من حيث السكان،
_________
(1) َفرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة - فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- كامبردج بوك ريفيوز.(2/141)
والموارد الطبيعية، والنشاط الاقتصادي. فأوراسيه هي رقعة الشطرنج العظمى، التي سيتم عليها الإقرار بتفوق أمريكا وتحديه في السنوات القادمة.
يقول بريجنسكي: إن الجائزة الكبرى التي حازت عليها الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة هي أوراسيا، وبصفتها القوة العظمي الوحيدة الآن، فإن بإمكان الولايات المتحدة أن تسيطر علي مقدراتها، فلن يسمح لأية قوة عظمي أو تحالف قويً مثل روسيا، الصين أو الهند بالسيطرة عليها. وقد نقل الكاتب الأمريكي (مايكل روبرت) مؤلف كتاب (عبور الحد) ان بريجنسكي قال قبل هجوم 11 سبتمبر بأربع سنوات، إنه إذا لم تهاجم أميركا كما هوجمت في بل هاربر فإن الشعب الأميركي لن يؤيد العمل العسكري في وسط آسيا والشرق الأوسط للسيطرة على المنطقة (1). ويبدو أن هذا هو الهدف المنشود الذي كان وراء أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، وقد تحقق فعلاً (2). فبريجنسكى يرى أن المهمة التي تواجه الولايات المتحدة، ما هي إلا مهمة إدارة النزاعات والعلاقات في أوروبا واسيا والشرق الأوسط، بحيث لا تبرز أية قوة عظمى منافسه تهدد المصالح والرفاه الأمريكي. فقد ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن العشرين الميلادي على أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم من حيث أنها امتلكت ما لم تمتلكه أية أمه أخرى من قوة عسكرية واقتصادية. ولفت مصالحها العالم دون أن يكون لها نظير في التاريخ. ومع ذلك يبقى السؤال الحاسم دون جواب: ماذا ينبغي أن تكون إستراتيجية أمريكا العالمية للحفاظ على موقعها الاستثنائي في العالم؟ فهذا السؤال الذي يعالجه السيد بريجنسكى في هذا الكتاب.
فبعد أن تنبأ (بريجنسكى) بسقوط الشيوعية في كتابه الإخفاق الكبير الصادر عام 1988م، ها هو يتنبأ ويعد بعالم متعدد الأقطاب، مع تجنب التنبؤ بمن ستكون تلك القوى التي لا محال ستكون الولايات المتحدة إحداها. فهو يقصى أهم مرشحي اعتلاء مكانة القوة العالمية، وهما روسيا والصين والاتحاد الأوربي، في حال كانت وجهة كل واحد منها وجهة لا تروق لأمريكا. وهذا التصور المتناقض الذي يطرحه
_________
(1) أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005
(2) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم -القدس العربي- 28/ 2/2003م(2/142)
بريجنسكي لمستقبل توازن القوى سيوقعنا في مطب طالما كان هاجس القرن المنصرم (ماذا تكيد أمريكا للعالم؟)، حيث كان هناك من يجابهه هذا التساؤل في القرن الماضي. أما في القرن الحالي فهل يقف العالم كله متفرجاً على ما ستفعله أمريكا رافعاً يديه إلى السماء داعياً أن يكون ما ستفعله خيراً (1).
مجموعة الهوس الديني / المحافظون الجدد
هكذا أصبح الأصوليين في شبكة القاعدة، الذين تحولوا لإرهابيين يواجهون رئيساً أمريكيا متهماً بما هو أكثر من انتقام عنيف، حيث رد بوش مراراً بهجوم علني انطلاقاً من الكتاب المقدس على الشر والأشرار، وتشاور مع أصدقاء شعروا أن الرب اختارهم لقيادة الأمة في ردها، بل وفي لحظة صراحة زائدة وصف بوش الرد الأمريكي على هجمات سبتمبر بأنه (حملة صليبيه) (2). وهنا فإنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذا الجنون الأمريكي، قد بدأ مع وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001م، فمن الثابت أن المشروع الإمبريالي الأمريكي كان موجوداُ وممارساً، فقط أدت الأحداث الإرهابية يوم 11 سبتمبر إلى تسريع عجلته مع تسخين الرأي العام الأمريكي لقبوله (3).
فهجمات 11 سبتمبر لم تفجر فقط مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاجون، ولكنها فجرت أيضاً الهوس الكامن داخل العقل الباطن للمجتمع الأمريكي، والذي كانت تخفيه غلاله رقيقة اسمها: الحياة على الطريقة الأمريكية. وهذه الغلالة لم تخف سوى الصديق والحليف الأمريكي، التي ظهرت الآن بوضوح بعد أن طار برجان من عقله!! ونتيجة تحريض حكومي وإعلامي مستمر طوال 24 ساعة يومياً بإلحاح لا مثيل له، على وجدان الشعب الأمريكي .. تفجرت الرغبة المسعورة في الانتقام، ممن؟ ليس مهماً .. المهم الانتقام والضرب بعنف. لذا أعلن الرئيس بوش الحرب من قبل أن يحدد من هو العدو الذي سيحاربوه!! بل بدأوا بالهجوم على ابن لادن وحركة طالبان، التي تحميه دون تقديم دليل واحد يؤكد تورطه أو مسئوليته! طوفان
_________
(1) رقعة الشطرنج العظمى - زبيغنييف بريجنسكى - ترجمة سليم أبراهام ص 5 - -دار علاء الدين سوريا- ط1 2001
(2) الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 196
(3) الانحياز الأمريكي لإسرائيل ـ دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 207.(2/143)
الهوس الأمريكي هو طوفان بلا حدود .. وقد انطلقت منه موجات وموجات .. وهي لن تتوقف. وهي ليست بالطبع في مجال التصديق أو الاستجابة لدى المؤمنين بالله وبقضائه وقدره .. لكن المشكلة هي أن الأمريكيين يصدقونها ويؤمنون بها بشدة (1).
وهنا يلاحظ الكاتب والروائي البريطاني (جون لوكاريه) أن الولايات المتحدة تشهد موجة من الجنون، هي الأسوأ بين كل ما شهدته في تاريخها، حيث كانت مجموعة الرئيس الأمريكي (جورج بوش) في مرحلة السعي لتبرير حرب شاملة مجنونة، وقد وجدت في أحدث 11 سبتمبر فرصة لهذه الحرب المخطط لها قبل سنوات عدة. فقد كانت الإدارة الأمريكية محاطة بمجموعة من الأزمات الكبيرة، مثل شرعية رئاسة بوش، وانهيار شركة إنرون ذات الصلة بالمسئولين الأمريكان الحاليين، وانحياز الإدارة الأمريكية للشركات الكبرى العملاقة، وعدم اكتراثها بفقراء العالم والبيئة والمعاهدات الدولية، ثم الانحياز المطلق لإسرائيل، الذي أوقع الولايات المتحدة في خروقات عدة لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها. وقد أتاحت أحداث 11 سبتمبر الفرصة لحرب تريدها الإدارة الأمريكية وتخطط لها، وجاءت هذه المرة بدعم شعبي كبير، وبموازنة إضافية هائلة (360 مليار دولار). ولكن لعل الجانب المقزز في الحرب الاستعمارية الأمريكية، والهيمنة الأمريكية على العالم بما في ذلك أوروبا هو النفاق الديني، الذي يغطي به المحافظون الجدد إرسال الجنود إلى القتال، وتعميم فكر سوريالي مثل أن الله أوكل إلى أميركا إنقاذ العالم، وكل من يجرؤ على المساءلة سيجد نفسه في تهمة لا يستطيع الخروج منها، كالعداء للسامية، والعداء لأميركا، والإرهاب (2).
ووفق هذه الرؤية فان دور (ملاك الرب) الذي تضطلع به أميركا لا بد أن يكون مزدوجا: يد ممدودة لمصافحة الأصدقاء والأوفياء، قبضة حديدية لردع الأشرار وحصرهم في معقل شرهم، (فأما معنا وإما مع الإرهاب)، حسب تعبير (بوش الابن)
_________
(1) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص189 - دار الاحمدى للنشر - الطبعة الأولى 2003
(2) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ ـ جان بودريار وآخرون- ترجمة بسام حجار-ط1 2003 - الدار البيضاء، المركز الثقافي- الجزيرة نت(2/144)
ولا مكان لمنزلة ثالثة، هذه الرؤية توفر مساحة كبيره من الرضا الأخلاقي عن النفس، فهي لا تفعل سوى أنها تؤدي واجبها. وباستثناء الهزيمة المذلة في فيتنام (60 ألف قتيل أمريكي)، فإن أمريكا يطيب لها أن تتصور أنها تؤدي دور (الشريف) في أفلام الكاوبوي، وتفخر دوما بنتائج تدخلاتها بدءا من الفلبين، التي احتلتها منذ 1899م لتحررها من الحكم الطاغوتي الأسباني ولتحبوها منذ 1935م بأول دستور ديمقراطي في تاريخها وتاريخ آسيا، ومرورا بألمانيا النازية، التي حررتها من نظامها النازي، ونزعتها العسكرية المزمنة، وانتهاء باليابان التي أجبرتها ـ لصالحها ـ على أن تكون ديمقراطية وتحديثيه على الطريقة الغربية، وهي كما تفخر بتدخلاتها العسكرية، تفخر بتدخلاتها الاقتصادية، فحصارها للدول الإبليسية الممثلة بمحور الشر (حصر دودة الشر) في شرنقتها (1).
ولكن دور ملاك الرب هذا، التي تحاول أمريكا الإضطلاع به قديماً وحديثاً، بدأ ينكشف كذبه وخداعه ووحشيته، بعد تكشف الجرائم الأمريكية الكثيرة، التي ارتكبت باسم الحرية والديمقراطية، حيث بدأ العالم يدرك أن أمريكا تدار من قبل عصابة عنصرية متطرفة وجشعه. و http://www.aljazeera.net/books/2003/7/ - TOP مطالعة محدودة في سيرة بوش ومجموعة الإدارة المحيطة به، تكشف مدى تورطهم في فساد الشركات الكبرى العملاقة، التي تبحث عن حرب جديدة تنقذ الخسائر التي تتعرض لها، وتغطي على الفضائح والفشل سياسياً وإعلامياً. http://www.aljazeera.net/books/2003/7/ - TOP وهنا تتحدث مقالة نشرت في صحيفة اللوموند الفرنسية عن المجموعة المحيطة بالرئيس الأميركي بوش، والتي تمثل النفوذ في البيت الأبيض، وهم الأشد حماساً للحرب على الارهاب، ويؤيدون الليكود الإسرائيلي بشدة وتقول:
"إن عددهم ليس كبيراً، ولكن البيت الأبيض يصغي لما يقولون، من بينهم (بول ولفويتز)، الرجل الثاني في وزارة الدفاع الأمريكية، والباحثة (لين تشيني) زوجة ديك تشيني نائب الرئيس بوش. وهناك ثلاثة شخصيات لا تتحدث عنها وسائل الإعلام كثيرا، ولكنهم الأكثر أهمية في صوغ السياسات الأمريكية والتفكير السياسي، وهم (إيرفنغ كريستول)، و (غاري باور)، و (ريتشارد بيرل)، وهذا الأخير يرأس مجلس السياسات الدفاعية، وهي الهيئة الاستشارية لوزارة الدفاع الأمريكية،
_________
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص1،4ـ1،5 - دار النفائس - ط1 2003.(2/145)
وقد وصفته الصحافة بأنه بطل الحرب الباردة، وكان نائب وزير الدفاع في عهد ريغان، وكان يقود ويوجه سياسات ريغان المحافظة، والتي ينتمي إليها المحافظون الجدد المحيطون ببوش، وهو مقرب من الليكود الإسرائيلي. أما (كريستول) فيبلغ الثالثة والثمانين من العمر، ويعمل في المعهد الأمريكي للمشاريع، أحد أبرز معاهد تيار المحافظين الجدد، ويعتبر (كريستول) عراب هذا التيار. أما (غاري باور) فهو يقود الأصولية المسيحية حول بوش، ويرأس مجموعة القيم الأمريكية، التي تدير عدة كنائس بروتستانتية متنفذة وقوية، وقد كان (باور) أحد مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق (دونالد ريغان)، ويرأس أحد أهم اللوبيات وأكثرها نفوذا في السياسة الأميركية، وهو لوبي حماية الأسر العاملة (1)
ان المحافظون الجدد هم اناس "متحمسون وحضورهم دائم لخوض معارك جديدة، ويقاتلون بفرح واندفاع .. انها كوكبة من الرجال والنساء صنعها التاريخ، وصاغتها الافكار، اعتقدوا بسلطة الافكار في حين كانت اوروبا تعلن موت الايدولوجيات، كان عندهم ثقة بالموهبة الأمريكية الخارقة، اذ الكل يعتقد ان لأمريكا مهمة عليها اتمامها، وانه تحمل القيم العالمية المتكيفة والملائمة لرغبات الشعوب .. يحق للمحافظين الجدد التكبر على الاخرين، اذ تمكنوا بعد اعتداءات ايلول عام 2001، بعدة اشهر من السيطرة على السياسة الأمريكية، كان عندهم تفسير جاهز للافعال الارهابية واذا كان صحيحا انهم لم يتوقعوا حدوثها فإنهم اطلقوا تنبيهات وانذارات" علينا الا نترك انفسننا ننام عند نهاية الحرب الباردة، لنبقى يقظين، انه من المبكر، ان يتم التحدث عن مغانم السلام، لان هناك مخاطر جديدة تهددنا" (2). .
_________
(1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ ـ جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجارـ الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي
(2) أمريكا المسيحانية (حروب المحافظون الجدد- الان فوشون، دانيال قرنه- ترجمة موريس شربل - ص 5 وما بعده - دار الجليس -جروس برس طرابلس 2005(2/146)
بول ولفويتز والنظام العالمي الجديد
عين (ولفويتز) نائباً لوزير الدفاع في إدارة الرئيس بوش الابن، وعمل وكيلاً لوزارة الدفاع زمن الرئيس بوش الأول حين كان ديك تشيني يشغل منصب وزير الدفاع. وهو معروف جداً علي أنه أحد مهندسي النظام العالمي الجديد الرائدين، حيث صرح (ولفويتز) في الإرشاد الذي قدمه حول التخطيط الدفاعي، والذي يتعامل مع النظام العالمي الجديد: إن هدفنا الأول هو الحيلولة دون نشوء منافس جديد سواء في أراضي الاتحاد السوفييتي سابقاً، أو في أي مكان آخر يمثل تهديداً كذلك، الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي. علينا أن نبذل جهداً جباراً في السياق ذاته لنمنع أية قوة عدوانية من السيطرة علي هذه المنطقة، التي تكفي مصادرها، إذا ما تضامنت معا بشكل جيد، لتوليد قوة عظمي. وتشمل هذه المنطقة أوروبا الغربية، شرق آسيا، وأراضي الاتحاد السوفييتي سابقاً، وجنوب غرب آسيا. لذا فإن النظام العالمي الجديد يدعو إلي الحفاظ علي القوة الأمريكية أحادية الجانب. فالقوة الأمريكية أحادية الجانب هذه في شكل إمبراطورية أمريكية، تتطلب من الولايات المتحدة أن تظهر روح القيادة اللازمة لتأسيس وحماية نظام جديد يحمل في طياته الوعد بإقناع منافسينا المحتملين بأنه لا يتعين عليهم، ولا حاجة لهم، بأن يلعبوا دوراً أكبر من الذي يلعبونه الآن، أو أن يسعوا إلي معاداة الآخرين حتي لو كان ذلك في سبيل حماية حقوقهم ومصالحهم الشرعية (1).
إستراتيجية إمبريالية كبرى
في حين أن الولايات المتحدة ستسعى باستمرار للحصول على دعم المجتمع الدولي، فإننا لن نتردد في التحرك وحدنا، إذا ما اقتضت الضرورة، لممارسة حقنا في الدفاع عن النفس بالتصرف استباقياً. إن البشرية اليوم تمسك بيديها الفرصة لتحقيق انتصار أكبر للحرية على جميع هؤلاء الأعداء. وترحب الولايات المتحدة بمسؤوليتها للقيادة في هذه الإرسالية العظيمة (التي تؤكد على رسالتنا). ولكن
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم -القدس العربي- 28/ 2/2003م(2/147)
مسؤوليتنا أمام التاريخ واضحة: أن نرد على جميع هذه الهجمات، والتخلص من الشر العالمي". (هذا الكلام منقول) عن استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة (2001، ص6، المقدمة، وص5) (1).
هكذا تصدرت الأجندة العالمية في خريف عام 2002م إعلان أقوى دولة في التاريخ، نيتها الحفاظ على هيمنتها، سواء من خلال التهديد بالقوة المسلحة أم باستخدامها فعلاً، وهو بعد من أبعاد السيطرة والسلطان. وجاء في الصياغة الخطابية الرسمية للإستراتيجية: "يجب أن تكون قواتنا قوية بما فيه الكفاية لثني الخصوم المحتملين عن مواصلة بناء قوة عسكرية بأمل مضاهاة القوة الأمريكية أو تجاوزها". وهي حالة يجب أن تكون بنظر الإدارة الأمريكية دائمة، بحيث يتعذر على أية دولة أو مجموعة دول أن تتحدى في أي وقت الولايات المتحدة كزعيم للعالم يبسط حمايته، وينفذ إرادته بالقوة. ومن شأن هذه المقاربة أن تجعل المعايير الدولية الخاصة بالدفاع عن النفس والمكرسة، في المادة (51)، من ميثاق الأمم المتحدة، عديمة المعنى. وتؤكد الإستراتيجية الإمبريالية الكبرى على حق الولايات المتحدة في شن حرب وقائية على هواها ـ وقائية وليس استباقية ـ أي أن الحرب يمكن أن تكون لإزالة تهديد محتمل، أو مختلق وملفق، وهي حروب وأعمال تندرج في خانة جرائم الحرب (2).
الحرب غير المتوازنة
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أواخر إدارة بوش الأول، وجدت المؤسسة الدفاعية الأمريكية نفسها فجأة أمام سؤال وجودي. ما المنطق المحدد الكامن وراء الاحتفاظ بالقوات الأمريكية الجبارة والكبيرة مع الإبقاء على الميزانيات اللازمة لذلك في غياب (إمبراطورية الشر)؟ وهنا طلب ديك تشيني (3) وقد كان وزيراً للدفاع من مساعد وزير الدفاع (بول ولفوفيتز) أن يقوم بالتعاون مع رئيس الأركان (كولن باول)، بإعداد خطة لاستراتيجية دفاعية أمريكية جديدة ... وقد المح (باول) للاستراتيجية الجديدة في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب عام 1992م بقوله: "إن الولايات المتحدة بحاجه إلى قوة كافية من أجل ردع أي متحد عن ولو مجرد التفكير، بتحدينا على المسرح العالمي". وأضاف "أريد أن أكون فتوة الحارة" حتى لا يكون ثمة مستقبل لمن يخطر بباله أن يحاول تحدي قوات الولايات المتحدة المسلحة (4).
وهكذا فقد كانت الولايات المتحدة تحضر نفسها نظرياً منذ حرب الخليج .. لشيء جديد تصورته بعض مجموعات الخبراء القريبة من القوات البرية أو البحرية. إذ اعتبرت هذه المجموعات أن التفوق المطلق الذي حققته أمريكا بفضل تحكمها في الثورة الإليكترونية في مختلف المجالات (العسكرية، والفضائية، والاقتصادية والمالية)، سيقود مع العولمة، إلى آثار لا تحتمل. وظنت أن الدول والشعوب والطبقات المضحى بها، سوف تتحرك عبر مناورات غير منتظرة، "قد تأخذ في بعض الأحيان شكل الإرهاب، (سلاح الضعفاء). هذا الهجوم المعاكس سيتطلب من أمريكا قوة ابتكار متزايدة تحسباً لوضع كهذا، وفي خضم هذا التصور ولد المفهوم الأمريكي العام لـ (الحرب غير المتوازية) " (5).
_________
(1) الجذور الإنجيلية للأحادية الأمريكية اليمين المسيحي وكيفية مواجهته -بقلم: دوان أولدفيد: أستاذة مشاركة في العلوم السياسية في جامعة نوكس. قدمت نسخة هذا البحث في الاجتماع السنوي لجمعية العلوم السياسية الأمريكية الذي انعقد في الفترة ما بين 28ـ31 آب/2003.- مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية
(2) الهيمنة أم البقاء .. السعي الأميركي للسيطرة على العالم ـ نعوم تشومسكي ـ ترجمة سامي الكعكي ـ بقلم/ إبراهيم غرايبة29/ 7/2004م
(3) اعتقد إن ديك شينى ـ وهو من أكثر أعضاء إدارة بوش يمينية وتطرفاً ـ هو المخطط الرئيسي لأحداث 11 سبتمبرً، حيث اختفى بعد الأحداث مباشرة ولمدة أكثر من أربعة اشهر بحجة الخوف على حياته. واعتقد انه كان يشرف بنفسه على أداره هذه العملية المعقدة وتبعاتها، كما سيتضح لنا ذلك.
(4) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر - ص34
(5) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة ـألان جوكسكامبردج بوك ريفيوز(2/148)
وفي كتابه (من نيويورك إلى كابول)، يوضح الأستاذ محمد حسنين هيكل الأمر أكثر، بقوله: "كنت على معرفة بأن هناك نوايا وخططاً فرغت الإدارة الحالية في الولايات المتحدة من ربيع هذا العام 2001م من بلورتها، وهي على وشك أن تطرحها للتنفيذ على اتساع قارات العالم، وفيها المنطقة التي تعنينا أكثر من غيرها، وهي في منطقة الشرق الأوسط. وبالفعل فقد كنت اطلعت على نصوص تقرير رئاسي أمريكي بشأن استراتيجية جديدة جرى اعتمادها من جانب الإدارة الأمريكية لمستقبل العمل في هذه المنطقة. والتقرير عبارة عن خلاصة موجزة لتقدير الموقف الذي وقعه (ويليام كوهين) وزير الدفاع الأمريكي في الإدارة السابقة، وأقره رئيسها (بيل كلينتون) على هيئة توجيه رئاسي، ثم راجعه (دونالد رامسفيلد) وزير الدفاع الحالي، وأقره (جورج بوش) على هيئة توجيه رئاسي ملزم، يرى أن المخاطر المحتملة على الولايات المتحدة وأمنها ومصالحها لها مصادر محددة ومعروفة".
* دول مارقة وعت درس حرب الخليج، وأصبح جهدها موجهاً إلى العثور على نقاط ضعف أمريكية، عسى أن تنفذ منها وتستغل وتضرب.
* دول صديقة وهنت قواها حتى أوشكت على الإفلاس، مما يعرضها للسقوط، ومع أن الولايات المتحدة لا تسمح بهذا السقوط، فهي في الوقت نفسه لا ترى وسيلة للمساعدة على منعه.
* إرهاب وصل إلى مرحلة العولمة في نفس وقت وصول مجتمعات الدول إلى مرحلة العولمة، وهو ما أطلق عليه التقرير اسم الحرب غير المتوازنة" (1).
ولم تكن هيئة التقديرات في البنتاجون وحدها، التي وصفت الأخطار الجديدة وصكت لها تعبير (الحرب غير المتوازنة) بل تابعتها هيئة أركان حرب القوات الأمريكية، ورئيسها الجنرال هنري شيلتون، الذي قدم تقريراً تحدث عن شكل الخطر القادم، بدا وكأنه يشير صراحة وقبلها بسنتين إلى صواعق النار والدمار التي نزلت على نيويورك وواشنطن يوم الثلاثاء 11 سبتمبر 2001م، حيث جاء في التقرير وهو يحاول تعريف الحرب غير المتوازنة قوله:
_________
(1) من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص 140(2/149)
"الحرب غير المتوازنة، هي محاولة طرف يعادي الولايات المتحدة أن يلتف من حول قوتها، ويستغل نقط ضعفها معتمداً في ذلك على وسائل تختلف بطريقة كاملة عن نوع العمليات التي يمكن توقعها. وعدم التوازن يعني أن يستغل العدو طاقة الحرب النفسية، وما يصاحبها من شحنات الصدمة والعجز، لكي ينتزع في يده زمام المبادرة وحرية الحركة والإرادة، وبأسلوب يستخدم وسائل مستحدثه وتكتيكات غير تقليدية، وأسلحة وتكنولوجيات جرى التوصل إليها بالتفكير في غير المتوقع، وغير المعقول، ثم تطبيقه على كل مستويات الحرب من الإستراتيجية، إلى التخطيط، إلى العمليات، بعرض أفق عليه بدائل طار إليها خيال لا يخطر على البال منطقياً ولا يطرح نفسه عملياً في التقديرات التي نستطيع تصورها. وكان ما توقعه رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة للقوات الأمريكية المسلحة الجنرال (هنري شيلتون) هو بالضبط ما وقع 11 سبتمبر الأخير (1).
فالسيناريو جاهز ليس فقط لدى وزارة الدفاع، التي يمثلها المتطرف رامسفيلد، بل إن وزارة الخارجية كان لديها المعرفة بهذا المخطط، هذا بالرغم من أن البعض يحاول جاهداً تقسيم الإدارة الأمريكية إلى صقور وحمائم، واضعاً الجنرال (باول) في صف الحمائم، ومتناسين عن عمد وسبق إصرار، جرائمه في العراق أثناء حرب الخليج الثانية. ففي منتصف يوليو 2001م، لجأ الوفد الأمريكي إلى المفاوضات المتعددة الأطراف حول مستقبل أفغانستان، إلى التهديد بعد أن تأكد له فشل هذه المفاوضات، وحسب ما أورده سفير باكستان السابق في باريس، (نيازنايك)، والذي شارك في تلك المفاوضات، فإن الأمريكيين أعلنوا أنهم سيحتلون أفغانستان في منتصف أكتوبر وأنهم سوف يقلبون نظام طالبان. وفي بداية سبتمبر 2001م وتحت غطاء المناورات السنوية في بحر عمان، عمدت بريطانيا إلى القيام بأكبر انتشار لأسطولها وحشدت قواتها مقابل السواحل الباكستانية، في حين نقل حلف الأطلسي، بمناسبة مناورات النجم الساطع التي أجراها في مصر، أربعين ألف جندي إلى منطقة النزاع. وهكذا فان القوات الأنجلو أمريكية، كانت قد اتخذت مواقعها في المنطقة، قبل الاعتداءات.
_________
(1) من نيويورك إلى كابول- محمد حسنين هيكل ص 114 - 115.(2/150)
أما عن الحرب على الإرهاب، فإن هيئة الأركان العامة الأمريكية، كانت قد أعدت لها مطولاً من خلال إجرائها لمرتين على التوالي، ما تسميه القتال الشامل. وضبطت الإجراءات التكتيكية أثناء ما جرى مؤخراً ضمن هذا الإطار في يوليو 2000 م. لكن المناورة الصورية المبرمجة أصلاً لشهر يونيو 2001م كان قد تم إلغاؤها. وهو الأمر الذي تم تفسيره من قبل الضباط المعنيين على أنه علامة انتقال إلى العملية الوشيكة الوقوع (1) التي بدأت باغتيال أحمد شاه مسعود قائد التحالف الشمالي في أفغانستان قبل التفجيرات بيومين فقط، أي في 9 سبتمبر علي يد عملاء للمخابرات بعد رفضه التام لأي محاولة للتحالف مع الولايات المتحدة أو غيرها لإسقاط طالبان، فتم قتله، ليفتح الباب أمام من هو مستعد للتحالف، وهو ما حدث بالفعل!!
ومما يؤكد أن هذه العملية من تدبير أمريكي، هو أنه في مثل هذه الأحداث يقوم المسئولون بتقديم استقالتهم، والاعتراف بتقصيرهم، ولكن الذي حصل في أمريكا فهو العكس، حيث لم يجر أيه تغيير أو استقالة، بل تضخمت سلطات بعض المسئولين، وبالذات (دولاند رامسفيلد) (وجورج تنت)، والمفترض أن يكونوا أول المقصرين، حيث أن الأمر لم يقتصر على عدم عزل مدير السي. آي. إي، عقب انكسار الحادي عشر من سبتمبر الفاضح، بل إن الإعتمادات المخصصة للوكالة زيدت على الفور بما نسبته 42% ضماناً لحسن تنفيذ مخطط الهجوم العالمي (2). كما أن (تنت) بدأ يتصرف وكأنه رئيس دوله، يزور الدول، ويلتقي الرؤساء ويضع خطط السلام، وكأن الرئيس (بوش) يريد مكافأته على قيامه بالدور الموكل له على أكمل وجه.
فالسيناريو جاهز ومعد مسبقاً، ولم يبقَ إلا التنفيذ، حيث نجزم أن الهجوم على نيويورك وواشنطن قامت به مجموعه من الانتحاريين المهووسون من اليمين المتطرف، لتعجيل العودة الثانية المسيح، لأنه بدون هرمجيدون لا توجد عودة للمسيح حسب اعتقادهم (3). وبالرغم من إدانتنا الشديدة للتفجيرات التي هزت أمريكيا والعالم، وقناعتنا بضرورة معاقبة المسئولين عنها، إلا إننا يجب أن لا ننساق
_________
(1) التضليل الشيطاني / تيرى ميسان - ص 64 - 65
(2) التضليل الشيطاني - تيري ميسان ص151 - - دار الوطنية الجديدة - دمشق 2002
(3) سنلقى مزيد من الضوء على هذه الجماعات في هذا الكتاب.(2/151)
وراء الرغبة الأمريكية الجامحة في تجيير الحادث الأليم، لجر العالم إلى حروب مدمره لا يعلم مداها إلا الله.
مغزى أحداث 11 سبتمبر
اعتبر جل المراقبين أن مأساة 11 سبتمبر تمثل الدخول في قرن جديد. فبعد الاحتفال سنة 2000م، بحلول القرن الـ 21 سرعان ما عادت بنا الأمور إلى الواقع لتظهر لنا أن العولمة ليست حتماً سعيدة، إذ ضرب الإرهابيون أميركا في رموز قوتها العسكرية والاقتصادية، وهذا يعني أن مغزى هذه الأحداث، ووقعها العالمي، يمكن مقارنتها من حيث أثرها على تطور العالم بسقوط جدار برلين. فواقع التغير الحقيقي الذي قادت إليه هذه الأحداث قد يتجاوز بكثير الإدراك الحالي لانتقال العالم إلى مرحلة جديدة تحت وقع الإرهاب. وجراء هذا البعد غير المعهود لعمليات 11 سبتمبر، حدثت (وثبة نوعية) في الإرهاب الدولي. والجديد في هذا البعد للإرهاب، يكمن أساساً في طريقة التنفيذ (1). فـ (الثلاثاء الأسود) جاء في الوقت الذي بدأ فيه العالم الخروج من مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث كان هناك "تزامن بين هجوم 11 سبتمبر، وهذا التطور الأساسي, والتفاعل بين الاثنين كانت له تداعيات عميقة على النظام العالمي" (2).
وبالرغم من أهمية معالجة الظروف الدولية الناجمة عن عمليات 11 سبتمبر الإرهابية حصراً، إلا أنه من المهم حتى هذا التاريخ مراجعة الوضع بعد مرور سنوات على حرب الخليج، والظروف المثيرة لمجيء بوش للسلطة، مما عطل عملية السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية، وتوجه الحلف الأطلسي نحو آسيا الوسطى، عبر الوثيقة المؤسسة بين الحلف وروسيا، والممارسات القمعية لنظام طالبان .. كل هذا كان ينذر بمشاكل في ملتقى شرق ـ غرب/ شمال ـ جنوب الشرق أوسطي. كما أن أوروبا بدأت
_________
(1) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - المؤلف: جون ماري كولمباني ـ كامبردج بوك ريفيوز
(2) َفرْطُ الإرهاب: الحرب الجديدة تأليف/ فرانسوا هايزبور ومؤسسة البحث الإستراتيجي- كامبردج بوك ريفيوز(2/152)
كقوة متعددة وملتقى القارات، تشكل على الأرجح قطب المقاومة الأساسي لهذه الإمبراطورية الأمريكية، لأسباب بنيوية، ليس فقط أيديولوجية، بل سياسية وأمنية أيضاً، حيث يعتبر دور فرنسا في أوروبا كبيراً ذلك أن فرنسا تعتبر مجالاً للوعي السياسي، الذي سيشكل جمهورية أوروبا القادمة".
كما أنه في ظل التصور الأمريكي، في إشارة إلى مسألة الحرب والسلام عالمياً، فإن الحروب اليوم تبدو وكأنها كلها تقاد كـ (حروب قمع دول ليبرالية ضد الإرهاب). وهذا يعود إلى المجهود الإعلامي لأمريكا، التي تلزم حلفائها بأن يعبروا عن تضامنهم بعبارات غريبة بل وغير معقولة تتوافق والنظرة الأمريكية للعالم الخارجي ... وبما أن الإرهاب ليس خصماً، ولكن شكلاً من العنف السياسي فقط، فإن القضاء عليه ليس هدفاً سياسياً .. بإمكانه أن ينتهي بنصر وسلام، لاسيما وأن الأعمال المكافحة للإرهاب مرتبطة دائماً بإرهاب الدولة أو الإمبراطورية، وخروقات حقوق الإنسان. وهذه الإجراءات تعد ـ أيضاًً ـ مصدراً للمقاومات الأكثر تطرفاً، وللإرهاب، مما يقوي من دوامة العنف دون محاربة أسبابه (1).
وهنا يتساءل المفكر الفرنسي (جاك دريدا) حول ما تؤول إليه مفاهيم العقل والديمقراطية والسياسة والحرب والإرهاب، عندما تنتهي سيادة الدول أو تنتقص، وهو ما تقوم به الولايات المتحدة مستخدمة قوتها العالمية الضاربة. والواقع أن ما تقوم به الولايات المتحدة والدول المتعاونة معها، وما تزعمه هذه القوى من رعاية للقانون الدولي، وما تتخذه من ذرائع لشن الحرب على بعض الدول، تجعل الولايات المتحدة برأي دريدا في طليعة الدول المارقة (2).
وهل ان نظام طالبان يحظى باحترام العالم، ويرقى إلى مرتبة النموذج الذي يحتذى، عندما اختارته أميركآا للنزال؟!. أم هو استعراض للعضلات، واختيار لأرض محروقة، أو بنية ضعيفة أدنى إلى أن تكون دمية أو قطعة أثرية مجتلبة من المتحف، لردع من تسوِّل له نفسه أن يعترض، ولتحقق
_________
(1) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكسكامبردج بوك ريفيوز.
(2) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار-الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي(2/153)
مقاصد بعيدة على طريقة عصا موسى؛ يتوكأعليها ويهشُّ بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى؟ (1).
الحرب على الإرهاب ـ ضرب أفغانستان
قال (جورج بوش) في التقرير القومي، الذي أعلنه في 20 سبتمبر 2001 م: "حربنا على الإرهاب تبدأ بالقاعدة، لكنها لا تنتهي عندها. لا يجب أن يتوقع الأمريكيون معركة واحدة، بل حملة طويلة لا سابق لها على كل بلد، وكل منطقة. الآن الاختيار: أما أن تكونوا معنا، وأما أن تكونوا مع الإرهابيين .. على أن الكفاح ليس كفاح أمريكا وحدها .. انه كفاح العالم بأسره .. انه كفاح حضارة. وأضاف: "أن الولايات المتحدة لن تسمح لأي طرف بأن يتحدى تفوقها العسكري بمثل ما كانت الحال في الحرب الباردة، ولن تنتظر الولايات المتحدة قدوم التهديد إليها، ولو كمجرد احتمال، وإنما هي التي ستذهب إليه لضربه عسكرياً على نحو استباقي" (2).
وإذا أخذنا في الاعتبار التصريحات التي عرضنا لها سابقاً حول الحرب الإستباقية، والحرب غير المتوازنة، فإن هذا يعنى أن البداية المعلنة للحرب على ما يسمى بالإرهاب لم تكن في 11 سبتمبر، بل أنها كانت خطة مرتبة ومعدة منذ زمن طويل، للتحول إلى إمبراطورية، والعودة إلى الإمبريالية، وإخضاع الدول التي تهدد الولايات المتحدة للاحتلال المباشر أو الوصاية. حيث أعيدت صياغة الرأي العام الأميركي، ليتقبل أي تنازل عن الحريات والحقوق الشخصية المقدسة، وعن أي قيمة أخلاقية. وهنا يقول منسق شؤون الإرهاب (فرانسيس إكس تايلور) في مقدمة التقرير الأميركي السنوي عن الإرهاب في العالم: "إن الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة على الإرهاب دبلوماسية، وإستخباراتية، وقانونية، وعسكرية، واقتصادية". وقد أمكن إقامة تحالف عالمي ضد الإرهاب يضم 150 دولة، وشملت الحرب 189
_________
(1) أمريكا و الارهاب- ص 5 - موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة ا الإنترنت- http://www.awu-dam.org
(2) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق- نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص23.(2/154)
دولة، وجماعة، وهيئة، وفرداً، جمدت أصول أموالهم، وقامت دول عدة بتعديل قوانينها، لتمنع تمويل الإرهاب وفقاً للرؤية الأميركية التي اعتبرت، فيما اعتبرت- مساعدة أسر شهداء فلسطين تشجيعاً للإرهاب. وعرضت 136 دولة مساعدات عسكرية على الولايات المتحدة، ومنحت 89 دولة حق التحليق للطائرات العسكرية الأميركية، ومنحت 76 دولة حق الهبوط لهذه الطائرات، ووافقت 23 دولة على استضافة القوات الأميركية وقوات التحالف المشاركة في حرب أفغانستان، وعززت 55 دولة المجهود الحربي الأميركي (1).
وهكذا لم يتأخر رد الفعل الأميركي على أحداث 11 سبتمبر، وجاء بثماره بقلب نظام طالبان، الذي كان يحمي أسامة بن لادن. فيما اتفق على حل سياسي في أفغانستان بجمع القبائل الأفغانية، ولكن (مراحل) أخرى من الحرب على الإرهاب كانت قادمة (2)،حيث بدأت أميركا في عمليات مواجهة شاملة مع من اعتبرتهم مسئولين عن أحداث تدمير برجي مركز التجارة العالمي، دون الدخول في تدقيق قضائي، وأثارت جوا من الكراهية ضد المسلمين، لأنها كانت تشعر بالحاجة إلى البحث عن ضحية أي ضحية، لتغطية الفشل الإستخباري في اكتشاف الحدث، وخلفياته وتداعياته. فالقضية لم تكن عقاب مجرم تثبت جريمته بالطريقة القضائية، بل هي مسألة يراد منها تنفيذ أكثر من مخطط سياسي (3)، حيث فرضت الولايات المتحدة في حربها على أفغانستان والقاعدة، ثم في حربها على العراق، نظاماً عالمياً جديداً يستثني الشرعية الدولية، ولا يقيم وزناً لهيئة الأمم المتحدة، ويفرض مفاهيمها للإرهاب، مع أن مفهومها للإرهاب ليس واضحاً، أو محدداً، بل هو خاضع لمواقف يومية ورؤى متغيرة تتناقض في ما بينها، وعلى العالم أن يتبعها في نزواتها وتناقضها وجهلها (4).
_________
(1) سفر الموت .. من أفغانستان إلى العراق (وثائق الخارجية الأميركية) - محمود المراغي-ط1 2003 - دار الشروق، القاهرة- الجزيرة نت
(2) الكل أميركيون؟ .. العالم بعد 11 سبتمبر 2001 - المؤلف: جون ماري كولمباني- كامبردج بوك ريفيوز
(3) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت- ط1 2003 - رياض الريس للكتب والنشر، بيروت
(4) المدنس والمقدس .. أميركا وراية الإرهاب الدولي-المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله- عرض/إبراهيم غرايبة- الجزيرة نت(2/155)
فتقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب، اعتمد المادة الثانية والعشرون من القانون الأميركي (2656 دي) الذي يعرف الإرهاب بأنه عنف متعمد بدوافع سياسية، يجري ارتكابه ضد أهداف غير محاربة، بواسطة جماعات شبه قومية أو عملاء سريين، ويهدف عادة إلى التأثير في الجمهور. ويفسر مصطلح غير محاربة على أنه يتضمن المدنيين والعسكريين الذين يكونون وقت الحادثة غير مسلحين أو خارج الخدمة وكذلك المنشآت العسكرية أو العسكريين في حالة عدم وجود أعمال عدائية في تلك المواقع، مثل التفجيرات ضد القواعد الأميركية في أوروبا، والفلبين، وأماكن أخرى. ويعنى الإرهاب الدولي، الذي يشمل مواطنين أو أراض أكثر من دولة، ويعنى مصطلح جماعات إرهابية، أية جماعة تمارس الإرهاب، أو أية جماعة لها جماعات فرعية هامة تمارس الإرهاب الدولي.
وبالرغم من أن هذا التعريف يغفل أمور كثيرة وتم وضعه ليتناسب مع المصلحة الأمريكية، لتبرير حربها على العالم الإسلامي، وأيه جهة تحاول مقاومة الهيمنة الأمريكية، حيث تغافل عن إرهاب الدولة التي تمارسه أمريكا وإسرائيل، وخلط بين الإرهاب والمقاومة المشروعة للشعوب، إلا أن التقرير المشار إليه يفضح الادعاءات الأمريكية حول الإرهاب الإسلامي، http://www.aljazeera.net/NR/exeres/ حيث سجل التقرير 348 عملية يعتبرها إرهابية، وقعت في أنحاء العالم في العام 2001م، وكان نصف هذه العمليات عمليات استهدفت خطوط النفط في كولومبيا، التي تملكها شركات أميركية، ووقعت 194 عملية من بين هذه العمليات في أميركا اللاتينية، و68 في آسيا، و33 في أفريقيا، و29 في الشرق الأوسط، و17 في أوروبا. وقد قتل في هذه العمليات 3547 من بينهم حوالي ثلاثة آلاف هم ضحايا تدمير برجي المركز العالمي للتجارة في نيويورك. وبالطبع فإن التقرير يتجاهل الذين قتلتهم إسرائيل، أو الذين قتلوا في أفغانستان، ومن بينهم على سبيل المثال ألف أسير قتلوا خنقاً في شاحنات مغلقة. وكانت الأغلبية الساحقة من القتلى، أو كلهم عدا 677 شخصا- في الولايات المتحدة وإسرائيل، مما يعنى أن الحرب هي في الحقيقة موجهة لبلد واحد هو الولايات المتحدة وحليفه الأساسي، إسرائيل وليست حرباً عالمية كما يريدنا التقرير أن نعتقد. ويبدي التقرير والتصريحات الرسمية المرافقة أن العدو هو ما يهدد المصالح(2/156)
الأميركية فقط، دون اعتبار لأعداء فرنسا أو إيطاليا أو مصر ـ على سبيل المثال ـ أو غيرها من دول العالم. http://www.aljazeera.net/books/2003/5/ - TOP
كما يبدي التقرير الأميركي وفق معاييره للإرهاب، أن ضحايا الإرهاب على مدى السنوات الماضية كان ضئيلاً جداً باستثناء عام 2001م، ففي عام 1996م قتل 25 شخصا، وفي عام 1997م قتل سبعة فقط، وفي عام 1998م قتل 12، وفي عام 1999م قتل خمسة، وفي عام 2000م قتل 23. ويشير التقرير أيضاً إلى أن عدد العمليات الإرهابية منذ عام 1981م حتى 2001م يتجه إلى التناقص وليس إلى الزيادة، كما توهمنا إعلامياً الولايات المتحدة. ولا تشمل تلك الإحصاءات بالطبع ضحايا الإرهاب الإسرائيلي في فلسطين، وفي لبنان، ولا ضحايا الإرهاب في دول أخرى كثيرة، مثل مصر والجزائر ودول أفريقية عدة، واتسعت القائمة في الوقت نفسه لتشمل حركات مقاومة الاحتلال الذي تؤيده جميع الشعوب والمواثيق (1). وظهر صراعاً في استعمال مفاهيم الإرهاب والمقاومة والجهاد، تغذيه وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تهيمن عليها أميركا رغبة منها في الدفاع عن سمعتها بعد الذي حدث في أفغانستان والعراق، وهو ما يؤدي إلى حرب المصطلحات فيتصارع مفهوم القتل والانتحار والاستشهاد، كما يتصارع مفهوم التحرير مع مفهوم الاحتلال، ومفهوم الديمقراطية مع مفهوم الشورى، ومفهوم الاستعمار مع مفهوم الإستدمار، ومفهوم النصر مع مفهوم الهزيمة (2).
ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟
في كتاب (ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟) يقدم مجموعة من الكتاب الأوروبيين، آراءهم حول ما يتم تعريفه باعتباره إرهابا وتداعيات أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، والحرب الأميركية على العراق، حيث يفتح الكتاب آفاقا للقراءة والتأويل والمحاورة حول أهداف الإمبراطورية الأميركية الجديدة، وسعيها لتوسيع
_________
(1) سفر الموت .. من أفغانستان إلى العراق - تأليف محمود المراغي- الجزيرة نت
(2) بين حضارة القوة وقوة الحضارة - تأليف الدكتور غيات بوفلجة-عرض/سكينة بوشلوح(2/157)
مصالحها، ومحاولتها لإحاطة نفسها بهالة من الأفكار والشعارات والرموز والاعتقادات، وتحولها إلى سبب للعنف ومصدره.
وهنا يفسر الفيلسوف الفرنسي (جان بودريار) الفعل الإرهابي، وما يترتب عليه في قراءته لأحداث 11 سبتمبر قائلا: "نحن (الغرب) الذين أردنا هذه الأحداث، وإن ارتكبها (هم)، وإذا لم ندرك ذلك يفقد الحدث كل بعده الرمزي، فيبدو حادثة محضة نفذها بضعة متعصبين يمكن القضاء عليهم وإزالتهم من الوجود، والحال أننا نعلم جيدا أن الأمر ليس كذلك". فالحادث برأي (بودريار) يتعدى بكثير مجرد الحقد على قوة عالمية مسيطرة، فمن المنطق أن يؤجج تفاقم القوة الرغبة في تدميرها، وأن تكون شريكة في تدميرها الخاص. فالغرب وقد تصرف كما لو أنه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية والأخلاقية المطلقة يغدو انتحارياً، ويعلن الحرب على نفسه، وقد كان انهيار برجي مركز التجارة تواطؤا غير مرتقب.
فالنظام الذي وضعته هذه القوة العالمية، هو الذي أنشأ الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف المباغت، وباستئثاره على كل الأوراق، فإنه يرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة، فهو رعب مقابل رعب. فقد كانت فكرة مقاومة النظام العالمي أو العولمة بسيطة، فهذا النظام الذي يكره الموت ويتجنبه، يكون السلاح المميت ضده هو الموت، وقد استخدم المنفذون رتابة الحياة الأميركية قناعاً للعبة مزدوجة، وكانت قدرتهم على تدمير هذه الحياة السرية أكثر أهمية وخطورة من العمل الذي قاموا به في 11 سبتمبر (1).
فرضيات حول الإرهاب
يلاحظ الفيلسوف الفرنسي (جان بودريار) أن النظام العالمي المهيمن يقتضي بالضرورة وجود إرهاب لكي يستمر في العمل والسيطرة، لأنه دون إرهاب سينهار هذا النظام، وهكذا فإن تواطؤاً عميقاً ينشأ بين الخصمين، حتى إن المحلل يتساءل من يستخدم من؟. فهذا التواطؤ ليس بالضرورة خطة مقصودة تعد مسبقاً، ولكن
_________
(1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار عرض/ إبراهيم غرايبة -الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي(2/158)
نظام الهيمنة والعولمة والسلطة بحد ذاته يحمل نقيضه، وقد يكون التناقض حاجة بنيوية في النظام نفسه. والأميركيون يحتاجون لأن يكونوا ضحايا ويتعاطف العالم معهم، فالضحية في حل من أي عقدة ذنب تجاه أفعاله وجرائمه، وتحتاج أن تستخدم مأساتها كما لو أنها بطاقة ائتمان! وقد جاءت أحداث مركز التجارة العالمي لتستخدم أميركا قوتها الفائضة التي لم تكن تعرف كيف تتصرف بها، وهي مرتاحة الضمير. وقد يكون هذا السيناريو مثل حكايات الخيال العلمي، ولكن هذا الموقف الافتراضي القائم على وجود قوة غامضة تهدد بالإبادة كان موجوداً بالفعل في الذهن أو اللاوعي الأميركي، وكان قائماً لديهم هم فقط، ولا يشاركهم فيه أحد حتى تحول هذا الافتراض إلى حقيقة بفضل الإرهاب والعنف، وتلك هي أميركا كما تحسب نفسها في ظل غياب الغير، وترمق نفسها بتعاطف يكاد يقارب العته.
وهناك رواية متطرفة مفادها، أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هي مؤامرة إرهابية داخلية نفذها اليمين المتطرف الأصولي في أميركا بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية، فماذا لو كان هذا الحادث مزيفاً ومفبركاً؟. الواقع أن هذه الرواية يتواطأ معها الميل الغربي للتقليل من شأن الخصم، فقد تكون أفضل لدى الغرب من الاعتراف بقدرة هؤلاء المجاهدين الغامضين على تكبيد الأميركان هذه الضربة الكبيرة، وقد سبق في قضية تحطم طائرة لوكربي، أن ساد لوقت طويل التحليل القائل بترجيح العطل الفني في الطائرة سبباً لتحطمها، فالاعتراف بالتقصير ـ حتى لو كان خطيراً ـ هو أفضل من الاعتراف بقوة الآخر. ولكن حتى لو كان هذا التفسير حقيقياً، وثبت بالفعل أن الحادث كان من تدبير بعض المتطرفين أو العسكريين الأميركان، فإنه في المحصلة يصب في الافتراض الأول، وهو أن النظام يحمل عناصر تدمير ذاته، ويبقى علامة على عنف داخلي مدمر للذات يؤكد صحة الافتراض الأول (1).
_________
(1) ذهنية الإرهاب .. لماذا يقاتلون بموتهم؟ - جان بودريار وآخرون ترجمة: بسام حجار-الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي(2/159)
الفصل الخامس
اللعبة الكبرى .. يعملها الأمريكان ويقع فيها المسلمون! (1)
أضواء أخرى ... على ما حدث في 11 سبتمبر
لم تكن هجمات الحادي عشر من سبتمبر مجرد ضربة وجهت للقوة العظمى الوحيدة في الصميم فحسب، بل غدت مفصلاً تاريخياً ومنعطفاً أفرز الكثير من الظواهر، ولم تسبب تلك الهجمات أضراراً على صعيد الأرواح والممتلكات فقط، بل برزت فيما بعد أضرار أخرى، من بينها الشعور الوطني المتعجرف في أميركا، والسياسة الخارجية العدوانية، والنظام الدولي المرعب الجديد. ولم تنته آثار تلك الأحداث عند هذا الحد، بل أخذت تفرز ظواهر أخرى، قد تكون أصغر حجماً لكنها ليست أقل ضرراً وإزعاجاً، من بينها ردة الفعل السمجة التي باتت تظهر على صعيد الكتب والتحليلات الإعلامية. والمقصود بهذا هو موجة الكتب والتحليلات المملة، التي يمكن تسميتها بكتب (الحادي عشر من سبتمبر)، أو كتب (النظام الدولي الجديد)، التي ينشرها من باتوا يعرفون بـ (نقاد الثقافات) و (مؤرخو الأفكار)، أو (ما يسمون زوراً بالخبراء) الذين يطلون علينا عبر الفضائيات، ووسائل الإعلام المختلفة، لإقناعنا بوجه نظر معينه في أغلب الأحيان لا تكون بعيده عن دوائر الاستخبارات الأمريكية، أو يقدمون تفسيراتهم الشخصية لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر. ومثل هذه الكتب والتحليلات تقدم للقارئ الكثير من الإدراك المتأخر، والقليل من المعرفة، وتحاول أن تضع تلك الأحداث ضمن اتجاهات تاريخية واسعة، ما كانت خافية على أحد بمن في ذلك مؤلفو تلك الكتب وقراؤها. وأصبح من الصعب اليوم العثور على (مثقف) في الغرب، امتنع ـ لحد الآن ـ عن الإدلاء بدلوه في هذا الموضوع، سواء من
_________
(1) اللعبة الكبرى .. يعملها الأمريكان ويقع فيها المسلمون! - أورخان محمد علي- اسلام اون لاين-3 - 11 - 2001 - http://www.islamonline.net/arabic/politics/2001/11/article4.shtml(2/160)
خلال بحث نشره أو ملاحظة عابرة أدلى بها. وفي كل تلك الإسهامات تطل من بين الكلمات تلك النبرة المتعالمة، التي تقول للقارئ، ألم أقل لكم ذلك؟ " (1).
وفي معالجتنا في هذا الكتاب لأحداث 11 سبتمبر، سنحاول الخروج عن تلك الظاهرة، لان تلك الاحداث ليست موضوعنا الرئيس في الاساس، بل جاءت في اطار رؤية شامله نحاول من خلالها القاء الضوء على الابعاد الدينية والتوراتية للسياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية والعالم، يضاف إلى ذلك اننا سنحاول اثباث فرضية طرحناها منذ الاسبوع الأول للاحداث، استنتجناها من خلال فهمنا للتوجهات الأمريكية تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي في ظل النظام الدولي الجديد، حتى يمكن الاستفادة منها في المستقبل، ليس فقط لادانة أمريكا، بل لادانة انفسنا بالدرجة الأولى، لاننا سمحنا لانفسنا بالجري وراء سراب وبطولات مزعومه، وغيبنا وعينا وعقولنا، وحتى تغافلنا عن مبادئ ديننا السمح الذي لايقبل مثل هذه العمليات، والتي ارتدت علينا كمسلين وعرب باسوأ النتائج.
ولهذا فاننا سنحاول هنا تقديم تحليل منطقي للأحداث وتداعياتها، بالرغم من التضليل الإعلامي الهائل الذي مارسته وسائل الأعلام الأمريكية، لإقناع الرأي العام العالمي بمسئولية ابن لادن وتنظيم القاعدة على وجه الخصوص، والمسلمين عامه عن أحداث 11 سبتمبر. فبالرغم من أن كثيراً من الدراسات والتحقيقات شككت في صدق هذه الاتهامات الأمريكية، لأسباب عديدة ـ سنوضحها في هذا الفصل ـ إلا انه للأسف، ظلت مثل هذه الأصوات خافته وغير مسموعة أو تم إسكاتها، هذا بالرغم من مشروعية طرحها ومنطقيته. فآلة الدعاية الأمريكية الضالة والمضللة استطاعت بأكاذيبها تضليل العالم، من خلال ما يشبه عملية غسيل دماغ كونية، مارستها الإدارة الأمريكية بآلتها الإعلامية الضخمة، مستعينة بخبراء ومتخصصين من كل الجنسيات لتمرير ما تريده هذه الإدارة، التي مارست أعتى أنواع الإرهاب على العالم، بحيث أصبحت حرية الرأي مقيدة قبل أن تبدأ.
_________
(1) الإرهاب والليبرالية- بول بيرمان ـ الناشر: نورتون، نيويورك ولندن- ط1 2003 - عرض/ كامبردج بوك ريفيوز(2/161)
فالإرهاب الذي واجهت به أمريكيا العالم رافعة شعار: (إما معنا أو مع الإرهاب)، سيظل إلي أبد الآبدين وصمة عار في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية .. لا .. ليس في تاريخ الولايات المتحدة فقط .. بل في تاريخ الحضارة الغربية كلها .. وصمة الكذب القادر علي قتل من يرفض تصديقه .. وصمة البرابرة والهمج التي سقطت عن وجوههم فجأة كل الأقنعة، التي تقنعت بها لتكشف زيفاً عاش بالكذب القرون تلو القرون. فالأمر هنا لا يتعلق فقط باتهام أغلب الظن أنه كاذب، شنت أمريكا بسببه حرباً عالمية، بل بالممارسات التي صحبت شن هذه الحرب. وحتى لو كان هذا الاتهام صادقا، ً فإنه لا يبرر علي الإطلاق شن مثل هذه الحرب، ولا أي حرب علي الإطلاق. لأن أفغانستان الدولة لم تشن حرباً علي الولايات المتحدة، و إنما تشتبه الأخيرة في شخص ما وتتهم أفغانستان بإيوائه (1).
ولكنها اللعبة الكبرى للقرن الحادي والعشرين .. لعبة قامت بها مراكز القوى الخفية التي تحكم الولايات المتحدة من خلف الستار ونفذتها بكل نجاح. وهي تفوق في آثارها وانعكاساتها عملية اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق (جون كيندي)، التي نفذتها هذه القوى أيضًا، ونجحت في إسدال ستار كثيف من الغموض عليها. هذه اللعبة الكبيرة والخطيرة سترسم الخطوط العامة للسياسة الدولية لعشر سنوات مقبلة على الأقل، ولا يستطيع أحد الآن توقع مضاعفاتها وتطوراتها وآثارها في السياسة الدولية، وفي تصعيد الهيمنة الأمريكية على العالم، وإن بدت آثارها القريبة في أنها أشعلت الحرب الأولى لهذا القرن. كما أنها تنذر بحدوث توترات شديدة بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة، حتى إنها حدت بالكثيرين للقول بأن حرب الحضارات التي تنبأ بها (هانتنجتون) قد بدأت (2).
إنها عملية محبوكه ومنظمه يديرها رجال تسللوا إلى مقاعد صنع القرار، وجواسيس، وأموال، وزعامات سياسيه، ورؤوس تفكر وتخطط، وعصابات تقتل، وإرهاب يفجر، ولكن الجرائم لم يحدث قط أن ولدت كاملة، وكل جريمة لا بد أن ينقصها شيء، والمجرم مهما بلغ ذكاؤه، لا بد أن ينسى شيئاً ... شيئاً صغيراً تافهاً
_________
(1) راجع بل هي حرب على الإسلام - الدكتور محمد عباس- مكتبة مدبولي - 2002
(2) راجع بتفصيل مقال أورخان محمد علي- موقع الإسلام انلاين3 - 11 - 2001(2/162)
ينهار بسببه البنيان كله في الوقت المعلوم. فأصابع الاتهام تجاوزت الجناة، الذين أطلقوا النار مباشرة إلى مدبرين في الخفاء .. رسموا الخطة في بقعة من الأحراش، في (لانجلي) إحدى ضواحي واشنطن .. حيث مقر وكالة المخابرات الأمريكية (1). وهذه الجريمة الصهيونية المحبوكة، التي اشترك فيها مئات العقول الذكية، وقد امتلأت بالثغرات سوف تفتضح وتنهار، رغم حبكتها فكل بنيان يحمل معه جرثومة فنائه، وكل أكذوبة تحمل معها جرثومة فضيحتها (2).
التقرير الألماني
يتساءل (التقرير الألماني) (3) عما حدث يوم 11 سبتمبر: هل هو إرهاب، أم انتقام داخلي، أم انقلاب عسكري؟! ويواصل التقرير تساؤله: ما هذا الذي حدث؟ ومن ذا الذي استطاع أن يذل أمريكا ويمرغ أنفها في التراب، وأن يستهدف أهم مراكزها الاقتصادية والعسكرية، ومؤسساتها الأمنية، وكرامتها السياسية، وهي عاجزة حتى عن فهم ما حدث!! فهل هو فعلا (بن لادن)، الذي يعطونه حجماً أكبر بكثير من حجمه، وأن تكون العملية لمجرد الانتقام من الهيمنة الأمريكية أم هو انتقام يقوم به اليمين الأمريكي المتطرف؟ أم هو عمل أجهزة مخابراتية أجنبية متفوقة لمنع الولايات المتحدة من المضي في مشروع مظلة الصواريخ الدفاعية؟ أم هو صراع الأجنحة المتعارضة داخل السلطة الأمريكية، وبدء النظام العالمي الجديد فعلاً؟.
وفي البداية نؤكد أننا سنعرض لاحتمالات قد تبدو خيالية، إلا أنها ستظل أكثر واقعية من التصريحات الأمريكية الساذجة، التي تعودنا عليها من قبل، سواء في ضرب مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم، بزعم أنه مصنع للأسلحة الكيماوية، أو حكاية انتحار (جميل البطوطي) في قصة الطائرة المصرية الشهيرة. فقد بدا واضحاً،
_________
(1) صلاة الجواسيس - عادل حمودة ص11
(2) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص26
(3) ما حدث هل هو إرهاب، أم انتقام داخلي، أم انقلاب عسكرى- تقرير وليد الشيخ - المصدر: شبكة المعلومات العربية محيط(2/163)
ومنذ اللحظة الأولي لعديد من خبراء مكافحة الإرهاب الأوروبيين، أن دقة وتنظيم وكفاءة العملية أكبر من إمكانيات جميع المنظمات المعروفة، مثل الجهاد، أو حماس، أو حزب الله، أو الجبهة الشعبية، أو الديمقراطية، بل أيضاً من منظمة القاعدة، التي يترأسها ابن لادن. كما شكك العديدون في التصريحات الرسمية الأمريكية، حتى أن أحد الخبراء أكد في القناة الثانية الألمانية ( ZDF) ، أن كل ما يقال مجرد تكهنات، وأن التحقيقات محاطة بالسرية التامة، بل أن المخابرات الأمريكية إما أنها تحاول تسليط الأضواء بصورة مقصودة إلى جهة محددة، حتى لا تتجه أفكار الرأي العام إلى جهات أخرى حالياً، وإما أنها ليس لديها أي فكرة عما حدث، وفي حقيقة الأمر فإن هناك العديد من الألغاز التي تتعارض مع التفسيرات الأمريكية التي زعمت أن الأمر تم عن طريق خطف طائرات مدنية وتوجيهها إلى أهداف معينة كقنابل مدمرة.
أسئلة مريبة
من نافلة القول: إنه لا توجد في العالم بأسره منظمة أو جماعة تستطيع تنفيذ مثل هذه العملية الدقيقة، التي تتطلب ليس فقط مستوى عالياً من الخبرة والتكنولوجيا، بل الأهم أنها تتطلب وجود متعاونين وعملاء في أرفع مستويات المسؤولية في البنتاجون، وغيره من المراكز الحساسة التي تقبض على الإدارة الأمريكية .. وإلا فمن يستطيع تفسير كيف أن أجهزة الإنذار في طول البلاد وعرضها تصاب بالشلل لمدة تقارب الساعة! علمًا بأن هذه الأجهزة مبرمجة منذ سنوات الحرب الباردة على العمل الفوري، بحيث إن الطائرات الحربية تغطي السماء الأمريكية في بضع دقائق فقط.
ومن يستطيع تفسير كيف سكتت أجهزة الإنذار الموجودة في مبنى البنتاجون، المعروف بأنه أحصن بناية في العالم، مع أنه مر وقت طويل يقارب الساعة بعد وقوع الهجوم الأول على مركز التجارة في نيويورك؟!! .. ومن يستطيع الوصول إلى أجهزة الإنذار الموجودة في أماكن حصينة لا يمكن الوصول إليها، إلا بعد المرور من نقاط تفتيش، وسيطرة عديدة، ولا يسمح لغير المسؤولين بالاقتراب منها أصلاً؟! .. ومن يستطيع معرفة رموز الشفرات السرية الخاصة بهذه الأجهزة؟!! .. أيستطيع هذا(2/164)
عملاء من منظمة من الشرق الأوسط، أو من أفغانستان؟!! .. وهنا يمكن إذن تصور مدى نفوذ وسيطرة هذه القوة الخفية التي نجحت في شلِّ كل أرجاء الولايات المتحدة مدة ساعة تقريبًا، بل أكثر من ساعة ـ إن حسبنا الوقت الذي مضى بعد خروج أول طائرة عن مسارها، وحتى هجوم الطائرة الأخيرة على البنتاجون. وهل من المعقول أن تخرج أربع طائرات عن مسارها، ولا تطرف عين في الولايات المتحدة؟!
لا توجد جريمة كاملة
يقال في علم الجريمة: (لا توجد هناك جريمة كاملة)، أي أن المجرم لا بد أن يصدر منه خطأ أو قصور أثناء ارتكابه الجريمة. وهذه المقولة تصدق هنا أيضًا؛ فالذين رتَّبوا ونفذوا هذه الجريمة وهذه اللعبة الكبرى اضطروا أن يتركوا وراءهم العديد من الأدلة والمستمسكات، ولكن أجهزة الإعلام الأمريكية والغربية استطاعت، لحد كبير، التغطية على هذه الآثار الواضحة، وحولت أنظار الجماهير إلى نواحٍ أخرى غطّوها بسيل من الأدلة الزائفة (1).
والأسئلة التي نطرحها تكشف هذا الأمر
_________
(1) اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية أسامة بن لادن بأنه يقف وراء التفجيرات التي شهدتها واشنطن ونيويورك، وزعمت أن لديها الأدلة الدامغة التي تثبت إدانته، إلا أن أمريكا لم تقدم الأدلة التي تقنع العالم بتورط بن لادن. وأعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش: "أن واشنطن تملك أدلة الإدانة، ولكنها لن تعلن عنها الآن". وأكد ذلك رئيس الوزراء البريطاني "توني بلير" في خطابه أمام مجلس العموم البريطاني في 4 - 10 - 2001م، إلا أن خبراء بريطانيين قالوا: "إن الأدلة الأمريكية التي أعلنها بلير ليست دامغة، ولا يمكن الاعتماد عليها أمام محكمة قضائية".وقال "ويليام ولاس" أستاذ العلاقات الدولية: "إن ما تم الإعلان عنه لا يكفي لاتهام أسامة بن لادن أمام أي محكمة قضائية في العالم؛ لأنها استنتاجات من معلومات غير مكتملة، وليست أدلة قاطعة". وتناول عدة كتاب، ومحللين بريطانيين تفنيد الأدلة الأمريكية وقالوا: إنها مجرد تصورات مبنية على شواهد تاريخية مسبقة على علاقة الكره بين بن لادن والإدارات الأمريكية، وليست أدلة دامغة تربط بينه وبين إنفجارات أمريكا .. كما أن ما قامت به الإدارة الأمريكية من وضع معتقلي القاعدة وطالبان في معسكر اعتقال في قاعدة جوانتانامو، وليس داخل أمريكيا، يؤكد أن الإدارة الأمريكية ليس لديها أي دليل على تورط هؤلاء في التفجيرات، لأنه لو تم اعتقالهم في سجون أمريكية فإنهم سيخضعون إلى القوانين هناك، مما يعنى تقديم أدله ضدهم والسماح للمحامين ومنظمات حقوق الإنسان بزيارتهم، وهذا ما لا تريده أمريكا، ولهذا تم اعتقالهم في هذه القاعدة العسكرية التي لا تخضع للقانون الأمريكي.(2/165)
1 ـ قالوا إن الخاطفين من العرب الذين تلقوا دروسًا في الطيران المدني. ولا يحتاج الإنسان إلى ذكاء كبير، ليعلم أن الدروس التي تعطى للهواة في نوادي الطيران تشمل قيادة الطائرات الصغيرة، ولا يستطيع المتدرب قيادة طائرات مدنية ضخمة، وأن يخرج بها عن المسار المحدد دون خريطة جوية للمسار الجديد، وأن يطير على ارتفاع منخفض بين ناطحات السحاب فوق مدينة يزدحم جوّها بعشرات الطائرات في كل لحظة، ثم يصيب هدفه بدقة كبيرة ... لا يمكن لأحد تصديق ذلك. حيث تشير تقارير خبراء الطيران إلى أن الضربات نفذها محترفون في الطيران؟ بل إنها ضربات طيارين عسكريين لا يمكن أن ينفذها الهواة. وهنا لابد أن نتساءل: لماذا أغفلت الإدارة الأمريكية النظر في سجلات الطيارين الأربعة؟ وهم أمريكيون ثلاثة منهم شاركوا في فيتنام والرابع قتل أخوه في فيتنام، وقيل أنهم ينتمون إلى جماعات يمينية متطرفة؟!
2ـ كيف استطاعت أربع طائرات الخروج عن المسار دون أن تقع حادثة اصطدام واحدة؟ وكيف لم تصادف أي من الطائرات المنحرفة عن خطوط سيرها العشرات ـ بل المئات ـ من الطائرات التي تزدحم بها السماء؟ وكيف لم يبلّغ أي طيار أبراج المراقبة عن وجود طائرات منطلقة على هواها؟ وكيف لم تُعلن حالة الطوارئ في طول الولايات وعرضها، ولم تعلن المطارات حالة الإنذار القصوى؟ علمًا بأن الطائرات بقيت خارج مسارها المحدد لها أكثر من نصف ساعة. وكيف لم تقم أبراج المراقبة بالاتصال المستمر مع طياري الطائرات الأربع؟ وأين تسجيلات الاتصالات؟ ولماذا لم تنشر أو تذاع؟
3 ـ لماذا لم يرسل أي طيار ـ من قائدي الطائرات الأربع ـ رسالة استغاثة عند حدوث عملية اختطاف؟ حيث إنه لا يحتاج إلا إلى ثوان معدودات. ويستحيل على الخاطف أن يكمل عملية الخطف بسرعة البرق دون مرور بضع دقائق لا بضع ثوان. ولا توجد حادثة اختطاف واحدة في تاريخ الطيران لم يستطع فيها قائد الطائرة إبلاغ برج المراقبة بأن الطائرة قد اختطفت.
4ـ ما الدليل المادي على تورط ابن لادن وبالتالي طالبان التي تؤويه بما حدث في نيويورك وواشنطن؟! لكي تتخذ الولايات المتحدة موقفاً عملياً من أول يوم ضدهم. حيث أعلن رئيس الـ (سي آي إيه) في مقابلة له بعد الحادث بأربع ساعات أن(2/166)
العمليات عليها بصمات ابن لادن؟! فهل التهمة معدة مسبقاً والإدارة الأمريكية على علم بالحادث؟! ثم لماذا أعلن وزير الخارجية كولن باول عن الكشف عن أدلة تورط ابن لادن في العمليات، ثم يعلن الرئيس الأمريكي بعده عن عدم الكشف عن الأدلة؟.
5ـ ما السر في أن الصندوقين الأسودين لكل طائرة لم يحملا أية معلومات؟! أم أنها معلومات لا تناسب الإدارة الأمريكية؟! و إذا كان ادّعي أن بعض الصناديق تأثرت بالحرارة فلماذا لم يستفد من صناديق طائرة بنسلفينيا رغم أن الإدارة الأمريكية أعلنت نبأ العثور عليه سليماً، ثم ما لبثت أن قالت أن المعلومات التي وجدت به غير ذات قيمة؟ علماً أنه من المستحيلات في علم الطيران المادي أن تفقد المعلومات من طائرتين تحطمتا فكيف بأربع أو ست طائرات!!.
6ـ لماذا تكتمت المخابرات الأمريكية على طائرتين أخريين عدا الأربع المعلنة، كانت شركة الطيران (أميركا إيرلاينز) أعلنت عن فقدهما، ثم أعلنت سقوطهما، وسحب الخبر وتوارى عن الأنظار والأسماع؟! ومن الذي أسقط الطائرة التي وقعت في بنسلفانيا؟ ولماذا زعمت الولايات المتحدة أنها سقطت على إثر شجار دار بين الخاطفين والطاقم؟! ولم ترد على التقارير التي أثبتت عن طريق شهود عيان أن مقاتلات أمريكية اعترضتها فأسقطتها؟! كما أعلنت الولايات المتحدة عن إحباطها لعملية خطف طائرة في مطار جون كيندي والقبض على المتورطين ولم تعلن حتى اليوم عن أي معلومة أخرى عن أولئك الخاطفين، الذين زعموا أنهم أحد خلايا الإرهابيين العرب؟!.
7ـ كيف وصل الخاطفون إلى الشفرات السرية، لأجهزة الإنذار التي لا يمكن معرفتها بسهولة إطلاقاً، وكيف استطاعوا أن يصلوا إلى هذه الدقة في التوقيت والأهداف مع وجود سيارات مفخخة على الأرض انفجرت خلف البيت الأبيض وأمام وزارة الخارجية أليس في ذلك ما يدل على احتمال أن تكون التهمة متعلقة بأشخاص في الإدارة الأمريكية ذاتها؟! بل ربما في المخابرات أو البنتاغون؟!
8 ـ لماذا أهملت الولايات المتحدة التهديدات التي أصدرتها منظمة مهرب المخدرات الكولومبي (أوشو) بعد تسليمه لكولمبيا قبل العمليات بأسبوع وتوعدوا فيها أنهم سيجعلون واشنطن جحيماً؟! وتزامنت العمليات مع زيارة وزير الخارجية(2/167)
الأمريكي لكولمبيا؟! ولماذا تجاهلت ايضاً إعلان منظمة الجيش الأحمر اليابانية مسئوليتها عن سلسلة الانفجارات، والذي جاء في اتصال مع صحيفة أردنية. حيث بررت المنظمة الاعتداءات بالرغبة في الانتقام لقتلى هيروشيما، مشيرة إلى أن هذه الانفجارات هي (بيرل هاربير) جديدة.
8 ـ كيف أعلنت الولايات المتحدة عن عدد من الخاطفين أنهم أتباع لابن لادن، وقد عرف عن بعضهم عدم التزامهم الديني، بل نقلت الأخبار أن بعضهم كان يتعاطى المحرمات؟! فكيف لمن هذا حاله، أن ينفذ مثل تلك العمليات؟! وكيف قبضت الولايات المتحدة على رجل سيخي وزعمت أنه من أتباع ابن لادن لمجرد أنه ملتح؟!.
والأسئلة كثيرة جداً والتناقضات لا تنتهي، وكل يوم هي بازدياد، فالتخبط الأمريكي واضح، والارتباك ظاهر من أول ساعة عندما اختبأ الرئيس في ملجئه، وألقى الخطاب مرتجف الشفتين، والهول بادٍ في عينيه. ولكننا ننصح الجميع بأن لا ينجروا وراء هؤلاء المتخبطين، وليطالبوهم بالدليل العملي، فكما زعمت ثبوت التهمة على مفجري طائرة (بان أمريكان) فوق لوكربي وأحضرت ألف وخمسمائة شاهد، وفشلت في إثباتها على أحدهما، واستمر استئناف الحكم لعدم وضوح الأدلة، حتى قررت ليبيا إنهاء القضية.
الطائرات لم تُختطف .. فإذا لم تكن الطائرات قد اختطفت؟ فكيف جرت الأمور إذن؟
منذ البداية شكك الكثيرون في قصة اختطاف أربع طائرات ـ في البداية قيل خمس ثم قيل ست ثم ثمان وهكذا ـ حتى أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق (جورج شولتس)، صرح مشككاً في ذلك، قائلاً: منذ عشر سنوات لم يتم اختطاف طائرة أمريكية، فكيف يتم اختطاف خمس طائرات خلال ساعة واحدة؟ كما أنه من المعروف أن لكل طائرة مدنية تقوم برحلة ما خط سير معين، وارتفاع معين، لا تستطيع الخروج منه، حتى لا تحدث كارثة وتصطدم بطائرات أخرى، خاصة وأن منطقة بوسطن، نيويورك، واشنطن، علي الساحل الشرقي للولايات المتحدة، تعد أكثر منطقة في العالم حماية ومراقبة بسبب الاستعداد القديم لمواجهة أي هجوم نووي من قبل الاتحاد السوفيتي خاصة، علي أهم مدينتين: واشنطن ونيويورك. بالإضافة إلى وجود قاعدة البحرية الأمريكية التي تتعامل بأشعة الليزر، ولعلنا لا ننسي إسقاط(2/168)
الطائرة المصرية، ومحاولات التزييف، والتي حُرّفت فيها الوقائع، وحاولوا إلصاق التهمة بالطيار المصري، والادعاء بأنه قام بعملية انتحارية (1).
وهذا يعنى أن خروج الطائرة عن مسارها سيتم إبلاغه فوراً علي الأقل لحمايتها من السقوط مثلا، كما أن تغيير المسار كان هاماً جداً، حيث خرجت الطائرة الأولي عن مسارها إلى الشمال بدرجة 120 درجة فجأة، حين اقتربت من نيويورك، بينما خرجت الطائرة الثالثة من مطار نيويورك، وسارت في مسارها حتى دخلت ولاية بنسلفانيا، ثم دخلت ولاية أوهايو، ثم عادت فجأة بصورة حادة 30 درجة، حتى تم إسقاطها بجوار مدينة بتسبورج. والرابعة هي الأغرب، حيث أن ما حدث يتناقض مع الفكر الإرهابي، الذي يختار أقصر الطرق، حيث أن الطائرة اقتربت من مطار واشنطن، وسارت في مسارها حتى مرت بولايتي ويست فرجينيا ثم أوهايو .. وفجأة عادت لتقصف مقر البنتاجون في واشنطن نفسها، رغم أنها كانت تستطيع فعل ذلك بمجرد إقلاعها من المطار، وعبور نهر (بوتماك)، بحيث تنتهي من مهمتها في خمس دقائق بدلاً من ستين دقيقة من الذهاب والعودة (2).
حدث كل هذا دون أي رد فعل لأي جهاز أمني أمريكي، وكأنهم يشاهدون فيلماً سينمائياً. ليس هذا فقط بل يتم تحطيم جزءاً كبيراً من وزارة الدفاع الأمريكي البنتاجون بطائرة ثالثة، أي بعد 58 دقيقة من أول اصطدام بمركز التجارة العالمي، رغم أن البنتاجون هو أول هدف يمكن قصفه عند حدوث أي هجوم نووي، أو حتى عسكري علي الولايات المتحدة، فإذا كان البنتاجون لا يستطيع حماية نفسه من طائرة مدنية، فماذا سيفعل مع أي هجوم عسكري حقيقي؟!!.
_________
(1) الطائرة المصرية تم إسقاطها عمداً من قبل عملاء للموساد الإسرائيلي وبالتعاون مع السلطات الأمريكية، حيث كان على متنها عدد كبير من الضباط المصريين الذين انهوا تدريباتهم في أمريكيا في تخصصات عسكرية مقدمه .. ولحتى هذه اللحظة لم يتم الكشف عن ملابسات هذه القضية، التي لم تكتفي أمريكا باغتيال ركاب هذه الطائرة، بل عمدت إلى الإساءة للإسلام ولقائد الطائرة بالادعاء بأنه أقدم على الانتحار لمجرد انه كما زعمت كان يتلو آيات من القرآن، والتي هي أمر طبيعي عند أي مسلم.
(2) 11 سبتمبر .. سيناريو ما حدث هناك- بقلم كابتن/إسحاق الكوهجي- اسلام اون لاين-8 - 1 - 2002 - http://www.islamonline.net/arabic/science/2002/01/article3.shtml(2/169)
تحقيق خطير لمحققين أمريكيين يقلب رواية أحداث 11 أيلول رأساً على عقب (1)
تولى محققون خاصون (جوفاليز) و (كورنس ماى) وغيرهما، كشف ملابسات ما يسميانه فضيحة المؤامرة، التي تجلت بالطائرات، التي دمرت برجي مبنى مركز التجارة العالمية يوم 11 أيلول 2001م، ويقول هذان المحققان (إن اتهام إرهابيين عرب) باختطاف الطائرات، إنما هو جزء من المؤامرة المبيتة منذ وقت طويل. فقد واجهت الولايات المتحدة الأمريكية في السبعينات أزمة متصاعدة، تجلت في اختطاف طائرات تجارية للمطالبة بفدية تخدم أهدافاٌ سياسية، إلا أن الإدارة الأمنية قررت إحباط تلك العمليات، وكلفت شركتين بالعمل مع وكالة نادراً ما يشار إليها في وسائل الإعلام، تعرف باسم (وكالة مشاريع الدفاع المتقدمة) وذلك لوضع مخططات تتيح استعادة الطائرة المختطفة، من دون إرادة المختطفين أو حتى قائد الطائرة نفسه. والخطة في نقاطها الأساسية، كانت تتيح للمراقبة الأرضية الاستماع لكل كلمة وهمسة تقال على متن الطائرة المختطفة، ثم السيطرة عليها بالريموت كونترول وقيادتها لتهبط في المكان المقرر أن تهبط فيه من دون أن يستطيع أحد من الذين على متنها إطلاقاً التحكم بتلك الطائرة.
مشروع إلكتروني سرى
سرية المشروع وأهميته من حيث التخطيط المستقبلي، اقتضت كلها ألا يعرف الطيار أو أحد من المسؤولين في شركة الطيران نفسها بوجود الأجهزة الإلكترونية الدقيقة، وهى على أية حال ليست أجهزة ضخمة، بل عبارة عن (سوفت وير) أي برنامج كومبيوتر، يتولى السيطرة على الطيار الآلي ويتحكم به حسب ما يريد المراقبون على الأرض. ويعرف من يتابع التطورات التكنولوجية، أن الولايات المتحدة بدأت منذ عام 1984م بتجارب للسيطرة عن بُعد على الطائرات والتحكم في سيرها، وأنها نجحت في تجاربها هذه قبل عشر سنوات تقريبًا. وقد أجرت تجربتها الأولى
_________
(1) صحيفة القدس العدد 11701 يوم الخميس 21 آذار 2002(2/170)
الناجحة على طائرة مدنية من نوع بوينج خالية من الركاب ومن طاقم الطائرة. وقد أقلعت هذه الطائرة باستخدام هذه التكنولوجيا، ثم هبطت بسلام في إحدى القواعد.
ويقول خبراء في الطيران أن الأمر كله، عبارة عن التحكم بالطيار الآلي وتعطيله تماماً، ليتم توجيه الطائرة الكترونياً من الأرض، تماماً كما يتم توجيه طائرة التجسس بدون طيار، حيث يتم التحكم في الطائرات (المدنية منها والحربية) عن بُعد، باستخدام نظام حديث يدعى ( JPLS) . فإذا دخلت أي طائرة ـ سواء أكانت مدنية أم عسكرية ـ مجال هذا النظام، استطاع مشغل النظام فكَّ رموز وشفرات نظام الطيران في الطائرة ـ حتى وإن لم يَقُم الطيار بإعطائه هذه الرموز ـ ثم يكمل السيطرة على الطائرة وتوجيهها إلى الهدف الذي يريده، كما يتم إسكات جميع أجهزة الاتصال والتخابر الموجودة على الطائرة. وقد أنفقت الولايات المتحدة على اكتشاف وتطوير هذا النظام الخطير مبلغ (3,2) مليارات دولار. وتعاونت وزارة الدفاع مع مجموعة شركات رايثون RAYTHEON، وهي حوالي عشرين شركة متخصصة في نظم الصواريخ، والدفاع الجوي، ونظم السيطرة على حركة المرور الجوية والنظم الإلكترونية. ويتم تشغيل هذا النظام -أي نظام التحكم في سير الطائرات عن بُعد- بواسطة الأقمار الصناعية.
فكرة استخدمت للجريمة
يقول المحقق الخاص (جوفيالز): إن علينا أن ندرك أولاً أن الغاية من هذا الاختراع، لم تكن الاستغناء عن قائد الطائرة، بل إحباط عملية الاختطاف، ولكن سرعان ما تولت العقول المتآمرة تحويل الفكرة واستخدامها لتحقيق غايات توصف بأنها لخدمة مافيات سياسية وعسكرية ومالية تدير دفة العالم، وتتحكم بالسياسات العليا للدول وتعتبر نفسها (حكومة العالم).
فهناك في كل طائرة جهاز إلكتروني يعرف باسم (المجيب) تكفى لمسه خفيفة ليرسل إشارة استغاثة، تنبئ أن الطائرة مختطفه، ويستخدم دوماً في الاتصال بالطائرات المختطفة. أما بالنسبة لطائرات نيويورك فقد عرف العالم أن أجهزة المجيب في الطائرات الأربع لم تتلق أية إشارة ولم تبعث بأية إشارة تدل على وجود(2/171)
مشكلة. المحقق (جوفيالز) يقول أن ذلك مستحيل إلا إذا أمكن التحكم بتلك الأجهزة وتعطيلها، وكل التحقيقات تبين أن من قيل أنهم خطفوا الطائرات لا يمكن لأي منهم التوصل إلى هذه المرحلة، ثم لا تفسير إطلاقاً لسكوت (المجيب) في الطائرات الأربع، وليس من المعقول أن يتم هذا من قبل خاطفين، قيل: إن سلاحهم سكاكين صغيرة. وهناك نقطة أخرى، فهل يعقل لأكثر من سبعين أو ثمانين راكباً يرون أنهم على وشك الهلاك، ألا يوجد بينهم من يقاوم أو يحاول المقاومة، أو يصرخ أو يستنجد أو حتى يستغيث ويسترحم، حيث لم تصدر عن أي من تلك الطائرات أية إشارات تدل على ذلك، وهذا يخالف كل منطق!
يتابع المحقق (جوفيالز) فيقول: إن كل القرائن والأدلة تبين أن الطائرات اختطفت الكترونياً بالريموت كونترول، وتم توجيهها لتدمير البرجين، وقد حملت أقوال بعض الشهود ساعة الحادث أن الطائرة التي ضربت البرج الثاني، كانت تميل مبتعدة قليلاً، لكنها تعود لتتجه نحو البرج، وتفسير ذلك أن الطيار كان يحاول الابتعاد دون جدوى. إلى أكثر من ذلك يذهب (تيرى ميسان) فيكشف عن جانب آخر من الأسرار لا يدركه إلا المتخصصون في علم الطيران، حيث يقول: إنه بعد سؤال الخبراء في هذا المجال، تبين انه من المستحيل على الطائرات المدنية كالتي استعملت في الهجوم، أن تصيب هدفها بهذه الدقة ما لم تكن هناك رادارات معدة سلفاً داخل البرجين المستهدفين أو في واجهة كل منهما، وهو ما حصل فعلاً قبل ساعتين فقط من بدء الهجوم، وأحدث تشويشاً على أجهزة الراديو والتلفزيون الكائنة في المنطقة، أما من دون ذلك فمن العبث أن يتمكن الطيار يدوياً أو أوتوماتيكياً من النجاح في التصويب الدقيق، حتى لو قامت بتنفيذ هذه العملية عدة طائرات في وقت واحد (1). وهكذا يتبين من تسلسل أحداث الهجمات ـ التي تمت على نيويورك وواشنطن ـ أن الطائرات لم تُختطف، بل تم التحكم فيها عن بُعد، وأجبرت على السير نحو الأهداف المرسومة لها من قبل (2).
_________
(1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص28
(2) راجع: http://www.sweetliberty.org/issues/war/homerun.htm(2/172)
حادث الطائرة المصرية
إن حادث (نيويورك وواشنطن) لم يكن الحادث الأول، الذي تُستخدم فيه برمجة طائرات مدنية من قبل منفذي هذا الهجوم، ولكن قد تم الترتيب لهذا الهجوم قبل عامين، عندما تم التجريب على الطائرة البوينج 767 المصرية في رحلتها من نيويورك إلى القاهرة، وتحطُّمها في المحيط الأطلسي بعد الإقلاع بنصف ساعة تقريبًا! وما تبع ذلك من التصريحات الأمريكية المتناقضة والإشاعات الإعلامية الرخيصة، حيث أن هذا الحادث كاد يفجر أزمة سياسية بين الحكومتين المصرية والأمريكية، وما زالت نتيجة التحقيقات غامضة إلى يومنا هذا.
وفي هذا الحادث الغامض للطائرة المصرية، لم يُعط أي تفسير علمي أو منطقي يبرر سقوط الطائرة إلا كلمة تفوَّهَ بها الطيار، فُسِّرَتْ بأنها إشارة، إلى أن الطيار قد قام بعملية انتحارية! (1)
مع أن تقرير التسجيل الصوتي الذي تم نشره، أكد أنه كان يستغيث، ويطالب زميله الكابتن (الحبشي) بأن يساعده في إخراج الطائرة من الوضع الذي كانت تهوي فيه إلى المحيط، لكن جهودهم باءت بالفشل لعدم
_________
(1) الكلمة التي قالها الطيار والتي فسرها الأمريكيون على أنها تعنى قيامه بعمليه انتحارية هي "توكلت على الله" وبالرغم من استهجان كافة المسلمين لهذا التفسير الأمريكي الباطل، إلا أننا فوجئنا، بل صدمنا من قيام قناة الجزيرة ببث حلقتين من برنامج "سرى للغاية" للمذيع يسرى فوده، حيث استند في اتهامه لتنظيم القاعدة ومحمد عطا بأنهم يقفون وراء التفجيرات إلى آية قرآنية سطرها محمد عطا على رسالته لنيل شهادة الماجستير، حيث ركز هذا المذيع على هذه الآية وكأن محمد عطا كان يقصد من ذلك نيته القيام بهذه العملية، بالرغم من انه لا توجد أية علاقة بين الحادثين. وهذا التفسير المغلوط والمغرض والملتوي يعنى أن كل مسلم يضع أية آية قرآنية على مكتبه أو في بيته أو في رسالته ... الخ هو إرهابي ويخطط للقيام بعمليه استشهادية. منطق غريب واعوج.
يقول يسرى فوده في برنامجه المليء بالمغالطات والذي أذيع في12/ 9/2002م: أمام الغربيين سؤال، وسؤال آخر أمام المسلمين، فرغم أننا استطعنا من خلال هذا التحقيق أن نقطع الشك باليقين في من أراد، ثم خطط ثم نجح في أن يصفع الإدارة الأميركية صفعة مدوية على أرض أميركية أمام العالم كله، فإننا لسنا متأكدين بعد من أن أحداً ما في هذا البلد لم يمانع في الواقع في الانحناء ولو قليلاً لتلقي هذه الصفعة كي ينطلق منها إلى ركل ورفس في كل زاوية دون رادع. وأمام الغربيين وبخاصة الأميركيون منهم إن أرادوا حقاً إنصافاً بأنفسهم أن يتساءلوا عن ذلك الذي يمكن أن يدفع شباباً بعضهم على أعلى درجات العلم، وبعضهم على أعلى درجات الانفتاح على الحياة، وبعضهم من أثرى أثرياء العرب، وكلهم في عمر الزهور إلى أن يلقوا بأنفسهم طوعاً إلى ما يراه الأميركيون تهلكة ويرونه هم جنة الفردوس. هكذا نستطيع الآن أن نفهم لماذا اختار الأمير محمد عطا أن يصدر رسالته للماجستير بهاتين الآيتين (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ) صدق الله العظيم.(2/173)
استجابة الطيار الآلي لزر الانفصال، واستمرت الطائرة في النزول وبسرعة وهو ما حدا بالطيار إلى القيام بإغلاق المحركات، محاولا بذلك قطع التيار الكهربائي عن جميع أجزاء الطائرة مؤقتًا، ظنًا منه أن ذلك سيكون كفيلاً لفصل التيار عن أجهزة الطيار الآلي، ومن ثم يعاود تشغيل المحركات والسيطرة على الطائرة، لكن الأجل المحتوم حال دون ذلك، وتحطمت الطائرة، وتركت تساؤلات كثيرة أهمها وجود العدد الكبير من خيرة الطيارين العسكريين من أبناء مصر، وغيرها من التساؤلات المهمة، والتي لم نجد لها جواباً مقنعاً وشافياً إلى يومنا هذا (1).
لا صحة لسقوط طائرة على البنتاجون
يشير (تيرى ميسان) إلى أن الإدارة الأمريكية قد ادعت أن الهجوم على البنتاجون تم من خلال اختراق طائرة بوينغ 757 للطابق الأول أو الثاني من البناء، وان ذلك تم بعد هبوطها إلى مستوى لامس الحشائش المزروعة حول البنتاغون قبل الاختراق. وعند سؤال خبراء في الطيران الحربي ـ كما يقول ميسان ـ أكدوا أن ذلك أمر مستحيل بالنسبة لطائرة مدنية مثل البوينغ 757، فهي إما أن تجتاح الموقع عمودياً من فوق، أو تنزل إلى مستوى غير قريب جداً من الأرض، وتقوم باجتياحه أفقياً، ولما كان مبنى البنتاغون غير مرتفع ويتألف من طابقين، فإن من المستحيل ضربه أفقياً بطائرة مدنية كما ادعت الإدارة الأمريكية، لأن من المستحيل نزولها إلى هذا المستوى وان نزلت ـ افتراضاً ـ فإن من الطبيعي أن تتسبب بأضرار للسيارات والمركبات الموجودة في المكان، وكذلك الحشائش وأعمدة الكهرباء وما إلى ذلك، وهو ما لم يحصل ولم يوجد أي أثر على ذلك في مكان الحادث. إذن كيف حصل هذا الحادث؟
الإجابة على هذا السؤال يفسرها قرار عدم سماح السلطات الأمنية الأمريكية لأي كان بالدخول إلى المنطقة، إلا بعد فترة تمكنت خلالها فرق الإنقاذ من ترتيب ساحة العمليات! والملفت أكثر للانتباه في هذا الجانب أن أحدا لم ير هيكل الطائرة في المكان، ولا تم تصويره أبداً، ولا تصوير أجزاء منه، بل تم إحضار صندوق أسود
_________
(1) مقال منشور بموقع إسلام اون لاين بتاريخ 8/ 1/2002 بقلم كابتن/إسحاق الكوهجي(2/174)
قيل إنه وجد في مكان الحادث في الوقت الذي تردد في التصريحات الأولية أن الطائرة كانت مروحية. أضف إلى ذلك أن الموقع الذي ضرب كان خالياً من الموظفين والعسكريين، لأن فيه إصلاحات وأعمال بناء، لذلك لم يصب إلا العمال وبعض المتواجدين قربه بالصدفة، وكان مثيراً للدهشة أن عسكرياً واحداً فقط قد لقي مصرعه في الوقت الذي جرى الإعلان فيه عن عدد كبير من الضحايا العاملين في البنتاغون نفسه، كما كان مثيراً للدهشة عدم وجود أي أثر للطيارين أو منفذي العملية! (1).
كما أنه أعيدت إذاعة صور تفجير برجي التجارة العالمي مئات المرات على جميع القوات التلفزيونية، حتى حفرت الصور في أذهاننا جميعاً .. بينما على العكس تماماً .. فقد عرضت صور قليلة جداً لتفجير مبنى البنتاجون، ولم نرَ فيها سوى جزء المبنى المنهار وصور رجال الإطفاء وهم يحاولون إطفاء اللهب .. !! (2).
الطائرات لم تدمر برج التجارة العالمي
بعد انهيار البرجين بشكل لم يتوقعه أحد، لم يتم إجراء تحقيق رسمي متكامل حول الحادث وظروفه وكيفية وقوعه .. الخ، بل تم اعتماد الرواية الرسمية حول الطائرتين دون التفكير بأي شيء آخر، مع التركيز على أسماء المتهمين دون التأكد فعلاً من وجودهم أو تورطهم، ثم تم الانتقال بعد ذلك فوراً إلى التركيز على عملية الهدم السريع لما تبقى من الأبنية المتصدعة وإزالة أنقاضها بالكامل، كما تم وضع كل شيء وجد في هذا المكان بين أيدي الـ (اف. بي. اي)، واعتبر سراً من أسرار الدفاع الوطني! وهذا الاستعجال في لفلفة الأمور لم تعجب المسؤولين عن جهاز الإطفاء في مدينة نيويورك، الذين لم تتطابق قناعاتهم مع أقوال السلطة. ذلك لأن حمولة الطائرتين من الوقود لم تكن كافية لصهر الهيكل المعدني للبرجين في هذا الوقت القصير، وهذا أمر مستحيل من الناحية العملية الكيميائية، وإلا لكان هذان البرجان مصنوعين من الكرتون، ولهذا طالب رجال الإطفاء بفتح تحقيق لمعرفة ما إذا كان قد
_________
(1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص 9 - 25
(2) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص49 - دار الاحمدى للنشر - الطبعة الأولى 2003(2/175)
حصل هناك انفجار في قاعدة البرجين، لكن السلطات الفيدرالية لم توافقهم على هذا الطرح. وهذا يعني أن الانهيار الكامل لبرجي مركز التجارة العالمي لم يكن ممكن الحدوث دون وجود متفجرات مزروعة داخل المبنى مسبقاً (1).
فكل الخبراء يقولون: إنه لا يمكن تدمير البرجين بالكامل، وبهذا القدر من الدقة دون وجود متفجرات مزروعة مسبقاً في مواقع استراتيجية داخل البرجين (2)، وقد تم توقيت تفجيرها بعناية بالغة. فلا يمكن لارتطام الطائرة بالبرج من الناحية الهندسية أن يدمر المبنى بالشكل الذي حصل (3). وقد شاهدت بنفسي حلقة من البرنامج الوثائقي (حدث في مثل هذا اليوم) عرض فيه لحادثة اصطدام طائرة ب 52 العسكرية العملاقة في عام 1945م، ببرج في مدينة نيويورك، حيث لم يؤدى هذا الحادث إلا إلى إلحاق أضرار بسيطة بالبرج، بالإضافة إلى مقتل عدد من الأشخاص في الدور العلوي الذي اصطدمت به الطائرة، وبعض المارة على الأرض نتيجة تساقط حطام الطائرة على الأرض.
ولإخفاء حقيقة أن البرجين تم تدميرهما بواسطة متفجرات زرعت بالبرجين مسبقاً، تم تلزيم التخلص من أنقاض البرجين بعد اقل من 24 ساعة من الحادث، وقد رسى التلزيم على الشركة نفسها التي تعهدت بالتخلص من أنقاض مبنى (مورا) في مدينة اوكلاهوما؟. ويتضمن التعهد الإسراع في صهر الفولاذ وإعادة تدويره دون إجراء أي تحقيق أو بحث، مما آثار غضب مسئولي الدفاع المدني في نيويورك.
أمريكي ينفق ملايين الدولارات لإثبات نظرية (مؤامرة من الداخل) وراء أحداث سبتمبر
انفق (جيمي وولتر) أكثر من ثلاثة ملايين دولار للترويج لنظرية مؤامرة مفادها أن أحداث 11 سبتمبر 2001م في الولايات المتحدة كانت عملاً من الداخل. وهو يعرض الآن جائزة مالية لمن يثبت خطأ نظريته. والناشط المليونير مقتنع تماماً بوجود تغطية حكومية على الأمر إلى درجه جعلته يعرض جائزة قدرها مائه ألف
_________
(1) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص79
(2) أستاذ الفيزياء في جامعة بريغهام يونغ ستيفن جونز أكد ان انهيار البرجين لم يكن بسبب اصطدام الطائرات بل بسبب وجود متفجرات مزروعه في المبنى.
(3) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص 28(2/176)
دولار، لأي طالب هندسة يمكنه أن يثبت أن برجي مركز التجارة العالمي انهارا بالطريقة التي أعلنتها الحكومة، حيث أعلن أن لجنه تحكيم من خبراء في الهندسة ستقيم الأوراق التي يقدمها الطلبة.
وفي مقابلة قال وولتر (57 عاماً) الذي ورث ثروة والده المقدرة بأحد عشر مليون دولار، حققها في مجال التشييد: بالطبع لا نتوقع فائزين. واتهم وولتر شخصيات في الحكومة والجيش وقطاع الأعمال بالتورط في أحداث 11 سبتمبر. ويصر (وولتر) على أنه كانت هناك بالتأكيد متفجرات زرعت في البرجين وهذا ما تسبب في سقوطهما بهذه الطريقة بالذات. كما رفض التفسير الرسمي للتلفيات التي لحقت بمبنى بالبنتاجون. وانفق (وولتر) ملايين الدولارات لدعم قضيته ونشر إعلانات على صفحات كاملة في صحف ومجلات كبرى، وإعلانات تلفزيونية مدة كل منها 30 ثانية. وأشار استطلاع أجرته مؤسسة زغبي وكشف عن أن 66 في المائة من سكان نيويورك، يريدون إعادة فتح التحقيقات في الهجمات (1).
أدلة أخرى
من المعروف أن الطائرة رقم11 اصطدمت بالبرج الشمالي الساعة 8:46 صباحاً، ثم اصطدمت الطائرة 175 بالبرج الجنوبي الساعة 9:30 صباحاً، وخلافاً لهذا الترتيب انهار البرج الجنوبي أولاً الساعة 9:50 صباحاً، أي بعد 47 دقيقة من التصادم الثاني للطائرة 175 به، ثم انهار البرج الشمالي الساعة 10:29 صباحاً، أي بعد 103 دقيقة من التصادم الأول للطائرة 11 به (2). وهنا نتساءل لماذا احتاج حديد الهيكل الإنشائي بالبرج الشمالي إلى ضعف الزمن الذي احتاجه نظيره بالبرج الجنوبي لينصهر مثله؟!! لقد تعرض الحديد في هيكلي البرجين لنفس درجة الحرارة، لأنها نتجت عن اشتعال نفس نوع الوقود في الطائرتين وبكميات متساوية. والمنطقي أن ينصهر الحديد في زمنين متساويين أو متقاربين، لكن ليس في زمنين أحداهما ضعف الآخر؟ لكن الإعلام الأمريكي يصر على أن يجعلنا نصدق أن هيكل البرج
_________
(1) جريدة الخليج- العدد 9343 - 17/ 12/2004
(2) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص87(2/177)
الشمالي ذاب في ضعف الزمن الذي احتاجه البرج الجنوبي، خلافاً حتى لقوانين الطبيعة!
وحتى لو سلمنا بذلك الزعم، فان حقيقة جديدة يمكن أن تعترضنا وتنسف هذا الزعم نسفاً .. ذلك أن مراجعة شرائط الفيديو المسجلة للإصطدامين، تبين لنا أن الطائرة الأولى (رحلة 11) قد اصطدمت بمنتصف واجهة البرج الشمالي، وغاصت بكاملها داخله، بينما اصطدمت الطائرة الثانية (رحلة 175) قرب الركن الجنوبي للبرج، أي أن هناك فارق بين التصادمين تتبدى أهميته في أن وقود الطائرة الثانية قد تطايرت كمية كبيرة منه إلى خارج المبنى الجنوبي، عبر الحائط المجاور للركن أو الزاوية محدثاً انفجاراً اكبر حجماً خارج البرج، كما رأينا فيما بثته القنوات الفضائية عقب الحادث، بينما اشتعل وقود الطائرة الأولى بكامله داخل البرج الشمالي. إذن فحجم الوقود الذي اشتعل داخل البرج الجنوبي كان أقل حجماً من نظيره الذي اشتعل بالبرج الشمالي، ومعنى ذلك أن كمية الحرارة التي نتجت في حريق البرج الشمالي كانت اكبر بكثير من كمية الحرارة التي نتجت عن حريق البرج الجنوبي .. ومع ذلك فقد انصهر الصلب في أعمدة وكمرات الهيكل الإنشائي بالبرج الجنوبي أسرع من توأمه الشمالي، وانهار بعد 47 دقيقة! يضاف إلى ما تقدم حقيقة علمية مهمة وهي أن صلب الأعمدة الحديدية لا يمكن أن ينصهر من وقود الطائرات، لان الحرارة الناتجة من اشتعال وقود الطائرات تصل إلى 815 درجه مئوية بينما الحديد الصلب ينصهر عند درجة 1538 (1).
محاولات تزييف التحقيقات
مما تقدم يتضح انه من العبث القيام بالبحث عن خاطفين لهذه الطائرات، لأنها لم تختطف، بل وُجِّهت عن بُعد إلى الأهداف المرسومة لها. كما أن الأبراج لم تنفجر نتيجة اصطدام الطائرات بالأبراج، بل نتيجة تفجير داخلي ... الخ. ولكن لما كان من شروط اللعبة اتهام العرب والمسلمين بتنفيذ الضربة الجوية، كان من الضروري ترتيب سيناريو خطف الطائرات من قبل إرهابيين عرب. ولكن عندما
_________
(1) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص87 - 91(2/178)
اتجهت التحقيقات إلى مثل هذه الوجهة الخاطئة، ظهر العديد من محاولات التزييف، وتبين أن غاية التحقيقات لم تكن من أجل الوصول إلى الحقائق، وتعيين مرتكبي العملية، بل إلصاق التهمة بالعرب وبالمسلمين.
نذكر هنا أمثلة من هذه المحاولات:
1 ـ عندما أعلنت الخطوط الجوية الأمريكية أول لائحة بأسماء الركاب، لم يكن فيها اسم أي عربي. ثم تم تغيير اللائحة فجأة ودون ذكر مبرر للتغيير، وقدمت لائحة تحتوي على أسماء 19 راكبًا عربياً، اتجهت إليهم أصابع الاتهام. فكيف يمكن تغيير لائحة الأسماء ببساطة؟ ومن يقف وراء تغيير مسار التحقيق؟ وهنا نتساءل، من يعرف مصير أصحاب الأسماء العربية التي نشرت وقيل إنهم مختطفو الطائرات؟ من أخفاهم أو من تخلص منهم وبأية طريقة؟ ما دام لا يوجد أي اسم منهم في قائمة أسماء الركاب لأي من الطائرات الأربع، فأين هم وكيف اختفوا؟ إلا يستحق هذا السؤال أن يثار من قبل من يتصدون لكشف الحقيقة؟ المحقق الخاص (جوفيالز) نشر لوائح كاملة بأسماء الركاب، وأطقم الطائرات الأربع، وهو يقول: إنه لا يوجد بينها اسم واحد لعربي واحد، ويتحدى السلطات الرسمية أن تنشر كشوفات غير تلك التي ينشرها شرط أن تبين مصدر تلك اللوائح؟ وشرط أن تخضع لتحقيق خبراء محايدين للتأكد من أن أصابع الاستخبارات، والمافيات المتآمرة لم تعبث بها (1).
2 ـ بعد نشر اللائحة الجديدة تبين أنها مزيفة تمامًا، إذ وردت فيها أسماء أشخاص توفُّوا قبل سنتين، كما وردت فيها أسماء أشخاص أحياء ويعملون حاليًا في بلدان أخرى. ومع وجود محاولات التزييف هذه، لم تشعر وسائل الإعلام الغربية - إلا في النادر - بالحاجة للتنديد بالأخطاء الكبيرة في سير التحقيق، ولا إلقاء أي شبهة على نية المحققين ولا كفاءتهم، وبقيت التهمة لاصقة بالعرب وبالمسلمين.
3 ـ ظهر أن المختطفين استخدموا هويات عربية مسروقة أو مفقودة قبل 11 عامًا. ولم يكن أسامة بن لادن قد شكَّل منظمة القاعدة بعد، فكيف حصلت منظمة القاعدة إذن على الجوازات ثم استخدمتها؟ وكيف يمكن لمستخدمي الهويات والجوازات المسروقة التي انتهت مدة صلاحيتها استخدامها عند شراء بطاقات السفر؟
_________
(1) راجع: http://www.sweetliberty.org/issues/war/homerun.htm(2/179)
هل تم شرائها عن طريق الانترنت، أي استخدموا بطاقات الائتمان. ولكن كيف يمكن استخراج بطاقات الائتمان بهويات مسروقة انتهت مدد صلاحياتها؟
4ـ خرجت الولايات المتحدة بعد العمليات بعشرة أيام برسالة، تزعم أنها توجيهات من أبي عطا إلى الخاطفين وجدت في أمتعته، وهي التي تخبطت في إدانته في البداية أكثر من أربعة أيام؟ فلو كانت الرسالة لديها كما تزعم لماذا تخبطت كل تلك الفترة!!.
5ـ يتفق الجميع على أن هذه الجريمة بالغة التنظيم، لذلك يجب أن يكون الذين قاموا بها على أعلى درجة من الكفاءة، فهل يُعقل أن يكونوا بهذا الغباء والإهمال بحيث يتركون الأدلة عليهم ملقاة في كل مكان، ولا يتركوا رسالة مكتوبة توضح الغرض من الجريمة؟ فإذا كان الجناة عرباً، ألم يكن أجدر بهم ترك رسالة بدلاً من تركهم مخالفات وأدلة ملقاة في كل مكان. فحجز الأماكن بالطائرات المخطوفة كان بأسماء عربية، والسيارات التي تم استئجارها للوصول إلى المطار تُركت، وبها مصحف، وكتيبات تعليم طيران، وكتب أخرى باللغة العربية. فالجريمة لا تكتمل إلا بإلْصاق التهمة بالمسلمين، وهذا هو الهدف من ورائها، لذلك نجد الأدلة المختلفة في كل مكان بطريقة مكشوفة تدعو للريبة.
يتبين من هذه الأسئلة ـ ومن أسئلة أخرى طرحها آخرون (1) ـ كيف أن التحقيقات لم تَجْرِ بشكل حيادي للوصول إلى الفاعلين الحقيقيين. فعندما لم تجد أمريكا دليل واحد على مسئولية ابن لادن .. أخذت تلفق الأدلة وتتخبط تخبط جاهل عيي .. لكنه الجاهل العيي، الذي يمسك في يده مسدساً سيطلقه على الفور على من يكذب حججه المتهافتة .. ولم تكن الأدلة التي قدمتها محض غباء، ولا مجرد استهانة بالعالم الإسلامي .. بل كانت إهانة. فتسريب أخبار كاذبة وملفَّقة وبعيدة عن العقل، وعن المنطق، يدل على محاولة تحريف الحقائق عن عمد. فقد سُرِّب مثلاً خبر العثور ـ في أنقاض مركز التجارة ـ على جواز سفر أحد الخاطفين وجُثّة قائد الطائرة الثانية، ويداه مربوطتان. وتلفيق الخبر واضح، لأنه من المستحيل بقاء جثة يمكن التعرف عليها بعد ذلك الانفجار الهائل الذي أذاب الأعمدة الفولاذية للبناية .. إذ كيف يمكن بعد مثل هذا الانفجار وجود جثة غير محترقة؟(2/180)
وهناك علامات استفهام أخرى عديدة لم تحاول وسائل الإعلام الأمريكية أو الغربية الأخرى نبشها ومحاولة الإجابة عنها، مثل:
1 ـ لماذا ألغى شارون زيارته المقررة لمدينة نيويورك يوم الهجوم؟ ولماذا لم تحقق الولايات المتحدة مع رئيس الوزراء اليهودي السابق (إهود براك) الذي كان قبل العمليات بساعة يلقي خطابه في أحد المحطات الأمريكية، ويدين فيه الإرهاب العربي ويدعو لمكافحة الإرهاب؟! ..
2 ـ لماذا شهدت بورصة نيويورك - في اليومين السابقين للهجوم - حركة ونشاطًا غير اعتياديين؟ .. ألا يدل هذا على أن أناسًا كانوا يعرفون ما سيحدث فبدأوا ببيع أسهمهم؟
3 ـ قام مصورون بتصوير هجوم الطائرة الأولى على مركز التجارة تصويرًا حيًّا، فكيف عرفوا أن شيئًا ما سيحدث لكي يوجِّهوا كاميراتهم إلى البناية؟ (1). ولماذا أهملت الولايات المتحدة الاحتفال الذي قام به متطرفون يهود أمام أنقاض مبنى التجارة؟!
4 ـ لماذا لم يكن في الأمكنة المستهدفة عدد يذكر من اليهود؟! وقد أعلنت بعض التقارير عن تغيب 4000 آلاف يهودي عن العمل صبيحة الضربات؟! فقبل ساعتين من الهجوم تم بث رسائل إلى شركات إسرائيلية وموظفيها ممن لها مكاتب في إسرائيل وفي مركز التجارة العالمي، تحذر من الهجوم الوشيك. واعترف (الاف بي أي) بأنه كان يحقق في الرسائل التي تلقيها وأرسلتها شركة (اوديغو) الإسرائيلية.
5ـ لماذا كانت نسبة وفيات الإسرائيليين في مركز التجارة الدولي متدنية بشكل لا يصدق، ما لم يكن هناك على الأقل بعض المواطنين الإسرائيليين ممن تم تحذيرهم. فقد أوردت صحيفة الجيروزليم بوست، وهى من كبريات الصحف الإسرائيلية في عددها في اليوم الذي تلا الهجمات في عناوينها الرئيسة أن هناك أربعة آلاف إسرائيلي، يعتقد أنهم كانوا في محيط مركز التجارة العالمي. فقد كان انخراط إعداد ضخمة من المواطنين الإسرائيليين في الأعمال المصرفية والسمسرة
_________
(1) بثتت بعض محطات التلفزيون أخيرا صور جديدة للحادثة لم تقم ببثها من قبل، تصور الهجوم منذ بدايته ومن زوايا مختلفة.(2/181)
والتمويل والتجارة الدولية في مركز التجارة العالمي أمراً أسطورياً، فحتى مالك مركز التجارة العالمي بالشراكة كان هو نفسه مواطناً إسرائيلياً، لذا فإنه على عكس ما أوحت به الجيروزالم بوست حول عدد القتلى الإسرائيليين في مركز التجارة العالمية، فإن العدد الحقيقي للقتلى الإسرائيليين لم يتجاوز الواحد فقط. هذا هو الصحيح .. قتيل واحد فحسب، وهو رقم غير معقول بكل المقاييس، إلا أن يكون بعض الإسرائيليين قد تم تحذيرهم من الهجوم الوشيك.
هذه الأسئلة وغيرها، أجاب عليها (تيرى ميسان) في كتابه التضليل الرهيب حيث قال: إن مؤسسة إسرائيلية هي وحدها التي استقبلت وقبل نصف ساعة من بدء العمليات رسالة إنذار من مؤسسة أخرى غير معروفة، تحذر من وقوع الهجوم في اليوم ذاته، ثم قامت المؤسسة الإسرائيلية المتخصصة في مجال الاتصالات الإلكترونية بإرسال هذا الإنذار إلى جهات صديقة عديدة متواجدة في برجي مركز التجارة، لكن الكثير من هذه الجهات لم يأخذ هذا التهديد على محمل الجد، ولما وقعت الواقعة الرهيبة لم تدل هذه المؤسسة بأية تفاصيل أخرى عن مضمون الإنذار الذي أتاها، إلا لعدد قليل جداً (لا يتجاوز 4ـ5 جهات) فقط، وكانت صحيفة (هاآرتس الإسرائيلية) إحدى هذه الجهات حيث نشرته بصيغه ما في أحد أعدادها ولكنها لم تقم بمتابعة الموضوع بعد ذلك، بل سكتت عنه، والسؤال المنطقي هنا: من أي مصدر عرفت (هاآرتس) بهذا الإنذار، ولماذا هي دون غيرها من صحف العالم؟! علماً بأن الوحيدين الذين اخذوا هذا الإنذار على محمل الجد هم اليهود، الذين كانوا متواجدين في مركز التجارة لثقتهم بمصدره الإسرائيلي فهرعوا هاربين. ومع أن هذه المؤسسة لا تخضع للقانون الأمريكي كما تقول معلومات (ميسان)، إلا إنها سرعان ما توقفت عن الإدلاء بأي حديث حول هذا الموضوع، كما امتنعت عن الرد على أي استفسار باستثناء جهاز الـ (اف بى آي)! (1).
ويؤكد فينس كانيستروانو من (وكالة المخابرات المركزية CIA) حقيقة علم الإسرائيليين المسبق بالحادث، فيقول: أعتقد أنه كان لدى الإسرائيليين من المعرفة ما يكفي لأن يكونوا على بعد دقيقتين من اصطدام الطائرة بالبرج، كان
_________
(1) التضليل الرهيب - تيرى ميسان ص30(2/182)
الإسرائيليون يعرفون أن شيئاً سيحدث، فأرسلوا أناسهم لتصويره. لا أعتقد أنهم كانوا يعلمون أنها عملية إرهابية للقاعدة، لكنهم كانوا يعلمون أن شيئاً ما سيحدث، ولم يقولوا لنا، لكن الأهم من اعتقادي، هو اعتقاد بعض عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي أن مكتبهم كان يمكن أن يحصل على معلومات مهمة لو كان الإسرائيليون أخبرهم بما كانوا يفعلون قبل الحادي عشر من سبتمبر.
عدم الثقة بالتحقيقات الأمريكية
من الجدير بالذكر أن نشير قبل مواصلة طرح الأسئلة على الولايات المتحدة، إلى أمور كثيرة تدعو إلى عدم الثقة بالتحقيقات الأمريكية. فقد ضربت أمريكا مصنع الشفاء للدواء في الخرطوم، بناءً على تقارير مؤكدة لدى الـ (سي آي إيه)، بأنه مصنع للكيماويات ومرتبط بأسامة ابن لادن، ولكن التحقيق الذي قامت به أطراف محايدة اثبت عدم صحة التقارير الأمريكية، وبالرغم من ذلك لم تتراجع الولايات المتحدة ولم تعوض أو تعتذر أو توافق أن تكون طرفاً في محاكمة دولية. وكذلك ضربت الولايات المتحدة أفغانستان ودمرت معسكر البدر للكشميريين زاعمة أنه هو معسكر القاعدة الرئيسي، بناءً على تقارير مؤكدة طبعاً!!! وكذلك اتهمت الحكومة الأمريكية بن لادن في تفجير سفارتيها ولا زالت حتى اليوم رغم ان محاكمة المتهمين لم تثبت ما يدين ابن لادن قانونياً. وكذلك وجهت التهمة شبه رسمية إلى الإسلاميين في تفجير أوكلاهوما، وبعد التحقيق اتضح بأنهم يمينيون أمريكيون متطرفون.
وهذه التقارير الوهمية التي استندت عليها الحكومة الأمريكية في الاعتداء على الآخرين ومحاكمتهم غيابياً صادرة عن نفس الهيئة التي ستعتمد عليها الحكومة الأمريكية في إدانة أسامه بن لادن وطالبان، ومن ثم ضرب أفغانستان وقائمة طويلة من الدول الإسلامية. لذا يجب ألا يصدّق العالم تلك التقارير التي تزعم أن لدى الحكومة الأمريكية 40 ألف خيط يؤدي إلى إدانة الفاعلين، كما صرح (رامسفايلد) وزير الدفاع في ثاني يوم من التفجيرات. ويجب على دول العالم بناءً على عدم الثقة(2/183)
في التقارير الأمريكية بسبب تاريخها السابق، أن تطالب بتشكيل لجنة دولية للتحقيقات، ولا تسمح للولايات المتحدة بأن تتكتم على أدلة التحقيقات وتوجه التحقيقات والإدانة إلى من شاءت وتصرفها عمن شاءت. ويناقش كتاب (تقرير لجنة 11/ 9 التجاهلات والتحريفات) من تأليف (دافيد راي غريفين) - والذي صدر بعد ثلاث سنوات من الأحداث- التقرير الرسمي عن الأحداث، ويفند كثيراً مما جاء فيه، ويجد المؤلف أن اللجنة لم تكن تدير تحقيقاً فعلياً، وأن التقرير النهائي للجنة لا يمكن الوثوق به بسبب الادّعاءات الكاذبة والتحريفات والتجاهلات التي قامت بها اللجنة، وأن الدلائل تشير إلى تورط إدارة بوش في هجمات11/ 9 لتحقيق سيطرة أمريكية على العالم، وللحصول على مصالح تجارية ونفطية لصالح مجموعة في الحكم والإدارة وحلفائها، وللتغطية على فساد واختلاسات وتجاوزات كبيرة (1).
فضائح تحقيقات FBI
الأكاذيب الكبرى .. يتبعها ناس كثيرون .. عبارة شهيرة لهتلر تنطبق بامتياز علي ما يشهده العالم عما يقال عن إقامة تحالف دولي ضد ما يسمي (الإرهاب الإسلامي)، مما يدل علي وقوع العقل الغربي في أسر عقلية عنصرية تلفيقية متطرفة، تتحدث عن تفوقها الحضاري، وعن قيادة (حرب صليبية) طويلة المدى تعتمد علي إجراءات علنية وأخري سرية .. ضد الإرهاب تحت عنوان (النسر النبيل) وتنتهي (بانتصار الخير علي الشر)، لتحقيق (العدالة الأبدية المطلقة). ليس ذلك فقط بل إن الإعلام الغربي .. وبعض الصحف الغربية أصبحت تنقل عن المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI والمخابرات المركزية الأمريكية CIA وكأنها ناطق رسمي باسمها (2)، دون أن تدقق في مصداقية الأدلة رغم سذاجتها وتهافتها.
_________
(1) انظر "تقرير لجنة 11/ 9 التجاهلات والتحريفات" - تأليف دافيد راي غريفين- ترجمة بسام شيحا- مكتبة مدبولي-ط 1 - 2006
(2) لم يقتصر هذا الأمر على وسائل الإعلام الغربية، بل أن كثير من وسائل الإعلام العربية تبعتها في ذلك.(2/184)
وإذا عدنا إلى مصداقية سلطات التحقيق الأمريكية خاصة CIA و FBI في ملفات أخرى، فإنه واضح للعيان في موضوع إسقاط الطائرة المصرية بجوار نيويورك رغم التزييف الهائل للأدلة. كما انه كان اشد وضوحاً في قضية قتل الرئيس الأمريكي (جون كيندي) في 22 نوفمبر سنة 1963م، حيث قامت هذه الجهات بتلفيق تحقيقات وأدلة، والاعتماد علي ما يسمي "السرية" لإخفاء أدلة أخرى، بل وصل الأمر إلى اغتيال الجاني الحقيقي بواسطة عملاء هذه الجهات، تم استدل ستار من الغموض على القضية.
وهنا يستدعي التقرير الألماني قول أيزنهاور: "إن التأثير الكامل للنفوذ السياسي للبنية الصناعية العسكرية واضح في كل مكتب، وكل مدينة، وهي تعد خطراً كبيراً، لأن قوتها الهائلة تعمل علي انهيار التوازن السياسي" (1). ثم يستطرد إلي أن (كنيدي) تصادم مع (المؤسسة الشبحية) أو المؤسسة X، وهي المؤسسة التي تضع الأهداف الحقيقية للإستراتيجية الأمريكية، والتي لها رجالها في المناصب العليا سواء مؤسسة الرئاسة أو الكونجرس أو CIA و FBI، فيما بعد وكالة الأمن القومي NSA، وأخيراً وكالة الاستطلاع القومي هذا بالإضافة إلى البنتاجون والبحرية الأمريكية ... و ... و ... !! فهي المؤسسة الحاكمة فعلاً في الولايات المتحدة لذا كان يجب أن يموت "كنيدي" حيث اتجه إلى إعلان سعيه لإنهاء الحرب الباردة، والبدء في التعاون مع خورشوف، وإنهاء الحرب في جنوب شرق آسيا، لذا فقد بدأ (كينيدي) في العمل مع مؤسسات عدة من أهمها مخابرات البنتاجون وصلت في سبتمبر 1963 إلى تجهيز خطة تهدف إلى سحب القوات الأمريكية من فيتنام حتى نهاية العام 1965م. ولكن بعد أسبوع من قتل الرئيس الفيتنامي في (سايجون) وقبل أسبوعين من قتل "كيندي" تم إلغاء الأمر في 7 يونيو 1963م ولكن كنيدي أصر علي إكمال الخطة، ولم يخضع للتهديدات التي حذرته بقتل الرئيس الفيتنامي
_________
(1) راجع: خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق ـ نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص129(2/185)
فكان لابد من التخلص منه، وكان لابد أن يحدث الانقلاب ضد الحكم الشرعي فيما يسمي "بالديمقراطية الأمريكية" (1).
ويناقش كتاب "تقرير لجنة 11/ 9 التجاهلات والتحريفات" من تأليف (دافيد راي غريفين) - والذي صدر بعد ثلاث سنوات من الأحداث- التقرير الرسمي عن الأحداث، ويفند كثيراً مما جاء فيه، ويجد المؤلف أن اللجنة لم تكن تدير تحقيقاً فعلياً، وأن التقرير النهائي للجنة لا يمكن الوثوق به بسبب الادّعاءات الكاذبة والتحريفات والتجاهلات التي قامت بها اللجنة، وأن الدلائل تشير إلى تورط إدارة بوش في هجمات11/ 9 لتحقيق سيطرة أمريكية على العالم، وللحصول على مصالح تجارية ونفطية لصالح مجموعة في الحكم والإدارة وحلفائها، وللتغطية على فساد واختلاسات وتجاوزات كبيرة (2).
أسلوب الكشف عن المجرم
هناك قاعدة تقول إنه لا من جريمة كاملة .. حيث أنه يجب أن تكون هناك آثار وأدلة تقود إلى المجرم الحقيقي .. وهناك قاعدة أخرى في علم الجريمة تقول: "فتِّش عن سبب الجريمة، والدافع إليها، ثم ابحث عن المستفيد من هذه الجريمة" .. فما الدافع إلى هذه الجريمة؟ ومن المستفيد منها؟ ومن قام بها؟.
خطاب لاروش حجة قوية
ألقى (ليندون لاروش) من الحزب الديمقراطي، محاضرة في واشنطن في 24ـ7ـ2001م، أي قبل 48 يومًا من وقوع الهجوم في نيويورك وواشنطن قال فيها: "نحن في أزمة مالية .. إن الولايات المتحدة الأمريكية تدار بشكل سيئ منذ عهد
_________
(1) التقرير الألماني /ما حدث هل هو إرهاب، أم انتقام داخلي، أم انقلاب عسكرى- تقرير وليد الشيخ - 19 - 9 - 2001 - المصدر: شبكة المعلومات العربية محيط
(2) تقرير لجنة 11/ 9 التجاهلات والتحريفات" - تأليف (دافيد راي غريفين سام شيحا- مكتبة مدبولي-ط 1 - 2006(2/186)
كارتر. ونظامنا على حافة الإفلاس. إن نظم المواصلات، والطاقة، والتعليم، والصحة، وبنيتنا التحتية في حالة انهيار. إن80% من الشعب هم من ذوي الدخول المحدودة، ووضعهم الآن أسوأ بكثير من وضعهم في عام 1977م، وما دام صندوق النقد الدولي، وسياستنا الحالية، و (وول ستريت)، والنظام الاحتياطي الفيدرالي لا يزال مهيمنًا علينا، فلا يتوقع أحد أي إصلاح أو تحسن. وإذا استمرت الحال على هذا المنوال، فقد يضطر الرئيس بوش إلى التخلي عن منصبه قبل انتهاء مدة رئاسته. إن الانهيار لا يظهر فجأة أمام الأعين، فالسياسات الخاطئة تستمر وفجأة تقع الأزمة".
ويكمل قائلاً: "ليست الولايات المتحدة وحدها، بل إن إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا ـ أي دول غرب أوروبا ـ على حافة الإفلاس أيضًا .. ولكن عندما أشرفنا نحن وأوروبا على الإفلاس، سحبنا أمريكا الجنوبية أيضًا إلى الانهيار .. إن أفريقيا تُزال من الوجود أمام أعين الولايات المتحدة من قبل الإنجليز، ومن قبل بعض الأوساط في الولايات المتحدة، فمثلاً يقوم والد الرئيس بوش بالاتفاق مع رئيس الوزراء السابق لكندا بواسطة شركتهم ( Barrick Gold) بالاستقرار في الكونغو، وبنهب مناجم الذهب والماس فيها. ويقوم هؤلاء - وكذلك العديد من الشركات المتعددة الجنسيات ـ بتشكيل فرق جيوش خاصة في جميع أنحاء أفريقيا، وبدفع الأفريقيين لقتل بعضهم البعض. وبهذه الطريقة، ينهبون ثروات أفريقيا من جهة، ويقلِّلون نفوس سكانها من جهة أخرى.
من جهة أخرى هناك تحولات جديدة في آسيا .. في روسيا والصين والهند، بل حتى في اليابان. لقد تأسست منظمة (وحدة شنغهاي)، وهناك جهود لتأسيس خطوط مواصلات تبدأ من الصين ومن آسيا وتمتد إلى أوروبا. وتخطِّط دول جنوب آسيا لتعاون مماثل. هناك أعداد كبيرة من الناس في آسيا، ونستطيع بعد توحيد كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية إنشاء خطوط مواصلات تمتد من هنا إلى سيبيريا ومنها إلى أوروبا. نستطيع مد يد المساعدة لنهضة الدول التي تقع على هذه الخطوط، وغيرها من الدول بإعطاء القروض دون فوائد. ونستطيع بذلك فتح أسواق جديدة وواسعة لنا. ولكن يتم في مثل هذه الأوضاع والفترات في العادة إشعال نار حروب عالمية. لقد تسبب الإنجليز في إشعال نار الحرب العالمية الأولى للحيلولة دون حدوث(2/187)
مثل هذه التحولات في آسيا. قاموا أولاً بإشعال النار في البلقان، ثم في العالم بأسره. وقام الألمان بإشعال نار الحرب العالمية الثانية بنفس الدوافع. والآن تريد القوى الموجودة في داخل الولايات المتحدة وفي إنجلترا ـ ومن ضمنهم بريجنسكي ـ إشعال حرب عالمية لعرقلة هذه التحولات الجديدة الجارية في آسيا. إن شهر أغسطس أفضل وقت لإشعال مثل هذه الحرب. وسيعلنون أن هذه الحرب هي حرب بين الغرب والإسلام. علينا أن نمنع وقوع مثل هذه الحرب. ولهذا علينا أن نوقف شارون في إسرائيل قبل كل شيء. الحرب هي الهواية الوحيدة لهذا الشخص. علينا أن نوقفه وأن نؤمن السلام في الشرق الوسط، وأن نحيي نظامنا ونتحول إلى النهضة بطريقة روزفلت" .. هذا هو الخطاب التاريخي الذي ألقاه لاروش قبل حادثة الهجوم. وهو يبين مدى بُعْد نظر هذا السياسي.
وبعد أسبوع واحد من وقوع الهجوم، صرَّح في مقابلة إذاعية بما يأتي:
"إن عملية 11 سبتمبر عملية مكياج صُنعت في فترة تسود فيها أزمة مالية ونقدية في العديد من الدول. لم تقم بهذه العملية أي قوة من خارج الولايات المتحدة الأمريكية أبدًا. يحتمل أن هناك أفرادًا من بلدان أخرى تم استخدامهم فيها. ولكن الذي قام بهذه العملية عبارة عن قوى موجودة في داخل الولايات المتحدة، والهدف منها القيام بانقلاب إداري فيها، وجرِّ الولايات المتحدة إلى الحرب. وهذه القوى مستعدة للقيام بعمليات أخرى للوصول إلى هدفها، وستقوم بإثارة الجماهير لجرِّ الحكومة ودفعها للحرب. علينا أن نوقف هذا. عليكم ألا تصدقوا أبداً الأخبار التي تذيعها قنوات CNN و FOX TV والقنوات المشابهة لهما. إن تصديق ما تذيعه هذه القنوات لجر البلد إلى الحرب يعني أنك تكون آلة لتحقيق أهداف الذين قاموا بهذه العملية. علينا ألا نفكر في التدخل في أفغانستان، وعلينا إيقاف إسرائيل عند حدها، لأنها تشكِّل خطرًا على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى غيرها من الدول، وأن نؤسس السلام في الشرق الأوسط؛ لأن التوتر الموجود في هذه المنطقة جزء من الحرب المخطط لها في آسيا".
وفي مقابلة صحفية قام بها مدير تحرير ( Executive Intelligence Review) مع لاروش في 18/ 9 /2001م صرح لاروش بما يأتي: "قبل كل شيء ..(2/188)
إن ما حدث في الولايات المتحدة يوم الثلاثاء الماضي في اليوم الحادي عشر عبارة عن هجوم رتبته قوة غامضة؛ وهذه العملية تتسم بالخداع وصادرة من داخل حجاب وستار قوى الأمن في الولايات المتحدة. لم يأت أصحابها من الشرق الأوسط ولا من أوروبا ولا من أمريكا الجنوبية. يحتمل وجود أفراد من أمم أخرى تم توريطهم فيها (1)،
ولكن هذه العملية عملية معقدة ورفيعة المستوى جداً، ولا يمكن حالياً لأحد خارج الولايات المتحدة تنفيذ مثل هذه العملية، لذا فنحن نرى أنها عملية متسمة بالخداع وذات مستوى رفيع من التنظيم وهي من داخل بلدنا. والمشكلة لا تنحصر في هذا فقط، فنحن نعلم أنه إن حدثت مثل هذه العملية فإن أمورا أخرى عديدة ستسير نحو وجهات خاطئة ... نحن لا نحاول هنا اكتشاف مقترفي العملية لعقابهم فقط، بل للحيلولة بينهم وبين القيام بما ينوون من اقتراف أمثال هذه العمليات، بل بأسوأ مما حدث في 11 سبتمبر" (2).
_________
(1) اعتقد أن الأشخاص الذين اتهموا بتدبير التفجيرات اغتيلوا ولم يكن لهم آي علاقة بها، وحتى أسامه بن لادن هذه الكذبة الكبيرة التي صنعتها أمريكيا لا يعلم أي شيء عن هذه التفجيرات وليست لديه أي قدره على تنفيذ مثل هذه العمليات، ولكن استغلت أمريكا حالة التعاطف معه وحولته إلى بطل وقامت بتلميعه، ودست عملاء لها في صفوف تنظيم القاعدة، والذين ربما اقنعوا بن لادن أنهم قاموا بهذه التفجيرات، وليس أدل على ذلك أن الأسرى الأمريكان والبريطانيين "كلهم بروتستانت" تم اعتقالهم في أفغانستان، ولكنهم سجنوا حسب المزاعم الأمريكية في سجون في بلدانهم بعيداً عن السجناء الآخرين من تنظيم القاعدة، واطلق صراحهم فيما بعد. كما أن اعتقال حركة طالبان لعدد من عملاء المخابرات الأمريكية والبريطانية قبل الأحداث مباشرة يؤكد وجود مثل هذه المؤامرة. وحتى الضجة الإعلامية الكبيرة التي افتعلتها أمريكا حول خطابات بن لادن لم يكن الهدف منها منع إذاعة هذه الخطابات، بل لاغراء الناس لسماعها، لأنها حوت اعتراف مبطن من بن لاذن عن مسئوليته عن هذه العمليات، والذي خدم أمريكيا اكبر خدمه بعد إن كانت ولازالت تتخبط في إيجاد الأدلة المضحكة والتي جعلت كل دول العالم تسخر منها .. ولكن جاءت تلميحات بن لادن لتنقذها من هذه الورطة، ولهذا فهي المستفيدة الأكبر من هذه الخطابات، وهى المستفيدة الأكبر من وجود بن لادن وبقاءه حياً لتنفيذ مخططاتها. وهذا لا يعنى أن بن لادن عميل لأمريكا، بل نعتقد انه ساذج ومسير من قبل عملاء مدسوسون في صفوف تنظيمه، وهذه سياسة استخدمتها إسرائيل وأمريكيا في كثير من بلادنا العربية.
(2) راجع صفحة الإنترنت الخاصة بليندون لاروش www.larouchein2004.net(2/189)
محاضرة لضابط سابق في شرطة لوس انجلوس
كشف مسئول سابق في شرطة لوس أنجلوس الأمريكية أن حكومة بلاده متواطئة وشريكة في تنفيذ هجمات 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي! ففي محاضرة أقيمت في حرم جامعة ولاية بورتلاند ونظمتها صحيفة رير جارد Rear Guard ـ واستمرت لمدة ساعتين ونصف الساعة - اشتملت على عرض للوثائق المتصلة بهجمات 11 سبتمبر وما أعقبها، وحضرها جمع غفير، تحدث) مايك روبرت) الضابط السابق في شرطة لوس أنجلوس، وكشف عن تلك الحقائق والتفاصيل المذهلة، وبدأ محاضرته بتقديم رهان بمبلغ (1000) دولار أمريكي لأي شخص يستطيع أن يبرهن على أن المصادر التي أشار إليها ليست مصادر موثوقا بها، أو أنه قد قدم معلومات مغلوطة.
وخلال المحاضرة قدم أكثر من (40) معروضًا بصريًا تؤكد اشتراك الحكومة الأمريكية وعلمها المسبق بالهجمات. وازدادت حرارة انفعال الجمهور وغضبه عندما قدم (مايك روبرت) مقتطفات من كتاب (رقعة الشطرنج العظمى) الذي أصدره في عام 1997م (زبيغنيو برزنسكي) مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس "كارتر" وعضو اللجنة الثلاثية. وهذه المقتطفات بالإضافة إلى خرائط (لآسيا الوسطى) أوضحت بجلاء أن الحرب الحالية في أفغانستان كانت قيد التخطيط منذ أربع سنوات على الأقل. وتشير مقتطفات من ذلك الكتاب إلى الحاجة الماسة إلى هجوم يشابه هجوم (بيرل هاربور). وكانت المحاضرة حافلة بالإثباتات الوثائقية، وأوضح بالأدلة الدامغة أن الولايات المتحدة وبريطانيا نشرتا قوات كبيرة في المنطقة قبل وقوع الهجمات في نيويورك وواشنطن. وأوضح مايك روبرت كيف أن الدكتور (هنري كيسنجر) كان العقل المدبر لتلك الصفقة.
واختتم (روبرت) محاضرته بتقديم تحليل عن أثر هجوم 11 سبتمبر على الحقوق المدنية الأمريكية في شكل ما يسمى بقانون ( PA-Tiot) ، وقرارات أصدرها من جانب واحد الرئيس (بوش) ووزير العدل (جون اشكروفت)، والتي أبطلت عمليًا ثلاثة تعديلات في مشروع قانون الحقوق، وحذفت جزءًا منه، وعرض أيضًا(2/190)
أدلة وثائقية من وثائق الكونغرس لمساندة ادعائه بأن إدارة (بوش) تخطط لنهب أموال الضمان الاجتماعي (وهذا ما حدث في فضيحة شركة ارنون) (1).
إدوارد اسبانوس (رئيس تحرير انتلجنس ريفيو)
يقول إدوارد اسبانوس من حركة (لاروش): عد إلى اغتيال (كينيدي) كانت هناك كمية من المموهات، دخان، تراب، لبلبلة الموقف، لذا نصر على ما نعرف أنه حقيقة، والحقيقة أن ابن لادن لم يكن يستطيع القيام بذلك، وأن هذه كانت عملية في غاية التعقيد والسرية، تمت من داخل أميركا، ونحن نعلم من كان لديه الدافع، وأين تكمن الإمكانات.
ويضيف إدوارد اسبانوس: لدينا في حركة (لاروش) تجارب مع مكتب التحقيقات الفيدرالي، نصبوا لنا فخاً، وسجنوا لاروش زوراً إننا نعلم كيف يعملون، ونعلم أنهم قادرون على تزييف الأدلة، والإيقاع بالناس، ولذلك لا نستطيع استنتاج شيء محدد بالنسبة للتسعة عشر، فقد تكون العملية كلها مجرد فخ. فهؤلاء التسعة عشر هل كانوا على الطائرات؟ لا أحد يعلم، ولا دليلاً قاطعاً على أنهم قاموا بها، وبالتأكيد لا يوجد دليل على أن ابن لادن قد قام بها على الإطلاق، طرح الافتراض من البداية انه ابن لادن، سنركز عليه، ثم نشن حرباً في الشرق الأوسط. إن ما ينبغي قوله بشأن التسعة عشر أنه حين نشر مكتب التحقيقات الفيدرالي تلك القائمة في غضون يوم أو يومين اكتشفنا أن ستة أو سبعة منهم كانوا أحياءً لم يموتوا، وبعضهم كان حيا يرزق في السعودية (2).
ثم يتساءل اسبانوس: لماذا تم ضرب مركز التجارة أولاً؟ ويجيب على ذلك بقوله: طبعاً لأنك حين تضرب مركز التجارة العالمي أولاً سيذهب تفكير الناس فوراً إلى أسامة بن لادن، القاعدة، لأن عمليةً وقعت في مركز التجارة عام 93، لذا فإن ضرب المركز أولاً يرسَّخ فكرة أن وراءها ابن لادن والإرهاب الإسلامي. ويستنتج إدوارد اسبانوس من ذلك: إذا كان خطط للعملية كما نعتقد من داخل أميركا على يد
_________
(1) راجع صحيفة رير جارد Rear Guard الأمريكية 3/ 11/2001م
(2) اين هم اصحاب الاسماء العربية - جريدة القدس - الخميس 7 محرم 1423 - عدد 11701(2/191)
أتباع (برجينسكي) نظرياً، وعسكرياً على يد ذلك التيار داخل البنتاجون لجر أميركا إلى حرب صراع حضارات في الشرق الأوسط فعليك أن تلبسها للإرهابيين الإسلاميين كي يبدو أنهم القائمون بالعملية.
مقتل المسئول الأول عن مطارة ابن لادن
جون أونيل كان نائباً لرئيس جهاز اف. بي. أي، وكان المسئول الأول عن مطاردة أسامة بن لادن منذ عام 1993م. وقبل أسبوعين من أحداث 11 سبتمبر استقال اونيل من منصبه بعد أن صار مؤمناً أن إدارة بوش تتعمد إعاقة تحرياته ضد الإرهاب، بل واتهمها اونيل بأنها أعاقت مبادرة طالبان لتسليم بن لادن للإدارة الأمريكية مقابل حصولها على معونتها سياسياً واقتصادياً! والطامة الكبرى أن أونيل ردد اتهاماته علنا بعد تركه منصبه في أف. بي. أي وتوليه عملاً جديداً هو منصب مدير امن مركز التجارة العالمي، الذي قتل بداخله بعد أيام. من الجدير بالذكر أن جون أونيل صرح قبل مقتله للمؤلفان الفرنسيان شارل بريسارد وجيلوم داسكييه في كتابهما المثير (الحقيقة المستورة): أن العقبة الرئيسة أما تحرياتنا عن الإرهاب الإسلامي كانت مصالح شركات البترول الكبرى، والذي تلعب العربية السعودية دور فيها!! فهذا الكتاب يفضح بشدة دور الإدارة الأمريكية ومن خلفها اللوبي البترولي "الذي نصب جورج بوش" رئيساً للبلاد، في إعاقة كل محاولات إدانة بن لادن قبل 11 سبتمبر. ومنذ صدوره عتم الإعلام الأمريكي الموجه عليه بشدة، واعتبرت مأساة جون اونيل موضوعاً اقل أهمية من موت كلب الرئيس السابق كلينتون! أن موت أو نيل يعني للإدارة الأمريكية سكوت مصدر اخطر ما يمكن أن يوجه إليها من نقد، فتخيل ما كان ممكن أن يحدث لو كان اونيل حياً طوال الشهور الماضية! َ! (1).
_________
(1) أحداث 11 سبتمبر - الأكذوبة الكبرى - محمد صفي ص124 - 125(2/192)
أمريكا يمكن أن تضرب نفسها
قد يستبعد البعض قيام قوى في الولايات المتحدة بضرب مواطنيها، من خلال افتعال بعض العمليات لتحقيق أغراض معينة. وربما يكون هذا الأمر صحيحاً لو أن هذه القوى تفكر بطريقة سوية وليست عنصرية متطرفة لديها استعداد للوصول إلى أهدافها بكل السبل. ونحن نقدم الدليل التاريخي الموثق على عدم تردد مثل هذه القوى عن الإقدام على أي أمر يرونه يحقق أهدافهم ومطامعهم (1). ويكفي أن نقرأ كتاب الكاتب الأمريكي ( James Bamford) الذي يحمل عنوان ( the Ultra-Secret National Security Agency Body of Secrets: Anatomy of) في هذا الكتاب يطلعنا المؤلف على وثائق سرية تعود لعهد الرئيس كيندي، عندما فشل الإنزال الأمريكي في خليج الخنازير، وهي عملية كانت تستهدف الإطاحة بالرئيس الكوبي كاسترو. وقد صارت هذه العملية لطخة عار في جبين المخابرات الأمريكية. وقد قامت هيئة الأركان العامة الأمريكية بوضع خطة أخرى أطلقت عليها اسم ( Northwoods) وكانت ترى أن العسكريين سينجحون فيما فشل في تحقيقه المدنيون (يقصدون رجال المخابرات الأمريكية). وقام رئيس الأركان الأمريكي آنذاك (الجنرال لايمن لامنتزر) في 13/مارس 1962م بتقديم ملف كامل إلى الرئيس كيندي حيث جاء في باب (شرح الأعذار الموجبة للتدخل العسكري في كوبا): "ستبدأ العملية بعد تزايد التوتر بين الولايات المتحدة وكوبا، بعد سلسلة متعاقبة من العمليات المرتبة بحيث تجعل الرأي العالمي والأمم المتحدة تحت تأثير وقناعة بأن حكومة كوبا تتصرف بشكل غير مسئول وأنها تشكل تهديداً للغرب وللعالم".
ولكن ما العمليات التي كانت رئاسة الأركان الأمريكية تخطط لها؟
من هذه العمليات، قيام الجيش الأمريكي بإلباس الموظفين من أصل كوبي العاملين في القاعدة البحرية الموجودة في خليج (جوانتانامو) ـ من الذين سبق أن
_________
(1) هذا الأمر ممكن ومتبع في كثير من الدول وبالذات أمريكيا وإسرائيل، ويكفى أن نشير إلى ما قامت به إسرائيل بعد تأسيها بعمليات وتفجيرات في كلاً من العراق ومصر لإجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين.(2/193)
هاجروا إلى الولايات المتحدة ـ الملابس العسكرية الكوبية، ثم قيام هؤلاء بإشعال حريق في القاعدة العسكرية والهجوم على عدد من الطائرات وإحراقها، وكذلك إغراق سفينة حربية فيها. أي أن رئيس الأركان الأمريكية كان يخطط لعملية يحرق فيها بعض طائراته الحربية وبعض سفنه!! ولم تكن العمليات تكتفي بهذا، بل يضيف الكاتب الأمريكي التفاصيل الأخرى فيقول بأن التخطيط كان يشمل: "القيام بحملة إرهابية في ميامي، وفي فلوريدا، بل حتى في واشنطن. ففي فلوريدا، سيتم إغراق زورق يحمل مهاجرين كوبيين، كما سيتم تفجير بعض القنابل البلاستيكية في بعض الأماكن والمحلات المختارة. ثم يتم القبض على بعض العملاء الكوبيين وتسرّب بعض الوثائق التي تبرهن على عزمهم على ارتكاب عمليات إرهابية أخرى. كما سنقوم بواسطة طائرة ميج سوفيتية مزيفة بالتعرض لبعض الطائرات المدنية والتحرش بها، وكذلك بفتح النيران من قبلها على بعض سفن النقل التجارية وعلى بعض الطائرات العسكرية، التي تقوم بمهمات الحراسة. ونرتب حادثة وكأن هذه الطائرة السوفيتية أسقطت طائرة مدنية في المجال الجوي الكوبي" (1).
ولكن الرئيس كيندي رفض الخطة المدبرة، فأمر رئيس الأركان بإتلاف جميع الوثائق العائدة للعملية أي عملية (نورثوودس). ولكن بعض الضباط سربوا بعض الوثائق المتعلقة بها إلى هذا الكاتب. إذن، فليس من المستبعد أبدا قيام بعض القوى بتنفيذ مثل هذه العمليات لكي تؤثر على الرأي العام الأمريكي والعالمي، ولكي تشكل عذرا في القيام بشن عمليات حربية للوصول إلى أهداف معينة سوف نشرحها (2). وهذا المثال الموثق الذي قدمناه دليل واضح على ما نقول. كما أن تيري ميسان في كتاب (التضليل الشيطاني) يكشف عن قدم لجوء الإدارات الأمريكية لمثل هذه العمليات لتحقيق أهداف معينه حيث يقول: "في القرن التاسع عشر عندما ذهبت
_________
(1) أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة برنامج سرى للغاية- مقدم الحلقة: يسري فودة- تاريخ الحلقة: 22/ 9/2005
(2) تزايدت الاصوات التى تتهم الحكومة الأمريكية بالضلوع في تدبير عمليات 11 سبتمبر، وفي اخر استطلاع للرأى فإن اكثر من نصف سكان نيويورك يعتقدون أن حكومتهم كانت على علم مسبق بتفاصيل الهجوم وأنها اختارت عمدا أن تغض الطرف عنه. وفي استطلاع اخر اعرب شخص من بين اربعة اشخاص كنديين ان الحكومة الأمريكية تقف وراء التفجيرات. (أجراس الخطر .. الحقيقة وراء 11 سبتمبر ج3 - قناة الجزيرة).(2/194)
أميركا لغزو أسبانيا قام رجالها بتحطيم سفنهم الحربية بأنفسهم، وقتلوا بحارتهم، ثم ادعوا أن أسبانيا هزمتهم، كي تكون ذريعة لحرب انتقامية مشروعة" (1).
فيلم القبلة الطويلة
(خيانة) .. هذا عنوان وموضوع فيلم أمريكي، جددت بثه قناة أمريكية في أغسطس 2006، والفيلم من اخراج المخرج اللامع كوستا جافراس. ويكثف هذا الفيلم الضوء ـ في ايماءات لا تخفى ـ على احداث 11 سبتمبر 2001. وتقول الايماءات والتلميحات: ان تلك الاحداث وقعت بـ (تدبير من قوى داخلية امريكية خالصة). وفي عام 1999 ـ قبل 11 سبتمبر بعامين تقريباً ـ انتج فيلم امريكي بعنوان (صائد العاصفة) .. وقصة الفيلم و (حبكته) الجوهرية المثيرة هي: ان مجموعة من القوات الخاصة في الجيش الأمريكي، بقيادة جنرال طيار مرموق، قامت باختطاف طائرة عسكرية. وقد تعذر على تقنيات الدفاع الجوي اكتشاف هذه الطائرة في الحالات كلها، الاقلاع .. والتحليق .. والتوجه إلى الهدف والنيل منه .. وتبلغ الحبكة السينمائية ذروتها حين يتبدى في الفيلم، ان الذين خططوا لهذا العمل الضخم المرعب هم البيت الابيض ووزارة الدفاع. والكونجرس (2). وقد قامت أمريكا وحليفتها بريطانيا بإيقاف عرض الفيلم بسبب أن حواراً ساخناً يجري بين سيناتور في الكونجرس الأمريكي (وهو في الفيلم رمز القوة الخفية وراء الأستار)، والعميل السري الذي يكلفه هذا السيناتور بإنجاز بعض المهام السرية الممنوعة من الناحية القانونية. ويقول السيناتور في هذا الحوار: "أجل ... أجل سنقوم بإسقاط طائراتنا ... وسنقوم بضرب مبانينا ... وسنعرض الوجه القبيح للإرهاب أمام الأنظار ... وبهذا نحصل على تأييد الرأي العام لشن حرب على الدول الإرهابية". وبعد ان جرى تنفيذ الخطة بنجاح، اتخذت اجراءات فدرالية سريعة وواسعة النطاق. وقد تمثلت هذه
_________
(1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان ص139
(2) 11 سبتمبر: دعوة للتفكير الحر .. في الوثائق والحقائق والوقائع- بقلم زين العابدين الركابي - الشرق الاوسط - السبت 09 شعبان 1427 هـ 2 سبتمبر 2006 العدد 10140(2/195)
الاجراءات اكثر ما تمثلت في (تقييد الحريات) في الولايات المتحدة بموجب قوانين استثنائية وأليس هذا ما تم فعلا في الواقع؟!
كما أن هناك فيلماً أميركياً اسمه (القبلة الطويلة قبل النوم) أنتج هذا الفيلم، وعرض قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، جاء في مقطع منه ـ أذيع على قناة الجزيرة ـ الحوار التالي: "أتذكرين تفجير المركز التجاري الدولي عام 1993م؟ أثناء محاكمة أحد المشاركين ادعى أن المخابرات المركزية تعلم مسبق بالأمر، الدبلوماسي الذي أصدر التأشيرات للإرهابيين كان من مكتب المخابرات، ليس بالأمر الذي يصعب التفكير فيه، فهم مهدوا الطريق للتفجير، لتبرير زيادة الأموال ... تقصد إنك ستقوم بعملية إرهابية كاذبة، لموافقة الكونجرس على زيارة الأموال ... لسوء الحظ يا سيد (هنسي) ليس عندي فكرة كيف أكذب بمقتل أكثر من 4 آلاف شخص، لذا يستوجب أن نقوم بها حقيقة، وبالطبع ننسبها للمسلمين .. هكذا أحصل على تخصصاتي المالية. ليلة سعيدة يا سيدة. http://www.aljazeera.net/programs/top_secret/articles/2002/9/9-9-1.htm - TOP." (1) .
ومن المفارقات الغريبة والتي لها دلالتها، أن الكونجرس الأميركي وافق بعد الهجوم، على ميزانية عسكرية جديدة قدرها أربعمائة مليار دولار، وهو ما يعادل ميزانية خمسة وعشرين جيشاً من أهم جيوش العالم، بعد الجيش الأميركي بالطبع، ولم يكن ليخطر على بال الشعب الأميركي أن يدفع ذلك في الأوقات العادية (2).
لورانس رايت وفلم (حالة طوارئ)
ليس من باب الصدفة أن يكون بمستطاع (لورنس رايت) أن يسوق وقائع قصة الحركة الإسلامية بمثل هذه القوة السردية الحادة في كتابه (القاعدة والطريق إلى الحادي عشر من سبتمبر). فهو إلى جانب عمله كصحافي كان يمارس كتابة السيناريو أيضاً. واحد من هذه السيناريوهات قد تم تصويره بالاشتراك مع دينزل واشنطن وبروس ويلليس سنة 1998 في شريط سنمائي بعنوان (حالة طوارئ).
_________
(1) أذيع جزء من هذا الفيلم على قناة الجزيرة في برنامج سرى للغاية الذي أذيع بمناسبة مرور عام على أحداث 11 سبتمبر.
(2) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص151(2/196)
ويروي الفلم وقائع عملية تفجير يقوم بها نشطون إسلاميون في مدينة نيويورك التي ستعلن داخلها حالة الطوارئ وتعلق فيها مجمل الحقوق المدنية للمواطنين. لقد كان رايت مدركا تمام الإدراك للبعد النبوئي للسيناريو الذي كتبه: "هذا هو فلمي" سيقول لنفسه بعيد عمليات الحادي عشر من سبتمبر، ويتضرع إلى رئيس تحرير صحيفته بأن يكلفه بمتابعة الحادثة؟؟! " (1).
توصية بافتعال عمليات إرهابية لاصطياد المطلوبين
لم يكتفي قادة البنتاجون بالقيام باعمال ارهابية لتنفيذ مخططاتهم بل ان مجلس علوم الدفاع في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ووزير الدفاع (دونالد رامسفيلد) اوصيا بأن تتبع الوزارة استراتيجية جديدة تستهدف إغراء (الإرهابيين) لاقتراف أعمال إرهابية، حيث جاء في تقرير أعده المجلس حول العمليات الخاصة والقوات المشتركة في دعم مكافحة الإرهاب: "انه لما كانت الحرب ضد الإرهاب تتطلب استراتيجيات جديدة وحالات خاصة وتنظيماً، فإنه ينبغي إيجاد نشاط دعم استخباري متطور يدعى (مجموعة عمليات مؤيدة للنشاط واستباقية). وطبقاً لما تسرب من معلومات حول تقرير اتحاد العلماء الأمريكيين المتعلق بسرية أنشطة الحكومة الأمريكية، فان التوصيات التي كشف عنها وصفت خطة البنتاجون التي تحاك في الظلام بأنها تهدف إلى إثارة هجمات إرهابية. ويبدو أن توصيات مجلس علوم الدفاع تتماشى مع استراتيجية الأمن القومي للبيت الأبيض التي دعت إلى شن هجمات وقائية.
ويدعو التقرير أيضاً إلى إيجاد وحدة من قوات الكوماندوز لمكافحة الإرهاب بكلفة سبعة مليارات دولار. كما يدعو إلى وضع مواد كيماوية خاصة على الإرهابيين حتى يمكن ملاحقتهم بأشعة الليزر في أي مكان في العالم، وإيجاد فريق (احمر) من المفكرين لوضع هجمات إرهابية وهمية ضد الولايات المتحدة حتى تضع الحكومة الأمريكية الخطط لإحباطها. ويتشكل هذا الفريق من مائة اختصاصي في مكافحة
_________
(1) لورنس رايت: (القاعدة والطريق إلى الحادي عشر من سبتمبر) - بقلم أندريان كرايه - ترجمة علي مصباح - حقوق الطبع قنطرة/زوددويتشه تسايتونغ 2007(2/197)
الإرهاب وعمليات الدعاية والإعلام، والعمليات النفسية، وهجمات شبكات الكمبيوتر، وإشارات المخابرات السرية، وعمليات القوات الخاصة والخداع. ويوضع تحت تصرف هذا الفريق على الأقل مائة مليون دولار. والمعروف أن مجلس علوم الدفاع يقدم تقاريره مباشرة إلى وزير الدفاع الأمريكي، كما قدم ولا يزال المشورة إلى الرؤساء الأمريكيين طيلة أكثر من أربعين عاماً، وهو يعمل على تحويل القوات المسلحة الأمريكية لكي تلبى المطالب المناطة بها في عالم متغير.
وفي تعليقه على ما تسرب بشأن التقرير الأخير، يقول المحلل العسكري وليام أركين: "أن المجموعة التي أوصت الدراسة بإيجادها "تجمع معاً عميلاً لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وعميلاً عسكرياً سرياً، ومعلومات حرب ومخابرات وتغطية وخداع". ويوصى التقرير بالقيام بعمليات سرية هدفها إثارة ردود فعل بين الإرهابيين والدول التي تمتلك أسلحة دمار شامل. أي دفع (الخلايا الإرهابية) إلى العمل وتعريضها لهجمات أمريكية سريعة". ويضيف أركين في مقالة له بعنوان (الحرب السرية): "أن البنتاجون المحبط بفشل المخابرات يقوم وبصورة درامتيكية بتوسيع (عالمها الأسود) من العماليات السرية، فيما يمكن أن يكون أكبر توسع في العمل السري من جانب القوات المسلحة الأمريكية منذ حرب فيتنام، وان حكومة الرئيس جورج بوش تحولت إلى ما يصفه البنتاجون (العالم الأسود)، من اجل تشديد الحرب ضد الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل" (1).
حقيقة ما حدث
بعد أن عرضنا للعديد من الحقائق ووجهات النظر، التي أكدت بما لا يدع مجالاً للشك، بأنه لا توجد أية صلة لأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة بأحداث 11 سبتمبر، فإنه من حقنا معرفة حقيقة ما حدث.
_________
(1) جريدة الخليج العدد 8649 - 23 يناير 2003م.(2/198)
انقلاب عسكري
يرى (تيرى ميسان) مؤلف (التضليل الشيطاني) أن هناك قوة أمريكية خفية، أو جهة متعصبة داخل الولايات المتحدة شبهها، وكأنها حكومة داخل الحكومة، أرادت الإمساك كلياً بزمام السياسة الأمريكية بقوة عبر أي وسيلة وتوجيهها نحو منحى آخر، يعزز القبضة العسكرية النووية الأمريكية على العالم ويعطى الأولوية لممارسة القوة على ما سواها في التعامل مع الأحداث، وهذا ما حصل. وللتدليل على واقعية رأيه في هذا الانقلاب، ولماذا حصل لفت الانتباه إلى الخلاف الذي وقع بين الإدارة الأمريكية والجيش أبان ولاية كلينتون؟ على خلفية قيام الرئيس الأمريكي وقتها بإعطاء الأولوية للجانب الاقتصادي في سياسته، على حساب الجانب العسكري، الأمر الذي دفع العسكريين بشكل عام إلى التذمر من هذا التوجه، الذي اعتبروه ماساً بهيبة القوة الأعظم، وأعطى مثلاً على ذلك من بعض ما حصل داخل مركز التجارة الدولية ذاته، فقال: "إن إحدى المؤسسات التي قضى عليها الهجوم، كانت مركزاً للتجسس الاقتصادي بعد أن كانت في السابق مؤسسة عسكرية تابعة للجيش الأمريكي، إلا أن تغيّر الأولويات في نهج كلينتون قد شملها بالتغيير" (1).
وهناك رأي أخر، يذهب إلى أن ما حدث أكبر من ذلك بكثير، فهو أقرب إلى الانقلاب العسكري في السلطة الأمريكية بعد وجود خلافات شديدة، بين أجنحة السلطة الأمريكية إثر خلافات عديدة، بين التيار الأصولي المسيحي، الذي يؤمن بعودة المسيح في نهاية العالم بعد المعركة الفاصلة بين الخير والشر والقضاء علي الأشرار (العرب والمسلمين) في موقعة (هرمجيدون)، خاصة أن عملية السلام وصلت إلى نهايتها، وأصبح الاستعداد للقضاء علي الفلسطينيين مسألة وقت فقط، والتيار الآخر الذي يسعى إلى سيطرة أمريكا علي العالم بصورة متدرجة، وصراع بين الأجهزة الأمنية المتعارضة مثل CIA والمباحث الفيدرالية FBI، وكالة الأمن القومي NSA، والبحرية الأمريكية والقوات الجوية، والبنتاجون.
فقد تزايدت الخلافات بين التيارين إلى الدرجة التي تسعي فيها بعض الأجنحة إلى تحدى السلطة الأمريكية الحالية، لتثبت لها أنها تملك السلطة الحقيقية في
_________
(1) التضليل الشيطاني - تيرى ميسان - ص29(2/199)
أمريكا، ولعلهم يبررون ذلك بالطريقة التي تبدو أقرب إلى مباراة في التحدي بين فريقين، حيث أثبتت الفرق التي قامت بالتفجيرات بأنها تجيد لعب المباراة بمهارة. فقد قامت بتعطيل جميع شبكات الكمبيوتر الخاصة بالجيش الأمريكي، ووزارة الدفاع، ثم بدأت في الهجوم علي السلطة الحاكمة بأتفه وأضعف الأشياء، وهز أمريكا كلها بدون قنبلة واحدة أو جرام من المتفجرات بل بطائرات مدنية، ليس ذلك فقط، بل قامت باختيار أوقات الهجوم بصورة تحتوى علي التحدي و الاستهانة.
شيفرة السر النووي
كشف (تيرى ميسان) عن سر آخر لم يتطرق إليه أحد من قريب أو بعيد حتى الآن. فأشار إلى أن معلوماته الموثوقة تقول: "إن جهة ما قامت بالاتصال مع أحد المسئولين الأساسيين في البيت الأبيض قبل فترة وجيزة جداً من وقوع أول هجوم وأبلغته أن مسلسلاً من العمليات سينفذ على الفور، أن لم تستجب الإدارة الأمريكية لمطالب استراتيجية تريدها هذه الجهة. وتأكيداً على جديتها وقدرتها على الفعل وطول باعها داخل اخطر المؤسسات الرسمية أعطت المسئول أرقام الشيفرة السرية لمنظومة السلاح النووي الأمريكي، التي لا يعرفها إلا عدد محدود جداً من كبار المسئولين في هرم الإدارة الأمريكية. أي أنهم قدموا الإثبات الذي لا يشك فيه بأن في يدهم ما يمكن أن تؤدى معرفته إلى إشعال حرب عالمية ثالثة في أي لحظة، وطلبوا إبلاغ الرئيس بوش شخصياً بذلك والرد على الفور.
وفي اللحظة ذاتها اتصل المسئول المتواجد في البيت الأبيض بالرئيس الأمريكي، وكان في طريق عودته بالطائرة إلى واشنطن ـ كما تقول المعلومات ـ وليس في مكان آخر كما ذكرت وسائل الإعلام وقتها، فأعطى الأوامر بالنزول فوراً في ملعب لكرة القدم تابع لأحد المراكز النووية، حتى يتأكد من صحة ما تدعيه هذه الجهة، وهل الشيفرة التي لديها صحيحة أم لا. وعلم المتواجدون في المركز بعد دقائق من وصول بوش أنه في اجتماع طارئ وسري، ولم يعرف ماذا جرى فيه؟ ومع مرور الوقت المحدد لاستلام الرد كانت عملية الهجوم على برج مركز التجارة قد تمت بشقيها فأذهلت العالم، ثم تلتها على الفور عملية البنتاغون، وسقوط طائرة رابعة(2/200)
في بنسلفانيا، ثم اكتشاف طائرة خامسة شمالي أوهايو ـ كما يقول (ميسان). وقبل أن يستمر المسلسل في التواصل (حيث أعلن عن وجود ست طائرات مخطوفة) خرج بوش من الاجتماع الطارئ وعليه بوادر الانفعال فخاطب الذين التفوا حوله، بالقول: لم تعد هناك مشكلة! وكانت هذه العبارة كافية تماما للدلالة على أن ثمة مشكلة كبيرة قد تم تجاوزها أثناء هذا الاجتماع. ولكن السؤال ما هي حقيقة هذه المشكلة؟ ومن هي الجهة التي فجرتها ومن المستفيد من هذه العمليات التي تمت؟ (1).
اختفاء بوش وهروبه
إن اختفاء الرئيس الأمريكي وهروبه إلى ولايات مختلفة حتى يصل إلى نبراسكا، وإغلاق المجال الجوى الأمريكي، وإعلان قصف أي طائرة تتحرك وإخلاء موظفي وزارة الخارجية ومجلس النواب والشيوخ والأمم المتحدة، بل وإخلاء مقار المخابرات الأمريكية وحدوث حالة من الهرج والمرج غير العادي، ثم إرسال حاملات طائرات عسكرية وصواريخ موجهة لحماية السواحل الأمريكية، ثم إعلان استدعاء الاحتياطي الأمريكي للجيش، وفتح باب قبول متطوعين جدد، وإرسال نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) إلى مكان سرى، قيل أنه في جبال (ميرلاند) لحمايته. كل ذلك آثار شكوكاً مريبة حيث أن ذلك لا يحدث إلا إذا كان هناك هجوم خارجي، أو لوجود سلطة قادرة علي الوصول إلي الرئيس في أي مكان، أو فشل كامل في السيطرة علي أجهزة التحكم الأمريكية، وليس مجرد بعض الأفراد اختطفوا بضعة طائرات.
فكل ما حدث يؤكد أن الأمر يتجاوز إرهاب وطائرات .. لا ابن لادن ولا حتى إرهاب أي جهاز مخابرات في العالم ... بل هو أقرب إلى حالة الحرب الحقيقية. حيث أشار كثير من المحللين إلى أن ما حدث من فزع وذعر وهروب وإجراءات أكبر ألف مرة من مواجهة هجمات إرهابية، يقوم بها مختطفو طائرات مدنية. كما أن البعض يتساءل: أين كانت الرادارات الأمريكية؟ .. وأين القوات الجوية؟ .. وما الذي منعها من مواجهة الموقف، خاصة أن المفاجأة انتهت منذ اصطدام أول طائرة بمركز التجارة
_________
(1) راجع المقال المنشور على موقع العرب أون لاين بقلم نبيل جعفر(2/201)
العالمي وما هو نوع الشلل الذي أصاب البنتاجون وباقي الأجهزة الأمنية؟ ولماذا حدث ذلك؟
فالضابط المسئول في البنتاجون تلقى إخطاراً بخطف الطائرات، وأمر بإقلاع الطائرات من قاعدة جوية على مسافة دقيقتين من واشنطن، ليفاجأ بأن الطيارين غير موجودين في أماكن عملهم .. !! فأصدر أمرا إلى قاعدة على بعد 200 ميل، وكانت أطقم الطائرات غير كاملة، إلا أنها أقلعت بأطقمها الناقصة لتصل بعد تدمير البرج الثاني، وعادت الطائرات إلى قاعدتها، والقائد الميداني في البنتاجون، في مركز القيادة العسكرية علي مستوى العالم يكاد يجن وهو يجري الاتصالات بباقي القواعد الأمريكية ليفهم ما يحدث، خاصة بعدما اكتشفوا فقدان برنامج الطوارئ من علي كمبيوتر البنتاجون كما أشارت المخابرات الهولندية، ومرت ساعة كاملة وبعدها توقف القائد الجبار عن جهوده، فقد كان مكتبه، مكتب قيادة العالم هدفا للطائرة الثالثة، ومات الرجل دون أن يفهم ما يحدث (1).
لذا فإن اتهام (بن لادن) بأنه المسئول عن هذه العمليات يفترض انه قوة عالمية أخطر وأشد قوة من جميع الأجهزة الأمريكية بما فيها الجيش الأمريكي، أو انه حصل علي مساعدة علي أعلي المستويات من وزارة الدفاع إلى المخابرات إلى المباحث الفيدرالية، لاستغلال هذا الدعم العالمي غير المسبوق، لحصار العالم الإسلامي، والوصول إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، الذي يتبع أمريكا كقائد عالمي لحكومة عالمية مهيمنة.
الحادي عشر من سبتمبر والإمبراطورية الأميركية (2).
اخيراً شكك مفكرون جلهم أميركيون في الرواية الرسمية الأميركية عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 ووصفوا تلك الرواية بـ"الزائفة" كما جاء في كتاب "الحادي عشر من سبتمبر والإمبراطورية الأميركية" الذي شارك في
_________
(1) التقرير الألماني- شبكة المعلومات العربية محيط - تقرير وليد الشيخ
(2) الحادي عشر من سبتمبر والإمبراطورية الأميركية - تحرير ديفد راي جريفين وبيتر ديل سكوت - دار نهضة مصر في القاهرة - الجزيرة نت 10/ 9/2008(2/202)
تأليفه 11 مؤلفا. ويقول محررا الكتاب ديفد راي جريفين وبيتر ديل سكوت إن باحثين لا ينتمون إلى التيار السائد توصلوا إلى أدلة تفند الرواية الرسمية "بشأن المسؤول النهائي عن تلك الهجمات" التي أصبحت بمثابة الأساس المنطقي وراء ما يقال إنها حرب عالمية على الإرهاب استهدفت حتى الآن كلا من أفغانستان والعراق، وكانت بمثابة المبرر وراء "التدني المسرف" في سقف حريات الأميركيين. ويؤكد الباحثان أن اكتشاف زيف الرواية الرسمية بشأن أحداث 11 سبتمبر "يصبح أمرا غاية في الأهمية".
تجاهل الأدلة
يرى المحرران أن هناك تجاهلا لأدلة يقدمها باحثون مستقلون بحجة أنهم "أصحاب نظرية المؤامرة" ويبديان دهشة من كيفية اتفاق أكاديميين ودبلوماسيين في نظرية المؤامرة ولا يستبعدان أن تكون "الرواية الرسمية حول 11 سبتمبر هي في حد ذاتها نظرية للمؤامرة". فهي تزعم -والكلام للباحثين- أن الهجمات تم تنظيمها بالكامل على أيدي أعضاء عرب مسلمين في تنظيم القاعدة بإيعاز من "زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن القابع في أفغانستان" حيث كانت تؤويه جماعة طالبان التي كانت تحكم أفغانستان حتى نهاية 2001.
الهيمنة على العالم
يقول مورغان رينولدز الأستاذ بجامعة تكساس والعضو السابق بإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت عملية زائفة وأكذوبة كبيرة لها علاقة بمشروع الحكومة الأميركية للهيمنة على العالم. وعن فكرة الهيمنة العالمية يقول أستاذ القانون ريتشارد فوولك -وهو رئيس مؤسسة سلام العصر النووي- إن إدارة بوش يحتمل أن تكون إما سمحت بحدوث هجمات الحادي عشر من سبتمبر وإما تآمرت لتنفيذها لتسهيل ذلك المشروع". وأضاف فوولك أن هناك خوفا من مناقشة حقيقة ما حدث ذلك اليوم حتى لا تكتشف أسرار يصفها بالسوداء. ويشدد أستاذ الفلسفة جون ماكمورتري على أن "زيف الرواية الرسمية جلي لا شك(2/203)
فيه" مستشهدا على استنتاجه بأن الحروب التي أعلنت عقب الهجمات انطلقت من أسباب إستراتيجية فما وصف بحرب "تحرير العراق خير مثال على ما يسميه القانون الدولي الجريمة العظمى".
مؤلفو الكتاب
شارك فيه 11 شخصا بارزا لا يمكن حسب محرري الكتاب أن يكونوا "بالمعنى السلبي للمصطلح" من أصحاب نظرية المؤامرة. ويقول المحرران إن المساهمين في الكتاب يحظون بكثير من الاحترام فعشرة منهم يحملون درجة الدكتوراه وتسعة أساتذة في جامعات عريقة وكان أحدهم ضابطا في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إضافة إلى بيتر فيليبس مدير مشروع مراقب
أين الحطام؟
تقول كارين كوياتكوفسكي الأستاذة الجامعية التي عملت ضابطة بالجيش الأمبركي لمدة عشرين عاما حتى 2003 إنها كانت حاضرة يوم 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 في وزارة الدفاع وإن "لجنة 11 سبتمبر لم يكن بين أعضائها أي شخص قادر على تقييم الأدلة من الناحية العملية". مضيفة أنها لم تر حطام الطائرة التي قيل إنها ضربت مقر وزارة الدفاع ولا الدمار الذي يتوقع أن يحدثه هجوم جوي.
تفجير متحكم به
ويرى أستاذ الفيزياء بجامعة بريجهام ستيفن جونز أن طبيعة انهيار البرجين التوأمين والمبنى رقم 7 بمركز التجارة العالمي لا تفسرها الرواية الرسمية، فالطائرات لم تسقط البنايات والتفسير "الأقرب أن تدمير تلك البنايات كان من خلال عملية هدم بالتفجير المتحكم به تمت باستخدام متفجرات مزروعة سلفا". ويتفق المهندس كيفين رايان مع جونز في التشكيك بالتقرير الرسمي بشأن انهيار البنايات ويراه غير علمي، مضيفا أن التوصل إلى السبب الحقيقي "مسألة ذات أهمية قصوى(2/204)
لأن ذلك الحادث هو الذي هيأ الشعب الأميركي نفسيا لتقبل ما يسمى بالحرب على الإرهاب".
إستراتيجية التوتر
يقول الأستاذ بمعهد بحوث السلام الدولي في أوسلو بالنرويج أولا توناندر إن الأثر الأخطر للهجمات هو استغلال ما يسميه إرهاب الدولة وتطبيق "إستراتيجية التوتر" على العالم بعد ترسيخ سلام أميركي يُفرض على الآخرين تحت قناع الحرب العالمية على ما تعتبره واشنطن إرهابا.
ويقول محررا الكتاب في المقدمة إن جهودا بدأت تتضافر للتوصل إلى تلك الحقيقة منها هذا الكتاب إضافة إلى تأسيس منظمة يترأسها ستيفن جونز بمشاركة نحو خمسين أكاديميا ومفكرا منهم خبراء عسكريون سابقون وأطلقوا على أنفسهم اسم "حركة الحقيقة بشأن الحادي عشر من سبتمبر". ويرى ديل سكوت -وهو دبلوماسي سابق وأستاذ جامعي- أن "الشعب الأميركي وقع ضحية التضليل" في حين يناقش جريفين "الروايات المتناقضة" كما وردت في الرواية الرسمية قائلا إن سلوك الجيش الأميركي يوم 11 سبتمبر يشير إلى تورط قادتنا العسكريين في الهجمات. ويضيف أن انهيار برجي مركز التجارة والبناية رقم 7 كان مثالا على عملية هدم بالتفجير المتحكم به تمت بزرع متفجرات في جميع أرجاء المبنى. http://www.aljazeera.net/News/Templates/Postings/DetailedPage.aspx?FRAMELESS=false&NRNODEGUID=%7bEEBEEFAA-5AC7-4DE1-902D-F79642BBF455%7d&NRORIGINALURL=%2fNR%2fexeres%2fEEBEEFAA-5AC7-4DE1-902D-F79642BBF455%2ehtm&NRCACHEHINT=Guest
غسيل الدماغ
إذا كان ما عرضناه سابقاً، قد ألقى الضوء على ما حدث يوم 11 سبتمبر، وطبيعة القوى التي تقف وراءه، فإنه من المهم بمكان توضيح كيف استطاعت هذه القوى الخطيرة تضليل العالم وغسل دماغ الرأي العام في داخل أمريكا وجزء كبير من الرأي العام الدولي لإقناعه بأن ابن لادن وتنظيم القاعدة هم الذين نفذوا تفجيرات 11 سبتمبر، من أجل تحقيق أهداف مرسومة مسبقاً، تجاه الإسلام والمسلمين بل والعالم أجمع؟!!.
فبالتأكيد أن تلك القوى الشيطانية التي خططت ونفذت التفجيرات، كانت على علم مسبق بالصعوبات التي ستواجهها، عند محاولتها ترويج ادعاءاتها غير المنطقية، ولهذا لم يكن أمامها إلا اللجوء إلى الكذب والخداع والتضليل، والمبالغة(2/205)
والتكرار وغيرها من الأمور، لإجبار العالم على تقبل مزاعمها، أي باختصار محاولة غسل دماغ العالم. ولخطورة مفهوم غسيل الدماغ، فإننا سنلقى عليه الضوء بصوره مختصره، لنتعرف على هذا المفهوم وتقنياته وأساليبه، وعلى القارئ مقارنتها بما جرى على ارض الواقع ليتأكد إلى أي حد نجحت أمريكا في غسل دماغ العالم من خلال استخدامها المكثف لأساليب غسل الدماغ وتقنياته.
غسيل الدماغ (1)
لقد أضحت صناعة الوعي، أو تصنيع العقل وصياغة ثقافات الشعوب، فناً دولياً أو تقنية تملك زمامها الولايات المتحدة، أو الشركات متعدية القوميات. ومن سخرية الأقدار أن تطالب هذه الشركات بإلحاح - بحقوق الإنسان في جميع البلدان، وتدعو إلى عقل حر، ولكن بمعنى: عقل متحرر من ثقافته القومية، وانتمائه القومي، وأهدافه القومية، أي نبتاً بغير جذور، وصفحة بيضاء تملؤها هي بما تشاء من معلومات، وتتولى هي محو ما فيها بداية، ثم تصب فيها ما تشاء من خلال برامجها. وأداتها في ذلك التلفزيون والسينما والكتب والصحف والأنباء والإعلانات الموجهة والمرسومة، خصيصاً لهذا الغرض، والعلاقات العامة و (الموضة)، وكذلك إنشاء جماعات سياسة ودينية واجتماعية، بل وخلق بدع دينية أو اتجاهات تحمل طابعاً ديناً لإثارة الشقاق والفتن، وتصدير قضايا ومذاهب فكرية تثير الخلاف، وتستنزف الجهد. ثم هناك برامجها وسياساتها الخاصة بمؤسسات ثقافة الطفل، وكلها لصوغ عقول الناشئة داخل البيت وفي الطريق، وفي المحال العامة وداخل المدرسة. وهكذا يتحول الغزو الفكري أو التضليل الإعلامي إلي أداة للقهر والترويض وإخضاع الشعوب (2).
فالإعلام الأمريكي تحول إلى أداة طيعة في أيدي الشركات الاحتكارية الكبرى، ورجال الحكم المتحالفين معها مما أفقدها ثقة الجمهور، وجعل المجتمع الأمريكي ينصرف عن المشاركة في الحياة العامة والانتخابات خاصة، كما حصل في انتخابات الكونجرس عام 1994م حيث لم يشارك سوى 14% من الناخبين، مما يعني أن
_________
(1) لمزيد من لمعلومات عن غسل الدماغ يرجى مراجعة كتاب غسل الدماغ - الدكتور فخرى محمد صالح الدباغ- دار الطليعة وكتاب مختار حمزة - أسس علم النفس الاجتماعي-- دار البيان العربي/ جده، 1989،.
(2) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص228(2/206)
الديمقراطية الأمريكية قد جرى اغتيالها وإفراغ التراث الليبرالي من محتواه، وإبداله بنظام اوليجاركي (حكم القلة) أفرز نوعاً من ثقافة الكذب، التي تنبع من العلاقات المؤسسية الخفية التي تسيطر على صناعة الأخبار. وهكذا أصبح الإعلام الأمريكي، الذي شهد تنامياً في الطاقات والاستثمارات المالية الضخمة والتقدم التكنولوجي المتسارع، الأداة الرئيسة في إعادة تشكيل فكر ووجدان الشعوب المختلفة. وتحول الإعلام ـ حسب تعبير (نيل بوستمان) أستاذ علم الاتصال الأمريكي ـ من إثارة الفكر والنقاش إلى التسطيح، وتحولت المعلومة إلى سلعة ثم إلى أداة للترفيه وتغييب العقل، وأصبح الإعلام هو جهاز غسيل المخ في هذا الزمان، وهو صانع الأكاذيب والشائعات والأخبار الموجهة، وهو الملقن الذي يلقن الصحف ما تكتب لنا كل يوم (1).
ولما كانت عملية خداع الجماهير، وصناعة الإجماع أو الإذعان ضرورة لازمة لإعطاء الجماهير الجاهلة الوهم بأنها تمارس النفوذ الديمقراطي، كما يقول (وولتر ليبمان)، فقد أصبحت ملكية الإعلام والسيطرة علي أمورها أمراً لازماً للمحافظة علي مصالح الثروات الخاصة، والممارسات الاستمرارية لخداع الجماهير وتضليلها. ومثلما انحصرت رؤوس الأموال في أيدي القلة المتنفذة، فإن ملكية الصحف والوكالات الصحافية في القرن التاسع عشر إلي جانب صناعة الأفلام في هوليوود، ومن ثم التلفزيون والإذاعة في القرن العشرين، قد تمركزت كلها في أيدي القلة ذاتها. ومن البديهي أن الإعلام هو أمر حاسم للغاية في خلق حالة من الإجماع العام وتصنيع الرأي العام. وبإمكان المرء أن يستشعر وجود الكارتل الإعلامي، عندما يسافر ويتنقل بين أرجاء الولايات المتحدة. فهناك آلاف من المحطات الإذاعية وآلاف من القنوات التفلزيونية وآلاف من الصحف. ولكن في حقيقة الأمر، فإنك إذا سمعت خبراً من إحداها، فكأنك سمعته من كل هذه الوسائل الإعلامية، لأن كل مكوناتها محتكرة في أيدي بضع شركات، وهي تتقاسم القيم والمبادئ نفسها. فالجميع يقدمون الرسالة ذاتها بلا زيادة أو نقصان، وهذه الرسالة تصمم بالمقاس لتخدم أجندة بارونات الربا في كل أقطار العالم (2).
_________
(1) إسرائيل .. البداية والنهاية ـ د. مصطفى محمود ص25
(2) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ 29/ 2/2003م(2/207)
وهكذا تحول الإعلام إلى أداةٍ تابعةٍ وظيفتُها تسويقُ السياسات، التي يقررها النظام الحاكم سياسياً واقتصادياً، وأصبحت وظيفة الإعلام صناعة الموافقة مما يسمح بتنفيذ السياسات في مجتمع يتخذ الشكل الديمقراطي، حيث ترى الليبرالية الرأسمالية في فن الدعاية وسيلة شرعية لإعداد الجماهير لتقبل سياساتها" (1). "أما إذا رفض الشعب ذلك وتمرد فإن علاج ذلك سهل ويسير عند عراب غسل الدماغ (ورهوس فريدريك سكينر 1904) ـ الأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف العديد من الكتب في علم النفس والتربية والفكر الفلسفي ـ وذلك عن طريق التحكم من الخارج في سلوكهم، أو دفعهم إلى طريق الفساد والرذيلة، هكذا في صراحة وفجور. وبدا ينعمون بالحرية، أو لنقل العبارة مقلوبة، ينعم أهل الثراء والسلطة بالحرية، إذ يخلو لهم الجو. هذه نصيحة (سكينر) وأغلى وصاياه التي أسداها إلى أهل الثراء والسلطان، وإلى جميع الحكومات التي تسعى إلى ترويض شعوبها" (2).
وهكذا أصبح غسل الدماغ علماً وفناً معروفاً لدي كافة المؤسسات التي تسعى إلى السيطرة على العقل البشري، وتوجيهه الوجهة التي تريدها، ومنها بالطبع الحكومات ووكالات الاستخبارات بكافة أشكالها. وغسل الدماغ في أبسط صورة، يعني كل محاولة للسيطرة على العقل البشري، وتوجيهه لغايات مرسومة بعد أن يجرد من ذخيرته السابقة، حيث يقوم مفهوم غسل الدماغ وإجراءاته على افتراض أساسي، مفاده أن اتجاهات الفرد ومعتقداته وقيمة هي نتاج تراكمي لعملية التعليم، يكتسبها الفرد عبر عملية التنشئة الاجتماعية. ولذلك يرى الباحثون العالمين في مجال تعديل السلوك -بشكل عام- وفي مجال غسل الدماغ بشكل خاص، أنه يمكن استخدام مبادئ التعليم وبخاصة مبادئ الاشتراط الكلاسيكي، والاشتراط الإجرائي في أية عملية تهدف إلى تغيير سلوك الأفراد على المستوى الانفعالي والمستوى المعرفي (3). فهندسة الثقافة تعتمد على إنكار العقل والوعي، وترى أن ما نسميه عقلاً هو حاوية أفعال منعكسة، وإن بالإمكان تغيير العقل أو التلاعب به عن طريق
_________
(1) الثقافة والإمبريالية - ادوارد سعيد ـ تعريب كمال أبو ديب ص 343 - دار الآداب/ بيروت - ط1 1997
(2) العقل الأمريكي يفكر - من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص154 - مكتبة مدبولي- ط1 1997
(3) راجع كتاب "غسل الدماغ" للدكتور فخري الدباغ(2/208)
تكوين أفعال منعكسة شرطية أخرى حسب الطلب. وهذا هو المقصود بإحداث التغييرات في الظروف البيئية، تتمثل بدورها في تغييرات السلوك، وبهذا المعنى نغير الاعتقادات.
وقد عرف الفكر الإنساني عمليات التحوير الفكري وغسل الدماغ منذ أقدم العصور، إلا أن هذه المعرفة كانت معرفة مبسطة لم تصل إلى التعقيد الذي وصلت إليه الآن. فقد كان لتقدم العلوم في عصرنا الحاضر ـ وعلم النفس بالذات ـ دور كبير في تطوير التقنيات والأساليب المستخدمة في عملية غسل الدماغ، حيث ظهرت كثير من النظريات والدراسات النفسية التي ألقت ضوءاً كبيراً على خفايا النفس الإنسانية وما تتحكم بها من غرائز وميول ونزعات، مما ساعد العلماء على دراسة النفس الإنسانية، على أسس علمية مكنتهم من التوصل إلى أساليب وتقنيات قادرة على تعديل سلوك الأفراد والجماعات بدون إثارة الشخص المعني. وقد عبر بطل رواية (فالدن) للمفكر سكينر عن هذا النهج حين قال: "إننا نلتزم نظاماً للسيطرة بحيث أن المسيطر عليهم يشعرون بأنهم أحرار على الرغم من أنهم يخضعون لقانون أشد صرامة من النظم القديمة. وقد وفرت تكنولوجيا التحكم في السلوك سبل القوة والانتصار وتغيير العقول" (1).
وتتراوح أهداف غسل الدماغ بين الدعاية والترويج لسلعة أو فكرة معينة، وحتى إزالة الاتجاهات والقيم والمعتقدات. وهناك أسس تقنية عديدة يستند عليها الدعاة - لمذهب أو لفكرة أو لسلعة في تحوير الاتجاهات وغسل الدماغ أهمها:
1) تعمد الدعاية إلى خلق هدف آخر بدل الهدف الأول. فقد تعمد إلى تعويض الغرائز والحاجات غير المشبعة لدى الجماعات والأفراد. ففي أيام الحروب والضيق الاقتصادي، الذي رافق الحرب العالمية الثانية، لم تجد الحكومات الديكتاتورية إلا أن تسمح بالحرية الجنسية، أو بتناول الخمور دونما قيود، وذلك للتغطية على قمعها للحريات واستفرادها بالقرارات المصيرية، والهاء الشعب بأمور أخرى. وهكذا خلقت الحكومة النازية شعار (المتعة أثناء العمل)، وابتكرت حكومة موسوليني شعار (المتعة بعد العمل).
_________
(1) العقل الأمريكي يفكر ـ من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات - شوقي جلال ص230(2/209)
2) استغلال أو تطوير أو تأكيد الهيئة الدارجة أو الفكرة السائدة عن الأشخاص أو الشعوب، فللزنجي انطباع خاص لدى الرجل الأبيض. وتعمد الدعاية المضللة ضد الزنوج إلى تضخيم وإبراز تلك الانطباعات، ومن يهمه محاربة الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية يفتش عن النواحي المعروفة لدى السذج ويتفنن في خلق الصور المرعبة عن المجتمع الاشتراكي .. الخ. ويصعب تبديل تلك الانطباعات الأولية إلا بالتوجيه والإعلام والتثقيف.
3) التعويض عن الأسماء المحبوبة أو المكروهة بغيرها، أو العاطفية الحادة بالمعتدلة. فكلمة يهودي مكروهة في معظم أنحاء العالم بسبب الطباع اليهودية الانعزالية والخبيثة. لذلك استعملت كلمة yid بدل Jew للتخفيف من وقعها على الأسماع في المجتمعات التي يعيشون فيها. وكلمة جرماني توحي أحياناً بمعاني الفظاظة والغلظة لذلك استعملت كلمة ألماني بدلاً منها للتخفيف كذلك.
4) الانتخاب: فمن بين مجموعة من الحقائق ينتخب القائم بالدعاية حقيقة، أو بضع حقائق تلائم أغراضه ويهمل البقية، ثم يبنى أكاذيبه ودعايته عليها. ومحطة إذاعة إسرائيل وقناة CNN و BBC وغيرها من المحطات، والصحف السائرة في ركابها تنفذ هذه الحيلة باستمرار.
5) الكذب: فمنذ أن موه رجال الدعاية في الحروب الصليبية الغايات الحقيقية على المجتمع المسيحي نفسه .. إلى أكاذيب (جوبلز) الضخمة .. إلى إدعاء الحلفاء بأن ألمانيا الهتلرية صنعت الصابون من ذهن الأسرى الأموات ... إلى أكاذيب (بوش) و (بلير) بشأن أفغانستان والعراق ... كان الكذب هو محور تلك الدعايات.
6) التكرار والإعادة الرتيبة والتعابير والملصقات واللافتات (خطاب باول في مجلس الأمن).
7) التأكيد والمجاهرة بصحة الإدعاء (راجع تصريحات بوش وبلير وزمرتهم).
8) الإشارة إلى عدو ما، سواء أكان عدواً وهمياً أو حقيقياً لتقوية معنويات الناس وتجميع عواطفهم العدائية نحو هدف يبعد عن صاحب الدعاية، ويخفف من غرائز العداء لدى الإنسان (الإسلام - الارهاب - بن لادن).(2/210)
9) الاستعانة بالسلطة أو المصادر الموثقة للتأكيد على صحة ادعائهم كما هو واضح من الإعلان التالي "ألف طبيب يؤكدون أن معجون (كذا .. ) يجعل الجلد أكثر رقة وحيوية وجمالاً"، فمن أين جاء الألف طبيب؟ وكيف أثبتوا صفات الحيوية والجمال؟؟ لكن ذكر طبيب كمصدر يستحق الثقة، يوهم الناس بصحة الإدعاء.
10) استغلال الظواهر السلبية عند العدو وتوسيع التناقضات الظاهرة.
ويضاف إلى هذه الأساليب والتقنيات أساليب أخرى تستخدم في عمليات الدعاية وغسل الدماغ، مثل الإيحاء والاستهواء والإقناع والتكرار والاستمرار في لفت النظر والتنويع المبتكر تجنياً للملل، ويراعى في كل ذلك الاختصار والسرعة والتوكيد والأحكام. وفي الواقع فإن كل هذه الأساليب والتقنيات المستخدمة في الدعاية وغسل الدماغ، تقوم على مبادئ رئيسة أهمها: محاولة الوصول إلى بؤرة الانتباه عن طريق جذب انتباه، ولفت نظر أكبر عدد ممكن من الجمهور، والاعتماد على الترغيب والتشويق والمبالغة وضرب الأمثلة وتقديم العينات، هذا بالإضافة إلى مبدأ مهم، وهو اختيار الأوقات المناسبة لعرض الأفكار والحقائق المتصلة بموضوع الدعاية وغسل الدماغ.
ومن العرض السابق اتضح لنا أن عملية غسل الدماغ، عملية صعبة ومعقدة تتطلب إلمام كبير بالنظريات والعلوم النفسية والاجتماعية، هذا بالإضافة إلى وجوب توفر كم هائل من المعلومات عن الشخص أو مجموعة الأشخاص الذي أو الذين يراد تعديل سلوكهم، أو نشر أفكار معينة بينهم (1)، لأن هذه المعلومات ستمكن القائمين بعملية غسل الدماغ من معرفة نقاط الضعف والقوة، التي يجب أن يركزوا جهودهم عليها، وبالتالي تمكنهم من اختيار الأساليب والوسائل التي تحقق أهدافهم.
وفي عصرنا الحاضر الذي تتصارع فيه فلسفات وأيدلوجيات وعقائد متعددة، تسعى كلاً منها إلى كسب مزيد من الأنصار إلى صفوفها، لعبت الدعاية وغسل الدماغ دوراً مهما في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي،
_________
(1) يوجد في أمريكا عشرات المراكز التي تقدم الدراسات اللازمة لصناع القرار عن المنطقة العربية والإسلامية، هذا بالإضافة إلى إسهامات المستشرقين والمبشرين قديماً وحديثاً.(2/211)
وأصبحت وسيلة مهمة من وسائل الدعاية السياسية والأيديولوجية، وحتى في مجال التبشير الديني والترويج التجاري. وبالتأكيد فإن أمريكا في سعيها إلى إقناع العالم والشعوب الغربية بصحة توجهها نحو اتخاذ الإسلام كعدو بديل، ولتبرير حملتها الصليبية على العالم الإسلامي بدعوى محاربة الإرهاب والدفاع عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، تدرك أهمية أساليب غسل الدماغ ودورها في تغيير اتجاهات الرأي العام، وكسب التعاطف مع أهدافها الشيطانية. لهذا فان الإدارة الأمريكية استخدمت هذا الأسلوب بكل دقة وحرفية، وأية مقارنه بين ما تقوم به أمريكا على أرض الواقع وبين أساليب غسل الدماغ يؤكد هذه الحقيقة. وحتى لا نتوسع في هذا الموضوع، فإننا سنترك للقارئ التأكد من ذلك، حيث سيجد مئات الامثله التي تنطبق على هذا الأسلوب، وسنكتفي بعرض مثال واحد للتوضيح.
فخلال حرب الخليج، كانت الإدارة الأمريكية تروج للحرب وتلمعها في عيون مختلف قطاعات المجتمع الأمريكي وغيره علي حد سواء. ولتسويق هذه الحرب لأنصار البيئة، قامت شبكة CNN بعرض صور حية لطائر يموت بسبب بقعة نفطية، وقالت إنه طائر من طيور الخليج يموت بسبب النفط الذي سكبه العراقيون القساة في الخليج. لكن المشاهدين أخبروا الـ CNN بأن الطائر المسكين الذي شاهدوه كان من طيور ألاسكا Alaska، ولم يكن من طيور الصحراء العربية، وأنه قتل بسبب النفط الذي سربته شركة إيسو ESSO النفطية الأمريكية، وليس الرئيس العراقي (صدام حسين). وقد اعتذرت CNN عن هذا التضليل! وبعد هذه المحاولة، قال مراسل CNN في بغداد بيتر آرنت Peter Arnet، في تعارض صارخ مع ما قاله البنتاغون، إنه لم يكن هناك أي دليل علي الإطلاق علي أن مصنع حليب الأطفال، الذي أمطر بوابل من القنابل الأمريكية، يحتوي علي منشآت لتصنيع الأسلحة، فما كان من إدارة CNN إلاّ أن أغلقوا فم (بيتر آرنت) وأرسلوا مكانه (كريستيان أمانبور) التي حظيت بالمال والشهرة لتنفيذها أجندة الرأسمالية المعلوماتيّة (1).
هذا مثال بسيط ويمكن سرد آلاف الأمثلة لحملة التضليل والكذب الأمريكية .. ولكن ما خفي أعظم .. !!
_________
(1) إمبراطورية الشر الجديدة - عبد الحي زلوم - القدس العربي-29/ 2/2003(2/212)
الفصل السادس
من المستفيد ... ومن يقف وراء الحادث؟
من القواعد الثابتة في علم الجريمة، التفتيش عن دافع الجريمة ثم عن المستفيد منها، وقد شرحنا الدافع على لسان (كيسنجر) و (بريجنسكي) و (لاروش) وغيرهم. والآن لنتناول الجهة المستفيدة من هذه الجريمة، لنعرف من هو الفاعل وهي قاعدة قانونية قديمة. فإذا استثنينا العرب والمسلمين فإن المستفيد من هذه الجريمة هم تلك القوى اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة .. والكيان الصهيوني للأسباب التالية:
1 - منحت تداعيات الحادي عشر من سبتمبر، أمريكا فرصة مفتوحة على مصراعيها لتصفية جل الحركات الإسلامية في العالم بحجة (مقاومة الإرهاب) (1)، كما أن تل أبيب كانت قبل التفجيرات، تواجه موقفا عصيباً لم تواجهه من قبل، قلب جميع موازين الأمن عندها ودب الهلع في نفوس شعبها. وزادت الهجرة المعاكسة، وقلّت الهجرة إلى فلسطين المحتلة. ولم ينفع مجيء شارون للحكم ولا سياسة القتل والإرهاب التي اتبعها. واستنفدت تل أبيب كل حيلها وفشلت في ترويض الفلسطينيين وإنهاء الانتفاضة، وساءت سمعتها في الخارج، وبدأ تحول ملحوظ في الرأي العالمي ضد سياستها، لذا شعرت أن أمنها بل وكيانها أصبح على كف عفريت، لذا كان عليها القيام بعمل ما ... قررت وضع الولايات المتحدة أمام الانتفاضة وأمام منظمة حماس التي تقود الشارع الفلسطيني وتقود الانتفاضة والعمليات الاستشهادية (2).
أي إن من أهم أهداف هذه اللعبة الكبرى هو جر الولايات
_________
(1) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) - د. عماد الدين خليل- ص78
(2) أثار أستاذ أمريكي بجامعة شيكاغو يعد من أبرز الخبراء الغربيين بشؤون الإرهاب، تخصص على وجه الدقة في تحليل المعلومات المتعلقة بالعمليات الانتحارية، جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة بعدما خلص في كتاب جديد- بعد تحليل المعلومات المتعلقة بكل العمليات الانتحارية التي وقعت في العالم منذ 1980 حتى مطلع 2004 - إلى أن الأصولية الإسلامية ليست السبب الحقيقي ل "الإرهاب الانتحاري"، وأن المسلمين ليسوا الأكثر هجمات انتحارية بل هم نمور التأميل في سريلانكا. وأكد البروفيسور روبرت باب أن الانتحاريين والاستشهاديين لا تطلقهم دوافع دينية لشن هجماتهم، بل هدف استراتيجي واضح. وقال إن "الإرهاب" الانتحاري ينبع أساساً من الاحتلال الأجنبي وليس من التطرف الإسلامي، حيث إن "الاستخدام المكثف للقوات العسكرية لتغيير المجتمعات الإسلامية سيزيد على الأرجح الهجمات الانتحارية التي تستهدفنا" .. فما أن تنسحب القوات المحتلة من أوطان الإرهابيين فإن الهجمات تتوقف في الغالب". فلبنان شهد 41 عملية انتحارية خلال الفترة 1982 - 1986م. لكنها توقفت عملياً بعدما سحبت الولايات المتحدة وفرنسا قواتهما، وبعدما انسحبت "إسرائيل" إلى ما سمته الشريط الأمني العازل على الحدود مع فلسطين المحتلة. وأشار إلى أن دراسة المعلومات الخاصة بالهجمات الانتحارية في لبنان إبان ثمانينات القرن ال 20 تنبؤ بأن 8 فقط منها شنها متشددون إسلاميون، فيما شن 28 منها شيوعيون واشتراكيون، وشن ثلاثاً منها مسيحيون. وأضاف أن الانتحاريين في العراق هم صنيعة الغزو الأمريكي. (الانتحاريين في العراق صنيعة الغزو - الخليج-23 - 7 - 2005)(2/213)
المتحدة إلى إعلان الحرب على (الإرهاب) أولا، ثم إدراج منظمة حماس ومنظمة حزب الله ضمن المنظمات الإرهابية التي يجب على الولايات المتحدة محاربتها والقضاء عليها (1).
2 - جاءت هذه العمليات لتخفيف الضغط السياسي والإعلامي عن إسرائيل، ولإعطائها المبرر الأخلاقي والسياسي الذي يتيح لها ذبح الفلسطينيين تماماً، كما فعلت الولايات المتحدة مع أفغانستان بالإضافة إلى استغلال الفرصة لإنهاء اتفاقية السلام تماماً والقيام باحتلال كامل لمناطق السلطة الفلسطينية، وربما القيام بقصف مشترك مع الولايات المتحدة وربما الناتو كله لقصف الدول التي تحمي الإرهاب، وهي في عرف أمريكا تضم سوريا والعراق ولبنان وإيران وهذا ما يمكن أن يعجل بالحرب العالمية الثالثة، أو ما يطلقون عليه المعركة النهائية (هرمجيدون) للقضاء علي (الشر) في العالم والإعداد لقدوم (المسيح) ليحكم العالم لمدة ألف سنة.
3 - كان شارون والموساد يعلمون بالطبع إن إسرائيل هي المستفيد الوحيد من الهجمات، وان هذه الهجمة الرهيبة ضد مواطنين أمريكيين، سوف تصيب الفلسطينيين بنكسة وتلحق ضرراً هائلاً بالقضية العربية برمتها وهذا بالطبع هو ما حدث. فوسط اللهب والموت وأنقاض مركز التجارة العالمي، والبتاجون نالت إسرائيل
_________
(1) هذا ما حدث فعلاً حيث أعلنت أمريكيا قائمة طويلة من المنظمات الإسلامية ووضعتها على قائمة الإرهاب وقامت بتجميد أموالها وملاحقة إتباعها، وطالبت الدول الإسلامية ودول العالم باتخاذ إجراءات ضدها، بل وصل الأمر إلى حظر نشاط منظمات دعوية وخيرية بدعوى مساعدتها للإرهاب. والحديث الآن يدور عن محاولات أمريكية لإجبار الدول الإسلامية على تغيير مناهجها الدراسية.(2/214)
كل ما أرادت، والفلسطينيون الذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من إقامة دولتهم المعترف بها دولياً، انتكست قضيتهم وتراجعت القهقرى سنوات عدة في جهودهم من اجل الحرية. قتل الآلاف منهم ودمرت آلاف المنازل، وزج في غياهب السجون بعشرات الآلاف من الفلسطينيين وتعرضوا للتعذيب، وها هي أمريكا الآن تتحفز للخروج إلى الحرب ضد أعداء إسرائيل. والخطط التي رسمت وقتها لم تقتصر على مهاجمة تنظيم القاعدة، بل العراق وإيران وسوريا أيضاً.
4 - لم يعد هناك ما يلجم شارون فانطلق دون رادع لارتكاب جرائم بلا حدود ضد الشعب الفلسطيني. لقد أطلقت يداه فلم يعد يخشى أي خطوات انتقامية جدية لا من الولايات المتحدة، ولا من أية جهة أخرى. وبالطبع فإن شارون انتهز الفرصة فاندفع للقيام بهذه المهمة بالضبط. ومن الأمثلة المفحمة التامة في دلالتها على أن إسرائيل أصبح بامكانها، ومنذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ارتكاب ما يحلو لها مثل ذاك الهجوم على جنين (1).
5 - من أهداف هذه العملية إعاقة تنامي قوة الأقليات الإسلامية في الولايات المتحدة، وفي العديد من الدول الأوروبية، بعد أن أصبحوا الآن قوة ملحوظة. وقد أبدى المسلمون في الانتخابات الأمريكية الأخيرة نشاطاً ملحوظاً. وأي تعاظم لقوة الحركة الإسلامية أو للأقلية الإسلامية يعني هبوطاً لقوة اللوبي الصهيوني. وهو ما لا ترضى به تل أبيب، ولا يمكن أن تهمل هذا الأمر الخطير بالنسبة لها، أو أن تتناساه. فكان إلصاق هذه العملية الإرهابية بالمسلمين ضرورياً لإثارة الرأي العام ضدهم في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وتنفيره منهم وتجميد نشاطهم وتقليل هجرة المسلمين إليهما.
6 - لقد رأى القيمون على إدارة بوش في أحداث 11 سبتمبر فرصة لتقوية الحكومة ولكسب تأييد شعبي، عن طريق إقامة حالة حرب داخلية. فبعد الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن عرفت الولايات المتحدة، في الواقع، تحولاً جذرياً في علاقات السكان مع الشرطة والقوات المسلحة، كما في الإطار الدستوري
_________
(1) عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوك- ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002 - عدد 8510(2/215)
والقضائي. وعندما منح البيت الابيض نفسه سلطات جديدة هامة في حقل القمع الداخلي إنما أضفى على البونوبارتية الأمريكية علامة فارقة: التضييق على الحريات العامة (1).
7 - جر الولايات المتحدة إلى الحرب أمر في مصلحة شركات السلاح، التي هبطت مبيعاتها بنسبة كبيرة. وكما لا يخفى على أحد، فلهذه الشركات تأثير قوي في الحياة الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة. حيث أشارت بعض التقارير بإصبع الاتهام إلي شركات السلاح العملاقة التي كانت وراء الانقلابين: انقلاب كينيدي، وانقلاب بن لادن، وكان هدف تلك الشركات في الانقلابين أن تستمر الحرب، وتستعر ليستمر تدفق الأموال ودوران مصانع الأسلحة وفرض النفوذ العسكري والسياسي الأمريكي. لهذا كان لابد من حرب جديدة، فقد انتهت الحرب الباردة، وحربا الخليج و حرب (كوسوفا) بعد حرب البوسنة والهرسك، فالحروب يجب أن تستمر ومصانع الأسلحة يجب ألا تتوقف طالما أن كل ذلك يتم علي حساب الآخرين، سواء كانوا الأوربيين أو اليابان، أو حتى الدول العربية النفطية!! كما أن اختيار أفغانستان بالذات له علاقة بمطامع الشركات النفطية الأمريكية التي تسعى إلى السيطرة على نفط بحر قزوين من خلال الامتداد والاستقرار في منطقة آسيا الوسطى الغنية بمصادر الطاقة.
8 - الهجمات زادت من قوة الولايات المتحدة في معظم المجالات القانونية والعسكرية والإستراتيجية، حيث إن الولايات المتحدة اليوم من الناحية العسكرية أكثر قوة مما كانت عليه قبل الهجمات, وقامت بتوسيع قواعدها العسكرية في العالم لمواجهة تهديدات جديدة. ويحكمها رئيس راغب باستخدام القوة العسكرية الأميركية، من أجل تغيير العلاقات الدولية بطريقة يعتقد أنها ضرورية. فالأحداث عززت من سلطة الرئيس بطريقة لم تكن لتحدث لولا تلك الهجمات. كما أصبحت السياسة الخارجية الأميركية الآن أكثر نشاطاً وأكثر تدخلاً في شؤون الآخرين، مما كانت عليه خلال السنوات العشرين الماضية أو أكثر. مما أدى إلي نتائج
_________
(1) خطورة أمريكا - ملفات حربها المفتوحة في العراق- نويل مامير، باتريك فاربيار - ترجمة ميشال كرم ص28(2/216)
كارثية جداً لكثير من دول العالم، لأن الولايات المتحدة تمارس الآن نفوذاً قوياً وضغطاً كبيراً على عدد كبير من دول العالم بطرق لا تحبها هذه الدول. إضافة إلى ذلك فإن المسائل الأمنية تحتل الآن أولوية في العلاقات الدولية عندما يتعلق الأمر بالمساعدات الاقتصادية الخارجية، أو الاستثمارات أو التنمية البشرية. فالإرهاب أصبح القضية الأولى على جدول أعمال أي مباحثات دولية مما همش غالبية القضايا الأخرى.
9 - من أخطر ما ستجنيه الولايات المتحدة هنا، هو أنها حصلت على (صك على بياض) للتدخل أينما شاءت ومتى شاءت بحجة محاربة الإرهاب. ولم يتسن لأي دولة حتى الآن الحصول على مثل هذا الامتياز الفريد والخطير. فإذا ما أرادت ضرب العراق فبهذه الحجة، وإذا أرادت ضرب السودان أو إيران أو ليبيا أو سوريا فبهذه الحجة. أي انها حصلت على مرونة وحركة سياسية كبيرة وعلى حجة وعذر للتدخل في شؤون جميع الدول في العالم، ولا سيما الدول الإسلامية والعربية. وهذا مكسب كبير للكيان الصهيوني واليمين الأمريكي.
وإذا كانت الأمور السابقة توضح أن اليمين المسيحي المتطرف الذي يحكم أمريكا الآن، وإسرائيل هم المستفيدون من هذه التفجيرات، فإن الأضرار التي لحقت بالمسلمين تزيد الأمر وضوحاً.
الأضرار التي لحقت بالمسلمين
1 - تقويض العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، حيث أن التوتر بين الجانبين لم يكن أسوأ مما هو عليه الآن خلال العصور الحديثة. إذ مارست الولايات المتحدة ضغوطاً دبلوماسية قوية على غالبية الدول الإسلامية وخصوصاً العربية لحملها على التعاون في مكافحة الإرهاب. والمثير في هذا الأمر المضحك المبكي، هو أن هذه الولايات المتحدة الأمريكية المتضخمة والمنغلقة الذات، والتي باتت أقل علمانية وأكثر أصوليه اعتباراً بالحضور القوي للدين في الحياة الأمريكية في السنوات القليلة الماضية، ووجود 60 مليون مسيحي متعصب يشكلون الدعامة الانتخابية الرئيسة لجورج بوش، واليمين الجديد المحافظ. إن هذه أمريكا السلفية(2/217)
المتطرفة هي نفسها، التي ترمي بلدان العالم الإسلامي بالأصولية، وتطالبها بتغيير مناهجها التعليمية والتربوية لتصفية البني التحتية على حد تعبيرها لبؤر التطرف.
2. اليوم تحوم الشبهات حول المسلمين أينما ذهبوا، ليس في الولايات المتحدة فقط بل وعلى مستوى العالم أيضاً. والمسلمون في الولايات المتحدة والغرب تحت المراقبة الشديدة أكثر مما كان عليه الوضع من قبل. وأصبح حصول المسلمين على تأشيرات إلى الدول الغربية مسألة أكثر صعوبة، كما استفاد حكام الدول الإسلامية من الحرب على الإرهاب لتعزيز قبضتهم وقمعهم لشعوبهم في كثير من هذه الدول, وخصوصاً ضد الإسلاميين. وهكذا فقد المسلمون حرياتهم. إضافة إلى ذلك استفاد قادة كل من روسيا والهند والصين والفليبين من الحرب على ما يسمى بالإرهاب للانقضاض على الأقليات المسلمة في بلدانهم.
3. لو كان (تصادم الحضارات) الذي تحدث عنه (صموئيل هانتنغتون) قبل ذلك أمراً ممكناً، فإن وجهات نظر (هانتنغتون) أثبتت الآن صحتها للأسف، حيث إن أعداد الأميركيين والمسلمين الذين يؤمنون بـ (صدام الحضارات) تزداد اليوم بشكل أكبر مما كانت عليه، عندما طرح هانتنغتون هذه المسألة أول مرة.
4. تعزز موقف الجماعات المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، إلى جانب الصهاينة المسيحيين والمحافظين الجدد ذوي الأطماع الإمبريالية، فقد منحتهم الهجمات سلاحاً قوياً، وزادت الهجمات الفكرية والسياسية ضد الإسلام والمسلمين، بينما لم يعد الأشخاص الذين يتعاطفون مع القضايا العربية قادرين على الحصول على فرص كبيرة لعرض مواقفهم في وسائل الاعلام المختلفة، إذ أن المجال في تلك الوسائل ممنوح للذين يتعاطفون مع الأفكار المعادية للتربية الإسلامية، وتلك التي تلصق صفة الإرهاب بالإسلام، وأصبح غالبية الغربيين ينظرون إلى المدارس الدينية في العالم الإٍسلامي على أنها مدارس لتدريب الإرهابيين. وهكذا فإنه من الصعب أن يجادل أحد لصالح الإسلام، ليس في أميركا وحدها ولكن في أي مكان في الغرب، حيث تضررت صورة الإسلام كثيراً.(2/218)
5. كما أن علاقة الولايات المتحدة بالفلسطينيين هي الأسوأ منذ حوالي عشر سنوات، وباسم الحرب على الإرهاب تعمل الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع أكثر الحكومات الإسرائيلية قسوة ويمينية منذ سنوات عديدة (1).
تفجيرات 11 سبتمبر/ بين بوش وشارون
مما تقدم نخلص إلى أن تفجيرات 11 سبتمبر 2001م جاءت لتوفر ظروف رد فعل للقوات العسكرية الأمريكية المستعدة منذ سنة لإظهار قدراتها على خوض حروب في كل الاتجاهات، وفي نفس الوقت وفرت الغطاء لشارون لممارسة إرهابه بحق الشعب الفلسطيني. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي قررت الدخول "فوراً في عملية عسكرية في هذيان، الحرب العالمية على الإرهاب"، والتي تتجسد منذ أكثر من ثلاثين سنة في الاحتلال العسكري غير الشرعي لأراضي كانت الأمم المتحدة خصصتها لدولة فلسطينية عربية. فشارون يخوض (حرباً استعمارية) ضد الفلسطينيين تقوم على مصادرة الأراضٍ لإقامة المستوطنين عليها. وتصريحاته وأفعاله من قتل وتدمير واغتيال هي من قبيل (ثقافة الاغتيال السياسي)، التي تجعله يتبنى الأسلوب نفسه الذي أعلن عنه جورج بوش وفريقه، وهي لغة قانون (لينش) لليمين المتطرف البروتستنتي.
وهنا يجب التذكير بأن هيجان شارون ضد الفلسطينيين سابق لعمليات 11 سبتمبر، حيث لاقت سياسته القمعية دعم أمريكا، حيث لم يتوانَ شارون عن ارتكاب المذابح والاغتيالات ضد الفلسطينيين ولم يتوان في تشبيه الانتفاضة بطريقة غير صحيحة، وغير عادلة، بإرهاب طائفة بن لادن، محاولاً خلق الذعر في رأيه العام ولا يعير أهمية للرأي العام الدولي، بل يتوجه للرأي العام الأمريكي الذي يجد فيه مساندة معتبرة لسياسته. فالروح الانتقامية تجد طريقاً لها في الشعب الأمريكي والشعب الإسرائيلي، إلى درجة أنه يمكننا أن نتساءل إن لم نكن بصدد أسرلنة الرأي العام الأمريكي أو أمركة الرأي العام الإسرائيلي (2).
_________
(1) موقع الجزيرة نت الثلاثاء 3/ 7/1423هـ الموافق 10/ 9/2002م
(2) إمبراطورية الفوضى: الجمهوريات في مواجهة السيطرة الأمريكية فيما بعد الحرب الباردة -ألان جوكس كامبردج بوك ريفيوز http://www.aljazeera.net/books/2002/12/ - TOP(2/219)
سيناريو ضلوع إسرائيل في أحداث 11 سبتمبر
ثمة أمور مزعجة في هذا التواطؤ العجيب بين مصالح إسرائيل وأمريكا. ويتساءل بعض المسئولين رفيعي المستوى في قلب إدارة بوش حول الدور المباشر الذي أدته إسرائيل في دخول الولايات المتحدة الحرب ضد العراق، فقد أعلن مكتب التحقيقات الاتحادية على سبيل المثال، أنه يدرس احتمال قيام حكومة أجنبية بمناورات تهدف إلى تقوية الدعم لحملة عسكرية ضد العراق. بهذه الرؤية يقدم الكاتب الفرنسي الشهير (اريك لوران) فصله السابع (رئيس غير عقلاني) في مؤلفه الشهير (عالم بوش السري) والذي يميط فيه اللثام عن الاختراق اليميني الديني للسياسة الأمريكية، إضافة إلى الدور (الإسرائيلي) الواضح للعيان في الكثير من الأحداث على صعيد الولايات المتحدة بخاصة منذ وصول (بوش الابن) إلى البيت الأبيض. ويخلص المؤلف إلى نتيجة مؤداها أن إسرائيل كانت حاضرة وبقوة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبالقدر نفسه كذلك كانت وراء حرب العراق والرابط بين الأمرين لا يخفى على أحد، إذ طلب بوش ثاني أيام الاعتداءات على واشنطن ونيويورك من مستشارته للأمن القومي في ذلك الوقت (كوندوليزا رايس)، إعداد خطة عسكرية لغزو العراق (1).
اتهام أمريكي مباشر لـ (إسرائيل)
كان نهار الخميس السادس عشر من يونيو 2005م، موعداً داخل الكونجرس لاجتماع وجه فيه عدد من الديمقراطيين اتهامات صريحة بأن الرئيس (بوش) قد ضلل الرأي العام الأمريكي عندما أراد الذهاب إلى العراق. وأضاف (راي ماكغافرن) المسؤول السابق في جهاز الاستخبارات الأمريكية CIA أثناء الاجتماع أن أمريكا ذهبت إلى الحرب على العراق من أجل النفط وإسرائيل، وإقامة قواعد عسكرية أرادها المحافظون الجدد كي تتمكن أمريكا وإسرائيل من الهيمنة على ذلك الجزء من العالم. ولم يقتصر الأمر على التلميح، إذ تعداه إلى التصريح حيث قام نشطاء في الحزب الديمقراطي خلال اللقاء المتلفز بتوزيع منشورات تضمنت اتهامات بأن شركة
_________
(1) عالم بوش السري - اريك لوزان- ص 143(2/220)
إسرائيلية تلقت تحذيراً قبيل اعتداءات 11 سبتمبر في إشارة إلى أن (إسرائيل) كانت تعلم بالاعتداءات قبل حصولها، وأن إسرائيل ربما كانت متورطة أيضا في مضاربات في الأسواق المالية عشية الاعتداءات لتحقيق مكاسب ضخمة (1).
وقد استدل هؤلاء بما أعلنته شبكة فوكس الأمريكية في صدر نشراتها الإخبارية في تلك لفترة من أنها علمت بوجود نحو ستين إسرائيلياً من بين مئات المعتقلين، الذين ألقت السلطات الأمريكية القبض عليهم بعد حوادث التفجيرات، وأن المحققين الاتحاديين من جهاز ال FBI كانوا يبحثون عنهم منذ مدة طويلة على خلفية اتهامهم بالتجسس على مواقع رسمية تابعة للحكومة الأمريكية. وتضيف شبكة فوكس، أن بعض هؤلاء الإسرائيليين ناشطون في الجيش الإسرائيلي، أو عمليات الاستخبارات. وأما اعتقالهم فجرى باتهامات تتعلق بالهجرة أو تحت لافتة قانون (باتريوت اكت)، (تشريع المواطن) لمكافحة الإرهاب. وأضافت في ذلك الوقت نقلاً عن محققين اتحاديين، أن بعض المعتقلين الإسرائيليين لم ينجحوا في اجتياز اختبار فحص الكذب حول التهم المنسوبة إليهم والمتعلقة بأنشطتهم التجسسية ضد الولايات المتحدة. وقد خلصت الشبكة إلى أن شكوكاً كبيرة قد اندلعت في عقول المحققين حول احتمال أن يكون هؤلاء المحتجزين قد جمعوا معلومات إستخبارية حول هجمات 11 سبتمبر قبل وقوعها، ولكنهم لم يشركوا أحداً في معلوماتهم تلك.
ولكي لا تلقي الشبكة اتهاماتها جزافاً، فقد نقلت عمن وصفته بالمحقق الكبير قوله لها: إن هناك علاقة بين الإسرائيليين والهجمات. لكنه عندما سئل عن تفاصيل هذه العلاقة رفض الإفصاح وقال: الأدلة التي تدين الإسرائيليين، بما جرى في الثلاثاء الحزين هي (مصنفة)، ولا يمكن أن أتحدث عنها. ومعنى مصنفه، أنها معلومات سرية للغاية ولا يجوز إطلاع احد عليها غير المخول لهم ذلك. أمر آخر كشفت عنه فوكس، وهو الإعلان عن مجموعة إسرائيلية كانت تحتفظ بشقة في ولاية كاليفورنيا بهدف التجسس على مجموعة من العرب، الذين تحقق معهم السلطات الأمريكية للاشتباه بعلاقتهم بالإرهاب. وتؤكد فوكس على أنها حصلت
_________
(1) سؤال يتجدد: هل كانت "إسرائيل" وراء أحداث سبتمبر؟ إميل أمين الخميس- جريدة الخليج- 30 - 6 - 2005 - العدد 9538(2/221)
على كمية كبيرة من الوثائق المصنفة التي تشير إلى أنه حتى قبل 11 سبتمبر كان قد تم وضع 140 إسرائيلياً آخر قيد الاعتقال والاحتجاز، وأن ذلك قد تم ضمن تحريات سرية للاشتباه بأنهم يتجسسون لمصلحة إسرائيل في أمريكا.
اما التحقيقات التي جرت بعد الأحداث فقد قادت إلى إلقاء القبض على عشرات الإسرائيليين العاملين في أكشاك صغيرة داخل مراكز تجارية؟، اعتبرت واجهات لممارسة نشاطات إسرائيل التجسسية، والمثير جداً في هذا الصدد أنه بعد أن أوردت صحيفتا واشنطن بوست ونيويورك تايمز نبأ اعتقال أشخاص إسرائيليين، بتهم تتعلق بالهجرة في نوفمبر عام 2001م، بدأت هذه العربات التي تعمل كأكشاك صغيرة بالاختفاء من مواقع انتشارها. وباختصار غير مخل يقول ضابط كبير ممن يشرفون على التحقيقات لفوكس: إن حكومة الدولة تقوم بأعنف حملة تجسس ضد الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أي دولة حليفة لأمريكا. في تلميح مباشر للتورط الإسرائيلي في القيام بنشاطات تجسسية فوق الأراضي الأمريكية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكتب أمن الاتصالات في جهاز المباحث الاتحادية وضع تقريرا أشار فيه إلى أنه تم تحديد عدد من ثغرات الاختراق لأجهزة الكمبيوتر بالمكتب، وهي نقاط صممت بحيث تتيح لعملاء دولة أجنبية دخول نظام المعلومات، المركزي والاطلاع على محتويات الملفات، التي يتضمنها النظام. وهنا تلزم الإشارة إلى أن عمليات المراجعة الأمنية في أعقاب هجوم الحادي عشر من سبتمبر، قد كشفت عن أن الأجهزة والبرامج التي استخدمها مكتب التحقيقات الاتحادية آنذاك، تضمنت برامج مستوردة من شركة (كومفيرس أنفوسيس) الإسرائيلية، وأن تلك البرامج تضمنت نوافذ سرية يمكن لخبراء الشركة المنتجة، وهم أصلاً من صمموها، استخدامها للاطلاع على محتوى الملفات والبيانات بأجهزة المكتب من دون أن يتمكن خبراء الأمن في المكتب من رصد تلك النوافذ بسهولة. وبعد الكشف عن تلك الثغرات ألقي القبض على عدد من الإسرائيليين، وتم ترحيلهم من الولايات المتحدة، وتردد أن مسئولا عسكريا إسرائيلياً، وضع أيضاً رهن الاعتقال وحقق معه، ثم أعيد إلى إسرائيل، وبذل خبراء المكتب جهدا كبيرا لسد الثغرات، إلا أنهم وضعوا تقريرا قالوا(2/222)
فيه: إنه من الأفضل تغيير نظام الاتصالات داخل مكتب التحقيقات بأكمله (1).
إرهاب الموساد ضد أمريكا
رغم وضوح الرؤية لمعظم المتابعين بأن هجمات 11 سبتمبر كانت مدفوعة ـ على الأقل في جزء منها ـ بقضية السيطرة على الشرق الأوسط، إلا انه من غير الواضح فيما إذا كان ذلك هو الدافع الرئيس، وفي حال استثنينا العرب الساكنين في الكهوف الأفغانية، فإننا لا نعلم بعد ـ الجناة الحقيقيين، ولكن يدل التنسيق والدقة في الهجمات على نيويورك وواشنطن على التورط المباشر لواحدة من وكالات الاستخبارات الحكومية للعالم الأول، حيث كانت الفوضى الناتجة عن الهجمات أكيدة ومميتة بالمنظور الاستراتيجي (2). وفي مقال له بمناسبة مرور عام على أحداث 11 سبتمبر، طرح الكاتب الصحفي (ديفيد ديوك) سيناريو جديد لما حدث، حيث اتهم الحكومة الإسرائيلية بزعامة الإرهابي شارون بأنها تقف وراء هذه العملية، حيث يقول: "سوف أقدم الدليل الدامغ لتورط شارون في الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمي"، حيث مهد لذلك بتسليط الضوء على الإرهاب الإسرائيلي، والشاروني بالذات وعدم تورعه عن اللجوء إلى أحط الوسائل لتنفيذ ما يسميه بأهداف الصهيونية القذرة، وسعيها إلى جر العالم إلي حرب عالمية ثالثة.
فطالما كان للموساد تاريخ مديد حافل من الإرهاب المقنع والخيانة الخفية. ففي عام 1940 عندما قرر الانكليز إنقاذ اليهود المهددين من قبل النازية بنقلهم إلى جزيرة (موريس) عمد قادة (الهاغانا) الصهاينة بزعامة بن غوريون حينذاك إلى تفجير السفينة (باتريا) المحملة باليهود حينما رست في ميناء حيفا، وكان ضحية ذلك 252 يهودياً أضف اليهم بحارة السفينة الانكليز .. كل هذا بغية إثارة روح العداء لبريطانيا التي لم تسمح بتحقيق رغبة اليهود في النزول إلى (ارض الاجداد) .. وبعد ثمانية عشر عاماً يكتب موشي شاريت رئيس مجلس الوزراء ورئيس الوكالة
_________
(1) سؤال يتجدد: هل كانت "إسرائيل" وراء أحداث سبتمبر؟ إميل أمين الخميس- جريدة الخليج- 30 - 6 - 2005 - العدد 9538
(2) العراق أولاً - حرب إسرائيل الخاطفة على نفط الشرق الأوسط (عملية شيخينا) - تأليف جوفيالز- ترجمة مروان سعد الدين ص29.(2/223)
اليهودية معلقاً على هذه الكارثة: "من الضروري في بعض الاحيان أن نضحي ببعض الاشخاص في سبيل إنقاذ الأغلبية". وهناك مثال آخر من يهود العراق الضاربين بجذورهم العميقة في هذا البلد .. حيث بدأت الاعمال الارهابية في بغذاد عام 1950. فتجاه تردد بعض اليهود العراقيين في تسجيل اسمائهم في قائمة المهاجرين إلى اسرائيل لم تتورع المخابرات الاسرائيلية - بغية اقناع اليهود بانهمم في خطر - عن أن ترمي بالمتفجرات على المعبد اليهودي فتقتل ثلاثة أشخاص وتجرح العشرات (1).
وفي حقبة الخمسينات فجر عملاء الموساد الإسرائيليون منشآت أمريكية في مصر، ضمن خطة محبوكة بالغة التعقيد لإلصاق تهمة الإرهاب ضد أمريكا بالمصريين، لكسب التأييد بذلك والدعم الأمريكي لـ إسرائيل ضد مصر، ولحسن حظ الولايات المتحدة ومصر، فإن قنابل احد العملاء اليهود انفجرت قبل التوقيت المحدد لها وافتضحت المؤامرة وكان على وزير الحرب الإسرائيلي (بنحاس لافون) تقديم استقالته بسبب الفضيحة التي انفجرت آنذاك. وخلال حرب 1967م هاجمت إسرائيل سراً سفينة حربية أمريكية هي (ليبرتى)، بطائرات أزيلت عنها شاراتها ونزعت أعلامها بزوارق طوربيد في محاولة، لإغراق السفينة ولإلقاء اللوم مره أخرى على المصريين وإلصاق تهمة ارتكاب هذه المجزرة بهم. وقد قتل في هذه المجزرة 43 أمريكيا وجرح 173، ولم تنج السفينة من الغرق، إلا بفضل بسالة طاقهما وشجاعتهم، والتي أنقذت السفينة من الغرق، وعرت دور إسرائيل في الهجوم، مما دفعت مسئولين أمريكيين إلى القول بان الهجوم الإسرائيلي كان متعمداً (2).
التزييف الرسمي لحقيقة حادث (ليبرتي) (3)
فضحت مشادة في مؤتمر عقدته إدارة التاريخ والتوثيق التابعة لوزارة
_________
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص285 - 286
(2) عام على أحداث 11 سبتمبر / بقلم ديفيد ديوك- ترجمة كمال البيطار - جريدة الخليج 6/ 9/2002م - عدد 8510
(3) وورد بوسطن /كبير المستشارين في تحقيقات السفينة ليبرتي -كورونادو كاليفورنيا -في 8 يناير /كانون الثاني 2004 - جريدة الخليج - 14 - 1 - 2004م(2/224)
الخارجية الأمريكية حقيقة تاريخية، تكتمت عليها إدارة الرئيس الأمريكي الراحل (ليندون جونسون) في شأن حقيقة ما حصل للسفينة الحربية الأمريكية (ليبرتي) في البحر الأبيض المتوسط في 8 يونيو 1967م. فقد منع منظمو المؤتمر الناجين من حادث إغراق ليبرتي، من تلاوة نص شهادة موثقة باليمين وقعها (وورد بوسطن) (84 عاماً) كبير مستشاري التحقيق في حادثة ليبرتي، ويعلن فيها انه تلقى تعليمات مباشرة من (جونسون) والأدميرال (إسحاق كيد) رئيس لجنة التحقيق في البيت الأبيض ووزير الدفاع آنذاك (روبرت ماكنمارا) بتغيير نتيجة التحقيق، وتكتم الحقيقة حتى لا يتعرض احتمال إعادة انتخاب (جونسون) للخطر بسبب النفوذ الإسرائيلي القوي. ويفضح في شهادته، كيف تم تغيير تقرير التحقيق؟ ويؤكد للشعب الأمريكي أن إسرائيل هي الجاني على سفينته وبحارته (1).
وقد نشرت (جريدة الخليج الإماراتية) نص الشهادة/ الوثيقة، حيث أوضح (فيليب تورني) رئيس جمعية محاربي ليبرتي للخليج أن شهادة بوسطن مهمة في ضوء المحاولات الأمريكية، لإعادة كتابة تاريخ حادثة إغراق سفينة التجسس ليبرتي بنيران القوات الإسرائيلية، لطمس تلك الحقيقة، وإلصاق التهمة بمصر والعرب. وقال إن الهدف الحقيقي كان يتمثل في استدراج أمريكا لدخول حرب 1967م في صف إسرائيل ضد العرب بتحميل الأخيرين مسؤولية إغراق ليبرتي، بيد أن بحارة السفينة المنكوبة نجحوا في إرسال إشارة استغاثة نصها (إسرائيل تهاجمنا). وأوضح أن طاقم السفينة نجحوا في إرسال أحد البحارة إلى أعلى الساري لتركيب هوائي، بديل عن الهوائيات التي دمرتها الطائرات الإسرائيلية في طلعة الهجوم الأولى ضد ليبرتي لمنعهم من إرسال استغاثة، ولم يسلم ذلك البحار من استهداف الطائرات الإسرائيلية التي أطلقت عليه النيران، وهو يحاول تركيب الهوائي البديل، ولكنه أتم المهمة بسلام رغم إصابته، ما أتاح لطاقم السفينة إرسال استغاثة. ففشلت الخطة الإسرائيلية لإغراق السفينة بالكامل. يقول (بوسطن) في نص الوثيقة التي مُنع الناجون في مؤتمر وزارة الخارجية الأمريكية من تلاوتها، بل حدثت مشادة مثيرة،
_________
(1) الانحياز - علاقات أمريكا السرية باسرائيل-ىستيفن غرين - ص 187 - 215 - مؤسسة الدراسات الفلسطينية- ط2 1992 - القدس(2/225)
لدرجة أن رئيس الجلسة أمر بإخراج من حاول من الناجين شرح الحقيقة:
1. لقد كنت صامتاً لأكثر من 30 عاماً على موضوع السفينة ليبرتي، فقد كنت رجلاً عسكرياً أتلقى الأوامر من وزير الدفاع، والرئيس الأمريكي، ولكن المحاولات الأخيرة لإعادة كتابة التاريخ ترغمني على كتابة الحقيقة. لقد كنت في يونيو 1967 م كابتن بالقضاء العسكري التابع للبحرية الأمريكية، عندما تم تعييني ككبير المستشارين القانونيين للجنة التحقيق في البحرية الأمريكية، حول موضوع حادث اغراق ليبرتي. وقتها أعطانا الأدميرال (إسحاق كيد) رئيس لجنة التحقيق مهلة أسبوع واحد فقط لجمع المعلومات، رغم أننا رأينا أن الموضوع يحتاج لستة أشهر.
2. ورغم الوقت القليل المتاح لنا فقد جمعنا كمية كبيرة جداً من المعلومات والأدلة، بما فيها ساعات من شهادات الناجين المأساوية، حيث كانت الأدلة واضحة، وقد آمنت بثقة أنا والأدميرال (كيد) بأن هذا الهجوم الذي أسفر عن مصرع 34 جندياً أمريكياً، وجرح 172 كان بفعل جهد مدبر ومتعمد لإغراق سفينة أمريكية، لقتل كل أفراد طاقمها. وقد استمرت مناقشتنا، وأتذكر أن الأدميرال (كيد) كرر مرات عدة تأكيده أن القوات الإسرائيلية مسئولة عن الهجوم، وكرر وصفهم بأنهم قتلة وأولاد سفاح.
3. كان رأينا المشترك والمبني على الأدلة والشهادات التي سمعناها ورأيناها، أن الهجوم كان مخططاً ومتعمداً ولا يمكن أن يكون حادثة، وأنا على ثقة من أن الطيارين الإسرائيليين الذين قاموا بالهجوم وكذلك رؤساءهم الذين أمروا بالهجوم كانوا يعلمون أن السفينة أمريكية. لقد رأيت العلم الذي دل بوضوح على هوية السفينة مخترقاً بالرصاص الإسرائيلي.
4. إسرائيل لم تهاجم فقط السفينة ليبرتي بالنابالم والرصاص والصواريخ، بل قامت قوارب التوربيدو الإسرائيلية بفتح مدافع رشاشاتها الثقيلة على ثلاثة قوارب نجاة، كانت تحمل جرحى أمريكيين أنزلهم طاقم ليبرتي إلى الماء في محاولة لإنقاذهم، وهذه جريمة حرب.
5.الأدميرال (كيد) وأنا كلانا شعرنا بأنه من الضروري وقتها السفر إلى إسرائيل لاستجواب الإسرائيليين، الذين شاركوا في الهجوم، وطلب الادميرال (كيد) من الادميرال (جون ماكين) القيام بترتيبات هذه الزيارة، لكنه أبلغني لاحقاً بأن(2/226)