5 ـ تاريخ عصر الخلفاء الراشدين:
خامس الخلفاء الراشدين
أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
شخصيته وعصره
د. علي محمَّد الصَّلاَّبيِّ(/)
الإهداء
إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله تعالى ونصرته والدعوة إليه أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يكون خالصاً لوجهه الكريم.
قال تعالى (( ... فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا))
(الكهف، الآية: 110)).(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مْسلِمُون)) (آل عمران، الآية: 102).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباًْ)) (النساء، الآية: 1).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) (الأحزاب، الآية: 70، 71)
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى.
أما بعد:
هذا الكتاب امتداد لدراسة عهد النبوة والخلافة الراشدة، لقد صدرت مجموعة من الكتب في هذا الشأن، وهي: السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث، الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق، وفصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، لقد سميت هذا الكتاب، خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب، شخصيته وعصره، ويتحدث هذا الكتاب عن أمير المؤمنين الحسن من مولده حتى استشهاده، فيبدأ بالحديث عن إسمه ونسبه وكنيته وصفته ولقبه، وتسمية رسول الله له، وتأذين رسول الله في أذنيه وحلق شعر رأسه، وعقيقته، ومرضعته أم الفضل رضي الله عنها وعن زواجه(1/5)
وزوجاته والروايات التي حولهنَّ، وبيان حقيقة الروايات التي تزعم بأن الحسن رضي الله عنه كان مزواجاً مطلاقاً، كما يتحدث الكتاب عن أولاده، وأخوانه وأخواته، وأعمامه وعماته، وأخواله وخالاته، وعن والدته السيدة فاطمة رضي الله عنها، عن مهرها وجهازها وزفافها، ووليمة عرسها، ومعيشتها وزهدها وصبرها، ومحبة رسول الله لها وغيرته عليها وصدق لهجتها وسيادتها في الدنيا والآخرة، وبين الكتاب العلاقة بين الصديق والسيدة فاطمة، وميراث النبي صلى الله عليه وسلم.
حقيقة علاقة السيدة فاطمة مع أبي بكر رضي الله عنه، وعن وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وفصل الكتاب مكانة السيد الحسن عند جده الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى محبة رسول الله ورحمته بالحسن وملاعبته والدروس المستفادة من هدي النبي في التعامل مع الأطفال، كتقبيلهم والرأفة والرحمة بالأطفال ومداعبتهم وممازحتهم وأهمية الهدايا والعطايا التي تقدم لهم، وحسن استقبالهم وتفقد أحوالهم والسؤال عنهم واللعب معهم، وتكلم الكتاب عن الأحاديث التي أشارت إلى شبه الحسن بن علي رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكون الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وقوله صلى الله عليه وسلم: هما ريحانتاي من الدنيا، وعن إعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الملأ عن كون الحسن السيد ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين، وذكرت الأحاديث التي رواها الحسن بن علي عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلت وصف رسول الله، كما رواه الحسن، وذكرت ما جاء في فضائله، كآية التطهير وحديث الكساء، وناقشت آية التطهير ومناط الاختلاف بين أهل السنة والشيعة في هذه الآية، وبينت التفسير الصحيح للآية على منهج علماء خير القرون ومن سار على هديهم، وذكرت آية المباهلة ووفد نصارى نجران وبينت علاقة ذلك بالحسن، وأشرت إلى أثر التربية الأسرية على الحسن بن علي رضي الله عنه وأثر الواقع الاجتماعي على تربيته.
وأفردت مبحثاً مستقلاً عن حياة الحسن في عهد الخلفاء الراشدين، فتكلمت عن مكانة الحسن في عهد الصديق وأهم الأحداث التي أثرت في ثقافته في عصر أبي بكر وماذا إستفاد من ذلك العهد الزاهر، وكذلك في عهد عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً، وتحدثت عن استيعاب الحسن للفقه الراشدي في نظام الحكم ومفاهيم الإسلام وعلاقته الحميمة بالخلفاء الراشدين،(1/6)
وتعرضت لمعركة الجمل وصفين وموقف الحسن منها وتحدثت عن استشهاد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ووصية أمير المؤمنين علي للحسن والحسين رضي الله عنهما، ونهي أمير المؤمنين علي عن المثلة بقاتله، وخطبة الحسن بعد استشهاد أبيه، وعن استقبال معاوية رضي الله عنه خبر مقتل علي رضي الله عنه، وعن بيعة الحسن وشرطه في البيعة وبطلان قضية النص على خلافته، وإنما اختارته الأمة على وفق نظام الشورى المعروف، وتكلمت عن مدة خلافة أمير المؤمنين الحسن ومعتقد أهل السنة في خلافته وأثبت بأن خلافته كانت خلافة راشدة حقة لأن مدته في الحكم كانت تتمة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً، فقد روى الترمذي بإسناده إلى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك (1)، وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال: إنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول في سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً (2)، وبذلك يكون الحسن خامس الخلفاء الراشدين (3)،
وعند الإمام أحمد من حديث سفينة أيضاً بلفظ: الخلافة ثلاثون سنة ثم يكون بعد ذلك الملك (4)، وعند أبي داود بلفظ: خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتى الله الملك من يشاء أو ملكه من يشاء (5)، ولم يكن في الثلاثين بعده صلى الله عليه وسلم إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن، وقد قرر جمع من أهل العلم عند شرحهم لقوله صلى الله عليه وسلم الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، أن الأشهر التي تولى فيها الحسن بعد موت أبيه كانت داخلة في خلافة النبوة ومكملة لها، وهذه بعض أقول أهل العلم:
_________
(1) سنن الترمذي مع شرحها، تحفة الأحوذي (6/ 395 ـ 397) حديث حسن.
(2) البداية والنهاية (11/ 134).
(3) مآثر الأنافة (1/ 105)، مرويات خلافة معاوية، خالد الغيث صـ 155 ..
(4) فضائل الصحابة (2/ 744) إسناده حسن.
(5) صحيح سنن أبي داود (3/ 779)، سنن أبي داود (2/ 515).(1/7)
1 ـ قال القاضي عياض: رحمه الله: لم يكن في الثلاثين سنة إلا الخلفاء الراشدون الأربعة، والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي والمراد في حديث: الخلافة ثلاثون سنة: خلافة النبوة فقد جاء مفسراً في بعض الروايات: خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً (1).
2 ـ وقال أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشرة سنين ونصفاً وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي أربعة سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر (2).
3 ـ وقال ابن كثير: والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة (3) من طريق سفينة مولى رسول الله قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وإنما كلمت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي (4).
4 ـ وقال ابن حجر الهيثمي: هو آخر الخلفاء الراشدين بنص جده صلى الله عليه وسلم، ولي الخلافة بعد مقتل أبيه بمبايعة أهل الكوفة فأقام بها ستة أشهر وأياماً، خليفة حق وإمام عدل وصدق تحقيقاً لما أخبر به جده الصادق المصدوق بقوله: الخلافة بعدي ثلاثون سنة (5)، فإن تلك الستة أشهر هي المكملة لتلك الثلاثين (6)، فهذه بعض أقوال أهل العلم في كون الحسن أحد الخلفاء الراشدين، فأهل السنة يعتقدون أن خلافة الحسن، كانت خلافة حقة وأنها جزء مكمل لخلافة النبوة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ثلاثين سنة (7).
هذا وقد بينت بأن هناك خطباً نسبت للحسن لا تصلح، وذكرت أقوال أهل العلم في بعض الكتب، ككتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، والذي يعتبر من الكتب التي شوّهت تاريخ صدر الإسلام، وهذا الكتاب، كتاب أدب وسمر وغناء ومجون وليس كتاب علم وتاريخ وفقه وله طنين ورنين في آذان أهل الأدب
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 201).
(2) شرح الطحاوية صـ 545.
(3) البداية والنهاية (11/ 134).
(4) المصدر نفسه (11/ 134).
(5) الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة (2/ 397).
(6) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 748).
(7) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 748).(1/8)
والتاريخ، وقد نقلت أقوال أهل العلم في الأصفهاني، وعدم ثقتهم فيه وتضعيفه واتهامه في نقله، وأثبت بالحجج والبراهين والدراسة العلمية أن هذا الكتاب لا يصلح أساساً كمصدر للعلم أو مرجعاً للبحث في الأدب والتاريخ، ولقد كان لهذا الكتاب أثر كبير في تشويه تاريخنا ولذلك وجب التحذير منه، ومن الكتب التي ساهمت في تشويه تاريخ الصحابة بالباطل، كتاب نهج البلاغة، فهذا الكتاب مطعون في سنده ومتنه فقد جمع بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بثلاثة قرون ونصف بلا سند، وقد نسبت الشيعة تأليف نهج البلاغة إلى الشريف الرضي وهو غير مقبول عند المحدثين لو أسند خصوصاً فيما يوافق بدعته فكيف إذا لم يسند كما فعل في النهج؟ وأما المتهم بوضع النهج فهو أخوه علي، وقد بينت أقوال العلماء في نهج البلاغة.
إن كتاب نهج البلاغة يجب الحذر منه في الحديث عن الصحابة ومن أراد الاستفادة منه فعليه أن يعرض المسائل العقائدية والأحكام الشرعية، وما يتعلق بالصحابة الكرام على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما وافق الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة عند علماء المسلمين، فلا مانع من الاستئناس به وما خالف فلا يلتفت إليه، فكتاب الأغاني ونهج البلاغة وغيرها من الكتب الواهية لا يمكن لطالب علم يحترم الحقيقة العلمية والموضوعية والحيادية أن يعتمد عليها في البحث التاريخي الجاد الذي يراد به وجه الله تعالى.
هذا وقد تتبعت أهم صفات الحسن وحياته في المجتمع وأثبتت بأن شخصيته تعتبر شخصية قيادية فذّة وأنه رضي الله عنه اتصف بصفات القائد الرباني، فمن أهم الصفات التي أشرت إليها بعد نظره، واستيعابه للأحداث الجارية حوله، وقدرته على قيادة الجماهير، وعزيمة قوية في تنفيذ الأهداف المرسومة وقد اتضحت هذه الصفات عند حديثنا عن مشروعه الإصلاحي العظيم بالإضافة إلى بعض الصفات الأخرى. كالعلم بالكتاب والسنة، والعبادة الخاشعة، وزهده الكبير في السلطة وأمور الدنيا، وإنفاقه وكرمه وجوده وسخاؤه الذي لا يميز بين غني وفقير، أو صغير وكبير، أو قريب أو بعيد، فقد كانت نفسه مجبولة على البذل(1/9)
والعطاء والكرم والسخاء في مرضاة الله تعالى، وكأن هذه الشخصية العظيمة مراد الشاعر:
إني لتُطربني الخلال كريمة
طرب الغريب بأوبة وتلاقِ
ويهزُّني ذكرُ المروءة والندى
بين الشمائل هِزةَ المشتاق
فإذا رُزِقتَ خليقة محمودة
فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال، وذا
علم وذاك مكارم الأخلاق
ومن صفاته التي تحدثت عنها حلمه، وتواضعه، وسيادته وشرحت مفهوم صفة السيادة من خلال سيرة الحسن، وبأن السيادة لا تكون بالقهر وسفك الدماء، أو إهدار الأموال والحرمات، بل السيادة بصيانتها وإزالة البغضاء والشحناء، فصلحه وحقنه لدماء المسلمين بلغ فيه رضي الله عنه ذروة السيادة.
وعشت مع الحسن في حياته مع المجتمع، وكيف كان يرد على المعتقدات الفاسدة؟ ويهتم بقضاء حوائج الناس، ويغار على نسبه النبوي الشريف، ومعاملته لمن يسئ إليه، وحسن خلقه بين الناس، وبعده عن فضول الكلام، وتحدثت عن ثناء سادة المجتمع الإسلامي عليه، وجمعت جملة من أقواله وخطبه ومواعظه وشرحتها لكي نستفيد منها في حياتنا المعاصرة وأفردت مبحثاً عن أهم الشخصيات التي كانت حوله واخترت قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، فهو أول ما بايع الحسن وهو من دهاة عصره، ومن أهم القيادات في جيش الحسن، وعبيد الله بن عباس بن عبد المطلب فهو من قادة جيوشه وولاة أبيه وقد تعرض في بعض كتب التاريخ للتشويه بالزور والبهتان ولذلك اخترته وبينت حقيقة مواقفه، ومن الشخصيات التي كانت حول الحسن ويعتبر من مستشاريه الكبار عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقد استشاره الحسن في الصلح مع معاوية، فشجعه ودفعه إلى ذلك، فقد رأيت أن أترجم لهذه الشخصيات المهمة، وهذا ينسجم مع منهجي في الدراسة الذي يهتم بسيرة الحسن وعصره والشخصيات المؤثرة فيه، ومن خلال دراسة هذه الشخصيات، يمكننا الوصول إلى بعض معالم روح ذلك العصر.(1/10)
ووقفت مع صلح الحسن واعتبرته مشروعاً إصلاحياً عظيماً ولذلك قمت بطرحه وفق هذه الرؤية التي وضعها الحسن وقام بتنفيذها، فذكرت أهم المراحل التي مرّ بها الصلح وماذا حدث في كل مرحلة، وتأملت في أهم أسباب الصلح ودوافعه، كرغبة الحسن فيما عند الله، وحرصه على حقن دماء المسلمين ووحدة الأمة، وتحقيق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها من الدوافع والأسباب، وقد قمت بتوضيح أقوال الحسن التي كانت سبباً ودافعاً له على الصلح والتي تدل على فهمه العميق لمقاصد الشريعة الغراء. وتحدثت عن شروط الصلح التي تمت بين الحسن ومعاوية، والنتائج التي ترتبت عليه، وبرهنت بالأدلة التاريخية أن الحسن رضي الله عنه تنازل عن الخلافة لمعاوية من موقف قوة، وليس كما يزعم بعض المؤرخين. وتظهر عظمة الحسن بن علي من خلال تصرفاته ومواقفه في حياته والتي من أهمها تصوره للمشروع الإصلاحي وقدرته الفذة على التنفيذ، فكم من الناس يملكون تصورات ونظريات إصلاحية ولكنهم يعجزون على إسقاطها في دنيا الناس.
وقد ناقشت بعض الأكاذيب التاريخية في هذا الكتاب مثل زعم بعض المؤرخين أن الدولة الأموية في عهد معاوية عممت على منابرها شتم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فأثبتت بالبراهين والأدلة، والشواهد الصحيحة على بطلان هذه الفرية والتي التقطها بعض كتاب التاريخ دون إخضاعها للنقد والتحليل حتى صارت عند بعض المتأخرين من المسلمات التي لا مجال لمناقشتها وهي دعوة مفتقرة إلى صحة النقل وسلامة السند من الجرح والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن مثل هذه الدعوى عند المحققين والباحثين الجادين، علماً بأن التاريخ الصحيح يثبت احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين على وأهل بيته الأطهار، كما بينت حقيقة التهم التي ألصقتها بعض كتب التاريخ بمعاوية واتهامه وابنه بدس السم للحسن وأثبت بأن ذلك لا يثبت من حيث السند والمتن معاً ومضيت مع الحسن بعد استقراره في المدينة وبعدما أصبح إمام ألفة الأمة، وقطب دائرتها وزعيم وحدتها بدون منافس قال الشاعر:
في روض فاطمة نما غصنان لم
لم ينجبهما في النيِّران سواها
فأمير قافلة الجهاد وقطب دائرة
الوئام والاتحاد أبناها(1/11)
حسن الذي صان الجماعة بعدما
أمس تفرقها يحلُّ عراها
ترك الإمامة ثم أصبح في الديار
إمام ألفتها وحسن عُلاها
وأشرت إلى صلة الحسن بمعاوية رضي الله عنهما، بعد الصلح، والأيام الأخيرة من حياته ووصيته للحسين رضي الله عنهما، وتفكره في ملكوت الله، واحتسابه نفسه عند الله ثم استشهاده ودفنه في البقيع بالمدينة رضي الله عنه.
إن سيرة الحسن بن علي رضي الله عنه توضح لنا أهمية امتلاك القائد لرؤية مستقبلية يسير على هداها مستعيناً بالله، فالحسن ملك الرؤية الإصلاحية والقدرة على التنفيذ، مع وضوح المراحل، والأسباب والشروط والنتائج ومعرفة العوائق وكيفية التعامل معها وترك لنا معالم نيرة في فقه الخلاف، والمصالح والمفاسد، ومقاصد الشريعة، والمفاوضات، والتغلب على أهواء النفوس وأمراضها ابتغاء ما عند الله، فالأسر الحاكمة، والأحزاب الناشطة، والمؤسسات القائمة، والحركات الإسلامية والجمعيات الهادفة في عالمنا الإسلامي الكبير في أشد الحاجة لفقه مدرسة الحسن في رأب الصدع، وتوحيد الصف، وحقن الدماء وجمع الكلمة، فالحسن خليفة راشد والاقتداء به والإهتمام بفقهه أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (1).
إن الباحث ليستغرب من ضعف وجود فقه الحسن في ذاكرة الأمة، كما أنه يتعجب من اختزل فقهه ومشروعه الإصلاحي العظيم في ثقافتنا، فنهضة الشعوب من عوامل نجاحها الالتفاف إلى ماضيها لخدمة حاضرها واستشراف مستقبلها، فالتاريخ ـ كما هو معروف ـ ذاكرة الأمة، ومستودع تجاربها ومعارفها وهو عقلها الظاهر والباطن وخزانة قيمها ومآثرها وأساس شخصيتها الغائرة في القدم والممتدة مع الزمن وله صلى الله عليه وسلم سيرة لمّا تستكشف أعماقها ولخلفائه الراشدين تاريخ حافل عظيم، ولأمته تاريخ يزهو على تاريخ الأمم والشعوب والدول، فعلينا أن نستفيد من هذا التاريخ العريق ونستخرج منه الدروس والعبر والمواعظ والسنن، ونستوعب فقه الحضارات، ونستلهم من القصص القرآني، والهدي النبوي والبعد
_________
(1) سنن أبي داود (4/ 201)، سنن الترمذي (5/ 44) حسن صحيح.(1/12)
التاريخي، رؤية شاملة لنهضة أمتنا بما يتلاءم مع حاضرنا كي تقوم بدورها الحضاري المنشود في هداية الناس، ويتأكد للقرون الباقية من عمر الدنيا أن رسالة الإسلام الخالدة التي بعث بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم تفن ولن تفنى وإن القرآن الكريم هو كلمة الحق الباقية إلى يوم الدين، وعلينا أن ننظر بعيوننا في أمورنا قبل أن نحتاج إليها لكي نبكي بها طويلاً.
هذا وقد حرصت بقدر الاستطاعة على تناول شخصية أمير المؤمنين الحسن من جوانبها المتنوعة، فحياته، صفحة مشرقة في تاريخ الأمة وهو من الأئمة الذين يتأسى الناس بهديهم وبأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، فسيرته من أقوى مصادر الإيمان والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين فنتعلم من سيرته، فقه الخلاف، والمصالح والمفاسد ومقاصد الشريعة، والاستعلاء على حظوظ النفوس، وكيف نعيش مع القرآن الكريم، ونهتدي بهديه ونقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمق في قلوبنا فقه القدوم على الله من خلال أقواله وأفعاله وأثر هذه العلوم في حياة الأمة، ونهوضها وقيامها بدورها الحضاري المنشود، فلذلك اجتهدت في دراسة شخصيته وعصره حسب وسعي وطاقتي، غير مدع عصمة، ولا متبرئ من زلة، ووجه الله الكريم لا غيره قصدت، وثوابه أردت، وهو المسؤول في المعونة عليه، والانتفاع به إنه طيب الأسماء وسميع الدعاء.
هذا وقد انتهيت من سلسلة تاريخ عصر الخلفاء الراشدين في 21/صفر/1425 الموافق 11/ 4/2004م الساعة العاشرة إلا ربع ليلاً والفضل لله من قبل ومن بعد وأسأله البركة والقبول، وأن يكرمنا برفقة النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، قال تعالى: ((مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (فاطر، الآية: 2).
وبهذا الكتاب أضع سلسلة عصر الخلفاء الراشدين بين يدي قارئها، ولا أدَّعي الكمال فيها، قال النَّاظم:
وما بها من خطأ ومن خلل
أذنت في إصلاحه لمن فعل
لكن بشرط العلم والإنصاف
فذا وذا من أجمل الأوصاف(1/13)
والله يهدي سُبل السلام
سبحانه بحبله اعتصامي
فلله الحمد على ما منَّ به عليَّ أولاً وآخراً، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذه السلسلة التاريخية لوجهه خالصة، ولعباده نافعة، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافَّة ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من القارئ الكريم أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه في صالح دعائه ((رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)) (النمل، الآية: 19).
وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته
ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصَّلاَّبيِّ
21/صفر/1425هـ
الاخوة: القراء الكرام
يسر المؤلف أن تصله ملاحظاتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبه من خلال دور النشر، ويطلب من إخوانه الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص والصواب، ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا.(1/14)
الفصل الأول
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه منذ ولادته حتى خلافته:(1/15)
المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته وصفته وأسرته في عهد النبوة:
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:
هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي القرشي (1)، المدني الشهيد (2)، فهو سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا وهو سيد شباب أهل الجنة، فهو ابن السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه أمير المؤمنين علي رصي الله عنه، وحفيد أم المؤمنين خديجة وخامس الخلفاء الراشدين.
ثانياً: مولده وتسميته ولقبه: وفقه النبي في تسمية المواليد:
ولد رضي الله عنه وأرضاه في رمضان سنة ثلاث من الهجرة النبوية على الصحيح، وقيل: ولد في شعبان، وقيل: ولد بعد ذلك قال الليث بن سعد: ولدت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي في شهر رمضان من ثلاث، وولدت الحسين في ليال خلون من شعبان سنة أربع (3)، وقال البرقي أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم: ولد الحسن في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة النبوية (4)، ومثله قاله ابن سعد في طبقاته (5)، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما ولد الحسن سميته حرباً فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أروني ابني ما سميتموه؟ قلنا: حرباً، قال: لا، بل هو حسن، فلما ولد الحسين سميته حرباً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أروني ابني ما سميتموه؟، قلنا: حرباً قال: بل هو حسين. فلما ولد الثالث سميته حرباً، فقال: بل هو محسّن، ثم قال: إني سميتهم بولد هارون: شبر وشبير ومشبّر (6)، وقد فرح رسول الله بهذا المولود الجديد وسارع الناس بتهنئة
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 246).
(2) المصدر نفسه (3/ 246).
(3) نسب قريش (1/ 23) الدوحة النبوية صـ 71.
(4) الذرية الطاهرة للدولابي صـ 69.
(5) الطبقات (1/ 226).
(6) مسند أحمد (1/ 98، 118) صحيح ابن حبان (15/ 410) إسناد الحديث صحيح.(1/17)
الأبوين بهذا السبط المبارك، وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يسرعون في زف البشرى لأهل المولود الجديد وقد ثبت عن الحسن البصري تهنئة لطيفة يقول فيها: بورك لك في الموهوب وشكرت الواهب ورزقت برّه وبلغ أشده، ونلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمى الحسن والحسين رضي الله عنهما عدل بهما عن مسميات قبل الإسلام وما تدل عليه أسماؤها من القتال وسفك الدماء فاختار لهما أكرم الأسماء وأجل المعاني (1)،
وقد وصف الحسن رضي الله عنه بالسيد ولقبه بهذا اللقب جده الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح: إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين (2) ونتعلم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم قيمة مهمة في حياتنا وهي الحرص على اختيار أجمل وأحسن الأسماء لأبنائنا وهذا توجيه للآباء والأمهات على اختيار الاسم الحسن في اللفظ والمعنى في قالب النظر الشرعي واللسان العربي، فيكون: حسناً، عذباً على اللسان، مقبولاً للأسماع، يحمل معنى شريفاً كريماً، ووصفاً صادقاً، خالياً مما دلت عليه الشريعة على تحريمه أو كراهته، مثل: شوائب التشبه والمعاني الرِّخوة ومعنى هذا أن لا يختار الأب المسلم اسماً إلا وقد قلب النظر في سلامة لفظه ومعناه على علم ووعي وإدراك، وإن يستشير بصيراً في سلامته ممّا يُحْذَرُ، فهو أسلم وأحكم، ومن الجاري قولهم: حق الولد على والده أن يختار له أماً كريمة وأن يسميه اسماً حسناً، وأن يورثه أدباً حسناً وقد بين العلماء أن للأسماء المشروعة رتب ومنازل وهي مستحبة وجائزة وهي على الترتيب كالآتي:
1 - استحباب التسمية بهذين الأسمين: عبد الله وعبد الرحمن وهما أحب الأسماء إلى الله تعالى، كما ثبت الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأسماء المتضمنة العبودية لله في معانيها وميزة هذه الأسماء، أنها أصدق تعبير على حقيقة عبودية الإنسان لربه وفقره وذله له، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن (3)، وذلك لاشتمالهما
_________
(1) الحسن بن علي ودوره السياسي، فيتخان كردي صـ 16 ..
(2) البخاري (2/ 306).
(3) مسلم رقم 2132(1/18)
على وصف العبودية. وقد خصّها الله في القرآن، بإضافة العبودية إليهما دون سائر أسمائه الحسنى، وذلك في قوله تعالى: "وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا" (الجن، آية: 19) وقوله تعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ" (الفرقان، آية: 63)، وجمع بينهما في قوله تعالى: "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" (الإسراء، آية: 110) وقد سمّي النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمّه العباس: عبد الله رضي الله عنهما وفي الصحابة رضي الله عنهم نحو ثلاثمائة رجل كل منهم اسمه عبد الله، وبه سُمي أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة إلى المدينة، عبد الله بن الزبير (1).
2 - التسمية بأسماء أنبياء الله ورسله: لأنهم سادات بني آدم وأخلاقهم أشرف الأخلاق، وأعمالهم أزكى الأعمال، فالتسمية بأسمائهم تذكر بهم وبأوصافهم وأحوالهم وقد أجمع العلماء على جواز التسمية بهم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة حيث سمى ابنه إبراهيم، وأفضل أسماء الأنبياء: اسم نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين أجمعين (2).
3 - التسمية بأسماء الصالحين من المسلمين: وصحابة رسول الله إلى يوم الدين وقد كان لصحابة رسول الله نظر لطيف في ذلك، فهذا الصحابي، الزبير بن العوام رضي الله عنه يسمي أولاده ـ وهم تسعة ـ بأسماء بعض شهداء بدر رضي الله عنهم، وهم: عبد الله، المنذر، عروة، حمزة، جعفر، مصعب، عبيدة وخالد.
4 - ثم يأتي من الأسماء ما كان وصفاً صادقاً للإنسان: بشروطه وآدابه واسم المولود يكتسب الصفة الشرعية متى توفرت فيه، وهذه شروط منه:
أن يكون حسن المبنى والمعنى لغة وشرعاً، ويخرج بهذا كل اسم محرم أو مكروه إما في لفظه أو معناه أو فيهما كليهما وإن كان جارياً في نظام العربية، كالتسمي بما معناه التزكية، أم المذمة أو السبُّ، بل يسمى بما كان صدقاً وحقاً (3) وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
_________
(1) تسمية المولود، بكر عبد الله أبو زيد 33.
(2) تسمية المولود صـ 35، 36.
(3) المصد نفسه صـ 39.(1/19)
وقد دلت الشريعة على تحريم تسمية المولود في واحد من الوجوه الآتية:
1 ـ اتفق المسلمون على أنّه، يحرم كل اسم معبد لغير الله مثل عبد الرسول، عبد النبي، عبد عليِّ، عبد الحسين، عبد الأمير ـ يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ عبد الصاحب، فالخلق كلهم مهما علوا فهم عباد خاضعون ذليلون فقراء لله، والله تعالى هو المستحق وحده للعبادة، فلا ينبغي التسمية بالتعبيد لغير الله من خلقه.
2 ـ التسمية بالأسماء الأعجمية المولّدة للكافرين الخاصة بهم والمسلم المطمئن بدينه يبتعد عنها وينفر منها ولا يحوم حولها وقد عظمت الفتنة بها في زماننا، فيلتقط اسم الكافر من أوربا، وأمريكا وغيرها، وهذا من أشد مواطن الإثم وأسباب الخذلان، ومنها: بطرس، جرجس، جورج، ديانا .. وغيرها. وهذا التقليد للكافرين في التسمِّي بأسمائهم، إن كان مجرّد هوى وبلادة ذهن، فهو معصية كبيرة وإثم (1)، وقد فصل الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه تسمية المولود فمن أراد الزيادة والتوسع فليراجعه (2).
ثالثاً: تأذين رسول الله في أذن الحسن:
لما ولد الحسن أذن رسول صلى الله عليه وسلم في أذنيه بالصلاة كما روي ذلك عن أبو رافع (3)، والسر في ذلك وحكمته كما قال الدهلوي: ـ رحمه الله ـ:
1 ـ الأذان من شعائر الإسلام.
2 ـ إعلام الدين الإسلامي.
3 ـ ثم لا بد من تخصيص المولود بذلك الأذان بأن يصوت في أذنه.
4 ـ علمت أن من خاصية الأذان أن يفر منه الشيطان، والشيطان يؤذي الولد في أول نشأته، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مولد يولد إلا والشيطان يمسه
_________
(1) تسمية المولود، بكر بن عبد الله بن زيد صـ 47.
(2) تسمية المولود، بكر بن عبد الله بن زيد صـ 47.
(3) سنن أبي داود (5105) إسناده ضعيف فيه عاصم بن عبيد الله، ضعفه ابن معين وقال البخاري: منكر الحديث كما في الكاشف 2530.(1/20)
فيستهل صارخاً من مس الشيطان (1) إلا مريم وابنها (2)، وثبت قوله صلى الله عليه وسلم: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين (3). وأضاف ابن القيم ـ رحمه الله ـ أسراراً أخرى للتأذين فقال:
5 ـ أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله الدنيا، كما يلقن التوحيد عند خروجه منها.
6 ـ وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثيره به، وإن لم يشعر مع ما في ذلك فائدة أخرى وهي:
7 ـ هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد، فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به.
8 ـ وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته، سابقة على دعوة الشيطان كما كانت فطرة الله التي فطر عليها على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم (4)، وهكذا نتعلم من هدى النبي صلى الله عليه وسلم، استحباب الأذان في أذن المولود اليمنى ثم تقام الصلاة في الأذن اليسرى، وبذلك يكون أول ما يلامس أذنيه الدعوة إلى الركن الركين في هذا الدين بعد توحيد رب العالمين (5).
رابعاً: تحنيك المولود:
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالصبيان، فيبرك عليهم ويحنكهم (6)، فمن باب أولى أن يكون صلى الله عليه وسلم برك على الحسن وحنكه، يقول
_________
(1) حجة الله البالغة (2/ 385).
(2) البخاري (5/ 196) رقم 4548.
(3) البخاري (1/ 170) رقم 608.
(4) منهج التربية النبوية للطفل، محمد سويد نقلاً عن تحفة المودود لابن القيم صـ 54 تحقيق فوّاز أحمد زمزلي.
(5) موسوعة تربية الأجيال المسلمة، نصر العنقري صـ 66.
(6) مسلم (1/ 237) رقم 286.(1/21)
النووي ـ رحمه الله ـ معلقاً على قول عائشة رضي الله عنها: فيبرك عليهم أي يدعو لهم ويمسح عليهم وأصل البركة ثبوت الخير وكثرته، وقولها: فيحنكهم: قال أهل اللغة التحنيك أن يمضغ التمر أو نحوه ثم يدلك به حنك الصغير (1) والتحنك يكون عقب التأذين إن أمكن ذلك، ويفضل إن أمكن أن يقوم بالتحنيك رجل صالح، وفي ذلك تأسي بالصحابة الكرام حيث حرصوا على إرسال أبنائهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكهم، ويستخدم في التحنيك التمر، فإن لم يوجد فشئ حلو، وسبب ذلك:
1 ـ لأن التمر مثل حليب الأم، يحمل جميع الفيتامينات التي يحتاجها جسم الغلام.
2 ـ الغلام الصغير يولد بحاسة التذوق، فإذا استخدمت معه التمر تنبهت هذه الحاسة وحرك لسانه وفمه، فكان بذلك أقدر على التقام ثدي أمه عند الرضاع.
3 ـ المعدة تمتص السكريات بسرعة فائقة، وبذلك لا يشكل التحنيك أي معاناة معوية للغلام (2).
يقول الدكتور فاروق مساهل ـ مجلة الأمة القطرية عدد (50) في مقالته تحت عنوان ـ إهتمام الإسلام بتغذية الطفل معلقاً على حديث التحنيك ما نصه ـ والتحنيك بكل المقاييس معجزة نبوية طبية مكثت البشرية أربعة عشر قرناً من الزمان لكي تعرف الهدف والحكمة من ورائها، فلقد تبين للأطباء أن كل الأطفال الصغار وخاصة حديثي الولادة والرضع معرضون للموت لو حدث أحد أمرين:
ـ إذا نقصت كمية السكر في الدم بالجوع.
ـ إذا انخفضت درجة حرارة أجسامهم عند التعرض للجو البارد المحيط بهم (3)
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم.
(2) موسوعة تربية الأجيال المسلمة صـ 68.
(3) منهج التربية النبوية صـ 64.(1/22)
خامساً: حلق شعر رأس الحسن رضي الله عنه:
عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن فاطمة حلقت حسناً وحسيناً يوم سابعمها فوزنت شعرهما فتصدقت بوزنه فضة (1)، والأحاديث في هذا الباب صحيحة بمجموع طرقها (2). وقال الشيخ الدهلوي ـ رحمه الله ـ معلقاً على الحديث: السبب في التصدق بالفضة، أن الولد لما انتقل من الجنينية إلى الطفلية كان ذلك نعمة يجب شكرها وأحسن ما يقع به الشكر ما يؤذن (3) أنه عوضه ... وأما تخصيص الفضة فلأن الذهب أغلى ولا يجده إلا غني وسائر المتاع ليس له بال بزنة شعر المولود (4).
سادساً: العقيقة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً (5)، وفي رواية: كبشين كبشين (6)، وعن أبي رافع: أن حسن بن عليّ لمّا ولد أرادت أمُّه أن تَعُقَّ عنه بكبشين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعُقي عنه، ولكن أحْلِقي شعر رأسه فتصدقي بوزنه من الورق، ثم ولد الحسين، فصنعت مثل ذلك (7) وإنما صرفها صلى الله عليه وسلم عن العقيقة لتحمُّله عنها ذلك لا تركاً بالأصالة. يدل عليه حديث عليِّّ رضي الله عنه: عقَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن (بشاة) وقال: يا فاطمة أحْلقي رأسه وتصدَّقي بزنة شعره فضَّة، فوزنّاه فكان وزنُه درهماً أو بعض درهم خرَّجه الترمذي (8)، وقد روي عن فاطمة أنَّها عقَّت عنهما وأعطت القابلة فخذ شاة وديناراً واحداً (9)، ولعل فاطمة باشرت الإعطاء، وكان ممّا عق
_________
(1) الطبقات، الطبقة الخامسة (1/ 231) إسناده مرسل.
(2) موسوعة تربية الأجيال صـ 72.
(3) يؤذن: يشعر.
(4) حجة الله البالغة (2/ 385).
(5) سنن أبي داود في الأضاحي رقم 2841 في إسناده ضعف.
(6) سنن النسائي (7/ 166) باب كم يعق عن الجارية إسناده صحيح.
(7) مسند أحمد (6/ 392) في إسناده ضعف.
(8) سنن الترمذي رقم 1519 حسن غريب إسناده ليس متصل.
(9) تحفة المودود صـ 55 لابن القيم.(1/23)
به صلى الله عليه وسلم عن الحسن يوم سابعه بكبشين أمْلَحَين، وأعطى القابلة الفخذ، وحلق رأسه وتصدَّق بزنة الشعر، ثم طلى رأسه بيده المباركة بالخَلُوق (1) ثم قال: يا أسماء، الدم مِنْ فعل الجاهلية. فلمّا كان بعد حول ولد الحسين (2).
إن للعقيقة فوائد جمة منها، أنها قربان عن المولود يقدم إلى الله مع خروج الغلام إلى الدنيا وبذلك تقدم الشكر على ما أنعم الله عليك وغير ذلك من الفوائد وقد قال الشيخ الدهلوي ـ رحمه الله ـ: يستحب لمن وجد الشاتين أن ينسك بهما عن الغلام وذلك لما عندهم أن الذكران أنفع لهم من الإناث فتناسب زيادة الشكر وزيادة التنويه أما سبب الأمر بالعقيقة فهو أن العرب كانوا يعقون عن أولادهم، وكانت العقيقة أمراً لازماً عندهم وسنة مؤكدة وكان فيها مصالح كثيرة راجعة إليه المصلحة الملية والمدنية والنفسية فأبقاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعمل بها ورغب الناس فيها إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ غيّر في تقاليدها، فعن بريدة رضي الله عنه قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لنا غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بدمها، فلما كان الإسلام كنا إذا ولد لنا غلام ذبحنا عنه شاة وحلقنا رأسه، ولطخنا رأسه بزعفران (3) وهذا من الفقه النبوي فإنه لما رأى عادة فيها منفعة للناس مشوبة ببعض الانحراف ـ تلطيخ رأس المولود بالدم ـ فلم يبحها مطلقاً بدعوى حاجة الناس إليها وفي نفس الوقت لم يمنعها مطلقاً بسبب ما فيها من انحراف وإنما حافظ على ما يحقق الناس في هذه العادة وأكده ونهى عن العادة الجاهلية وحرمها وهذه حكمة نبوية جديرة بالاهتمام والتأمل.
سابعاً: ختان (4) الحسن بن علي رضي الله عنه:
عن جابر رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عّقَّ عن الحسن والحسين، وختنهما لسبعة أيام (5)، وعن محمد بن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن الحسين لسبعة أيام (6)،
_________
(1) الخلوق: ضرب من الطيب.
(2) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، لأبي العباس الطبري صـ 207.
(3) المستدرك للحاكم (4/ 238) صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
(4) الختان: لغة قطع القلفة أي الجلدة التي على رأس الذكر.
(5) سنن البيهقي (8/ 324) إسناده ضعيف.
(6) البخاري (7/ 184) رقم 6297.(1/24)
والختان من أمور الفطرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه: الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الأبط (1).
والختان صبغة الحنيفية، فهو للحنفاء بمنزلة الصبغ والتعميد عند عباد الصليب، فهم يطهرون أولادهم بزعمهم حين يصبغونهم في ماء المعمودية، ويقولون الآن صار نصرانياً، فشرع الله سبحانه للحنفاء صبغة الحنيفية، وجعل ميسمها الختان (2)، فقال عز من قال: ((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)) (البقرة، الآية: 138)) والمقصود أن صبغة الله هي الحنفية التي صبغت القلوب بمعرفته ومحبته والإخلاص له وعبادته وحده لا شريك له، وصبغة الأبدان بخصال الفطرة من الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط والمضمضة والاستنشاق والسواك والاستنجاء فظهرت فطرة الله على قلوب الحنفاء وأبدانهم (3)، ومن اللطائف الفقهية في أمر الختان ما ذكره الخطابي: أما الختان فإنه وإن كان مذكوراً في جملة السنن فإنه عند كثير من العلماء على الوجوب، وذلك أنه شعار الدين، وبه يعرف المسلم من الكافر إذا وجد المختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين (4).
ثامناً: مرضعة الحسن بن علي أم الفضل رضي الله عنهما:
عن أم الفضل قالت: قلت يا رسول الله رأيت في المنام كأن عضواً من أعضائك في بيتي أو قالت في حجرتي فقال: تلد فاطمة غلاماً إن شاء الله فتكفلينه قالت: فجئت به يوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبال على ظهره فدحيت (5) في ظهره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مهلاً يرحمك الله أوجعت ابني. فقلت: إدفع إليّ إزارك فأغسله فقال: لا، صُبِّي عليه الماء فإنَّه يُصَبُّ على بوْل الغلام ويغسل بول الجارية (6).
_________
(1) مسلم رقم 257.
(2) المصدر نفسه صـ 153.
(3) موسوعة تربية الأجيال صـ 75.
(4) منهج التربية النبوية للطفل 69.
(5) لطمته بيدها في رواية أخرى.
(6) المستدرك (1/ 166) وصححه ووافقه الذهبي، وهناك من ضعفه.(1/25)
وأم الفضل هي امرأة العباس بن عبد المطلب اسمها لُبَابَة بنت الحارث الهلالية وهي لبابة الكبرى، أسلمت قبل الهجرة (1)، وقال ابن سعد: أم الفضل أوّلُ امرأة آمنت بعد خديجة (2). وروتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنها أبنَاهَا عبد الله وتمام، وعُمير بن الحارث مولاها وكُريب مولى ابنها وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الحارث بن نوفل وآخرون وأخرج الزبير بن بكار وغيره، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأخوات الأربع مؤمنات: أم الفضل، وميمونة، وهي شقيقة أم الفضل، وأما أسماء وسلمى فأختاهما من أبيهما وهما بنتا عُميس الخثعمية (3) وأم الفضل خالة خالد بن الوليد رضي الله عنه (4)، فأم خالد هي لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية (5). وكان يقال عن والدة أم الفضل بأنها أكرم الناس أصهار ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، والعبّاس تزوج أختها شقيقتها لُبابة أم الفضل، وحمزة تزوج أختها سلمى، وجعفر بن أبي طالب شقيقتها أسماء، ثم تزوجها بعده أبو بكر الصديق ثم تزوجها بعده على بن أبي طالب (6) رضي الله عنهم جميعاً وقد قال ابن عمر: كانت من المنجبات وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها (7)، وفي الصحيح أن الناس شكُّوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن فشرب وهو بالموقف فعرفوا أنه لم يكن صائماً (8)، وتحكى لنا أم الفضل رضي الله عنها عن آخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قرأ في المغرب بسورة ((وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا)) (المرسلات، الآية: 1).
فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها آخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها المغرب (9)، وعاشت أم الفضل إلى خلافة أبي بكر الصديق وخلافة
_________
(1) الطبقات لابن سعد (8/ 277).
(2) المصدر نفسه (8/ 277).
(3) موسوعة عظماء حول الرسول، خالد العك (3/ 2162).
(4) سيرة آل بيت النبي الأطهار، مجدي فتحي صـ 31.
(5) الاستيعاب رقم الترجمة 610.
(6) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 450).
(7) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1908).
(8) البخاري، ك الحج رقم 1661.
(9) البخاري رقم 767.(1/26)
الفاروق من بعده وفي أثناء خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعاً توفيت قبل زوجها العباس (1) رضي الله عنهما وقد ولدت للعباس ستة رجال لم تلد امرأة مثلهم وهم: الفضل وبه كانت تُكنى ويُكْنى زوجها العباس أيضاً ـ أبو الفضل ـ وعبد الله الفقيه، وعبيد الله الفقيه، ومعبد، وقُتم، وعبد الرحمن وأم حبيبة سابعة ـ وفي أم الفضل هذه يقول عبد الله بن يزيد الهلالي:
ما ولدت نجيبة مِنْ فحل ... بَجَبلٍ نعلمه وسَهْل
كستةٍ من بطن أمِّ الفضل ... أُكرِمْ بها من كهلة وكَهْلِ
عم النبي المصطفى ذي الفضل ... وخاتم الرسل وخير الرسل (2)
تاسعاً: زواج الحسن وزوجاته والروايات التي حولهن:
وقد ذكر المؤرخون أن من زوجاته، خولة الفزازية، وجعدة بنت الأشعث، وعائشة الخثعمية، وأم اسحاق بنت طلحة بنت عبيد الله التميمي، أم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري، وهند بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وأم عبد الله وهي بنت الشليل بن عبد الله أخو جرير البجلي وامرأة من بني ثقيف وامرأة من بني عمرو بن أهيم المنقري، وامرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة وربما تجاوز هذا العدد بقليل، وهو كما ترى لا يمت إلى الكثرة المزعومة بصلة بعرف ذلك العصر وأما ما رواه رواة الأثر، في كونه تزوج سبعين وفي بعض الروايات تسعين والبعض الآخر مائتين وخمسين والبعض الآخر ثلاثمائة وروي غير هذا إلا أنه من الشذوذ بمكان وهذه الكثرة المزعومة موضوعة:
وأما الروايات فهي كالتالي:
1 ـ الرواية الأولى: فقد ذكرها ابن أبي الحديد وغيره (3)، وقد أخذوها عن علي بن عبد الله البصري الشهير بالمدائن المتوفى 225هـ وهو من الضعفاء الذين لا يعول على أحاديثهم، فقد امتنع مسلم من الرواية عنه في صحيحه (4)، وضعفه
_________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 451).
(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1908).
(3) حياة الإمام الحسن بن علي (2/ 445 إلى 460).
(4) ميزان الاعتدال (3/ 138).(1/27)
ابن عدي في الكامل فقال فيه ليس بالقوي الحديث وهو صاحب الأخبار قل ما له من الروايات المسندة (1).
2 ـ الرواية الثانية فهي مرسلة: والمرسل من أنواع الضعيف.
3 ـ وأما الرواية الثالثة والرابعة: فقد ذكرها صاحب قوت القلوب لأبي طالب المكي وهو لا يعول على مؤلفة وعلى كل حال فالرقم القياسي لكثرة أزواج أمير المؤمنين الحسن مستندة إليه ومأخوذة عنه وقد اشتهر أبو طالب المكي بالزهد والوعظ وذكر في القوت أشياء منكرة (2)، وذكر في كتابه أحاديث لا أصل لها (3)، فقد جاء في كتابه قوت القلوب: وتزوج الحسن بن علي مائتين وخمسين، وقيل ثلاثمائة، وكان علي يضجر من ذلك ويكره حياءً من أهلهن إذ طلقهن، وكان يقول: إن حسناً مطلق فلا تنكحوه، فقال له رجل من همدان: والله يا أمير المؤمنين لننكحنه ما شاء، فمن أحب أمسك، ومن كره فارق فسرّ علي بذلك وأنشأ يقول:
لو كنت بواباً على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وكان الحسن ربما عقد له أربعة وربما طلق أربعة (4)، فهذه روايات لا تصح ولا تثبت وبالتالي لا يعول عليها.
وقد جاءت قصص في أسانيدها ضعف شديد تتعلق بزواج الحسن منها:
1 ـ عن الهذلي، عن ابن سيرين قال: كانت هند بنت سهيل بن عمرو (5) عند عبد الرحمن بن
عتاب بن أسيد (6) وكان أبا عُذرتها (7)، فطلقها فتزوجها عبد الله
_________
(1) لسان الميزان (4/ 252).
(2) لسان الميزان (5/ 339).
(3) البداية والنهاية (11/ 341).
(4) قوت القلوب (1/ 246).
(5) هند بنت سهيل بن عمرو بن عبد شمس أسلم أبوها عام الفتح وكانت عند حفص بن عبد زمعة وولدت له ثم خلف عليها عبد الرحمن بن عتاب ثم عبد الله بن عامر ثم خلف عليها حسين بن علي هكذا في نسب قريش صـ 420
(6) عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد كان والده والي مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عبد الرحمن مع علي يوم الجمل وقتل في المعركة أنظر أنساب قريش صـ 193.
(7) العُذرة: البكارة، وقال ابن الأثير: العذرة ما للبكر من الالتحام قبل الافتضاض وجارية عذراء بكر لم يمسها رجل، ويقال: فلان أبو عذرتها إذا كان أول من افترعها وافتضها، لسان العرب مادة عذر (4/ 551).(1/28)
بن عامر بن كريز (1)، ثم طلقها، فكتب معاوية إلى أبي هريرة أن يخطبها على يزيد بن معاوية، فلقيه الحسن بن علي فقال: أين تريد؟ قال: أخطب هند بنت سهيل بن عمرو على يزيد بن معاوية، قال أذكرني لها، فأتاها أبو هريرة، فأخبرها الخبر فقالت: خِرْلي، قال: أختار لك الحسن. فتزوجها، فقدم عبد الله بن عامر المدينة، فقال للحسن: إن لي عندها وديعة فدخل إليها والحسن معه وجلست بين يديه فَرَقّ ابن عامر فقال الحسن: ألا أنزل لك عنها، فلا أراك تجد محللاً (2)
خيراً لكما مني فقال: وديعتي، فأخرجت سفطين فيهما جواهر ففتحهما، فأخذ من واحد قبضة وترك الباقي فكانت تقول: سيدهم جميعاً الحسن وأسخاهم ابن عامر، وأحبهم إليّ عبد الرحمن بن عتاب (3)، وهذه القصة في إسنادها الهذلي وهو أخباري متروك الحديث وقال الذهبي مجمع على ضعفه (4).
2 ـ عن سحيم بن حفص الأنصاري، عن عيسى بن أبي هارون المزني، قال تزوج الحسن بن علي حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر (5)، وكان المنذر بن الزبير هَوِيَها، فأبلغ الحسن عنها فطلقها الحسن فخطبها المنذر فأبت أن تزوجه وقالت: شهرني، فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب (6) فتزوجها فرقى إليه المنذر أيضاً شيئاً فطلقها، ثم خطبها المنذر فقيل لها: تزوجيه، فيعلم الناس أنه كان يعضهك (7)، فتزوجته فعلم الناس أنه كذب عليها، فقال الحسن لعاصم بن عمر: انطلق بنا حتى نستأذن المنذر فندخل عليها، فدخل فكانت إلى عاصم أكثر نظراً
_________
(1) عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة من بني عبد شمس ابن خال عثمان بن عفان ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجزم ابن حبان أن له رؤية للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت سيرته في عتابي عثمان بن عفان صـ 319.
(2) المحلل هو: الذي يتزوج امرأة قد بانت من زوجها الأول بقصد تحليلها للزوج الأول وقد جاء النهي عن ذلك كما في الحديث: لعن الله المحلل والمحلل له انظر: الإرواء رقم 1897 ..
(3) الطبقات الكبرى، الطبعة الخامسة من الصحابة (1/ 303).
(4) ديوان المتروكين والضعفاء صـ 352.
(5) حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر روت عن عمتها عائشة وخالتها أم سلمة،
(6) عاصم بن عمر بن الخطاب من تابعي أهل المدينة توفي 70هـ تقريب التهذيب (1/ 385).
(7) العَضَةُ والعِضَةُ والعضهية: البهيتة وهي: الإفك والبهتان.(1/29)
منها إلى الحسن وكانت إليه أبسط في الحديث، فقال الحسن للمنذر خذ بيدها فأخذ بيدها، وقام الحسن وعاصم فخرجا وكان الحسن يهواها وإنما طلقها لما رقا إليه المنذر، فقال الحسن يوماً لابن أبي عتيق وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن (1)، وحفصة عمته هل لك في العقيق (2)؟ قال نعم، فخرجا فمرا على منزل حفصة، فدخل إليها الحسن فتحدثا طويلاً ثم خرج، ثم قال الحسن مرة أخرى لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ فقال: يا ابن أم ألا تقول هل لك في حفصة (3)؟، وفي إسناد هذا الحديث
رجال لا توجد لهم ترجمة في كتب الجرح والتعديل ويكفي في ضعفه نكارة متنه (4).
3 ـ حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: قال علي: ما زال الحسن يتزوج ويطلق حتى خشيت أن يورثنا عداوة القبائل (5)، وهذا الأثر مرسل ضعيف (6).
إن الروايات التاريخية التي تشير إلى الأعداد الخيالية في زواج الحسن بن علي رضي الله عنه لا تثبت من حيث الإسناد وبالتالي لا تصلح للإعتماد عليها نظراً للشبه والطعون التي حامت حولها، ويؤيد افتعال تلكم الكثرة أمور منها:
1 ـ إنها لو صحت لكان للحسن بن علي رضي الله عنه من الأولاد جمع غفير يتناسب معها والحال الذي ذكر لها اثنان وعشرون ولداً ما بين ذكر وأنثى، وهذا العدد يعتبر طبيعي بالنسبة لذلك العصر ويتناقض كلياً مع تلك الكثرة ولا يلتقي معها بصلة.
2 ـ ومما يدل على وضع ذلك وعدم صحته ما روي أن أمير المؤمنين رضي الله عنه كان يصعد المنبر ويقول: لا تزوجوا الحسن فإنه مطلاق، كما ذكر ذلك صاحب قوت القلوب (7)، فنهي أمير المؤمنين الناس عن تزويج ولده على المنبر لا يخلو إما
_________
(1) والنميمة، وأن يقول في المرء ما لم يكن فيه لسان العرب (13/ 515).
(2) العقيق: وادي بناحية المدينة فيه مزارع وبساتين.
(3) الطبقات الكبرى الطبقة الخامسة من الصحابة (1/ 307).
(4) المصدر نفسه (1/ 305).
(5) المصدر نفسه (1/ 301).
(6) المصدر نفسه (1/ 301).
(7) قوت القلوب (2/ 246).(1/30)
أن يكون قد نهى ولده عن ذلك فلم يستجب له حتى اضطر إلى الجهر به وإلى نهي الناس عن تزويجه، وإما أن يكون ذلك النهي ابتداء من دون أن يعرف ولده الحسن بغض والده وكراهية أبيه لذلك، وكلا الأمرين بعيدان كل البعد أما الأول، فهو بعيد لأن الحسن رضي الله عنه كان باراً بأبيه ولا يخالفه ولا يعصي أمره، وأما الثاني، فبعيد أيضاً لأن الأولى بأمير المؤمنين أن يعرّف ولده ببغضه وكراهته لذلك ولا يعلن ذلك على المنبر أمام الجماهير الحاشدة، مما يسبب اضطراب في العلاقات الأسرية بين الوالد وولده ومضافاً إلى ذلك أن الأمر إما أن يكون سائغاً شرعاً أو ليس بسائغ فإن كان سائغاً فما معنى نهي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وإن لم يكن سائغاً، فكيف يرتكبه الحسن؟ إنا لا شك في افتعال هذا الحديث ووضعه من خصوم الحسن بن علي رضي الله عنه ليشوهوا بذلك سيرته العاطرة (1) والتي توجت بمساعيه في وحدة الأمة، وهذه عادة الرواة الكذبة في تشويه سيرة المصلحين وتاريخ الأمة ومن هنا تتضح أهمية علم الجرح والتعديل والحكم على الروايات والدور العظيم الذي قام به علماء الحديث في بيان زيف مثل هذه الأخبار ولذلك ننصح الباحثين في تاريخ صدر الإسلام الاهتمام بنقد مثل هذه الروايات حتى يميزوا صحيحها من سقيمها فيقدموا للأمة خدمة جليلة ولا يتورطوا مثل ما تورط فيه بعض السادة الذين لا نشك في نواياهم بسبب اعتمادهم في بحوثهم على الروايات الضعيفة والموضوعة.
3 ـ ومما يؤيد افتعال تلك الكثرة لأزواجه ما روي أن الحسن بن علي رضي الله عنه لما وافاه الأجل المحتوم خرجت جمهرة من النسوة حافيات حاسرات خلف جنازته وهن يقلن نحن أزواج الإمام الحسن. إن افتعال ذلك صريح واضح، فأنا لا نتصور ما يبرر خروج تلك الكوكبة من النسوة حافيات حاسرات، وهن يهتفن أمام الجماهير بأنهن زوجات الحسن، فإن كان الموجب لخروجهن إظهار الأسى والحزن، فما الموجب لهذا التعريف والسير في الموكب المزدحم بالرجال مع أنهن قد أمرن بالتستر وعدم الخروج من بيوتهن إن هذا الأثر وأمثاله لا يصح ولا يثبت من حيث الإسناد
_________
(1) حياة الأمام الحسن (2/ 451).(1/31)
ومن الأخبار الموضوعة التي تشابه تلك الأخبار ما رواه محمد بن سيرين، أن الحسن رضي الله عنه تزوج بامرأة فبعث لها صداقاً مائة جارية مع كل جارية ألف درهم (1). ويستبعد أن يعطي الحسن بن علي رضي الله عنه هذه الأموال الضخمة مهراً لإحدى زوجاته، فإن ذلك لون من ألوان الإسراف والتبذير وهو منهي عنه في الإسلام، فقد أمر بالاقتصار على مهر السنة، وسبب ذلك تسهيل أمر الزواج لئلا يكون فيه إرهاق وعسر على الناس، ومن المؤكد أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يخالف سنة جده صلى الله عليه وسلم ولا يسلك أي مسلك يتنافى مع شريعته، إن هذا الحديث وأمثاله من الموضوعات تؤيد وضع كثرة الأزواج، وتزيد في الافتعال وضوحاً وجلاءً وعلى أي حال، فليس هناك دليل يثبت كثرة أزواج الحسن بن علي رضي الله عنه سوى تلكم الروايات، ونظراً لما ورد عليها من الطعون فلا تصلح دليلاً للإثبات (2)،
ولمعرفة كيف يستفيد الأعداء من الروايات الضعيفة والباطلة ننقل ما قاله المستشرق لامنس عن زواج الحسن بن علي رضي الله عنه، وألصق به التهم وطعن برجاله وحماته وقد كتب عن أزواج الحسن بن علي رضي الله عنه ما نصه: ولما تجاوز ـ يعني الحسن ـ الشباب، وقد أنفق خير سني شبابه في الزواج والطلاق فأحصى له حوالي المائة زوجة، وألصقت به هذه الأخلاق السائبة لقب المطلاق، وأوقعت علياً في خصومات عنيفة وأثبت الحسن كذلك أنه مبذر كثير السرف، وقد خصص لكل من زوجاته مسكناً ذا خدم وحشم، وهكذا نرى كيف يبعثر المال أيام خلافة علي التي اشتد عليها الفقر (3).
لقد اعتمد المستشرق الانجليزي لامنس في قوله: إن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان كثير الزواج والطلاق على روايات موضوعة وآثار واهية وزاد عليها، لامنس، فذكر من البهتان والأكاذيب بما لم يقل به أحد غيره فقد قال:
1 ـ إنه ألقى أباه في خصومات عنيفة بسبب كثرة زواجه وطلاقه ولم يشر أحد ممن ترجم لأمير المؤمنين علي أو الحسن رضي الله عنهما إلى تلك الخصومات العنيفة التي زعمها المستشرق لامنس.
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 197).
(2) حياة الإمام الحسن بن علي (2/ 452) ..
(3) دائرة المعارف (7/ 400)(1/32)
2 ـ وذكر أن أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه خصص لكل من زوجاته مسكناً ذا خدم وحشم، مع أن جميع المؤرخين الذين اطلعت عليهم لم ينقلوا ذلك، وهذا من الكذب السافر والافتراء المحض.
إن لجان التنصير المسيحي التي حاربت الإسلام وبغت عليه هي التي تدفع هذه الأقلام المأجورة وتزج بها للنيل من الإسلام، وإلى تشويه واقعه والحط من قيم رجاله وأعلامه الذين أناروا الطريق للركب الإنساني، ورفعوا منار الحضارة في العالم (1).
عاشراً: أولاده:
وأما ذريته الشريفة، فهم: الحسن، وزيد، وطلحة، والقاسم، وأبو بكر، وعبد الله، وقد قتل هؤلاء مع عمهم الحسين الشهيد بكربلاء، وعمرو، وعبد الرحمن، والحسين، ومحمد، ويعقوب، وإسماعيل، وحمزة، وجعفر، وعقيل، وأم الحسين، ولم يعقب من ذريته إلا الحسن، وزيد، فللحسن المثنى خمسة أولاد أعقبوا وفيه العدد والبيت، وأمه خولة بنت منظور الفزارية، ولزيد ابن هو الحسن بن زيد، فلا عقب له إلا منه، وأم زيد أم بشر بنت أبي مسعود الأنصاري البدري. وقد ولى إمرة المدينة لأبي جعفر المنصور وهو والد السيدة نفيسة، وله: القاسم، وإسماعيل، وعبد الله، وإبراهيم، وزيد، وإسحاق، وعلي، رضي الله عنهم أجمعين (2)، وهذه سيرة مختصرة لبعض أولاد الحسن.
1 ـ زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب: رضي الله عنه: أمه أم بشير بنت أبي مسعود وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجية فولد زيد بن حسن محمداً هلك لا بقية له وأمه أم ولد، وحسن بن زيد ولي المدينة لأبي جعفر المنصور وأمه أم ولد، ونفيسة بنت زيد تزوجها الوليد بن عبد الملك بن مروان فتوفيت عنده وأمها لُبابة بنت عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم.
_________
(1) حياة الأمام الحسن بن علي (2/ 455).
(2) جمهرة أنساب العرب لابن حزم صـ 98، 39، وسير أعلام النبلاء (3/ 279) الدوحة النبوية الشريفة صـ 100.(1/33)
وأخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الموال قال: رأيت الناس ينظرون إليه ويعجبون من عُظْم خلقه ويقولون: جده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرني عبد الله بن أبي عُبيدة قال: ردفت أبي يوم مات زيد بن حسن ومات ببطحاء ابن أزهر على أميال من المدينة فحُمل إلى المدينة، فما أوفينا على رأس الثنية بين المنارتين طُلع بزيد بن حسن في قبة على بعير ميتاً وعبد الله بن حسن يمشي أمامه قد حزم وسطه بردائه ليس على ظهره شئ فقال لي أبي: يا بُني أنزل وأمسك بالركاب، فوالله لئن ركبت وعبد الله يمشي لا تُبلني عنده بالة أبداً، فركبت الحمار ونزل أبي فمشى فما زال يمشي حتى أدخل زيداً داره ببني حُديلة، فغسل ثم أخرج به على السرير إلى البقيع (1).
2 ـ حسن بن حسن بن علي بن أي طالب:
وأمه خولة بنت منظور الفزازية، وولد حسن بن حسن محمداً وأمه رملة بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل بن عبد العُزى، وعبد الله بن حسن مات في سجن أبي جعفر، وإبراهيم بن حسن مات في السجن أيضاً مع أخيه، وزينب بنت حسن تزوجها الوليد بن عبد الملك بن مروان ثم فارقها، وأم كلثوم بنت الحسن وأمهم فاطمة بنت حسين بن علي بن أبي طالب، وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله بن تيم، وجعفر بن حسن وداود وفاطمة وأم القاسم وهي قسيمة، ومُليكة وأمهم أم ولد تُدعى حبيبة فارسية كانت لآل أبي أبس من جديلة، وأم كلثوم بنت حسن لأم ولد (2).
ومن مواقف الحسن بن الحسن قوله لرجل ممن غلو في أهل البيت: ويحكم أحبونا لله فإن أطعنا الله فأحبونا وإن عصينا الله، فأبغضونا. قال فقال له رجل: إنكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. فقال: ويحك لو كان الله مانعاً بقرابة من رسول الله أحداً بغير طاعة الله لنفع بذلك من هو أقرب إليه منا أباً وأماً، والله إني لأخاف أن يضاعف للعاصي منا العذاب ضعفين وإني لأرجو أن يؤتي المحسن منا أجره مرتين. ويلكم اتقوا الله وقولوا فينا الحق فإنه أبلغ فيما تريدون ونحن
_________
(1) طبقات ابن سند (5/ 318، 319).
(2) سيرة آل بيت النبي الأطهار، مجدي فتحي السيد صـ 312.(1/34)
نرضى به منكم. ثم قال: لقد أساء بنا آباؤنا إن كان هذا الذي تقولون من دين الله ثم لم يُطلعونا عليه ولم يُرغبونا فيه. قال فقال له الرافضي: ألم يقل رسول الله عليه السلام لعلي من مولاه فعلي مولاه؟ فقال أما والله أن لو يعني بذلك الإمرة والسلطان لأفصح لهم بذلك كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت ولقال لهم الناس هذا وليكم من بعدي، فإن أنصح الناس كان للناس رسول الله، ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولو كان الأمر كما تقولون إن الله ورسوله اختارا علياً لهذا الأمر والقيام بعد النبي عليه السلام إن كان لأعظم الناس في ذلك خطئه وجُرماً إذ ترك ما أمره به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقوم فيه كما أمره أو يعذر فيه إلى الناس (1) وهكذا يتبين موقف أهل البيت في محاربتهم للغلو.
الحادي عشر: إخوانه وأخواته:
ونتحدث عن ترجمة مختصرة عن أشقائه من أولاد السيدة فاطمة رضي الله عنها:
1 ـ الحسين بن علي رضي الله عنه:
هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته ومحبوبه، وابن بنت رسول الله، فاطمة رضي الله عنها، كان مولده سنة 4 هـ، وقيل غير ذلك ومات رضي الله عنه قتيلاً شهيداً، في يوم عاشوراء من شهر المحرم سنة إحدى وستين هجرية بكربلاء من أرض العراق فرضي الله عنه وأرضاه (2)، وقد وردت في مناقبه وفضائله أحاديث كثيرة منها:
أ ـ ما رواه أحمد بإسناده إلى يعلي العامري رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني إلى طعام دعوا له قال: فاستمثل رسول الله أمام القوم، وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه فطفق الصبي يفر هنا مرة وهاهنا مرة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأخرى تحت ذقنه ووضع فاه وقبله وقال: حسين مني وأنا من
_________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 319، 320).
(2) البداية والنهاية (8/ 152) الإصابة (1/ 331، 334).(1/35)
حسين اللهم أحب من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط (1)، وفي ذلك منقبة ظاهرة للحسين رضي الله عنه إذ حث على محبته وكأنه صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي ما سيحدث بينه وبين القوم فخصه بالذكر وأكد على وجوب المحبة وحرمة التعرض له ومحاربته وأكد ذلك بقوله: أحب الله من أحب حسيناً، فإن محبته تؤدي لمحبة رسول الله ومحبة الرسول تؤدي إلى محبة الله (2).
ب ـ ومنها ما رواه البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى عبيد الله بن زياد (3)، برأس الحسين عليه السلام فجعل في طست فجعل ينكث وقال في حسنه شيئاً فقال أنس كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوباً بالوسمة (4).
ت ـ وفي رواية أخرى عن أنس أيضاً قال: لما أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكث بالقضيب ثناياه يقول لقد كان أحسبه قال جميلاً فقلت والله لأسؤنك إني رأيت رسول الله يلثم حيث يقع قضيبك قال فانقبض (5)
2 ـ مُحَسَّن بن علي بن أبي طالب:
لا نعرفه إلا في الحديث الذي يرويه هاني بن هاني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لمَّا ولد الحسن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: سمّيته حرباً، قال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين قال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت سميته حرباً، قال: بل هو حسين. فلما ولد الثالث جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت حرباً، قال: بل هو محسَّن ثم قال: إني سمّيتهم بأسماء ولد هارون شبّر وشُبَيْر ومشبّر (6). والظاهر أنه مات طفلاً (7)، ويتبين لنا من هذه الرواية الصحيحة أن محسن مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
_________
(1) فضائل الصحابة رقم 1361 إسناده حسن.
(2) تحفة الأحوذي (10/ 279).
(3) قتل عبيد الله عام 76هـ الإعلام (4/ 193).
(4) الوسمة: شجر باليمن يخضب بورقه الشجر، البخاري رقم 3748.
(5) فضائل الصحابة (2/ 985) رقم 1197 إسناده حسن.
(6) مسند أحمد (1/ 98) إسناده صحيح.
(7) التبيين في أنساب القرشيين لابن قدامة المقدسي 133.(1/36)
وهذا يبطل مزاعم الغلاة والكذابين في رواياتهم الكاذبة الذين يزعمون أن عمر ضرب فاطمة وأسقط ابنها.
3 ـ أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنها:
زوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته من فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم من الفاروق حينما سأله زواجها منه رضي الله عنه بما يطلب، وثقة فيه وإقراراً لفضله ومناقبه، واعترافاً بمحاسنه وجمال سيرته وإظهاراً بأن بينهم من العلاقات الوطيدة الطيبة والصلات المحكمة المباركة ما يحرق قلوب الحساد من أعداء الأمة المجيدة، ويرغم أنوفهم (1)، وقد ولدت أم كلثوم بنت علي من عمر رضي الله عنه ابنة سميت "رقية" وولد سمته زيداً، وقد روى أن زيد بن عمر حضر مشاجرة في قوم من بني عدي بن كعب ليلاً فخرج إليهم زيد بن عمر ليصلحهم فأصابته ضربة شجت رأسه ومات من فوره، وحزنت أمه لقتله ووقعت مغشياً عليها من الحزن فماتت من ساعتها، ودفنت أم كلثوم وابنها زيد بن عمر في وقت واحد، وصلى عليهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، قدمه الحسن بن علي بن أبي طالب وصلّى خلفه (2)، وقد فصلت سيرتها في كتابي عن عمر بن الخطاب.
4 ـ زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
ولدت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت عاقلة لبيبة جزلة زوَّجها أبوها ابن أخيه عبد الله بن جعفر، فولدت له أولاداً، وكانت مع أخيها لما قتل، فحملت إلى دمشق (3).
ومن أشهر إخوانه من أبيه:
5 ـ محمد بن الحنفيّة:
وكانت أمه من سبي بني حنيفة، اسمها خولة بنت جعفر وكان فاضلاً عالماً ذا علم ودين وعبادة، وكان حامل راية أبيه يوم الجمل، وكان قوياً، وحكيماً ومما روي
_________
(1) الشيعة وأهل البيت صـ 105.
(2) أسد الغابة (7/ 425) ونساء أهل البيت منصور عبد الحكيم صـ 185.
(3) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 167).(1/37)
من كلامه أنه قال: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بُداً حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً وقال: إن الله تعالى جعل الجنة ثمناً لأنفسكم، فلا تبيعوها بغيرها: وقال من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر. وقال: كل مالا يبتغي به وجه الله يضمحل توفي سنة ثلاث وتسعين هجرية (1).
الثاني عشر: أعمامه وعماته:
وهذه نبذة مختصرة عن أعمامه وعماته:
1 ـ طالب بن أبي طالب: هلك مشركاً بعد غزوة بدر، وقيل إنه ذهب فلم يرجع، ولم يُدْرَ له موضع ولا خبر، وهو أحد الذين تاهوا في الأرض، وكان محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وله فيه مدائح وكان خرج إلى بدر كرهاً، وجرت بينه وبين قريش حين خرجوا إلى بدر محاورة فقالوا: والله يا بني هاشم لقد عرفنا ـ وإن خرجتم معنا ـ أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال شعراً وقصيدة ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وبكى فيها أصحاب قليب بدر (2).
2 ـ عقيل بن أبي طالب: فكان يكن أبا يزيد، تأخر إسلامه إلى عام الفتح، وقيل أسلم بعد الحديبية، وهاجر في أول سنة ثمان، وكان أسر يوم بدر ففداه عمّه العباس، ووقع ذكره في الصحيح في مواضع كثيرة وشهد غزوة مؤتة ولم يسمع له ذكر في الفتح وحنين، كأنه كان مريضاً، أشار إلى ذلك ابن سعد لكن روى الزبير بن بكار بسنده إلى الحسين بن علي، أن عقيلاً كان ممن ثبت يوم حنين ومات في خلافة معاوية وفي تاريخ البخاري الأصغر بسند صحيح أنه مات في أول خلافة يزيد قبل الحرة (3)، وعمره ست وتسعون سنة (4).
3 ـ جعفر بن أبي طالب: فهو أحد السابقين إلى الإسلام، وكان يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمونه ويحدثهم ويحدثونه، وهاجر إلى الحبشة، فأسلم
_________
(1) التبيين في أنساب القرشيين صـ 136.
(2) الجوهرة في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المرتضى للندوي صـ 23.
(3) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 494).
(4) المرتضى للندوي صـ 24.(1/38)
النجاشي ومن تبعه على يديه، ولقد تحدثت عنه في كتابي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث ـ واستشهد بمؤتة من أرض الشام مقبلاً غير مدبر (1).
4 ـ أم هاني بنت أبي طالب: ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم فقيل اسمها فاختة، وقيل اسمها فاطمة وقيل هند، والأول أشهر وكانت زوج هبيرة بن عمرو بن عائذ المخزومي وكان له منها عمرو، وبه كان يكنى وفي فتح مكة أجارت أم هاني رجلين من بني مخزوم، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجرنا من أجرت يا أم هاني وروت أم هاني عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب الستة وغيرها (2)، قال الترمذي وغيره: عاشت بعد علي رضي الله عنه (3).
5 ـ جُمانة بنت أبي طالب: هي أم عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ذكرها ابن سعد في ترجمة أمها فاطمة بنت أسد وأفردها في باب بنات عم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ولدت لأبي سفيان بن الحارث ابنة جعفر بن أبي سفيان بن أبي طالب، وأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ثلاثين وسقاً (4).
الثالث عشر: أخواله وخالاته:
أم أخواله فقد ماتوا وهم صغار ولم يبلغ أحد منهم إلى سن البلوغ، وهم القاسم، وإبراهيم وزاد الزبير بن بكار عبد الله ـ وسمي بالطيّب والطاهر ـ لأنه ولد بعد النبوة (5) وعليه أكثر علماء النسب، وقيل: إن الطيّب، والطاهر ولدان آخران. ولكن عبد الله والطيب والطاهر قد ماتوا بمكة بإجماع العلماء (6)، وجميع أولاده صلوات الله وسلامه عليه من خديجة بنت خويلد، إلا إبراهيم فإنه من ماريا القبطية التي أهداها له مقوقس مصر، عندما أرسل له الدعوة إلى الإسلام في السنة السادسة من الهجرة، وكان صلى الله عليه وسلم يكنَّى عليه الصلاة والسلام بأبي القاسم،
_________
(1) المرتضى صـ 24.
(2) المرتضى صـ25.
(3) الإصابة في تمييز الصحابة (9/ 317 ـ 318).
(4) الإصابة (4/ 259/260) المرتضى صـ 27.
(5) الدوحة النبوية الشريفة صـ 31.
(6) الاستيعاب (4/ 281).(1/39)
وقد قيل: أنه أكبر أولاده وأول من مات منهم، ولد بمكة قبل النبوة، ومات صغيراً، وقيل: بل عاش حتى بلغ سن التمييز، فقيل: إنه بلغ المشي (1)، وقيل: بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة (2)، وأما خالاته فزينب، ورقية، وأم كلثوم رضي الله عنهن.
1 ـ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أكبر خالات الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه زينب وأدركت الإسلام، وهاجرت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محباً لها، وقد كانت أول بناته زواجاً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو العاص بن الربيع من رجال مكة المعدودين ـ مالاً وتجارة وأمانة ـ وهو ابن أخت خديجة، أمه هالة بنت خويلد أخت خديجة لأمها وأبيها فقالت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالفها وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي، وكانت خديجة تعده بمنزلة ولدها، فلما أكرم الله تعالى نبيه بنبوته آمنت خديجة وبناتها رضي الله عنهن، فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً بأمر الله تعالى، أتوا بالعاص بن الربيع، فقالوا: إنكم قد فرّغتم محمداً من همِّه، فرُدّوا عليه بناته، فاشغلوه بهنَّ، وقالوا لأبي العاص بن الربيع: فارق صاحبتك، ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت، فقال: لاها الله إذا، لا أفارق صاحبتي، ولا أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على صهره خيراً (3). وجاء عنه أنه تذكر زينب وهو في تجارته في الشام فقال (4):
ذكرت زينب لما ورّكت (5) إرما (6)
فقلت: سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة
وكلُّ بعلٍ سيثُني بالذي علما (7)
_________
(1) الدوحة النبوية الشريفة صـ 31، الذرية الطاهرة للدواليبي صـ 42.
(2) الدوحة النبوية الشريفة صـ 31
(3) سيرة ابن هشام (2/ 296).
(4) طبقات ابن سعد (8/ 32)، مستدرك الحاكم (4/ 44).
(5) وورَّكت: أي اضطجعت، يقال: ورك يرك وروكاً: إذا اضطجع، أي كأنه وضع وركه في الأرض.
(6) الإرم: الأحجار التي تنصب علامات في الطرق والمفاوز والجمع أرم وإرم.
(7) الدوحة النبوية الشريفة صـ 31.(1/40)
أ ـ وفاء زينب لزوجها:
وكما كان أبو العاص بن الربيع وفياً لزوجه زينب، كانت هذه كذلك له، فقد أبى أبو العاص أن يسلم بمكة، وأقامت زوجه معه على إسلامها، حتى كانت معركة بدر، فحضرها أبو العاص في صفِّ كفار قريش، فأسر فيمن أسر منهم، فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وكانت فيه قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، قالت عائشة أم المؤمنين: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا عليها مالها، فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه، وردّوا عليه الذي له (1). ويجدر بنا أن نقف وقفة تأمل في خطابه لأصحابه وما تضمنه من سمو العبارة والأدب الرفيع مما ينبغي أن نتحلى به في حياتنا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه عهداً، بأن يخلي زينب لتلحق به، وكانت من المستضعفين بمكة من النساء واستكتمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وصدق في عهده وأرسل زينب وتعرضت لابتلاء شديد في طريقها إلى المدينة (2).
ب ـ إسلام زوجها وأمانته:
وأقام أبو العاص بن الربيع بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام، وكان رجلاً مأموناً، بمال له، وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلاً، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هارباً، فلما قدمت السرية بماله، أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الصبح، فكبّر الناس وراءه صرخت زينب من صُفّة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع فلما سلم رسول الله
_________
(1) سير أعلام النبلاء (472).
(2) تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي صـ 69.(1/41)
صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس فقال: أيها الناس هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم: قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشئ من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف، فدخل على ابنته، فقال: أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تَحلِّين له. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السرية الذين أصابوا المال، فقال، إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه ماله الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فئ الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به، قالوا: يا رسول الله بل نرده عليه فردَّوه، حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، والرجل يأتي بالشنَّة (1) والإداوة (2) حتى أن أحدهم ليأتي بالشطاط، ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مالٍ من قريش ماله، ومن كان أبضع معه.
ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: كلا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوُّف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدَّاها الله إليكم، وفرغت منها أسلمت، ثم خرج فقدم على رسول الله صلى الله عليه (3)، وجاء عن عامر الشعبي وغيره، أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين، قيل له: هل لك أن تُسلِم وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بأس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي (4). ومن أقوال أبو العاص رضي الله عنه: نتعلم قيمة عظيمة وهي الأمانة والتحلي بمكارم الأخلاق حتى مع غير المسلمين فلا ينبغي للمسلم أن يخون أمانته لأي سبب كان.
ولما قدم أبو العاص بن الربيع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً ردّ عليه زوجته زينب بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحاً جديداً (5)، وقد جاء في التحاقهما بالنبي صلى الله عليه وسلم
_________
(1) الشنة هي: السقاء البالي.
(2) الإداوة: مطهرة يتوضأ منها.
(3) التاريخ الإسلامي للذهبي، المغازي صـ 70.
(4) دلائل النبوة للبيهقي (1/ 154).
(5) الدوحة النبوية الشريفة صـ 41.(1/42)
بالمدينة روايات أخرى إلا أنها تتفق على وفاء أبي العاص بن الربيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتفق على إيذاء المشركين لها في خروجها من مكة (1).
جـ ـ وفاتها وذريِّتها:
فقد جاء عن عروة بن الزبير: أن رجلاً أقبل بزينب بنت رسول الله فلحقه رجلان من قريش، فقاتلاه حتى غلباه عليها، فدفعاها حتى وقعت على صخرة، فأسقطت وأهريقت دماً، وذهبوا بها إلى أبي سفيان، فجاءته نساء بني هاشم فدفعها إليهن ثم جاءت بعد ذلك مهاجرة، فلم تزل وجعة حتى ماتت من ذلك الوجع، فكانوا يرون أنها شهيدة، وكانت وفاتها في أول سنة ثمان من الهجرة النبوية (2).
ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على تجهيزها، فعن أم عطية رضي الله عنها قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: اغسلنها وتراً، ثلاثاً أو خمساً، واجعلن في الخامسة كافوراً، أو شيئاً من كافور، فإذا غسلتنها فأعلمنني، قالت: فأعطانا حِقْوة، وقال: أشعرنها إياه (3). وهكذا نرى حجم المصائب التي تحملها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى بناته وقد استمر على طريق الدعوة صابراً محتسباً ومنه نتعلم أن طريق إعزاز الإسلام يحتاج إلى صبر واستعداد للتضحية.
وقد أنجبت زينب رضي الله عنها من أبي العاص بن الربيع، أمامة، وعلياً، أما علي فقد مات وهو صغير، وقيل مات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ناهز الحلم ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وهو مردفه على ناقته. وكانت أمامة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقع الكريم، والمحل العظيم، فقد كان يحملها على عاتقه وهو يؤم الناس في الصلاة، فعن أبي قتادة الأنصاري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يحمل أمامة بنت أبي العاص ابنة ابنته على عاتقه، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها (4)، وعن عائشة رضي الله عنها أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حِلْية فيها
_________
(1) المصدر نفسه صـ 41.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي (9/ 216).
(3) مسلم، ك الجنائز (2/ 648)، طبقات ابن سعد (8/ 34).
(4) مسلم رقم 543.(1/43)
خاتم من ذهب فصُّه حبشي فأخذه وإنه لمعرض عنه، فأرسله إلى ابنة ابنته زينب، وقال: تَحلّيْ بهذا يا بنية (1)، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهله ومعه قلادة جزع (2)، فقال لاعطينَّها إلى أحبكنّ إلي، فقلن: يدفعها إلى ابنة أبي بكر، فدعا بابنة أبي العاص من زينب فعقدها بيده (3)، وكان على عينها رَمَص، فمسحه بيده صلى الله عليه وسلم. وأما أمامة فقد عاشت، وتزوجها على بن أبي طالب بعد وفاة خالتها فاطمة الزهراء، وكان أبو العاص بن الربيع قد أوصى بابنته أمامه إلى الزبير بن العوام، فزوجها من علي بن أبي طالب، واستشهد علي رضي الله عنه وهي عنده، ثم تزوجت بعده المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وماتت عنده، ولم تنجب أمامة لعلي بن أبي طالب، ولا للمغيرة بن نوفل وقيل: ولدت للمغيرة ولداً سماه يحي ومات، فانقطع بذلك نسل السيدة زينب عليها السلام.
رقيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وقد ولدت على الأصح بعد زينب سنة ثلاث وثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلمت حين أسلمت أمها خديجة وبايعت حين بايعه الناس، وكانت قد خطبها عتبة بن أبي لهب، فلما نزلت: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ... )) قال له أبوه: رأسي من رأسك حرام إن تطلق ابنة محمد، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة طلاقها وسألته هي ذلك. ولم يكن قد دخل بها ـ فقالت له أمه أم جميل ـ وهي حمَّالة الحطب ـ طلَّقها يا بُنيّ، فإنها قد صبأت ففارقها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهواناً له، فتزوجت عثمان بن عفان بمكة، وهاجر بها إلى الحبشة، ثم إلى المدينة المنورة فهي ممن هاجر الهجرتين (4).
هذا وقد توفيت بالمدينة بعد انتهاء غزوة بدر، فعن ابن شهاب الزهري قال: تخلّف عثمان بن عفان عن غزة بدر على امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قد أصابتها الحصبة، وجاء زيد بن حارثة بشيراً بوقعة بدر، وعثمان على
_________
(1) مسند أحمد (6/ 101، 261) سنده ضعيف، الدوحة النبوية الشريفة صـ 43.
(2) الجزع: هو الخرز اليماني، واحدته جزعة.
(3) طبقات ابن سعد (8/ 40)، الاستيعاب لابن عبد البر (4/ 245)، الدوحة النبوية الشريفة صـ 43.
(4) الدوحة النبوية الشريفة صـ 44، تفسير القرطبي (4/ 242).(1/44)
قبر رقية، قال أبو عمر بن عبد البر: لا خلاف بين أهل السير أن عثمان بن عفان رضي الله عنه إنما تخلَّف عن بدر على امرأته رقية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ضرب له بسهمه وأجره (1)، وقد ولدت رقيَّة رضي الله عنها لعثمان بالحبشة ولداً سماه عبد الله، وكان يُكنَّى به بلغ سنتين وقيل: ست سنين، فنقر عينه ديك فتورم وجهه ومرض ومات وقيل: أسقطت من عثمان سقطاً، ثم ولدت عبد الله، فمات، ولم تلد له غيره حتى توفيت رضي الله عنها وأرضاها (2)، قال ابن سعد في الطبقات: وهاجرت معه ـ أي عثمان ـ إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعاً .. وكانت في الهجرة الأولى قد أسقطت من عثمان سقطاً ثم ولدت له بعد ذلك ولد فسماه عبد الله وكان عثمان يكنى به في الإسلام (3) وبهذا يكون نسبها قد انقطع (4).
3 ـ أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأما خالة الحسن رضي الله عنه الثالثة فهي أم كلثوم، فقد عرفت بكنيتها، ولا يعرف لها اسم إلا ما ذكره الحاكم عن مصعب الزبيري أن اسمها أمية وهي أكبر سناً من فاطمة رضي الله عنهما (5)، وكانت قد تزوجها عتيبة بن أبي لهب، أخو عتبة الذي تزوج أختها رقية ـ ولم يدخلا بهما ـ فأمره أبوه وأمه أن يفارقها كما أمرا أخاه أن يفارق أختها. وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كفرت بدينك، وفارقتُ ابنتك لا تحبني ولا أحبك، ثم سطا عليه فشق قميص النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خارجاً إلى الشام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إني أسأل الله أن يسلط عليك كلباً من كلابه فخرج في تَجْر قريش ـ أي جماعة التجار ـ نحو الشام حتى نزلوا بمكان يقال له الزرقاء فأطاف بهم الأسد في تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول أيا ويل أمي هو والله آكلي كما دعا عليّ محمد، أقاتلي ابن أبي كبشة وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد من بين القوم، فأخذ برأسه فضغمه ضغمة فقتله (6)، ولما فارقها عتيبة
_________
(1) الاستيعاب (4/ 1952).
(2) الذرية الطاهرة للدواليبي صـ 53 الدوحة النبوية الشريفة صـ 45.
(3) الطبقات (8/ 36).
(4) الدوحة النبوية الشريفة صـ 45.
(5) المصدر نفسه صـ 46.
(6) المعجم الكبير للطبراني (22/ 435، 436) وفيه زهير بن العلاء وهو ضعيف، الذرية الطاهرة للدواليبي رقم 76.(1/45)
بن أبي لهب لم تزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت إليها مع عياله (1).
أ ـ زواجها:
وقال سعيد بن المسيب: تأيَّم عثمان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأيَّمت حفصة بنت عمر من زوجها، فمر عمر بعثمان، فقال: هل لك في حفصة، وكان عثمان قد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها فلم يجبه، وذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل لك في خير من ذلك. أتزوج حفصة وأزوج عثمان خيراً منها أم كلثوم (2)، وكان زواج أم كلثوم من عثمان بن عفان رضي الله عنهما سنة ثلاث من الهجرة النبوية، في ربيع الأول، وبنى بها في جمادي الآخرة (3). وجاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته وهي تغسل برأس عثمان رضي الله عنه، فقال: يا بنيَّة أحسني إلى أبي عبد الله، فإنه أشبه أصحابي خلقاً (4).
وفاتها:
ولم تزل أم كلثوم عند عثمان رضي الله عنهما إلى أن توفيت في شعبان سنة تسع من الهجرة وصلّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس على شفير قبرها عليها السلام، فعن أنس بن مالك أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً على قبر أم كلثوم، قال: فرأيت عينيه تدمعان، فقال: هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة أنا، قال: فانزل في قبرها (5).وقد غسلتها أسماء بنت عُميس، وصفية بنت عبد المطلب وهي التي شهدت أم عطية غُسلها، وحكت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك (6).
_________
(1) الدوحة النبوية الشريفة صـ 46.
(2) مستدرك الحاكم (4/ 49) صحيح.
(3) سنن ابن ماجة رقم 110 فيه ضعف، الدوحة النبوية صـ 47.
(4) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/ 81) قال الهاشمي فيه محمد بن عبد الله يروي عن المطلب ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
(5) البخاري، ك الجنائز (3/ 208) رقم 1285.
(6) البخاري رقم 1253 الاستيعاب رقم 3063.(1/46)
وجاء عند ابن سعد أن علي بن أبي طالب , والفضل بن العباس, وأسامة بن زيد، قد نزلوا في حفرتها مع أبي طلحة، وأن التي غسلتها هي أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب (1).
ذريتها:
اتفق العلماء على أن أم كلثوم، لم تلد ولم تعقب (2). ومن الغريب أن بعض الشيعة الروافض يطعنون بصحة نسب بنات النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يزعمون بأنهم يحبون النبي صلى الله عليه وسلم مخالفين بذلك القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتاريخ ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا)) (الأحزاب، الآية: 59) فذكر بناته بالجمع.
_________
(1) الطبقات (8/ 38، 39)، الاستيعاب رقم 3563.
(2) طبقات ابن سعد (8/ 38) الاستيعاب لابن عبد البر (4/ 487)، الإصابة (4/ 489)، مجمع الزوائد (9/ 217)، عيون الأثر لابن سيد الناس (2/ 380) الدوحة النبوية الشريفة صـ 49.(1/47)
المبحث الثاني: أم الحسن بن علي بن أبي طالب السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهما:
هي فاطمة بنت إمام المتقين سيد ولد آدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمها خديجة بنت خويلد، كانت تكنى بأم أبيها (1)، ولدت رضي الله عنها قبل البعثة سنة خمس وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم (2)، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب سنة اثنتين للهجرة بعد وقعة بدر وولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم، وزينب ومحسِّن، وكانت وفاتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر فرضي الله عنها وأرضها (3).
أولاً: مهرها وجهازها:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خُطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: لا قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك. فقلت: وعندي شئ أتزوج به فقالت: إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجك. قالت: فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أن قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة. فقال: لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فقلت: نعم، فقال: وهل عندك من شئ تستحلها؟ فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: ما فعلت درع سلحتكها؟ فوالذي نفس علي بيده إنها لحطمية ما قيمتها أربعمائة درهم فقلت عندي فقال: قد زوجتكها، فابعث إليها بها فاستحلها بها، فإنها كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) وقد جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل (5)، وقربة ووسادة أدم (6) حشوها إذخر (7)، وقد
_________
(1) أسد الغابة (5/ 520)، الإصابة (4/ 365).
(2) الطبقات لابن سعد (8/ 26).
(3) حلية الأولياء (2/ 39، 43) سير أعلام النبلاء (2/ 118).
(4) دلائل النبوة للبيهقي (3/ 160) إسناده حسن.
(5) خميل: القطيفة.
(6) الأدم: الجلد.
(7) إذخر: نبات، صحيح السيرة النبوية صـ 667 مسند فاطمة الزهراء وما ورد في فضلها، تحقيق فؤاد أحمد زمرلي صـ 189.(1/48)
جاء في روايات الشيعة مساهمة لعثمان بن عفان رضي الله عنه في الزواج الميمون حيث قال: علي رضي الله عنه: فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربع مائة درهم من عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه وقبض الدرع مني قال: يا أبا الحسن، ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟ فقلت: نعم قال: فإن هذا الدرع هدية مني إليك، فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرحت الدرع والدراهم بين بيديه، وأخبرته بما كان من أمر عثمان فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير (1).
ثانياً: زفافها:
قالت أسماء بنت عميس: كنت في زفاف فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الباب فقال: يا أم أيمن ادعي لي أخي فقالت: هو أخوك وتنكحه؟ قال: نعم يا أم أيمن، قالت: فجاء علي فنضح النبي صلى الله عليه وسلم من الماء ودعا له ثم قال: أدعو إلي فاطمة قالت: فجاءت تعثر من الحياء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسكتي فقد أنكحتك أحب أهل بيتي إلي، قالت: ونضح النبي صلى الله عليه وسلم عليها من الماء ودعا لها، قالت: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى سواداً بين يديه، فقال: من هذا؟ فقالت: أنا، قال: أسماء؟ قلت: نعم، قال: أسماء بنت عميس؟ قلت: نعم، قال: جئت في زفاف بنت رسول الله تكرمه له؟ قلت: نعم، قالت: فدعا لي (2)، وفي هذه القصة قيمة اجتماعية رفيعة وهي التعاون بين أفراد المجتمع في المناسبات الاجتماعية المختلفة.
ثالثاً: وليمة العرس:
عن بريدة قال: لما خطب علي فاطمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا بد للعُرس (3) من وليمة، قال: فقال سعد عليّ كبش، وجمع له رهط من الأنصار آصعا من ذرة، فلما كان ليلة البناء، قال: يا علي لا تحدث شيئاً حتى تلقاني. .
_________
(1) كشف الغمة للأربلي (1/ 359) نقلاً عن الشيعة وأهل البيت صـ 137، 138.
(2) فضائل الصحابة (2/ 955) رقم 342 إسناده صحيح.
(3) للعرس: أي للعروس.(1/49)
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ منه ثم أفرغه على علي، فقال: اللهم بارك فيهما وبارك عليهما، وبارك في شبلهما (1).
رابعاً: معيشة علي وفاطمة رضي الله عنهما:
كانت معيشة علي وفاطمة رضي الله عنهما وهما من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، معيشة زهد وتقشف، وصبر وجهد، فقد أخرج هناد عن عطاء، قال: نبئت أن علياً رضي الله عنه قال: مكثنا أياماً ليس عندنا شئ، ولا عند نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت، فإذا أنا بدينار مطروح على الطريق فمكثت هنيهة أوامر نفسي في أخذه أو تركه، ثم أخذته لما بنا من الجهد، فأعطيت به الضفاطين (2) فاشتريت به دقيقاً، ثم أتيت به فاطمة فقلت: أعجني وأخبزي، فجعلت تعجن وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها ـ ثم خبزت، فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: كلوا فإنه رزق رزقكموه الله عز وجل (3)، وعن الشعبي، قال: قال علي رضي الله عنه: تزوجت فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالي ولها فراش غير جلد كبش تنام عليه بالليل، ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها (4)، وعن مجاهد قال علي: جعت مرة بالمدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً، فظننتها تريد بلَّه (5)، فأتيتها فقاطعتها (6) كلّ ذنوب (7)، على تمرة، فمددت ستة عشرة ذنوباً، حتى مجلت يداي (8)، ثم أتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها فقلت يكفي هذا بين يديها (9)، فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأكل معي منها (10)،
_________
(1) المعجم الكبير للطبراني 1153، فضائل الصحابة (2/ 858) إسناده صحيح.
(2) الضفاطون: الحمالون والمكارون الذين يجلبون الدقيق من الخارج.
(3) كنز العمال (7/ 328)، المرتضى للندوي صـ 41.
(4) كنز العمال (7/ 133) المرتضي للندوي صـ 41.
(5) المدر، يعني الطين اليابس، تريد له يعني الماء.
(6) فقاطعتها: أي اتفقت معها على أجرة
(7) ذنوب: دلو.
(8) مجلت: تورمت من العمل.
(9) يعني بسطهما وضمهما.
(10) صفة الصفوة (1/ 320)، الموسوعة الحديثية، مسند أحمد 1135 إسناده ضعيف لانقطاعه ..(1/50)
في هذا الخبر بيان لشدة الحال التي مر بها والد الحسن في المدينة، ونأخذ منها صورة من السلوك المشروع في مواجهة الشدائد حيث خرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس منتظراً ما تجود به أيدي المحسنين، وصورة أخرى من قوة التحمل حيث قام بذلك العمل الشاق وهو يعاني من شدة الجوع ما يضعف قوته، وصورة أخرى من إيثار الأحبة والوفاء لهم، فهو على ما به من شدة الجوع وبالرغم مما قام به من ذلك العمل الشاق قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معه (1)، إن من أهم الدروس في هذه القصة هو أن فقر الإنسان أو غناه المادي لا يعبر بالضرورة على حب الله للعبد من عدمه للعبد وإنما المعيار الحقيقي هو تقوى الله عز وجل وينبغي أن يكون تقييمنا للناس على هذا الأساس.
خامساً: زهد السيدة فاطمة وصبرها:
كانت حياة والد الحسن رضي الله عنهما في غاية البساطة بعيدة عن التعقيد، وهي إلى شظف العيش أقرب منها إلى رغده (2)، وهذه القصة تصور لنا حال السيدة فاطمة من التعب وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منها عندما طلبت منه أن يعطيها خادماً من السبي، قال علي لفاطمة ذات يوم والله لقد سنوت (3)، حتى لقد اشتكيت صدري، قال: وجاء الله أباك بسبي فاذهبي، فاستخدميه (4)، فقالت: أنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك أي بنية. قالت: جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت فقال علي: ما فعلت؟ قالت: استحيت أن أسأله، فأتينا جميعاً، فقال علي: يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي (5)، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي (6) بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم
_________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدي (19/ 49، 50).
(2) أنظر: معين السيرة صـ 255 للشامي.
(3) سنوت: استقيت.
(4) أي أسأليه خادماً.
(5) مسلم رقم 2727 السيرة النبوية للصَّلاَّبَّي (2/ 99).
(6) تطوي: طوى من الجوع، فهو خالي البطن جائع لم يأكل.(1/51)
أثمانهم، فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما إذ غطت رؤوسهما تكشف أقدامهما، وإذا غطيت أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال مكانكما، ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلا. فقال: كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين وأحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين (1)،
وفي هذه القصة السالفة بعض القيم منها، إن هذه الحادثة تبين لنا كيف أدار النبي صلى الله عليه وسلم الأزمة الاقتصادية التي مرت بدولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وذلك من خلال ترتيبه للأولويات، فسد جوع أهل الصفة ضرورة ملحة وأما حاجة علي وفاطمة للخادم، فليست بمرتبة احتياج أهل الصفة، فقدم رسول الله أهل الصفة عليهم وكانت وسائل رسول الله في حل الأزمة الاقتصادية كثيرة، ولقد تأثر والد الحسن بن علي رضي الله عنهما بهذه التربية النبوية، ويمر الزمن بأمير المؤمنين علي فيصبح خليفة المسلمين، فإذا به من آثار هذه التربية يترفع عن الدنيا وزخارفها وبيده كنوز الأرض وخيراتها، لأن ذكر الله يملأ قلبه ويغمر وجوده، ولقد حافظ على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له وقد حدثنا عن ذلك فقال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن، فسأله أحد أصحابه: ولا ليلة صفين فقال: ولا ليلة صفين (2).
سادساً: محبة رسول الله للسيدة فاطمة وغيرته عليها:
عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر آخر عهده بالمدينة إتيان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم من سفره فاطمة (3)، وفي رواية عن أبي ثعلبة الخشني قال: كان رسل الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزو أو سافر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه (4)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا دّلا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده
_________
(1) البخاري رقم 3705 مسلم رقم 2727 ..
(2) مسلم (4/ 2092).
(3) مسند أحمد (5/ 275) الدوحة النبوية صـ 56.
(4) الاستيعاب (4/ 376) في سنده أبو فروة الرهاوي مضعف، الدوحة النبوية صـ 56.(1/52)
من فاطمة بنت رسول الله، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها (1)، وفي رواية أنها كانت تقبل يديه (2)، وعن أسامة بن زيد قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب أهل بيتي إليَّ فاطمة (3)، وقد أراد علي رضي الله عنه أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إن في رواية السيدة عائشة للحديث دليل على حقيقة المحبة بين السيدتين وليست كما يدعي المغرضون (4)، فقال: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني (5)،
وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يربني ما رابها ويؤذيني ما آذاها (6) , وروى الترمذي بسنده إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن علياً ذكر بنت أبي جهل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويتعبني ما أتعبها (7)، ومن مناقب السيدة فاطمة ما رواه الحاكم أيضاً بإسناده إلى بريدة رضي الله عنه قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي (8)، ولا يفهم من هذا الحديث معارضته لما ثبت في الصحيح من حديث عمرو بن العاص، أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة قال من الرجال؟ قال أبوها (9). فالمراد من هذا الحديث والله أعلم أن فاطمة أحب النساء إليه من أهله
_________
(1) مسلم رقم 2450 صحيح سنن أبي داود رقم 5217.
(2) سنن أبي داود رقم 5217 وصححع الألباني صحيح سنن أبي داود (3/ 979).
(3) مسند الطيالسي (2/ 25) حسن صحيح.
(4) أسمى المطالب فسير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (1/ 136).
(5) البخاري رقم 4173 ..
(6) البخاري رقم 5230
(7) فضائل الصحابة (2/ 756) رقم 1327 إسناده صحيح.
(8) المستدرك، ك معرفة الصحابة (3/ 155) صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(9) البخاري رقم 4358.(1/53)
وعلي من رجالهم وفي ذلك يقول ابن العربي عند هذا الحديث: كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وأحب أزواجه إليه عائشة، وأحب أهله إليه فاطمة وعلي من رجالهم وبهذا الترتيب تأتلف الأحاديث ويرتفع عنها التعارض (1).
سابعاً: صدق لهجتها:
روى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها ألا أن يكون الذي ولدها (2).
وفي ذلك منقبة ظاهرة لها رضي الله عنها فقد وصفتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنها كانت تشبه النبي صلى الله عليه وسلم هيئة وطريقة وحسن حال كما كان التزامها للصدق أشبه له فرضي الله عنها وأرضاها (3).
ثامناً: سيادتها في الدنيا والآخرة:
جاءت الأحاديث الصحيحة عن الصادق المصدوق التي دلت على سيادتها في الدنيا والآخرة، روى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسيا امرأة فرعون (4)، وروى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا من كان من مريم بنت عمران (5). وقال البخاري: باب مناقب فاطمة رضي الله عنها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (6).
_________
(1) عارضة الأحوذي (13/ 247، 248)، العقيدة في أهل البيت صـ 137.
(2) المستدرك (3/ 160، 161) صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(3) العقيدة في أهل البيت صـ 136.
(4) فضائل الصحابة (2/ 255) رقم 1325 صححه الألباني المشكاة (3/ 745).
(5) فضائل الصحابة رقم 1332 إسناده حسن لغيره.
(6) البخاري، ك فضل الصحابة (4/ 252).(1/54)
تاسعاً: الصديق والسيدة فاطمة وميراث النبي صلى الله عليه وسلم:
قالت عائشة رضي الله عنها: إن فاطمة والعباس رضي الله عنهما أتيا أبو بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله يقول: لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم من هذا المال (1)، وفي رواية قال أبو بكر رضي الله عنه: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ (2)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حيث توفي رسول الله، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبي بكر، ليسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة رضي الله عنها لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة (3)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهي صدقة (4)، وهذا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع فاطمة رضي الله عنها امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال الصديق لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به (5)، وقال: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعه فيه إلا صنعته (6)،
وقد تركت أم الحسن رضي الله عنها منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله صلى الله عليه وسلم، وقد غلا الشيعة في قصة ميراث النبي صلى الله عليه وسلم غلواً مفرطاً مجانبين الحق والصواب، وقد ناقشتهم في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (7)، وبينت فيه حقيقة ما وقع بين الصديق والسيدة فاطمة في قضية الميراث.
_________
(1) البخاري رقم 6726.
(2) مسلم رقم 1759.
(3) البخاري رقم 6730، مسلم رقم 1758.
(4) البخاري رقم 6729.
(5) مسلم رقم 1758.
(6) البخاري رقم 6726 ..
(7) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي (1/ 199).(1/55)
عاشراً: تسامح السيدة فاطمة مع أبي بكر رضي الله عنه:
وقد ثبت عن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ما روى البيهقي بسنده عن الشعبي انه قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق، فاستأذن عليها، فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر الصديق يستأذن عليك؟ فقالت:: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت (1)، قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي (2) وبهذا تندحض مطاعن الشيعة على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه، فلئن كانت غضبت في بداية الأمر فقد رضيت بعد ذلك وماتت وهي راضية عنه، ولا يسع أحد صادق في محبته لها، إلا أن يرضى عمن رضيت عنه (3)، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة: إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم هذا المال، وأني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت (4)،
فإن هذا بحسب علم عائشة ـ رضي الله عنها، رواية الحديث وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيادة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة رضي الله عنها ـ نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت حصل بغير علم النافي، خصوصاً في مثل هذه المسألة، فإن عيادة أبي بكر لفاطمة ـ رضي الله عنها ـ ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي
_________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 301).
(2) البداية والنهاية (5/ 253).
(3) الانتصار للصحب والآل صـ 434.
(4) البخاري رقم 4240، رقم 175 ..(1/56)
من الأمور العادية التي قد تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها. على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ لم تتعمد هجر أبي بكر ـ رضي الله عنه تلك الفترة أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك (1)، قال القرطبي صاحب المفهم في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: ثم أنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله صلى الله عليه وسلم ولملازمتها بيتها فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث (2)، وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدة نساء أهل الجنة (3).
لقد انشغلت فاطمة رضي الله عنها عن كل شئ بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أية مشاركة في أي شأن من الشئون فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول بكل لحظة من لحظاته، بشئون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها فقد أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أول من يلحق به من أهله (4)، ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني، ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران (5)، وقد دل على ذلك زيارة أبي بكر لها وترضيته لها كما مر معنا.
الحادي عشر: وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها:
ومما يدل على أن العلاقة كانت وطيدة بين الصديق والسيدة فاطمة إلى حد أن زوجة أبي بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرض فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم
_________
(1) الانتصار للصحب والآل صـ 434
(2) البخاري رقم 6077.
(3) المفهم (12/ 73).
(4) مسلم رقم 2450.
(5) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ صـ 108.(1/57)
ورضي الله عنها في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة وشاركت في غسلها وترحيلها إلى مثواها الأخير، وكان علي رضي الله عنه يمرضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وقد وصتها بوصايا في كفنها ودفنها وتشيع جنازتها، فعملت أسماء بها (1)، فقد قالت السيدة فاطمة لأسماء إني قد اسقبحت ما يصنع بالنساء أنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة ما أحسن هذا وأجمله، به تعرف المرأة من الرجال (2)، وعن ابن عبد البر: فاطمة رضي الله عنها أول من غطى نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش وكان الصديق دائم الاتصال بعلي من ناحية ليسأله عن أحوال بنت النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما يزعمه القوم، فمرضت، أي فاطمة رضي الله عنها وكان علي يصلي في المسجد الصلوات الخمس، فلما صلى قال له أبو بكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟ ومن ناحية أخرى كان الصديق يسأل زوجته أسماء بنت عميس حيث كانت هي المشرفة والممرضة الحقيقية لها، ولما قبضت فاطمة من يومها، فارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان: يا أبا الحسن، لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله (3)،
وقد توفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، عن مالك بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فلما وضعت ليصلى عليها، قال علي تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر رضي الله عنه: وأنت يا أبا الحسن؟ قال: نعم فوالله لا يصلي عليها غيرك، فصلى عليها أبو بكر رضي الله عنه ودفنت ليلاً وجاء في رواية: صلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله فكبر عليها أربعاً (4)،
_________
(1) الشيعة وأهل البيت صـ 77.
(2) الاستيعاب (4/ 378).
(3) الشيعة وأهل البيت صـ 77، كتاب سليم بن قيس صـ 255 ..
(4) المختصر من كتاب الموافقة صـ 68 في سنده ضعف.(1/58)
وفي رواية مسلم صلى عليها علي بن أبي طالب وهي الرواية الراجحة (1) وأما ما يوجد في بعض الكتب الشيعية من كون السيدة فاطمة أوصت علي رضي الله عنهما، بأن لا يقوم على قبرها أحد من الذين ظلموها وجحدوا حقها لأنهم أعداؤها وأعداء أبيها، فهذا من الأباطيل، ولا تصح رواياته، بل هي موضوعة، مثل التي ذكرها صاحب كتاب حياة الإمام الحسن بن علي (2).
وهذه أبيات رقيقة وعذبة قالها محمد إقبال في قصيدته العصماء في السيدة فاطمة رضي الله عنها:
نسب المسيح بنى لمريم سيرة ... بقيت على طول المدى ذكرها
والمجد يشرف في ثلاث مطالع ... في مهد فاطمة فما أعلاها
هي بنت من هي زوج من هي أم من ... من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضة من نور عين المصطفي ... هادي الشعوب إذا تروم هداها
من أيقظ الفطر النيام بروحه ... وكأنه بعد البلى أحياها
وأعاد تاريخ الحياة جديدة ... مثل العرائس في جديد حلاها
هي أسوة للأمهات وقدوة ... يترسم القمر المنير خطاها
جعلت من الصبر الجميل غذاءها ... ورأت رضى الزوج الكريم رضاها
إلى أن قال:
لولا وقوفي عند شرع المصطفى ... وحدود شرعته ونحن فداها
لمضيت للتطواف حول ضريحها ... وغمرت بالقبلات طيب ثراها
وقال في قصيدة في بيان أن السيدة فاطمة أسوة للنساء المسلمات:
وهي أم السَّيدينِ الأكرمين ... حسنٍ خيرِ حليم وحسين
ذا سراج في ظلام الحَرم ... حافظ وحدة خير الأمم
_________
(1) مسلم رقم 1759.
(2) حياة الإمام الحسن بن علي، باقر القرشي (1/ 164).(1/59)
ازدرى الملك ابتغاء الألفة ... أطفأ النِّيران بين الإخوة
ذاك في الأبرار ربُّ العَلَمِ ... أسوةُ الأحرار في الخَطْب العَمي
سيرةُ الأولاد صنعُ الأمهات ... وخلالُ الخير طبع الأمَّهات
زهرةٌ في روضة الصدق البتول ... أسوة النِّسوة في الحق البتول
نُشِّئت ما بين صبر ورضا ... في الفَمِ القرآنُ والكفَّ الرَّحَي
دمعها من خشية الله جرى ... في مصلاَّها يفوق الجوهرا (1)
_________
(1) ديوان محمد إقبال الأعمال الكاملة، سيد عبد الماجد غوري (1/ 235، 236).(1/60)
المبحث الثالث: مكانة الحسن عند جده الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
كانت بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمولد الحسن عظيمة، وكان صلى الله عليه وسلم يحمله ويداعبه، ويدعوه ليتسلق صدره ويلعب معه، وترعرع الحسن رضي الله عنه في حجر النبوة، ولاحظته عين الرعاية النبوية، والعناية المصطفوية، من ولادته حتى يفاعته، لاسيما شبهه بالنبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في محيَّاه وأساريره، وقد تمتع الحسن رضي الله عنه بمكانة كبيرة وتقدير عال من جده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس لكونه سبطه فحسب، بل لما تحمله نفس الحسن رضي الله عنه من صفات طيبة وخلق عال وتواضع كريم (1)، وهذه بعض الأحاديث والمواقف التي تبين مكانة الحسن عند جده صلى الله عليه وسلم.
أولاً: محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمته بالحسن وملاعبته له:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الحسن والحسين فقد أحبَّني ومن أبغضهما فقد أبغضني (2)
2 ـ وعن عبد الله بن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره، فيباعدهما الناس فقال دعوهما، بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هذين (3).
3 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن: اللهم إني أحبه، فأحبه، وأحب من يحبه (4) قال أبو هريرة: فما رأيته إلا دمعت عيناي (5).
_________
(1) الحسن بن علي سيرته ودوره السياسي والإداري، فتيخان كردي صـ 45، الدوحة النبوية الشريفة صـ 72.
(2) سنن النسائي رقم 8168 قام الشيخ عثمان الخميسي بتخريج الحديث وحكم على درجته بأنه حسن لذاته في رسالته أحاديث بشأن السبطين صـ 312.
(3) أحاديث بشأن السبطين صـ 293 عثمان الخميس، حديث حسن.
(4) مسند أحمد (2/ 249، 331) سنده صحيح.
(5) الدوحة النبوية الشريفة صـ 74.(1/61)
4 ـ وعن البراء بن عازب قال: رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: اللهم إني أحبه فأحبه (1).
5 ـ وعن عليَّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين وقال: من أحبَّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمَّهما كان معي في درجتي يوم القيامة أخرجه أحمد والترمذي وقال: كان معي في الجنَّة وقال حديث غريب (2)
6 ـ وعن يعلى بن مرة قال: جاء الحسن والحسين يستبقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أحدهما قبل الآخر، فجعل يدَه في عنقه فضمَّه إلى بطنه وقبَّل هذا ثم قبَّل هذا ثم قال: إني أحبُّهما، فأحبوهما. أيها الناس: الولد مبخلة مجبنة (3)
7 ـ عن إسرائيل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبَّ الحسن والحسين فقد أحبَّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني (4).
8 ـ عن زهير بن الأقمر قال: قال رجل من الأزد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للحسن بن علي: من أحبَّني فليُحبه، فليبلغ الشاهد منكم الغائب. ولولا عزمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدّثْتُكم (5)
9 ـ وعن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى ويقول: اللهمَّ إني أرحمهما فرْحمهما (6)
10 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: دخل الأقرع بن حابس على النبي صلى الله عليه وسلم فرآه يقبِّل إما حسناً وإما حسيناً فقال: تقبِّله، ولي عشرة من الولد ما قبَّلت واحداً منهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَم (7).
_________
(1) مسلم رقم 2422.
(2) مسند أحمد (1/ 77)، سنن الترمذي رقم 3734، سير أعلام النبلاء (3/ 254) ثم قال: إسناده ضعيف، والمتن منكر وأورده في الميزان (3/ 117).
(3) مسند أحمد (4/ 172)، سنن ابن ماجة رقم 3666 في الأدب وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات: أنظر: سير أعلام النبلاء (3/ 255).
(4) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى صـ 215، المسند (5/ 288)، تاريخ دمشق (14/ 26).
(5) مستدرك (3/ 173 ـ 174)، سير أعلام النبلاء (3/ 253، 254)، إسناده صحيح.
(6) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (15/ 415) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى صـ 216.
(7) مسلم رقم 2318.(1/62)
11 ـ عن معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمصُّ لسان الحسن أو شفته، وإنَّه لن يُعَذَّبَ لسانٌ أو شفتان مصَّهما رسول الله (1). ورواية معاوية للحديث يدل على محبته للحسن.
12 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه لقِيَ الحسن بن عليِّ في بعض طرق المدينة فقال له: أكشف لي عن بطنك ـ فداك أبي ـ حتى أقبِّل حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلُه. قال: فكشف عن بطنه، فقبَّل سرته (2)
13 ـ عن عكرمة عن أبي عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً الحسن بن علي رضي الله عنهما على عاتقه، فقال رجل: نعم المركب ركبت يا غلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ونعم الراكب هو (3).
14 ـ وعن أبي الزبير، عن جابر قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو على أربع والحسن والحسين رضي الله عنهما على ظهره يحبو بهما في البيت وهو يقول: نعم الجمل جملكما، ونعم العِدْلان أنتما (4).
15 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد وثب الحسن والحسين رضي الله عنهما على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا حتى يقضي صلاته (5).
16 ـ حدثنا ابن بريدة عن أبيه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ أقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويتعثران إذ نزل
_________
(1) مسند أحمد (4/ 93)، إسناده صحيح، سير أعلام (3/ 259).
(2) المستدرك (3/ 163) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الشريعة للآجري (52160) إسناده ضعيف
(4) الشريعة للآجري (52160) إسناده ضعيف فيه مسروح أبو شهاب: تكلم فيه، قال العقيلي: لا يتابع عليه ـ أي هذا الحديث وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن مسروح وعرضت عليه بعض حديثه فقال: يحتاج إلى التوبة من حديث باطل رواه عن الثوري. وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج بخبره لمخالفته الإثبات في كل ما يوري. المجروحين (3/ 19)، الميزان (4/ 97).
(5) الشريعة (5/ 2161) إسناده ضعيف فيه محمد بن عيسى بن حيان المدائني. قال الدارقطني: ضعيف متروك.(1/63)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فرفعهما إليه وقال: صدق الله: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)) (التغابن، آية: 15) نظرت إلى هذين الصبيين يمضيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما (1).
17 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى أتي خباء (2) فاطمة فقال: أثم لكع (3) أثم لكع يعني ((حسناً)) فظننا أنه إنما تحبسه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا (4)، فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه (5).
19 ـ وعن سلمة بن الأكوع قال: لقد قُدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا قدامه، وهذا خلفه (6)، فمن هذا المعين فليتعلم الآباء المحبة وليغترفوا العطف والحنان على الأبناء، وفيها الشئ الكثير من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لمحبته للحسن ورحمته به وملاعبته وفيها إرشاد نبوي للمسلمين في كيفية بناء نفس الطفل وتكوينه، وفيها إجابة لهذا السؤال المهم كيف نبني عاطفة الطفل؟ ونؤدي له حقه ليكون إنساناً سوياً في مستقبله؟ فقد أشارت الأحاديث النبوية إلى مجموعة من الأسس التي بتطبيقها نسير على هدى ونور بيّن.
أ ـ الأساس العاطفي الأول: القُبلة والرأفة والرحمة للأطفال:
إن للقبلة دوراً فعالاً في تحريك مشاعر الطفل وعاطفته، كما أن لها دوراً كبيراً في تسكين ثورانه وغضبه، بالإضافة إلى الشعور بالارتباط الوثيق في تشييد علاقة الحب بين الكبير والصغير، وهي دليل رحمة القلب والفؤاد لهذا الطفل الناشئ،
_________
(1) الشريعة للآجري (5/ 2162).
(2) خباء فاطمة: أي بيتها.
(3) لكع: يريد به الصغير، وإذا قيل للكبير، فمعناه قليل العلم.
(4) السخاب: القلادة، وجمعه سُخُب، ويصنع من القرنفل والعود والسك وغير ذلك، وقيل: خيط فيه خرز.
(5) مسلم (4/ 1882 ـ 1883).
(6) مسلم رقم 2423.(1/64)
وهي برهان على تواضع الكبير للصغير، وهي النور الساطع الذي يبهر فؤاد الطفل، ويشرح نفسه ويزيد من تفاعله مع من حوله، ثم هي أولاً وأخيراً السنة الثابتة في المصطفى صلى الله عليه وسلم ـ مع الأطفال (1)، وإن الرحمة بالأطفال والشفقة عليهم صفة من صفات النبوة المحمدية وهي طريق لدخول الجنة والفوز برضوان الله تعالى.
ب ـ الأساس الثاني ـ المداعبة والممازحة مع الأطفال:
وقد بينا بعض الأحاديث النبوية التي تدل على ذلك وفيها دروس وعبر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مداعبة الأطفال، تارة بالحمل وأخرى بالمضاحكة .. وإلى غير ذلك وقد اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فسارعوا إلى ممازحة ومداعبة أطفالهم وينزلون منازلهم، ويتصابون لهم ويلاعبونهم، وقد قال عمر رضي الله عنه: ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي ـ أي في الأنس والبشر وسهولة الخلق والمداعبة مع أولاده. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وبهذه المداعبة والملاعبة، كان تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ مع الأطفال وهو يغذي نفوسهم بهذه العاطفة الصادقة الطيبة، بعيداً عن الجفاء والقسوة وعدم إعطاء الطفل حقه (2)
جـ ـ الأساس العاطفي الثالث: الهدايا والعطايا:
للهدايا أثر طيب في النفس البشرية عامة، وفي نفوس الأطفال أكثر تأثيراً وأكبر وقعاً، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين لنا عملية هذا الركن القوي في بناء عاطفة الطفل وتحريكها وتوجيهها وتهذيبها، وقد بينا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابنة خالة الحسن بن علي، أمامة بنت أبي العاص من بنت رسول الله زينب، فعن عائشة رضي الله عنها أن النجاشي أهدي للنبي صلى الله عليه حِلْية فيها خاتم من ذهب فصّه حبشي، فأخذه، وإنه لمعرض عنه، فأرسله إلى ابنة ابنته زينب، وقال: تَحلِّي بهذا يا بنية (3).
_________
(1) منهج التربية الإسلامية للطفل 179.
(2) منهج التربية النبوية صـ 184.
(3) سنن ابن ماجة رقم 3644، الدوحة النبوية الشريفة صـ 43.(1/65)
ح ـ الأساس الرابع: مسح رأس الطفل:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يداعب عواطف الأطفال بمسح رؤوسهم فيشعرون بلذة الرحمة والحنان والحب والعطف الأمر الذي يشعر الطفل بوجوده وحب الكبار له، واهتمامهم به وعن مصعب بن عبد الله قال: عبد الله بن ثعلبة ولد قبل الهجرة بأربع سنين وحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح وجهه وبرك عليه عام الفتح وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع عشرة (1).
خ ـ الأساس الخامس ـ حسن استقبال الطفل:
إن اللقاء مع الطفل لا بد منه وأهم ما في اللقاء اللحظات الأولى، فإذا كان اللقاء طيباً استطاع الطفل متابعة الحديث وفتح الحوار والتجاوب مع المتكلم، فيفتح قلبه وما يدور في خاطره ويعرض مشاكله ويتحدث عن أمانيه، كل ذلك يحصل إذا أحسن استقبال الطفل بفرح وحب ومداعبة (2)، وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قدم من سفر تلقى الصبيان من أهل بيته، وأنه جاء من سفر، فسبق بي إليه، فحملني بين يديه ثم جئ بأحد ابني فاطمة الحسن والحسين رضي الله عنهما فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة (3).
س ـ الأساس السادس ـ تفقد حال الطفل والسؤال عنه:
كثيراً ما يمشي الطفل وحده فيضل الطريق ويتيه في الشارع، فإذا كان الوالدان مهتمين بحال الطفل تنبها سريعاً لشروده، وتم تتبع أثر الطفل والعثور عليه بأسرع ما يمكن والعكس بالعكس وهذه السرعة تلعب دوراً كبيراً في نفس الطفل فالتأخير عليه يزيد من مخاوفه وآلامه وبكائه ويشتد عذابه النفسي كلما زادت فترة تأخر وصول أحد والديه إليه لهذا سارع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر أصحابه بمساعدته والانتشار في الطرقات حتى يتم العثور على الحسن والحسين (4)، فقد روى
_________
(1) مستدرك الحاكم (3/ 379).
(2) منهج التربية النبوية للطفل صـ 185.
(3) مسلم رقم 2428، سير أعلام النبلاء (3/ 458).
(4) منهج التربية النبوية للطفل صـ 186.(1/66)
الطبراني عن سلمان رضي الله عنه قال: كنا حول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاءت أم أيمن رضي الله عنهما فقالت: يا رسول الله لقد ضل الحسن والحسين رضي الله عنهما، قال: وذاك وأد النهار ـ يقول ارتفاع النهار ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ قوموا فاطلبوا ابني وأخذ كل رجل وجهة وأخذت نحو النبي صلى الله عليه وسلم ـ فلم يزل حتى سفح جبل وإذا الحسن والحسين رضي الله عنهما ملتزق كل واحد منهما صاحبه. وإذا شجاع ـ أي حية الذكر وقيل الحية مطلقاً ـ قائم على ذنبه يخرج من فيه شرار النار، فأسرع إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالتفت مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ثم انساب ـ أي جرى ـ فدخل بعض الأحجار ثم أتاهما، فأفرق بينهما ثم مسح وجوههما وقال: بأبي وأمي أنتما ما أكرمكما على الله ثم حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخر على عاتقه الأيسر، فقلت: طوبى لكما نعم المطية مطيتكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ونعم الراكبان هما، وأبوهما خير (1)
منهما فأنت تلاحظ الخوف الذي حصل للحسن والحسين حيث التزق كل واحد بالآخر خائفاً من الحيَّة، ومسارعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفك هذا الخوف ثم التفريق بينهما .. ثم مسح وجههما ـ ثم دعا لهما ثم أكرمهما بحملهما على عاتقه ثم مدحهما، بقوله: ونعم الراكبان هما وما ذلك إلا من شدة حبه وحرصه واهتمامه بالحسن والحسين (2)
ش ـ الأساس السابع: لعب الكبار مع الصغار والأطفال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو الرسول القائد ـ يلعب مع الحسن والحسين ـ كما مرّ معنا ـ وما هذا إلا ليربي الوالدين والكبار، وليقتدوا به ويلعبوا مع أطفالهم، وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشجع الحسن على الحسين فعن أبي عباس قال: اتَّحد الحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: هي يا حسن، خذ يا حسين، فقالت عائشة: تعين الكبير؟ قال إن جبريل يقول: خذ يا حسين (3)، وجاء في رواية ضعيفة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع
_________
(1) معجم الطبراني (3/ 65) رقم 2677 وفي المجمع (9/ 182) وفيه أحمد بن راشد الهلالي وهو ضعيف، ضعفه الذهبي في المغنى (1/ 39) ..
(2) منهج التربية النبوية للطفل صـ 187.
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 266) إسناده حسن.(1/67)
الجنائز، فطلع الحسن والحسين فاعتركا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إيها حسن. فقال عليُّ: يا رسول الله: أعلى حسين تواليه؟ فقال: هذا جبريل يقول: إيها حسين (1)، فأنت شاهدت أنواعاً مختلفة من لعبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الحسن والحسين وما ذاك إلا ليدلك النبي صلى الله عليه وسلم ـ إلى فكرة التنوع في اللعب مع الأطفال، وأنت لاحظت أيضاً ثناءه ومدحه لهما في اللعب وذلك ليزيد من نشاطهما النفسي في اللعب فيستمران بلا كلل ولا تعب ويتابعان اللعب بحب وشغف وذلك ليكون غذاء جسمياً ونفسياً في آن واحد (2)، كما أن اللعب للأطفال فيه مجموعة من الفوائد والقيم منها جسدية، وتربوية، واجتماعية، وخلقية، وذاتية، وعلاجية (3) .. الخ.
ثانياً: شبه الحسن بن علي رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم:
1 ـ عن أبي خالد، قال: قلت لأبي جُحَيْفَة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم: كان أشبه الناس به الحسن بن علي (4).
2 ـ عن عقبة بن الحارث، قال: إني لمع أبي بكر إذ مرَّ على الحسن بن علي فوضعه على عنقه ثم قال: بأبي شِبْهَ النبي لا شبيهاً بعلي قال: وعلي معه فجعل علي يضحك (5)، وفي رواية أخرى عن عقبة بن الحارث، قال: خرجت مع أبي بكر من صلاة العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال وعلي يمشي إلى جنبه فمر بحسن بن علي وهو يلعب مع غلمان فاحتمله على رقبته وهو يقول: وبأبي شبه النبي ليس بشبه بعلي وعلي يضحك (6)، ونرى حقيقة المحبة والانسجام بين أبي بكر وعلي وهذا ما تؤكده هذه الرواية الصحيحة ليس كما يدعي بعض الناس.
3 ـ عن هانئ بن هانئ، عن علي قال: الحسن أشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس والحسين أشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل ذلك (7).
_________
(1) سير أعلام النبلاء فيه انقطاع ضعيف جداً وقوله: إيها معناه التحريض والتشجيع والاستحسان والأصل فيها أنها للكف أنظر سير أعلام النبلاء (3/ 284).
(2) منهج التربية النبوية للطفل صـ 209 إلى 216.
(3) المصدر نفسه صـ 216.
(4) الطبقات الكبرى، الطبقة الخامسة من الصحابة (1/ 245) أخرجه البخاري رقم 3544 إسناده صحيح.
(5) البخاري رقم 3750.
(6) الطبقات، الطبقة الخامسة من الصحابة (1/ 247) إسناده صحيح.
(7) الطبقات، الطبقة الخامسة (1/ 247) إسناده ضعيف.(1/68)
4 ـ عن عاصم بن كليب، قال: حدثني أبي، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رآني في النوم فقد رآني فإن الشيطان لا ينتحلُني. قال أبي: فحدثته ابن عباس وأخبرته أني قد رأيته (1)، قال: رأيته؟ قلت: أي والله لقد رأيته، قال: فذكرت الحسن بن علي؟ قال إي والله، لقد ذكرته وتَفَيّئه (2) في مشيته (3). قال ابن عباس: إنه كان يُشبهُهُ (4).
5 ـ عن البهي مولى الزبير قال: تذاكرنا من أشبه النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته؟ فدخل علينا عبد الله بن الزبير فقال: أنا أحدثكم بأشبه أهله به ,أحبهم إليه، الحسن بن علي، رأيته يجئ وهو ساجد فيركب رقبته، أو قال ظهره، فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل،، ولقد رأيته يجئ وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر (5).
6 ـ قال قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني أنس قال: لم يكن أحد أشْبَه بالنَّبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي (6) وعنه قال: كان الحسن بن علي من أشبههم وجهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم (7).
7 ـ عن فاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها أتت بالحسن والحسين إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شكواه الذي توفِّي فيه، فقالت: يا رسول الله هذان ابناك، فورِّثهما شيئاً. فقال: أما الحسن فله هيبتي وسُؤدُدِي وأمّا حُسينٌ فله جُرأتي وجُودِي (8).
8 ـ وعن أبي مليكة قال كانت فاطمة رضي الله عنها تنقر الحسن وتقول بني شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشبيه علي (9) رضي الله عنهما.
_________
(1) أي رأي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
(2) تفيئه: أي تحركه يميناً وشمالاً أنظر: لسان العرب (1/ 125).
(3) الطبقات، الطبقة الخامسة (1/ 248).
(4) المصدر نفسه (1/ 248) إسناده حسن.
(5) المصدر نفسه (1/ 249) إسناده ضعيف.
(6) الصحيح المسند من فضائل الصحابة للعدوي صـ 263.
(7) ذخائر ذوي القربى صـ 221.
(8) الأحاديث الواردة بشأن السبطين صـ 287 قال الشيخ عثمان الخميس: في ضوء دراسة إسناد الحديث تبين أنه ضعيف جداً لمكان محمد بن حميد وإبراهيم بن علي صـ 289.
(9) مجمع الزوائد (9/ 176) مرسل وفيه زمعة بن صالح وهو لين.(1/69)
9 ـ وممن يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم: جعفر بن أبي طالب، والحسن بن علي، وأبو سفيان بن الحارث، وقثم بن العباس، والسائب بين عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب (1).
10 ـ عن أبي اسحاق أنه سمع هبيرة بن يَرِيم أنه سمع علياً رضي الله عنه يقول: من سره أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عنقه إلى وجهه وشعره فلينظر إلى الحسن بن علي ومن سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عنقه إلى كعبه خلقاً فلينظر إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما (2).
ثالثاً: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة:
1 ـ عن حذيفة قال: سألتني أُمِّي منذ متى عهدك بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت لها: منذ كذا وكذا. قال: فنالت منِّي وسبَّتني. قال: فقلت لها: دَعيني فإنِّي آتي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ـ فأُصلي معه المغرب، ثمَّ لا أدعه حتّى يستغفر لي ولك، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه المغرب، فصَلَّى النبي العشاء ثم انفتل فتبعته فعرض له عارض فناجاه ثم ذهب، فاتبعته فسمع صوتي: فقال:: من هذا؟ فقلت: حذيفة. قال: ما لك؟ فحدثته بالأمر، فقال: غفر الله لك ولأُمِّك ـ ثم قال: أمّا رأيت العارض الذي عرض لي قُبْيلُ؟ قال: قلت: بليى. قال: فهو ملك من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة، فاستأذن ربَّه أن يُسلم عليَّ ويبشرني أن الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (3).
2 ـ عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة (4).
3 ـ عن الحكم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة عيسى ويحي
_________
(1) التبيين في أنساب القرشيين صـ 102.
(2) الشريعة للآجري (5/ 2146).
(3) مسند أحمد (5/ 391) الحديث فيه المنهال بن عمرو تكلم فيه بعضهم لترك شعبة له ولكنه مقبول الحديث على الصحيح ثم هو قد توبع من قبل عدي بن ثابت وعاصم وهما وإن كان في الطريقين عنهما كلام إلا أنه يمكن أن يقوي بعضمهما أنظر: الأحاديث الواردة بشأن السبطين صـ 176.
(4) الأحاديث الواردة بشأن السبطين صـ 182 حسن لغيره.(1/70)
بن زكريا عليهما السلام (1)، وقد قام الشيخ عثمان الخميس بدراسة طرق هذا الحديث وبين أنه روي عن ستة عشر صحابياً (2)، وقال والحديث سئل عنه أحمد بن حنبل، فقال صحيح (3)، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وقال: في أسانيده كلها ضعف (4)، وقال الذهبي: روِيَ من وجوه يُقوِّي بعضها بعضاً (5). ثم قال عثمان الخميس: والذي يظهر لي أنه يمكن الجمع بين أقوال هؤلاء الأئمة، فهو كما قال الحافظ ابن كثير: في أسانيده كلها ضعف. انتهى، وبعضها حسن وبعضها حسن لغيره، فيقويِّ بعضها بعضاً، كما قال الحافظ الذهبي وبالتالي فهو صحيح كما قال الإمام أحمد ولكن لغيره (6) والله أعلم.
رابعاً: هما ريحانتايَ من الدنيا:
عن أبي نُعيم، قال: سمعت عبد الله بن عمر وسأله عن المُحْرِمِ ـ قال شعبه أحسبه يقتل الذباب ـ فقال أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن ابنة رسل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ: هما ريحانتايَ من الدنيا (7)، وعن الحسن، عن أبي بكرة قال: رأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما يثبان على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيمسكهما بيده حتى إذا استقر على الأرض تركهما، فلما صلى أجلسهما في حجره ثم مسح رؤوسهما، ثم قال: إن ابنيَّ هذين ريحانتاي من الدنيا ثم أقبل على الناس فقال: إن ابني هذا سيد، وأرجو أن يصلح الله عز وجل به بين فئتين عظيمتين في آخر الزمان (8)، قال محمد بن الحسين الآجري: يعني به الحسن رضي الله عنه (9)، وعن أبي بكرة قال: كان النبي يصلي، فكان إذا سجد جاء الحسن فركب ظهره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه أخذه فوضعه على الأرض
_________
(1) الشريعة للآجري (5/ 2144) إسناده حسن.
(2) الأحاديث الواردة بشأن السبطين صـ 211.
(3) السؤال رقم 124 المنتخب من العلل للخلال، لابن المقدسي.
(4) البداية والنهاية (8/ 208).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 283).
(6) الأحاديث الواردة شأن السبطين صـ 212.
(7) البخاري رقم 3753.
(8) صحيح ابن حبان رقم 6964.
(9) الشريعة للآجري صـ 2157.(1/71)
وضعاً رفيقاً، فإذا سجد ركب ظهره، فلما صلى أخذه فوضعه في حجره، فجعل يقبله، فقال له رجل: أتفعل بهذا الصبي هكذا؟ فقال: إنهما ريحانتاي، وعسى الله عز وجل أن يصلح به بين فئتين من المسلمين (1).
خامساً: سيادته في الدنيا والآخرة:
أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة الحسن بن علي رضي الله عنه وبين جلالة قدره، على مرأى ومسمع من الناس في غير ما مرة وقد تواترت الروايات بقوله صلى الله عليه وسلم عن الحسن، وإن ابني هذا سيد، قال بن عبد البر: وتواترت الآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن بن علي: إن ابني هذا سيد وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح بين فئتين عظيمتين من المسلمين (2)، ورواه جماعة من الصحابة، وفي حديث أبي بكرة في ذلك: وأنه ريحانتي من الدنيا، ولا أسود ممن سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدا (3). وعن أبي بكرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح بيه فئتين من المسلمين (4)، فهذا الحديث فيه منقبة للحسن رضي الله عنه فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد. قال ابن الأثير: قيل أراد به الحليم لأنه قال في تمامة: وإن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (5). وجاء في تحفة الأحوذي " فيه أن السيادة لا تختص بالأفضل بل هو الرئيس على القوم والجمع سادة وهو مشتق من السؤدد وقيل من السواد لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس: أي الأشخاص الكثيرة ولعل الله أن يصلح به بين فئتين تثنيه فئة وهي الفرقة (6)، ووصفه عليه الصلاة والسلام للفئتين بالعظيمتين، كما في راوية عند البخاري (7)،
لأن المسلمين كانوا يومئذ
_________
(1) الشريعة للآجري صـ 2157 إسناده حسن.
(2) مسند أحمد (5/ 51) والبخاري بنحوه (3/ 244).
(3) الاستيعاب (1/ 437).
(4) البخاري، ـ فضائل الصحابة رقم 3746.
(5) النهاية في غريب الحديث (3/ 417).
(6) تحفة الأحوذي (1/ 277).
(7) البخاري، فضائل الصحابة رقم 3746 ..(1/72)
فرقتين فرقة مع الحسن رضي الله وفرقة مع معاوية وهذه معجزة عظيمة من النبي صلي الله عليه وسلم حيث أخبر بهذا فوقع مثل ما أخبر، وأصل القضية أن عليّ بن أبي طالب لما ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي يوم الجمعة وليلة السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين من الهجرة وبويع لابنه الحسن بالخلافة في شهر رمضان من هذه السنة وأقام الحسن أياماً مفكراً في أمره ثم رأى اختلاف الناس فرقة من جهته وفرقة من جهة معاوية ولا يستقيم الأمر، ورأى النظر في إصلاح المسلمين وحقن دمائهم أولى من النظر في حقه سلم الخلافة لمعاوية في الخامس من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وقيل من ربيع الآخر وقيل في غرة جمادي الأولى وكانت خلافته ستة أشهر إلا أياماً وسمي هذا العام عام الجماعة وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين (1). فالحديث فيه علم من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا قلة ولا ذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة وعن سعيد بن أبي سعيد قال: كنا مع أبي هريرة جلوساً، فجاء الحسن بن علي بن أبي طالب، فسلم علينا، فرددنا عليه، وأبو هريرة لا يعلم فمضى، فقلنا: يا أبا هريرة هذا حسن بن علي قد سلم علينا، فقام فلحقه، فقال: يا سيدي، فقلت له: تقول يا سيدي؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه لسيد (2)، وعن جابر بن عبد الله أنه قال: من سرّه أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة، فلينظر إلى الحسن بن علي (3)
وقد نقل إلينا خبر سيادة الحسن والحسين في الجنة جمع غفير من الصحابة، وما ذلك إلا لإعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك مرة بعد مرة، أو في محافل جامعة، وممن جاء عنهم، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وقرة بن إياس، ومالك بن الحويرث، والبراء بن عازب، وأبو هريرة رضي الله عنهم وغيرهم (4).
_________
(1) فتح الباري (13/ 66).
(2) مستدرك الحاكم (3/ 169) وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي والطبراني رقم 2596 وقال الهيثمي في المجمع (9/ 178) رجاله ثقات.
(3) صحيح بن حبان (15/ 421، 422) مناقب الحسن، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية وذكر إسناده وقال لا بأس به ..
(4) روايات هذه الأحاديث في مجمع الزوائد (9/ 183) والمعجم الكبير (3/ 24) الدوحة النبوية الشريفة صـ 81.(1/73)
سادساً: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعِوِّذُ الحسن والحسين ويقول إنّ أباكما ـ أي إبراهيم عليه السلام ـ كان يُعَوِّذُ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة (1) ومن كل عين لامّة (2)، وعن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الحسن والحسين يقول أُعِيذُكُما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّةٍ: ويقول: هكذا كان إبراهيم يُعوِّذُ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام (3). وهذا علاج يتفرد به الطب النبوي للأطفال، وهو ركن من أركان المحافظة على صحة الطفل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الحسن والحسين (4)، وفي هذا الحديث قيمة رفيعة حيث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية دعاء الوالدين لأبنائهم وما فيها من فوائد عظيمة منها، جلب الراحة والطمأنينة والحفظ والبركة للأبناء والآباء من جهة، ومن جانب آخر صرف الشر عنهم بإذن الله من الحسد والشيطان وهوام الأرض وفوق هذا كله، فإن الدعاء هو مخ العبادة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه شعور بالفقر والالتجاء إلى الله وحده وهذا من أهم مقاصد الإسلام.
سابعاً: الأحاديث التي رواها الحسن بن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن مما اتفق عليه المسلمون أن أصول العلم والمعرفة التي توصل إلى مرضاة الحق سبحانه وتعالى القرآن الكريم وما ثبت من أقوال وأفعال وتقريرات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا ما يعرف بالسنة النبوية وهي لا تُعْرَفُ عبر الحقب والأجيال إلا بالنقل والرواية والأخبار وقد اتجه أهل العلم والمعرفة إلى ضبط أسماء الرواة ومعرفتهم، ثم البحث عن سيرهم وأحوالهم، ليخلصوا إلى التأكد من أمرين اثنين وإعطاء كل راوٍ قدره في ميزانهما:
_________
(1) هامّة: كل ذات سم يقتل كالحية وغيرها.
(2) لامّة: هي التي تصيب ما نظرت إليه بسوء، البخاري رقم 3371.
(3) سنن الترمذي رقم 2060 حديث حسن صحيح.
(4) منهج التربية النبوية للطفل صـ 248.(1/74)
1 ـ العدالة، وهي استقامة السيرة، وصلاح الحال، والتقصِّي عن المحرمات بعد القيام بالواجبات، والتحلي بالمروءة وارتداء لبوسها السابغ.
2 ـ الضبط والإتقان للحديث المروي والنص المنقول، والوعي والاستيعاب له، حفظاً أو كتابة أو هما معاً وهذا الذي تقدم حكم عام شامل لجميع الرواة ونقلة السنة النبوية، خلا الصحابة، رضوان الله عليهم، لأنهم حملة الرسالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رباهم على عينه ونشأهم بكريم رعايته وعميق عنايته.
ولقد كان الأئمة من أهل البيت الكرام، رضوان الله عليهم محل تقدير علماء الحديث والرواية، في الأخذ عنهم ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما تمتعوا به من عدالة وإتقان، وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأبناه الحسن والحسين من جلَّة الصحابة فهم فوق التعديل والسؤال لكونهم من سادات الصحابة رضي الله عنهم. وأبو الحسن، أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. روى له بقي بن مخلد الأندلسي المتوفى 276هـ في مسنده ـ وهو أوسع المسانيد في الإسلام ـ خمسمائة وستة وثمانين حديثاً (586) (1). وروى له أحمد بن حنبل المتوفى 241هـ في مسنده المتداول بين أيدينا ثمانمائة وتسعة عشر حديثاً بتكرار الطرق (819) (2) وأخرج له أصحاب الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، ثلاثمائة واثنين وعشرين حديثاً (322) (3)، اتفق البخاري ومسلم على عشرين حديثاً منها (20) وانفرد البخاري بتسعة (9)، ومسلم بخمسة عشر حديثاً (15) وفي هذه الأحاديث من المضامين والمعاني ما يتعلق بجميع وسائل الحياة: العقائد والأحكام والتفسير وغيرها (4).
ويعتبر أمير المؤمنين علي أكثر الخلفاء الراشدين رواية لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا راجع إلى تأخر وفاته عن بقية الخلفاء، وكثرة الرواة عنه، وانتشار طلبة العلم من التابعين الذين كانوا يكثرون السؤال، ووقوع الأحادث التي تقتضي البلاغ
_________
(1) الدوحة النبوية الشريفة صـ 139 مقدمة مسند بقي بن مخلد صـ 80.
(2) مسند أحمد (1/ 164).
(3) تحفة الإشراف بمعرفة الأطراف للمزي (7/ 346).
(4) الدوحة النبوية الشريفة صـ 140.(1/75)
والرواية، في أمور كثيرة فنقلوا عنه ما بلغهم بأمانة ونزاهة (1)، وقد استفاد ابنه الحسن منه استفادة عظيمة أما من جده صلى الله عليه وسلم، فقد توفي صلى الله عليه وسلم، والحسن صغير كما هو معلوم، فعقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحاديث وأموراً ذكرها منسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كصغار الصحابة الآخرين، ابن عباس ومحمود الربيع، فقد حفظ الحسن عن جده وعن أبيه وأمه وحدَّث عنه ابنه الحسن بن الحسن، وسويد بن غفلة وأبو الحوراء السعدي، والشعبي، وهبيرة بن بَرِيم، وأصبغ بن نُباته والمسَّيبُ بن نجبة (2)، وقد روى له بقي بن مخلد في مسنده عن رسول الله ثلاثة عشر حديثاً (13) (3)، وروى له أحمد في مسنده عشرة أحاديث (10)، وله في السنن الأربعة ستة أحاديث (4) وهذه الأحاديث منها:
1 ـ عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلي الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهمَّ أهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيمن أعطيت وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضي عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت (5). ونرى هنا كيف حرص سيد البشر على تعليم الحسن محبة الله سبحانه وتعالى وعبوديته ودعاؤه والتعلق بالله وحده لا شريك له وهذه هي حقيقة التوحيد الخالص الذي يجب أن يحققه المسلم في حياته ويربي عليه أبنائه.
2 ـ عن هبيرة قال: خطبنا الحسن بن عليّ، فقال: لقد فارقكم رجل بالأمس لم يسبقه الأوّلون بعلم، ولا يدركه الآخرون، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه بالراية، جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، لا ينصرف حتى يُفتح له (6).
_________
(1) المصدر نفسه صـ
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 246).
(3) تلقيح أهل الأثر في عيون التاريخ والسير لابن الجوزي صـ 369.
(4) مسند أحمد (3/ 167) تحقيق أحمد شاكر، مسند أهل البيت تحقيق عبد الله الليثي الأنصاري صـ 25، الدوحة النبوية صـ 142.
(5) مسند أحمد (3/ 168) قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(6) مسند أحمد (3/ 167، 168) إسناده صحيح.(1/76)
3 ـ عن عمرو بن حبشي قال: خطبنا الحسن بن علي بعد قتل علي فقال: لقد فارقكم رجل بالأمس، ما سبقه الأوّلون بعلم، ولا أدركه الآخرون، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثه ويعطيه الراية، فلا ينصرف حتى يفتح له، وما ترك من صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه، كان يرصدها لخادم لأهله (1).
4 ـ عن محمد بن علي عن الحسن بن علي: أنه مرّ بهم جنازة، فقام القوم ولم يَقُمْ، فقال الحسن: ما صنعتم؟ إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تأذِياً بريح اليهودي. (2).
5 ـ عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أذكر إني أخذت تمرة من تمر الصدقة، فألقيتها في فمي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعُابها فألقاها في التمر، فقال له رجل: ما عليك لو أكل هذه التمرة؟ قال: إنا لا نأكل الصدقة، قال: وكان يقول: دع ما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبك، فإن الصدق طُمأنينة، وإن الكذب ريبة، قال: وكان يعلمنا هذا الدعاء: اللهم أهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرت ما قضيت، إنه لا يَذِلّ من واليت، وربما قال: تباركت ربنا وتعاليت (3).
ومن خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضح أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة، والصدقة نوعان، صدقة الفرض، وهي الزكاة، وصدقة التطوع، يقول الله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) (التوبة، الآية: 103) قال المفسرون: هي الزكاة أي الصدقة المفروضة، وليس هناك خلاف في أن الصدقة بنوعيها لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقة الفرض، كما تحرم عليه صلى الله عليه وسلم، تحرم على آله رضوان الله عليهم، ولكن في حرمة صدقة التطوع على آل البيت خلاف، فاللشافعي رضي الله عنه فيها قولان، أصحهما بالحرمة، وسبب حرمة الصدقة أو الزكاة على آل البيت الطاهرين أوضحه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، في حديث شريف طويل، نأخذ منه قوله عليه الصلاة والسلام: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس (4)، قام الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث في صحيح
_________
(1) مسد أحمد (3/ 167، 168) إسناده صحيح.
(2) مسند أحمد (3/ 167، 169) إسناده ضعيف لانقطاعه.
(3) مسند أحمد (3/ 167، 169) إسناده صحيح.
(4) مسلم رقم 1072.(1/77)
مسلم: ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) (التوبة، الآية: 103)، فهي كغسالة الأوساخ. وفي هذا تنزيه لهم، وإعلاء لمكانتهم، والتنويه بطهارتهم (1)، رضي الله عنهم، ولهذا لم يكونوا يأخذون شيئاً من الصدقات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بعد ذلك، وكانوا يأخذون نصيبهم من خمس الغنائم، يقول الله تبارك وعالى ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)) (الأنفال، آية: 41). قال المفسرون قوله تعالى ((وَلِلرَّسُولِ)) أي سهم من الخمس يعطي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذي القربى. وقد اختلف العلماء في المراد بالآل في الزكاة وفي تحديدهم إلى قولين:
أ ـ
ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية إلى أنهم بنو هاشم فقط وهم آل علي، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب، ولم يدخل فيهم أبو لهب فيجوز الدفع إلى بنيه، لأن حرمة الصدقة لبني هاشم كرامة من الله تعالى لهم ولذريتهم حيث نصروا النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم في جاهليتهم وإسلامهم، أما أبو لهب فكان حريصاً على أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فلم يستحقها بنوه (2)، وقال بعض علماء الحنابلة: ويدخل فيهم آل أبي لهب لأنهم من سلالة هاشم (3)، وكيف لا يدخلون وقد أسلم من أبناء أبي لهب عتبة ومعتب يوم الفتح وسر النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم بإسلامهما ودعا لهما وشهدا معه حنيناً والطائف لهم عقب عند أهل النسب (4).
ب ـ ويرى الشافعي أنهم بنو هاشم وبنو المطلب:
واستدل على ذلك بما يلي:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سهم ذوي القربى من الخمس لبني هاشم وبني المطلب ولم يعط أحداً من قبائل قريش غيرهم كما أخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني عبد المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 183 ـ 187).
(2) شرح فتح القدير لابن الهمام (2/ 272 ـ 274).
المنتقى للباجي (2/ 153)، نيل الأوطار (4/ 172).
(3) الإنصاف للمرداوي (3/ 255 ـ 256).
(4) التبيين في أنساب القرشيين صـ 143.(1/78)
إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد (1). ووجه الدلالة من الحديث أن بني المطلب مع بني هاشم في سهم ذوي القربى، وهم آله، فدل على أن بني المطلب آل صلى الله عليه وسلم أيضاً، وعلى أن الزكاة تحرم عليهم وأن هذه العطية إنما هي عوض عما حرموه من الصدقة وبالتالي فإن هذا الحكم ((منع الزكاة)) يتعلق بذوي القربى، كاستحقاق الخمس فوجب أن يستوي فيه الهاشمي والمطلبي (2)، وعن الإمام أحمد في بني المطلب روايتان:
أحدهما: تحرم عليهم الزكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام إنما نحن شئ واحد (3). وفي لفظ رواه الشافعي في مسنده: ((إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد وشبك بين أصابعه (4)، ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فلم يكن لهم الأخذ من الزكاة كبني هاشم.
ثانيهما: لهم الأخذ منها وفقاً لمذهب أبي حنيفة ومالك لدخولهم في عموم قوله تعالى: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)) (التوبة، آية: 6). لكن خرج بنو هاشم لقول صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد (5)، فيختص المنع بهم (6)، وقالوا إن قياس بني المطلب على بني هاشم غير صحيح لأن بني هاشم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف وأما مشاركتهم لهم في خمس الخمس فلم يستحقوا ذلك بمجرد القرابة، بل لنصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنصرة لا تقتضي المنع (7).
وقد تحدث الفقهاء عن حكم دفع الزكاة إليهم في حال منعهم من خمس الخمس، فإذا لم يعطوا حقهم من خمس الخمس لخلو بيت المال من الفئ أو الغنيمة، أو لاستيلاء الظلمة واستبدادهم بهما، فقد قال بعض العلماء من المتقدمين
_________
(1) البخاري ك فرض الخمس رقم 3140.
(2) معالم السنن للخطابي (2/ 71)، الأم للشافعي (2/ 69) المجموع للنووي (6/ 244) العقيدة في أهل البيت صـ 181.
(3) سنن أبي داود، الإمارة رقم 2980.
(4) سنن النسائي رقم 4137.
(5) مسلم رقم 1072.
(6) العقيدة في أهل البيت صـ 181.
(7) المغنى لابن قدامة (4/ 111 ـ 112).(1/79)
والمتأخرين أنهم يعطون من الزكاة، فقد روي عن الإمام أبي حنيفة أنه يجوز الدفع إلى بني هاشم في زمانه، لأن عوضهما وهو الخمس لم يصل إليهم، وإذا لم يصل إليهم العوض ((الخمس)) عادوا إلى المعوض ((الزكاة (1))، وقال بعض المالكية: إذا حرموا حقهم من بيت المال وصاروا فقراء جاز أخذهم وإعطائهم من الزكاة (2)، وفي ذلك يقول أبو بكر الأبهري (3): قد حلت لهم الصدقات فرضها ونفلها (4)، وقال أبو سعيد الاصطخري من الشافعية: إن منعوا حقهم من الخمس جاز الدفع إليهم إنما حرموا الزكاة لحقهم في خمس الخمس، فإذا منعوا منه وجب أن يدفع إليهم (5)، وذلك لحديث إن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم، أو يغنيكم (6)، فجعلوا الغنى عن الزكاة بخمس الخمس، فإذا عدم زال الغنى، فخمس الخمس علة لاستغنائهم وشرط لمنعهم، فإذا زال الشرط انتفى المانع، وقال بعض علماء الحنابلة: يجوز الأخذ من الزكاة إذا منعوا من خمس الخمس لأنه محل حاجة وضرورة (7)، واختاره بن تيمية (8).
6 ـ حدثنا ربيعة بن شيبان أنه قال للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال " أدخلني غرفة الصدقة، فأخذت منها تمرة فألقيتها في فمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلقها فإنها لا تحل لرسول الله ولا لأحد من أهل بيته (9) صلى الله عليه وسلم.
7 ـ حدثنا بُريدة بن أبي مريم عن أبي الحوراء قال: كنا عند حسن بن علي، فسُئِل: ما عَقلْتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت أمشي
_________
(1) حاشية ابن عابدين (2/ 91).
(2) بلغة السالك (1/ 232) حاشية الدسوقي (1/ 452 ـ 453).
(3) هو: محمد بن عبد الله بن محمد صالح أبو بكر التميمي شيخ المالكية في العراق توفي 375هـ: أنظر شذرات الذهب (3/ 85 ـ 86).
(4) المنتقى للباجي (2/ 153).
(5) المجموع للنووي (6/ 244 ـ 246).
(6) تفسير ابن كثير (2/ 313) قال ابن كثير حديث حسن الإسناد.
(7) الإنصاف للمرداوي (3/ 255) وكشاف القناع للبهوني (2/ 291).
(8) الاختيارات (104)، العقيدة في أهل البيت صـ 186.
(9) مسند أحمد (3/ 170) إسناده صحيح قاله أحمد شاكر.(1/80)
معه فمَّرعلى جَرِين من تمر الصدقة، فأخذت تمرة فأليقتها في فمي، فأخذها بلعابي، فقال بعض القوم: وما عليك لو تركتها؟ قال: إنا آل محمد لا تحلُّ لنا الصدقة، وعقلت منه الصلوات الخمس (1).
8 ـ عن أيوب بن محمد: أن الحسن بن علي وابن عباس رأيا جنازة، فقام أحدهما وقَعد الآخر، فقال الذي قام: ألم يَقمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال الذي قعد: بلى وقعد (2).
هذه بعض الأحاديث التي رواها الحسن بن علي رضي الله عنهما عن جده صلى الله عليه وسلم ويعتبر الحسن بن علي رضي الله عنه من علماء الصحابة المفتين وهو من ضمن الطبقة الثالثة، فقد قسم المحدِّثون علماء َ الصحابة إلى ثلاث طبقات، وذلك نظراً إلى قلة أو كثرة فتاواهم. قال ابن القيم رحمه الله ـ: كانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط.
أ ـ المكثرون من الفتيا: والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة ونيف وثلاثون نفساً ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن خطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم: قال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يجمع في فتوى كل واحد منهم سفر ضخم، قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا ابن عباس رضي الله عنه في عشرين كتاباً، وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
ب ـ المتوسطون في الفتيا: قال أبو محمد: والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم .. الخ.
_________
(1) مسند أحمد (3/ 170) إسناده صحيح قاله أحمد شاكر.
(2) مسند أحمد (3/ 171) إسناده صحيح قاله أحمد شاكر.(1/81)
جـ ـ المقلِّون في الفتيا: والباقون منهم مقلِّون في الفتيا، ولا يروي عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك .. وهم أبو الدرداء، وأبو اليسر، وأبو سلمة المخزومي، وأبو عبيدة بن الجراح، والحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، والنعمان بن بشير، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو طلحة وأبو ذر، وأم عطية، وصفية أم المؤمنين، وحفصة، وأم حبيبة رضي الله عنهم أجمعين (1).
ثامناً: صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يرويها الحسن بن علي:
1 ـ عن الحسن بن علي عن خاله هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل (2) الأحزان، دائم الفكرة ليست له راحة، طويل السكت لا يتكلم من غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه (3)، ويتكلم بجوامع الكلم (4)، كلامه فصل (5)، لا فضول ولا تقصير، ليس بالجافي (6) والمهيمن (7)، يعظم النعمة وإن دقت (8)، لا يذم منها شيئاً، غير أنه لم يكن يذم ذواقاً (9)، ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا ولا مكان لها (10)، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح (11)، وإذا فرح غض طرفه، جُل (12) ضحكه التبسم،
_________
(1) إعلام الموقعين (1/ 12، 13)، سيرة عائشة سليمان الندوي صـ 327.
(2) أي لا ينفك حزن عن حزن يعقبه.
(3) جمع شدق بالكسر طرف الفم أي أنه يستعمل جمع فمه للتكلم ولا يقتصر على تحريك الشفتين كفعل المتكبرين.
(4) أي بكلمات قليلة الحروف جامعة لمعانٍ كثيرة وقيل الجوامع القواعد الكلية المحتوية على الفروع المتكثرة.
(5) الفاصل بين الحقل والباطل.
(6) الجافي: الغليظ الطبع السئ الخلق العديم البر.
(7) المهيمن: لم يكن غليظ الخلق ولا ضعيفه بل كان معتدلاً من أنواع المهابة والوقار والجلالة.
(8) صغرت وقلت.
(9) المأكول والمشروب فعال بمعنى المفعول من الذوق.
(10) أي ولا يغضبه أيضاً إلا ما كان له علاقة بالدنيا
(11) جد في الإعراض وبالغ فيه.
(12) معظمه أو أكثره.(1/82)
يفتر (1) عن مثل حب الغمام (2)، وكان فخماً (3) مفخماً (4) يتلألأ (5) وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، مسيح (6) القدمين ينبو (7)
عنهما الماء، إذا زال زال (8) قلعاً يخطو تكفياً (9)، ويمشي هوناً ذريع المشية (10)، إذا مشى كأنما ينحط من صبب (11)، وإذا التفت التفت جميعاً (12)، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة (13)، يسوق أصحابه، يبدأ من لقى بالسلام (14).
2 ـ وعن الحسن بن علي عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جاء وصف النبي كالتالي: لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً (15) ولا صاخباً (16) في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح (17). ما ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا ضرب خادماً، ولا امرأة، ما رأيته منتصراً من مظلمة ظُلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شئ، فإذا انتهك من محارم الله تعالي كان من أشدهم غضباً، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وإذا دخل بيته كان بشراً من البشر يفلي (18) ثوبه ويحلب شاته
_________
(1) من افتر ضحك ضحكاً حسناً حتى بدت أسنانه من غير قهقهة.
(2) أي البرد.
(3) أي عظيماً في نفسه.
(4) أي المعظم في الصدور والعيون.
(5) يتلألأ: أي يستنير.
(6) مسيح: أملسهما.
(7) ينبو: يتباعد ويتجافى ..
(8) أي رفع رجله عن الأرض رفعاً بائناً بقوة لا كمن يمشي اختيالاً ويقارب خطاه تبختراً.
(9) جملة مؤكدة لما قبلها وهو بكسر الفاء المشددة بعدها ياء أي يمشي مائلاً إلى سنن المشي لا إلى طرفيه يقال يتكفأ أي يتمايل إلى قدام.
(10) أي سريعها.
(11) أي محل منحدر.
(12) إي لا يسارق النظر.
(13) وهي مفاعلة من اللحظ وهو النظر باللحاظ يقال لحظه ولحظ إليه
(14) مختارات من أدب العرب لأبي الحسن النووي صـ 13.
(15) إي ولا المتكلف به أي لم يكن الفحش له خلقياً ولا كسبياً.
(16) صاخباً: صيَّاحاً.
(17) صفح عنه: أعرض عنه وتركه، بابه فتح.
(18) فلا يفلي فلياً رأسه أو ثوبه: نقاهما من القمل.(1/83)
ويخدم نفسه، كان يخزن لسانه إلا فيما يعنيه ويؤلّفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي على أحد منهم بشره (1)، ولا خلقه، ويتفقد (2) أصحابه ويسأل عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه (3)، معتدل الأمر غير مختلف، ولا يغفل مخافة أن يغفلوا ويملوا، لكل حال عنده عتاد (4)، لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة (5) ومؤازرة (6)، لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه بنصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو فاوضه (7)،
في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجته لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس علم وحياء وصبر وأمانة لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن (8) فيه الحرم ولا تنثى (9)، فلتاته (10)، متعادلين (11) يتفاضلون فيها بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب. (12)
3 ـ عن الحسن بن علي عن الحسين بن علي عن علي رضي الله عنهم ملتقطاً من جزء الشمائل للترمذي: كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب (13) ليس بفظ (14)،
_________
(1) بشره: بالكشر طلاقة الوجه وبشاشته.
(2) يتفقد: يتعرف ويطلب من غاب منهم.
(3) يوهيه: يضعفه.
(4) العتاد: هو العدة والتأهب مما يصلح لكل ما يقع أعتدُ وعُتُد وأعتدِة.
(5) المداراة وهي إصلاح أحوال النار بالمال والنفس.
(6) مؤازرة: المعاونة.
(7) فاوضه: عامله في حاجة أو خالطه ..
(8) ولا تؤبن: هو العيب والتهمة أي لا تقذف ولا تعاب.
(9) ولا تنثى: لا تشاع ولا تذاع.
(10) فلتاته: زلاته ومعائبه على تقدير وجود وقوعها جمع فلتة.
(11) متعادلين: متساوين.
(12) مختارات من أدب العرب لأبي الحسن الندوي صـ 15.
(13) أي سريع العطف كثير اللطف، جميل الصفح، وقيل قليل الخلاف وقيل كناية عن السكون والوقار والخشوع والخضوع.
(14) الغليظ السيئ الخلق الخشن الكلام.(1/84)
ولا غليظ وصخاب ولا فحّاش ولا عياب ولا مشاح (1)، يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس منه ولا يجيب (2) فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء (3)، والإكبار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث كان لا يذمّ أحداً ولا يعيبه ولا يطلب عورته. ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه وإذا تكلم أطرق (4)، جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم (5)، يضحك مما يضحكون ويتعجب ممّا يتعجبون ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم ويقول إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه (6)، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ (7)، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام، أجود الناس صدراً وأصدق الناس لهجة (8)، وألينهم عريكة (9)، وأكرمهم عشيرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبَّه ويقول ناعته لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم (10).
تاسعاً: آية التطهير وحديث الكساء:
آية التطهير هي قول الله عز وجل: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) (الأحزاب، آية: 33) وأما حديث الكساء، فقد روت عائشة رضي الله عنها، فقالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل (11)، فأدخل علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، قال ": ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
_________
(1) اسم فاعل من باب المفاعلة من الشح وهو البخل وقيل أشده.
(2) أي لا يجب أحداً فيما لا يشتهي بل يسكت عنه عفواً وتكرماً.
(3) الجدال.
(4) أمالوا رأسهم وأقبلوا ببصرهم إلى صدورهم.
(5) أي حديث أفضلهم أو كأول تكلمهم أي لا عن ملالة وسآمة.
(6) الإرفاد الإعطاء والإعانة.
(7) أي من مقارب في مدحه غير مجاوز به عن حد مثله ولا مقصر به عما رفعه الله إليه من علو مقامه.
(8) اللسان.
(9) الطبيعة.
(10) مختارات من أدب ب الحسن الندوي صـ 16 نقلاً عن الشمائل للترمذي.
(11) كساء من خز أو صوف أو كتان لسان العرب (7/ 401) والمرحل نقش فيه تصوير الرحال.(1/85)
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) (الأحزاب، آية: 33) وإن رواية عائشة للحديث يبين لنا كذب من يقول أن الصحابة يكتمون فضائل علي، فهذه عائشة التي يدعون أنها تبغض علياً هي التي تروي هذا الفضل لعلي وفاطمة (1) والحسن والحسين رضي الله عنهم.
إن الخطاب في الآيات الكريمة كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث بدأ بهم وختم بهن قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًاً جميلاً، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يسيراً، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا)) إلى قوله تعالى: ((((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا *وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)) (الأحزاب، آية: 28 ـ 34) فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومعهنّ الأمر والنهي والوعد والوعيد، لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بضمير المذكر لأنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، حيث تناول أهل البيت كلهم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أخص من غيرهم بذلك لذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم، كما أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يتعدى علياً والحسن والحسين وفاطمة إلى غيرهم كما في حديث زيد بن أرقم وأنه لما قيل له نساؤه من أهل بيته؟ قال نساؤه ولكن أهل بيته الذين حرموا الصدقة وهم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس (2)
وقد تعمد علماء الشيعة الإثني عشرية اقتطاع آية التطهير من السياق القرآني الذي جاءت فيه والذي خاطب الله به نساء النبي صلى الله عليه وسلم إغفالاً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم من الخطاب، ثم ضموا إلى ذلك حديث الكساء الذي رواه مسلم في صحيحه عن أم
_________
(1) حقبة من التاريخ صـ 187.
(2) مسلم رقم 107 ..(1/86)
المؤمنين عائشة، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه المرط (1) المرحل (2) من شعر أسود فجاء الحسن بن علي، فأدخله ثم جاء الحسين، فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))، وحديث أم المؤمنين أم سلمة لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك، وأنت على خير (3) لتثبيت المعنى الذي يريدونه من الاستدلال بهذه الآية الكريمة (4)، ويرى علماء الشيعة أن في آية التطهير دلالة على عصمة أصحاب الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين، من الخطايا والذنوب صغيرها وكبيرها بل ومن الخطأ والسهو البشري (5)، ويعتقدون أن الحسن بن علي هو الإمام الثاني المعصوم عندهم.
إن عصمة الإمامة عند الشيعة الإمامية شرط من شروط الإمامة وهي من المبادئ الأولية في كيانهم العقدي ولها أهمية كبرى عندهم ونتيجة لما أضفاه الشيعة الرافضة على أئمتهم من صفات وقدرات ومواهب علمية غير محدودة، ذهبوا إلى أن الإمام ليس مسئولاً أمام أحد من الناس ولا مجال للخطأ في أفعاله مهما أتى من أفعال، بل يجب تصديقه والإيمان بأن كل ما يفعله من خير لا شر فيه لأن عنده من العلم وما لا قبل لأحد بمعرفته، ومن هنا قرر الشيعة الرافضة للإمام ضمن ما قرروا العصمة، فذهبوا إلى أن الأئمة معصومون في كل حياتهم لا يرتكبون صغيرة ولا كبيرة ولا يصدر
عنهم أي معصية، ولا يجوز عليهم خطأً ولا نسيان (6)، وقد نقل الإجماع على ذلك شيخهم المفيد، فقال: إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرع وتأديب الأنام معصومون، كعصمة الأنبياء، وأنهم لا يجوز منهم كبيرة ولا صغيرة وأنه لا يجوز
_________
(1) مرط: يعني كساء ..
(2) وهو الموشي المنقوش عليه صور رجال الإبل.
(3) سنن الترمذي، ك المناقب رقم: 3788.
(4) ثم أبصرت الحقيقة صـ 176.
(5) المصدر نفسه صـ 176.
(6) دراسات عن الفرق د. أحمد جلي صـ 203.(1/87)
منهم سوء في شيء من الدين ولا ينسون شيئاً من الأحكام، وعلى هذا مذهب سائر الإمامية إلا من شذ منهم، وتعلق بظواهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنه الفاسد من هذا الباب (1)، وقد تحدثت عن هذه العقيدة بنوع من التفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2)، فمن أراد المزيد فليرجع إليه.
وأما حجة الشيعة الإمامية في آية التطهير فنقدها من وجوه:
أ ـ حديث أم سلمة السابق، فقد ورد بعدة صيغ:
فروي عن أم سلمة أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم خزيرة، فأكلوا وناموا وغطى عليهم عباءة أو قطيفة، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم أجلسهم على كساء، ثم أخذ بأطرافه الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه، فقال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم أجلسهم على كساء، ثم أخذ بأطرافه الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربه، فقال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وهاتان الروايتان تتفقان مع رواية مسلم عن السيدة عائشة في دخول الخمسة الآية، ولكن هذا لا يحتم عدم دخول غيرهم (3)، وقد وردت روايات عن أم سلمة فيها زيادات تشير إلى عدم دخولها مع أحاديث الكساء، لا يخلو أكثرها من الضعف لكن صح منها من جملتها هذه الرواية: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) في بيت أم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلله بكساء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال:
_________
(1) أوائل المقالات للمفيد صـ 35.
(2) أسمى المطالب سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2/ 302).
(3) ثم أبصرت الحقيقة صـ 177.(1/88)
أنت على مكانك وأنت على خير (1)، وهناك رواية هامة جداً رويت بإسناد حسن تشير إلى أن أم سلمة قد دخلت في الكساء بعد خروج أهل الكساء منه (2)،
ولعل التعليل في ذلك أنه لا يصح أن تدخل أم سلمة مع علي بن أبي طالب تحت كساء واحد فلذلك أدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروج أهل الكساء منه، فعن شهر قال: سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء نعي الحسين بن علي، لعنت أهل العراق، فقالت: قتلوه قتلهم الله، غروه وذلوه لعنهم الله، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته فاطمة غدية ببرمة قد وضعت فيها عصيدة تحملها في طبق لها، حتى وضعتها بين يديه، فقال لها: أين ابن عمك؟ قالت: هو في البيت، قال: اذهبي فادعيه وائتني بابنيه، قال: فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما بيد، وعلي يمشي في إثرهما، حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسهما في حجره وجلس علي على يمينه وجلس فاطمة على يساره، قالت أم سلمة: فاجتبذ كساء خيبرياً كان بساطاً لنا على المنامة، فلفّه رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً فأخذ بشماله طرفي الكساء وألوى بيده اليمنى إلى ربه عز وجل: قال: اللهم أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قلت يا رسول الله: ألست من أهلك؟ قال بلى فادخلي في الكساء، فدخلت في الكساء بعدما قضى دعاءه لابن عمه علي وابنيه وابنته فاطمة (3)، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة أنها من أهل بيته وأدخلها في الكساء بعد دعائه لهم (4).
ب ـ ومما يدل على أن الآية ليست دالة على العصمة والإمامة أن الخطاب في الآيات لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث بدأ بهن وختم بهنّ:
قال تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًاً جميلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ
_________
(1) فضائل الصحابة (2/ 727) رقم 1994 إسناده فيه ضعف وله طرق قوية.
(2) ثم أبصرت الحقيقة صـ 177 ..
(3) فضائل الصحابة (2/ 852) رقم 1170 إسناده حسن.
(4) ثم أبصرت الحقيقة صـ 178.(1/89)
لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يسيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا *يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا معروفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا *وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)) (الأحزاب، آية: 28 ـ 34).
فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد، لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بضمير المذكر، لأنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، حيث تناول أهل البيت كلهم، وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أخص من غيرهم بذلك، لذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم، كما أن زوج الرجل من أهل بيته، وهذا شائع في اللغة كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ أي امرأتك ونساؤك، فيقول: هم بخير، وقد قال تعالى: ((قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)) (هود: 73) والمخاطب بهذه الآية بالإجماع هي سارة زوجة إبراهيم عليه السلام، وهذا دليل على أن زوجة الرجل من أهل البيت (1).
وقوله تعالى: ((فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)) (القصص: 29).
والمخاطب هنا أيضاً زوجة موسى عليه السلام.
وقوله تعالى: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)) (مريم: 54 ـ 55). فمن أهله الذين كان يأمرهم بالصَّلاة؟ وهذا كقوله تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) (طه: 132). ولا شك في دخول زوجاته أو خديجة
_________
(1) الإمامة والنص، فيصل نور صـ 386.(1/90)
رضي الله عنها على أقل تقدير في الأهل، باعتبار أن السورة مكية (1)، وقال تعالى: ((وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (يوسف، آية: 25)، فالمخاطب هنا عزيز مصر، وقولها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً؟ أي زوجتك، وهذا بين (2).
جـ ـ إذهاب الرجس لا يعني في لغة القرآن معنى العصمة:
يقول الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن مادة رجس، الرجس الشئ القذر، قال: رجل رجسي، ورجال أرجاس، قال تعالى: ((رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) (المائدة: 90) .. والرجس من جهة الشرع والخمر والميسر .. وجعل الكافرين رجساً من حيث أن الشرك بالعقل أقبح الأشياء، قال تعالى: ((وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)) (التوبة: 125) وقوله تعالى: ((وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)) (يونس:، آية: 100).
قيل الرجل: النتن، وقيل العذاب، وذلكم كقوله: ((إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)) وقال: أو لحم خنزير فإنه رجس وبالجملة لفظ ((الرجس)) أصله القذر يطلق ويراد به الشرك كما في قوله تعالى: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) (الحج، آية: 30) ويطلق ويراد به الخبائث المحرمة كالمطعومات والمشروبات ونحو قوله: ((قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا)) (الأنعام، آية: 145) وقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) (المائدة، آية: 90)، ولم يثبت أن استخدم القرآن لفظ ((الرجس)) بمعنى مطلق الذنب بحيث يكون في إذهان الرجس عن إثبات لعصمته (3).
د ـ التطهير من الرجس لا يعني إثبات العصمة لأحد:
فكما أن كلمة ((الرجس)) لا يراد بها ذنوب الإنسان وأخطاؤه في الاجتهاد وإنما يُراد بها القذر والنتن والنجاسات المعنوية والحسية فإن كلمة التطهير لا تعني
_________
(1) المصدر نفسه صـ 391.
(2) المصدر نفسه صـ 393.
(3) ثم أبصرت الحقيقة صـ 181.(1/91)
العصمة، فإن الله عز وجل يريد تطهير كل المؤمنين وليس أهل البيت فقط، وإن كان أهل البيت هم أولى الناس وأحقهم بالتطهير، فقد قال الله تعالى عن صحابة رسوله: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)) (المائدة،: 6) وقال عز من قال: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) (التوبة، آية: 103) وقال ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)) (البقرة، آية: 222)، فكما أخبر الله عز وجل بأنه يريد تطهير أهل البيت أخبر كذلك بأنه يريد تطهير المؤمنين فإن كان في إرادة التطهير وقوع للعصمة لحصل هذا للصحابة، ولعموم المؤمنين الذين نصت الآيات على إرادة الله عز وجل تطهيرهم، وقد قال تعالى عن رواد مسجد قباء من الصحابة: ((فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) (التوبة، آية: 108)، ولم يكن هؤلاء معصومين من الذنوب بالاتفاق، وقال تعالى عن أهل بدر وهو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً: ((وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ)) (الأنفال، آية: 11) ولم يكن في هذا إثبات لعصمته مع أنه لا فرق يذكر في الألفاظ بين قول الله تعالى عن أهل البيت ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً وبين قوله في أهل بدر: ((وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ)) فالرجز والرجس متقاربان ويطهركم في الآيتين واحد، لكن الهوى هو الذي جعل من الآية الأولى دليلاً على العصمة دون الأخرى والعجيب في علماء الشيعة الرافضة أنهم يتمسكون بالآية ويصرفونها إلى أصحاب
الكساء، ثم يصرفون معناها من إرادة التطهير إلى إثبات عصمة أصحاب الكساء ثم يتناسون في الوقت نفسه آيات أخرى نزلت في إرادة الله عز وجل لتطهير الصحابة، بل هم بالمقابل يقدحون فيهم، ويقولون بانقلابهم على أعقابهم مع أن الله عز وجل نص على إرادته تطهيرهم بنص الآية (1)، ((وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)).
ـ ... الإرادة في الآية إرادة شرعية، وهي غير الإرادة القدرية:
يعني يحب الله أن يذهب عنكم الرجس، وقد تحدث علماء أهل السنة عن الإرادتين الشرعية الدينية، والإرادة القدرية الكونية، فقالوا:
_________
(1) ثم أبصرت الحقيقة صـ 182.(1/92)
ـ ... إرادة شرعية دينية: وهي تتضمن معنى المحبة والرضى، كقوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) (البقرة، آية: 185) وقوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)) (النساء، آية: 27 ـ 28).
ـ ... إرادة قدرية خلقية: وهي بمعنى المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وذلك مثل الإرادة في قوله تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) (البقرة، آية: 253) وقوله: ((وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)) (هود، آية: 34)، فالمعاصي إرادة كونية قدرية فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها، ويكرهها ونهي عنها، هذا قول السلف والأئمة قاطبة، فيفرقون بين إرادته التي تتضمن محبته ورضاه وبين إرادته ومشيئته الكونية القدرية التي لا يلزم منها المحبة والرضى (1)، ولا شك أن الله عز وجل أذهب الرجس عن فاطمة والحسن والحسين وعلى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الإرادة في هذه الآية، إرادة شرعية ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جللهم بالكساء قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس (2)
هـ ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يحسم القضية:
آية التطهير لو كان فيها ما يدل على وقوع التطهير لأهل الكساء لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطيتهم بالكساء والدعاء لهم بقوله: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس (3)، بل في هذا دلالة واضحة على أن الآية نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أراد أن ينال أصحاب الكساء هذا الأخبار الرباني عن التطهير، فجمعهم وجللهم بالكساء ودعا لهم فتقبل الله دعاءه لهم (4)، فطهرهم كما طهر الله نساء النبي بنص الآية (5).
_________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق، محمد با عبد الله صـ 387.
(2) سنن الترمذي، ك مناقب أهل البيت رقم 3787.
(3) سنن الترمذي، ك مناقب أهل البيت رقم 3787، صححه الألباني.
(4) ثم أبصرت الحقيقة صـ 182.
(5) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي (2/ 314).(1/93)
و ـ من الردود الدالة على عدم دلالة الآية الإمامة والعصمة:
ومنها: أن ما اختص به أمير المؤمنين علي والحسن والحسين رضي الله عنهم من الآية بزعم القوم ثبت للسيدة فاطمة رضي الله عنها، وخصائص الإمامة لا تثبت للنساء، فلو كان هذا دليلاً لكان من يتصف بما في الآية يستحق العصمة والإمامة، وفاطمة رضي الله عنها كذلك وبذات الاعتبار، فدل على أن الآية لا يراد بها الإمامة ولا العصمة، ومنها خروج تسعة من الأئمة المزعومين لعدم شمول الآية لهم، حيث اختصت الآية بثلاثة منهم (1) وهم:
ـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ـ والحسن بن علي رضي الله عنه.
ـ والحسين بن علي رضي الله عنه.
عاشراً: آية المباهلة ووفد نصارى نجران:
جاء وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كنا مسلمين قبلكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وزعمكم أن لله ولداً (2)، وكثر الجدال والحجاج بينه وبينهم، والنبي يتلو عليهم القرآن ويقرع باطلهم بالحجة، وكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالك تشتم صاحبنا، وتقول إنه عبد الله، فقال: أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، فإن كنت صادقاً فأر مثله؟ فأنزل الله في الرد عليهم قوله سبحانه: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)) (آل عمران، آية: 59 ـ 60). فكانت حجة دامغة شبّه فيها الغريب بما هو أغرب منه (3)، فلما لم تجد معهم المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة دعاهم إلى
_________
(1) الإمامة والنص صـ 387.
(2) زاد المعاد (3/ 633) سنده فيه ضعف.
(3) زاد المعاد (3/ 629 ـ 638).(1/94)
المباهلة (1)، امتثالاً لقوله تعالى: ((فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)) (آل عمران، آية: 61). وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة وقال: وإذا أنا دعوت فأمِّنوا (2)،
فائتمروا فيما بينهم، فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبي حقاً، وأنه ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوه وقالوا: أحكم علينا بما أحببت فصالحهم على الفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر (3). وهكذا يتضح المقصد الحقيقي لنزول الآية ومناسبتها وأنه ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد على ما ادعاه الشيعة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنص وقد رددت على زعمهم في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه (4)، فمن أراد التوسع فليرجع إليه.
الحادي عشر: أثر التربية الأسرية على الحسن بن علي رضي الله عنه:
نشأ الحسن بن علي رضي الله عنه في بيت النبوة وتربى على يدي جده ووالده علي وأمه فاطمة رضي الله عنهما، فأخذ عن جده ووالديه مفاهيم الإسلام ولهذه النشأة تأثير كبير في بناء وتكوين شخصيته القوية التي التزمت بأوامر الإسلام واستقامة على تعاليمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام (5)، فمعدن الحسن بن علي نادر الوجود ولم ينشأ في الجاهلية وإنما نشأ في بيت النبوة، مما جعله يكون سيداً بما تعني هذه الكلمة من معنى، وقد اجتمع للحسن بن علي من أصالة النسب والتربية الأسرية ما لم يجتمع لغيره من الناس.
فجده الحبيب المصطفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وأبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأمه فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
_________
(1) السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 547).
(2) المصدر نفسه (2/ 547) ..
(3) السيرة النبوية لأبي شهبه (2/ 547).
(4) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي (2/ 334 إلى 336).
(5) البخاري، رقم 3383.(1/95)
وجدته لأمه السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى أمير المؤمنين علي تربية الحسن والحسين وأشرف عليهم إشرافاً مباشراً، وكانت شخصية أمير المؤمنين تتوفر فيها شروط الأب المربي ولا شك أنه فهم واستوعب قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمرون)) (التحريم، آية: 66) ومن الشروط الواجب توافرها في الأب المربي المسئول هي:
1 ـ الإخلاص والشعور بأهمية القضية والاهتمام بها:
فقد اهتم أمير المؤمنين علي بتربية وتعليم الحسن والحسين أبنائه وشمَّر عن ساعد الجد، وتعهدهم بالرعاية والإهتمام ويكون هدفه من ذلك رضاء الله وثوابه والتقرب إليه بتربية علي أولاده على طاعة الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 ـ إعطاء القدوة الحسنة للأبناء:
تعتبر القدوة من أهم وسائل التربية إن لم تكن هي أهمها على الإطلاق، وذلك لوجود تلك الغريزة الفطرية الملحة في كيان الإنسان التي تدفعه نحو التقليد والمحاكاة، خاصة الأطفال الصغار (1) يقول ابن خلدون: ويبدأ التقليد غايته في سن الخامسة أو السادسة ويستمر معتدلاً حتى الطفولة المتأخرة (2)، وكان أمير المؤمنين علي قدوة عظيمة لابنه الحسن فهو من سادات الصحابة ومن الخلفاء الراشدين، وكان الحسن بن علي يقلد أباه وأمه عن حب عميق.
3 ـ كان أمير المؤمنين علي رحيماً رفيقاً ليناً في تربيته:
فقد كان أمير المؤمنين متحلياً بالرحمة والحلم وكان رفيقاً وليناً بالحسن والحسين في تربيتهم ويعرف لهم فضلهم ومكانتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيدة فاطمة رضي الله عنها.
_________
(1) مسئولية الأب، عدنان با حارث صـ 65.
(2) مقدمة ابن خلدون نقلاً عن موسوعة تربية الأجيال المسلمة، لنصر بن محمد العنقري صـ 86.(1/96)
4 ـ التوسط في المعاملة والعدل بين الأبناء:
ويظهر هذا الخلق جلياً في وصيته للحسن والحسين عندما أصبح من الدنيا راحلاً ولأصحابه مفارقاً ولكأس المنية شارباً، وقد اتبع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه التوجيهات القرآنية في تربيته وتعليمه وتوجيهه لأبنائه مثل قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيم *وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) (لقمان، آية: 13، 14).
والمقصود أن الهدي القرآني اهتم بتذكير الأنبياء بتربية الأبناء وحياة أمير المؤمنين علي تطبيق لأوامر الله عز وجل، وابتعاد عن نواهييه، هذه بعض الصفات المهمة في شخصية أمير المؤمنين علي والتي ساعدته في تربية ابنيه الحسن والحسين.
الثاني عشر: أثر الواقع الاجتماعي على تربية الحسن:
إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم قي صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فالحسن بن علي رضي الله عنه عاش في زمن ساد فيه الصحابة، والرعيل الأول الذي تربى على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيمنت الفضيلة والتقوى والصلاح على ذلك المجتمع الفريد، وكثر الإقبال على طلب العلم والعمل بالكتاب والسنة فهذه الحالة دفعت الحسن بن علي إلى الاستفادة والاقتداء بالمجتمع الذي يعيش فيه، فكان عدد الصحابة الذين استوطنوا المدينة في حياة الرسول كم كبير، واستمر عدد كبير في المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مجتمعاً عاش فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتربي فيه على يديه النواة الأولى لخير أمة أخرجت للناس، لهو مجتمع لا يدانيه أي مجتمع آخر، فقد شاهد هذا المجتمع الوحي وصاحب الدعوة، ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لهذه الملازمة والصحبة آثار نفسية ومعان إيمانية وتعلق روحي (1) فكان هذا المجتمع محل جذب الناس والتأثير فيهم بالسلوك والقول، وأن هذا المجتمع له قوة التأثير في صياغة شخصية الحسن بن علي التربوية والعلمية.
_________
(1) الإمام الزهري، شرّاب صـ 26.(1/97)
المبحث الرابع: الحسن بن علي في عهد الخلفاء الراشدين:
أولاً: مكانة الحسن بن علي في عهد الصديق رضي الله عنه:
كان للحسن والحسين بن علي رضي الله عنهما مكانة مرموقة لدي الصديق، وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً، فقد كانوا يحبونهم ويتعاملون معهم بشكل خاص، فبينما كان أبو بكر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما يمضيان بعد صلاة العصر فرأى أبو بكر رضي الله عنه الحسن يلعب مع الغلمان، فأخذه أبو بكر فحمله على عنقه وقال:
بأبي شبيه النبي ... ليس شبيهاً بعلي
وعلي يبتسم (1). وقد تأثر الحسن بن علي بسيرة الصديق حتى أنه سمّى أحد أبنائه على أبي بكر، ولا يسمّى أحد من الناس أسماءً على شخص معين إلا نتيجة حب ومعرفة مفصلة بسيرته، وقد تعلم الحسن بن علي من عهد الصديق سواء في حياته أو بعد وفاة أبي بكر أموراً منها:
1 ـ هول فاجعة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف أبي بكر منها:
قال ابن رجب: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومن اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية (2)، وقال ابن إسحاق: ولما توفي رسول الله صلة الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين فكانت عائشة فيما بلغني تقول لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية، والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الثانية لفقد نبيهم (3)، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: .. واضطربت الحال .. فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم قاصمة الظهر، ومصيبة العمر، فأما
_________
(1) نسب قريش (1/ 23)، البخاري (5/ 93).
(2) لطائف المعارف صـ 114.
(3) سيرة ابن هشام (4/ 323).(1/98)
علي فاستخفى في بيت فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر، وقال: ما مات رسول الله وإنما واعده ربه كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم (1)، ولما سمع أبو بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلِّم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغشّى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متها (2)،
وخرج أبو بكر وعمر يتكلم فقال: أجلس يا عمر، وهو ماضي في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه، فقال: أما بعد فإن من كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) (آل عمران، آية: 144). فنشح الناس يبكون.
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم خرج الناس من ذهولهم وحيرتهم ورجعوا إلى الفهم الصحيح رجوعاً جميلاً، فالله هو الحي وحده الذي لا يموت، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، وأن الإسلام باق بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم (3)، كما جاء في رواية من قول الصديق: إن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء وبه هدى الله محمد صلى الله عليه وسلم وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدنّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله فلا يبغين أحد إلا على نفسه (4).
كان موت محمد صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة، وابتلاءاً شديداً، ومن خلالها وبعدها ظهرت شخصية الصديق كقائد للأمة فذ لا نظير له ولا مثيل (5)، فقد أشرق اليقين
_________
(1) القواصم من العواصم صـ 38.
(2) البخاري، ك المغازي ـ رقم 4452 ..
(3) استخلاف أبو بكر الصديق ـ جمال عبد الهادي صـ 160.
(4) دلائل النبوة للبيهقي (7/ 218).
(5) دولة ـ مجدي حمدي صـ 25، 26.(1/99)
في قلبه وتجلى ذلك في رسوخ الحقائق فيه، فعرف حقيقية العبودية، والنبوة، والموت، وفي ذلك الموقف العصيب ظهرت حكمته رضي الله عنه، فانحاز بالناس إلى التوحيد (من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) وما زال التوحيد في قلوبهم غضاً طرياً، فما إن سمعوا تذكير الصديق لهم حتى رجعوا إلى الحق (1)، تقول عائشة رضي الله عنها: فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها (2). ولا شك أن هذه الحادثة أخذت مكانها الطبيعي في ذاكرة الحسن بن علي وأصبحت من ضمن ثقافته ومعرفته، فقد كان عمر الحسن عندما مضى رسول الله إلى الرفيق الأعلى سبع أو ثماني سنين وهو طور تنمو فيه مدارك الطفولة، وتكون فيه فكرة الطفل كالعدسة اللاقطة تنقل إلى ذاكرته كثيراً من المشاهدات والصور، والحسن من الأطفال الأذكياء وله من الاستعداد لأن يستوعب مجريات ذلك العهد ويفهم الغايات السامية والأعمال العظيمة، والمواقف المشهودة والقيم الكبرى التي قام بها الصديق، ولقد أثرت تلك الأعمال والمواقف على نفسية الحسن وتملك قلبه حب الصديق وسمّى أحد أبنائه عليه. ومن أهم الدروس التي تعلمها الحسن من وفاة النبي هي أن البقاء للمبادئ وليست للأشخاص وأهمية التعلق بالله وحده فهو الباقي وهو النافع والضار وهو على كل شئ قدير.
2 ـ سقيفة بني ساعدة:
لما علم الصحابة رضي الله عنهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه وهو يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده (3)، والتف الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين وهم مجتمعون مع أبي بكر لترشيح من يتولى الخلافة (4)، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى
_________
(1) استخلاف أبو بكر الصديق صـ 160.
(2) البخاري، رقم 1241، 242.
(3) التاريخ الإسلامي (9/ 21).
(4) عصر الخلافة الراشدة للعمري صـ 40.(1/100)
إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً (1)، .. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمِّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يُوعَك، فلما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم (2)، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر (3)، فلما سكت أردت أن أتكلم ـ وكنت قد زوَّرتُ مقالتي أعجبتني أريد أقدّمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحدِّة، فلما أردتُ أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك.
فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ـ فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ـ فلم أكره مما قال غيرها، والله أن أقدّم فتضرب عنقي لا يُقرِّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تُسوِّل إليَّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكَّك، وعُذيقُها المرحَّب (4)، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار (5). وفي رواية أحمد .. فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فلم يترك شيئاً في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم وإلا ذكره، وقال: ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت
_________
(1) المصدر نفسه صـ 40.
(2) أي عدد قليل.
(3) أي يخرجوننا من أمر الخلافة.
(4) الجزيل: عود ينصب للإبل الجَرْبَى لتحتك به، والمحكك: الذي يحتك به كثيراً، أراد أن يستشفي برأيه، والعذيق النخلة: أي الذي يعتمد عليها.
(5) البخاري، ك الحدود ـ رقم 6830.(1/101)
وادي الأنصار. ولقد علمت يا سعد (1)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فَبَرُّ الناس تبع لبرِّهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم، قال فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء. (2).
وكان أبو بكر الصديق زاهداً في الإمارة وظهر زهده في خطبته التي اعتذر فيها من قبول الخلافة حيث قال: والله ما كنت حرصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة قط ولا كنت فيها راغباً ولا سألتها الله عزَّ وجل في سر وعلانية، ولكني أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة ولكن قلدت أمراً عظيماً مالي به طاقة ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل، ولو وددت أن أقوي الناس عليها مكاني (3)، وقد قام بإستبراء نفوس المسلمين من أي معارضة لخلافته واستحلفهم على ذلك فقال: أيها الناس أذكر الله أيما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه، فقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومعه السيف، فدنا منه حتى وضع رِجلاً على عتبة المنبر، والأخرى على الحصى وقال: والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدّمك رسول الله فمن ذا يؤخرك (4)، هذه هي الحقائق التي عرفها وتعلمها الحسن بن علي عن حادثة السقيفة لا كما يدعي مزورو التاريخ ولم يكن أبو بكر وحده الزاهد في أمر الخلافة والمسئولية، بل أنها روح العصر ـ ويمكن الرجوع إلى النصوص التي تمّ ذكرها بتوسع في كتابي الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق (5)،
ويمكن القول: إن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة لا يخرج عن هذا الاتجاه، بل يؤكد حرص الأنصار على مستقبل الدعوة الإسلامية واستعدادهم المستمر للتضحية في سبيلها، فما أن اطمأنوا على ذلك حتى استجابوا سراعاً لبيعة أبي بكر الذي قبل البيعة لهذه الأسباب، وإلا فإن نظرة الصحابة مخالفة لرؤية الكثير مما جاء بعدهم ممن خالفوا المنهج العلمي، والدراسة الموضوعية، بل كانت دراستهم متناقضة مع روح ذلك
_________
(1) يعني سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه.
(2) مسند أحمد (1/ 5)، صحيح لغيره.
(3) المستدرك (3/ 66) قال الحاكم: حديث صحيح وأقره الذهبي.
(4) الأنصار في العصر الراشدي صـ 108، الرياض النضرة (1/ 216).
(5) الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي البكر الصديق صـ 136 إلى 187 ..(1/102)
العصر، وآمال وتطلعات أصحاب رسول الله من الأنصار وغيرهم، وإذا كان اجتماع السقيفة أدي إلى إنشقاق بين المهاجرين والأنصار كما زعمه بعضهم (1)، فكيف قبل الأنصار بتلك النتيجة وهم أهل الديار وأهل العدد والعدة؟ وكيف انقادوا لخلافة أبي بكر ونفروا في جيوش الخلافة شرقاً وغرباً مجاهدين لتثبيت أركانها؟ لو لم يكونوا متحمسين لنصرتها؟ فالصواب اتضح من حرص الأنصار على تنفيذ سياسة الخلافة والاندفاع لمواجهة المرتدين، وأنه لم يتخلف أحد من الأنصار عن بيعة أبي بكر فضلاً عن غيرهم من المسلمين وأن أخوة المهاجرين والأنصار أكبر من تخيلات الذين سطروا الخلاف بينهم في رواياتهم المغرضة (2) والتي زعموا أن حادثة السقيفة أثرت في نفسية الحسن بن علي لما رأى من التآمر والمكر والخديعة كما زعم صاحب كتاب حياة الإمام الحسن بن علي (3).
فالحقيقة التي يعرفها الحسن بن علي رضي الله عنه أنه لم يحدث أزمات لا بسيطة ولا خطيرة، ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في الخلافة كما زعم بعض كتاب التاريخ الذين اعتمدوا على روايات الروافض، وكتب الأدب، وأكاذيب التاريخ، ولم يثبت النقل الصحيح تآمراً حدث بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة لاحتكار الحكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (4)، فهم كانوا أخشى لله وأتقى من أن يفعلوا ذلك.
إن الحسن رضي الله عنه حدثنا بأنه عقل الصلوات الخمس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يتردد على مسجد رسول الله ولا شك في أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم أبا بكر على غيره أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم، وقد علم ببيعة المسلمين لأبي بكر بعد جده، فمعتقد الحسن بن علي رضي الله عنه في خلافة أبي بكر، معتقد أهل السنة والجماعة القائل بصحة وشرعية خلافة أبي بكر الصديق بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم
_________
(1) أنظر: الإسلام وأصول الحكم، محمد عمارة صـ 71 إلى 74.
(2) الأنصار في العصر الراشدي.
(3) أنظر: حياة الحسن بن علي، باقر شريف القرشي (1/ 123 إلى 139).
(4) استخلاف أبو بكر، جمال عبد الهادي صـ 50، 51، 53.(1/103)
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة، فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يختلف منهم أحد ولم يكن الرب جلا وعلا ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه (1)، فعندما سئل سعيد بن زيد متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة (2)، وقد نقل جماعة من أهل العلم المعتبرين إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر رضي الله عنه أولى بالخلافة من كل أحد (3)، كالخطيب البغدادي (4) وأبي الحسن الأشعري (5)، وعبد الملك الجويني (6) وأبي بكر البقلاني (7)،
وقد استوعب الحسن بن علي رضي الله عنه أسس الخلافة الإسلامية الراشدة وبأنها تقوم على الشورى، والبيعة، وقد أجمع المسلمون على وجوب الخلافة، وأن تعيين الخليفة فرض على المسلمين يرعى شئون الأمة ويقيم الحدود ويعمل على نشر الدعوة الإسلامية وعلى حماية الدين والأمة بالجهاد وعلى تطبيق الشريعة وحماية حقوق الناس ورفع المظالم وتوفير الحاجات الضرورية لكل فرد (8).
هذا وقد قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة ببيعة الصديق خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة (9).
وقد تعلم الحسن رضي الله عنه مما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها، أن قيادة الأمة لا تقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، .. وأن الحوار
_________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 550).
(2) تاريخ الطبري (3/ 207).
(3) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (2/ 550).
(4) تاريخ بغداد (10/ 130 ـ 131).
(5) الإبانة عن أصول الديانة صـ 66.
(6) كتاب الإرشاد صـ 361.
(7) الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به صـ 65 ..
(8) الخلافة والخلفاء الراشدون صـ 163.
(9) الخلافة والخلافاء الراشدون صـ 66، 67.(1/104)
الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية (1).
3 ـ بعض ملامح الحكم في عهد الصديق:
إن الحسن بن علي رضي الله عنه قد استوعب هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين، ولذلك نجده عندما تنازل لمعاوية شرط عليه الالتزام بالكتاب والسنة ومنهج الخلفاء الراشدين، وهذا يدلنا على أنه على علم ودراية بعهد الصديق رضي الله عنهما، وخطة الصديق عندما تولى القيادة تعتبر من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها وقد قرر فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مرتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهميته ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد (2)، ومن خلال الخطبة، والأحداث التي تمت بعد وفاة رسول، تعلم الحسن بن علي ملامح نظام الحكم في بداية عهد الخلافة الراشدة والتي من أهمها:
أ ـ القرآن الكريم والسنة النبوية:، المرجعية العليا في دولة الصديق رضي الله عنه:
قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم (3).
ب ـ حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
وجاء في خطبته: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني (4)
ت ـ إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس:
وجاء في خطبته أيضاً: الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله (5).
_________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، للشجاع صـ 256.
(2) التاريخ الإسلامي (9/ 28).
(3) البداية والنهاية (6/ 306).
(4) البداية والنهاية (6/ 305).
(5) البداية والنهاية (6/ 305).(1/105)
ث ـ الصدق أساس التعامل بين الحكم والمحكوم:
وجاء في خطبته أيضاً: الصدق أمانة والكذب خيانة (1). أن الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، في العهد الراشدي.
ج ـ إعلان التمسك بالجهاد وإعداد الأمة لذلك:
قال أبو بكر رضي الله عنه: وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل (2)، وهذا ما فهمه الصديق من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تبايعتم بالعينة، ,اخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه، حتى ترجعوا إلى دينكم (3).
ح ـ تطهير المجتمع من الفواحش:
قال أبو بكر رضي الله عنه: ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء (4)، والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا (5). هذه بعض الأهداف التي بينها الصديق في خطابه للأمة بعد البيعة العامة والذي رسم فيه سياسة الدولة فحدد مسئولية الحاكم ومدى العلاقة بينه وبين المحكومين وغير ذلك من القواعد المهمة في بناء الدولة وتربية الشعوب (6).
4 ـ مبايعة والد الحسن للصديق رضي الله عنهما:
جاءت روايات صحيحة السند تفيد بأن علياً والزبير رضي الله عنهما بايعا الصديق في أول الأمر وقد ذكرت تفاصيلها في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (7)، وقد رأى الحسن والده في مواقفه الداعمة للصديق، فقد كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لا يفارق الصديق في وقت
_________
(1) المصدر نفسه (6/ 305).
(2) المصدر نفسه (6/ 305).
(3) سنن أبي داود رقم 3462 صححه الألباني.
(4) البداية والنهاية (6/ 305).
(5) صحيح ابن ماجة للألباني رقم 4019.
(6) الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق صـ 183.
(7) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (1/ 187).(1/106)
من الأوقات ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين، وكان رضي الله عنه لأبي بكر عيبة نصح (1) له مرجحاً لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شئ آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ما جاء في موقفه من توجه أبي بكر رضي الله عنه بنفسه إلى ذي القصة، وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي (2)، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما برز أبو بكر إلى ذي القصة واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبداً، فرجع (3)،
فلو كان علي رضي الله عنه ـ أعاذه الله من ذلك ـ لم ينشرح صدره لأبي بكر، وقد بايعه على رغم من نفسه، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها علي، فيترك أبا بكر وشأنه، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو له الجو، وإذا كان فوق ذلك ـ حاشاه الله ـ من كراهته له، وحرصه على التخلص منه، أغرى به أحداً يغتاله، كما يفعل السياسيون الانتهازيون بمنافسيهم، وأعدائهم (4)، وقد كان رأي علي رضي الله عنه مقالتة المرتدين وقال لأبي بكر لما قال لعلي، ما تقول يا أبا الحسن؟ قال أقول: إنك إن تركت شيئاً مما كان أخذه منهم رسول الله، فأنت على خلاف سنة الرسول، فقال: أما لئن قلت: ذاك لأقاتلنهم وإن منعوني عقالاً (5)، ولا شك أن الحسن بن علي سمع والده في مدحه لأبي بكر وعمر مثل قوله: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى (6)، وقوله: ألا أخبركم
_________
(1) العيبة: وعاء من خوص ونحوه ينقل فيه الزرع المحصور ووعاء من أدم يكون فيه المتاع.
(2) المرتضى للندوي صـ 97.
(3) البداية والنهاية (6/ 314 ـ 315) ..
(4) المرتضى للندوي صـ 97.
(5) المختصر من كتاب الموافقة بين أهل البيت والصحابة للزمخشري صـ 48.
(6) فضائل الصحابة (1/ 83) في سنده ضعف.(1/107)
بخير هذه الأمة بعد أبي بكر وعمر (1)، وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة قيل أنها تبلغ ثمانين طريقاً (2)، وعن صلة بن زفر العبسي قال: كان أبو بكر إذا ذكر عند علي قال: السباق تذكرون والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر (3)،
وقد كان علي رضي الله عنه يمتثل أوامر الصديق فعندما جاء وفد من الكفار إلى المدينة، ورأوا بالمسلمين ضعفاً وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة الطغاة وأحس منهم الصديق خطراً على عاصمة الإسلام والمسلمين، أمر الصديق بحراسة المدينة وجعل الحرس على انقابها يبيتون بالجيوش، وأمر علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس، وبقوا ذلك حتى آمنوا منهم (4)، وللتعامل الموجود بينهم وللتعاطف والتوادد والوئام الكامل كان عليّ وهو سيد أهل البيت ووالد سبطي الرسول صلوات الله وسلامه عليه، يتقبل الهدايا والتحف داب الأخوة المتساورين ما بينهم والمتحابين كما قبل الصهباء الجارية التي سبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية (5)، وأيضاً منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أسرت مع من أسر في حرب اليمامة وولدت له أفضل أولاده بعد الحسن والحسين وهو محمد بن الحنفية، وكانت خولة من سبي أهل الردة وبها يعرف ابنها ونسب إليها محمد بن الحنفية (6)، يقول الأمام الجويني عن بيعة الصحابة لأبي بكر: وقد اندرجوا تحت الطاعة عن بكرة أبيهم لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وكان علي رضي الله عنه سامعاً لأمره، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد، ونهض إلى غزو بني حنيفة (7)، ووردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية والخمس من الغنائم وأموال الفئ من الصديق رضي الله عنهم أجمعين وكان عليّ
_________
(1) مسند أحمد (1/ 106، 110، 127) صحح أحمد شاكر.
(2) منهاج السنة (3/ 162).
(3) الطبراني في الأوسط (7/ 207، 208) إسناده ضعيف ..
(4) تاريخ الطبري (4/ 64)، الشيعة وأهل البيت صـ 71.
(5) الطبقات (3/ 20) المصدر نفسه.
(6) الطبقات (3/ 20).
(7) الإرشاد للجويني صـ 428 نقلاً عن أصول مذهب الشيعة للغفاري.(1/108)
هو القاسم والمتولي في عهده على الخمس والفئ وكانت هذه الأموال بيد علي، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن (1)،
وكان علي رضي الله عنه يؤدي الصلوات الخمسة في المسجد خلف الصديق، راضياً بإمامته، ومظهراً للناس إتفاقه ووئامه معه (2) وهذا ما عرفه الحسن بن علي في علاقة والده بالصديق، بالإضافة إلى المصاهرات بين الصديق وأهل البيت، وتسمية أهل البيت بعض أسمائهم باسم أبي بكر، فقد كانت صلة أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعضاء أهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، وكانت هذه المودة والثقة متبادلة وكانت من المتانة بحيث لا يتصور معها التباعد والاختلاف مهما نسج المسامرون الأساطير والأباطيل، فالصديقة عائشة بنت الصديق بنت أبي بكر كانت زوجة جد الحسن بن علي صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إليه مهما احترق الحساد ونقم المخالفون، فإنها حقيقة ثابتة وهي طاهرة مطهرة بشهادة القرآن مهما جحدها المبطلون وأنكرها المنكرون، ثم أسماء بنت عميس التي كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب شقيق علي، فمات عنها وتزوجها الصديق وولدت له ولداً سماه محمداً الذي ولاه على مصر، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له ولداً سماه يحي (3)،
وكان من حب أهل البيت للصديق والتوادد ما بينهم أنهم سموا أبنائهم بأسماء أبي بكر، وهذا دليل على حب ومؤاخاة وإعظام علي للصديق رضي الله عنهما، والجدير بالذكر أنه ولد له هذا الولد بعد تولية الصديق الخلافة والإمامة، بل بعد وفاته كما هو معروف بداهة، وعلي رضي الله عنه لم يسم ابنه بأبي بكر إلا متيمناً بالصديق، وإظهاراً له المحبة والوفاء وحتى بعد وفاته وإلا فلا يوجد في بني هاشم رجل قبل علي سمي ابنه بهذا الإسم، ثم لم يقتصر علي بهذا التيمن والتبرك وإظهار المحبة والصداقة للصديق بل بعده بنوه أيضاًُ مشوا مشيه ونهجوا نهجه، فالحسن والحسين سميا كل واحد منهم أحد أولادهما بأبي بكر، وحتى اليعقوبي والمسعودي ذكر ذلك، وهما من مؤرخي الشيعة (4)، واستمر أهل البيت
_________
(1) الشيعة وأهل البيت صـ 72 ..
(2) المصدر نفسه صـ 72.
(3) خلافة علي بن أبي طالب وترتيب وتهذيب كتاب البداية والنهاية للسُّلمي صـ 22 ..
(4) تاريخ اليعقوبي (2/ 228).(1/109)
يسمون من أسماء أولادهم بأبي بكر، ولا شك أن العلاقة المتينة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما كان لها أثرها البالغ في نفسية وقلب الحسن بن علي مما ترتب عليه تقديره للصديق واحترامه ومعرفة فضله ومكانته في الإسلام.
5 ـ إنفاذ الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما:
ومن الأحداث المشهورة في عهد الصديق والتي لها أثرها الخاص في ثقافة الحسن وجيله إنفاذ أبي بكر لجيش أسامة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإصراره على ذلك تنفيذاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اقترح بعض الصحابة على الصديق رضي الله عنه بأن يبقى الجيش فقالوا: إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب كما ترى ـ قد انتقضت بك فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين (1)، وأرسل أسامة من معسكره من الجرف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس، وقال: إنَّ معي وجوه المسلمين وجلتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله، وحرم رسول الله، والمسلمين أن يتخطفهم المشركون (2)، وبعد مناقشات ومداولات أمر الصديق بفض الاجتماع الأول ثم دعاهم إلى اجتماع عام آخر في المسجد، وفي هذا الاجتماع طلب من الصحابة أن ينسوا فكرة إلغاء مشروع وضعه رسول الله بنفسه وأبلغهم أنه سينفذ هذا المشروع حتى لو تسبب تنفيذه في احتلال المدينة من قبل الأعراب المرتدين، فقد وقف خطيباً وخاطب الصحابة (3) قائلاً: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته (4) وطلبت الأنصار رجلاً أقدم سناً من أسامة يتولى أمر الجيش وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصديق في ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: فإن الأنصار تطلب رجلاً أقدم سناً من أسامة رضي الله عنه فوثب أبو بكر رضي الله عنه وكان جالساً وأخذ بلحية عمر رضي الله عنه وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب:
_________
(1) البداية والنهاية (6/ 308).
(2) الكامل لابن الأثير (2/ 226).
(3) الشورى بين الأصالة والمعاصرة صـ 83.
(4) تاريخ الطبري (4/ 45).(1/110)
استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أعزله (1)، ..
ثم خرج أبو بكر الصديق حتى أتاهم، فأشخصهم، وشيعهم، وهو ماش راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر رضي الله عنهما، فقال له أسامة رضي الله عنه: يا خليفة رسول الله: والله لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا تنزل، والله لا أركب. وما عليَّ أن أُغبَّر قدميَّ في سبيل الله (2). ثم قال الصديق رضي الله عنه لأسامة رضي الله عنه: إن رأيت تعينني بعمر رضي الله عنه فافعل، فأذن له (3). ثم توجه الصديق رضي الله عنه إلى الجيش فقال: يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر، فاحفظوها عني لا تخونوا ولا تغلوا، وتغدروا ولا تمثلوا (4)، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغّوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منه شيئاً بعد شئ فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواماً قد فحصوا (5) أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فأخفقوهم (6) بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله (7)، وأوصى الصديق أسامة رضي الله عنهما أن يفعل ما أمر به النبي الكريم قائلاً: أصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم أبدأ ببلد قضاعة ثم إيت آبل (8)، ولا تقصِّرن في شئ من أمر رسول الله، ولا تعجلنَّ لما خلَّفت عن عهده (9)، ومضى أسامة بجيشه وانتهى إلى ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من بث الخيول من قبائل قضاعة، والغارة على آبل، فسَلِم وغنم (10)،
وكان مسيره ذاهباً وقافلاً أربعين يوماً (11).
_________
(1) المصدر نفسه (4/ 46).
(2) المصدر نفسه (4/ 46).
(3) تاريخ الطبري (4/ 46).
(4) ولا تمثلوا: يقال مثلت بالحيوان أمثل به مثلاً إذا قطعت أطرافه وشوَّهت به.
(5) فحصوا: حلقوا.
(6) فأخفقوهم: من أخفق فلاناً أي صرعه.
(7) تاريخ الطبري (4/ 46).
(8) آبل: منطقة في جنوب بلاد الأردن اليوم.
(9) تاريخ الطبري (4/ 47).
(10) تاريخ الطبري (4/ 47) ..
(11) المصدر نفسه (4/ 47)، تاريخ خليفة بن خياط صـ 101.(1/111)
وقد قدم بنعي رسول الله على هِرَقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبراً واحداً، فقالت الروم: ما بال هؤلاء يموت صاحبهم ثم أغاروا على أرضنا (1)، وقال العرب: لو لم يكن لهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش (2)، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه (3) ولقد اختلق بعض الشيعة الرافضة حديثاً نسبوه لرسول الله، لا أصل له في كتب السنة فقالوا: بأن رسول الله لعن من تخلف عن جيش أسامة، وهذا الحديث منكر لا أصل له وهم ما احتجوا بهذا الحديث المختلق إلا ليجعلوا من أبي بكر وعمر أول الملعونين. فقد قالوا: وقد تخلف أبو بكر وعمر عن جيش أسامة ولم يجد الرافضة الحديث مسنداً إلا من طريق منبوذ مجهول لدى الرافضة والسنة لقد استفاد الحسن بن علي رضي الله عنه وشباب ذلك الجيل من قصة انفاذ جيش أسامة دروساً وعبراً منها.
أ ـ الأحوال تتغير وتتبدل والشدائد لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدين:
فقد علّم الصديق الأمة إذا نزلت بها الشدة وألمت بها المصيبة أن تصبر، فالنصر، مع الصبر، وأن لا تيأس ولا تقنط من رحمة الله ((إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) (الأعراف، آية: 56). وليتذكر المسلم دائماً أن الشدة مهما عظمت، والمصيبة مهما اشتدت وكبرت فإن من سنن الله الثابتة، ((فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)) (الإنشراح، آية: 5 ـ 6). وإن المسلم لأمره عجيب في هذه الدنيا فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: عجاً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له (4). فالشدائد والمصائب مهما عظمت وكبرت لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدين، فوفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم تشغل الصديق عن أمر الدين وأمر ببعث أسامة في ظروف كالحة مظلمة بالنسبة للمسلمين ولكن ما تعلمه الصديق من رسول الله من
_________
(1) عهد الخلفاء الراشدين للذهبي صـ 20.
(2) قصة بعض أبي بكر جيش أسامة د. فضل إلهي صـ 14.
(3) الكامل لابن الأثير (2/ 227).
(4) مسلم (4/ 2295).(1/112)
الاهتمام بأمر الدين مقدم على كل شئ وبقي هذا الأمر حتى ارتحل من هذه الدنيا (1)، وقد تعلم الحسن بن علي رضي الله عنه هذا الدرس واستوعبه وعاش به في حياته.
ب ـ المسيرة الدعوية لا ترتبط بأحد، ووجوب اتباع النبي صلي الله عليه وسلم فقد تعلم الحسن بن علي من قصة إنفاذ جيش أسامة بأن مسيرة الدعوة لم ولن تتوقف، حتى بموت سيد الخلق، وإمام الأنبياء وقائد المسلمين صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصديق رضي الله عنه قبل ذلك قد بين في خطبته التي ألقاها إثر بيعته عن عزمه على مواصلة بذل الجهود لخدمة هذا الدين (2)، وقد جاء في رواية قوله: فاتقوا الله أيها الناس، واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة، وما وضعناها بعد، ولنجاهدنَّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغين أحد إلا على نفسه (3). ومن الدروس التي استفادها الحسن بن علي من قصة أنفاذ الصديق جيش أسامة رضي الله عنهم أنه يجب على المسلمين اتباع أمر النبي صلى الله عليه وسلم، في السراء والضراء، فقد بين الصديق من فعله أنه عاض على أوامر النبي صلى الله عليه وسلم بالنواجذ ومنفِّذها مهما كثرت المخاوف وشدّت المخاطر فمن أقوال الصديق الخالدة في تلك الحادثة: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفنني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته (4)،
وقدَّم بموقفه هذا صورة تطبيقية لقول الله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)) (الأحزاب، آية: 36)، وقد تعلم المسلمون أن الله تعالى ربط نصر الأمة وعزها باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أطاعه فله النصر والتمكين، ومن عصاه فله الذل والهوان، فسر حياة الأمة في طاعتها لربها واقتدائها بسنَّة نبيها صلى الله عليه وسلم (5).
_________
(1) قصة بعث أبي بكر جيش أسامة صـ 24.
(2) قصة بعث أبي بكر جيش أسامة صـ 27.
(3) البداية والنهاية (5/ 213، 214).
(4) تاريخ الطبري (4/ 45) ..
(5) الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق للصَّلاَّبيِّ صـ 227، قصة جيش أسامة صـ 227.(1/113)
جـ ـ حدوث الخلاف بين المؤمنين وردَّه إلى الكتاب والسنَّة:
ومما إستفاده الحسن بن علي رضي الله عنه من هذه القصة أنه قد يحدث الخلاف بين المؤمنين الصادقين حول بعض الأمور فقد اختلفت الآراء حول تنفيذ جيش أسامة رضي الله عنه في تلك الظروف الصعبة، وقد تعددت الأقوال حول إمارته ولم يصر أحد على رأي بعد وضوح فساده وبطلانه، وعندما ردّ الصديق الخلاف إلى ما ثبت من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببعث أسامة وبين رضي الله عنه أنه ما كان ليفرِّط فيما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وضحه لهم الصديق، وكما أنه لا عبرة لرأي الأغلبية إذا كان مخالفاً للنص، فقد رأى عامّة الصحابة حبس جيش أسامة، وقالوا للصديق: إن العرب قد انتقصت عليك وإنك لا تصنع بتفريق الناس شيئاً (1)، فأولئك الناس لم يكونوا كعامة الناس بل كانوا من الصحابة الذين هم خير البشر وجدوا على الأرض بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام، لكن الصديق رضي الله عنه لم يستجب لهم مبيناً أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأكرم، وأوجب من رأيهم كلهم (2)، قال الحافظ بن حجر: تعليقاً على رأي الأكثرية، حول وفاته صلى الله عليه وسلم: فيؤخذ منه أن الأقل عدداً في الاجتهاد قد يصيب ويخطئ الأكثرية، فلا يتعين الترجيح، بالأكثر (3)، فخلاصة الكلام إن مما نستفيده من قصة تنفيذ الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما أن تأييد الكثرة لرأي ليس دليلاً على إصابته (4)، ومما يستفاد من هذه القصة انقياد المؤمنين وخضوعهم للحق إذا اتضح لهم، فعندما ذكرهم الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بتنفيذ جيش أسامة وهو الذي عين أسامة أميراً على الجيش، انقاد أولئك الأبرار للأمر النبوي الكريم (5).
س ـ جعل الدعوة مقرونة بالعمل:
فقد تعلم الحسن بن علي رضي الله عنه من قصة جيش أسامة أهمية جعل الدعوة مقرونة بالعمل، فقد علم أن الصديق لم يقتصر على الإصرار على إمارة أسامة فحسب بل قدم اعترافاً عملياً بإمارته، وقد تجلى ذلك في أمرين:
_________
(1) تاريخ خليفة بن خياط صـ 227.
(2) قصبة بعث أبي بكر جيش أسامة صـ 44.
(3) فتح الباري (8/ 146).
(4) قصة بعث أبي بكر جيش أسامة 46.
(5) المصدر نفسه صـ 52.(1/114)
- مشى أبو بكر رضي الله عنه مع أسامة رضي الله عنه، وهو راكب وقد كان ابن عشرين سنة من عمره وأصر على المشي مع أسامة رضي الله عنه، كما أصر على بقاء أسامة راكباً لما طلب منه أسامة رضي الله عنه إما أن يركب هو، أو يأذن له بالنزول، فلم يوافق رضي الله عنه لا على هذا ولا على ذاك، وكأن الصديق بمشيه ذلك يخاطب الجيش فيقول: انظروا أيها المسلمون أنا أبو بكر رغم كوني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي مع أسامة وهو راكب إقراراً وتقديراً لإمارته.
- كان أبو بكر الصديق يرغب في بقاء عمر بن الخطاب نظراً لحاجته إليه، لكنه لم يأمره بذلك، بل استأذن من أسامة في تركه إياه بالمدينة إن رأى هو ذلك مناسباً، وبهذا قدَّم الصديق رضي الله عنه صورة تطبيقية أخرى لاعترافه واحترامه لإمارة أسامة رضي الله عنه، وفيها بلا شك دعوة قوية للجيش إلى الإقرار والانقياد لإمارته وهذا الذي اهتم به الصديق رضي الله عنه من جعل دعوته مقرونة بالعمل هو الذي أمر به الإسلام ووبّخ الرب عز وجل أولئك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم (1)، قال تعالى: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) (البقرة، آية: 44).
ش ـ مكانة الشباب في الإسلام:
ومما يتجلى في هذه القصة كذلك منزلة الشباب العظيمة في خدمة الإسلام، فقد عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنهما أميراً على الجيش المعدّ لقتال الروم ـ القوة العظمى في زعم الناس في ذلك الوقت ـ وكان عمره آنذاك عشرين سنة، أو ثماني عشرة سنة، وأقره أبو بكر الصديق رضي الله عنه على منصبه رغم انتقاد الناس، وعاد الأمير الشاب بفضل الله من مهمته التي أسندت إليه غانماً ظافراً وفي هذا توجيه للشباب في معرفة مكانتهم في خدمة الإسلام (2). فعلى الدعاة والمربين إعطاء هذا الجانب حقه بالإهتمام، وفتح المجال أمام الطاقات الشابة لكي تبدع في خدمة دينها وهذه السنة النبوية تجدد الحيوية والنشاط في الأمة وتساهم في تفجير طاقات خلاَّقة تقوم بالدور الحضاري المنوط بالمسلمين.
_________
(1) قصة بعث أبي بكر جيش أسامة صـ 66.
(2) المصدر نفسه صـ 70.(1/115)
ل ـ صورة مشرقة من آداب الجهاد في الإسلام:
وتعلم الحسن بن علي رضي الله عنه من قصة بعث أبي بكر لجيش أسامة الصورة المشرفة للجهاد الإسلامي وقد تجلت تلك الصورة المشرقة في وصية أبي بكر الصديق لجيش أسامة عند توديعهم إياهم، ولم يكن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وصاياه للجيوش إلا مستناً بسنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث كان عليه الصلاة والسلام يوصي الأمراء والجيوش عند توديعهم (1)، ومن خلال الوصية التي جاءت في البحث تظهر الغاية من حروب المسلمين فهي دعوة إلى الإسلام، فإذا ما رأت الشعوب جيشاً يلتزم بهذه الوصايا لا يملك إلا الدخول في دين الله طواعية واختياراً (2).
ي ـ أثر جيش أسامة على هيبة الدولة الإسلامية:
عاد جيش أسامة ظافراً غانماً بعدما أرهب الروم حتى قال لهم هرقل وهو بحمص بعد ما جمع بطارقته، هذا الذي حذرتكم، فأبيتم أن تقبلوا مني!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر فتغير عليكم ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم (3)، وأصاب القبائل العربية في الشمال الرعب والفزع من سطوة الدولة الإسلامية، وكان لهذه الغزوة أثر في حياة المسلمين وفي حياة العرب الذين فكروا في الثورة عليهم، وفي حياة الروم الذين تمتد بلادهم على حدودهم (4) فقد فعل هذا الجيش بسمعته ما لم يفعله بقوته وعدده، فأحجم من المرتدين من أقدم، وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال، وقبل أن يصنع السلاح (5)، حقاً لقد كان إرسال هذا الجيش نعمة على المسلمين، إذ أمست جبهة الردة في الشمال أضعف الجبهات، ولعل من آثار هذا أن الجبهة في وقت الفتوحات كان كسرها أهون على المسلمين من كسر جبهة العدو في العراق، كل ذلك يؤكد أن أبا بكر رضي الله عنه
_________
(1) المصدر نفسه صـ 80.
(2) تاريخ الدعوة إلى الإسلام صـ 269.
(3) ولم تكلم: تصاب بالجروح.
(4) الصديق ـ لهيكل باسا صـ 107.
(5) عبقرية الصديق ـ للعقاد صـ 107.(1/116)
كان في الأزمات، من بين جميع الباحثين عن الحل، أثقبهم نظراً، وأعمقهم فهماً (1)، وقد أثبتت الأحداث تأثر الحسن بن علي، بالخلفاء الراشدين في إدارته للأزمات، فكان في خلافته من أعمق الناس فهماً وأبعدهم نظراً وأشدهم حرصاً على وحدة المسلمين.
7 ـ حروب الردة:
كان رأي الصديق في حرب المرتدين رأياً ملهماً، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله ثم القرار الحاسم من أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردة لتغير وجه التاريخ وتحولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فساداً (2)، لقد تجلى فهمه الدقيق للإسلام وشدة غيرته على هذا الدين في قوله: قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي (3)؟ لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين، وما عزم على خوض الحرب إلا أنه كان سريع القرار حاسم الرأي فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر ـ هذا الخليفة العظيم ـ في حياته كلها (4)، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه، وأصبح قوله: والله لو منعوني عقالاً (5)، كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه (6)، من أقواله الخالدة التي حفظها لنا التاريخ ولم تهملها الليالي ولم تفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون ولقد استخدم في جهاده للمرتدين دهاء وحنكة سياسية ورؤية استراتيجية واضحة تمثلت في أساليب عدة منها، النفسية والدعوية، والإستخباراتية، والإعلامية، والعلمية، وتوجها بجيوشه المظفرة التي قضت على حركة الردة في جزيرة العرب
_________
(1) حركة الردة د. علي العتوم صـ 168.
(2) الشورى بين الأصالة والمعصارة صـ 86.
(3) المرتضى لأبي الحسن الندوي صـ 70 مشكاة المصابيح 6034.
(4) الشورى بين الأصالة والمعاصرة صـ 87.
(5) العقال: هو الحبل الذي يعقل به البعير.
(6) البخاري رقم 6924.(1/117)
ولقد فهم وتعلم الحسن فقه الصديق في التعامل مع المرتدين ولمس بعض فقه التمكين في جهاده للمرتدين والتي من أهم معالمه:
ـ استقرار التنظيم الإداري في الجزيرة (1).
ولا شك أن حروب الردة وأسبابها، وفقه الصديق في القضاء عليها أخذت بلباب الحسن بن علي وشكلت جزءاً من ثقافته سواء عن طريق السماع أو المشاهدة.
ـ كما أن معالم السياسة الخارجية في دولة الصديق كانت واضحة في حس أبناء ذلك الجيل الذي من نوابغه الحسن بن علي رضي الله عنه، فقد رسمت خلافة الصديق رضي الله عنه أهدافاً في السياسة الخارجية، للدولة الإسلامية والتي كان من أهمها:
ـ بذر هيبة الدولة في نفوس الأمم الأخرى.
ـ العدل بين الأمم المفتوحة والرفق بأهلها.
ـ رفع الإكراه على الأمم المفتوحة.
ـ مواصلة الجهاد الذي أمر به المولى عز وجل في القرآن.
ـ كما أن معالم التخطيط الحربي عند الصديق أصبحت من ثقافة ذلك الجيل وأدبياته خصوصاً للاطلاع القيادة الشبابية وعلى رأسهم الحسن بن علي، فقد وضع الصديق مع مستشاريه من الصحابة خطوطاً رئيسية للخطة الحربية التي سار عليها، وقد كانت هذه الخطة المحكمة عاملاً من عوامل نزول النصر والتمكين من الله عز وجل للمسلمين ومن هذه الخطوط:
ـ عدم الإيغال في بلاد العدو حتى تدين للمسلمين.
ـ التعبئة وحشد القوات.
ـ تنظيم عملية الإمداد للجيوش.
ـ تحديد الهدف من الحرب.
ـ إعطاء الأفضلية لمسارح العمليات.
ـ عزل ميدان المعركة.
_________
(1) الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر صـ 329 إلى 365.(1/118)
ـ التطور في أساليب القتال.
ـ سلامة خطوط الاتصال مع القادة.
ـ ذكاء الخليفة وفطنته (1). فقد امتازت الخطط الحربية الإسلامية في بداية الفتوحات بوجود العقل المدبر، ذي الفطنة والذكاء والكياسة والفراسة، وهو الصديق وقد ساعد أبو بكر على فهمه الواسع للتخطيط الحربي طول ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد تربى على تعليمه وتوجيهاته.
فكسب علوماً شتى، وخبرات متنوعة، فقام بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام الخلافة خير قيام، فحمل البصيرة الواعية، وزود الجيوش بالنصائح الغالية، وأرسل الإمدادات في أوقاتها تسعف المجاهدين، وتمدهم بالهمة والعزيمة الماضية (2) إن الحسن بن علي رضي الله عنه تربى على كتاب الله وهدي رسوله وتشرّب هدى الخلفاء الراشدين المهديين والذين في مقدمتهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ثانياً: في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
كان عمر رضي الله عنه شديد الإكرام لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارهم حتى على أبنائه، وأسرته وله في ذلك مواقف كثيرة منها:
1 ـ أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر:
جاء فيما رواه الحسين بن علي رضي الله عنه: إن عمر قال لي ذات يوم: إي بني لو جعلت تأتينا وتغشانا؟ فجئت يوماً وهو خال بمعاوية، وابن عمر بالباب لم يؤذن له، فرجعت فلقيني بعد، فقال: يا بني لم أراك تأتينا؟ قلت: جئت وأنت خال بمعاوية فرأيت ابن عمر رجع، فرجعت فقال: أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر، إنما أنبت في رؤوسنا ما ترى: الله ثم أنتم، ووضع يده على رأسه (3).
2 ـ والله مهنأ لي ما كسوتكم:
روى ابن سعد عن جعفر بن محمد الباقر عن أبيه على بن الحسين، قال: قدم على عمر حلل من اليمن، فكسا الناس فراحوا في الحلل، وهو بين القبر والمنبر
_________
(1) المصدر نفسه صـ 454 إلى 45.
(2) تاريخ الدعوى الإسلامية صـ 336.
(3) المرتضى صـ 11، كنز العمال (7/ 105) الإصابة (1/ 133).(1/119)
جالس، والناس يأتونه فيسلمون عليه ويدعون له، فخرج الحسن والحسين من بيت أمهما فاطمة رضي الله عنها يتخطيان الناس، ليس عليهما من تلك الحلل شئ، وعمر قاطب صار بين عينيه ثم قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم، قالوا يا أمير المؤمنين، كسوت رعيتك فأحسنت، قال: من أجل الغلامين يتخطيان الناس وليس عليهما من شئ كبرت عنهما وصغرا عنها ثم كتب إلى والي اليمن أن أبعث بحلتين لحسن وحسين وعجل، فبعث إليه بحلتين فكساهما (1).
3 ـ تقديم الحسن والحسين وبني هاشم في العطاء:
عن أبي جعفر أنه لما أراد عمر أن يفرض للناس بعدما فتح الله عليه، وجمع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أبدأ بنفسك، فقال: لا والله بالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بني هاشم رهط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرض للعباس، ثم لعلي، حتى وإلى ما بين خمس قبائل، حتى انتهى إلى بني عدي ابن كعب، فكتب: من شهد بدراً من بني هاشم، ثم من شهد بدراً من بني أمية بن عبد شمس، ثم الأقرب، فالأقرب ففرض الاعطيات لهم (2)، وألحق الحسن والحسين بفريضة أبيهما مع أهل بدر لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرض لكل واحد منهما خمسة آلاف درهم (3). وفي هذه القصة تظهر حقيقة محبة عمر لآل البيت عموماً والحسن والحسين خصوصاً، حيث خصهم بأن جعلهم مع الطبقة الأولى من سادات الصحابة في الغطاء وما ذلك إلا محض المحبة لهما وتقديراً لهما من مكانتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 ـ معاملة عمر بن الخطاب للسيدة فاطمة والدة الحسن رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن أسلم العدوي قال: لما بويع لأبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان علي والزبير بن العوام يدخلان على فاطمة فيشاورانها، فبلغ عمر فدخل على فاطمة، فقال: يا بنت رسول الله ما أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك وما أحد من الخلق بعد أبيك
_________
(1) المرتضى صـ 11، الإصابة (1/ 106).
(2) الخراج لأبي يوسف صـ 24، 35 المرتضى ص 118.
(3) تاريخ دمشق الكبير (14/ 6).(1/120)
أحب إلينا منك، وكلمها، فدخل علي والزبير على فاطمة فقالت: انصرفا راشدين، فما رجعا إليهما حتى بايعا (1)، وهذا هو الثابت الصحيح والذي مع صحة سنده ينسجم مع روح ذلك الجيل وتزكية الله له وقد زاد رواة الشيعة الرافضة في هذه الرواية واختلقوا إفكاً وبهتاناً وزوراً وقالوا بأن عمر قال: إذا اجتمع عندك هؤلاء النفر أحرق عليهم هذا البيت، لأنهم أرادوا شق عصى المسلمين بتأخرهم عن البيعة ثم خرج عنها، فلم يلبث أن عادوا إليها، فقالت لهم: تعلمون أن عمر جاءني وحلف بالله لأن أنتم عدتم إلى هذا البيت ليحرقنه عليكم وايم الله أنه ليصدقن فيما حلف عليه، فانصرفوا عني فلا ترجعوا إليّ، ففعلوا ذلك، ولم يرجعوا إليها إلا بعدما بايعوا (2).
وهذه القصة الباطلة لم تثبت عن عمر رضي الله عنه، ودعوى أن عمر رضي الله عنه همّ بإحراق بيت فاطمة، من أكاذيب الرافضة، وقد اوردها مع أكاذيب أخرى الطبري الطبرسي في كتابه دلائل الإمامة (3)، عن جابر الجعفي، وهو رافضي كذاب باتفاق أئمة الحديث كما في الميزان الذهبي (4)، وتهذيب التهذيب (5)، وزعم بعض الروافض أن عمر ضرب فاطمة حتى اسقط ولدها محسنا وهو في بطنها، وهذه من الأكاذيب الرافضية التي لا أساس لها من الصحة وما علموا إنهم يطعنون في علي رضي الله عنه وذلك باتهامه بالجبن والسكوت عن عمر وهو من أشجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (6)، بل إن بعض عقلاء الشيعة أنكر صحة هذا الهذيان والزور (7). علما بأن محسن ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك بالرواية الصحيحة في مسند الإمام أحمد كما سبق
5 ـ زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب:
كان عمر يكن لأهل البيت محبة خاصة لا يكنها لغيرهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أوص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم أهل البيت ورعاية
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبه: المصنف (14/ 567) إسناده صحيح.
(2) عقائد الثلاثة والسبعين فرقة لأبي محمد اليمني (1/ 140).
(3) دلائل الإمامة ص26 نقلا عن عقائد الثلاثة والسبعين (1/ 140)
(4) الميزان الذهبي (1/ 279)
(5) تهذيب التهذيب (2/ 47)
(6) حقبه من التاريخ صـ224
(7) مختصر التحفة الأثني عشرية ص252(1/121)
حقوقهم، فمن هذا الباعث خطب عمر أم كلثوم ابنته علي وفاطمة رضوان الله عليهم وتودد إليه في ذلك قائلاً: فوا الله ما على الأرض رجل يرصد من حسن صحبتها ما أرصده، فقال علي: قد فعلت، فأقبل عمر إلى المهاجرين، وهو مسرور قائلاً: رفئوني .. ثم ذكر أن سبب زواجه منها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا ما كان من سببي ونسيبي، فأحببت أن يكون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب (1)،وقد قام الأستاذ أبو معاذ الإسماعيلي في كتابه زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب حقيقة وليس افتراء بتتبع مراجع ومصادر الشيعة وأهل السنة فيما يتعلق بهذا الزواج الميمون، وقد ذكرت شيئاً من سيرتها ومواقفها في حياتها في عهد الفاروق في كتابي فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، شخصيته وعصره.
6 ـ في غنائم المدائن:
عندما فتحت المدائن (2)، عام 16هـ جاءت الأموال منها فقام عمر رضي الله عنه بإعطاء الحسن والحسين رضي الله عنهما ألف درهم لكل واحد منهم وأعطى ابنه عبد الله خمسمائة (3)، وفي هذه الحادثة تأكيد على محبة عمر للحسن والحسين وتقديمه لهما.
- تأثر الحسن بن علي بالفقه الراشدي للفاروق:
قامت دولة الفاروق على فقه الخلافة الراشدة وكان ـ بعد الله وتوفيقه ـ لعبقرية الفاروق أثر في تطوير مؤسسات الدولة والاجتهاد في النوازل الفقهية، وإدارة الأزمات، ومما ساعد على تأثر الحسن بن علي بثقافته، وأدبيات عهد الفاروق قرب والده أمير المؤمنين علي من الفاروق فقد كان علي رضي الله عنه عضواً بارزاً في مجلس شورى الدولة العمرية بل كان هو المستشار الأول، فقد كان عمر
_________
(1) اسناده حسن أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 142) صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي: متعقباً منقطع وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 173) وقال أورده الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن سهل وهناك من ضعفه.
(2) المدائن: بلدة بينها وبين بغداد ستة فراسخ فتحت على يد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(3) مقامات العلماء للغزالي صـ 161.(1/122)
رضي الله عنه يعرف لعلي فضله، وفقهه، وحكمته، وكان رأيه فيه حسناً، فقد ثبت فيه قوله فيه أقضانا علي (1)، وكان لعلي اجتهادات في الأمور القضائية، والمالية والإدارية في عهد الفاروق أخذ بها أمير المؤمنين عمر، وكان الفاروق يستشير علي في الأمور الكبيرة منها والصغيرة، وقد استشاره حين فتح المسلمون بيت المقدس، وحين فتحت المدائن، وعندما أراد عمر التوجه إلى نهاوند وقتال الفرس، وحين أراد أن يخرج لقتال الروم، وفي موضع التقويم الهجري وغير ذلك من الأمور (2)، وكان علي رضي الله عنه طيلة حياة عمر مستشاراً ناصحاً لعمر محباً له خائفاً عليه، وكان عمر يحب علياً وكانت بينهم مودة ومحبة وثقة متبادلة، ومع ذلك يأبى أعداء الإسلام إلا أن يزوروا التاريخ، ويقصوا بعض الروايات التي تناسب أمزجتهم ومشاربهم ليصوروا لنا فترة الخلفاء الراشدين عبارة عن: أن كل واحد منهم كان يتربص بالآخر الدوائر لينقضّ عليه، وكل أمورهم كانت تجري من وراء الكواليس (3)،
إن من أبرز ما يلاحظه المتأمل في خلافة عمر تلك الخصوصية في العلاقة وذلك التعاون المتميز الصافي، بين عمر وعلي رضي الله عنهما، فقد كان علي هو المستشار الأول لعمر في سائر القضايا والمشكلات وما اقترح علي على عمر رأياً إلا واتجه عمر إلى تنفيذه عن قناعة، وكان علي رضي الله عنه يمحضه النصح في كل شئونه وأحواله (4)، فلا شك أن تلك العلاقة بين علي وعمر رضي الله عنهما لها انعكاساتها الثقافية والعلمية والتربوية على الحسن وأبناء ذلك الجيل والمواقف التي تدل على قوة العلاقة بين عمر وعلي كثيرة منها:
- كساني هذا الثوب أخي وخليلي:
خرج علي وعليه برد عدني فقال: كساني هذا الثوب أخي وخليلي وصفيي وصديقي أمير المؤمنين عمر (5)، وفي رواية عن أبي السفر قال: رؤي على علي بن
_________
(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب صـ 1102.
(2) علي بن أبي طالب مستشار أمين للخلفاء الراشدين صـ 99.
(3) علي بن أبي طالب مستشار أمين للخلفاء الراشدين صـ 99 ..
(4) فقه السيرة النبوية للبوطي صـ 529.
(5) المختصر من كتاب الموافقة صـ 140.(1/123)
أبي طالب رضي الله عنه برد كان يكثر لبسه قال: فقيل: يا أمير المؤمنين إنك لتكثر لبس هذا البرد؟ فقال: نعم، إن هذا كسانيه خليلي وصفيي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناصح الله فنصحه، ثم بكى (1) ومن هذه القصص وأمثالها عرف الحسن حقيقة محبه علي وأهل البيت لعمر ومحبة عمر لهم.
- ما قاله علي في عمر بعد استشهاده:
قال ابن عباس كما في صحيح البخاري: وصنع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي، إذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيراً ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر (2).
- إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكرهه لذلك:
لما فرغ علي من وقعه الجمل، ودخل البصرة، وشيع أم المؤمنين عائشة لما أرادت الرجوع إلى مكة، سار من البصرة إلى الكوفة، فدخلها يوم الاثنين، لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: أنزل بالقصر الأبيض، فقال: لا إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلى في الجامع الأعظم ركعتين (3)
- حب أهل البيت لعمر رضي الله عنه:
إن من دلالة محبة أهل البيت لعمر رضي الله عنه تسمية أبنائهم بإسمه حباً وإعجاباً بشخصيته، وتقديراً لما أتى به من الأفعال الطيبة والمكارم العظيمة، ولما قدم إلى الإسلام من الخدمات الجليلة، وإقراراً بالصلات الودية الوطيدة والتي تربطه بأهل بيت النبوة والرحم، الصهر القائم بينه وبينهم، فأول من سمي ابنه باسمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سمى ابنه من أم حبيب بنت ربيعة البكرية
_________
(1) المصنف لابن أبي شيبة (12/ 29)
(2) البخاري رقم 3685.
(3) تاريخ الخلافة الراشدة، محمد كنعان صـ 383.(1/124)
عمر (1)، وقد جاء في كتاب صاحب الفصول، تحت ذكر أولاد علي بن أبي طالب: وعمر من التغلبية وهي الصهباء بنت ربيعة من السبي الذي أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر، وعمّر عمر هذا حتى بلغ خمساً وثمانين سنة فحاز نصف ميراث علي رضي الله عنه، وذلك أن جميع اخوته وأشقائه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قتلوا جميعهم قبله مع الحسين رضي الله عنهم ـ يعني انه لم يقتل معهم ـ بالطف فورثهم (2)، هذا وتبعه الحسن في ذلك الحب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم فسمّي أحد أبنائه عمر أيضاً (3)، وكذلك الحسين بن علي سمّي عمر، ومن بعد الحسين ابنه علي الملقب بزين العابدين سمّى أحد أبنائه باسم عمر (4)، وكذلك موسى بن الصادق الملقب بالكاظم سمى أحمد أبنائه باسم عمر (5)،
فهؤلاء الأئمة من أهل البيت الذين ساروا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومعالم منهج أهل السنة والجماعة بسيرته العطرة يظهرون لعمر الفاروق ما يكنونه في صدورهم من حبهم وولائهم له بعد وفاته بمدة، وقد جرى هذا الإسم وكذلك أبو بكر وعثمان في ذرية أهل البيت ممن ساروا على مذهب الحق وهو منهج أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا، ونجد أسماء الصحابة وأمهات المؤمنين في البيوت الهاشمية التي التزمت بالكتاب والسنة، فقد سموا طلحة، وعبد الرحمن وعائشة وأم سلمة ونحن ندعو الشيعة اليوم، الاقتداء بعلي والحسن والحسين وسائر الأئمة من آل البيت فيحبون أنصار دين الله وأصحاب رسوله، فيسمون بعض أبنائهم وبناتهم بأسماء الخلفاء الراشدين، وأمهات المؤمنين (6) نرجو ذلك.
- قول عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في عمر:
عن حفص بن قيس، قال: سألت عبد الله بن الحسن عن المسح على الخُفَّين، فقال، فقال: أمسح، فقد مسح عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: فقلت: إنما
_________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/ 213) الشيعة وأهل البيت صـ 133.
(2) الفصول المهمة صـ 143، الشيعة وأهل البيت صـ 133.
(3) الشيعة وأهل البيت صـ 133.
(4) المصدر نفسه صـ 134.
(5) المصدر نفسه صـ 135 ..
(6) اذهبوا فأنتم الرافضة، عبد العزيز الزبيري صـ 230.(1/125)
أسألك أنت تمسح؟ قال: ذاك أعجز' لك، أخبرك عن عمر وتسألني عن رأيي، فعمر كان خيراً مني ومن ملء الأرض. فقلت: يا أبا محمد، فإن أناساً يزعمون أن هذا منكم تقية، قال: فقال لي ـ ونحن بين القبر والمنبر ـ: اللهم إن هذا قولي في السر والعلانية، فلا تسمعنّ عليَّ قول أحد بعدي. ثم قال: من هذا الذي يزعم أن علياً رضي الله عنه كان مقهوراً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأمر ولم ينفذه. وكفى بإزراء على علي ومنقصة أن يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأمره ولم ينفذه (1).
ثالثاً: في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
كان ذو النورين على صلة وثيقة بالدعوة الإسلامية من سنتها الأولى، فلم يفته من أخبار النُّبوَّة الخاصَّة، والعامَّة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفته شئ بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شئ مما نسمّيه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية، وكان المنهج التربوي الذي تربى عليه عثمان بن عفان، وكل الصحابة الكرام القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، كما أن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عثمان بن عفان، وصقل مواهبه، وفجر طاقته، وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك: أن عثمان رضي الله عنه لازم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بعد إسلامه كما لازمه في المدينة بعد هجرته، فقد نظم عثمان نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية، وهاديها، والذي أدبه ربُّه، فأحسن تأديبه، ولم يكن عثمان بن عفان رضي الله عنه ممن تخلفوا عن بدر لتقاعس منه، أو هروب ينشده، كما يزعم أصحاب الأهواء ممن طعن عليه في تغيبه عن بدر، فهو لم يقصد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ومتابعته، وعثمان رضي الله عنه خرج فيمن خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم فرده صلى الله عليه وسلم للقيام على ابنته رقية التي اشتد بها المرض وماتت بسبب ذلك، فكان عثمان في أجلِّ فرض لطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
_________
(1) النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب لمحمد عبد الواحد المقدسي صـ 57.(1/126)
وتخلفه، وقد ضرب له بسهمه، وأجره، وشاركهم في الغنيمة والفضل، والأجر لطاعته المولى عز وجل ورسوله، وانقياده لهما، وفي الحديبية ذكر المحب الطبري اختصاص عثمان بعدة أمور، منها: اختصاصه بإقامة يد النبي صلى الله عليه وسلم الكريمة مقام يد عثمان لما بايع الصحابة، وعثمان غائب، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بمكة أسيراً من
المسلمين وذكر شهادة النبي في عثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة (1)، وفي فتح مكة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعة عثمان بن عفان في عبد الله بن أبي السرح في فتح مكة (2)، ومن حياة عثمان رضي الله عنه الاجتماعية في المدينة، زواجه من أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة رقيَّة بنت رسول الله، ووفاة عبد الله بن عثمان، ثم وفاة أمَّ كلثوم رضي الله عنها، ومن مساهمته الإقتصادية في بناء الدولة، شراء بئر رومة بعشرين ألف درهم، وجعلها عثمان رضي الله عنه للغني والفقير وابن السبيل، وتوسعة المسجد النبوي، وإنفاقه الكبير على جيش العسرة، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضله مع غيره، ومنها ما ورد في فضله وحده، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنة التي يقتل فيها عثمان، وكان رضي الله عنه من الصحابة وأهل الشورى الذين يؤخذ رأيهم في أمهات المسائل في عهد الصديق، فهو ثاني اثنين في الحظوة عند الصديق، فعمر ابن الخطاب للحزم والشَّدائد، وعثمان للرِّفق والأناة، وكان عمر وزير الخلافة الصديقية، وكان عثمان أمينها العام، وكاتبها الأكبر، وكان رضي الله عنه ذا مكانة عند عمر، فكانوا إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شئ رموه بعثمان وبعبد الرحمن بن عوف، وكان عثمان يسمّى الرِّديف ـ والرِّديف بلسان العرب هو الذي يكون بعد الرّجل ـ والعرب تقول ذلك للرّجل الذي يرجونه بعد رئيس، وكانوا إذا لم يقدر هذان على عمل شئ، ثلثوا بالعبَّاس (3).
وكان الحسن بن علي رضي الله عنه في عهد عثمان في عز الشباب وعنفوانه، فقد كان في سن يسمح لصاحبها أن يستوعب ما يدور حوله ويتعلم من الأحداث
_________
(1) المناقب النضرة في المناقب العشرة صـ 490، 491.
(2) أضواء البيان في تاريخ القرآن، لصابر أبو سليمان صـ 79.
(3) 3 تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان للصَّلابي ص274(1/127)
ومن سياسة الخليفة الراشد عثمان ومن حوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم الدروس التي استوعبها الحسن بن علي هي:
1 ـ الفقه العمري في الاستخلاف:
استمرّ اهتمام الفاروق رضي الله عنه بوحدة الأمة، ومستقبلها حتَّى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلَّى فيها إيمان الفاروق العميق، وإخلاصه، وإيثاره (1)، وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعْلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدّولة الإسلامية، لقد مضى قبله الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولم يستخلف بعده أحداً بنصٍّ صريح، ولقد مضى أبو بكر الصِّدِّيق، واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولمَّا طُلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر مليّاً، وقرّر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك النّاس، وكلهم مقرُّ بأفضلية أبي بكر، وأسبقيته عليهم فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وجّه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده والصِّدِّيق لما استخلف عمر، كان يعلم: أنّ عند الصحابة أجمعين قناعة بأنّ عمر أقوى، وأفضل من يحمل المسئولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة، ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر (2)،
وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد، فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، وقد حصر ستَّة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يصلحون لتوليّ الأمر، ولو أنهم يتفاوتون، ويحدّد لهم طريقة الانتخاب، ومدَّته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة، وحدّد الحكم في المجلس، والمرجِّح إن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل، أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحلِّ والعقد (3)، وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السَّابقة.
_________
(1) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني صـ 161.
(2) أوليات الفاروق للقرشي صـ 122 ..
(3) أوليَّات الفاروق، صـ 124.(1/128)
أ ـ العدد الذي حدده للشُّورى، وأسماؤهم:
أمّا العدد، فهو ستة، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، والزبير بن العوّام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً، وترك سعيد بن زيد، وهو من العشرة المبشَّرين بالجنة، ولعله تركه لأنه من قبيلة بني عديِّ (1)، وكان عمر رضي الله عنه حرصاً على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أنَّ فيهم من هو أهلُ لها، فهو يُبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشَّحين للخلافة (2).
ب ـ طريقة اختيار الخليفة:
أمرهم، أن يجتمعوا في بيت أحدهم، ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيراً فقط، وليس له من الأمر شئ، ويصلِّي بالناس أثناء التشاور صهيب الرُّوميُّ، وقال له: أنت أمير الصَّلاة في هذه الأيام الثلاثة. حتى لا يوليِّ إمامة الصلاة أحداً من السِّتَّة، فيصبح هذا ترشيحاً من عمر له بالخلافة (3)، وأمر المقداد بن الأسود، وأبا طلحة الأنصاريَّ أن يرقبا سير الانتخابات (4).
ت ـ مدَّة الانتخابات أو المشاورة:
حدَّدها الفاروق رضي الله عنه بثلاث أيّام، وهي فترة كافية، وإن زادوا عليها، فمعنى ذلك أن شقَّة الخلاف ستتَّسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرّابع إلا وعليكم أمير (5).
ث ـ عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
أخرج ابن سعد بإسناد رجاله ثقات: أنَّ عمر رضي الله عنه قال لصهيب: صلِّ بالناس ثلاثاً، وليخل هؤلاء الرَّهط في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل، فمن
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 142).
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي صـ 98.
(3) الخلافة والخلفاء الراشدون للبهنساوي صـ 213.
(4) أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة صـ 648.
(5) الطبقات لابن سعد (3/ 364).(1/129)
خالفهم فاضربوا رأسه (1)، فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرّهط ويشقَّ عصا المسلمين، ويفرِّق بينهم، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع على رجل منكم يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه (2)، وما جاء في كتب التَّاريخ من أن عمر رضي الله عنه أمرهم بالاجتماع، والتَّشاور وحدّد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل، وأبى أحدهم، فليضرب رأسه بالسَّيف، وإن اجتمع أربعة، ورضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما (3)، فهذه من الرِّويات التي لا تصح سنداً، فهي من الغرائب، التَّي ساقها أبو مخنف ـ الرَّافضي الشيعي ـ مخالفاً فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصَّحابة رضي الله عنهم، فما ذكر أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم ـ أي: أهل الشورى ـ فإن اجتمع خمسة، ورضوا رجلاً، وأبى واحد، فاشدخ رأسه بالسَّيف، وإن اتَّفق أربعة، فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما (4): فهذا قول منكر، وكيف يقول عمر رضي الله عنه هذا، وهو يعلم: أنَّهم هم الصَّفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضله وقدرهم (5)،
وقد ورد عن ابن سعد: أن عمر قال للأنصار " أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم (6)، وهذه الرِّواية منقطعة، وفي إسنادها "سماك بن حرب" وهو ضعيف، وقد تغير بأخره (7).
جـ ـ الحكم في حال الاختلاف:
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس، وأن ليس له من الأمر شئ، ولكن قال لهم، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأيُّ الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم
_________
(1) المصدر السابق نفسه (3/ 364).
(2) مسلم (3/ 1480).
(3) تاريخ الطبري (5/ 226).
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطَّبري، د. يحي صـ 175 ..
(6) الطبقات لابن سعد (3/ 342).
(7) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري صـ 176.(1/130)
يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرَّحمن بن عوف، ووصف عبد الرَّحمن بن عوف بأنه مسدَّدٌ رشيدٌ، فقال عنه، ونعم ذو الرأي عبد الرَّحمن بن عوف مسدَّدٌ رشيدٌ، له من الله حافظ، فاسمعوا منه (1).
ح ـ جماعة من جنود الله تراقب الاختيار، وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاريَّ، وقال له: يا أبا طلحة: إن الله ـ عزّ وجلَّ ـ أعزَّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، فاستحثَّ هؤلاء الرَّهط، حتّى يختاروا رجلاً منهم (2). وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرَّهط في بيت حتَّى يختاروا رجلاً منهم (3).
خ ـ جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل:
ومن فوائد الشُّورى: جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل، لأنَّ عمر جعل الشُّورى في ستة أنفس مع علمه: أنَّ بعضهم كان أفضل من بعض، ويؤخذ هذا من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد، حيث كان لا يراعي الفضل في الدِّين فقط، بل يضمُّ إليه مزيد المعرفة بالسِّياسة مع اجتناب ما يخالف الشَّرع منها، فاستخلف معاوية، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل من كلِّ منهم في أمر الدِّين، والعلم كأبي الدّرداء في الشِّام، وابن مسعود في الكوفة (4).
ش ـ جمع عمر بين التعيين، وعدمه:
عرف عمر، أن الشُّورى لن تكون بين الستة فقط، وإنّما ستكون في أخذ رأي الناس في المدينة، فيمن يتولىَّ الخلافة، حيث جعل لهم أمد ثلاثة أيَّام، فيمكنهم من المشاورة، والمناظرة لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتِّفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصّحابة، وكلُّ من كان ساكناً في
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 325).
(2) تاريخ الطبري (5/ 225).
(3) المصدر السابق.
(4) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 97).(1/131)
بلد غيرها كان تبعاً لهم فيما يتَّفقون عليه، فما زالت المدينة حتى سنة 23هـ مجمع الصَّحابة بل لأنَّ كبار الصَّحابة فيها، حيث استبقاهم عمر بجانبه، ولم يأذن لهم بالهجرة إلى الأقاليم المفتوحة (1).
ك ـ أهل الشورى أعلى هيئة أعلى هيئة سياسية:
إنّ عمر رضي الله عنه أناط بأهل الشُّورى وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهمِّ أن نشير إلى أنَّ أحداً من أهل الشُّورى لم يعارض هذا القرار الذي اتّخذه عمر، كما أنَّ أحداً من الصَّحابة الآخرين لم يشر أيَّ اعتراض عليه، ذلك ما تدلُّ عليه النُّصوص التي بين أيدينا، فنحن لا نعلم: أنَّ اقتراحاً آخر قد صدر عن أحد من النّاس في ذلك العصر، أو أنَّ معارضة ثارت حول أمر عمر خلال السَّاعات الأخيرة من حياته، أو بعد وفاته، وإنّما رضي الناس كافة عن هذا التدبير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين، وفي وسعنا أن نقول: إن عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا، مهمَّتها انتخاب رئيس الدَّولة، أو الخليفة، وهذا التنظيم الدُّستوري الجديد، الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المبادئ الأساسية التي أقرَّها الإسلام، ولا سيَّما فيما يتعلق بالشُّورى، لأنَّ الغيرة من حيث النتيجة للبيعة العامَّة التي تجري في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجَّه السُّؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان، وهو: من أعطى عمر هذا الحقَّ؟ ما هو مستند عمر في هذا التدبير؟ ويكفي أن نعلم أنَّ جماعة من المسلمين قد أقرَّت هذا التدبير، ورضيت به، ولم يُسمع صوت اعتراض عليه، حتى نتأكد: أنَّ الإجماع ـ وهو من مصادر التشريع ـ قد انعقد على صحته، ونفاذه (2)، ولا ننسى أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكِّد: أن أهل الشُّورى أعلى هيئة سياسية قد أقرَّه نظام الحكم في الإسلام في العهد الرَّاشدي، كما: أنّ الهيئة التي سمّاها عمر، تمتّعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا مُنحت لها من الله، وبلَّغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة، من التّقوى، والأمانة.
هكذا ختم عمر رضي الله عنه حياته، ولم يشغله ما نزل به من البلاء، ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً
_________
(1) المصدر السابق.
(2) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ للقاسمي (1/ 227، 258).(1/132)
للشّورى لم يسبقه عليه أحد، ولا يُشكُ: أنّ أصل الشُّورى مقرّرٌ في القرآن الكريم،، والسُّنّة القوليّة، والفعلية، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولم يكن عمراً مبتدعاً بالنسبة للأصل، ولكنَّ الذي عمله عمر هو تعيين الطّريقة التي يختار بها الخليفة، وحصر عدد معين جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا الصِّدِّيق رضي الله عنه، بل أوَّل من فعل ذلك عمر، ونِعْمَ ما فعل، فقد كانت أفضل الطُّرق المناسبة لحال الصَّحابة في ذلك الوقت (1)، ولا شك بأن هذا التطوير الرائع لفقه الخلافة والوعي السياسي وما تتطلبه المرحلة من اجتهادات عملية ساهم في تثقيف وتعليم الحسن بن علي رضي الله عنه وأعطاه فهماً واسعاً ونظراً ثاقباً، فيما بعد مما جعله يختار أسلوباً جديداً، لم يسبق إليه ساهم في توحيد الأمة بعد الفرقة والاختلاف، فالشخصيات الفذَّة، والعبقريات المبدعة لا تأتي من فراغ وإنما هي حصيلة لخبرة واسعة، واستفادة كبيرة من جهود من سبقها في البناء الحضاري الرباني الراشدي.
2 ـ منهج عبد الرحمن بن عوف في إدارة الشُّورى:
ومما عاصره الحسن بن علي في أمر بيعة عثمان منهج عبد الرحمن بن عوف في إدارة الشورى والذي تمثل في الخطوات التالية:
أ ـ اجتماع الرّهط للمشاورة:
لم يكد يفرغ النَّاس من دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتَّى أسرع، رهط الشُّورى وأعضاء مجلس الدَّولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها وقيل: إنَّهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهْرية أخت الضحاك ابن قيس، ليقضوا في أعظم قضيَّة عرضت في حياة المسلمين ـ بعد وفاة عمر ـ وقد تكلَّم القوم، وبسطوا آراءهم، واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمة سواء، رضيها الخاصَّة والكافة من المسلمين (2).
ب ـ عبد الرحمن يدعو إلى التنازل:
عندما اجتمع أهل الشُّورى قال لهم عبد الرّحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزُّبير: جعلت أمري إلى عليِّ. وقال طلحة: جعلت أمري إلى
_________
(1) أوليَّات الفاروق صـ 127.
(2) عثمان بن عفان، لصادق عرجون صـ 62، 63.(1/133)
عثمان. وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. وأصبح المرشحون ثلاثة، علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن أيكما تبرَّأ من هذا الأمر، فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرنَّ أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليَّ والله عليَّ أن لا آلو عن أفضلكما؟ قالا: نعم (1).
جـ ـ تفويض ابن عوف بإدارة عمليَّة الشُّورى:
بدأ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه اتصالاته، ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشَّحين السِّتَّة صباح يوم الأحد، واستمرَّت مشاوراته، واتِّصالاته ثلاثة أيام كاملة، حتى فجر يوم الأربعاء الرَّابع من المحرم، وهو موعد انتهاء المهلة التي حدّدها لهم عمر، وبدأ عبد الرحمن بن عوف بعليِّ بن أبي طالب، فقال له: إن لم أبايعك فأشر عليَّ، فمن ترشح للخلافة؟ فقال عثمان: عليَّ بن أبي طالب .. وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصحابة الآخرين، واستشارهم، وكان يشاور كلَّ من يلقاه في المدينة من كبار الصَّحابة، وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاوراته النَّساء في خدورهنَّ، وقد أبدين رأيهن، كما شملت الصِّبيان، والعبيد في المدينة والمسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفَّان، ومنهم من كان يشير بعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي منتصف ليلة الأربعاء، ذهب عبد الرحمن بن عوف إلى بيت ابن أخته: المسور بن مخرمة، فطرق البيت، فوجد المسور نائماً، فضرب الباب حتى استيقظ، فقال: أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير، وسعداً. فدعوتهما له: فشاورهما ثمّ دعاني، فقال: أدع لي علياً، فدعوته، فنجاه حتَّى أبهارَّ (2) الليل ثم قام عليٌّ من عنده .. ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته فنجاه حتى فرّق بينهما المؤذِّن بالصُّبح (3).
_________
(1) البخاري، ك فضائل أصحاب النَّبي رقم 2700.
(2) أبهارَّ: أي: انتصف.
(3) البخاري، ك الأحكام، رقم 7207.(1/134)
ح ـ الاتفاق على بيعة عثمان: رضي الله عنه:
وبعد صلاة صبح يوم البيعة، اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23هـ/ 6 نوفمبر 644م وكان صهيب الرُّومي الإمام، إذ أقبل عبد الرَّحمن بن عوف، وقد اعتمَّ بالعمامة التي عمَّمه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين، والأنصار، وأمراء الأجناد، منهم: معاوية أمير الشَّام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجَّة مع عمر، وصاحبوه إلى المدينة (1)، وجاء في رواية البخاري: .. فلمَّا صلَّى للنَّاس الصُّبح، واجتمع أولئك الرّهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين، والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجَّة مع عمر، فلمّا اجتمعوا، تشهَّد عبد الرحمن، ثمّ قال: أمّا بعد: يا عليُّ: إني قد نظرت في أمر النَّاس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل بنفسك سبيلاً. فقال عبد الرحمن مخاطباً عثمان (2): أبايعك على سُنَّة الله، ورسوله،، والخليفتين من بعده: فبايعه الناس: المهاجرون، والأنصار وأمرا الأجناد، والمسلمين (3). وجاء في رواية صاحب التّمهيد، والبيان: أن عليَّ بن أبي طالب أوَّل من بايع بعد عبد الرّحمن بن عوف (4).
س ـ حكمة عبد الرحمن بن عوف في تنفيذ خطة الشُّورى:
نفّذ عبد الرحمن بن عوف خطة الشورى بما دلَّ على شرف عقله، ونبل نفسه، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصَّة ونفعه الفردي، وترك عن طواعية ورضا أعظم منصب يطمح إليه إنسان في الدنيا، ليجمع كلمة المسلمين، وحقق أوّل مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يجلس على عرش الخلافة، ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة، والصبر، والحزم، وحسن التدبير ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى، وقد كانت الخطوط التي اتخذها كالآتي:
_________
(1) شهيد الدَّار صـ 37 وهناك خلافاً في تحديد تاريخ البيعة.
(2) فقال: أي عبد الرحمن مخاطباً عثمان.
(3) البخاري، ك الأحكام رقم 7207.
(4) التمهيد والبيان صـ 26.(1/135)
- ـ بسط برنامجه في أول جلسة عقدها مجلس الشورى في دائرة الزمن الذي حدّده لهم عمر، وبذلك أمكنه أن يحمل جميع أعضاء مجلس الشورى على أن يدلوا برأيهم، فعرف مذهب كل واحد منهم، فسار في طريقه على بينة من أمره،
- ـ خلع نفسه وتنازل عن حقه في الخلافة، ليدفع الظُّنون ويستمسك بعروة الثِّقة الوثقى.
- ـ أخذ في تعرُّف نهاية ما يصبو إليه كل واحد من أصحابه، وشركائه في الشُّورى، فلم يزل يقلِّب وجوه الرَّأي معهم، حتى انتهى إلى شبه انتخاب جزئيِّ، فاز فيه عثمان برأي سعد بن أبي وقاص، ورأي الزبير بن العوام، فلاحت له أغلبية آراء الأعضاء الحاضرين معه.
- ـ عمد إلى معرفة كلِّ واحد من الإمامين: عثمان، وعليِّ في صاحبه بالنِّسبة إلى وزنه من سائر الرَّهط الذين رشَّحهم عمر، فعرف من كل واحد منهما: أنه لا يعدل صاحبه أحداً إذا فاته الأمر.
- ـ أخذ في تعرُّف رأي مَنْ وراء مجلس الشُّورى من خاصَّة الأمَّة، وذوي رأيها، ثمَّ من عامّتها، وضعفائها، فرأى أنَّ معظم النَّاس لا يعدلون أحداً بعثمان، فبايع له، وبايعه عامَّة الناس (1).
لقد تمكَّن عبد الرحمن بن عوف بكياسته، وأمانته، واستقامته، ونسيانه نفسه بالتخلِّي عن الطّمع في الخلافة، والزُّهد بأعلى منصب في الدولة أن يجتاز هذه المحنة، وقاد ركب الشُّورى بمهارة، وتجرد مما يستحقُّ أعظم التَّقدير (2).
قال الذَّهبي: ومن أفضل أعمال عبد الرَّحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشُّورى، واختياره للأمَّة ممَّا أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتمَّ نهوض على جميع الأمَّة على عثمان، ولو كان محابياً فيها، لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمِّه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقَّاص (3)، وبهذا تحقَّقت صورة
_________
(1) عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ـ لصادق عرجون صـ 70، 71.
(2) مجلة البحوث الإسلامية، العدد (10) صـ (255).
(3) سير أعلام النبلاء (1/ 86).(1/136)
أخرى من صور الشُّورى في عهد الخلفاء الرَّاشدين: وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشُّورى، ليعيِّنوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامَّة، ثمَّ البيعة العامة (1)، فهذا هو الذي تمَّ في عملية الشورى وما عصره الحسن بن علي رضي الله عنه من أحداث، ولا ينظر للأباطيل الرافضية التي دست في قصة الشورى وشوهت التاريخ الإسلامي والتي تلقفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها، وتأثر بها الكثير من المؤرخين، والمفكرين المحدثين ولم يمحِّصوا الرِّوايات، ويحقِّقوا في سندها ومتنها، فانتشرت بين المسلمين، لقد اهتم مؤرخو الشيعة الرّافضة بقصة الشورى وتولية عثمان بن عفان الخلافة ودسوا فيها الأباطيل والأكاذيب، وألف جماعة منهم كتباً خاصة، فقد ألف أبو مخنف كتاب الشورى، وكذلك ابن عقدة، وابن بابويه (2)، ونقل ابن سعد تسع روايات من طريق الواقدي في خبر الشورى وبيعة عثمان وتاريخ تولية الخلافة (3)،
ورواية من طريق عبيد الله بن موسى تضمنت مقتل عمر، وحصره للشورى في السِّتَّة ووصيته لكلٍّ من عليّ، وعثمان إذا تولى أحدهما أمر الخلافة، ووصيته لصهيب في هذا الأمر (4).
وقد نقل البلاذري خبر الشورى، وبيعة عثمان عن أبي مخنف (5) الرافضي المحترق، وعن هشام الكلبي، منها ما نقله عن أبي مخنف (6)، ونقل ابن أبي الحديد بعض أحداث قصَّة الشورى من طريق أحمد بن عبد العزيز الجوهري (7)، وأشار إلى نقله عن كتاب (الشُّورى) للواقدي (8)، وقد تضمَّنت الرِّوايات الشيعيَّة عدَّة أمور مدسوسة، ليس لها دليلٌ من الصِّحَّة، وهي:
- ـ اتهام الصَّحابة بالمحاباة في أمر المسلمين:
اتَّهمت الرِّوايات الشِّيعيَّة الصَّحابة بالمحاباة في أمر المسلمين، وعدم رضا عليّ بأن يقوم عبد الرحمن بن عوف باختيار الخليفة، فقد ورد عن أبي مخنف، وهشام
_________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة صـ 278.
(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (14/ 246).
(3) الطبقات الكبرى (3/ 63) (3/ 67) ..
(4) المصدر السابق نفسه (3/ 340).
(5) أنساب الأشراف (5/ 18، 19).
(6) المصدر نفسه.
(7) شرح نهج البلاغة (9/ 49، 50، 58)
(8) شرح البلاغة (9/ 15)، عثمان بن عفان للصَّلآَّبيّ صـ 73.(1/137)
الكلبيِّ عن أبيه، وأحمد الجوهريِّ: أنَّ عمر جعل ترجيح الكفَّتين إذا تساوتا بعبد الرحمن بن عوف، وأنَّ علياً أحسَّ بأن الخلافة ذهبت منه، لأنَّ عبد الرحمن سيقدِّم عثمان للمصاهرة التي بينهما (1)، وقد نفى ابن تيمية أي ارتباط في النَّسب القريب بين عثمان، وعبد الرحمن بن عوف فقال: فإنَّ عبد الرحمن ليس أخا عثمان، ولا ابن عمِّه، ولا من قبيلته أصلاً، بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية، وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلاً منهم إلى بني أميِّة، فإن بني زهرة أخوال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خالي فليرني امرؤ خاله (2)، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين مهاجريِّ، ومهاجريٍّ، ولا بين أنصاريِّ، وأنصاريِّ، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع الأنصاري (3)، وحديثه مشهور ثابت في الصِّحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك (4)
وقد بنت الرِّوايات الشيعية محاباة عبد الرحمن لعثمان للمصاهرة التي كانت بينهما، متناسية أن قوة النَّسب أقوى من مصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى تناسوا طبيعة العلاقة بين المؤمنين في الجيل الأوّل، وأنها لا تقوم على نسب ولا على مصاهرة، وأما كيفية المصاهرة التي كانت بين عبد الرحمن وعثمان، فهي أنَّ عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد (5)
- ـ حزب أموىّ، وحزب هاشمي:
أشارت رواية أبي مخنف الرافضي إلى وقوع مشادَّةٍ بين بني هاشم، وبني أميَّة أثناء المبايعة، وهذا غير صحيح، ولم يرد ذلك برواية صحيحة ولا ضعيفة (6)، وقد انساق بعض المؤرَّخين خلف الرِّوايات الشِّيعيَّة الرَّافضيَّة، وبنوا تحليلاتهم الخاطئة على تلك الرِّوايات، فصوَّر تشاور أصحاب الرَّسول صلى الله عليه وسلم من تحديد
_________
(1) أثر التشيع على الرِّوايات التاريخية صـ 322.
(2) صحيح سنن الترمذي (3/ 220) رقم (4018).
(3) البخاري، ك مناقب الأنصار رقم 3780.
(4) 4 منها ج السنة النبوية (6/ 271، 272)
(5) الطبقات الكبرى (3/ 127)
(6) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري صـ 177، 178.(1/138)
الخليفة الجديد بصورة الخلاف العشائريِّ، وأنَّ الناس قد انقسموا إلى حزبين: حزب أمويِّ وحزبٍ هاشميِّ وهو تصوُّر موهوم، واستنتاج مردود ولا دليل عليه، إذ أنَّه ليس نابعاً من ذلك الجوِّ الذي كان يعيشه أصحاب رسول الله حينما كان يقف المهاجري مع الأنصاري ضدَّ أبيه، وأخيه، وابن عمه وبني عشيرته، وليس نابعاً من تصوُّر هؤلاء الصَّحب وهو يضحُّون بكلِّ شئ من حطام الدنيا في سبيل أن يسلم لهم دينهم، ولا من المعرفة الصحيحة لهؤلاء النخبة من المبشرين بالجنة، فالأحداث الكثيرة التي رويت عن هؤلاء تثبت: أنَّ هؤلاء كانوا أكبر بكثير من أن ينطلقوا من هذه الزَّاوية الضَّيِّقة في معالجة أمورهم، فليست القضيَّة قضيَّة تمثيل عائلي، أو عشائري، فهم أهل شورى لمكانتهم في الإسلام (1).
- ـ أقوال نسبت زوراً وبهتاناً لوالد الحسن رضي الله عنهما:
قال ابن كثير: وما يذكره كثير عن المؤرخين كابن جرير، وغيره عن رجال لا يعرفون: أنَّ علياً قال لعبد الرَّحمن بن عوف: خدعتني، وإنِّك إنَّما وليته لأنَّه صهرك، ويشاورك كلَّ يوم في شأنه، وأنه تلكَّأ حتى قال لعبد الرحمن: ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)) (الفتح، آية: 10)، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصِّحاح فهي مردودة على قائليها، وناقليها، والله أعلم، والمظنون من الصّحابة خلاف ما يتوهَّم كثير من الرَّافضة، وأغبياء القصَّاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار، وضعيفها، ومستقيمها، وسقيمها، و ... ، وقويمها، والله الموفق للصَّواب (2).
في الدروس المهمة التي استفدتها من دراستي لمرحلة السيرة النبوية والخلافة الراشدة أنه بجانب الرواية الصحيحة التي تظهر حقيقة الصورة المشرقة للصحابة في دينهم وصفائهم ومحبتهم لبعضهم هناك صورة أخرى مناقضة لها حرص أعداء الإسلام من الكذابين على نشرها حقداً على الإسلام وروَّج لها المستشرقين
_________
(1) الخلفاء الرَّاشدون، أمين القضاة صـ 78، 79.
(2) البداية والنهاية (7/ 152).(1/139)
وأذنابهم، وتورط فيها بعض الفضلاء عن جهل وهي بطبيعة الحال تساهم في إضعاف الأمّة وفقدان الأجيال التالية نموذج الاقتداء في سلفهم الصالح فيجب على الغيورين من الباحثين في هذه الأمَّة كشف هذا الزيف والأباطيل والتحذير من الكتب التي تروّج لها وتنشرها، وبيان الروايات الصحيحة والترويج للكتب التي تتبناها دفاعاً عن الصحابة الكرام وابتغاء لمرضاة الله تعالى.
3 ـ معتقد الحسن بن علي في خلافة عثمان رضي الله عنهم:
إن معتقد الحسن بن علي في خلافة عثمان، هو ما ذهب إليه الصحابة، حيث أجمعوا على صحة خلافته بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يخالف، أو يعارض في هذا أحد، بل الجميع سلَّم له بذلك وقد قال أبو الحسن الأشعري: وثبتت إمامة عثمان رضي الله عنه بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشُّورى، الذين نصَّ عليهم عمر، فاختاروه ورضوا بإمامته، وأجمعوا على فضله وعدله (1)، وقال عثمان الصَّابوني مبيناً عقيدة أهل السنة، وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر: أنَّهم يقولون أوّلاً بخلافة الصِّدِّيق، ثمّ عمر، قال: ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى. وإجماع الصحابة، كافة، ورضاهم حتَّى جعل الأمر إليه (2).
4 ـ الحسن بن علي في فتح أفريقيا في جيش العبادلة:
كانت خطة عثمان في الفتوحات تتسم بالحسم والعزم وتمثَّلت في الآتي: إخضاع المتمرِّدين من الفرس، والرُّوم وإعادة سلطان الإسلام إلى هذه البلاد، واستمرار الجهاد والفتوحات فيها وراء هذه البلاد لقطع المدد عنهم، وإقامة قواعد ثابتة يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد الإسلامية، وإنشاء قوة بحرية عسكرية لافتقار الجيش الإسلامي إلى ذلك، وكانت معسكرات الإسلام ومسالكه (ثغوره) في عهد عثمان هي عواصم أقطاره الكبرى، فمعسكر العراق: الكوفة، والبصرة،
_________
(1) الإبانة عن أصول الديانة صـ 68.
(2) عقيدة السَّلف وأصحاب الحديث ضمن الرسائل المنيرية (1/ 139).(1/140)
ومعسكر الشَّام في دمشق بعد أن خلص الشَّام كله لمعاوية بن أبي سفيان، ومعسكر مصر، وكان مركزه الفسطاط، وكانت هذه المعسكرات تقوم بحماية دولة الإسلام، ومواصلة الفتوحات، ونشر الإسلام، ومن أشهر قادة الفتوحات في عهد عثمان رضي الله عنه: الأحنف بن قيس، وسليمان بن ربيعة، وعبد الرحمن ربيعة، وحبيب بن مسلمة، وقد استفاد المسلمون من تلك الفتوحات العثمانية دروساً منها، تحقق وعد الله للمؤمنين بالنصر والتمكين والتطور في فنون الحرب والسياسة وركوب البحر، والقتال البحري، وجمع المعلومات على الأعداء، والحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو وعندما أراد أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أن يفتح أفريقيا استشار الأكابر من أصحاب رسول الله، فقد جاء في رياض النفوس أن أمير المؤمنين عثمان جاءه من واليه على مصر عبد الله بن سعد، أنَّ المسلمين يغيرون على أطراف أفريقيا فيصيبون من عدوهم وأنهم قريبون من حَوز المسلمين، فأعرب عثمان بن عفان رضي الله عنه ـ علي إثر ذلك ـ للمسور بن مخرمة عن رغبته في بعث الجيوش لغزو أفريقيا. جاء في هذا الصدد ما نصه: فما رأيك يا ابن مخرمة؟ قلت: أغزهم. قال: أجمع اليوم الأكابر من أصحاب رسول الله، واستشيرهم، فما أجمعوا عليه فعلته، أو ما أجمع عليه أكثرهم فعلته .. ايت علياً، وطلحة والزبير والعباس، وذكر رجالاً، فخلا بكل واحد منهم في المسجد، ثم دعا أبا الأعور سعيد بن زيد.
فقال له عثمان: لم كرهت ـ يا أبا الأعور ـ من بعثة الجيوش إلى أفريقيا؟ فقال له: سمعت عمر يقول: لا أغزيها أحداً من المسلمين ما حملت عينايَ الماء. فلا أرى لك خلاف عمر. فقال له عثمان: والله ما نخافهم وإنهم لراضون أن يقروا في مواضعهم، فلا يغزون، فلم يختلف عليه أحد ممن شاوره غيره، ثم خطب الناس، وندبهم إلى الغزو إلى أفريقيا، فخرج بعض الصحابة، منهم عبد الله بن الزبير وأبو ذر الغفاري (1)، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر
_________
(1) رياض النفوس (1/ 8 ـ 9) الجهاد والقتال لهيكل (1/ 556).(1/141)
والحسن والحسين (1) وغيرهم كثير، وقد قدم المسلمون الغالي والرَّخيص في فتوحات أفريقيا، واستشهد منهم الكثير وممَّن توفي منهم بأفريقيا في خلافة عثمان أبو ذُؤيب الهُذلي وكان شاعراً مشهوراً، وهو الذي قال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أُريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
وبعد انتصارهم الكبير على أعدائهم اتجه الحسن ومعه ثلة مباركة من المسلمين إلى عاصمة الخلافة وقلبه مفعم بالسرور والارتياح لتوسع النفوذ الإسلامي، وانتشار دين رب العالمين.
5 ـ موقف والد الحسن بن علي والصحابة في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه:
كانت هناك أسباب متنوعة ومتداخلة ساهمت في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه كالرخاء وأثره في المجتمع، وطبيعة التحول الاجتماعي، ومجئ عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتآمر الحاقدين، والتدبير المحكم لإشارة المآخذ ضد عثمان، واستخدام الوسائل والأساليب المهيجة للناس، وأثر السبئية في أحداث الفتنة وقد فصلت وشرحت تلك الأسباب في كتابي، تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان شخصيته وعصره.
ولقد استخدم أعداء الإسلام في فتنة مقتل عثمان الأساليب والوسائل المهيجة للناس، من إشاعة الأراجيف حيث ترددت كلمة الإشاعة والإذاعة كثيراً، والتحريض والمناظرة والمجادلة للخليفة أمام الناس والطعن في الولاة واستخدام تزوير الكتب واختلاقها على لسان الصحابة رضي الله عنهم، عائشة وعلي وطلحة والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأحق بالخلافة وأنه الوصي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنظيم فرق في كل من البصرة والكوفة ومصر، أربع فرق من كل مصر مما يدل على التدبير المسبق، وأوهموا أهل المدينة أنهم ما جاءوا
_________
(1) ليبيا من الفتح العربي حتى انتقال الخلافة الفاطمية للدكتور صالح مصطفى صـ 41، الشرف والتسامي بحركة الفتح الإسلامي للصَّلآَّبيِّ صـ 19.(1/142)
إلا بدعوة الصحابة، وصعدوا الأحداث حتى وصلت إلى القتل (1)، وإلى جوار هذه الوسائل، استخدموا مجموعة من الشعارات منها التكبير، ومنها أن جهادهم هذا ضد المظالم ومنها أنهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها المطالبة باستبدال الولاة وعزلهم، ثم تطورت المطالبة إلى خلع عثمان، إلى أن تمادوا في جرأتهم وطالبوا بل سارعوا إلى مقتل الخليفة وخاصة حينما وصلهم الخبر بأن أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضييق الخناق على الخليفة، والتشوق إلى قتله بأية وسيلة (2)، وكان التنظيم السبئي بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي خلف تلك الأحداث والتي بعدها كالجمل والصفين وغيرها وقد تحدثنا عن حقيقة عبد الله بن سبأ في كتابي عثمان بن عفان، وكتابي أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فمن أراد المزيد فليرجع إليهما ولقد تعرّضت في كتابي عثمان بن عفان للشبهات التي ألصقت بتاريخ عثمان رضي الله عنه وبينت كذبها وبطلانها، بالأدلة الدامغة والبراهين الساطعة، فقد كان عثمان رضي الله عنه بحق الخليفة المظلوم الذي افترى عليه خصومه الأوَّلون، ولم ينصفه المتأخِّرون.
- ـ موقف علي رضي الله عنه في بداية الفتنة:
استمر علي رضي الله عنه في طريقته المعهودة مع الخلفاء وهي السمع والطاعة والإدلاء بالمشورة والنصح، وقد عبر بنفسه عن مدى طاعته للخليفة عثمان وإلتزام أمره ولو كان شاقاً بقوله: لو سيرني عثمان إلى صرار لسمعت وأطعت (3)، وعندما نزل المتمردون في ذي المروة قبل مقتل عثمان بما يقارب شهراً ونصفاً، أرسل إليهم عثمان علياً ورجلاً آخر لم تسمه الروايات والتقى بهم علي رضي الله عنه فقال لهم: تعطون كتاب الله، وتعتبون من كل ما سخطتم، فوافقوا على ذلك (4)، وفي رواية أنهم شادُّوه وشادهم مرتين أو ثلاثاً، ثم قالوا: ابن عم رسول الله،
_________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة صـ 401.
(2) المصدر نفسه صـ 402.
(3) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 225) سنده صحيح.
(4) تاريخ دمشق ترجمة عثمان صـ 328، تاريخ خليفة صـ 169.(1/143)
ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا (1)، فاصطلحوا على خمس: على أن المنفى يقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفئ ويعدل في القسم ويستعمل ذو الأمانة والقوة، وكتبوا ذلك في كتاب، أن يرد ابن عامر على البصرة، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة (2) وهكذا اصطلح عثمان رضي الله عنه مع كل وفد على حدة ثم انصرفت الوفود إلى ديارها (3)، وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعاً راضين تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطاً آخر يذكي الفتنة ويحييها يقتضي تدمير ما جرى من صلح بين أهل الأمصار، وعثمان رضي الله عنه وبرز ذلك فيما يلي: في أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكباً على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم، فكأنه يقول: خذوني فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله فتحوا الكتاب، فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها (4)،
ونفى عثمان رضي الله عنه أن يكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: أنهما أثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم فلم يصدقوه (5)، وهو الصادق البار لغاية في نفوسهم، وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه من عثمان وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحد من إبل الصدقة إلى عامله بمصر ابن أبي سرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان وذلك لعدة أمور منها (6): كيف علم العراقيون بالأمر وقد اتجهوا إلى بلادهم، وفصلتهم عن المصريين، الذين أمسكوا بالكتاب المزعوم ـ مسافة شاسعة، فالعراقيون في الشرق والمصريون
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 129).
(2) المصدر نفسه (1/ 129).
(3) المصدر نفسه (1/ 329).
(4) تاريخ الطبري (5/ 379) ..
(5) فتنةمقتل عثمان (5/ 132) (البداية والنهاية (7/ 191).
(6) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان للصًّلآَّبيِّ صـ 410.(1/144)
في الغرب، ومع ذلك عادوا جميعاً في آن واحد، كأنما كانوا على ميعاد؟ لا يعقل هذا إلا إذا كان الذين زوَّروا الكتاب واستأجروا راكباً آخر انطلق إلى العراقيين ليخبرهم بأن المصريين قد اكتشفوا كتاباً بعث فيه عثمان لقتل المنحرفين المصريين، وهذا ما احتج به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد قال: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا (1)، بل أن علياً يجزم: هذا والله أمر أبرم بالمدينة (2).
إن هذا الكتاب المشؤوم ليس أول كتاب يزوِّره هؤلاء المجرمون، بل زوَّروا كتباً على لسان أمهات المؤمنين وكذلك على لسان علي وطلحة والزبير، فهذه عائشة رضي الله عنها تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي وتقول: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي (3) هذا ويعقب الأعمشي فيقول: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها (4)، ويتهم الوافدون علياً بأنه كتب إليهم أن يقدموا عليه بالمدينة، فينكر ذلك عليهم ويقسم: والله ما كتبت إليكم كتاباً (5)، كما ينسب إلى الصحابة بكتابة الكتب إلى أهل الأمصار يأمرونهم بالقدوم إليهم فدين محمد قد فسد وترك، والجهاد في المدينة خير من الرباط في الثغور البعيدة (6)، ويعلق ابن كثير على هذا الخبر قائلاً: وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، فقد كتب من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج ـ قتلة عثمان ـ كُتُبٌ مزورة عليهم أنكروها، وكذلك زوَّر هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به (7)، ويؤكد كلام ابن كثير ما رواه الطبري وخليفة من استنكار كبار الصحابة ـ علي وعائشة والزبير ـ أنفسهم لهذه الكتب في أصحَّ الروايات (8).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 359).
(2) تاريخ الطبري (5/ 359).
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 334).
(4) تاريخ خليفة بن خياط صـ 169.
(5) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 335) البداية والنهاية (7/ 191).
(6) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 335) البداية والنهاية (7/ 175).
(7) البداية والنهاية (7/ 175).
(8) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 335).(1/145)
إن الأيدي المجرمة التي زوَّرت الرسائل الكاذبة على لسان أولئك الصحابة هي نفسها التي أوقدت نار الفتن من أولها إلى آخرها، ورتبت ذلك الفساد العريض، وهي التي زورت وروَّجت على عثمان تلك الأباطيل، وإنه فعل وفعل ولقنتها للناس، حتى قبلها الرعاع، ثم زوَّرت على لسان عثمان ذلك الكتاب، ليذهب عثمان ضحية إلى ربه شهيداً سعيداً ولم يكن عثمان الشهيد المجني عليه وحده في هذه المؤامرة السبئية اليهودية، بل الإسلام نفسه كان مجنياً عليه قبل ذلك، ثم التاريخ المشوَّه المحرَّف، والأجيال الإسلامية التي تلقت تاريخها مشوَّهاً هي كذلك ممن جنى عليهم الخبيث اليهودي وأعوانه من أصحاب المطامع والشهوات والحقد الدفين، أما آن للأجيال الإسلامية أن تعرف تاريخها الحق، وسير رجالاتها العظام؟ بل ألم يأن لمن يكتب في هذا العصر من المسلمين ـ أن يخاف الله ولا يتجرأ على تجريح الأبرياء قبل أن يحقق ويدقق حتى لا يسقط كما سقط غيره (1).
- موقف الحسن بن علي ووالده أثناء الحصار:
اشتد الحصار على عثمان رضي الله عنه، حتى منع من أن يحضر للصلاة في المسجد، وكان صابراً على هذه البلوى التي أصابته كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وكان مع إيمانه القوي بالقضاء والقدر، يحاول أن يجد حلاً لهذه المصيبة، فنراه تارة يخطب الناس عن حرمة دم المسلم، وإنه لا يحل سفكه إلا بحقه وتارة يتحدث في الناس ويظهر فضائله وخدماته الجليلة في الإسلام ويستشهد على ذلك ببقية العشرة رضوان الله عليهم (2)، وكأنه يقول، من هذا عمله وفضله هل من الممكن أن يطمع بالدنيا ويقدمها على الآخرة وهل يعقل يخون الأمانة ويعبث بأموال الأمة ودمائها وهو يعرف عاقبة، ذلك عند الله وهو الذي تربى على عين النبي صلى الله عليه وسلم والذي شهد له وزكاه وكذلك أفاضل الصحابة، ومتى بعد ما تجاوز السبعين وقارب الثمانين من عمره أهكذا تكون معاملته؟ واشتدت سيطرة المتمردون على المدينة حتى أنهم ليصلون بالناس في أغلب الأوقات (3)، وحينها أدرك
_________
(1) عثمان بن عفان الخليفة الشاكر الصابر صـ 238، 229.
(2) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد علي صـ 85.
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 515).(1/146)
الصحابة أن الأمر ليس كما حسبوا، وخشوا من حدوث ما لا يحمد عقباه، وقد بلغهم أن القوم يريدون قتله، فعرضوا عليه أن يدافعوا عنه، ويخرجوا الغوغاء عن المدينة، إلا أنه رفض أن يراق دم بسببه (1). وأرسل كبار الصحابة أبناءهم دون استشارة عثمان رضي الله عنه، ومن هؤلاء الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير، فقد كان عثمان يحب الحسن ويكرمه، فعندما وقعت الفتنة وحوصر عثمان رضي الله عنه أقسم على الحسن رضي الله عنه بالرجوع إلى منزله وذلك خشية عليه أن يصاب بمكروه (2)،وقد قال عثمان للحسن رضي الله عنه: أرجع يا ابن أخي حتى يأتي الله بأمره (3)،
وقد صحت روايات أن الحسن حمل جريحاً من الدار يوم الدار (4)، كما جرح غير الحسن، عبد الله بن الزبير ومحمد بن حاطب ومروان بن الحكم، كما كان معهم الحسين بن علي وابن عمر رضي الله عنهما (5) وقد كان علي من أدفع الناس عن عثمان رضي الله عنه وشهد له بذلك مروان بن الحكم (6) كما أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن علياً أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي، فأمنعك من القوم فإنك لم تحدث شيئاً يستحل به دمك، فقال: جزيت خيراً، ما أحب أن يهراق دم في سببي (7)، وقد وردت روايات عديدة تفيد وقوفه بجانب عثمان رضي الله عنهما، أثناء الحصار فمن ذلك: أن الثائرين منعوا عن عثمان الماء حتى كاد أهله أن يموتوا عطشاً، فأرسل علي رضي الله عنه إليه بثلاث قرب مملؤة ماء فما كادت تصل إليه، وجرح بسبها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصلت (8)، ولقد تسارعت الأحداث فوثب الغوغاء على عثمان وقتلوه رضي الله عنه، وأرضاه،
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 167)، المسند (1/ 396) أحمد شاكر.
(2) تاريخ المدينة لابن شبة (4/ 1208).
(3) الرياض النظرة نقلاً عن الحسن بن علي ودوره السياسي صـ 46 ..
(4) الطبقات لابن سعد (8/ 128) بسند صحيح.
(5) تاريخ خليفة صـ 174.
(6) تاريخ الإسلام للذهبي صـ 46 ـ 461 إسناده قوي.
(7) تاريخ دمشق صـ 403.
(8) أسباب الأشراف للبلاذري (5/ 76).(1/147)
ووصل الخبر إلى الصحابة وأكثرهم في المسجد، فذهبت عقولهم، وقال على لأبنائه و أبناء أخيه كيف قتل عثمان وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن، وكان قد جرح (1)، وضرب صدر الحسين، وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله ويقول: تباً لكم سائر الدهر، اللهم أني أبرأ إليكم من دمه أن يكون قتلت أو ما لأت على قتله (2)،
وهكذا كان موقف علي رضي الله عنه، نصح وشورى سمع وطاعة، ووقفة قوية بجانبه أثناء الفتنة، ومن أدفع الناس عنه، ولم يذكره بسوء قط، يحاول الإصلاح وسد الخرق بين الخليفة والخارجين عليه لكن الأمر فوق طاقته، وخارج إرادته، إنها إرادة الله عز وجل أن يفوز أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالشهادة (3) ... ويبوء المفسدين بالإثم أن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنكر قتل عثمان، وتبرأ من دمه، وكان يقسم على ذلك في خطبه، وغيرها: إنه لم يقتله ولا أمر بقتله، ولا مالأ عليه، ولا رضي، وقد ثبت ذلك عنه بطرق تفيد القطع (4)، خلافاً لما تزعمه الرافضة من أنه كان راضياً بقتل عثمان رضي الله عنهما (5)، وقال الحاكم بعد ذكر بعض الأخبار الواردة في مقتله رضي الله عنه: فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كذب، وزور، فقد تواترت الأخبار بخلافه (6). وقال ابن تيميه: وهذا كله كذب على علي رضي الله عنه، وافتراء عليه، فعلي رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان رضي الله عنه ولا أمر ولا رضي، وقد روي عنه ذلك، وهو الصادق البار (7)، وقد قال علي رضي الله عنه: اللهم أني أبرأ إليك من دم عثمان (8).
_________
(1) ابن أبي عاصم الآحاد والثماني 1/ 125) نقلاً عن خلافة علي صـ 87.
(2) مصنف ابن أبي شيبه (15/ 209) إسناد صحيح ..
(3) خلافة علي بن أبي طالب صـ 87، على عبد الحميد.
(4) البداية والنهاية (7/ 202).
(5) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط صـ 129، حق اليقين، عبد الله شبر صـ 189.
(6) المستدرك (3/ 103).
(7) مناهج السنة (4/ 406).
(8) العقيدة في أهل البيت صـ 130، إسناده حسن الطبقات (3/ 3).(1/148)
وقد شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الرافضية التي ذكرها كثير من المؤرخين والمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف، والواقدي، وابن أعثم، وغيرها من الأخبار يبين ويشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة، ويثيرون الفتنة، فأبي مخنف ذو الميول الشيعية لا يتورع في اتهام عثمان بأنه الخليفة الذي كثرت سقطاته، فاستحق ما استحق، ويظهر طلحة في مروياته كواحد من الثائرين على عثمان، والمؤلبين ضده، ولا تختلف روايات الواقدي عن رويات أبي مخنف، وقد كثرت الروايات الرافضية التي تتهم الصحابة بالتآمر ضد عثمان رضي الله عنه وأنهم هم الذين حركوا الفتنة، وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور (1)، وخلافاً للروايات الرافضية والموضوعة والضعيفة فقد حفظت لنا كتب المحدثين بحمد الله الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان، والمنافحين عنه والمتبرأين من قتله، والمطالبين بدمه بعد مقتله وبذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة، أو إثارتها (2)، إن الصحابة جميعاً رضي الله عنهم أبرياء من دم عثمان رضي الله عنه ومن قال خلاف ذلك، فكلامه باطل لا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى مرتبة الصحة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم، عن أبيه، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين، والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجاً (3)، من أهل مصر. وقال الإمام النَّووي،: ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج، ورعاع من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل، تحزَّبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصَّحابة الحاضرون عن دفعهم، فحصروه حتَّى قتل، رضي الله عنه (4)،
وقد وصفهم الزبير رضي الله عنه بأنهم غوغاء من الأمصار، ووصفتهم السيَّدة عائشة بأنَّهم نزَّاع القبائل (5)، ووصفهم ابن تيميه بأنهم خوارج مفسدون وضالون، باغون
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 14 إلى 18).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) العلج: كل جاف شديد من الرّجال
(4) شهيد الدار عثمان بن عفان صـ 148 ..
(5) شرح النَّوويِّ على صحيح مسلم (15/ 148).(1/149)
معتدون (1)، ووصفهم الذهبيُّ بأنهم رؤوس شرِّ، وجفاء (2)، ووصفهم ابن العماد الحنبليُّ في الشذرات بأنَّهم أراذل من أوباش القبائل (3)، ويشهد على هذا الوصف تصرُّف هؤلاء الرُّعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة رضي الله عنه ظلماً، وعدواناً فكيف يمنع الماء عنه، والطّعام، وهو الذي طالما دفع من ماله الخاص ما يروي ظمأ المسلمين بالمجّان (4)، وهو الذي يساهم بأموال كثيرة عندما يلمُّ بالناس مجاعة، أو مكروه وهو الدائم العطاء عندما يصيب النَّاس ضائقة، أو شدَّة من الشدائد (5)، حتى أنَّ علياً رضي الله عنه يصف هذا الحال، وهو يؤنب المحاصرين بقوله: يا أيُّها الناس: إن الذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين، فلا تمنعوا عن هذا الرّجل الماء، ولا المادة ـ الطعام ـ فإن الرُّوم، وفارس لتأسر، وتطعم، وتسقي (6)، لقد صحَّت الأخبار، وأكَّدت حوادث التاريخ على براءة الصَّحابة من التَّحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضدّه (7)، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان (8).
رابعاً: الحسن بن علي في عهد والده رضي الله عنهما:
تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق، ومن أمصار مختلفة، وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وزوراً وعدواناً يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين (9)، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك
_________
(1) منهاج السنَّة (2/ 189 ـ 206).
(2) دول الإسلام للذهبي (1/ 12).
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 482)، شذرات الذهب (1/ 40).
(4) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان للصَّلاَّبيَّ صـ 450.
(5) التمهيد والبيان صـ 424.
(6) تاريخ الطبري (5/ 400).
(7) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 18).
(8) عثمان بن عفان للصَّلاَّبيَّ صـ 451 إلى 466.
(9) الطبقات لابن سعد (3/ 31).(1/150)
لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان رضي الله عنه ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال أثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم، فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم (1)،
وقد ذكرت تلك الروايات بالتفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد انعقد أجماع أهل السنة والجماعة على أن علياً رضي الله عنه كان متعيناً للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه لبيعة المهاجرين والأنصار له لما رأوا لفضله على من بقي من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلاماً، وأوفرهم علماً، وأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وأشجعهم نفساً، وأحبهم إلى الله ورسوله وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً فكان رضي الله عنه متعيناً للخلافة دون غيره، وقد قام من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعقد البيعة به بالخلافة بالإجماع فكان حينئذ إماماً حقاً وجب على سائل الناس طاعته وحرم الخروج عليه ومخالفته، وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم منهم، ابن سعد (2)، وابن قدامة (3)، وأبو الحسن الأشعري (4)، وأبو نعيم الأصبهاني (5)، وأبو منصور البغدادي (6)، والزهري (7)، وعبد الملك الجويني (8)، وأبو عبد الله بن بطة (9)،
_________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام (2/ 677) ..
(2) الطبقات الكبرى (3/ 31).
(3) منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين صـ 77 ـ 78 نقلاً عن عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 689).
(4) الإبانة عن أصول الديانة صـ 78، مقالات الإسلاميين (1/ 346).
(5) كتاب الإمامة والرد على الرافضة صـ 360 ـ 361.
(6) كتاب أصول الدين صـ 286 ـ 287.
(7) الاعتقاد صـ 193.
(8) كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد صـ 362، 363.
(9) لوامع الأنوار البهية للسفاريتي (2/ 246)، عقيدة أهل السنة (2/ 692).(1/151)
والغزالي (1)،وأبو بكر بن العربي (2)، وابن تيمية (3)، وابن حجر (4)،
والذي نستفيده من هذه النقول المتقدمة للإجماع أن خلافة علي رضي الله عنه محل إجماع على أحقيتها وصحتها في وقت زمانها وذلك بعد قتل عثمان رضي الله عنه حيث لم يبق على الأرض أحق بها منه رضي الله عنه، فقد جاءت علي رضي الله عنه على قدر في وقتها ومحلها (5).
1 ـ خروج أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى الكوفة:
لم يكن بعض الصحابة رضي الله عنهم في المدينة يؤيدون خروج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من المدينة، وقد تبين ذلك حينما همَّ عليَّ بالنهوض إلى الشام ليزور أهلها وينظر ما هو رأي معاوية ما هو صانع (6)، فقد كان يرى أن المدينة لم تعد تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة فقال: إن الرجل والأموال بالعراق (7)، فلما علم أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه بهذا الميل قال للخليفة: يا أمير المؤمنين، لو أقمت بهذه البلاد لأنها الدرع الحصينة، ومهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامة لك العرب كنت كمن كان، وإن تشعب عليك قوم رميتهم بأعدائهم وإن ألجئت حينئذ إلى السير سرت وقد أعذرت .. ، فأخذ الخليفة بما أشار عليه أبي أيوب. وعزم المقامة بالمدينة وبعث العمال على الأمصار (8)، ولكن حصلت كثير من المستجدات السياسية التي أرغمت الخليفة على مغادرة المدينة، وقرّر الخروج للتوجه إلى الكوفة ليكون قريباً من أهل الشام (9)،
وأثناء استعداده للخروج، بلغه خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة فاستنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته وحدث تثاقل من بعض أهل المدينة بسبب وجود الغوغاء في جيش علي، وطريقة التعامل
_________
(1) الاقتصاد في الاعتقاد صـ 154.
(2) العواصم من القواصم صـ 142.
(3) الوصية الكبرى صـ 23.
(4) فتح الباري (7/ 72) ..
(5) عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام (2/ 693).
(6) الثقات لابن حبان (2/ 283)، الأنصار في العصر الراشدي صـ 161.
(7) المصدر نفسه (2/ 283)، الأنصار في العصر الراشدي صـ 161.
(8) الثقات لابن حبان (2/ 283)، الأنصار في العصر الراشدي صـ 161.
(9) استشهاد عثمان ووقعة الجمل صـ 183 ..(1/152)
معهم، فكثير من أهل المدينة يرون أن الفتنة لا زالت مستمرة، فلا بد من التروي حتى تتجلى الأمور أكثر، وهم يقولون لا والله ما ندري كيف نصنع، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيئ لنا ويسفر، وروى الطبري أن علي رضي الله عنه خرج في تعبئته التي كانت تعبئ بها إلى الشام وخرج معه النشطة من الكوفيين والبصريين متخفين في سبعمائة رجل (1)، والأدلة على تثاقل الكثير من أهل المدينة عن إجابة دعوة أمير المؤمنين للخروج كثير منهم، خطب الخليفة التي شكا فيها من هذا التثاقل (2).
2 ـ نصيحة الحسن بن علي لوالده:
خرج أمير المؤمنين من المدينة، وعندما بلغ الربذة (3) عسكر فيها بمن معه، ووفد عليه عدد من المسلمين بلغوا المائتين (4)، وفي الربذة قام إليه ابنه الحسن رضي الله عنهما وهو باك لا يخفي حزنه وتأثره على ما أصاب المسلمين من تفرق واختلاف، وقال الحسن لوالده: قد أمرتني فعصيتك، فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية (5)، وما الذي أمرته فعصيته؟، قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة، فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعلا هذان الرجلان، ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بني، أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوا الله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة و الزبير، فإن ذلك كان وهناً على أهل الإسلام، والله ما زلت مقهوراً مذ وليت، منقوصاً لا أصل إلى شئ مما ينبغي، وأما قولك: اجلس في بيتك فكيف لي بما قد لزمني
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 481).
(2) الطبقات (3/ 237)، الأنصار في العصر الراشدى صـ 163.
(3) شرق المدينة المنورة تبعد 240 كم.
(4) أنساب الأشراف (2/ 45) خلافة علي بن أبي طالب صـ 143.
(5) تاريخ الطبري (5/ 482): خن: أخرج الصوت من خياشيمه.(1/153)
أو مِنُ تريدني؟ أتريدني أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب (1)، ليست هاهنا حتى يحل عرقوباها ثم نخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه، فكف عنك أي بني.
ومن هذه الحادثة نلاحظ حسن تربية أمير المؤمنين علي لأبنه، وكيف أعطاه مجالاً ليعبر عن ما في نفسه بدون ضغوط ثم رد أمير المؤمنين على كل اعتراض، كما تبين ميل الحسن رضي الله عنه المبكر للسلم والابتعاد عن استخدام القوة مهما كلف الأمر، أما أمير المؤمنين علي، فقد كان حازماً ـ والحق معه ـ في هذه المشكلة وواضح ولم يستطيع أحد أن يثنيه عن عزمه وكان متريثاً في تنفيذ القصاص على قتلة عثمان فقد كان ينتظر حتى يستتب له الأمر، ثم ينظر في شأن قتلة عثمان فحين طالب الزبير وطلحة ومن معهم بإقامة حد القصاص عليهم اعتذر لهم بأنهم كثير وأنهم قوة لا يستهان بها، وطلب منهم أن يصبروا حتى تستقر الأوضاع وتهدأ الأمور، فتؤخذ الحقوق، لئن الظروف لم تكن مواتية من جلب المصالح وقد ألمح أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى اختيار أهون الشرين حين قال: هذا الذي ندعوكم إليه من إقرار ـ قتلة عثمان ـ وهو خير من شر منه ـ القتال والفرقة (2)، لقد رأى أمير المؤمنين أن المصلحة تقتضي تأخير القصاص لا تركه، فأخر القصاص من أجل هذا، وكان رضي الله عنه ينتظر بقتلة عثمان أن يستوثق الأمن وتجتمع الكلمة ويرفع الطلب من أولياء الدم، فيحضر الطالب للدم والمطلوب، وتقع الدعوة ويكون الجواب، وتقوم البينة ويجري القضاء في مجلس الحكم (3)،ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة (4)، وأما ما أثير عن وجود قتلة عثمان في جيش أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكيف يرضى أن يكون هؤلاء في جيشه، فقد أجاب الإمام الطحاوي عن ذلك بقوله: وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك
_________
(1) دباب، كقطام: دعاء الضبع للضبع.
(2) المصدر السابق (5/ 460)
(3) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 156)
(4) أحكام القرآن لأبن العربي (2/ 1718)(1/154)
الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه ومن تنتصر له قبيلته ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله (1)،
وعلى كل حال، كان موقفه منهم موقف المحتاط منهم، المتبرئ من فعلهم، وكان راغباً في الإستغناء عنهم بل الإقتصاص منهم، لو وجد إلى ذلك سبيلاً وقد فصلت ذلك في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
3 ـ أثر الحسن بن علي في استنفار أهل الكوفة:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يمارس صلاحياته كخليفة وكان فيه من العزم والحزم بحيث لا يستطيع أحد أن يثنيه عن عزمه، فأرسل علي رضي الله عنه من الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم إلى نصرته، وكان الرسولان محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن جعفر ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما، إذ أن أبا موسى الأشعري والى الكوفة من قبل علي، ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال في الفتنة وأسمعهم ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحذير من الإشتراك في الفتنة (2)،فأرسل علي بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته، لتأثير أبي موسى عليهم (3)، فبعث عبد الله بن عباس فأبطوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن بن علي، وعزل أبا موس الأشعري واستعمل قرظة بن كعب بدلا منه (4) وكان للقعقاع بن عمرو دور كبير في إقناع أهل الكوفة، قام فيهم وقال: أني لكم ناصح وعليكم شفيق، وأحب أن ترشدوا، ولأقولن لكم قولا هو الحق، ... والقول الذي هو القول إنه لا بد من إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم، وتعز المظلوم، وهذا علي يلي ما ولي، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعوا إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأ ومسمع و مسمع (5)،
_________
(1) شرح الطحاوية ص 546
(2) تاريخ الطبري (5/ 514) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 12) اسناده حسن
(3) خلافة علي بن أبي طالب ص 44 عبد الحميد، سير أعلام النبلاء (3/ 486)
(4) فتح الباري (13/ 25)، التاريخ الصغير (1/ 109)
(5) تاريخ الطبري (5/ 516)(1/155)
وكان للحسن بن علي أثر واضح، فقد قام خطيباً في الناس وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن
يليه أولو النهى (1)، أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم (2)، ولبى كثير من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بين ستة إلى سبعة ألف رجل، ثم انضم إليهم من أهل البصرة ألفان من عبد القيس ثم توافدت عليه القبائل إلى أن بلغ جيشه عند حدوث المعركة اثني عشر ألف رجل تقريباً (3)، وعندما التقى أهل الكوفة بأمير المؤمنين علي بذي قار قال لهم: يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأعنتم حوزتكم واغتنم الناس على عودهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذلك ما نريد وأن يلجوا داويناهم بالرفق وبايناهم حتى يبدؤونا بظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله ولا قوة إلا بالله (4).
4 ـ محاولات الصلح:
كان علي رضي الله عنه حريصاً على أن يقضي على هذه الفرقة والفتنة بالوسائل السلمية وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أوتي من قوة وجهد، وكذلك الحال بالنسبة لطلحة والزبير، وقد اشترك في محاولات الصلح عدد من الصحابة وكبار التابعين، وكان من أشهرها محاولة القعقاع بن عمرو، فقد حاور طلحة والزبير والسيدة عائشة، وقد تأثروا بما طرح وسألت السيدة عائشة القعقاع عن رأيه في أمر قتلة عثمان، فقال: هذا أمر دواءه التسكين، ولا بد من التأني في الاقتصاص من قتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم علياً (5) واتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم
_________
(1) أولو النهى: أصحاب العقول.
(2) تاريخ الطبري (5/ 516).
(3) مصنف عبد الرزاق (5/ 456 ـ 457) بسند صحيح إلى الزهري.
(4) تاريخ الطبري (5/ 519).
(5) المقصود: الانقياد التام لسياسة أمير المؤمنين علي في التعامل مع قتلة عثمان.(1/156)
ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهاباً لهذا الملك، فآثروا العافية ترزقونها وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تعرضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم وأيم والله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف ألا يتم، حتى يأخذ الله حجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة، اقتنعوا بكلام القعقاع المقنع الصادق المخلص، ووافقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له أحسنت وأصبت المقالة، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر إن شاء الله، وعاد القعقاع إلى علي في "ذي قار"، وقد نجح في مهمته، وأخبر علياً بما جرى معهم، فأعجب علي بذلك، وأوشك القوم على الصلح، كرهه من كرهه ورضيه من رضيه (1).
5 ـ دور السبائية في نشوب القتال في معركة الجمل:
لما عاد القعقاع وأخبر أمير المؤمنين علي بما فعل، أرسل علي رضي الله عنه رسولين (2) إلى عائشة والزبير ومن معه يستوثق فيه مما جاء به القعقاع بن عمرو، فجاءا علياً، بأنه على ما فارقنا عليه القعقاع فأقدم، فارتحل علي حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح (3). وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما نوى الرحيل قد أعلن قراره الخطير: ألا وأني راحل غداً فارتحلوا يقصد إلى البصرة، ألا ولا يرتحلن غداً أحدٌ أعان على عثمان بشئ في شئ من أمور الناس (4)، وكان في معسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة والخوارج الذي قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره (5)، وحرص أتباع
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 739)، تاريخ الطبري (5/ 521).
(2) تاريخ الطبري (5/ 525).
(3) المصدر نفسه (5/ 539).
(4) المصدر نفسه (5/ 525).
(5) المصدر نفسه (5/ 526).(1/157)
ابن سبأ على إشعال الفتنة وتأجيج نيرانها حتى يفلتوا من القصاص (1)،
فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير، فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح، وترك الحرب حين رأوا أن الأمر أخذ في الانقشاع، فافترقوا على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه ـ فبات الناس على نية الصلح والعافية وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا ينوون إلا الصلح، وبات الذين أثاروا الفتنة بشر ليلة باتوها قط، إذ أشرفوا على الهلاك، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلهم، وقال قائلهم: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم وذلك حين طلب من الناس أن يرتحلوا في الغد ولا يرتحل معه أحد أعان على عثمان بشئ ـ ورأي الناس فينا والله واحد، وأن يصطلحوا مع علي فعلى دماءنا (2)، وتكلم ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ وهو المشير فيهم ـ فقال: إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غداً فانشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، وإذا أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون، فابصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون (3) فاجتمعوا على هذا الرأي بإنشاب الحرب في السر، فغدوا في الغلس وعليهم ظلمة، وما يشعر بهم جيرانهم فخرج مضريهم إلى مضريهم وربيعيهم إلى ربيعيهم، ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السيوف، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه الذين باغتوهم، فخرج الزبير وطلحة في وجوه الناس واندلع القتال (4)،
وقد تحدثت عن جولات معركة الجمل بالتفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقد كان أثر السبئية في معركة الجمل مما يكاد يجمع عليه العلماء، سوى أسموهم
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 527)، تحقيق مواقف الصحابة (2/ 120) ..
(2) تاريخ الطبري (5/ 526).
(3) المصدر نفسه (5/ 527).
(4) المصدر نفسه (5/ 541) ..(1/158)
بالمفسدين أو بأوباش الطائفتين أو أسماهم البعض بقتلة، أو نبذوهم بالسفهاء، أو بالغوغاء، أو أطلقوا عليهم صراحة السبئية (1) وهذه بعض النصوص التي تؤكد ذلك.
أ ـ جاء في أخبار البصرة لعمر بن شبة أن الذي نسب إليهم قتل عثمان خشوا أن يصطلح الفريقان على قتلهم، فانشبوا الحرب بينهم حتى كان ما كان (2).
ب ـ قال الإمام الطحاوي: فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين (3).
ت ـ وقال الباقلاني: .. وتم الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم، والإحاطة بهم، فاجتمعوا، وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فرقتين ويبدأوا بالحرب سحرة في المعسكرين ويختلطوا، ويصيح الفريق الذي في معسكر علي: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الذي في طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما دبروه ونشب الحرب، فكان كل فريق منهم دافعاً لمكروه عن نفسه ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذا وقع، والامتناع منهم على هذا السبيل، فهذا هو الصحيح المشهور، وإليه تميل، وبه نقول (4).
ث ـ ونقل القاضي عبد الجبار: أقوال العلماء، باتفاق رأي علي وطلحة والزبير وعائشة ـ رضوان الله عليهم ـ على الصلح، وترك الحرب، واستقبال النظر في الأمر، وأنَّ من كان في المعسكر من أعداء عثمان كرهوا ذلك، وخافوا أن تتفرغ الجماعة لهم، فدبّروا في إلقاء ما هو معروف، وتمّ ذلك (5).
جـ ـ ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: وقدم عليّ على البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء وبادروا بإراقة الدماء واشتجر الحرب،
_________
(1) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام صـ 194.
(2) فتح الباري (13/ 56).
(3) شرح العقيدة الطحاوية صـ 546.
(4) التمهيد صـ 233.
(5) تثبيت دلائل النبوة للهمذاني صـ 299.(1/159)
وكثرت الغوغاء على البوغاء، كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا يقف الحال على بيان، ويخفي قتلة عثمان، وإنّ واحداً في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف (1).
ح ـ ويقول ابن حزم: ... وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم، فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر عليّ، فدفع أهله عن أنفسهم كل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأتها القتال، واختلط الأمر اختلاطاً، لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شنّ الحرب واضرامها، فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها، مدافعة عن نفسها، ورجع الزبير وترك الحرب بحالها، وأتى طلحة سهم غارب، وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط، فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانصرف ومات من وقته ـ رضي الله عنه ـ وقتل الزبير بوادي السباع ـ بعد انسحابه من المعركة ـ على أقل من يوم من البصرة، فهكذا كان الأمر (2).
خ ـ ويقول الذهبي .. كان وقعة الجمل أثارها سفهاء الفريقين (3). ويقول: إن الفريقين اصطلحا وليس لعلي ولا لطلحة قصد القتال، بل، ليتكلموا في اجتماع الكلمة، فترامى أوباش الطائفتين بالنيل وشبت نار الحرب، وثارت النفوس (4). وفي دول الإسلام: والتحم القتال من الغوغاء: وخرج الأمر عن علي وطلحة والزبير (5). يقول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ولنا بعد ذلك أن نقول: وما المانع أن تكون رواية الطبري المصرّحة بدور السبئية في الجمل، تفسر هذا التعميم وتحدد تلك المسميات التي وردت في نقولات هؤلاؤء العلماء؟ وحتى ولو لم تكن هذه الطوائف الغوغائية ذات صلة مباشرة بالسبئية ولم تكن لها أهداف كأهدافهم،
_________
(1) العواصم من القواصم صـ 156، 157.
(2) الفصل في الملل والنحل (4/ 157، 158).
(3) العبر (1/ 37)، عبد الله بن سبأ للعودة صـ 195.
(4) تاريخ الإسلام (1/ 15)، عبد الله بن سبأ للعودة صـ 195.
(5) دول الإسلام (1/ 15)، عبد الله بن سبأ للعودة صـ 195.(1/160)
فأي مانع يمنع القول أن هذه شكلت أرضية استغلها ابن سبأ وأعوانه "السبئية" كما هي العادة في بعض الحركات الغوغائية التي تستغل من قبل المفسدين (1).
وقد كان الحسن رضي الله عنه يوم الجمل على الميمنة وقيل على الميسرة، وكان يكره القتال ويشير على أبيه بتركه (2).
6 ـ عدد القتلى في الجمل:
أسفرت هذه الحرب الضروس عن عدد من القتلى اختلف في تقديره الروايات، وذكر المسعودي أن هذا الاختلاف في تقدير عدد القتلى مرجعه إلى أهواء الرواة (3)، وقد أورد خليفة بن خياط بياناً بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل، فكانوا قريباً من المائة (4)، فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين وليس مائة، فإن هذا يعني أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين. وهذا هو الرقم، الذي ترجح لدى الدكتور خالد بن محمد الغيث في رسالته استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري دراسة نقدية (5)، وأما ما ذكره أبو مخنف الرافضي الشيعي في كون القتلى يصل عددهم إلى عشرين ألفاً (6)، فهذا مبالغ فيه، وقد أساء هذا الكذّاب من حيث يظن أنه أحسن، إذ ذكر أن العشرين ألفاً من أهل البصرة فقط (7)، وأما سيف فيذكر أنهم عشرة آلاف نصفهم من أصحاب علي رضي الله عنه ونصفهم من أصحاب عائشة رضي الله عنها، وفي رواية أخرى قال: وقيل خمسة عشرة آلاف، خمسة آلاف من أهل الكوفة، وعشرة آلاف من أهل البصرة، نصفهم قتل في المعركة الأولى ونصفهم في الجولة الثانية (8)، والروايتان ضعيفتان للانقطاع غيره، وفيها مبالغة أيضاً، ويذكر عمر
_________
(1) المصدر نفسه صـ 196.
(2) الوافي بالوفيات للصدفي (12/ 109).
(3) مروج الذهب (3/ 367).
(4) تاريخ خليفة صـ 187، 190.
(5) استشهاد عثمان ووقعة الجمل صـ 215.
(6) تاريخ خليفة صـ 86 بسند مرسل.
(7) المصدر نفسه صـ 186.
(8) تاريخ الطبري (5/ 542 إلى 555).(1/161)
بن شبه أن القتلى يزيدون على ستة آلاف، إلا أن الرواية ضعيفة سنداً (1)، وأما اليعقوبي، فقد جاوز هؤلاء جميعاً، إذ وضع عدد القتلى نيفاً وثلاثين ألفاً (2)، وهذه الأرقام مبالغاً فيها جداً وقد ذكرت في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أسباب المبالغة.
7 ـ نداء أمير المؤمنين بعد الحرب:
ما إن بدأت الحرب تضع أوزارها، حتى نادى منادي علي: أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا مدبراً، ولا يدخلون داراً ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن وليس لجيشه من غنيمة إلا ما حمل إلى ميدان المعركة من سلاح وكراع وليس لهم ما وراء ذلك من شئ، ونادى منادي أمير المؤمنين فيمن حاربه من أهل البصرة من وجد شيئاً من متاعه عند أحد من جنده، فله أن يأخذه (3).
8 ـ تفقده للقتلى وترحمه عليهم:
بعد انتهاء المعركة خرج أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يتفقد القتلى في نفر من أصحابه، فأبصر محمد بن طلحة السجاد، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شاباً صالحاً، ثم قعد كئيباً حزيناً .. ودعا للقتلى بالمغفرة وترحم عليهم وأثنى على عدد منهم بالخير والصلاح (4).
9 ـ تأثره من مقتل طلحة رضي الله عنه:
وإن علياً لما دار بين القتلى رأى طلحة مقتولاً فجعل يمسح عن وجهه التراب (5) ثم قال: عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مُجندلاً في الأودية، ثم قال: إلى الله أشكو عُجري وبُجري (6) وترحم عليه وقال: ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة (7).
_________
(1) تاريخ خليفة بن خياط صـ 186 إسناده منقطع وهو حسن إلا قتادة.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 546) فتح الباري (13/ 62).
(3) استشهاد عثمان ووقعة الجمل صـ 202.
(4) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 261) المستدرك (3/ 103، 375، 104) والإسناد حسن لغيره، خلافة علي بن أبي طالب صـ 169.
(5) البداية والنهاية (7/ 258).
(6) سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي.
(7) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين صـ 528.(1/162)
10 ـ وقفه من قاتل الزبير رضي الله عنه:
لما غدر عمرو بن جرموز بالزبير وقتله إحتز رأسه وذهب به إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: بشرّ قاتل ابن صفية بالنار، ثم قال علي: سمعت رسول الله يقول لكل نبي حواري وحواريّ الزبير (1)، ولما رأى علي سيف الزبير قال: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله (2) وفي رواية: منع أمير المؤمنين ابن جرموز بالدخول عليه، وقال للآذان بشر قاتل ابن صفية بالنار (3)، ويقال ابن عمرو بن جرموز قتل نفسه في عهد علي، وقيل بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا وهو مختف، فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لأقيد (4) للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلاً للزبير (5)، وكان أمير المؤمنين قد وضع الأسرى في مساء يوم الجمل في موضع خاص، فلما صلى الغداة طلب موسى بن طلحة بن عبيد الله، فقربه ورحب به وأجلسه بجواره وسأله عن أحواله وأحوال أخوته، ثم قال له: إنا لم نقبض أرضكم هذه ونحن نريد أن نأخذها إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس، ودفع له غلتها وقال: يا ابن أخي وأننا في الحاجة إذا كانت لك وكذلك فعل مع أخيه عمران بن طلحة فبايعاه، فلما رأى الأسارى ذلك دخلوا على علي رضي الله عنه يبايعونه، فبايعهم وبايع الآخرين على راياتهم قبيلة قبيلة (6)،
كما سأل عن مروان بن الحكم وقال: يعطفني عليه رحم ماسة وهو مع ذلك سيد من شباب قريش، وقد أرسل مروان إلى الحسن والحسين وابن عباس رضي الله عنهم ليكلموا عليا فقال علي هو آمن فليتوجه حيث شاء، ولكن مروان إزاء هذا الكرم والنبل، لم
_________
(1) فضائل الصحابة (2/ 920).
(2) البداية والنهاية (7/ 261).
(3) الطبقات (3/ 105) إسناده حسن خلافة علي صـ 164 عبد الحميد.
(4) أقيد: قود: القتل بالقاتل.
(5) البداية والنهاية (7/ 261).
(6) الطبقات (3/ 224) بسند حسن، المستدرك (3/ 376 ـ 377) ..(1/163)
تطاوعه نفسه أن يذهب حتى بايعه (1)، كما أن مروان بن الحكم أثنى على فعال أمير المؤمنين علي وقال لأبنه الحسن: ما رأيت أكرم غلبة من أبيك، ما كان إلا أن ولينا يوم الجمل حتى ناد مناديه: ألا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح (2)
11 ـ أمير المؤمنين علي يرد عائشة إلى مأمنها معززة مكرمة:
جهز أمير المؤمنين علي عائشة بكل شئ ينبغي لها من مركب وزاد أو متاع، وأخرج معها من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختر لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وقال: تجهز يا محمد ابن الحنفية: فبلغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس، وودعوها وودعتهم وقالت: يا بني تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة ولا يعتدن أحداً منك على أحد بشئ بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه عندي على معتبتي من الأخيار، وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبرت ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة ستة وثلاثين، وشيعها علي أميالاً وسرح بنيه معها يوماً (3).
12 ـ ندمهم على ما حصل منهم:
قال ابن تيميه: .. وهكذا عامة السابقين، ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي وغيرهم، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم (4).
أ ـ فأمير المؤمنين علي ورد عنه، عندما نظر وقد أخذت السيوف مأخذها من الرجال فقال: لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة (5).
_________
(1) 2 سنن سعيد ابن منصور (2/ 337) بسند حسن
(2) كتاب أهل البغي من الحاوي الكبير للماوردي ص 111
(3) تاريخ الطبري (5/ 581).
(4) المنتقى من منهاج الاعتدال صـ 222.
(5) الفتن نعيم بن حماد (1/ 80).(1/164)
ب ـ وروى نعيم بن حماد، بسنده إلى الحسن بن علي، إنه قال لسليمان بن صرد، لقد رأيت علياً حين اشتد القتال وهو يلوذ بي، ويقول: يا حسن: لوددت مت قبل هذا بعشرين سنة (1).
ت ـ وعن حسن بن علي قال: أراد أمير المؤمنين علي أمراً، فتتابعت الأمور، فلم يجد منزعاً (2).
ث ـ وعن سليمان بن صرد، عن حسن بن علي سمع علي يقول: ـ حين نظر إلى السيوف قد أخذت القوم ـ يا حسن أكل هذا فينا؟ ليتني مت قبل هذا بعشرين أو أربعين سنة (3).
خ ـ قال ابن تيمية: فإن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا خرجت خروجها تبكي حتى تبل خمارها وهكذا عامّة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي وغيرهم، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع القتال بغير اختيارهم (4).
د ـ قال الذهبي ولا ريب أن عائشة ندمت ندمة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ (5)، ومن أراد التوسع والمزيد من معركة الجمل التي حضرها الحسن بن علي رضي الله عنه فليراجع كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
س ـ وقبل أن نودع الأحداث المؤلمة في الجمل نقف عند درس مهم نستخلصه منها: وهو أننا لا بد أن نعمل حساب لكيد الأعداء ومكرهم في سبيل إفشال إي جهد مخلص لتوحيد الصف أو فيه خطر على مصالحهم، فيجب في مثل هذه
_________
(1) المصدر السابق (1/ 80).
(2) الفتن (1/ 81) نعيم بن حماد.
(3) أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ 217.
(4) المنتقى من منهاج الاعتدال صـ 222، 223.
(5) سير أعلام النبلاء (2/ 177).(1/165)
الحالة إننا إذا اتفقنا على الأفكار العامة أن نرسم الخطط ونضع التدابير اللازمة، لتنفيذ ما اتفقنا عليه وتفويت الفرصة على الأعداء في إفشاله وإلا تترك الفرحة بجمع الكلمة تنسينا خطر الأعداء وما يمكن أن يقوموا به بالإضرار بالإسلام والمسلمين، وقد استفاد الحسن من هذا الدرس وطبقه في مشروعه الإصلاح الذي سيأتي تفصيله بإذن الله.
ـ معركة صفين:
ومن الأحداث الكبيرة التي شاهدها الحسن بن علي في عهد والده معركة صفين، كما كان على اطلاع مفصل بالعلاقة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهم، فقد كان معاوية رضي الله عنه واليا على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى علي الخلافة أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر فأبى عليه عبد الله بن عمر قبول ولاية الشام واعتذر في ذلك وذكر له القرابة والمصاهرة التي بينهم (1)، ولم يلزمه أمير المؤمنين علي وقبل منه طلبه بعدم الذهاب إلى الشام، وأما الروايات التي تزعم أن عليا قام بالتهجم على عبد الله بن عمر رضي الله عنه لاعتزاله وعدم الوقوف بجانبه، ففي ذلك الخبر تحريف وكذب (2)، وأقصى ما وصل إليه الأمر في قضية عبد الله بن عمر وولاية الشام ما رواه الذهبي من طريق سفيان بن عيينة، عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: بعث إلي علي قال: يا أبا عبد الرحمن إنك رجل مطاع في أهل الشام، فسر فقد أمرتك عليهم، فقلت: أذكر الله وقرابتي من رسول الله وصحبتي إياه إلا ما أعفيتني فأبى علي فاستعنت بحفصة، فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة (3).
وهذا دليل قاطع على مبايعة ابن عمر، ودخوله في الطاعة، إذ كيف يوليه علي وهو لم يبايع، وبعد اعتذار ابن عمر من قبول ولاية الشام أرسل أمير المؤمنين علي سهل بن حنيف بدلا منه، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام حتى أخذته خيل معاوية وقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع (4) وكانت بلاد الشام تغلي غضباً
_________
(1) المصنف لابن أبي شيبة (7/ 472) اسناده صحيح
(2) استشهاد عثمان ووقعت الجمل، خالد الغيث ص 160
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 224) رجاله ثقات
(4) تهذيب تاريخ دمشق (4/ 39) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد ص 110(1/166)
على مقتل عثمان ظلما وعدوانا فقد وصلهم قميصه مخضباً بدمائه، بأصابع نائلة زوجه التي قطعت أصابعها وهي تدافع عنه، وكانت قصة استشهاده أليمة فظيعة أهتزت لها المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها الدموع، كما وصلتهم أخبار المدينة وسيطرة الغوغاء عليها، وهروب بني أمية إلى مكة، كل هذه الأمور وغيرها من الأحداث والعوامل كان لها تأثير على أهل الشام وعلى رأسهم معاوية رضي الله عنه، فقد كان يرى أن عليه مسؤولية الإنتصار لعثمان والقود من قاتليه فهو ولي دمه والله عز وجل يقول ((ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا)) (الإسراء:33) ولذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان وأنه قتل ظلماً وعدوانا على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس، واستذكروا وعلت الأصوات وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أحدهم واسمه مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمت، وذكر الفتن فقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم (1) وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب معاوية القود من قتلة عثمان ومنشطاً ودافعاً قوياً للتصميم على تحقيق الهدف وهو عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه فقال: يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصاً فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاث، فقلت لها: يا أم المؤمنين، فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرضى بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن أكتبي إليّ به، فكتبت إليه به كتاب (2)، فقد كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب بالخلافة، وليست لأطماع معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس بحق إذ كان يدرك إدراكاً
_________
(1) صحيح سنن ابن ماجه (1/ 24)
(2) مسند أحمد باقي مسند الأنصار رقم 24045 حديث صحيح.(1/167)
تاماً أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى وأن علياً أفضل منه وأولى بالأمر (1) ودليل ذلك ما أخرجه يحي بن سليمان الجعفي بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً، أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه لأعلم مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فأتوه، فقولوا له: فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأسلم لهم، وأتوا علياً فكلموه، فلم يدفعهم إليه (2)، وفي رواية: فأتوه فكلموه فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إليَّ فامتنع معاوية (3).
1 ـ هل خروج معاوية على علي رضي الله عنهما بسبب أطماع دنيوية؟
إن الروايات التي تصور معاوية في خروجه عن طاعة علي بسب أطماع ذاتية وأطماع دنيوية، بسبب التنافس والعداء الجاهلي القديم بين بني هاشم وبني أمية وغير ذلك من القذف والافتراءات والطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أعتمد عليها الكتاب المعاصرين ـ كالعقاد في عبقرية علي، وعبد العزيز الدوري في مقدمته في تاريخ صدر الإسلام وبنوا عليها تحليلاتهم الباطلة، هي روايات متروكة مطعون في رواتها عدلاً وضبطاً (4)، مما قد شاع بين الناس قديماً وحديثاً أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ـ كان سببه طمع معاوية في الخلافة وأن خروج هذا الأخير على عليّ وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام، ذكرها مؤرخو الشيعة الروافض أو كتاب الإمامة والسياسية المنسوب زوراً وبهتاً لابن قتيبة الدينوري، فهذا الكتاب لا يثبت لابن قتيبة وإنما كاتبه رافضي محترق، وهذه مجموعة من الأدلة تبرهن على أن الكتاب المذكور منسوب إلى الإمام ابن قتيبة كذباً وزوراً ومن هذه الأدلة:
ـ إن الذين ترجموا لابن قتيبة لم يذكر واحد منهم أنه ألف كتاباً في التاريخ يدعى الإمامة والسياسة، ولا نعرف من مؤلفاته التاريخية إلا كتاب المعارف.
_________
(1) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 112.
(2) فتح الباري (13/ 92)، البداية والنهاية (8/ 129).
(3) فتح الباري (13/ 92) استشهاد عثمان صـ 160.
(4) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد علي صـ 112(1/168)
ـ إن المتصفح للكتاب يشعر أن ابن قتيبة أقام في دمشق والمغرب في حين أنه لم يخرج من بغداد إلاّ إلى الدينور.
ـ إن المنهج والأسلوب الذي سار عليه المؤلف "الإمامة والسياسة" يختلف تماماً عن منهج وأسلوب ابن قتيبة في كتبه التي بين أيدينا في منهج ابن قتيبة أن يقدم لمؤلفاته بمقدمات طويلة يبين فيها منهجه والغرض من مؤلفه، وعلى خلاف ذلك يسير صاحب الإمامة والسياسة، فمقدمته قصيرة جداً لا تزيد عن ثلاثة أسطر هذا إلى جانب الاختلاف في الأسلوب، ومثل هذا النهج لم نعهده في مؤلفات ابن قتيبة.
ـ يروي مؤلف الكتاب عن أبي ليلى بشكل يشعر بالتلقى عنه، وابن أبي ليلى هذا هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه: قاضي الكوفة، توفي سنة 148هـ والمعروف أن ابن قتيبة لم يولد إلا سنة 213هـ أي بعد وفاة ابن أبي ليلى بخمسة وستين عاماً.
ـ إن قسماً كبيراً من رواياته جاءت بصيغة التمريض، فكثيراً ما يجئ فيه: ذكروا عن بعض المصريين، وذكروا عن محمد بن سليمان عن مشايخ أهل مصر وحدثنا بعض مشايخ أهل المغرب، وذكروا عن بعض المشيخة، وحدثنا بعض المشيخة. ومثل هذه التراكيب بعيدة كل البعد عن أسلوب وعبارات ابن قتيبة ولم ترد في كتبه (1).
ـ ابن قتيبة يحتل منزلة عالية لدى العلماء فهو عندهم من أهل السنة وثقة في علمه ودينه، يقول: السَّلفي: كان ابن قتيبة من الثقات وأهل السنة، ويقول ابن حزم: كان ثقة في دينه وعلمه، وتبعه في ذلك الخطيب البغدادي، ويقول عنه ابن تيمية: وإن ابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب أهل السنة المشهورة (2). ورجل هذه منزلته لدى رجال العلم المحققين هل من المعقول أن يكون
_________
(1) عقيدة الإمام ابن قتيبة، علي العلياني صـ 90.
(2) لسان الميزان (3/ 357)، تحقيق مواقف الصحابة (2/ 144).(1/169)
مؤلف كتاب الإمامة والسياسة الذي شوه التاريخ وألصق بالصحابة الكرام ما ليس فيهم (1).
إن مؤلف الإمامة والسياسة قدح في صحابة رسول الله قدحاً عظيماً فصور ابن عمر رضي الله عنه جباناً وسعد بن أبي وقاص حسوداً وذكر محمد بن مسلمة بأنه غضب على علي بن أبي طالب لأنه قتل مرحبا اليهودي بخيبر، وإن عائشة رضي الله عنها أمرت بقتل عثمان (2)، والقدح في الصحابة من أظهر خصائص الرافضة وأن شاركهم الخوارج إلاّ أنّ الخوارج لا يقدحون في عموم الصحابة (3).
ـ إن مؤلف الإمامة والسياسة كتب عن الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان خمساً وعشرين صفحة فقط وكتب عن الفتنة التي وقعت بين الصحابة مائتين صفحة، فقام المؤلف الرافضي باختصار التاريخ الناصع المشرق وسوّد الصحائف بتاريخ زائف لم يثبت منه إلا القليل وهذه من أخلاق الروافض المعهودة نعوذ بالله من الضلال والخذلان.
ـ يقول محمود شكري الألوسي في مختصر الأثنا عشرية: ومن مكايدهم ـ يعني الرافضة ـ أنهم ينظرون في أسماء الرجال المعتبرين عند أهل السنة فمن وجدوه موافقاً لأحد منهم في الاسم واللقب أسندوا رواية حديث ذلك الشيعي إليه فمن لا وقوف له من أهل السنة يعتقد أنه إمام من أئمتهم فيعتبر بقوله ويعتد بروايته كالسدي فإنهما رجلان أحدهما السدي الكبير والثاني السدي الصغير، فالكبير من ثقات أهل السنة والصغير من الوضاعين الكذابين وهو رافضي غال. وعبد الله بن قتيبة رافض غال وعبد الله بن مسلم بن قتيبة من ثقات أهل السنة وقد صنف كتاباً سماه بالمعارف فصنف ذلك الرافضي كتاباً سماه بالمعارف أيضاً قصداً للإضلال (4)، وهذا ما يرجح أن كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الرافضي وليس لابن قتيبة السني الثقة، وإنما خلط الناس بينهما لتشابه الأسماء (5)،
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 144.
(2) الإمامة والسياسة (1/ 54 ـ 55).
(3) عقيدة الإمام ابن قتيبة صـ 91 للعلياني.
(4) مختصر التحفة الإثنا عشرية للألوسي صـ 32.
(5) عقيدة الإمام ابن قتيبة صـ 93.(1/170)
وقد اعتمد كثير من المعاصرين على هذا الكتاب وساهموا في تشويه كثير من الصحابة الكرام ولذلك وجب التحذير منه بطريقة علمية تعتمد على التحقيق والتوثيق والدليل والبرهان، وقد ذكر صاحب كتاب الإمامة والسياسة: أن معاوية ادّعى الخلافة وذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه أدعى الخلافة من غيره مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه (1)، وهذا كلام لا يثبت عن أمير المؤمنين علي وإنما من كلام الروافض وقد امتلأت كتب التاريخ والأدب بالروايات الموضوعة والضعيفة التي تزعم أن معاوية اختلف مع علي من أجل الملك والزعامة والإمارة (2)
والصحيح أن الخلاف بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما كان حول مدى وجوب بيعة معاوية وأصحابه لعلي قبل توقيع القصاص على قتلة عثمان أو بعده، وليس هذا من أمر الخلافة في شئ فقد كان رأي معاوية ـ رضي الله عنه ـ ومن حوله من أهل الشام أن يقتص عليّ ـ رضي الله عنه ـ من قتلة عثمان ثم يدخلون بعد ذلك البيعة (3) ويقول القاضي ابن العربي أن سبب القتال بين أهل الشام وأهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما: فهؤلاء ـ أي أهل العراق ـ يدعون إلى عليّ بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام وهؤلاء ـ أي أهل الشام ـ يرجعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يأوي القتلة (4). ويقول إمام الحرمين الجويني في لمع الأدّلة: أن معاوية وإن قاتل علياً، فإنه لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظاناً منه أن مصيب، وكان مخطئاً (5)، ويقول الهيتمي: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أنّ ما جرى بين
_________
(1) الإمامة والسياسية (1/ 113).
(2) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/ 145) ..
(3) العواصم من العواصم صـ 162.
(4) العواصم من القواصم صـ 162.
(5) لمع الأدلة في عقائد أهل السنة والجماعة صـ 115.(1/171)
معاوية وعليّ ـ رضي الله عنهما ـ من الحروب، فلم يكن لمنازعة معاوية لعليّ في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعليّ .. فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ابن عمّه فامتنع علي (1)، لقد تضافرت الروايات وأشارت إلى أنّ معاوية ـ رضي الله عنه ـ اتخذ موقفه للمطالبة بدم عثمان، وأنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنه ـ إذا أقيم الحد على قتلة عثمان.
ولو افترض إنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي طمعاً في السلطان، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على قتلة عثمان، حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل ما حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليها إذا كان ذا أطماع (2). إن معاوية رضي الله عنه كان من كتّاب الوحي ومن سادة المسلمين المشهورين بالحلم ويكفيه شرف الصحبة، فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي ويهرق دماء المسلمين من أجل مُلْك زائل، وهو القائل: والله لا أخير بين أمرين، بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه (3)، وقد ثبت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال فيه: اللهم أجعله هادياً مهدياً وأهد به (4)،وقال: اللهم علمه الكتاب وقيه العذاب (5). أما وجه الخطأ في موقفه في مقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ فيظهر في رفضه أن يبايع لعليّ ـ رضي الله عنه ـ قبل مبادرته إلى الاقتصاص من قتلة عثمان ويضاف إلى ذلك خوف معاوية على نفسه لمواقفه السابقة من هؤلاء الغوغاء وحرصهم على قتله بل ويلتمس منه أن يمكنه منهم، مع العلم أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، بل يدخل في الطاعة، ويرفع دعواه إلى الحاكم، ويطلب الحق عنده (6)، وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد ويأخذ حقه دون السلطان،
_________
(1) الصواعق المحرقة (2/ 622).
(2) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 150).
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 151).
(4) صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 3018 (3/ 236).
(5) فضائل الصحابة (2/ 913) إسناده صحيح.
(6) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 151).(1/172)
أو من نصبه السلطان لهذا الأمر، لأن ذلك يفضي إلى الفتنة وإشاعة الفوضى (1)،
ويمكن القول إن معاوية ـ رضي الله عنه ـ كان مجتهداً متأولاً يغلب ظنه أن الحق معه فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان ـ ابن عمه ـ وقد قتل مظلوماً، وقرأ عليهم الآية الكريمة ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء، آية: 33). ثم قال أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقام أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفني الله أرواحهم (2). هذه الأحداث الجسام عاصرها الحسن بن علي وعرف موقف كل صحابي من الفتنة وكان ميالاً للصلح والسلم ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
2 ـ نهي أمير المؤمنين علي عن شتم معاوية ولعن أهل الشام بعد معركة صفين:
نشب الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في صفين وقد فصلنا تلك الأحداث في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقد اشتد القتال وتوجّه النصر فيها لأهل العراق على أهل الشام، وتفرقت صفوفهم، وكادوا أن ينهزموا، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: هذا بيننا وبينكم قد فني الناس، فمن لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت، قالوا: نجيب إلى كتاب الله عز وجل وننيب إليه (3)، فالدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب صفين، إذ أن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاها جماعيا رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في اتخاذ القرارات (4)، فقد قبل أمير المؤمنين علي
_________
(1) تفسير القرطبي (2/ 256) ..
(2) صفين لابن مزاحم صـ 32، تحقيق مواقف الصحابة (2/ 152).
(3) تنزيه خال المؤمنين معاوية صـ 36 نقلا عن تاريخ الطبري.
(4) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ 38(1/173)
رضي الله عنه وقف القتال في صفين ورضي التحكيم وعد ذلك فتحا ورجع إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة ووحدة الصف، وتقويت الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد وكان أمير المؤمنين بعد نهاية الجولات الحربية في صفين يتفقد القتلى، وقد وقف على قتلاه وقتلى معاوية فقال: غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين حميعاً (1)، وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بين علي ومعاوية، خرج علي فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، وليصير الأمر إلي وإلى معاوية (2)
وكان يقول عنهم هم: المؤمنين (3)، وقوله رضي الله عنه في صفين لا يكاد يختلف عن قوله في أهل الجمل (4)، وروي أن علياً رضي الله عنه لمّا بلغه أن أثنين من أصحابه يظهران شتم ولعن أهل الشام أرسل إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما، فأتيا فقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى ورب الكعبة المسدنة، قالا: فلما تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين، ولكن قولوا: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي من لجج به (5)، وأما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن علياً وابن عباس والحسن والحسين لا تثبت من ناحية السند حيث فيها أبي مخنف لوط بن يحيى الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم جاء النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر على من يسب معاوية ومن معه فقال: إني أكره لكم أن يكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم أياهم اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم (6)، فهذا السبب والتكفير لم يكن من هدي
_________
(1) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 250.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 303) سند حسن ..
(3) تاريخ دمشق (1/ 331، 329) خلافة علي صـ 251.
(4) خلافة علي، عبد الحميد صـ 251، تنزيه خال المؤمنين صـ 169.
(5) الإخبار الطوال صـ 165 نقلاً عن تحقيق مواقف الصحابة (2/ 232).
(6) نهج البلاغة صـ 323(1/174)
أمير المؤمنين علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة (1)، كما أن الحسن رضي الله عنه كان معاصراً للأحداث وسمع ورأى موقف والده من أهل الشام، وهذه النظرة السليمة لأصحاب معاوية ساعدت الحسن بن علي في هندسته لمشروع الإصلاح الذي تقدم به لوحدة الأمة والذي تحقق بفضل الله ثم فقهه العميق لمقاصد الإسلام ومعرفته الدقيقة لعلم المصالح والمفاسد.
3 ـ مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه بصفين وأثره على المسلمين:
يعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار رضي الله عنه:
تقتلك الفئة الباغية (2) من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان لمقتل عمّار رضي الله عنه أثر في معركة صفين، فقد كان علماً لأصحاب رسول الله يتبعونه حيث سار وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافاً سلاحه، فلما رأى مقتل عمار سل سيفه وقاتل أهل الشام وذلك لأنه سمع حديث رسول الله عن عمار: تقتله الفئة الباغية (3) واستمر في القتال حتى قتل (4) وكان لمقتل عمّار أثر في قادة معسكر معاوية مثل عمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبو الأعور السلمي، عند شرعة الماء يسقون وكانت هي شريعة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتله الفئة الباغية. فقال عمرو لمعاوية لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال فقال معاوية أسكت فوالله ما تزال تدحض (5) في بولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به (6)، فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام انتشار النار في الهشيم، وجاء في رواية صحيحة أن عمرو بن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمّار وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتله الفئة الباغية.
فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجّع حتى دخل معاوية فقال له معاوية
_________
(1) أصول مذهب الشيعة (2/ 934).
(2) مسلم رقم 2916.
(3) المصدر نفسه.
(4) خلافة علي صـ 211 مجمع الزوائد (7242) وقال فيه: ورواه الطبراني وفيه معشر وهو لين.
(5) الدحض: الزلق والداحض من لا ثبات له ولا عزيمة في الأمور.
(6) مصنف عبد الرزاق (11/ 240) بسند صحيح.(1/175)
ما شأنك فقال: قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية فقال له معاوية: دحضت في بولك، أو نحن قتلناه، إنما قتله علي وأصحابه، جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال بين سيوفنا (1)، وفي رواية صحيحة أيضاً: جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله: أطع أباك مادام حياً ولا تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل (2). من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حريص على قول الحق، والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده هم الفرقة الباغية لقتلهم عماراً، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة، ولا شك أن مقتل عمار رضي الله عنه قد أثر في أهل الشام بسبب هذا الحديث، إلا أن معاوية رضي الله عنه أول الحديث تأويلاً غير مستساغ ولا يصح في أن الذين قتلوا عماراً هم الذين جاءوا به إلى القتال (3)، وقد رد علي رضي الله عنه على قول معاوية بأن قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من علي إلزام لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها (4)
وقد أثر على مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعاً لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب (5) وقد قال رضي الله عنه: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة (6)، وقد جاء في البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبتين، فراه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. قال عمار: أعوذ بالله من الفتن (7)، وقال ابن عبد البر: تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تقتل
_________
(1) مصنف عبد الرزاق (11/ 240) بسند صحيح
(2) مسند أحمد (11/ 138 ـ 139)
(3) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 325
(4) التذكرة (2/ 223) ..
(5) معاوية بن أبي سفيان، الغضبان صـ 215
(6) أسباب الأشراف (1/ 170)، عمرو بن العاص للغضبان صـ 603
(7) البخاري رقم 447(1/176)
عمار الفئة الباغية، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو من أصح الأحاديث (1)، وقال الذهبي بعد ما ذكر الحديث: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر (2)
4 ـ فهم العلماء لحديث رسول الله في عمار: تقتلك الفئة الباغية (3)
أ ـ قال ابن حجر: وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار، ورد على النواصب (4) الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه (5)، وقال أيضاً: دل الحديث: تقتل عماراً الفئة الباغية، على أن عليا كان المصيب في تلك الحروب، لأن أصحاب معاوية قتلوه (6).
ب ـ يقول النووي: وكانت الصحابة يوم صفين يتبعونه حيث توجه لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة لهذا الحديث (7)
جـ ـ قال ابن كثير: كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال حدثني من هو خير مني ـ يعني أبا قتادة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية (8)، وقال أيضاً: وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنهما مع أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب قتله أهل الشام، وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم
_________
(1) الاستيعاب (3/ 1140)
(2) سير أعلام النبلاء (1/ 421)
(3) مسلم رقم 5916.
(4) والمقصود بالنواصب هي احد طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للإعتقاد السديد في الصحابة، فقد زين لهم الشيطان اعتقاد عدم محبة رابع الخلفاء الراشدين وأحد الأئمة المهديين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحملهم على التدين ببغضه وعداوته والقول فيه بما هو برئ منه كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين بن علي وغيره
(5) فتح الباري (1/ 646).
(6) المصدر نفسه (13/ 92).
(7) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 38).
(8) البداية والنهاية (6/ 220).(1/177)
من أنه تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن علياً محق، وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل النبوة (1)
حـ ـ وقال الذهبي: هي طائفة من المؤمنين، بغت على الإمام علي، وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار: تقتلك الفئة الباغية (2).
جـ ـ قال القاضي أبو بكر العربي: في قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ)) هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة إليها لجأ الأعيان من هذه الأمة، وإياها عني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: تقتل عمار الفئة الباغية (3).
خ ـ وقال ابن تيمية: وهذا يدل لصحة إمامة علي ووجوب طاعته وأن الداعي إلى طاعته داعي إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار ـ وإن كان متأولاً ـ وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ ـ وإن كان متأولاً ـ أو باغ ـ بلا تأويل ـ وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين (4)، وقال أيضاً: مع أن علياً أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عمار قتلته الفئة الباغية ـ كما جاءت به النصوص ـ وعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، ذلك هو اتباع الكتاب والسنة، وأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، وهذا منشأ الفرقة والاختلاف (5).
س ـ وقال عبد العزيز بن باز: وقال: صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: تقتل عمار الفئة الباغية. فقتله معاوية وأصحابه في موقعة صفين، فمعاوية وأصحابه بغاة، لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان (6).
_________
(1) المصدر نفسه (7/ 277).
(2) سير أعلام النبلاء (8/ 209).
(3) أحكام القرآن (4/ 1717).
(4) مجموع الفتاوى (4/ 437).
(5) المصدر نفسه (4/ 449 ـ 450).
(6) فتاوى ومقالات متنوعة (6/ 87).(1/178)
ش ـ وقال سعيد حوى: بعد أن قتل عمار الذي وردت النصوص مبينة أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن علياً كان على حق وأن القتال معه كان واجباً ولذا عبر ابن عمر عن تخلفه بأنه يأسى بسبب هذا التخلف، وما ذلك إلا أنه ترك واجباً وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق، كما أفتى بذلك الفقهاء (1)، لقد كان الحسن بن علي رضي الله عنه على يقين راسخ ومعرفة متينة بأن والده كان على الحق.
5 ـ موقف الحسن بن علي من تلك الحروب:
كان موقف الحسن بن علي رضي الله عنه هو موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم وهو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم، وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي (2)
أ ـ قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات، آية: 9). ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم
_________
(1) الأساس في السنة (4/ 1710).
(2) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 727)(1/179)
يخرجهم ذلك من الإيمان لأن الله ذكر في الآية التي بعدها ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ))، فأصحاب الرسول الله الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الإيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيمان حقيقياً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد (1)
ب ـ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق (2). والفرقة المشار إليها في الحديث ما كان من الاختلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق، والحديث علم من أعلام النبوة: إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة، والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة والذي عليه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن علياً هو المصيب وأن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره (3).
جـ ـ وعن أبي بكرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين (4). ففي هذا الحديث شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان ابن عيينة: قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جداً. قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم
_________
(1) العواصم من القواصم صـ 169 ـ 170 أحكام القران (4/ 1717)
(2) مسلم (2/ 745)
(3) البخاري مع شرحه في فتح الباري (13/ 318).
(4) البخاري، ك الفتن رقم 7109.(1/180)
جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان (1)، فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان، وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته (2)، كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) (الحجرات، آية: 90)، وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم متأولون مجتهدون.
وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما مر معنا، فالواجب على المسلم، ومن زعم أنه محب لأهل البيت أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام مسلك الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة والذين من أئمتهم وسادتهم أمير المؤمنين علي وابنيه الحسن والحسين وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنه ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم.
6 ـ استشهاد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
تركت معركة النهروان في نفوس الخوارج جرحاً غائراً لم تزده الأيام والليالي إلا إيلاماً وحسرة، فاتفق نفر منهم على أن يفتكوا بعلي رضي الله عنه ويثأروا لمن قتل من أخوانهم في النهروان، واستطاع عبد الرحمن بن ملجم أن يقتل أمير المؤمنين علي بالغدر وهذا محمد بن الحنفية يروي لنا قصة مقتل أمير المؤمنين، فقد قال: كنت والله إني لأصلي تلك الليلة التي ضرب فيها علي في المسجد الأعظم في رجال كثير من أهل المصر، يصلون قريباً من السدة، ما هم إلا قيام وركوع وسجود، وما يسأمون من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل ينادي: أيها الناس، الصلاة الصلاة، فما أدري أخرج من السدة، فتكلم بهذه الكلمات أم لا؟، فنظرت إلى بريق، وسمعت: الحكم لله يا علي لا
_________
(1) الاعتقاد للبيهقي صـ 198 فتح الباري (13/ 66).
(2) مسلم (2/ 746).(1/181)
لك ولا لأصحابك، فرأيت سيفاً، ثم رأيت ثانياً، ثم سمعت علياً يقول: لا يفوتنكم الرجل وشد الناس عليه من كل جانب، قال: فلم أبرح حتى أخذ ابن ملجم وأدخل على علي، فدخلت فيما دخل من الناس، فسمعت علياً يقول: النفس بالنفس، أنا إن مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي (1)، وذكر أن الناس دخلوا على الحسن فزعين لما حدث من أمر علي، فبينما هم عنده وابن ملجم مكتوف بين يديه، إذ نادته أم كلثوم بنت علي وهي تبكي: أي عدو الله لا بأس على أبي، والله مخزيك، قال: فعلى من تبكين؟ والله لقد اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة على جميع أهل المصر ما بقي منهم أحد (2)، وقد جمع الأطباء لعلي رضي الله عنه يوم جرح وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمر السكوني، وكان صاحب كسرى يتطبب فأخذ أثير رئة شاه حارة، فتتبع عرقاً منها، فاستخرجه، فأدخله في جراحة علي، ثم نفخ العرق واستخرجه فإذا عليه بياض الدماغ وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين أعهد عهدك فإنك ميت (3)،
وذكر أن جندب بن عبد الله دخل على علي فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين إن فقدناك ـ ولا نفقدك ـ فنبايع الحسن؟ قال ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر (4)، ومن هذا الأثر يظهر إيمان أمير المؤمنين علي بحق الأمة في اختيار خليفتها.
7 ـ وصية أمير المؤمنين علي للحسن والحسين رضي الله عنهم:
دعا أمير المؤمنين حسن وحسيناً، فقال: أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شئ زُوِي عنكما، وقولا الحق، وأرحما اليتيم وأغيثا الملهوف، واصنعا للآخرة وكونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً، واعملا بما في الكتاب ولا تأخذكما في الله لومة لائم، ثم نظر إلى محمد بن الحنفية، فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك (5)، قال: نعم، قال: فإني أوصيك بمثله وأوصيك بتوقير أخويك، لعظيم حقهما عليك، فاتبع أمرهما، فلا تقطع أمراً دونهما ثم
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 62).
(2) المصدر نفسه (6/ 62).
(3) الاستيعاب (3/ 1128) ..
(4) تاريخ الطبري (6/ 62).
(5) المصدر نفسه (6/ 63).(1/182)
قال: أوصيكما به، فإنه ابن أبيكما، وقد علمتما أن أبيكما كان يحبه، وقال للحسن: أوصيك أي بني بتقوى الله واقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عند محلها، وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بطهور، ولا تقبل صلاة من مانع زكاة، وأوصيك بغفر الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الأمر، والتعهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش (1)، فلما حضرته الوفاة أوصى فكانت وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.
ثم أن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، ثم أوصيك يا حسن وجميع أهلي وولدي وأهلي بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فاعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم يقول: إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهون الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تعنوا أفواههم ولا يضيعن بحضرتكم الله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم ما زال يوصي به حتى ظننا أنه سيورثه، الله الله في القرآن، فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم فلا تخلّوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم يناظر، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله في الزكاة فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم فإن الله أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله في ما ملكت أيمانكم. الصلاة الصلاة لا تخافن في الله لومة لائم، يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم وقولوا لله حسناً كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم. وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله
_________
(1) المصدر نفسه (6/ 63).(1/183)
من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم. استودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض رضي الله عنه (1)، وجاء في رواية أخرى: ..
يا بَنَّي: أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر والعدل على الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله في الشدة والرخاء يا بني ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده نار بخير، وكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار عافية، يا بني من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته ومن سل سيف بغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه كشف عورات نفسه، ونسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل ومن خالط الأنذال احتقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن جالس العلماء وقّر، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شئ عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قل حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار. يا بني، الأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين، يا بني العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت إلا من ذكر الله، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء يا بني زينة الفقر الصبر، وزينة الغنى الشكر، يا بني لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، الحرص مفتاح التعب ومطية النصب التدبير قبل العمل يؤمنك الندم، فبئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد، طوبى لمن أخلص لله علمه وعمله وحبه وبغضه وأخذه وتركه، وكلامه وصمته وقوله وفعله (2).
8 ـ نهي أمير المؤمنين علي عن المثلة بقاتله:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: احبسوا الرجل فإن مت فاقتلوه وإن أعش فالجروح قصاص (3). وفي رواية أخرى قال: أطعموه وأسقوه وأحسنوا إساره، فإن
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 64).
(2) الشُهب اللامعة في السياسة النافعة لابن رضوان صـ 632، 633.
(3) فضائل الصحابة (2/ 560) بسند حسن.(1/184)
صححت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت (1)، وفي رواية أخرى زيادة، وهي قوله إن مت فاقتلوه قتلتي ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (2)، وقد كان علي نهى الحسن عن المُثْلة، وقال يا بني عبد المطلب، لا ألفيتكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتَلنَّ. أنظر يا حسن، إن من ضربته هذه فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو أنها بالكلب العقور (3). وقد جاء في شأن وصية أمير المؤمنين بأمر قاتله روايات كثيرة تتفاوت منها الصحيح ومنها الضعيف، فالرواية التي فيها أمر علي رضي الله عنه بإحراق الشقي بعد قتله إسنادها ضعيف، والروايات الأخرى تسير في إتجاه واحد فكلها فيها أمر علي رضي الله عنه بقتل الرجل إن مات من ضربته ونهاهم عما سوى ذلك، فهذه الروايات يعضد بعضها، وتنهض للاحتجاج بها هذا من جهة، كما أن أمير المؤمنين لم يجعله مرتداً، فيأمر بقتله، بل نهاهم عن ذلك لما همّ بعض المسلمين بقتله وقال: لا تقتلوا الرجل، فإن برئت فالجروح قصاص، وإن مت فاقتلوه (4)، وتذكر الرواية التاريخية المشهورة: فلما قبض علي رضي الله عنه بعث الحسن إلى ابن ملجم، فقال للحسن، هل لك في خصلة؟ إني والله ما أعطيت الله عهداً إلا وفيت به، إني كنت قد أعطيت الله عهداً عند الحطيم أن أقتل علياً ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خليت بيني وبينه، ولك الله علي إن لم أقتله ـ أو قتلته ثم بقيت، أن آتيك حتى أضع يدي في يدك.
فقال له الحسن: أما والله حتى تعاين النار ثم قدمه فقتله (5) ثم إن الناس أخذوه، فأحرقوه بالنار، ولكن هذه الرواية منقطعة (6)،
_________
(1) المحن لابن أبي العرب صـ 94، خلافة علي صـ 439 عبد الحميد.
(2) الطبقات (3/ 35).
(3) تاريخ الطبري (6/ 64).
(4) منهاج السنة (5/ 245).
(5) تاريخ الطبري (6/ 64).
(6) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 440.(1/185)
والصحيح من الروايات والذي يليق بالحسن والحسين وأبناء أهل البيت أنهم التزموا بوصية أمير المؤمنين علي في معاملة عبد الرحمن بن مُلْجم وفيها يظهر خلق الإسلام العظيم في النهي في المثلة والالتزام بالقصاص الشرعي. ولا تثبت الرواية التي تقول: فلما دفن اضروا ابن ملجم، فاجتمع الناس، وجاءوا بالنفط والبواري، فقال محمد بن الحنفية، والحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، دعُونا نشتفّ منه، فقطع عبد الله يديه ورجليه، فلم يجزع ولم يتكلّم، فكحَلَ عينيه، فلم يجزع، وجعل يقول إنك لتكحُل عيني عمّك وجعل يقرأ ((إقرأ بسم ربك الذي خلق)) (العلق، آية: 1) حتى ختمها، وإن عينيه لتسيلان ثم أمر به فعولج عن لسانه ليُقْطع فجزع، فقيل له في ذلك. فقال: ما ذاك بجزع ولكنّي أكره أن أبقى في الدنيا فُواقاً لا أذكر الله فقطعوا لسانه، ثمّ أحرقوه، وكان أسمر، حسن الوجه، أفلج، شعره من شحمة أذنيه، وفي جبهته أثر السجود (1).
وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النّار، ونجوِّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض فيه، وحكمه حكم قاتل عثمان وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمّار وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل (2).
9 ـ خطبة الحسن بن علي رضي الله عنهما بعد مقتل أبيه:
عن عمر بن حُبشي قال: خطبنا الحسن بن علي بعد قتل علي رضي الله عنه، فقال: لقد فارقكم رجل أمس ما سبقه الأولون بعلم ولا أدركه الآخرون، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثه ويعطيه الراية فلا ينصرف (3)، حتى يُفتح له ما ترك من صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه كان يرصدها لخادم أهله (4).
_________
(1) طبقات ابن سعد (3/ 39) الأخبار الطوال صـ 215.
(2) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين صـ 654.
(3) فضائل الصحابة (2/ 737) إسناده صحيح: فلا ينصرف: يرجع.
(4) فضائل الصحابة (2/ 737) إسناده صحيح.(1/186)
10 ـ استقبال معاوية خبر مقتل علي رضي الله عنهما:
ولما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم (1)، وكان معاوية يكتب فيما ينزل به يسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك، فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب، فقال له أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام، فقال له: دعني عنك (2)، ولنتعرف على شخصية علي عندما طلب معاوية رضي الله عنه في خلافته من ضرار الصُّدائي أن يصف له علياً، فقال أعفني يا أمير المؤمنين قال: لتصفنَّه، قال: أما إذ لا بد من وصفه فكان والله بعيد المدى، شديد القُوى، يقول فُصلاً (3) ويحكم عدلاً يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قُصر ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحَدِنا، يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه ونحن والله ـ مع تقريبه إيانا وقربه منا ـ لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظِّم أهل الدين ويُقرِّب المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف في عدله، وأشهد أنه قد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سُدُولَه (4) وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم (5)، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري، إليّ تعرّضت أم إلى تشوَّفتِ: هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثاً لا رجع فيها فعمرك قصير، وخطرك قليل، آه من قلة الزاد وبُعد السفر، ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها (6)،
وعن عمر بن عبد العزيز قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) البداية والنهاية (8/ 133).
(2) الاستيعاب (3/ 1108).
(3) المصدر نفسه (3/ 1107).
(4) سدوله: سدلته.
(5) تململ السليم: يعني الملدوغ كانت العرب تسميه كذلك للتفاؤل ببرئه.
(6) الاستيعاب (3/ 1108) ..(1/187)
في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أتى بعلي ومعاوية فأدخلا بيتاً وأجيف (1) الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة (2). وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية فقال له ولم؟ قال: لأنه قاتل علياً، فقال له أبو زرعة: ويحك إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فايش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما (3).
_________
(1) أجيف الباب: رُد وأغلق.
(2) البداية والنهاية (8/ 133).
(3) المصدر نفسه (8/ 133).(1/188)
الفصل الثاني
بيعة الحسن بن علي بن أبي طالب وأهم صفاته وبعض مواقفه في الحياة الاجتماعية ومشروعه الإصلاحي الذي توّج بوحدة الأمة:(1/189)
المبحث الأول: بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما:
كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر رمضان من سنة 40هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي (1)، وقد اختار الناس الحسن بعد والده ولم يعين أمير المؤمنين أحداً من بعده، فعن عبد الله بن سبع قال: سمعت علياً يقول: لتخضبن هذه من هذا (2) فما ينتظر بي الأشقى (3). قالوا: يا أمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته (4)، قال: إذن تالله تقتلون بي غير قاتلي. قالوا: فاستخلف علينا قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته، قال وكيع (5) مرة: إذا لقيته قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم (6)، وفي رواية: أقول: اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم (7)، وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن بن علي وكبر عليه أربع تكبيرات، ودفن بالكوفة، وكان أول ما بايعه قيس بن سعد، قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه، وقتال المُحلِّين، فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه، فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط: فبايعه وسكت، وبايعه الناس (8)، وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت (9)،
وفي
_________
(1) الطبقات (3/ 35 ـ 38) تحقيق د. إحسان عباس.
(2) أي لتخضبن لحيته من دم رأسه.
(3) مجمع الزوائد (9/ 139) مسند أحمد (2/ 325) حسن لغيره.
(4) نبير عُترتَه: نهلك أقرباءه لسان العرب (4/ 5) (4/ 538).
(5) وكيع بن الجراح، ثقة حافظ عابد، التقريب 581.
(6) مسند أحمد (2/ 325) حسن لغيره الموسعة الحديثة.
(7) كشف الأستار عن زوائد البزار (3/ 204).
(8) تاريخ الطبري (6/ 73).
(9) المصدر نفسه (6/ 77) ..(1/191)
رواية قال لهم: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا: ما هو؟ قال: تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت (1)، وفي رواية ابن سعد: إن الحسن بن علي أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه، ويرضوا بما رضي به (2)، ويستفاد من الروايات السابقة ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه والذي سيأتي تفصيله لاحقاً بإذن الله تعالي، ومن دراستنا لبيعة الحسن نستنبط دروساً وعبراً وفوائد منها:
أولاً: بطلان قضية النص على خلافة الحسن:
عند حديثنا عن بيعة الحسن رضي الله عنه تبرز أمامنا قضية يروج لها الشيعة الإمامية بقوة ألا وهي قضية النص على خلافة الحسن رضي الله عنه من قبل والده علي بن أبي طالب رضي الله عنه (3) وهذا الأمر يعد من المفتريات على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حيث لم يصح النقل عنه بذلك، إن الشيعة الرافضة يعتقدون أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأنها مثلها لطف من الله عز وجل، ولا يجب أن يخلو عصر من العصور من إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى، وليس للبشر حق اختيار الإمام وتعيينه، بل وليس للإمام نفسه حق تعيين من يأتي بعده، وقد وضعوا على لسان أئمتهم عشرات الروايات في ذلك، منها ما نسبوه إلى الإمام محمد الباقر رحمه الله أنه قال: أترون أن هذا الأمر إلينا نجعله حيث نشاء؟ لا والله ما هو إلا عهد من رسول الله رجل فرجل مسمى حتى تنتهي إلى صاحبها (4)، ويعتقد الشيعة الرافضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نص على الأئمة من بعده وعينهم بأسمائهم وهم اثنا عشر إماماً لا ينقصون ولا يزيدون وهم:
1ـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه المرتضى توفي 40هـ.
2 ـ الحسن بن علي رضي الله عنه الزكي توفي 50هـ.
3 ـ الحسين بن علي سيد الشهداء توفي 61هـ رضي الله عنه.
_________
(1) الطبقات تحقيق د. محمد السلمي (1/ 286،287)
(2) المصدر نفسه (1/ 316،317)
(3) فرق الشيعة للنوبختي صـ 34، مرويات خلافة معاوية
(4) الإمامة والنص، فيصل نور صـ 8(1/192)
4 ـ علي بن الحسين ـ زين العابدين ـ توفي 95هـ.
5 ـ محمد بن علي الباقر توفي 114هـ.
6 ـ جعفر بن محمد الصادق توفي 148هـ.
7 ـ موسى بن جعفر الكاظم توفي 183هـ.
8 ـ علي بن موسي الرضا توفي 203هـ.
9 ـ محمد بن علي الجواد توفي 220هـ.
10ـ علي بن محمد الهادي توفي 254هـ.
11ـ الحسن بن علي العسكري توفي 260هـ.
12ـ محمد بن الحسن المهدي توفي 256هـ.
وأساس عقيدة الوصية هو ابن سبأ وكان ينتهي بأمر الوصية عند علي رضي الله عنه ولكن جاء فيمن بعد من عممها في مجموعة من أولاده، وكانت الخلايا الشيعية الرافضية تعمل بصمت وسرية، فينفون ذلك نفياً قاطعاً، كما فعل جدهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ولذلك اخترع أولئك الكذابون على أهل البيت "عقيدة التقية" حتى يسهل نشر أفكارهم وهم في مأمن من تأثر الأتباع بمواقف أهل البيت الصادقة والمعلنة للناس (1)، إن من أخطر الأمور التي ابتدعها الشيعة الوصية وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة بعد وفاته مباشرة إلى علي رضي الله عنه، وأن من سبقه مغتصبين لحقه كما جاء في كتابهم "الكافي": من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان علياً عليه السلام (2)، ولكن الاستقراء التاريخي لتاريخ الخلفاء الراشدين، لا نجد للوصية ذكراً في خلافة أبي بكر ولا في عمر رضي الله عنهما، وإنما نجد بداية ظهورها في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه، عند بزوغ قرن الفتنة، وقد استنكر الصحابة هذا القول، عندما وصل إلى أسماعهم، وبينوا كذبه، ومن أشهر هؤلاء علي بن أبي طالب، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما، ثم نرى هذا القول
_________
(1) أصول الشيعة الإمامية (2/ 800).
(2) أصول الكافي (2/ 16 ـ 17).(1/193)
يتبلور في فكرة موجهة، وعقيدة تدعو إلى الإيمان بها والدعوة إليها، وذلك في خلافة علي رضي الله عنه، وهذه الوصية التي تدعيها الرافضة فقد أثبت علماؤهم أنها من وضع عبد الله بن سبأ كما ذكر ذلك النوبختي والكشي، وقد فصلت ذلك في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويكفي في الرد على زعمهم الباطل ما ورد بالنقل الصحيح عن عدد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومنهم علي رضي الله عنه نفسه والأدلة كثيرة منها:
1 ـ ذكر عند عائشة أن النبي صل صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي، فقالت: من قاله؟ لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وإني لمسندته إلى صدري، فدعا بالطست، فانخنث، فمات، فما شعرت فكيف أوصى إلى علي (1)، وتصريح عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص لعلي من أعظم الأدلة على عدم الوصية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في حجرها ولو كانت هناك وصية لكانت هي أدرى الناس بها (2).
2 ـ وعن ابن عباس قال: إن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً، فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله، فلنسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها، لا يعطيناها الناس من بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، وفي قوله رضي الله عنه شهادة للصحابة رضوان الله عليهم ـ على مدى التزامهم بتنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كانت هناك وصية لما تخلف أحد عنه، ولما عبرت الأنصار عن رأيها في السقيفة بحرية وشجاعة وصدق: منا أمير ومنكم أمير (4)، ولبايعوا
_________
(1) البخاري رقم 1471، ك الوصايا.
(2) بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود (1/ 190).
(3) البخاري، ك المغازي رقم: 4447.
(4) البخاري، ك الحدود رقم 6830.(1/194)
من عهد إليه الوصية، أو على الأقل سيذكر بعضهم، ولو كان هناك نص قبل ذلك لقال علي للعباس: كيف نسأله عن هذا الأمر فيمن يكون وهو قد أوصى لي بالخلافة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس اليوم، فلما لم يوجد شئ من ذلك تبين ما يدعى من النص دعوى لا أساس لها من الصحة، وكل ما أوردوه من ذلك من التنصيص على علي مردود، لمخالفته هذا النص الصريح من علي رضي الله عنه، لأن كل أدلتهم السمعية إما أنها لا تدل على المدعي ـ وإما نصوص تدل على ذلك ولكنها موضوعة (1).
3 ـ سئل علي رضي الله عنه أخصكم رسول الله بشئ فقال: ما خصنا رسول الله بشئ لم يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاً (2). قال ابن كثير: وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة من زعمهم أن رسول الله أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ورسوله في حياته، وبعد وفاته من أن يفتأتوا عليهم فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا! ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومضادتهم لحكمه ونصه، مع ما أنزل الله من ثناء عليهم بالقرآن، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام (3)، قال النووي: فيه إبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة الإمامية بالوصية لعلي وغير ذلك من اختراعاتهم (4).
4 ـ وعن عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا من هذه الإمارة شيئاً حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله (5).
_________
(1) الإمامة والرد على الرافضة، تحقيق علي ناصر فقيهي صـ 238.
(2) مسلم (3/ 1567) رقم 1978.
(3) البداية والنهاية (5/ 221).
(4) شرح صحيح مسلم (13/ 151).
(5) الاعتقاد صـ 184، وقال البيهقي في دلائل النبوة سنده حسن.(1/195)
5 ـ روى أبو بكر البيهقي بإسناده إلى شقيق ابن سلمة، قال: قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا تستخلف علينا؟ فقال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم (1) فهذا دليل واضح من أن دعوى النص عليه رضي الله عنه إنما من اختلاق الرافضة الذين ملئت قلوبهم بالبغض والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهم علي وأهل بيته، وإنما يدعون حبهم تستراً ليتسن لهم الكيد للإسلام وأهله (2).
بهذه النصوص: القطعية يتضح بجلاء أن لا أصل للوصية المزعومة وأن ما اعتمد عليه الرافضة هو من وضع عبد الله بن سبأ الذي هو أول من أحدث الوصية، ثم وضعت بعد ذلك أسانيد وركبت متون نسبوها زوراً وبهتاناً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهدفهم من ذلك الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم لمخالفتهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماعهم على ذلك ومن ثم الطعن ورد ما نقلوه إلى أجيال المسلمين من قرآن وحديث (3)، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن رده على الحلي: وأما النص على علي فليس في شئ من كتب أهل الحديث المعتمدة، وأجمع أهل الحديث على بطلانه، حتى قال أبو محمد بن حزم، ما وجدنا قط رواية عند أحد في هذا النص المدعى إلا رواية إلى مجهول يكنى أبا الحمراء لا نعرف من هو في خلق الله (4)، وقال في موضع آخر: فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً ولا حديثاً ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل كما يعلمون كذب غيره من المنقولات (5)، وقد جاء من الغلاة فيما بعد من أحيا نظرية ابن سبأ في أمير المؤمنين علي ثم عمموها على آخرين من سلالة علي والحسين في إثارة مشاعر الناس وعواطفهم، والدخول إلى قلوبهم، لتحقيق أغراضهم ضد الدولة الإسلامية في ظل هذا الستار، وأول من بدأ يشيع القول بأن الإمامة محصورة بأناس مخصوصين
_________
(1) الاعتقاد صـ 184، إسناده جيد.
(2) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 620).
(3) خلافة علي بن أبي طالب، علي عبد الحميد صـ 65.
(4) المنهاج (8/ 362) (الفصل 4/ 161).
(5) المنهاج (7/ 50).(1/196)
في آل البيت، شيطان الطاق الذي تلقبه الشيعة مؤمن الطاق (1)،
وأنه حينما علم بذلك زيد بن علي رحمه الله بعث إليه ليقف على حقيقة الإشاعة، فقال له زيد: بلغني أنك تزعم أن في آل محمد إماماً مفترض الطاعة؟ قال شيطان الطاق: نعم، وكان أبوك علي بن الحسين أحدهم، فقال: وكيف وقد كان يؤتي بلقمة وهي حارة فيبردها بيده ثم يلقمنيها، أفترى أنه كان يشفق علي من حر اللقمة، ولا يشفق علي من حر النار؟ قال شيطان الطاق: قلت له: كره أن يخبرك، فتكفر، فلا يكون له فيك شفاعة (2)، وهذه القصة المروية في أوثق كتب الرجال عندهم تبين أن هذه النظرية كانت سرية التداول لدرجة أنها خفيت على إمام من أئمة أهل البيت وهو الإمام زيد، وقد بين محب الدين الخطيب أن شيطان الطاق هو أول من اخترع هذه العقيدة الضالة وحصر الإمامة والتشريع وادعى العصمة لأناس مخصوصين من آل البيت (3)، وقد شارك شيطان الطاق رجل آخر هو هشام بن الحكم المتوفي 179هـ (4)، ويبدو أن عقيدة حصر الإمامة بأناس معينين سرت في الكوفة (5)، بسعي مجموعة من أتباع هشام وشيطان الطاق، ففكرة حصر الأئمة بعدد معين قد وضع جذورها في القرن الثاني زمرة ممن يدعي الصلة بأهل البيت (6)، أمثال شيطان الطاق وهشام بن الحكم (7)، ولقد اختلفت اتجاهات الشيعة وتباينت مذاهبهم في عدد الأئمة قال في مختصر التحفة: أعلم أن الإمامية قائلون بانحصار الأئمة، ولكنهم مختلفون في مقدارهم، فقال بعضهم: خمسة، وبعضهم سبعة، وبعضهم ثمانية، وبعضهم: اثنا عشر، وبعضهم ثلاثة عشر (8)، والغريب أن القائلين بنظرية الإمامة الإلهية انقسموا إلى عدة فرق كل فريق منهم ينقل روايات مناقضة للآخر في إمامة من يراه ثم ينسبون ذلك لعلي رضي الله عنه.
_________
(1) أصول الشيعة الإمامية (2/ 800) ..
(2) رجال الكشي صـ 186.
(3) مجلة الفتح صـ 5، العدد 862 عام 1367هـ.
(4) أصول الشيعة الإمامية (2/ 803).
(5) بحار الأنوار (1/ 259)، أصول الشيعة الإمامية (2/ 805).
(6) أصول الشيعة (2/ 806).
(7) المصدر نفسه (2/ 806).
(8) مختصر التحفة صـ 193.(1/197)
وكتب الشيعة الرافضة نقلت صورة هذا التباين والتناقض سواء كانت من كتب الإسماعيلية بمسائل الإمامة للناشئ الأكبر، أو الزينة لأبي حاتم الرازي، أو من كتب الاثني عشرية مثل، المقالات والفرق للأشعري القمي، وفرق الشيعة للنبوختي، وقضية الإمامة عندهم ليست بالأمر الفرعي الذي يكون فيه الخلاف أمراً عادياً، بل هي أساس الدين وأصله المتين، ولا دين لم لم يؤمن بإمامهم ولذلك يكفر بعضهم ويلعن بعضهم بعضاً (1)، إما الاثنا عشرية فقد استقر قولها ـ فيما بعد ـ بحصر الإمامة في اثني عشر إماماً، ولم يكن في العترة النبوية بني هاشم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من يقول، بإمامة الاثنى عشرة (2)، إنما عرف الاعتقاد بإثني عشر إماماً بعد وفاة الحسن العسكري (3)، إن حصر الأئمة بعدد معين عقيدة فاسدة باطلة، وأمير المؤمنين علي وأولاده وأحفاده براء منها، ففي كتب الشيعة المعتمدة في نهج البلاغة، عن علي رضي الله عنه قال: دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول (4)، وإن الآفاق قد أغامت (5)، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أحببتكم ركبت لكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً (6)، فلو كانت إمامة علي منصوصاً عليها من الله عز وجل لما جاز لعلي بن أبي طالب تحت إي ظرف من الظروف أن يقول للناس: دعوني والتمسوا غيري ويقول أنا لكم وزيراً خير لكم مني أمير" كيف والناس تريده وجاءت تبايعه (7).
ويقول في النهج كلاماً أكثر صراحة وأشد وضوحاً حين يقول، إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا
_________
(1) أصول الشيعة الإمامية (2/ 807).
(2) منهاج السنة (2/ 11).
(3) أصول الشيعة الإمامية (2/ 808).
(4) لا تصبر له ولا تطيق احتماله.
(5) أغامت: غطيت بالغيم.
(6) نهج البلاغة خطبة رقم 92 صـ 236.
(7) ثم أبصرت الحقيقة صـ 158.(1/198)
للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل سمّوه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبي قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى (1)، وقد أشار أمير المؤمنين بهذه العبارة حقائق جديرة بالإهتمام حيث جعل:
ـ الشورى للمهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيدهم الحل والعقد.
ـ اتفاقهم على شخص سبب لمرضات الله وعلامة لموافقته سبحانه وتعالى إياهم.
ـ لا تنعقد الإمامة في زمانهم دونهم وبغير اختيارهم.
ـ لا يرد قولهم ولا يخرج عن حكمهم إلا المبتدع الباغي المتبع غير سبيل المؤمنين، فأين هم الشيعة الأثني عشرية عن هذه التصريحات الهامة (2).
إن مسألة النص لا تثبت بأي وجه من الوجوه، ومسألة حصر الأئمة بعدد معين مردوده بالكتاب والسنة، كما أنه لا يقبلها العقل ومنطق الواقع، إذ بعد إنتهاء العدد المعين هل تظل الأمة بدون إمام؟ ولذلك فإن عصر الأئمة الظاهرين عند الإثني عشرية لا يتعدى قرنين ونصف إلا قليلاً وهم من ذلك الوقت إلى الآن بدون إمام بشكل فعلي وواقعي مما ترتب على وضعهم هذا فقدانهم كل ما يزعمون من مبرر ضروري أو مصلحة ضرورية من وجود إمام معصوم وهذا تناقض ظاهر، وقد اضطر الشيعة للخروج عن حصر الأئمة بمسألة نيابة المجتهد عن الإمام، واختلف قولهم في حدود النيابة وفي هذا العصر اضطروا للخروج نهائياً عن هذا الأصل الذي هو قاعدة دينهم، فجعلوا رئاسة الدولة تتم عن طريق الانتخاب ولكنهم خرجوا عن حصر العدد إلى حصر النوع فقصروا رئاسة الدولة على الفقيه الشيعي (3)،
وهو فعلياً غير معصوم بالاتفاق ولا عنده نص يخوِّله للإمامة وهم بهذا الأمر نسخوا فعلياً نظرية الإمامة التي شقوا بها صفوف الأمة، فأصبح الإنسان
_________
(1) نهج البلاغة، ك إلى معاوية رقم 6 صـ 526.
(2) ثم أبصرت الحقيقة صـ 161.
(3) الحكومة الإسلامية للخميني صـ 248، أصول الشيعة (2/ 814) ..(1/199)
العادي حتى ولو كان من غير أهل البيت يستطيع أن يحكم ويقود بحجة أنه فقيه، وقد فصّل الأستاذ أحمد الكاتب تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه وتحدث عن أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه والشورى وبين بوضوح أن الحسن بن علي لم يعتمد في دعوة الناس لبيعته على ذكر أي نص حوله من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من أبيه أمير المؤمنين علي، وتحدث عن إيمان الحسن بن علي بنظام الشورى وحق الأمة في انتخاب إمامها، وقد تجلى هذا الإيمان مرة أخرى عند تنازله عن الخلافة إلى معاوية واشتراطه عليه العودة إلى نظام الشورى بين المسلمين، ولو كانت الخلافة بالنص من الله والتعيين من الرسول، كما تقول النظرية الإمامية، لم يكن يجوز للإمام الحسن أن يتنازل عنها لأي أحد تحت أي ظرف من الظروف، ولم يكن يجوز له بعد ذلك أن يبايع معاوية أو أن يدعو أصحابه وشيعته لبيعته، ولم يكن يجوز له أن يهمل الإمام الحسين ولأشار إلى ضرورة تعيينه من بعدِه ولكن الإمام الحسن لم يفعل أي شئ من ذلك وسلك مسلكاً يوحي بالتزامه بحق المسلمين في انتخاب خليفتهم عبر نظام الشورى وقد ظل الشهيد الحسين رضي الله عنه ملتزماً ببيعة معاوية إلى آخر يوم من حياة الأخير، ورفض عرضاً من شيعة الكوفة بعد وفاة أمير المؤمنين الحسن بالثورة على معاوية، وذكر إن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه، ولم يدع إلى نفسه إلا بعد وفاة معاوية الذي عهد إلى ابنه يزيد بالخلافة بعده، حيث رفض الحسين البيعة له وأصرَّ على الخروج إلى العراق حيث استشهد في كربلاء عام 61هـ (1).
ثانياً: ما يحتج به الشيعة الاثنا عشرية في أمر تحديد عدد الأئمة بما جاء في كتب السنة:
عن جابر ين سمرة قال رسول الله: يكون إثنا عشر أميراً. فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم في قريش (2). وفي مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشرة خليفة. ثم
_________
(1) تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه صـ 17، 18.
(2) البخاري، ك الأحكام، باب الاستخلاف (8/ 127).(1/200)
قال كلمة لم أفهمها. فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش (1). وفي لفظ: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة (2)، وفي لفظ آخر: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً (3)، وعند أبي داود: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم إثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليهم الأمة (4).
وأخرجه أبو داود أيضاً من طريق الأسود بن سعيد عن جابر بنحو ما مضى قال: وزاد فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا قال: الهرج (5). يتعلق الشيعة الاثني عشرية لهذا النص ويحتجون به على أهل السنة، لا لإيمانهم بما جاء في كتب السنة (6)، ولكن للاحتجاج عليهم بما يسلمون به، وبالتأمل في النص بكل حيدة وموضوعية نجد أن هؤلاء الاثني عشر وصفوا بأنهم يتولون الخلافة، وأن الإسلام في عهدهم يكون في عزة ومنعة، وأن الناس تجتمع عليهم ولا يزال أمر الناس ماضياً وصالحاً في عهدهم، وكل هذه الأوصاف لا تنطبق على من تدعي الاثنا عشرية فيهم الإمامة، فلم يتول الخلافة منهم إلا أمير المؤمنين علي والحسن، كما لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء الاثني عشر ـ في نظر الشيعة أنفسهم ـ بل ما زال أمر الأمة فاسداً .. ويتولى عليهم الظالمون بل الكافرون (7) وأن الأئمة أنفسهم كان يتسترون في أمور دينهم بالتقية (8)، وأن عهد أمير المؤمنين علي وهو على كرسي الخلافة عهد تقية، كما صرح بذلك شيخهم المفيد (9)، فلم يستطع أن يظهر القرآن، ولا أن يحكم بجملة من أحكام الإسلام، كما صرح بذلك شيخهم الجزائري (10)، واضطر إلى ممالأة الصحابة ومجاراتهم على حساب الدين، كما أقرَّ بذلك شيخهم المرتضى (11) .. فالحديث في جانب ومزاعم هؤلاء في جانب آخر، ثم أنه ليس في الحديث حصر للأئمة
_________
(1) مسلم، ك الإمارة، باب الناس (2/ 1453).
(2) المصدر نفسه (2/ 1453).
(3) المصدر نفسه (2/ 1453).
(4) سنن أبي داود، ك المهدي (4/ 471).
(5) سنن أبي داود (4/ 472)، فتح الباري (13/ 211).
(6) أصول الشيعة الإمامية (2/ 815).
(7) منهاج السنّة (4/ 210) المنتقى صـ 533.
(8) أصول الشيعة الإمامية (2/ 816).
(9) المصدر نفسه (2/ 816).
(10) المصدر نفسه (2/ 816).
(11) المصدر نفسه (2/ 816).(1/201)
بهذا العدد، بل نبوة منه، بأن الإسلام لا يزال عزيزاً في عصور هؤلاء، وكان عصر الخلفاء الراشدين وبني أميه عصر عزة ومنعة (1)،
ولهذا قال ابن تيمية: إن الإسلام وشرائعه في بني أمية أظهر وأوسع مما كان بعدهم، ثم استشهد بحديث: لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش. ثم قال: وهكذا كان، فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل من النقص ما هو باق إلى الآن. ثم شرح ذلك (2)، ثم أنه قال في الحديث: كلهم من قريش (3)، وهذا يعني أنهم لا يختصون بعلي وأولاده: ولو كانوا مختصين بعلي وأولاده لذكر ما يميزون به، ألا ترى أنه لم يقل: كلهم من ولد إسماعيل ولا من العرب، فلو امتازوا بكونهم من بني هاشم، أو من قبيل علي لذكروا بذلك، فلما جعلهم من قريش مطلقاً علم أنهم من قريش، بل لا يختصون بقبيلة، بل بنو تيم وبنو عدي، وبنو عبد شمس، وبنو هاشم، فإن الخلفاء الراشدين كانوا من هذه القبائل (4)، فإذن لم يبق من الأوصاف التي تنطبق على ما يريدون إلا مجرد العدد، والعدد لا يدل على شئ (5).
ثالثاً: مدة خلافة أمير المؤمنين الحسن ومعتقد أهل السنة في خلافته:
استمر أمير المؤمنين الحسن بن علي بعد بيعته خليفة على الحجاز واليمن والعراق وغير ذلك نحو سبعة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وقيل ستة أشهر وكانت خلافته هذه المدة خلافة راشدة حقة لأن تلك المدة كانت تتمة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً (6)، فقد روي الترمذي بإسناده إلى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخلافة في
_________
(1) أصول الشيعة (2/ 816) ..
(2) منهاج السنة (4/ 206).
(3) مسلم (2/ 1453).
(4) منهاج السنة (4/ 211).
(5) أصول الشيعة (2/ 818).
(6) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (2/ 743).(1/202)
أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك (1)، وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال: وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليما (2)، وبذلك يكون الحسن بن علي رضي الله عنه خامس الخلفاء الراشدين (3) وعند الإمام أحمد من حديث سفينة أيضاً بلفظ: الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعد ذلك الملك (4). وعند أبي داود بلفظ: خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء أو ملكه ما يشاء (5)، ولم يكن في الثلاثين بعده صلى الله عليه وسلم إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن وقد قرر جمع من أهل العلم عند شرحهم لقوله صلى الله عليه وسلم الخلافة في أمتي ثلاثون سنة. أن الأشهر التي تولى فيها الحسن بن علي بعد موت أبيه كانت داخلة في خلافة النبوة ومكملة لها فقد قال كل من:
1 ـ أبو بكر بن العربي رحمه الله: فنفذ الوعد الصادق في قوله صلى الله عليه وسلم ـ: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً. فكانت لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وللحسن منها ثمانية أشهر لا تزيد ولا تنقص يوماً فسبحان المحيط لا رب غيره (6).
2 ـ وقال القاضي عياض: رحمه الله لم يكن في ثلاثين سنة إلا الخلفاء الراشدون الأربعة والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي .. والمراد في حديث: الخلافة ثلاثون سنة. خلافة النبوة فقد جاء مفسراً في بعض الروايات: خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً (7).
_________
(1) سنن الترمذي مع شرحها تحفة الأحوذي (6/ 395 ـ 397) حديث حسن.
(2) البداية والنهاية (11/ 134).
(3) مآثر الأنافة (1/ 105)، مرويات خلافة معاوية، خالد الغيث صـ 155.
(4) فضائل الصحابة (2/ 744) إسناده حسن.
(5) صحيح سنن أبي داود (3/ 879)، سنن أبي داود (2/ 515).
(6) أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1720).
(7) شرح النووي علي صحيح مسلم (12/ 201).(1/203)
3 ـ وقال الحافظ بن كثير ـ رحمه الله ـ: والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة (1) من طريق سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً، وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي (2).
4 ـ وقال شارح الطحاوية: وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر (3).
5 ـ وقال المناوي: بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (4)، قال: وكان ذلك فلما بويع له بعد أبيه وصار هو الإمام الحق مدة ستة أشهر تكملة للثلاثين سنة التي أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إنها مدة الخلافة وبعدها يكون ملكاً ......... (5).
6 ـ وقال ابن حجر الهيثمي: هو آخر الخلفاء الراشدين بنصِّ جَدِّه صلى الله عليه وسلم، ولي الخلافة بعد قتل أبيه بمبايعة أهل الكوفة، فأقام بها ستة أشهر وأياماً، خليفة حق وإمام عدل وصدق تحقيقاً لما أخبر به جده الصادق المصدوق بقوله: الخلافة بعدي ثلاثون سنة (6)، فإن تلك الستة الأشهر هي المكملة لتلك الثلاثين، فكانت خلافته منصوصاً عليها وقام عليها إجماع من ذكر، فلا مرية في حَقِّيتها (7).
إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن خلافة الحسن بن علي كانت خلافة حقة وأنها جزء مكمل لخلافة النبوة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ستكون ثلاثين سنة (8)
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 134).
(2) البداية والنهاية (11/ 134).
(3) شرح الطحاوية صـ 545.
(4) البخاري (7/ 94).
(5) فيض القدير (2/ 409).
(6) الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة (2/ 397).
(7) المصدر نفسه (2/ 397).
(8) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 748).(1/204)
رابعاً: خطب لا تصح للحسن بعد مقتل والده:
ونورد هذا المبحث لمعرفة الباطل والتحذير منه كما قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
وقد اخترع الشيعة الرافضة الكثير من الخطب ونسبوها كذباً وبهتاناً للحسن بن علي رضي الله عنه وإليك نماذج من ذلك منها: .. أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا الحسن بن علي. أنا البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله عز وجل بإذنه وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، والذين، افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول: ((وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا)) (الشورى، آية: 22). فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت (1). ونسجوا خطبة لأبي الأسود الدؤلي إلى أن قالوا: .. ثم بكى حتى اختلفت أضلاعه ثم قال: وقد أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه وسليله ووشبيهه في خلقه وهديه، وإني لأرجو أن يجبر الله به ما وهي، ويسد به ما انثلم ويجمع به الشمل ويطفئ به نيران الفتنة فبايعوه ترشدوا، فبايعت الشيعة كلها وتخلف ناس ممن كان يرى رأي العثمانية وهربوا إلى معاوية (2)، وذكروا رسائل مطولة من الحسن إلى معاوية يدعوه لبيعته ويدلي بحجته وأحقيته وهي لا تثبت من حيث السند والمتن وإنما ذكرت في كتب الشيعة الرافضة العارية من الأسانيد الصحيحة، المتعارضة مع ما ثبت عن الحسن بن علي في خلافته (3)، ويكفي أن تلك المراجع تحدث فيها علماء وأهل السنة وبينوا زيفها وبطلانها وأنها ليست بحجة في مجال الاعتقاد والأحكام والعلاقة بين الصحابة الكرام، ويكفي أن النصوص السالفة الذكر من كتاب مقاتل الطالبيين والأغاني للأصفهاني ومن كتاب نهج البلاغة وقد تحدث العلماء عن الأصفهاني وكتابه وكذلك نهج البلاغة فقالوا:
_________
(1) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني صـ 51 ـ 52.
(2) الأغاني لأبي فرج الأصفهاني (1/ 121).
(3) الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي محمد ماهر حمادة صـ 90 إلى 95.(1/205)
1 ـ الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني:
يعتبر كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني كتاب أدب وسمر وغناء ومجون وليس كتاب علم وتاريخ وفقه وله طنين ورنين في آذان أهل الأدب والتاريخ ولقد تحدث العلماء فيه قديماً فقالوا:
- قال الخطيب البغدادي: كان أبو الفرج الأصفهاني أكذب الناس كان يشتري شيئاً كثيراً من الصحف، ثم تكون كل رواياته منها.
- قال ابن الجوزي: ... ومثله لا يوثق بروايته، يصّح فيه كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهوّن شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمَّل كتاب الأغاني، رأى كل قبيح ومنكر (1).
- قال الذهبي: رأيت شيخنا تقيّ الدين ابن تيمية يضعّفه ويتهمه في نقله، ويستهْول ما يأتي به (2).
وقد تحدث عنه بعض المعاصرين فقالوا:
- قال الأستاذ شوقي أبو خليل مقوماً مصادر فيليب حتَّى في كتابه تاريخ العرب المطوّل ما نصه: واعتمد حتى كتاب الأغاني للأصفهاني، وهو ليس كتاب تاريخ يعتمد أيضاً، إنّه كتاب أدب، وهذا لا يعني مطلقاً أن كل كتاب أدب لا يؤخذ به، بل يعتمد إن كان صاحبه ثقة، معروفاً عنه الأمانة في النقل والرِّواية. إن كتاب الأغاني الذي جعله حتَّى مرجعاً تاريخياً معتمداً، صاحبه متَّهم في أمانته الأدبيَّة والتاريخية، جاء في ميزان الاعتدال في نقد الرّجال: أن الأصفهاني في كتابه الأغاني كان يأتي بالأعاجيب بحدثنا وأخبرنا. ومن يقرأ الأغاني يرى حياة العباسيين لهواً ومجوناً وغناء وشراباً .. وهذا يناسب المؤلِّف وخياله وحياته، ومن يرجع إلى كتب التاريخ الصحيحة يجد صورة أخرى فيها علم وجهاد وأدب، فكتاب الأغاني ليس كتاب تاريخ يحتج به (3).
_________
(1) المنتظم (7/ 40، 41).
(2) ميزان الاعتدال (3/ 123).
(3) موضوعية فيليب حتَّى في كتابه تاريخ العرب المطول صـ 187.(1/206)
- وقال أبو عبيدة مشهور بن حسن آل مشهور: .. لا بد من ذكر أمر هام تفطن إليه بعض الباحثين وهو أن أهواء وميول أبي فرج الشيعية لها دور بارز ظهر فيما دوّنه في كتابه هذا، قال الدكتور محمد أحمد خلف الله في خاتمة كتابه أبو الفرج الأصفهاني ما نصه: ولقد وقفنا على ما لأبي فرج من ميول وأهواء، فيجب أن نحذر هذه الميول وهذه الأهواء كلما حاولنا الاعتماد على ما خلَّف الرجل من مرويَّات، فقد يكون الرجل مضللاً، وقد يكون صاحب غرض وهوى، وليس يخفى أنَّ للأهواء حكمها في التاريخ، وهو حكم قد يملي رغبته لا في ذكر الأخبار فحسب وإنما أيضاً في الكتمان (1) وأخيراً لماذا هذا التحذير؟ وقد يتساءل البعض: لماذا هذا التفصيل في التحذير من هذا الكتاب؟ والجواب: كان هذا التحذير لأسباب كثيرة هي:
أ ـ لشهرة هذا الكتاب وصيته الذائع.
ب ـ لاعتماد كثير من أهل التغريب عليه.
جـ ـ لما حواه من أخبار فيها قدح في الإسلام والصحابة والخلفاء والولاة الصالحين العادلين.
د ـ لحرص غير واحد من المعاصرين على إظهار ما فيه على أنه حق وصدق، وقد كتب في ذلك وحرص عليه شفيق جبري في كتاب دراسة الأغاني الذي وضعه بتشجيع من طه حسين والخلاصة أن هذا الكتاب على الرغم من قيمته الأدبية وأسلوبه القوي الأخَّاذ، إلا أن أخباره ومادته تحتاج إلى وقفات ونقدات (2).
* قال الأستاذ وليد الأعظمي في كتابه السيف اليماني في نحر الأصفهاني في مقدمة كتابه بعد كلام: من هنا بدأت أنظر إلى كتاب الأغاني نظرة جديدة، ورجعت إلى كتب التضعيف، والتوثيق والجرح والتعديل، فوجدت الأصفهانيِّ رجلاً غير مأمون، ولا يوثق به عند علمائنا الأجلاَّء المدقِّقين الممحِّصين وسلخت من عمري سنتين كاملتين متفرغاً لكتاب الأغاني أتملَّ نصوصه، وأقواله، وأقف
_________
(1) أبو الفرج الأصفهاني صـ 235، كتب حذر منها العلماء (2/ 30).
(2) كتب حذر منها العلماء (2/ 30، 31).(1/207)
عند كل خبر من أخباره، حتى فلَّيت سطوره وكلماته، واستخرجت قَمْلَه من بين شعراته، واصطبرت عليه اصطبار المجاهدين المرابطين على الثغور، فرأيت نيران الشعوبية والحقد وهي تغلي في الصدور كغلي القدور، وشعرت بنبال الأعداء تتوجَّه إلينا، وسهامهم تنثال علينا، ورددت قول الشاعر:
لو كان سهماً واحداً لاتَّقَيْتُهُ
ولكنه سهم وثانٍ وثالث
فشمرت عن ساعد الجد لأميز الهزل من الجدّ والسمَّ من الشهد، .. ورحت أفحص رجال السند الذين روى عنهم الأصفهاني، وبحثت عنهم في كتب نقد الرجال، وقرأت ما جاء فيهم من أقوال، فوجدت فيهم كل داهية دهياء، وبلية سوداء عمياء من الكذابين والمجروحين والمطعون عليهم، فعزلت أولئك الكذابين وعرّفت بهم، ثم رحت أحصي روايات الأصفهاني عن كل واحد من هؤلاء، وهالني ما رأيت من الاعتماد على أولئك الكذابين والرواية عنهم، والاستقاء من دلائهم، والاستضاءة بنارهم ورأيت نفسي في وادٍ سحيق رهيب، ودخلت في كهف مظلم كئيب وإذا كان أولئك الرواة يكذبون في رواية الحديث النبوي الشريف، فكيف بهم في أخبار الناس وقد تورَّعوا إلى مذاهب وفرق وطوائف، تتجاذبهم الأهواء والمشارب والمنافع، وتتقاذف بهم المقاصد والأهداف؟ وإذا كان الأغناني كتاب أدب وسمر وغناء وليس كتاب علم وتاريخ وفقه، فليس معنى ذلك أن نسكت عمّا ورد فيه من الدس والكذب الفاضح والطعن والمعايب، وقد جمع فيه الأصفهاني كثير من أخبار السيرة والتفسير والفقه والأدب إلى أن قال .. واحتوى الفصل الثاني أخباراً وحكايات أوردها الأصفهاني عن آل البيت النبويِّ الشريف، وهي أخبار تسئ إليهم، وتجرح سيرتهم، وتشوِّه سلوكهم، وتوهِّن أمرهم بما يوافق هوى آل بويه الذين يزعمون الولاء لآل البيت كذباً وزوراً، وقد ناقشت تلك الأخبار وعلَّقت على كل حكاية بما يناسبها .. وجعلت الفصل الرابع للأخبار والحكايات المتفرقة التي طعن فيها الأصفهاني بالعقائد الإسلامية، ولعْن دين الإسلام وتفضيل الجاهلية على الإسلام، مع الكفر البواح والاستخفاف(1/208)
بالصلاة والحج ويوم القيامة، مع دفاع عن البرامكة وإشادة بالفرس، وطعون مختلفة بأعلام العرب والمسلمين، وناقشت كل تلك الأخبار، وعلَّقت عليها بما يناسب أيضاً (1).
إلى أن قال في الخاتمة: بعد هذه الجولة الواسعة في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، والوقوف عند أخباره ومناقشتها والتعليق عليها، أرجو أن يكون القرئ الكريم قد تبيَّن مقاصد هذا الشعوبي الحاقد اللئيم، وقد غضضت وصرفت القلم عن أخبار فظيعة وحكايات شنيعة لا يكتبها أشدُّ الناس عداوة وبغضاً للعرب والمسلمين، فقد اتّهم كثيراً من أعلامهم باللواطة، وكريم نسائهم بالسحاق، وألصق بهم السخائم من ذميم الخصال وقبيح الفعال، متستراً بظلال الأدب والسمر والمذاكرة والمؤانسة، كأن ذلك لا يحصل إلا بشتم سلف هذه الأمة المجيدة في تاريخها وخُلُقها (2).
- وقال أنور الجندي: ركز التغريب والغزو الثقافي على كتابي الأغاني وألف ليلة تركيزاً شديداً بهدف رفعهما إلى مرتبة المراجع الأساسية التي يعتمد عليها في تصوير المجتمع الإسلامي، مع تجاهل عيوب الكتابيين التي تحول دون اعتمادها في المصادر الموثوق بها أما الأول، فكاتبه شعوبي عدو للإسلام وأما الثاني، فهو كتاب لقيط ليس مؤلف، أما كتاب الأغاني، فهو موسوعة في بضع وعشرين مجلداً، وضعها أبو فرج الأصفهاني ليسامر بها الأمراء والفارغين من المترفين في أسمار الليل، ولم يقصد بها إلى العلم أو التاريخ، وكان الأصفهاني في نفسه إنساناً رافضاً لمجتمع المسلمين والعرب، وله ولاء بالمولد والفكر جميعاً إلى خصوم المسلمين والباطنية والرافضة وغيرهم، ولم يكن عمله هذا إلا نوعاً من الحرب العنيفة التي شنتها الشعوبية على الإسلام والمسلمين، رغبة في هدم فكرهم كوسيلة إلى هدم مجتمعهم وقد حرص التغريب وأصحابه نظرية النقد الأدبي الغربي الوافدة على إلقاء الأضواء الساطعة على هذا الكتاب وإحيائه، واعتباره مرجعاً في الدراسات الأدبية ومصدراً لتصوير المجتمع الإسلامي، وكان الدكتور طه حسين جزاه الله بما هو أهله من أبرز من دعوا إلى ذلك وألحوا عليه، فقد عمد إلى
_________
(1) السيف اليماني صـ 10 ـ 13.
(2) السيف اليماني صـ 264.(1/209)
الأغاني نفسها، فأصدر اعتماداً على قصصها أحكاماً زائفة على مجتمع المسلمين وتاريخهم أراد بها المساهمة في عملية التغريب الضخمة والتي كانت تجري في الثلاثينيات من هذا القرن (1)
وقال: على أن أقل مواجهة لسيرة الأصفهاني تكشف عن أنه كان من الشعوبيين، وقد عرف بالتحايل والإغراق، وأثبت كثير من الباحثين والمؤرخين أنه لم يكن مؤرخاً وأكدوا أن كتابه لا يصلح لأن يكون مادة تاريخ، وإنما هو جماع لقصص وجدها في الكتب والأسواق وأراد بها أن يسجل للأغاني والمغنيين، وهو جانب واحد في حياة المجتمع الإسلامي الحافل بالجوانب السياسية والاجتماعية والفقهية والصوفية، وقد شهد عليه الكثير من معاصريه ومؤرخيه بالإنحراف ودمغه المؤرخ اليوسفي بشهادة هي في نظر العلماء كمصدر موثوق به، إذ قال: إن أبي الفرج أكذب الناس، لأنه كان يدخل سوق الورقين وهي عدة من الدكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري منها شيئاً كثيراً في الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منها (2)، وذكر عنه صاحب معجم الأدباء قوله: كان شأنه في معاقرة الخمر، وحب الغلمان، ووصف النساء شأن الشعراء والأدباء الذين كانوا في عصره أو قبله، حيث يقدم دهاقين الخمارين، وجلهم من النصارى واليهود والصابئين والمجوس، وقد عرف بمعاقرته للخمر ولم تكن له عناية بتنظيف جسمه وثيابه (3) .. ثم قال أنور الجندي: ولست أدري كيف يصلح مثل هذا الكتاب مرجعاً في نظر الباحثين أو يمكن أن يؤتمن على رأي أو قول، ولقد عودتنا مناهج الفكر الإسلامي أن تنظر إلى كاتبه، فإن وجدناه كريماً أميناً موضع تقدير الناس بالصدق والحق، قبلنا منه، وإلا رفضنا ما يقدمه ولو كان صادقاً في بعضه (4)
ثم قال تحت عنوان، كتاب مجنون وخلاعة ما نصه: فقد كان الأصفهاني مسرفاً، أشنع في الإسراف في الملذات والشهوات، وقد كان لهذا الجانب في تكوينه الخلقي أثر ظاهر في كتابه، فإن كتاب الأغاني أحفل كتاب بأخبار الخلاعة والمجون، وهو حين يعرض
_________
(1) مؤلفات في الميزان صـ 100، كتب حذر العلماء منها (2/ 38) ..
(2) كتب حذر العلماء منها (2/ 38).
(3) معجم الأدباء (5/ 153).
(4) مؤلفات في الميزان صـ 100 إلى 103 ..(1/210)
للكتاب والشعراء يهتم بسرد الجوانب الضعيفة في أخلاقهم الشخصية ويهمل الجوانب الجدية إهمالاً ظاهراً يدل على أنه كان قليل العناية بتدوين أخبار الجد والرزانة والتجمل والاغتسال، وهذه الناحية من الأصفهاني أفسدت كثيراً من آراء المؤلفين الذين اعتمدوا عليه، ونظرة فيما كتبه جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية، وما كتبه طه حسين في حديث الأربعاء تكفي للاقتناع بأن الاعتماد على كتاب الأغاني جر هذين الباحثين إلى الحط من أخلاق الجماهير في عصر الدولة العباسية، وحملها على الحكم بأن ذلك العصر كان عصر فسق وشك ومجون ولا شك أن إكثار الأصفهاني من تتبع سقطات الشعراء وتلمس هفوات الكتاب جعل في كتابه جوّاً مشبعاً بأوزار الإثم، والغواية، وأذاع في الناس فكرة خاطئة هي اقتران العبقرية بالترف والطيش (1). إن الخطر كل الخطر أن يطمئن الباحثون إلى أن لروايات الأغاني قيمة تاريخية، وأن يبنوا على أساسها ما يثيرون من حقائق التاريخ، ولقد كان من أخطر أعمال التغريب هو توجيه الباحثين إلى اتخاذ الأغاني مصدراً لدراسة المجتمع الإسلامي، بينما قصر عند جانب واحد هو جانب اللهو، ولم يتعرض للجوانب الأخرى الجادة في المجتمع وهي متعددة، ومن هنا يوحي حين الاعتماد عليه كمصدر أن الحياة الإسلامية في القرن الثاني الهجري كانت لهواً، وهو ما صرح به طه حسين ورده الكثيرون وكشفوا زيفه ..
كذلك اعتمد المستشرق لامنس على كتاب الأغاني في كتابه تاريخ بني أمية، وكذلك ما أورده المستشرق فلهوزن في كتابه ((الدولة العربية وسقوطها)) ويحاول جبور عبد النور أن يدافع عن الأصفهاني فيسأل: أفمن الضروري إن كان المؤرخ فاسقاً أو مسرفاً يتتبع الإسراف في اللذات والشهوات أن لا يكون مؤرخاً وألا يكون صادقاً فيما يروي أو يقول أو يكتب؟ ونحن نقول له: نعم، في فكرنا الإسلامي، فإن لم يكن في الفكر الغربي كذلك، فهذا أمر آخر، إن فكرنا الإسلامي وضع قواعد البحث والنقد والعلم على أساس الارتباط الجذري بين علم الباحث وشخصيته، فإن كان منحرفاً في حياته، مضطرباً في شخصيته، بعيداً عن الأخلاق والدين، فنحن نرفضه مصدراً علمياً ولا نقبل له شهادة، والأصفهاني بشهادة الجميع من أنصاره وخصومه على السواء مهدور الرأي ساقط الشهادة، وإن فسقه الشخصي قد أدخل كثيراً من هواه على ما أورده، فضلاً عن
_________
(1) المصدر نفسه صـ 100 إلى 103 نقلاً عن كتب حذر العلماء منها (2/ 40).(1/211)
انحرافه الفكري والعقائدي والاجتماعي مما يفسد آراءه إفساداً، بالإضافة إلى أن كتاب الأغاني ليس مرجعاً علمياً، ولكنه من كتب التسلية والسمر التي كتبت لتزجية فراغ بعض المترفين، ومن هنا فإنه لا يصلح أساساً كمصدر للعلم أو مرجعاً للبحث في الأدب والتاريخ (1). ولقد كان لهذا الكتاب أثر كبير في تشويه تاريخنا ولذلك وجب التحذير منه.
2 ـ نهج البلاغة:
من الكتب التي ساهمت في تشويه تاريخ الصحابة بالباطل كتاب نهج البلاغة، فهذا الكتاب مطعون في سنده ومتنه، فقد جمع بعد أمير المؤمنين بثلاثة قرون ونصف بلا سند، وقد نسبت الشيعة الرافضة تأليف نهج البلاغة إلى الشريف الرضي وهو غير مقبول عند المحدثين لو أسند خصوصاً فيما يوافق بدعته فكيف إذا لم يسند كما فعل في النهج؟ وأما المتهم ـ عند المحدثين ـ بوضع النهج فهو أخوه علي (2)، فقد تحدث العلماء فيه فقالوا:
- قال ابن خلكان في ترجمة الشريف المرتضى: وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه هل جمعه؟ أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه (3) والله أعلم.
- وقال الذهبي في ترجمة المُرتضى أبي طالب علي بن حسين بن موسى الموسوي المتوفى سنة 436هـ: هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطل وفيه حق، لكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن، أين المنصف؟ وقيل: بل جَمْعُ أخيه الشريف الرَّضي (4) وقال أيضاً: وفي تواليفه سبُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من علم لا ينفع (5)، وقال أيضاً في ترجمته: وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قويّة في العلوم، ومن طالع كتابه نهج البلاغة،
_________
(1) مؤلفات في الميزان صـ 100 إلى 103.
(2) الأدب الإسلامي، نايف معروف صـ 53.
(3) الوفيات (3/ 134).
(4) كتب حذر منها العلماء (2/ 250)، الميزان (1/ 200).
(5) سير أعلام النبلاء (17/ 589، 590).(1/212)
جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، ففيه السّبُّ الصّراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم ممّن بعدهم من المتأخرين، جزم بأن الكتاب أكثره باطل (1).
- وقال ابن تيمية: .. وأيضاً، فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب نهج البلاغة، بذلك الكلام، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح، فلا هي صدق ولا هي مدح، ومن قال: إن كلام علي وغيره من البشر فوق كلام المخلوق، فقد أخطأ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوق كلامه، وكلاهما مخلوق .. وأيضاً فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام عليّ موجودة في كلام غيره، لكن صاحب نهج البلاغة وأمثاله أخذوا كثيراً من كلام الناس فجعلوه من كلام علي، ومنه ما يُحكى عن عليّ أنه تكلَّم به، ومنه ما هو كلام حقُّ يليق به أن يتكلم به، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره، ولهذا، يوجد في كلام "البيان والتبيين" للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير عليّ، وصاحب "نهج البلاغة" يجعله عن علي، وهذه الخطب منقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن علي من كلامه، لكانت موجودة قبل هذا المصنَّف، منقولة عن عليّ بالأسانيد وبغيرها، فإذا عَرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيراً منها ((بل أكثرها)) لا يُعرف قبل هذا علم أن هذا كذب، وإلا فليبيِّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك، ومن الذي نقله عن عليّ، وما أسناده؟ وإلا فالدعوة المجردة لا يعجز عنها أحد، ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبيّن صدقها من كذبها، عَلِم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن عليّ من أبعد الناس عن المنقولات، والتمييز بين صدقها وكذبها (2).
- وقال العلامة المقبلي: أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات
_________
(1) ميزان الاعتدال (3/ 124)، لسان الميزان (4/ 223).
(2) منهاج السنة (8/ 55 ـ 56) كتب حذر العلماء منها (2/ 256).(1/213)
أصحابي. قال: وكان ابن سيرين يرى عامة ما يرون عن علي رضي الله عنه كذباً، وصدق ابن سيرين رحمه الله، فإن كل قلب سليم، وعقل غير زائغ عن الطريق القويم، ولب تدرب في مقاصد سالكي الصراط المستقيم، يشهد بكذب كثير مما في نهج البلاغة الذي صار عند الشيعة عديل كتاب الله بمجرد الهوى الذي أصاب كل عرق منهم ومفصل، وليتهم سلكوا مسلك جلاميد الناس، وأوصلوا ذلك إلى علي برواية تسوغ عند الناس، وجادلوا عن رواتها، ولكن، لم يبلغوا بها مصنفها (1).
ويمكن تلخيص أهم ما لاحظه القدامى والمحدثون على نهج البلاغة للتشكيك بصحة نسبته للإمام علي بما يلي:
- خلوَّه من الأسانيد التوثيقية التي تعزز نسبة الكلام إلى صاحبه متناً ورواية وسنداً.
- كثرة الخطب وطولها، لأن هذه الكثرة وهذا التطويل ممّا يتعذر حفظه وضبطه قبل عصر التدوين.
- رصد العديد من الأقوال والخطب في مصادر وثيقة منسوبة لغير علي رضي الله عنه، وصاحب النهج يثبتها له.
- اشتمال هذا الكتاب على أقوال تتناول الخلفاء الراشدين قبله بما لا يليق به ولا بهما، وتنافي ما عُرف عنه من توقيره لهما بالأسانيد الصحيحة، ومن أمثلة ذلك ما جاء بخطبته المعروفة بـ"الشقشقية" التي يظهر فيها حرصه الشديد على الخلافة، رغم ما شُهر عنه من التقشّف والزهد.
- شيوع السجع فيه، إذ رأى عدد من الأدباء أن هذه الكثرة لا تتّفق مع البعد عن التكلّف الذي عُرف به عصر الإمام علي رضي الله عنه، مع أن السجع العفوي الجميل لم يكن بعيداً عن روحه ومبناه.
- الكلام المنمق الذي تظهر فيه الصناعة الأدبية التي هي من وَشْي العصر العباسي وزخرُفه، ما نجد في وصف الطاؤوس والخفّاش، والنحل والنمل، والزرع والسحاب وأمثالها.
_________
(1) العلم الشامخ صـ 237، كتب حذر العلماء منها (2/ 251).(1/214)
- الصيغ الفلسفية والمقالات الكلامية التي وردت في ثناياه، والتي لم تُعرف عند المسلمين إلا في القرن الثالث الهجري، حين ترجمت الكتب اليونانية والفارسية والهندية، وهي أشبه ما تكون بكلام المناطقة والمتكلمين منه بكلام الصحابة والراشدين (1)
إن هذا الكتاب يجب الحذر منه في الحديث عن الصحابة ومن أراد الاستفادة منه فعليه أن يعرض المسائل العقائدية وحديثه عن الصحابة والأحكام التي فيه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما وافق الكتاب والسنة، فلا مانع من الاستئناس به وما خالف فلا يلتفت إليه.
لقد نقل صاحب كتاب الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي خطباً ورسائل وحوارات للحسن بن علي بن أبي طالب مع معاوية رضي الله عنه والمتعلقة بخلافته وعهده أكثرها لا يصح (2)، واعتمد على مصادر ضعيفة واهية، كالأغاني ونهج البلاغة وغيرها من الكتب التي لا يمكن لطالب علم يحترم الحقيقة العلمية والموضوعية والحيادية أن يعتمد عليها في البحث التاريخي الجاد الذي يراد به وجه الله تعالى.
_________
(1) الأدب الإسلامي صـ 54، 55.
(2) الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي صـ 76 إلى 100.(1/215)
المبحث الثاني: أهم صفاته وحياته في المجتمع:
أولاً: أهم صفاته:
إن شخصية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعتبر شخصية قياديّة، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرّباني، فمن أهم هذه الصِّفات: إيمانه العظيم بالله واليوم الآخر، والعلم الشرعيُّ، والثقة بالله، والقدوة، والصِّدق، والكفاءة، والشَّجاعة، والمروءة، والزُّهد، وحب التضحية، والتّواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصَّبر، وعلو الهمَّة، والحزم، والإدارة القويَّة، والعدل، والقدرة على حلِّ المشكلات، وغير ذلك من الصِّفات، وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية استطاع أن يقدم مشروعه الإصلاحي مع قدرته على التنفيذ والتغلب على العوائق في الطريق وتوّجت جهوده الفذة بوحدة الأمة ومن أهم تلك الصِّفات التّي نحاول تسليط الأضواء عليها هي:
1 ـ العلم:
تربى الحسن في بيت النبوة، فتأثر بجده صلى الله عليه وسلم ووالدته السيدة فاطمة في طفولته واستفاد من والده العلم الغزير، فقد اهتم به اهتماماً كبيراً، وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يعلم الناس كتاب الله ومن بينهم أبنائه ومنهم أمير المؤمنين الحسن والحسين فتعلموا منه منهجه لبيان الحكم الشرعي وطريقته في الاستنباط والتي كانت ملامحها، الالتزام بظاهر القرآن الكريم، حمل المطلق على المقيد، وحمل المجمل على المفسر، والعلم بالناسخ والمنسوخ، والنظر في لغة العرب، وفهم النص بنص آخر، والسؤال عن مشكله، والعلم بمناسبة الآيات، وتخصيص العام، ومعرفة عادات العرب وأحوالهم، وقوة الفهم وسعة الإدراك، وكان القرآن الكريم لذلك الجيل ومنهم الحسن بن علي هو المنهج التربوي ومع هدي النبي صلى الله عليه وسلم فكانت للآيات القرآنية الكريمة التي سمعها من والده أمير المؤمنين علي أثرها في علمه وصياغة شخصيته، فقد تطهر قلبه وزكت نفسه، وتفاعلت معه روحه، فأبصر(1/216)
الحقائق الكبرى في عالم الوجود، وكان من شيوخه الذين حفظ عليهم القرآن الكريم عبد الله بن حبيب بن ربيعة أبو عبد الرحمن السلُّمي، مقري الكوفة وكان لأبيه صحبة روى عن علي رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وقد أخذ القراءة عنه عاصم وعطاء والحسن والحسين رضي الله عنهم وكان يقرئ عشرين آية بالغداة وعشرين آية بالعشي وكان فقيهاً وتوفي في الكوفة في خلافة عبد الملك بن مروان وكان ثقة كثير الحديث (1)، وعن عبد الله بن المبارك عن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن السُّلمي ـ وهو يقضي أي ينزع في المسجد، فقلنا له: لو تحولت إلى الفرش فإنه أوثر (2). قال: حدثني فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلآّه ينتظر الصلاة (3)،
وفي رواية ابن سعد: الملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم أرحمه. قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: فأريد أن أموت وأنا في مسجدي (4)، وكان منهجه رحمه الله في تعليم القرآن الكريم منهج الصحابة الكرام، فعن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال: حدّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ كعثمان بن عفّان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنَّهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يتجاوزها حتى يتعلموا ما فيها من العلم، والعمل، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم، والعمل جميعاً، ولهذا كانوا يبقون مدّة في حفظ السُّورة (5)، ويعتبر أبو عبد الرحمن السُّلمي شيخ الحسن بن علي في القرآن الكريم من أشهر تلاميذ عثمان بن عفان رضي الله عنه (6) وقد سار الحسن بن علي على نفس الطريقة في حفظ وفهم والعمل بالقرآن الكريم.
- نظرة أمير المؤمنين الحسن لله والكون والحياة والجنة والنار:
قد عرف الحسن من خلال القرآن الكريم وتربية والده أمير المؤنين علي من هو الإله الذي يجب أن يعبده، فأصبحت نظرة الحسن بن علي إلى الله -عز وجل ـ
_________
(1) تهذيب التهذيب (5/ 183 ـ 184)، الطبقات (2/ 173).
(2) أوثر: أوطأ.
(3) كتاب الزهد، رقم 420 صـ 141 ـ 142 ..
(4) الطبقات الكبر (6/ 174/175).
(5) الفتاوى (13/ 177).
(6) تيسير الكريم المنّان في سيرة عثمان بن عفان صـ 25.(1/217)
والكون، والحياة، والجنّة والنَّار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
- فالله سبحانه وتعالى منَّزهُ عن النقائص، موصوف بالكمالات التي تتناهى فهو سبحانه واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
- وأنَّه سبحانه حدّد مضمون هذه العبودية، وهذا التّوحيد في القرآن الكريم (1).
- وأما نظرته للكون، فقد استمدّها من قول الله تعالى: ((قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) (فصلت، آية: 9 ـ 12).
- وأما هذه الحياة مهما طالت، فهي إلى زوال، وأنّ متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير، قال تعالى: ((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (يونس، آية: 24).
- وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة فأصبح هذا التصور مهيمناً على نفسه، فيرى المتتبِّع لسيرة الحسن بن علي رضي الله عنه عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدّة خوفه من عذاب الله، وعقابه وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمدَّه من كتاب الله، وتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه كما قال تعالى: ((قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) (التوبة، آية 51).
_________
(1) منهج الرسول في غرس الروح الجهاديّة صـ 10 إلى 16.(1/218)
- وعرف الحسن بن علي رضي الله عنه من خلال القرآن الكريم حقيقة الصِّراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدوّ يأتي للإنسان من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله يوسوس له بالمعصية، ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعيناً بالله على عدوِّه إبليس وانتصر عليه في حياته.
- وتعلّم من خطئية آدم ضرورة توكُّل المسلم على ربِّه، وأهمية التوبة، والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد، والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع الصَّحابة لقول الله تعالى: ((وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)) (الاسراء، آية: 53).
لقد أكرم المولى ـ عز وجل ـ الحسن بن علي رضي الله عنه بالعيش مع القرآن الكريم، فعاش به، واستمد أصوله، وفروعه من كتاب الله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح من أئمة الهدى، الذين يرسمون للنَّاس خطَّ سيرهم، ويتأسَّى النَّاس بأقوالهم، وأفعالهم في هذه الحياة، وكان رضي الله عنه من أهل القرآن ولذلك كانت خطبه بالقرآن الكريم فقد روي عنه رضي الله عنه بأنه خطب يوم الجمعة فقرأ سورة إبراهيم على المنبر حتى ختمها (1) وقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قرأ سورة ق حتى ختمها،. فقد روى مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: ما أخذت "ق، والقرآن المجيد" إلا من لسان رسول الله يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس (2)، وروى عن ابن ماجة عن أبي بن كعب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة "تبارك" وهو قائم، فذكرنا بأيام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال: متى أنزلت هذه السورة؟ فإني لم أسمعها إلى الآن، فأشار إليه أن سكت (3)، ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يخطب بالقرآن (4)، ولذلك كان الحسن بن علي رضي الله عنه يوجِّه الناس بآيات القرآن الكريم ويتلوها عليهم، ملتزماً بالمنهج
_________
(1) الطبقات، تحقيق السُّلمي (1/ 278) إسناده ضعيف.
(2) مسلم رقم 873.
(3) سنن ابن ماجة رقم 1111 إسناده حسن.
(4) زاد المعاد (1/ 43).(1/219)
النبوي في قراءته للقرآن بإتقان وتركيز وتدبر وخشوع، وتحسين للصوت، فتهتز لها القلوب وتذرف لها الدموع. وإذا حاولنا أن نتأمل في سورة إبراهيم عليه السلام التي قرأها على المنبر كاملة نلاحظ بأن أهم مواضيعها هي:
ـ إثبات أصول العقيدة من الإيمان بالله وبالرسل وبالبعث والجزاء وإقرار التوحيد، والتعريف بالإله الحق خالق السَّماوات والأرض، وبيان الهدف من إنزال القرآن الكريم، وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النُّور، واتَّحاد مهمة الرُّسل ودعوتهم في أصول الاعتقاد والفضائل وعبادة الله والإنقاذ من الضلال.
ـ الوعد والوعيد: ذمَّ الكافرين ووعيدهم على كفرهم وتهديدهم بالعذاب الشديد، ووعد المؤمنين على أعمالهم الطِّيِّبة بالجنان (الآية 2، والآية 23، والآيات 28 ـ 31).
ـ الحديث عن إرسال الرُّسل بلغات أقوامهم، لتسهيل البيان والتفاهم (الآية: 4).
ـ تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم ببيان ما حدث للرُّسل السابقين مع أقوامهم: قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، والتذكير بعقابهم، كما في الآيات (9 ـ 12) والآيات (13 ـ 18).
ـ ابتداء من بين قصص بعض الأنبياء المتقدمين عليهم السّلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيَّاهم لعبادة الله تعالى (الآيات 5 ـ 8).
ـ ابتداء من بين قصص بعض الأنبياء المتقدمين عليهم السّلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيَّاهم لعبادة الله تعالى (الآيات 5 ـ 8).
ـ دعوات إبراهيم عليه السَّلام بعد بناء البيت الحرام لأهل مكة بالأمان والرّزق وتعلُّق القلوب بالبيت الحرام، وتجنيبه وذريَّته عبادة الأصنام، وشكره ربه على ما وهبه من الأولاد بعد الكبر، وتوفيقه وذريّته لإقامة الصَّلاة، وطلبه المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين (الآيات 53 ـ 41).
ـ بيان مشهد من مشاهد الحوار بين أهل النار في عالم الآخرة (الآيات 19 ـ 23).
ـ ضرب الأمثال لكلمة الحق والإيمان وكلمة الباطل والضَّلال بالشجرة الطيبة والشَّجرة الخبيثة (الآيات 24 ـ 27).
ـ التذكير بأهوال القيامة وتهديد الظالمين وبيان ألوان عذابهم (الآيات: 42 ـ 52).(1/220)
ـ بيان الحكمة من تأخير العذاب ليوم القيامة، وهو ما ختمت به السورة (1) (الآيات: 51 ـ 52).
هذه أهم المواضيع التي اشتملت عليها سورة إبراهيم عليه السلام والتي خطب بها الحسن بن علي رضي الله عنه على المنبر لخطبة الجمعة، كما كان الحسن بن علي رضي الله عنه إذا أوى إلى فراشه قرأ سورة الكهف، وقد استهلت السورة ببيان وصف القرآن بأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه، وأنه جاء للتبشير ثم لفت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة الله تعالى، وتحدثت السورة عن ثلاث قصص من روائع قصص القرآن الكريم وهي قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين، أما قصة سورة الكهف (9 ـ 26) فهي مثال عالٍ، ورمز سام للتضحية بالوطن والأهل والأقارب والأصدقاء والأموال في سبيل العقيدة الصحيحة وإتباع الهدى، فقد فرّ هؤلاء الشباب الفتية المؤمنون بدينهم من بطش الملك الوثني واحتموا في غار في الجبل، فأنامهم الله ثلاثة مائة وتسع سنين سنة قمرية، ثم بعثهم ليقيم دليلاً حسياً للناس على قدرته على البعث واتبع الله تعالى القصة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتواضع ومجالسة الفقراء المؤمنين وعدم الفرار إلى مجالسة الأغنياء لدعوتهم إلى الدين: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)) (الكهف، الآية: 28). ثم هدد الله تعالى الكفار بعد إظهار الحق، وذكر ما أعده لهم من العذاب الشديد في الآخرة ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ)) (الكهف، الآية: 29) وقارن ذلك بما أعده سبحانه من جنات عدن للمؤمنين الصالحين (30 ـ 31).
وأما قصة موسى مع الخضر في الآيات (60 ـ 78) فكانت مثلاً للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم، وأنه قد يكون عند العبد الصالح من العلوم في غير أصول الدين وفروعه ما ليس عند الأنبياء، بدليل قصة خرق السفينة، وحادثة قتل الغلام، وبناء الجدار، وأما قصة ذي القرنين في الآيات (83 ـ 99) فهي عبرة للحكام والسلاطين، إذ أن هذا الملك تمكن من السيطرة على العالم، ومشارق الأرض ومغاربها، وبنائه السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح.
_________
(1) التفسير المنير (13/ 198، 199).(1/221)
وتخللت هذه القصة أمثلة ثلاثة بارزة رائعة مستمدة من الواقع، لإظهار أن الحق لا يقترن بالسلطة والغنى، وإنما يرتبط بالإيمان، وأول هذه الأمثلة قصة أصحاب الجنتين (32 ـ 44) للمقارنة بين الغني المغتر بماله، والفقير المعتز بإيمانه، لبيان حال فقراء المؤمنين وحال أغنياء المشركين. وثانيها: مثل الحياة الدنيا (45 ـ 46) لإنذار الناس بفنائها وزوالها. وأردف ذلك بإيراد بعض مشاهد القيامة الرهيبة من تسيير الجبال، وحشر الناس في صعيد واحد، ومفجأة الناس بصحائف أعمالهم (47 ـ 49) وثالثها: قصة إبليس وإبائه السجود لآدم (50 ـ 53) للموازنة بين التكبر والغرور، وما أدى إليه من طرد وحرمان وتحذير الناس من شر الشيطان، وبين العبودية لله والتواضع، وما حقق من رضوان الله تعالى، وأردف ذلك بيان عناية القرآن بضرب الأمثال للناس للعظة والذكر وإيضاح مهام الرسل للتبشير والإنذار والتحذير من الأعراض عن آيات الله (54 ـ 57) وختمت السورة بموضوعات ثلاثة: أولها ـ إعلان تبديد أعمال الكفار وضياع ثمرتها في الآخرة (100 ـ 106) وثانيها ـ تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي (107 ـ 108) وثالثها ـ أن علم الله تعالى لا يحده حدود ولا نهاية (1)
(109 ـ 110) وكانت آخر آية في السورة وبعدما بين المولى عز وجل كمال كلامه، أمر تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالتواضع فقال ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) (الكهف، آية: 110) أي قل يا محمد لهم: ما أنا إلا بشر مثلكم في البشرية، ليس لي صفة الملَكية أو الألوهية، ولا علم لي إلا ما علمني الله، إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، فلا شريك له في ألوهيته، فمعبودكم الذي يجب أن تعبدوه هو معبود واحد لا شريك له ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) أي فمن آمن بلقاء الله، وطمع في ثواب الله على طاعته، فليتقرب إليه بصالح الأعمال، وليخلص له العبادة، وليجتنب الشرك بعبادة الله أحداً من مخلوقاته، سواء أكان شركاً ظاهراً كعبادة الأوثان أو إدعاء غير
_________
(1) التفسير المنير (16/ 197، 198، 199) ..(1/222)
الله تعالى أو النذر للمخلوقين أو اعتقاد أن الخلق ينفعون أو يغيرون بما لا يقدر عليه إلا الله أو صرف أنواع العبودية من خوف أو رجاء أو حب لغير الله مما لا ينبغي إلا لله، أم شركاً خفياً كفعل شئ رياء أو سمعة وشهرة (1)، والرياء هو الشرك الأصغر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء (2)
وقد جمعت الآية الكريمة شرطي قبول الأعمال، إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ((فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا)) والإخلاص لله وهو قوله: ((وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)).
إن هذه المعاني الكريمة والآيات العزيزة كان الحسن بن علي يقرأها كل يوم بتمعن وتدبر، فكانت لها تأثيرها على نفسه وفي حياته، كما كان للحسن بن علي رضي الله عنه اهتمام بالسيرة النبوية الشريفة، فقد كانت من ثقافة ذلك الجيل تعلم السيرة النبوية، فقد قال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها (3) وقال علي بن الحسن: كنا نُعلم مغازي رسول الله كما نعلم السورة من القرآن (4)، وأما السنة النبوية، فقد كان والده أمير المؤمنين علي أكثر الخلفاء الراشدين رواية لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا راجع إلى تأخر وفاته عن بقية الخلفاء، وكثرة الرواة عنه، وانتشار طلبة العلم من التابعين الذين كانوا يكثرون السؤال، ووقوع الأحاديث التي تقتضي البلاغ والرواية، في أمور أخرى فنقلوا عنه ما بلغهم بأمانه ونزاهة وقد استفاد منه ابنه الحسن استفادة عظيمة أما من جده صلى الله عليه وسلم فقد توفي صلى الله عليه وسلم، والحسن صغير كما هو معلوم، فعقل عن رسول الله أحاديث وأموراً ذكرها منسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد بينتها فيما مضى. وكان الحسن رضي الله
_________
(1) التفسير المنير (16/ 43).
(2) مسند أحمد (5/ 428 ـ 429) إسناده حسن ..
(3) البداية والنهاية (2/ 242).
(4) المصدر نفسه، السيرة النبوية للصَّلاَّبيِّ (1/ 6).(1/223)
عنه يحث أولاده على طلب العلم، فقد دعا بنيه وبني أخيه فقال: يا بنيَّ وبني أخي إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين فتعلّموا العلم فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته (1)،
وكان رضي الله عنه خطيباً مفوهاً، فقد قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للحسن ذات يوم: قم فاخطب الناس يا حسن. قال: إني أهابك أن أخطب وأنا أراك فتغيب عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه، فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه وتكلم (2)، ثم نزل فقال علي: ((ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (آل عمران، آية: 34). وقد ورث الحسن من جده صلى الله عليه وسلم ووالده رضي الله عنهم الخطابة والفصاحة والبلاغة وقوة البيان، وقد ذكرت كتب التاريخ: أن علياً رضي الله عنه سأل ابنه ـ يعني الحسن ـ عن أشياء عن المُروءة، فقال: يا بُنيّ ما السَّدادُ؟ قال: يا أبتي السَّدادُ دفع المنكر بالمعروف. قال: فما الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة وحمل الجريرة. قال: فما المروءة؟ قال: العفاف وإصلاح المرءِ مالَه. قال: فما الدِّقَّةُ (3)؟ قال: النظر في اليسير ومنع الحقير (4). قال: فما اللُّؤْم؟ قال: إحراز المرءِ نفسه وبذله يحْرسَه قال: فما السماحة؟ قال: البذل في العسر واليسر. قال: فما الشُّح؟ قال: أن ترى ما في يديك شرفاً وما أنفقته تلفاً. قال: فما الإخاء؟ قال: الوفاء في الشدة والرخاء. قال: فما الجُبن؟ قال: الجرأة على الصديق والنّكول على العدو. قال: فما الغنيمة؟ قال: الرغبة في التقوى، والزهادة في الدنيا هي الغنيمة الباردة قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ ومَلْكُ النفس. قال فما الغنى؟ قال: رضا النفس بما قسم الله لها وإن قلَّ، فإنما الغنى غنى النفس قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس في كل شئ. قال: فما الذلُّ؟ قال: الفزع عند المصدوقة (5). قال فما الجرأة؟ قال: موافقة الأقران. قال فما الكُلْفة؟ قال: كلامك فيما لا يَعْنِيك.
قال: فما المجد؟ قال: أن تعطي في الغُرم وأن تعفو عن
_________
(1) الطبقات (1/ 292) إسناده حسن تحقيق السُّلمي ..
(2) الطبقات (1/ 276) إسناده ضعيف مرسل.
(3) الدقة: الحقارة النهاية (2/ 127).
(4) الحقير هنا: الشئ اليسير.
(5) المصدوقة: الحملة الصادقة ليس لها مكذوبة.(1/224)
الجُرم. قال فما العقل؟ قال: قال: حفظ القلب كلَّ ما استرعيته. قال: فما الخُرقُ (1)؟ قال: معاداتك إمامك ورفعك عليه كلامك. قال: فما الثناء. قال: إتيان الجميل وترك القبيح. قال: فما الحزم؟ قال: طول الأناة والرفق بالولاة، والاحتراس من الناس بسوء الظن هو الحزم. قال فما الشَّرف؟ قال: قال: موافقة الأخوان، وحفظ الجيران قال: فما السَّفَهُ؟ قال اتباعُ الدُّناة، ومصاحبة الغُواة. قال: فما الغفلة؟ قال: تركُك المسجد وطاعتك المفسد. قال فما الحرمان؟ قال: تركك حظَّك وقد عُرض عليك. قال: فما السَّيِدُ؟ قال: الأحمق في المال، المتهاون بعرضه، يُشْتَمُ فلا يجيب، المحتزن بأمر العشيرة (2) هو السيد. ثم قال عليُّ: يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكفِّ، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء، ورأس الإيمان الصبر، وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الظَّرف الصَّلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء وآفة الحبِّ الفخر. ثم قال علي: يا بُنيَّ، لا تستخفَّنَّ برجل تراه أبداً فإن كان أكبر منك فعُدَّ أنه أبوك، وإن كان مثلك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك، فاحسب أنه ابنك. فهذا ما ساءل عليُّ ابنه عن أشياء من المروءة. قال القاضي أبو الفرج.
ففي هذا الخبر من الحكمة وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه وحفظه ووعاه، وعمل به، وأدّب نفسه بالعمل عليه، وهذبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدته بالوقوف عنده، وفيما رواه أمير المؤمنين وأضعافه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما لا غنى لكل لبيب عليم ومدره (3) حكيم عن حفظه وتأمُّله، والمسعود من هُدى لتقبُّله والمجدود (4) من وفق لامتثاله وتقبله (5).
_________
(1) الخرق: الجهل والحمق.
(2) المتحزن بأمر العشيرة: المهتم بأمرهم.
(3) المدرة: زعيم القوم وخطيبهم والمتكلم عنهم.
(4) المجدود: المحظوظ.
(5) البداية والنهاية (11/ 202).(1/225)
وقد علق ابن كثير على هذا الأثر فقال: ولكنَّ هذا الأثر وما فيه من الحديث المرفوع ضعيف ومثل هذه الألفاظ في عبارتها ما يدل ما في بعضها من النّكارة على أنه ليس بمحفوظ والله أعلم (1). وما دامت الأمور التي ذكرتها مع الكتاب والسنة لا تتعارض ولا تبنى عليها عقيدة أو عبادة وإنما تدعو إلى مكارم الأخلاق، فلا مانع من الاستئناس بها. وقد سأل أمير المؤمنين علي ابنه الحسن كم بين الإيمان واليقين؟ فقال الحسن رضي الله عنه: أربع أصابع. فقال أمير المؤمنين علي وكيف؟ فقال الحسن: الإيمان كل ما سمعته أذناك وصدقه قلبك. واليقين ما رأته عيناك، فأيقن به قلبك وليس بين العين والأذن إلا أربع أصابع (2). ومن أقواله: حسن السؤال نصف العلم (3)، وسئل عن الصمت فقال: هو ستر العين أو زين العرض وفاعله في راحة وجليسه في أمان (4)، ومن علمه أنه أوصى بتعلم اللغة العربية (5)
وتأكيده على تعلم اللغة العربية تأكيد على ضرورة تطبيق القواعد العلمية في القراءة وخاصة قراءة الآيات القرآنية، لأن اللغة العربية هي اللغة التي أنزل الله بها القرآن كتابة ولفظاً وخاطب بها شرائع دينه وفرائض ملته وبها بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته وعلم بها سنته النبوية الشريفة المطهرة وبها ألفت الكتب الدينية والكتب العلمية وكتب الحكمة. فلا بد للناشئ من تعلمها، وإلا كان جاهلاً بالدين منقوصاً في العلم، إضافة إلى ما تمتاز به هذه اللغة من الفصاحة والبيان والطلاوة على اللسان والحلاوة في الإسماع والآذان (6). ومن الأمور التي تؤكد تمكن الحسن بن علي من اللغة العربية، فقد كان يعد من فصحاء العرب، فقد قال عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن بن علي رضي الله عنهما (7)، وقد كان للحسن بن علي تلاميذ نجباء منهم ابنه الحسن،
_________
(1) المصدر نفسه (11/ 202) الطبراني الكبير، حديث موضوع.
(2) التبيين في أنساب القرشيين صـ 127.
(3) نور الأبصار للشبلنجي صـ 122، الحسن بن علي رسالة ماجستير صـ 38.
(4) من أقوال الصحابة صـ 67 نقلاً عن الحسن بن علي رسالة ماجستير صـ 38.
(5) مفتاح السعادة، أحمد مصطفى (2/ 82) نقلاً عن الحسن بن علي ..
(6) نصيحة الملوك صـ 350 للماوردي.
(7) الكامل في التاريخ (4/ 132) نقلاً عن.(1/226)
والمسيب بن نجبة، وسويد بن غفلة، والعلاء بن عبد الرحمن، والشعبي، وهبيرة بن يريم والأصبغ بن نباته، وجابر بن خالد، وأبو الحوراء، وعيسى بن مأمون بن زرارة ويقال ابن المأموم وأبو يحي عمير بن سعيد النّخعي، وأبو مريم قيس الثقفي، وطحرب العجلي، وإسحاق بن يسار والد محمد بن إسحاق وسفيان بن الليل، وعمر بن قيس الكوفيون (1). ويظهر غزارة علمه، ودقة فقهه في علم المصالح والمفاسد، ومعرفته العميقة بمقاصد الشريعة في تقديمه وحدة الأمة وحفظ الدماء على المصلحة الخاصة من ملك الدنيا عندما تنازل لمعاوية.
2 ـ عبادته:
كان الحسن بن علي رضي الله عنه من المجتهدين في العبادة ومارس مفهوم العبادة الشامل في حياته، فقد رضع لبان العبادة مع ما رضعه من معدن النبوة، وتربية الزهراء التي جاءت إلى أبيها عليه الصلاة والسلام لتطلب خادماً، فدلها على ما هو أفضل من ذلك ألا وهو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وقال لها ولزوجها في الليل وهما في الفراش: ألا تقومان تصليان؟ فأطل على الحياة في بيت الزهد والعبادة، والورع والتقى، والحلم والصبر، وانغمس في هذه المفاهيم والمثل والمبادئ حتى غدا مثالاً من مثلها، ومثالاً بها يضرب، يشهد له بذلك معاصروه من الصحابة الأبرار.
- ـ ومن عاشره من الأخيار، فقد كان عابداً بمعرفة، مقبلاً على الله بيقين، مدبراً عن الدنيا وشواغلها برضى واطمئنان، ولهذا كان إذا توضأ وفرغ من الوضوء تغير لونه، فقيل له في ذلك فقال: حق من أراد أن يدخل على ذي العرش أن يتغير لونه (2)، وقد ذكر ابن سعد قوله: ما رأيت أخوف من الحسن بن علي وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما (3)، فكلما اقترب العبد من مولاه، وتعرف على أسمائه وصفاته، ونعوت كماله، ازدادت هيبته وإجلاله وخوفه منه فهو سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس قال تعالى: ((قُلِ
_________
(1) تاريخ دمشق (14/ 5).
(2) وفيات الأعيان (2/ 69).
(3) الطبقات الكبرى (5/ 398).(1/227)
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (آل عمران، آية: 26). يقلب الدول، فيذهب بدولة، ويأتي بأخرى والرسل من الملائكة ـ عليهم السلام ـ بين صاعد إليه بالأمر، ونازل من عنده به، وأوامره متعاقبة على تعاقب الآيات، نافذة بحسب إرادته، فما شاء كان كما يشاء في الوقت الذي يشاء على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وفي البحار، وفي الجو وفي سائر أجزاء العالم وذراته، يقلبها، ويصرفها ويحدث فيها ما يشاء (1)، قال تعالى: ((يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)) (السجدة، آية: 5).
فهو سبحانه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، ولا في قرار البحار، ولا تحت أطباق الجبال، قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) (الأنعام، آية: 59)، فاستشعار عظمة الله وجلاله، ومعرفة أسمائه وصفاته تولد عند العبد خشية وخوفاً ومهابة من هذا الإله العظيم الذي يخضع له كل شئ (2) ((وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)) (الرعد، آية: 15).
- وكان الحسن بن علي رضي الله عنه إذا صَلَّى الغَداةَ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في مصلاَّه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، ويجلس إليه من يجلس من سادات الناس يتحدّثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيُسلِّم عليهن، وربما أتحفنه، ثم ينصرف إلى منزله (3).
إن من السعداء الذين تصلِّي عليهم الملائكة أولئك الذين يجلسون بعد أداء الصلاة في مصلاَّهم، ومما يدل على ذلك ما يلي: روى الإمام أحمد عن أبي
_________
(1) الإيمان أولاً فكيف نبدأ به، مجدي الهلالي صـ
(2) المصدر نفسه صـ 76.
(3) البداية والنهاية (11/ 193، 194).(1/228)
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الملائكة تصلِّي على أحدكم ما دام في مصلآَّه الذي صلّى فيه، ما لم يحدث (1). اللهم أغفر له، اللهم أرحمه (2)، وإن جلس ينتظر الصلاة صلّت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم أغفر له، اللهم أرحمه (3). وروى الإمام أحمد عن عطاء بن السائب قال: دخلت على أبي عبد الرحمن السلمي، وقد صلّى الفجر، وهو جالس، فقلت: لو قمت إلى فراشك كان أوطأ لك. فقال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلّى الفجر ثم جلس في مُصلاّه صلت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهمَّ أغفر له، اللهم أرحمه. ومن ينتظر الصلاة صلّت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم أغفر له، اللهم أرحمه (4).
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ـ هل المكوث في المنزل بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن حتى تطلع الشمس، ثم يصلّي ركعتي الشروق، له نفس الأجر الذي يحصل بالمكوث في المسجد؟ فأجاب: هذا العمل فيه خير كثير وأجر عظيم، لكن ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك أنه لا يحصل له نفس الأجر الذي وعد به إلا من جلس في مصلاّه في المسجد، لكن لو صلّى في بيته صلاة الفجر لمرض أو خوف، ثم جلس في مصلاّه، يذكر الله أو يقرأ القرآن حتى ترتفع الشمس، ثم يصلي ركعتين فإنه يحصل له ما ورد في الأحاديث لكونه معذوراً حين صلّى في بيته، وهكذا المرأة إذا جلست في مصلاّها بعد صلاة الفجر تذكر الله أو تقرأ القرآن حتى ترتفع الشمس، ثم تصلي ركعتين فإنه يحصل لها ذلك الأجر الذي جاءت به الأحاديث (5). إن الحسن بن علي رضي الله عنه يعلمنا أهمية الذكر في البكور، ويرغبنا في ترك النوم في ذلك الوقت من خلال سيرته الربانية ولقد تحدث ابن القيم عن أهمية الذكر في البكور فقال: ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع
_________
(1) أي: حدثاً حقيقاً، أي: ما لم يبطل وضوءه.
(2) مسند أحمد رقم 8106 صححه أحمد شاكر.
(3) مسند أحمد رقم 1218 حسنه أحمد شاكر.
(4) مسند أحمد (2/ 305 ـ 306) حسّن إسناده أحمد شاكر.
(5) مجموعة فتاوى ومقالات متنوعة، ابن باز (11/ 403ـ 404).(1/229)
الشمس، فإنه وقت غنيمة، وللسير في ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة، فيجب أن يكون نومها كنوم المضطر (1)، ولشرف هذا الوقت، ولأهميته في السير إلى الله، نجد الترغيب الشديد في إحيائه بالذكر، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة (2).
قال ابن رجب: لما كان الحج من أفضل الأعمال والنفوس تتوق إليه لما وضع الله في القلوب من الحنين إلى ذلك البيت المعظم وكان كثيراً من الناس يعجز عنه ولا سيما كل عام، شرع الله لعباده أعمالاً يبلغ أجرها أجر الحج، فيتعوض بذلك العاجزون في التطوع (3).
ويقول الأستاذ البنا: أيها الأخ العزيز، أمامك كل يوم لحظة بالغداة، ولحظة بالعشي، ولحظة في السحر، تستطيع أن تسمو فيها كلها بروحك الطهور إلى الملأ الأعلى، فتظفر بخير الدنيا والآخرة وأمامك مواسم الطاعات، وأيام العبادات، وليالي القربات التي وجهك إليها كتابك الكريم، ورسولك العظيم، فأحرص أن تكون فيها من الذاكرين لا من الغافلين ومن العاملين لا من الخاملين، واغتنم الوقت، فالوقت كالسيف، ودع التسويف فلا أضر منه (4).
- وكان الحسن بن علي رضي الله عنه يقول إذا طلعت الشمس: سمع سامع بحمد الله الأعظم لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، سمع سامع بحمد الله الأمجد لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير (5)، وقد لازم الحسن بن علي ما ثبت عن رسول الله من أوراد وأذكار
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين صـ 248.
(2) سنن الترمذي وقال الترمذي حديث حسن صحيح رقم 586.
(3) لطائف المعارف صـ 351، البدر في الحث على صلاة الفجر الدكتور عماد علي صـ 86.
(4) الرقائق صـ 18 نقلاً عن مجلة مجلة الدعوى العدد 8 سنة 1951، الإيمان أولاً صـ 248.
(5) الطبقات (1/ 291) تحقيق السلمي إسناده صحيح.(1/230)
وأدعية، وكان يحث الناس على الصلوات في المساجد وكان يقول من أدمن الاختلاف إلى المساجد رزقه الله احدى خصال: أخاً مستفاداً ورحمة مستترة له أو علماًَ مستطرفاً أو كلمة تدل على هدى أو يترك الذنوب خشية أو حياء (1)، وكان رضي الله عنه من أهل القيام، فقد كان رضي الله عنه يأخذ نصيبه من القيام في أول الليل وكان الحسين رضي الله عنه يأخذه من آخر الليل (2)، فقيام الليل من الوسائل المهمة في إيقاظ الإيمان، جربها الصالحون فوجدوا لها أبلغ الأثر في إحياء القلوب، وقال ابن الحاج في المدخل: وفي قيام الليل من الفوائد جملة، فمنها: أنه يحط الذنوب كما يحط الريح العاصف الورق اليابس من الشجرة، ومنها أنه ينور القلب، ومنها أن موضعه تراه الملائكة من السماء يتراءى مثل الكوكب الدري لأهل الأرض، ونفحه من نفحات قيام الليل تعود على صاحبها بالبركات والأنوار والتحف التي يعجز عنها الوصف (3)
إن قيام الليل شرف المؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عما في أيد الناس (4)، ومهما كثرت دعاوي المحبة طولب أصحابها بالدليل، وشهدت عليهم ساعات الليل، فالبينة على من ادعى، فأهل القيام هم الأشراف بين الناس، أما أهل النوم والغفلة ـ من أمثالنا ـ فقد فضحتهم تلك الساعات، فأسقطت ذكرهم، وأدنت شرفهم (5)، ومن سيرة الحسن بن علي نتعلم أهمية قيام الليل، فبالليل يتم الغرس، غرس بذور الإخلاص والصدق، وعلى قدر غرسك سيكون الخير في قلبك، وكلما ازدادت مساحته، ازداد توالي الهدايا عليه من كل جانب ((إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا)) (الأنفال، آية: 70).
إن قيام الليل من أهم صور الشكر التي كان يمارسها الحسن بن علي رضي الله عنه، فشكر الله ـ عز وجل ـ على نعمه التي لا تعد ولا تحصى غاية من غايات
_________
(1) عيون الأخبار (3/ 5) الحسن بن علي صـ 27.
(2) الزهد لابن حنبل صـ 171، رهبان الليل (1/ 403) للعفاني.
(3) الإيمان أولاً صـ 172.
(4) صحيح الجامع رقم 3701 السلسلة الصحيحة رقم 1903.
(5) الإيمان أولاً صـ 173.(1/231)
العبودية، والشكر عمل، والعبد الشكور هو الذي يظهر عليه أثر النعمة، وأبلغ أثر للنعمة ينبغي أن يظهر على العبد هو زيادة الذل والانكسار والتعظيم لولي النعم (1)، يقول تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألباب)) (الزمر، آية: 8 ـ 9).
فالآيات الكريمة تتحدث عن صنفين من الناس، أنعم الله عليهما بنعمة .. الأول مرَّ بتجربة شديدة، وكان في ضيق وهم فدع الله بصدق ففرج همه، وكشف كربه، لكنه أعرض عن شكره، وعاد إلى غيِّه، أما الآخر فقد سار في طريق الشكر بطول القنوت بالليل، وـ والتضرع لله ـ عز وجل ويُعَقِّب القرآن على الحالتين بقوله تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) (الزمر، آية: 9)، لا يستوي الذين يعلمون حق الشكر النعم والذين لا يعلمون ذلك (2) قال الشاعر:
القانتون المخبتون لربهم
الناطقون بأصدق الأقوال
يحيون ليلهم بطاعة ربهم
بتلاوة وتضرع، وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم
مثل انهمال الوابل الهطّال
في الليل رهبان وعند جهادهم
لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجهم أثر السجود لربهم
وبها أشعة نوره المتلالي (3)
- وكان الحسن بن علي رضي الله عنه كثير الحج، فقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ما ندمت على شئ فاتني في شبابي إلا إني لم أحج ماشياً، ولقد حج الحسن بن علي خمساً وعشرية حجة ماشياً، وإن النجائب لتُقاد معه،
_________
(1) الإيمان أولاً صـ 174.
(2) الإيمان أولاً صـ 175
(3) رهبان الليل (1/ 365).(1/232)
ولقد قاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى أنه يعطي الخف ويُمسك النعل (1)، فهذا مثل من لزوم ما لا يلزم شرعاً يقوم به الحسن بن علي رضي الله عنهما، حيث لازم الحج ماشياً خمساً وعشرين حجَّة، وهذا يدل على فضيلة المشي في الحج، كما يؤيد ذلك ندم ابن عباس رضي الله عنهما على عدم قيامه بذلك أيام شبابه ومداومة الحسن على ذلك على ما فيه من مشقة تدل على قوة إيمانه ورغبته الصادقة في المزيد من الأعمال الصالحة، والمقصود بالمشي من الحج من مكة إلى عرفة ثم من عرفة إلى مكة، وليس المقصود أن يحج الحاج ماشياً من بلده (2) , ومن سيرة الحسن بن علي رضي الله عنه نتعلم أهمية السياحة إلى البيت الحرام، كلما سمحت ظروفنا وتيسر حالنا قال صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة، فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد (3)، ولذلك حج الحسن ماشياً ونجائبه تقاد إلى جانبه خمساً وعشرين مرة في بعض الروايات (4) وقال: إني استحيي من ربي عز وجل أن ألقاه ولم أمشي إلى بيته (5)، وكان رضي الله عنه كثير الصمت، متعبداً على منهج جده صلى الله عليه وسلم.
3 ـ زهده:
فهم الحسن رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم وملازمته لوالده أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فقد تربى على كتاب الله واستوعب الآيات التي تحدثت عن الدنيا وأخبرتنا بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها وكان رضي الله عنه يقرأ كل يوم سورة الكهف ويمر على قوله تعالى: ((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 260).
(2) التاريخ الإسلامي (19/ 221).
(3) الإيمان أولاً صـ 249.
(4) تاريخ ابن عساكر (14/ 72).
(5) المصدر نفسه (14/ 71).(1/233)
مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)) (الكهف، آية: 45، 46) فهذا المثل يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها، ومصير ما فيها من النعيم والترف إلى الهلاك، ولما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والزوال، بين أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا في عرف الناس، وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض، فيقبح بالعاقل الافتخار به أو الفرح بسببه (1) ((وأما َالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)) أي أن أعمال الخير وأفعال الطاعات، كالصلوات والصدقات، والجهاد في سبيل الله، ومساعدة الفقراء والأذكار أفضل ثواباً، وأعظم قربة عند الله، وأبقى أثراً، إذ ثوابها عائد على صاحبها، وخير أملاً حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا (2)، وتربى الحسن بن علي على منهج جده صلى الله عليه وسلم الذي كان أعرف الخلق بالدنيا ومقدارها، إذ هو القائل صلى الله عليه وسلم، لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء (3)،
وقال صلى الله عليه وسلم: ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمِّ فلينظر بما ترجع (4)، وقال صلى الله عليه وسلم، الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (5)، وقد تأثر أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه بالتربية القرآنية والنبوية، فكان من أصدق النَّماذج الإسلامية في الزهد، فقد ضرب لنا أروع الأمثلة في الزهد وإليك التفصيل.
إن حرص المرء على الشرف والملك أشد من حرصه على المال كما أن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس، والعلو في الأرض أضرُّ على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف، والحرص على الشرف على قسمين:
أحداهما: طلب الشرف بالولاية السلطان والمال، وهذا خطر جدّاً، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزّها. قال تعالى: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ
_________
(1) التفسير المنير (15/ 259).
(2) التفسير المنير (15/ 261).
(3) سنن الترمذي رقم 4110 صحيح غريب ..
(4) مسلم رقم 2858.
(5) مسلم رقم 2856.(1/234)
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (القصص، آية: 83). وقلَّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فَيُوَفَّقُ، بل يُوَكلُ إلى نفسه (1)، كما قال: صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمُرة رضي الله عنه: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها (2)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعمت المرضعة (3)، وبئست الفاطمة (4) إن حبَّ المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء، حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله فقد قال صلى الله عليه وسلم، ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه (5). وأصل محبة المال والشرف حبُّ الدنيا، وأصل حبَّ الدنيا إتباع الهوى (6)، قال وهب بن مُنبِّه: من إتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة فيها حبُّ المال والشرف، ومن حب المال والشرف استحلال المحارم (7)
ولذلك قال تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات، آية: 37 ـ 41). كما أن النفس تحب الرفعة والعُلُوَّ على أبناء جنسها ومن هنا نشأ الكبُر والحسد، ولكنَّ العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، ويرغب عن العلوِّ الثاني الذي الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله وسخطه وانحطاط العبد وسفوله وبعده عن الله وطرده عنه، فهذا العلو الثاني الذي يُذَمُّ وهو العتو والتكبر في الأرض بغير الحقِّ. وأما العلوُّ الأول والحرص عليه، فهو محمود قال الله تعالى: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) (المطففين، آية: 26). وقال
_________
(1) ما ذئبان جائعان لابن رجب صـ 33.
(2) البخاري رقم 6622.
(3) مثل ضربه للإمارة وما يصل إلى الرجل من المنافع فيها واللذات.
(4) مثل ضربه للموت الذي يهدم عليه تلك اللذات ويقطع منافعها عنه، البخاري رقم 7148.
(5) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان رقم 3218 حسن صحيح.
(6) شرح حديث ما ذئبان جائعان لابن رجب صـ 71.
(7) المصدر نفسه صـ 71 ..(1/235)
الحسن: إذا رأيت الرَّجُل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة، وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل (1). ففي درجات الآخرة الباقية يُشرعُ التنافس وطلب العلوِّ في منازلها والحرص على ذلك بالسِّعي في أسبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلوِّ، ـ وأما العلوُّ الفاني، المنقطع الذي يُعقب صاحبه غداً حسرة وندامة وذلة وهواناً وصغاراً فهو الذي يُنْشَرُ الزهد فيه والإعراض عنه (2)، وهذا الفقه العظيم والفهم العميق نتعلمه من سيرة الحسن بن علي رضي الله عنه فقد ترك الملك والسلطان رغبة فيما عند الله وحقناً لدماء المسلمين، فقد تركها وهو في قوة ومنعة فقد قال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله (3). وقال في رواية أخرى: ..
ولكن خشيت أن يجئ يوم القيامة سبعون ألفاً أو ثمانون ألفاً، أو أكثر أو أقلُّ، كلهم تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم هُرِيق دمه (4)، لقد بايع الحسن بن علي بعد وفاة علي تسعون ألفاً (5)، فزهد في الخلافة، فلم يُردها وسلّمها لمعاوية وقال: لا يهرق علي يدي محجمة دم (6). وقال في رواية: ما أحببتَ أن ألي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما ينفعني ممّا يضرني، فالحقوا بطيَّتكم (7).
4 ـ إنفاقه وكرمه وجوده:
من الأخلاق القرآنية والتي تتصف بها النفوس الكريمة التي تجسدت في شخصية الحسن بن علي رضي الله عنه، خلق الكرم والجود، وكثرة الإنفاق في سبيل الله تعالى، وكان تنويه القرآن الكريم بأهل الكرم عظيماً، وقد كان هذا التنويه من أول القرآن الكريم حيث يقول سبحانه في مستهل ثاني سورة بعد البسملة: ((ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب
_________
(1) المصدر نفسه صـ 72.
(2) المصدر نفسه صـ 73.
(3) البداية والنهاية (11/ 206).
(4) تاريخ دمشق (14/ 104).
(5) المصدر نفسه (14/ 98).
(6) المصدر نفسه (14/ 98).
(7) بطيتكم: طية الشئ ـ جهته ونواحيه، تاريخ دمشق (14/ 89).(1/236)
وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) ثم وصفهم بقوله: ((أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (البقرة، آية: 1 ـ 5) وقد تأثر أمير المؤمنين الحسن بالقيم القرآنية والنبوية والتربية العملية في حضن أمير المؤمنين علي وانعكس ذلك على نفسيته وترك لنا آثاراً بارزة دالة على تأصل خلق الجود والكرم والإنفاق في شخصيته العظيمة، فقد كان على جانب عظيم من السخاء والجود، وكيف لا يكون كذلك وقد شبَّ وكبر في بيت أكرم الكرماء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وقد تسلسلت إليه هذه الخلة الكريمة وتشربتها نفسه في طفولته، وأخبار كرمه وجوده أصبحت مضرب الأمثال، وقدوة العظماء من الرجال (1).
منها: قال محمد بن سيرين: ربما أجاز الحسن بن علي الرجل الواحد بمائة ألف (2)، وقال سعيد بن عبد العزيز، سمع الحسن رجلاً إلى جانبه يدعو الله أن يملكه عشرة آلاف درهم فقام إلى منزله فبعث إليه (3)، وذكروا أنه رأى غلاماً في حائط من حوائط المدينة يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلباً هناك لقمة، فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: إني استحيي من أن آكل ولا أطعمه، فقال له الحسن: لا تبرح مكانك حتى آتيك فذهب إلى سيده فاشتراه، واشترى الحائط الذي هو فيه، فأعتقه وملَّكه الحائط، فقال له الغلام: يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له (4)، وقال أبو هارون العبدي: انطلقنا حجاجاً فدخلنا المدينة، فدخلنا على الحسن بن علي، فحدثناه بمسيرتنا، وحالنا، فلما خرجنا بعث إلى كل واحد منا بأربعمائة، فرجعنا، فأخبرناه بيسارنا، فقال: لا تردوا على معروفي فلو كنت في غير هذه الحال لكان هذا لكم يسيراً، أما إني مزودكم، إن الله يباهي ملائكته بعباده يوم عرفة (5)، فهذا الحسن بن علي رضي الله عنه قد أعطى أولئك الحجاج ذلك المال
_________
(1) الدوحة النبوية الشريفة صـ 84.
(2) تهذيب الكمال (6/ 234).
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 260).
(4) البداية والنهاية (11/ 196).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 261).(1/237)
مع ظهور يسارهم، فكيف الحال لو كانوا محتاجين، وحينما أظهروا له عدم حاجتهم لم يقبل منهم رد ذلك المال، وهذا دليل على قوة الدافع في نفسه نحو السخاء والجود، ولم ينس أن يزودهم بما هو خير من ذلك حيث ذكّرهم بفضل يوم عرفة الذي يباهي الله تعالى به ملائكته عليهم السلام (1)، وعن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال قال: ابن عباس عن الحسن بن علي: ولقد قاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى إنه يعطي الخف ويمسك النعل (2).
وهذا مثال عزيز في الكرم، حيث قسم الحسن بن علي رضي الله عنه ماله قسمين ثلاث مرات، فكان يتصدق بنصف ماله، ولقد كان دقيقاً في محاسبته نفسه وكأنه يؤدي واجباً من الواجبات، حيث كان يعطي الخف ويمسك النعل مع أن أحدهما لا يغني عن الآخر وأنه في عمله هذا قد جعل من نفسه قدوة للمسلمين في أعمال الخير والإحسان (3). فقد كان رضي الله عنه من أسخى أهل زمانه (4)، وعد رضي الله عنه من الأجواد (5)، ومن أخبار جوده أن معاوية بن أبي سفيان بعث إليه بمائة ألف فقسمها بين جلسائه، فأصاب كل واحد منهم عشرة آلاف (6)، ومن أخبار كرمه أنه دخل على أسامة بن زيد وهو يجود بنفسه ويقول واكرباه واحزناه فقال له الحسن، وما الذي أحزنك يا عم، فقال له أي ابن رسول الله عليَّ دين مقداره ستون ألف درهم ولا أتمكن من رده فقال الحسن رضي الله عنه، سأردها عنك، فقال له أسامة فك الله رهانك يا ابن النبي أن الله أعلم حيث يجعل رسالته (7). وكان الناس يشهدون للحسن رضي الله عنه بكرمه ودليل ذلك أن إعرابياً قدم إلى المدينة يستعطي الناس فقيل له عليك بالحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو عبد الله بن جعفر أو سعيد بن العاص، فلقي سعيد بن العاص، فأكرمه
_________
(1) التاريخ الإسلامي (17/ 136).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 260).
(3) التاريخ الإسلامي (17/ 137).
(4) المحاسن والمساوي صـ 55، الحسن بن علي صـ 32.
(5) الحسن بن علي، رسالة ماجستير صـ 32 لم تنشر.
(6) البداية والنهاية نقلاً عن الحسن بن علي صـ 32.
(7) المحاسن والمساوئ صـ 57.(1/238)
وأعطاه ما أراد (1)، ومن كرم الحسن رضي الله عنه أنه قيل له من أحسن الناس عيشاً؟ فقال من أشرك الناس في عيشه وقيل له من شر الناس؟ فقال: من لا يعيش في عيشه أحد (2)
ولقد سئل الحسن بن علي رضي الله عنه لأي شئ نراك لا ترد سائلاً وإن كنت على فاقة، فقال: إني لله سائلاً وفيه راغب وإن الله تعالى عودني عادة، عودني أن يفيض نعمه عليّ وعودته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى أن قطعت عادتي أن يمنعني عادته (3)، وكان الحسن رضي الله عنه في سخاءه وإيثاره لا يميز بين غني وفقير، أو صغير وكبير، أو قريب أو بعيد لأن النفس التي ترتاح للبذل والعطاء، وجبلت على الكرم والسخاء لذتها في إسعاد الناس (4) ابتغاء مرضاة الله وطلباً للمثوبة والأجر تجد راحتها في ذلك. وكأن الشاعر حافظ إبراهيم كان يعني الحسن عندما قال:
إني لتطربني الخلالُ كريمةً
طرب الغريب بأوبة وتلاق
ويهزُّني ذكرُ المروءة والندى
بين الشمائل هِزة المشتاق
فإذا رُزِقتَ خليقة محمودة
فقد اصطفاك مقسِّم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال، وذا
علم، وذاك مكارم الأخلاق
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه خطب الناس ثم قال: إن ابن أخيكم الحسن بن علي قد جمع مالاً، وهو يريد أن يقسمه بينكم، فحضر الناس فقام الحسن فقال: إنما جمعته للفقراء، فقام نصف الناس، ثم كان أول من أخذ منه الأشعث بن قيس (5)، ومن سيرة الحسن بن علي نتعلم أن بداية انطلاق النفس إلى رضاء الله، وتخلُّصها من جواذب الأرض، وتطهيرها من الشح بدوام الإنفاق في سبيل الله حتى يصير سجية من سجاياها، فتزهد في المال ويخرج حبه من القلوب فلا يفرح صاحبه بزيادته ولا يحزن على نقصانه مصداقاً لقوله تعالى:
_________
(1) غاية المرام، عز الدين القريشي (1/ 95).
(2) تاريخ اليعقوبي (2/ 226، 227) ..
(3) نصيحة الملوك صـ 438 للماوردي.
(4) الدوحة النبوية الشريفة صـ 84.
(5) الطبقات (1/ 278) إسناده صحيح.(1/239)
((لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) (الحديد، آية: 23). كما أن للصدقة أثر عظيم في تزكية النفوس فإن لها فوائد أخرى عظيمة في الدنيا والآخرة منها:
- فهي أفضل استثمار للمال:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلَّوه حتى يكون مثل الجبل (1).
- وهي حجاب من النار:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان (2)
- وهي ظل لصاحبها يوم القيامة:
عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول كل امرئ في ظل صدقته حتى يُقضي بين الناس (3).
- والصدقة تدفع العذاب وقد ترد الحقوق بين الناس:
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير (4). قال ابن حجر: وفي هذا الحديث: أن الصدقة تدفع العذاب، وأنها تكفر الذنوب بين المخلوقين (5).
وأما في الدنيا ففوائدها كثيرة ومجزية وجاءت الأحاديث التي تؤيد تلك الفوائد، فهي دواء للمرضى، وتدفع البلاء، وتيسر الأمور، تجلب الرزق، تقي مصارع السوء، وتطفئ غضب الرب، وتزيل أثر الذنوب (6).
_________
(1) صحيح متفق عليه، والفلو: الفرس أول ما يولد.
(2) صحيح الترغيب والترهيب للألباني 855.
(3) صحيح الترغيب والترهيب رقم 822.
(4) متفق عليه.
(5) فتح الباري (1/ 536).
(6) الإيمان أولاً كيف نبدأ به صـ 188 إلى 189.(1/240)
إن للإنفاق في سبيل الله علاقة وثيقة بالسير إلى الله فهو وسيلة مؤثرة غاية التأثير كما أنه من الوسائل المحورية في إحياء القلب وإيقاظ الإيمان، ولنا في جود وكرم وإنفاق الحسن بن علي أسوة وقدوة حسنة. فإن الإنفاق في سبيل الله من أعظم أبواب الجنة وهو مفتوح للمؤسرين أكثر من غيرهم، دخل من خلاله سادات الأمة الجنة، مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف والحسن وغيرهم، فعلى أغنياء المسلمين في العصر الحديث أن يقتحموا هذا الباب فيدعموا قضايا الإسلام العادلة ومشاريع الدعوة إليه بما يستطيعون فيكسبون رضا الله ودخول الجنة والمساهمة في نصرة دين الله وإغاثة المحتاجين ولا يبخلوا فيضيق الله عليهم.
5 ـ حلمه:
كان بين الحسن بن علي ومروان بن الحكم كلام، فأقبل عليه مروان فجعل يغلظ له، والحسن ساكت، فامتخط مروان بيمينه، فقال الحسن رضي الله عنه: ويحك أما علمت أن اليمين للوجه والشمال للفرج، أف لك، فسكت مروان (1) وما سكون الحسن رضي الله عنه، إلا لما كان لحق نفسه، فلما خالف مروان السنة، غضب لله وللسنة وأبان له الصواب فيها (2)، ولما مات رضي الله عنه، بكى مروان بن الحكم في جنازته، فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرِّعه ما تجرِّعه؟ فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا وأشار إلى الجبل (3)، وذكر ابن عائشة أن رجلاً من أهل الشام، قال: دخلت المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فرأيت رجلاً راكباً على بغلة، لم أرَ أحسن وجهاً ولا سمتاً، ولا ثوباً، ولا دابة منه، فمال قلبي إليه فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب فامتلأ قلبي بغضاً له، وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه، فقلت: أأنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال: أنا ابنه، قلت: فعل بك وبأبيك، أسبهما، فلما انقضى كلامي، قال لي: أحسبك غريباً، قلت: أجل، قال: مر بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، وإن احتجت إلى مال آسيناك، أو إلى حاجة عاوناك، قال:
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 260).
(2) الدوحة النبوية الشريفة صـ 87.
(3) تهذيب الكمال (6/ 235).(1/241)
فانصرفت عنه، وما على الأرض أحب إليَّ منه وما فكرت فيما صنع، وصنعت إلا شكرته وخزيت نفسي (1)،
وهذه المواقف الكريمة التي نتعلم منها الحلم من سيرة الحسن بن علي رضي الله عنه وكيفية كسب المخالفين، بالإحسان إليهم والترفق بهم والصبر على آذاهم ومحبة الخير لهم وقد يغلب على كثير منهم الجهل وعدم معرفة الحقائق، تطبيق لقول الله تعالى: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)) (الأعراف، الآية: 199) واقتداء بجده صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ عليه الصلاة والسلام الذروة والغاية في حلمه وعفوه وضبط نفسه إزاء التخرصات والمفتريات التي نُسِبت إليه، إضافة إلى الإيذاء من مشركين العرب: كامرأة أبي لهب، وأبي جهل، وأبي بن خلف، وغيرهم من سفهاء مكة (2)، ووصفت السيدة عائشة رضي الله عنها خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح (3)، وعنها أيضاً قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط ـ بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شئ ـ قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيئاً من محارم الله فينتقم لله عز وجل (4).
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: من كظم غيظاً ـ وهو قادر على أن ينفذه (5) دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يُخيَّر من أي الحور العين (6) شاء (7) وفي صفة الحلم يقول الشاعر:
وفي الحلم ردع للسفيه عن الأذى
وفي الخرق (8) إغراء فلا تلك أخرقا
فتندم إذ لا تنفعك ندامة
كما ندم المغبون لمّا تفرَّقا (9)
_________
(1) وفيات الأعيان (2/ 67، 68) ..
(2) الأخلاق بين الطبع والتطبع، فيصل الحاشدي صـ 139.
(3) رواه الترمذي رقم 2016 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم 1640.
(4) مسلم رقم 2328.
(5) ومنه العفو عند المقدرة.
(6) الحور: نساء شديدات سواد العيون وبياضها.
(7) سنن الترمذي رقم 4777 حسّنه الألباني صحيح الجامع (2/ 6518).
(8) الخرق: الجهل ضدُّ الرِّفق.
(9) الأخلاق بين الطبع والتطبع صـ 151.(1/242)
6 ـ تواضعه:
مرّ الحسن بن علي رضي الله عنه على جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الأرض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق، وهم يأكلون منها فدعوه إلى مشاركتهم فأجابهم إلى ذلك وهو يقول: إن الله لا يحب المتكبرين. ولما فرغ من تناول الطعام دعاهم إلى ضيافته، فأطعمهم وكسَاهم وأغدق عليهم من إحسانه (1)، ومن مواقف تواضعه، أنه مرّ على صبيان يتناولون الطعام فدعوه لمشاركتهم، فأجابهم إلى ذلك ثم حملهم إلى منزله فمنحهم ببره ومعروفه وقال: اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني ونحن نجد مما أعطيناهم (2)، فصفة التواضع من صفات عباد الرحمن، قال الله تعالى وتبارك: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)) (الفرقان، الآية: 63)، والتواضع علامة من علامات حب الله للعبد، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم)) (المائدة، الآية: 54) فمن سيرة الحسن بن علي رضي الله عنه نتعلم صفة التواضع قال الشاعر:
تواضع كالنجم لاح (3) لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع
ولأنك كالدخان يعلو بنفسه ... على طبقات الجو وهو وضيع (4)
7 ـ سيادته:
ولقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة هذا الإمام وسيادته وجلالة قدره، على مرأى ومسمع من الناس في غير مرة، وقد تواترت الروايات بقوله صلى الله عليه وسلم عن الحسن، إن ابني هذا سيد، قال ابن عبد البر: وتواترت الآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن بن علي: إن ابني هذا سيد وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح بين فئتين
_________
(1) حياة الإمام الحسن بن علي (1/ 291).
(2) صلاح الأمة في علو الهمة (5/ 437).
(3) الأخلاق بين الطبع والتطبع صـ 128: لاح: ظهر وبرز.
(4) المصدر نفسه صـ 128.(1/243)
عظيمتين من المسلمين (1)، وجاء من حديث جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا ـ يعني الحسن ـ سيِّد، وليصلحنَّ الله به بين فئتين من المسلمين (2)، وعن سعيد بن أبي سعيد قال: كنا مع أبي هريرة جلوساً، فجاء حسن بن علي بن أبي طالب فسلم علينا، فرددنا عليه، وأبو هريرة لا يعلم فمضى، فقلنا: يا أبا هريرة هذا حسن بن علي قد سلم علينا، فقام فلحقه، فقال: يا سيدي، فقلت له: تقول يا سيدي؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه لسيد (3)، وعن جابر بن عبد الله أنه قال: من سرَّه أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن بن علي (4)، وعن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (5) وقد نقل إلينا خبر سيادة الحسن والحسين في الجنة جمع غفير من الصحابة، وما ذلك إلا لإعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك مرة بعد مرة، أو في محافل جامعة (6)،
وقد أثبتت الأيام ومرور الشهور والأعوام على رسوخ صفة السيادة في الحسن وقد بلغت ذروتها في توفيق الله له في عقد الصلح مع معاوية، وجمع الأمة على كلمة سواء، فقد كان الحسن سيداً جليلاً، ويعلمنا الحسن بأن السيادة لا تكون بالقهر وسفك الدماء، أو أهدار الأموال والحرمات، بل السيادة بصيانتها وإزالة البغضاء والشحناء، فصلحه وحقنه لدماء المسلمين بلغ فيه ذروة السيادة التي لا يستطيعها من فكر بالقوة وهو يملك طرفاً منها، وقد صالح الحسن معاوية وحوله الألوف فيهم من هو طامع مدسوس ولكن فيهم الكثير الكثير من المخلصين الأوفياء، فما أراد أن تراق بسببه قطرة دم، أو يخدش مسلم في هذا السبيل، وإن الرئاسة للأقوام إن لم تكن لصيانتها وحياطتها وحفظها، وترقيتها، فهي نوع من الطاغوت الأعمى والتهور الأحمق، والمغامرة والمقامرة التي تجلب معها الدمار والخراب، والإذلال
_________
(1) البخاري، فضائل الصحابة (7/ 94).
(2) الطبراني في الكبير رقم 2597.
(3) المستدرك (3/ 169) وقال الحاكم صحيح وأقرَّه الذهبي.
(4) صحيح ابن حبان (15/ 421، 422)، مجمع الزوائد (9/ 178).
(5) مستدرك الحاكم (3/ 166) وقد صح هذا الحديث من أوجه كثيرة.
(6) الدوحة النبوية الشريفة صـ 81 ..(1/244)
واليباب، وينتهي أصحابها إلى غضب الله، ولعنة التاريخ، وهل تدافع أمواج الدماء البشرية عبر العصور والقرون إلا من الحرص على الرئاسة والسلطان والتكالب على الدنيا (1).
8 ـ صفاته الخَلْقية:
كان الحسن بن علي رضي الله عنه سيداً وسيماً جميلاً أبيض اللون مشرباً بحمرة أدعج العينيين سهل الخدين كث اللحية كأن عنقه أبريق فضة، عظيم الكراديس بعيد ما بين المنكبين ليس بالطويل ولا بالقصير من أحسن الناس وجهاً جعد الشعر حسن البدن (2)، ومن بركات الله سبحانه وتعالى على الحسن أنه كان أشبه الناس بجده صلى الله عليه وسلم (3)؟
ثانياً: من حياة الحسن بن علي في المجتمع:
ترك لنا الحسن بن علي مواقف متميزة من حياته في المجتمع الإسلامي الراشدي، فقد كان حريصاً على تصحيح المفاهيم وقضاء حوائج الناس، ومخالطتهم بالحسنى، وإرشادهم بالمواعظ، والحكم النادرة وغير ذلك وإليك تفصيل ما أجملت:
1 ـ تفنيده لمعتقد الرجعة:
عن عمرو بن الأصمِّ، قلت للحسن: إن الشيعة تزعم أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة، قال: كذبوا والله، ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوَّجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله (4)، وكان أول من قال بالرجعة ابن سبأ، إلا أنه قال بأنه غاب وسيرجع ولم يصدق بموته، وكانت عقيدة الرجعة خاصة برجعة الإمام عند السبئية الكيسانية وغيرها، ولكنها صارت عند الاثني عشرية عامة للإمام وكثير من الناس، ويشير الألوسي إلى تحول مفهوم الرجعة عند الشيعة الرافضة من رجعة الإمام فقط إلى ذلك المعنى العام كان في القرن الثالث (5)، وأما المفهوم العام لمبدأ الرجعة عند الاثني عشرية فهو يشمل ثلاثة أصناف:
_________
(1) المصدر نفسه صـ 94.
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 49)، أخبار الدول صـ 105.
(3) الحسن بن علي فتيخان كردي صـ 24.
(4) سير أعلام النبلاء (3/ 263).
(5) روح المعاني (5/ 27) ضحى الإسلام (3/ 237) أحمد أمين.(1/245)
- ـ الأئمة الأثني عشر، حيث يخرج المهدي من مخبئه، ويرجع من غيبته، وباقي الأئمة يحيون بعد موتهم ويرجعون لهذه الدنيا.
- ـ ولاة المسلمين الذين اغتصبوا الخلافة ـ في زعمهم الباطل ـ من أصحابها الشرعيين "الأئمة الاثني عشرية" فيبعث خلفاء المسلمين وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان .. ومن قبورهم يرجعون لهذه الدنيا كما يزعم الشيعة الرافضة ـ للاقتصاص منهم بأخذهم الخلافة من أهلها فتجري عليهم عمليات التعذيب والقتل والصلب.
- ـ عامة الناس، ويخص منهم: من محض الإيمان محضاً، وهم الشيعة عموماً ـ على حد زعمهم ـ ولأن الإيمان خاص بالشيعة كما تتفق على ذلك رواياتهم وأقوال شيوخهم ومن محض الكفر محضاً وهم كل الناس ما عدا المستضعفين (1). ولهذا قالوا في تعريف الرجعة إنها رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة (2)، وعودتهم إلى الحياة بعد الموت في صورهم التي كانوا عليها (3). وقد خالف الشيعة الرافضة علماء أهل البيت ممن سارو على الهدى والحق كتاب الله وسنة رسوله في معتقد الرجعة وعلى رأسهم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجعلوا الرجعة من أصول المذهب الشيعي الرافضي، فمن رواياتهم اختلاقها الرواة الكذبة: ليس منا من لم يؤمن بكرتنا (4)، وقال ابن بابويه في الاعتقادات: واعتقادنا في الرجعة أنها حق (5)، وقال المفيد: واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات (6)، وقال الطبرسي والحر العاملي، وغيرهما من شيوخ الشيعة: بأنها موضع إجماع الشيعة الإمامية (7)، وأنها من ضروريات مذهبهم، وأنهم: مأمورون بالإقرار بالتوحيد والنبوة والإمامة والقيامة (8).
_________
(1) أصول الشيعة الإمامية (2/ 1105).
(2) تفسير القمي (2/ 76) وضع عنوان في أعلى الصفحة أعظم دليل على الرجعة.
(3) أوائل المقالات صـ 95.
(4) أصول الشيعة الإمامية (2/ 1103).
(5) الاعتقادات صـ 90.
(6) أوائل المقالات صـ 51.
(7) مجمع البيان (5/ 52).
(8) القاموس (3/ 28) مجمع البحرين (4/ 334).(1/246)
إن فكرة الرجعة عن الشيعة الرفضة بعد الموت مخالفة صريحة لنص القرآن الكريم، وباطلة بدلالة آيات عديدة من كتاب الله سبحانه وتعالى، قالى تعالى: ((قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) (المؤمنون، الآية: 99، 100). فقوله سبحانه ((وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) صريح في نفي الرجعة مطلقاً (1)، وقال تعالى: ((وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنين * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) (الأنعام، الآية: 27، 28). فهؤلاء جميعاً يسألون الرجوع عند الموت، وعند العرض على الجبار جلا علاه، وعند رؤية النار يجابون، لما سبق من قضائه أنهم لا يرجعون ولذلك عد أهل العلم القول بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت من أشد مراحل الغلو في بدعة التشيع (2)، وقد مرّ معنا موقف الحسن بن علي من رواية عمرو بن الأصمِّ وقد جاء في مسند أحمد أن عاصم بن ضمرة: وكان من أصحاب علي رضي الله عنه قال للحسن بن علي: إن الشيعة يزعمون أن علياً يرجع. قال الحسن: كذب أولئك الكذابون ولو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه ولا قسمنا ميراثه (3)،
والقول بالرجعة بعد الموت على الدنيا لمجازة المسيئين وإثابة المحسنين يتافي طبيعة هذه الدنيا وأنها ليست دار جزاء قال تعالى: ((وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) (آل عمران، الآية: 185). وقد كان لابن سبأ اليهودي دور التأسيس لمبدأ الرجعة، إلا أنها رجعة خاصة بعلي كما أنه ينفي وقوع الموت عليه أصلاً كحال الاثني عشرية مع مهديهم الذي يزعمون وجوده، وعقيدة الرجعة عند الشيعة الإمامية خلاف ما علم من الدين بالضرورة من أنه لا حشر قبل يوم القيامة وأن الله كلما توعد كافراً أو ظالماً إنما توعده بيوم القيامة، كما أنها خلاف الآيات والأحاديث المتواترة المصرحة
_________
(1) مختصر التحفة صـ 201.
(2) أصول الشيعة الإمامية (2/ 1124).
(3) مسند أحمد (2/ 312) قال أحمد شاكر إسناده صحيح ..(1/247)
بأنه لا رجوع إلى الدنيا قبل يوم القيامة (1). هذا من حيث النقل، وأما من حيث العقل، فإن الله جعل الدنيا دار ابتلاء وجعل الآخرة دار جزاء فلماذا يرجعهم للدنيا ليحاسبهم فيها ومع وجود الآخرة، علماً بأن عذاب الآخرة أعظم وأشد لمن انحرف عن دينه، ولم يحدث أن أرجع الله أحداً من الأموات ليحاسبه في الدنيا في تاريخ البشرية كلها.
2 ـ قضاء حوائج الناس:
جاء رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنه فذكر له حاجته فخرج معه لحاجته، فقال: أما إني قد كرهت أن أعينك في حاجتي ولقد بدأت بحسين فقال: لولا اعتكافي لخرجت معك. فقال الحسن: لقضاء حاجة أخ لي في الله أحبّ إليّ من اعتكاف شهر (2)، وجاء في رواية أخرى أنه ترك الطواف وخرج في حاجة إنسان له حاجة عند شخص معين (3)، وجاء من كلام الحسن وذكر بعض الكتّاب أنه من كلام الحسين رضي الله عنهما: إن حوائج الناس إليكم، من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحور (4) نقماً، واعلموا أن المعروف مكسب حمداً ومعقب أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً، رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين، ولو رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين، ولو رأيتم اللؤم، رأيتموه سمجاً (5) مشوهاً، تنفر عنه القلوب والأبصار (6)، وذكر صاحب كتاب الشهب اللامعة في السياسة النافعة: أن رجلاً رفع إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما رقعة فقال: قد قرأتها، حاجتك مقضية، فقيل له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو نظرت إلى رقعته وراجعته على حسب ما فيها، فقال: أخاف أن أسأل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأها (7)، وهذه المواقف تدل على حسن أخلاقه وعظمتها مع تواضع كبير ولا نستغرب ذاك من سيدنا الحسن، فهو القائل: مكارم الأخلاق عشرة، صدق اللسان،
_________
(1) أصول الشيعة الإمامية (2/ 1124).
(2) تاريخ دمشق الكبير (14/ 76).
(3) المصدر نفسه (14/ 76).
(4) فتحور: ترجع.
(5) سمج: قبح، لسان العرب (2/ 197) سمج.
(6) الشهب اللامعة في السياسة النافعة صـ 441.
(7) الشهب اللامعة في السياسة النافعة صـ 439.(1/248)
وصدق البأس، وإعطاء السائل وحسن الخلق، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والترحم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب وقرى الضعيف، ورأسهن الحياء (1)، وأيضاً قوله: أشد من المصيبة سوء الخلق (2)،
وهذه المواقف الكريمة للحسن رضي الله عنه تطبيق لتوجهات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن دينار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قيل يا رسول الله، من أحب الناس إلى الله؟ قال أنفعهم للناس. وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرْباً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً ولأنْ أمشي مع أخي المسلم في حاجة، أحبُّ إليَّ مٍنْ أن أعتكف شهرين في مسجد .. ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يُثبتَها له، ثبَّت الله قدمه يوم تزل فيه الأقدام، وإنَّ سوء الخُلُقِ ليُفْسِدُ العمل، كما يفسد الخلُّ العسل (3). وعن مسلمة بن مخلد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نجّي مكروباً فك الله عنه كُربةٌ من كرب يوم القيامة ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (4).
3 ـ زواجه من بنت طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم:
عن شعيب بن يسار، أن الحسن بن علي أتى ابناً لطلحة بن عبيد الله (5)، فقال: قد أتيتك لحاجة وليس لي مرد قال: وما هي؟ قال: تزوجني أختك (6)، قال: إن معاوية كتب إلي يخطبها على يزيد، قال: مالي مردُّ إذ أتيتك فزوجها إياي ثم قال: دخل بأهلك، فبعث إليها بحلة ثم دخل بها، فبلغ ذلك معاوية، فكتب إلى مروان أنْ خيّرها فخيّرها فاختارت حسناً فأقرّها ثم خلف عليها بعده حسين (7).
_________
(1) من أقوال الصحابة، محمد خورشيد صـ 68، الحسن بن علي صـ 31.
(2) تاريخ اليعقوبي (2/ 227) ..
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 906 وحسن الألباني إسناد في الصحيح الجامع.
(4) مصنف عبد الرزاق رقم 18936، حديث صحيح.
(5) هو إسحاق بن طلحة.
(6) هي أم إسحاق.
(7) الطبقات، تحقيق السُّلمي (1/ 292) إسناده لا بأس به.(1/249)
4 ـ زواجه من خوّلة بنت منظور:
عن ابن أبي مليكة، قال: تزوج الحسن بن علي خولة بنت منظور فبات ليلة على سطح أجم (1)، فشدت خمارها برجله والطرف الآخر بخلخالها فقام من الليل فقال: ما هذا؟ قالت: خفت أن تقوم من الليل بوسنك (2) فتسقط، فأكون أشأم سخلة (3) على العرب، فأحبها، فأقام عندها سبعة أيام (4). فقال ابن عمر: لم نر أبا محمد منذ أيام. فانطلقوا بنا إليه، فأتوه فقالت له خولة: أتحبسهم حتى نهيئ لهم غداءاً قال: نعم، قال ابن عمر: فابتدأ الحسن حديثاً ألهانا بالاستماع إعجاباً به حتى جاءنا الطعام (5).
5 ـ لا يرى أمهات المؤمنين:
كان الحسن والحسين لا يريان أمهات المؤمنين. فقال ابن عباس: إنَّ رؤيتهن حلال لهما وعلق الذهبي فقال: الحل متيقن (6). وهذا يدل على شدة حياءه.
6 ـ الغيرة في النسب النبوي:
دخل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما السُّوق لحاجة يقضيها فساوم صاحب دكان في سلعة، فأخبره بالسعر العام، ثم علم أنه الحسن بن علي رضي الله عنهما سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقص في السعر إجلالاً له وإكراماً، ولكن الحسن بن علي رضي الله عنهما لم يقبل منه ذلك، وترك الحاجة، وقال: إنني لا
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 307).
(2) الوسن: قيل النوم الثقيل وقيل أول النوم.
(3) سخلة: السخلة: ولد الشاه من المعز والضأن ذكراً كان أو أنثى ويطلق على المولود المحبب لوالديه والمراد أشأم امرأة.
(4) المعلوم من السنة أن الرجل إذا تزوج امرأ' على زوجته فإنه يقيم عندها سبعة أيام متواصلة إذا كانت بكراً وثلاثة أيام إذا كانت ثيباً ثم يعود إلى القسم بينهن وخولة عندما تزوجها الحسن لم تكن بكراً حيث سبقها عليه محمد بن طلحة بن عبيد الله كما في جمهرة أنساب العرب لابن حزم صـ 258 وحقها ثلاث ليال لا سبعاً. وحقها ثلاث ليال لا سبعاً وهذا ما يؤكد ضعف الرواية فإن إسنادها ضعيف جداً وهذه نكارة في المتن تؤكد الضعف.
(5) الطبقات، تحقيق السُّلمي (1/ 307، 308) إسناده ضعيف.
(6) سير أعلام النبلاء (3/ 265).(1/250)
أرضى أن استفيد من مكانتي من رسول الله في شئ تافه (1). وهذا الحال كان مصاحباً لأهل البيت ممن ساروا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا زين العابدين بن علي بن الحسين، يقول عن جويرية بن أسماء ـ وهو من أخص خدمه، ما أكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً قط (2)، وكان إذا سافر كتم نفسه، فقيل له في ذلك، فقال: أنا أكره أن آخذ برسول الله صلى الله عليه وسلم مالا أعطي به (3). وكذلك روي عن أبي الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم فقد قيل إنه كان إذا سافر كتم نفسه، فقيل له في ذلك، فقال: أنا أكره أن آخذ برسول الله صلى الله عليه وسلم مالا أعطي به (4)
فهؤلاء السادة من أهل البيت كانوا غيارَى أشد الغيرة في الرحم التي كانت تصلهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فما كانوا يستغلون هذه النسبة لمصالح دنوية، شأن أبناء أسر الزعماء الدينيين في الديانات الأخرى ممن ينالون تقديساً زائداً في كل حال، ويعاملون من أتباعهم كشخصيات تفوق البشر، وكانوا بعيدين عن كسب حطام الدنيا بأسمائهم، وبناء قصور الفخر على عظامهم واستغنائهم وعزّة نفسهم، تصور سيرتهم وسلوكهم تصويراً يختلف تماماً عن سيرة الطبقة المحترفة بالدين من البراهمة والكهنة في الديانات والملل الأخرى، فإنها تعتبر ذات قدسية وعظمة عن طريق الولادة، فهي لا تحتاج لكسب المعاش وتحقيق حاجات الحياة إلى بذل شئ من الجُهد والسعي (5).
7 ـ صلاته على الأشعث بن قيس:
مات الأشعث بن قيس بعد مقتل أمير المؤمنين علي بأربعين ليلة، وصلى عليه الحسن بن علي (6)، وهو زوج بنت الأشعث بن قيس (7)، وقد ذهبت بعض الروايات الضعيفة إلى تورط الأشعث بن قيس في دم أمير المؤمنين وهذا ليس عليه
_________
(1) المرتضى للندوي صـ 228.
(2) البداية والنهاية نقلاً عن المرتضى للندوي صـ 228.
(3) وفيات الأعيان (2/ 434).
(4) المصدر نفسه (2/ 434 ..
(5) المرتضى للندوي صـ 228.
(6) الكامل في التاريخ (3/ 444).
(7) تهذيب التهذيب (2/ 300).(1/251)
دليل، وذلك لأن الأشعث بن قيس عند استعراض دوره في خلافة علي رضي الله عنه نجده مخلصاً ووفياً، فهو أول من حارب أهل الشام أثناء القتال على الماء، وأظهر العداوة للخوارج منذ نشأتهم فهو الذي أبلغ علياً رضي الله عنه أن الخوارج يقولون: إن علياً تاب من خطيئته ورجع عن التحكيم وقاتل علي الخوارج في النهروان، وقد حرص كل الحرص على أن يوطد علاقته بعلي وآل بيته فزوج ابنته من الحسن بن علي رضي الله، وعندما أراد الحن أن يبني بها قامت كندة وجعلت أرديتها بسطاً من بابه إلى باب الأشعث (1)، وقد مات الأشعث بعد مقتل علي وصلى عليه الحسن بن علي كما مرّ، ولم ينقل عن أل علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أنهم اتهموا الأشعث بهذه التهمة، أو كشفوا أحداً من آل الأشعث بهذا السبب، ويظل قتل علي عملاً من تدبير الخوارج جاء في الأرجح ثأراً لقتلى النهروان (2).
8 ـ معاملته لمن يسئ إليه:
قدم رجل من المدينة وكان يبغض علياً فقطع به فلم يكن له زاد ولا راحلة فشكا ذلك إلى بعض أهل المدينة، فقال له عليك بالحسن بن علي، فقال له الرجل: ما لقيت هذا إلاّ في حسن وأبي حسن؟ فقيل له: فإنك لا تجد خيراً إلا منه فأتاه فشكل إليه، فأمر له بزاد وراحلة، فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالاته فقيل للحسن: أتاك رجل يبغضك ويبغض أباك فأمرت له بزاد وراحلة قال: أفلا أشتري عرضي منه بزاد وراحلة (3).
9 ـ من أدبه في المجالس:
كان ذات يوم جالساً في مكان، فأراد الانصراف، فجاءه فقير فرحب به ولاطفه وقال له: إنك جلست على حين قيام منا أفتأذن لي بالانصراف؟ قال: نعم يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4).
_________
(1) تهذيب الكمال (3/ 393 ـ 394) الطبقات (6/ 23).
(2) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين بطاينة صـ 52.
(3) تاريخ ابن عساكر (14/ 76).
(4) الطبقات (1/ 281) تحقيق السُّلمي إسناده ضعيف، تاريخ الخلفاء صـ 73.(1/252)
10 ـ حسن خلقه بين الناس:
عن عميربن إسحاق قال: ما تكلم عندي أحد كان أحبَّ إليَّ إذا تكلَّم ألا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بين الحسين بن علي وبين عمرو بن عثمان خصومة، فقال الحسن: ليس له عندنا إلا ما رَغِم أنفه. فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط (1).
11 ـ ملاعبته بالمداحي (2):
قال سليمان بن شديد: كنت ألاعب الحسن والحسين بالمداحي فكنت إذا أصبت مدحاته فكان يقول لي: يحل لك أن تركب بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا أصاب مدحاتي قال: أما تحمد ربك أن يركبك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
12 ـ بعده عن فضول الكلام:
كان الحسن بن علي أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بذَّ القائلين فالحسن بن علي يعلمنا الابتعاد عن فضول الكلام وهذا عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه (4)، وقال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت (5)، وجاء عنه: من صمت نجا (6)، وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج (7)، وقد سئل معاذ النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار، فأخبره برأسه وعموده وذروة سنامه ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كلِّه؟ قال: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا. فقال: وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يُكُبُ الناس في النار على
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 198).
(2) المداحي: هي أحجار أمثال القِرَصَة كانوا يحفرون حفرة ويدحون فيها بتلك الأحجار، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإن لم يقع. غُلب: وهي لعبة يلعب بها أهل مكة وقد سئل ابن المسيب عن المراماة والمسابقة بها فقال: لا بأس به.
(3) الطبقات، تحقيق السُّلمي (1/ 294).
(4) السلسلة الصحيحة رقم 2841.
(5) البخاري رقم 6136.
(6) صحيح الجامع رقم 6367.
(7) السلسلة الصحيحة رقم 669.(1/253)
وجوهه ـ أو على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم (1) ويقول بن عبيد: ما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله (2)، وكان ابن الكاتب يقول: إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه (3)، وقال الأوزاعي: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رسالة أما بعد: فإنه من أكثر ذكر الموت رضي بالدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه، والسلام (4). فالحسن بن علي كان يعد كلامه من عمله ولذلك أكثر الصمت.
13 ـ إكرام الحسن بن علي أسامة بن زيد رضي الله عنهما:
عن حرملة ـ مولى أسامة ـ قال: أرسلني بن زيد إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقال لي: إنه سيسألك ويقول لك: ما خلَّف صاحبك فقل له: يقول لك: لو كنت في شدْق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أرَه قال: فأتيت علياً فلم يعطني شيئاً، فذهبت إلى حسن وحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم ـ فأوقروا لي راحلتي (5).
14 ـ الحسن بن علي واليهودي الفقير:
اغتسل الحسن رضي الله عنه وخرج من داره في بعض الأيام وعليه حلة فاخرة ووفرة ظاهرة ومحاسن سافرة فعرض له في طريقه شخص من محاويج اليهود وعليه مسح من جلود، قد أنهكته العلة، وركبته القلة والذلة، وشمس الظهيرة قد شوت شواه وهو حامل جرة ماء على قفاه، فاستوقف الحسن رضي الله عنه وقال: يا ابن رسول الله، سؤال، قال: ما هو؟ قال: جدك يقول: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (6). وأنت مؤمن وأنا كافر. فما أرى الدنيا إلا جنة لك
_________
(1) سنن الترمذي وقال حديث صحيح.
(2) صفة الصفوة (3/ 372).
(3) المصدر نفسه (4/ 323).
(4) سير أعلام النبلاء (5/ 133).
(5) ذخائر العقبى صـ 237.
(6) مسلم وابن ماجة رقم 4113.(1/254)
تتنعم بها، وما أراها إلا سجناً عليّ قد أهلكني ضرها وأجهدني فقرها، فلما سمع الحسن كلامه قال له: يا هذا لو نظرن إلى ما أعد الله لي في الآخرة لعلمت أني في هذه الحالة بالنسبة إلى تلك في سجن، ولو نظرت إلى ما أعد الله لك في الآخرة من العذاب الأليم لرأيت أنك الآن في جنة واسعة (1). لقد كان الحسن بن علي حاضر البديهة، فأجاب بجواب مقنع مفحم حيث أوضح له أن حالته التي يشكو منها إنما هي كالجنة بالنسبة إلى عذاب الآخرة الذي أعد للكافرين وأن حالة الحسن التي ظنها نعيماً إنما هي كالسجن بالنسبة إلى نعيم الجنة الذي أعد للمتقين (2).
15 ـ احترام وتقدير ابن عباس للحسن والحسين رضي الله عنهم:
قال مدرك أبو زياد: كنا في حيطان ابن عباس فجاء ابن عباس وحسن وحسين فطافوا في البستان فنظروا ثم جاءوا إلى ساقية فجلسوا على شاطئها فقال لي حسن: يا مُدرك أعندك غداء؟ قلت: قد خبزنا، قال: إئت به. قال: فجئته بخبز وشئ من ملح جريش وطاقتي بقل فأكل ثم قال: يا مُدرك ما أطيب هذا؟ ثم أتى بغدائه، وكان كثير الطعام طيّبه ـ فقال: يا مُدرك اجمع لي غلمان البستان قال: فقدم إليهم فأكلوا ولم يأكل فقلت: ألا تأكل؟ فقال: ذاك أشهى عندي من هذا، ثم قاموا فتوضأوا ثم قدّمت دابة الحسن فأمسك له ابن عباس بالركاب وسوَّى عليه، ثم جئ بدابّة الحسين فأمسك له ابن عباس بالركاب وسوَّى عليه، فلما مضيا قلت: أنت أكبر منهما تمسك لهما وتسوّي عليهما؟ فقال: يا لُكع أتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما أنعم الله عليّ به أن أمسك لهما وأسوّي عليهما (3)؟ وهذا الاحترام والتقدير من ابن عباس للحسن والحسين دليل على محبته لهما ومعرفة فضلهما، كما يدل على فضل ابن عباس فلا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله. وقد كان أمير المؤمنين علي يعامل عمه العباس والد عبد الله معاملة قلّ نظيرها في الاحترام والتقدير فعن ابن عباس
_________
(1) الحسن والحسين، محمد رشيد رضا صـ 32.
(2) الحسن والحسين رضي الله عنهما صـ 33.
(3) تاريخ ابن عساكر (14/ 69).(1/255)
رضي الله عنهما ـ قال: اعتلَّ أبي العباس، فعاده عليُّ، فوجدني أضبط رجليه، فأخذهما من يدي، وجلس موضعي وقال: أنا أحقُّ بعمِّي منك، إن كان الله عز وجل قد توَّفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمِّي حمزة وأخي جعفراً فقد أبقى لي العباس. عمُّ الرجل صِنْوُ أبيه، وبُّره به كِبرِّه بأبيه، اللهُمَّ هب لعمِّي عافيتك وارفع له درجته، واجلعه عندك في علِّيِّين (1).
16 ـ ثناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما عن الحسن:
قال عبد الله بن عروة: رأيت عبد الله بن الزبير قعد إلى الحسن بن علي في غداة من الشتاء باردة قال: فوالله ما قام حتى تفسّخ جبينه عرقاً فغاظني ذلك، فقمت إليه فقلت: يا عم! قال: ما تشاء؟ قال: قلت رأيتك قعدت إلى الحسن بن علي، فأقمت إليه حتى تفسخ جبينك عرقاً قال: يا ابن أخي إنه ابن فاطمة، لا والله ما قامت النساء عن مثله (2).
17 ـ بين الحسن والحسين رضي الله عنهما:
ذكر ابن خلكان (بصيغة التمريض) وقيل: دار بين الحسن والحسين كلام فتقاطعا فقيل للحسين، لو أتين أخاك فهو أكبر منك سناً منك، فقال: فإن الفضل للمبتدئ وأنا أكره أن يكون لي الفضل على أخي، فبلغ ذلك الحسن فأتاه (3).
18 ـ أكرم الناس أباً وأماً وجداً وجدة وخالاً وخالة وعماً وعمة:
قال معاوية ـ وعنده عمرو بن العاص وجماعة من الأشراف ـ من أكرم الناس أباً وأماً وجداً وجدّة وخالاً وخالة وعماً وعمّة؟ فقام النعمان بن العجلان الزُرقاني، فأخذ بيد الحسن فقال: هذا أبوه علي وأمه فاطمة وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدته خديجة، وعمّه جعفر، وعمته أمّ هاني بنت أبي طالب، وخاله القاسم، وخالته زينب (4).
_________
(1) ذخائر العُقبى صـ 337.
(2) تاريخ ابن عساكر (14/ 70).
(3) وفيات الأعيان (2/ 69).
(4) تاريخ ابن عساكر (14/ 70).(1/256)
19 ـ محبة الناس له ولأخيه الحسين وازدحامهم عليهما في البيت الحرام:
قال أبو سعيد: رأيت الحسن والحسين صليا مع الإمام العصر ثم أتيا الحجر فاستلماه ثم طافا أسبوعاً وصليا ركعتين، فقال الناس: هذان ابنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحطمهما الناس حتى لم يستطيعا أن ويمضيا معهما رجل من الركانات وأخذ الحسين بيد الركاني (1)، وردّ الناس عن الحسن ـ وكان يجله وما رأيتهما مرّا بالركن الذي يلي الحجر من جانب الحجر إلا استلماه قال: قلت لأبي سعيد (2)، فلعله بقي عليهما بقيه من سُبُوع قطعته الصلاة؟ قال: لا بل طافا أسبُوعاً تاماً (3).
ثالثاً: من أقواله وخطبه ومواعظه التي حفظها عنه الناس:
1 ـ قال الحسن بن علي: هلاك الناس في ثلاث: الكبر والحرص والحسد، فالكبر هلاك الدين، وبه لُعن إبليس، والحرص عدو النفس وبه أخرج آدم من الجنة، والحسد رائد السؤ ومنه قتل قابيل هابيل (4)
فهذه الأمراض القلبية حذر منها الحسن بن علي رضي الله عنه وهي من أشد الأمراض علة وإليك بعض البيان:
أ ـ مرض الكبر: قول الحسن: فالكبر هلاك الدين وبه لعن إبلس:
الكبر نقيض التواضع، وهو استعظام النفس واستكبار حالة نفسه، والنظر إلى الآخرين بعين الاحتقار وهو من عظيم الآفات، وعنه تتشعب أكثر البليات يستوجب به من الله عز وجل سرعة العقوبة والغضب لأن الكبر لا يحق إلا لله عز وجل، ولا يليق ولا يصلح لمن دونه، إذ كل من سواه عبد مملوك، وهو المليك الإله القادر، فيستحق المتكبر أن يقصمه الله عز وجل ويحقره ويصغره، إذ تعدى قدره، وتعاطى ما لا يصلح لمخلوق (5).
_________
(1) كأنه منسوب إلى ركانه بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلب الذي صارعه النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، كما في مادة ركن من القاموس وشرحه.
(2) القائل الراوي وهو عمارة بن معاوية الدّهني.
(3) تاريخ ابن عساكر (14/ 69).
(4) علموا أولادم حب صـ 31.
(5) منهج الإسلام في تزكية النفس 342.(1/257)
ـ علامات الكبر، وللكبر علامات في الظاهر تدل عليه، فمنها: حب التقدم على الناس، وإظهار الترفع عليهم، وحب التصدر في المجالس والتبختر في المشية، والاستنكاف من أن يرد عليه كلامه وإن كان باطلاً، والامتناع من قبوله، والاستخفاف بضعفاء المسلمين ومساكينهم، ومنها تزكيته لنفسه والثناء عليها، والفخر بالآباء والتبجح بالنسب، والتكبر بالمال والعلم، والعمل والعبادة والجمال والقوة، وكثرة الأتباع والأنصار والعشيرة ونحو ذلك (1).
الوقاية والعلاج من هذا المرض:
- ـ أن يُسائل المسلم نفسه وأن يراقب قلبه، هل هو متكبر؟ هل يميل إلى التكبر؟ فإن وجد نفسه ميالاً إلى التواضع كارهاً التكبر وأهله، فليحمد الله عز وجل على ما أنعم عليه وأفضل وإلا عاتب نفسه، وحاسبها وجاهدها، وعاقبها بكثرة الذكر والعبادة والصيام والطاعة وحرمانها من كثير من الراحة واللهو والرغبات المباحة حتى تعود إلى رشدها، وتبتعد عن طريق غيها، وتشفى من مرضها.
- وأن يضع المسلم نصب عينه حقيقة هذا المرض ونتائجه في الدنيا والآخرة، وحكمه في الشريعة، وعقابه في الدنيا والآخرة، ومن القرآن والسنة والواقع، وقصص الصالحين وحياتهم، فهذا القرآن الكريم يظهر أن الكبر من صفات الشيطان قال تعالى في إبليس اللعين: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) (البقرة، الآية: 34).
والمتكبر لا يحبه الله، كما قال تعالى: ((لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)) (النحل، الآية: 23).
وقال سبحانه: ((وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) (لقمان، الآية: 18).
والخيلاء والفخر من أوصاف المتكبر، والمتكبر متعرض لأن يطبع الله على قلبه، كما قال تعالى: ((الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)) (غافر، الآية: 35).
_________
(1) المصدر نفسه صـ 342.(1/258)
فإن تكبر بالعلم والعبادة وهو أعظم آفات التكبر، فعليه أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم ...... ، وأنه يحتمل من الجاهل مالا يحتمل من العالم، وبالتكبر يعصي الله عز وجل عن علم فجنايته أفحش وخطره أعظم، وأن تكبر من جهة النسب، فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره ثم يعلم أباه وجدّه، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وأباه البعيد تراب، ومن اعتراه الكبر بالجمال، فلينظر إلى باطنه نظر العقلاء ولا ينظر إلى ظاهره نظر البهائم، ومن اعتراه من جهة القوة، فليعلم أنه لو آلمه عرق عاد أعجز من عاجز، ومن تكبر بسبب الغنى فلينظر لمن هو أغنى منه قارون وهامان وما حل بهما، من كل ذلك يجد نفسه أصغر من أن يتكبر، وما عليه إلا أن يتواضع فيرفعه الله ويعزه، ويعلو شأنه ويرضى الله عنه في الدنيا والآخرة وأن يعتبر بالآخرين ممن ذكروا في القرآن الكريم أو السنة الشريفة، أو من قصص الأقدمين والحاضرين ممن تكبروا، فما كان مصيرهم ومآلهم وخزيهم في الدنيا والآخرة؟ يعتبر منهم فيتقي نفسه من التكبر ويعالجها إن مرضت، وأن يصاحب المتواضعين من الصالحين لينتفع منهم ويكسب من أخلاقهم وأقوالهم وطريقة معاملتهم للآخرين ويبتعد عن المتكبرين ولا يجالسهم، حتى لا يكسب منهم ما يضره في الدنيا والآخرة، أو يتأثر بهم فينساق في أهوائهم وضلالاتهم (1).
ب ـ الحرص: قول الحسن: والحرص عدو النفس وبه أخرج آدم من الجنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه (2)، فهذا مثل عظيم جداَ ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأنَّ فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم قد غاب عنها رِعاؤها ليلاً، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها، ومعلوم أنه لا ينجلو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقلَّ من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساوياً وإما أكثر. يشير إلى أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال
_________
(1) منهج الإسلام في تزكية الإسلام صـ 346.
(2) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان رقم 3218 حسن صحيح.(1/259)
والشرف في الدنيا إلا القليل، فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شرِّ الحرص على المال والشرف في الدنيا فأما الحرص على المال فهو على نوعين:
ـ حال من حرص على جمع المال:
* أحدهما شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه المباحة والمبالغة في طلبه، والجدُّ في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة وقد ورد أن سبب الحديث كان وقوع بعض أفراد هذا النوع، كما أخرجه الطبراني (1) من حديث عاصم بن عديّ رضي الله عنه قال: اشتريت مائة سهم من سهام خيبر فبلغ ذلك النبيَّ صلّى الله عليه وسلم فقال: ما ذئبان ضاريان ضَلاَّ في غنم أضاعها ربُّها بأفسد في طلب المسلم المال والشرف لدينه (2). وقد علق ابن رجب ـ رحمه الله ـ على الحديث فقال: ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد يُمكِّن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم، فضيَّعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قُدِّر وقُسم، ثمَّ لا ينتفع به، بل يتركه لغيره، ويرتحل عنه فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره فيجمع لمن لا يحمده، ويقدَّم على مَنْ لا يعذره لكفاه بذلك ذماً للحرص، فالحريص يضيع زمانه الشريف، ويخاطر بنفسه التي لا قيمة لها في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره، كما قيل:
ومن ينفق الأيام في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر (3)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ولا تحسدنَّ أحداً على رزق الله، ولا تلوم أحداً على ما لم يؤتك الله، فإنّ الرزق لا يسوقه حِرصُ حريصٍ، ولا ترده كراهة كاره، فإن الله بقسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرِّضا. وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسَّخط (4)، وكان عبد الواحد بن زيد يحلف بالله لحرص المرء على الدنيا أخوف عليه عندي من أعْدَى أعدائه.
_________
(1) الطبراني في الأوسط (1/ 470) رقم 855.
(2) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان رقم 3218 حسن صحيح.
(3) ما ذئبان جائعان لابن رجب صـ 23.
(4) المصدر نفسه صـ 26.(1/260)
وكان يقول: يا أخوتاه لا تغبطوا حريصاً على ثروته وسعته في مكسب ولا مال وانظروا له بعين المقت له في اشتغاله اليوم بما يرديه غداً في المعاد ثمَّ يتكبَّر وكان يقول: الحرص حرصان: حرص فاجع، وحرص نافع، فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع، فحرص المرء على الدنيا (1). وكتب بعض الحكماء إلى أخ له كان حريصاً على الدنيا: أما بعد: فإنك أصبحت حريصاً على الدنيا تخدمها وهي تخرجُك من نفسها بالأعراض والأمراض والآفات والعلل، كأنك لم تر حريصاً محروماً ولا زاهداً مرزوقاً وقال بعض الحكماء: أطول الناس هماً الحسود، وأهنؤهم عيشاً القنوع وأصبرهم على الأذى الحريص، وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا وأعظم ندامة العالم المفرِط (2). قال الشاعر:
الحرص داء قد أضرَّ
بمن ترى إلاَّ قليلا
كم من حريص طامع
والحرص صيَّرهُ ذليلاً (3)
وقال الشاعر محمود الوراق:
ونازح الدار لا ينفك مغترباً
عن الأحبة لا يدرون بالحال
بمشرق الأرض طوراً ثم مغربها
لا يخطر الموت من حرص على بال
ولو قنعت أتاك الرزق في دعة
إنَّ القنوع الغِنَى لا كثرة المال
وقال أيضاً:
أيها المتعب جهداً نفسه
يطلب الدنيا حريصاً جاهداً
لا لك الدنيا ولا أنتَ لها
فاجعلِ الهمينِ هماً واحداً (4)
وأما النوع الثاني: من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرّمة ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشحِّ المذموم، قال الله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (التغابن، الآية: 16). وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي
_________
(1) ما ذئبان جائعان صـ 26.
(2) المصدر نفسه صـ 27.
(3) المصدر نفسه صـ 27.
(4) المصدر نفسه صـ 29.(1/261)
صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الشحَّ فإنَّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا (1)، وقال طائفة من العلماء: الشُّحُّ هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحِبَهُ على أن يأخذ الأشياء من غير حِلِّها، ويمنعها حقوقها (2)، والبخل هو إمساك الإنسان ما في يده. والشّحُ تناول ما ليس له ظلماً وعُدْواناً من مال أو غيره. حتى قيل: إنه رأس المعاصي كلِّها، وبهذا فسَّرَ ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من السلف الشحَّ والبخل (3)، وقد يستعمل الشُّح بمعنى البخل وبالعكس، ولكنَّ الأصل هو التفريق بينهما على ما ذكرناه ومتى وصل الحرص على المال إلى هذه الدرجة نقص بذلك الدين والإيمان نقصاً بيِّناً، فإن منع الواجبات وتناول المحرمات ينقص بهما الدين والإيمان بلا ريب حتى لا يبقى منه إلا القليل (4)،
وأما حرص المرء على الشرف فهو أشد إهلاكاً من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس، والعُلُوِّ في الأرض أضرُّ على العبد من طلب المال، وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف والحرص على الشرف قسمين: أحدهما: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جِدَّاً وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزَّها، قال تعالى: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (القصص، الآية: 83)، وقلَّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيُوفَّقُ، بل يُوكَلُ إلى نفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أُعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها (5).
_________
(1) سنن أبي داود (2/ 324) رقم 1698، صححه الألباني.
(2) ما ذئبان جائعان صـ 31.
(3) المصدر نفسه صـ 31.
(4) المصدر نفسه صـ 31 ..
(5) البخاري رقم 6622.(1/262)
واعلم أنَّ الحرص على الشرف يستلزم ضرراً عظيماً قبل وقوعه في السّعي في أسبابه، وبعد وقوعه بالحرص العظيم الذي يقع فيه صاحب الولاية من الظُّلم والتكبر وغير ذلك من المفاسد (1). وأما القسم الثاني، طلب الشرف والعلوِّ على الناس بالأمور الدينية كالعلم والعمل والزهد، فهذا أفحش من الأول، وأقبح فساداً وخطراً، فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند الله من الدرجات العُلى والنعيم المقيم، القُرب منه، والزُّلفى لديه (2)، وأما طريقة العلاج من الحرص المذموم، فيكون بالزهد وفيه أسباب عديدة منها:
ـ نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة.
ـ نظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمتكبرين، ومن ينازع الله رداء الكبرياء.
ـ نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة في الآخرة، فإن من تواضع لله رفعه الله.
ـ وليس هو في قدرة العبد ولكنه من فضل الله ورحمته ما يعوِّض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يغني المال والشرف مما يعجِّلُهُ الله لهم في الدنيا من شرف التقوى وهيبة الخلق لهم في الظاهر، ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن، وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدُّنيا ولا أهل الرياسات، والحرص على الشرف كما قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجادلونا عليه بالسيوف. ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل، والرياسة الفانية (3)، قال تعالى: ((وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)) (الأعراف، الآية: 26) وقال: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)) (فاطر، الآية: 10). فالحسن بن علي رضي الله عنه يحذرنا من الحرص المذموم ولذلك قال: الحرص عدو النفس وبه أخرج آدم من الجنة (4).
_________
(1) ما ذئبان جائعان صـ 43، 35.
(2) المصدر نفسه صـ 47.
(3) ما ذئبان جائعان صـ 75، 76.
(4) علموا أولادكم حب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم صـ 131.(1/263)
جـ ـ الحسد: قال الحسن: والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل:
الحسد نقيض الحب الذي هو تمني الخير للآخرين، فهو تمني زوال النعمة عن المحسود، وهو مرض مهلك مذموم وقبيح، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر الحاسد كما أمره بالاستعاذة من شر الشيطان، فقال تعالى: ((وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)) (الفلق، الآية: 5)، وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً (1)، وقال أنس: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة قال فطلع علينا رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه، قد علّق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: إني لآحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تأويني إليك حتى تمضى الثلاث فعلت، فقال: نعم فبات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب عن فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم إلا لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث، وكدت أن أحتقر عمله فقلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هَجْر، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً، فما الذي بلغ بك ذاك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله فقلت له هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (2)،
والحسد له أسباب كثيرة منها العداوة والبغضاء والعجب وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها وغيرها من أمراض القلب الأخرى، فالحسد جامع الآفات والأمراض، وهو من أشدها مذهباً للدين والإيمان والحب والإخاء، وهو مفسدة وأي مفسدة ويكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم
_________
(1) البخاري رقم 6065.
(2) مسند أحمد (3/ 166) إسناده صحيح ..(1/264)
الأسباب التي ذكرناها، ويقع ذلك غالباً بين الأقران، والأمثال والإخوة وبني العم، وأصحاب المهن والأعمال، وبين العلماء والتجار، لأن سبب التحاسد توارد الأغراض على مقاصد يحصل فيها فيثور التنافر والتباغض، فأصل الحسد التزاحم على غرض واحد ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، والدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين (1).
- ـ علاج مرض الحسد:
هناك عدة أدوية تقي وتعالج من مرض الحسد منها:
ـ العلم بأن مرض الحسد ضرر على الحاسد في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود في الدين ولا في الدنيا، وأن النعمة لا تزول عن المحسود بحسد الحاسد، فماذا يستفيد الحاسد من حسده إلا البغض والألم والحسرة والانفعال وذهاب الدين والدنيا، فكيف يريد الحاسد زوال نعمة أنعمها الله عز وجل على المحسود، فالله أحب أن ينعم على عبده، والحاسد يحب زوالها فقد أحب ما كره الله وكره ما أحب الله وهذا داء مزيل للإيمان، لأن صاحبه لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
ـ التذكر الدائم لمساوئ هذا المرض في الدين والدنيا، وبغض الله عز وجل له وكراهية النبي صلى الله عليه وسلم له، والنتيجة التي ينالها الحاسد في الدنيا والآخرة كل يساعد على فهم حقيقة الحسد، والوقاية منه والبعد عنه وطلب العلاج.
ـ العبرة من الآيات والأحاديث والقصص وواقع الحاسدين، ونتائج حسدهم، كل ذلك يساعد على الوقاية والعلاج من هذا المرض الخطير.
ـ محاسبة النفس ومعاتبتها عند كل فكرة حسد تعرض عليه، ومحاولته كف نفسه عن المحسود، بل الثناء عليه، والدعاء له، بالحفظ والزيادة، ولا مانع من أن يتمنى لنفسه مثل ذلك دون حسد الآخرين.
ـ الرضا بعطاء الله ومنحه، والقناعة بذلك، والإيمان بأن الرزق والعطاء والفضل من الله يؤتيه من يشاء وكيفما يشاء، ولا أحد يستطيع أن يزيل نعمة أنعمها الله على عبد من عباده، وأنه لا ينال عطاء الله إلا بفضل الله وإرادته، ولا
_________
(1) منهج الإسلام في تزكية النفس صـ 340.(1/265)
يملك العبد إلا الرضا والدعاء والالتجاء، فلِمَ لا يقف العبد على الباب الذي يجلب الخير؟ ولِمَ يبتعد عن المرض الذي يجلب الشر (1)؟ فالحسن بن علي رضي الله عنه يحذرنا من الحسد ولذلك قال: والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل (2)، عندما حسد أخيه على تقبل الله منه ولم يتقبل منه هو.
2 ـ مقام الرضا بين الحسن وأبي ذر:
قال أبو العباس محمد بن يزيد المبّرِّدُ: قيل للحسن بن عليِّ: إن أبا ذرِّ يقول: الفقر أحبُّ إليَّ من الغنى، والسَّقم أحبُ إليَّ من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذرَّ، أما أنا فأقول: من اتَّكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَّ أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له وهذا حد الوقوف على الرِّضا بما تصرَّف به القضاء (3). إن الحسن بن علي رضي الله عنه في حديثه هذا يصف لنا شيئاً من أعمال القلوب وهذا دليل على معرفته بهذا العمل العزيز، فالرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإنَّ كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان (4)، فالرضا ثمرة من ثمار المحبة ـ لله عز وجل ـ وهو أعلى مقامات المقرّبين، وحقيقته غامضة على الأكثرين. وهو باب الله الأعظم، ومستراح العارفين، وجنة الدنيا، فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه، وأن لا يستبدل بغيره منه ورضا الله على العبد أكبر من الجنة وما فيها، لأن الرضا صفة الله والجنة خلقه قال تعالى: ((وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)) (التوبة، الآية: 72)، بعد قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة، الآية: 72).
وهذا الرضا جزاء من رضاهم عنه في الدنيا، ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء، كان سببُه أفضال الأعمال، والسخط باب الهمِّ والغمِّ وشتات القلب، وكَسْف البال، وسُوء الحال، والظنَّ بالله خلاف ما هو أهله، والرضا يخلّصه من ذلك كلّه، ويفتح له باب جنة
_________
(1) منهج الإسلام في تزكية النفس صـ 341.
(2) علموا أولادكم محبة آل بيت النبي صـ 31.
(3) البداية والنهاية (11/ 199).
(4) مدارج السالكين (2/ 214).(1/266)
الدنيا قبل جنة الآخرة، فالرضا يوجب له الطمأنينة وبَرد القلب وسكونه وقراره، والسُّخط يُوجب اضطراب قلبه، وريبته وانزعاجه، وعدم قراره، والسُّخط يوجب تلون العبد، وعدم ثباته مع الله، فإنه لا يرضى إلاَّ بما يلائم طبعه ونفسه، والمقادير تجري دائماً بما يلائمه وما لا يلائمه، وكلّها جرى عليها منه ما لا يلائمه أسخطه فلا تثبت له قدم على العبودية، فإذا رضي عن ربه في جميع الحالات استقرت قدمه في مقام العبودية، فلا يُزيل التلوُّن عن العبد شئٌ مثل الرضا، والرضا يفرِّغ القلب لله، والسُّخط يُفرِّغ القلب من الله، فإنّ من ملأ قلبه من الرضا، ملأ الله صدره غنىً وأمناً وقناعة وفرّغ قلبه لمحبّته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا امتلأ قلبه بضدّ ذلك واشتغل عمّا فيه سعادته وفلاحه، وبداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من جملة المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وليس مكتسبة، فأوَّله مقام ونهايته حال وقد مدح الله أهله وأثنى عليهم وندبهم إليه، فدلّ ذلك على أنّه مقدور لهم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً (1)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً. غفر الله له ما تقدم من ذنوبه (2). قال ابن القيم: وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما ينتهي.
وقد تضمّنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله، والانقياد له والرضا بدينه، والتسليم له. ومن اجتمعت له هذه الأربعة، فهو الصديق حقّاً، وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولاسيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادّها، من ذلك تبيّن أن الرضا كان لسانه به ناطقاً، فهو على لسانه لا على حاله.
ـ فارضا بإلهيته: يضمن الرضا بمحبته وحده وخوفه، ورجائه والإنابة إليه، والتبتُّل إليه، وانجذاب قوى الإرادة والحبّ كلها إليه، فعل الراضي بمحبوبه كلّ الرضا، وذلك يتضمّن عبادته والإخلاص له.
_________
(1) مسلم رقم 43 (1/ 62).
(2) مسلم رقم 386 (1/ 290).(1/267)
ـ والرضا بربوبيّته: يتضمّن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمّن إفراده بالتوكل عليه، والاستعانة به، والثقة به، والاعتماد عليه، وأن يكون راضياً لكل ما يفعل به، فالأول، يتضمن رضاه بما يؤمر به، والثاني: يتضمّن رضاه بما يُقدِّر عليه.
ـ وأما الرضا بنبيّه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه وأن يكون متميزاً بمكانته عن غيره من البشر فلا يشاركه أحداً مكانته ولا خصوصيته، فلا يتلقّى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكّم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، ولا في شئ من أسماء الربّ وصفاته وأفعاله، ولا في شئ من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شئ من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيَره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يعينُهُ إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله: أن يكون من باب التراب، الذي إنما يُتيمَّم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور، وأما الرضا بدينه، فإذا قال، أو حكم أو أمر، أو نهى: رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسَلَّم له تسليماً، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها أو قوْل مُقلِّده وشيخه وطائفته (1) .. وقال: .. فإن الرضا آخر التوكّل، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض حصل له الرضا ولابدّ، ولكن لعزَّته وعدم إجابة أكثر النفوس له، وصعوبته عليها ـ لم يُوجبه الله على خلقه، رحمة بهم، وتخفيفاً عنهم، لكن ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها، فمن رضي عن ربِّه رضي الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده، رضا قلبه، أوجب له أن يرضى عنه، ورضاً بعده وهو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبّين، ونعيم العابدين، وقُرّة عيون المشتاقين.
كيف تحقق الرضا؟:
إن من أعظم أسباب حصول الرضا: أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولابد. قيل ليحي بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ فقال:
_________
(1) مدارج السالكين (2/ 172 ـ 173) صلاح الأمة في علو الهمّة (4/ 491، 492).(1/268)
إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يُعامل به ربَّه، فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت. وقال الجنيد: الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم، أدّاه إلى الرضا، وليس "الرضا والمحبة" كالرجاء والخوف، فإنّ الرضا والمحبة حالان من أحوال أهل الجنة، لا يفارقان المتلبِّس بها في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة، بخلاف الخوف والرجاء، فإنهما يفارقان أهل الجنة بحصول ما كانوا يرجونه، وأمّنهم مما كانوا يخافونه، وإن كان رجاؤهم لما ينالون من كرامته دائماً لكنّه ليس رجاءً مشوباً بشكٍّ، بل هو رجاء واثق بوعد صادق، من حبيب قادر، فهذا لون ورجاؤهم في الدنيا لون. وقال ابن عطاء: الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنَّه اختار له الأفضل، فيرضى به (1). وقال بعض العارفين: من يتوكل على الله، ويرضى بقدر الله، فقد أقام الإيمان، وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير، وأقام الأخلاق الصالحة التي تُصلح للعبد أمره والرضا يفتح باب حُسن الخلق مع الله تعالى ومع الناس، فإن حسن الخلق من الرضا، وسوء الخلق من السخط، وحسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وسوء الخلق يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والرضا يُثمر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور وطيب النفس وسكونها في كل حال .. ولهذا سمَّي بعض العارفين الرضا: حسن الخلق مع الله، فإنه يوجب ترك الاعتراض عليه في ملكه، وحذف فضول الكلام التي تقدح في حسن خُلقه (2).
قال الشاعر:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر
والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع في ما اختار خالقنا
وفي اختياره سواه اللَّوْمُ والشُّومُ
وقال الشاعر:
إذا ارتحل الكرام إليك يوماً
ليلتمسوك حالاً بعد حال
_________
(1) مدارج السالكين (2/ 174 ـ 175).
(2) صلاح الأمة (4/ 512) نقلاً عن مدارج السالكين(1/269)
فإنَّ رحالنا حطت لترضى
بحلمك عن حلول وارتحال
أنخنا في فنانك يا إلهي
إليك مُعَرَّضين بلا اعتلال
فسُسْنَا كيف شئت ولا تكلنا
إلى تدبيرنا يا ذا المعالي (1)
فهذه بعض المعاني في مقام الرضا توضح قول أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه عندما قال: من اتكل على حسن اختيار الله له، لم يتمنَّى أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له وهذا حد الوقوف على الرضا بما تصرَّف به القضاء (2).
3 ـ قال أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه: إني أخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان عظيم ما عظَّمه في عيني صِغرُ الدنيا في عينه، كان خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي مالا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجاً من سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه، وكان خارجاً من سلطان الجهلة، فلا يمد يداً إلا على ثقة المنفعة، كان لا يسخط ولا يتبرم، كان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا غُلِب على الكلام لم يُغلَب على الصمت، كان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بذَّ القائلين، كان لا يشارك في دعوى، ولا يدخل في مراء، ولا يدلي بحجة حتى يُرى قاضياً يقول ما يفعل، ويفعل ما لا يقول تفضلاً وتكرماً، كان لا يغفل عن أخوانه، ولا يستخص بشئ دونهم، كان لا يلوم أحداً فيما يقع العُذر بمثله، كان إذا ابتدأه أمران لا يَرى أيهما أقرب إلى الحقِّ، نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه (3). ففي هذا الأثر ترشيد وتوضيح وتعليم للناس نحو صفات كريمة وأخلاق حميدة، وهذا منهج سلوكي رفيع ينبغي أن نربي عليه أنفسنا وأبنائنا حتى يتحول إلى واقع ملموس في الحياة، ونستفيد من ذلك الأثر دروساً وعبر منها:
ـ قول الحسن رضي الله عنه: وكان عظيم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه (4): ولا تصغر الدنيا إلا في عين من عرف حقائق الأمور واستقر التصور الصحيح
_________
(1) صلاح الأمة في علو الهمّة (4/ 529).
(2) البداية والنهاية (11/ 199).
(3) المصدر نفسه (11/ 199).
(4) المصدر نفسه (11/ 199).(1/270)
عن الله والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر واستوعب بعمق فقه القدوم على الله تعالى فعمل للباقي وترفع عن الفاني، وأيقن أن الدنيا دار اختبار وابتلاء وعليه، فإنه مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا، ومن هذه الحقائق.
* اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء أو عابري سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (1).
* إن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء (2)، وقال صلى الله عليه وسلم: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً (3).
* إن عمرها قد قارب على الانتهاء، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين بالسبّابة والوسطى (4)، وتبدأ قيامة الإنسان بموته والعمر قصير، فإذا استثنينا منه فترة الطفولة والنوم والكدر فكم يصفى لنا منه.
* إن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون: ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ القرَار * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)) (غافر، الآية: 39، 40) فإذا استقرت هذه الحقائق في قلب الأخ المسلم تصغر الدنيا في عينه.
ـ قول الحسن رضي الله عنه: كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي مالا يجد ولا يكثر إذا وجد (5)، ففي هذا التوجيه دعوة إلى ترك فضول الطعام، لأنه داع إلى
_________
(1) الترمذي، ك الزهد رقم 2333 وهو حديث صحيح.
(2) الترمذي، ك الزهد رقم 2320.
(3) الترمذي، ك الزهد رقم 2322 وقال: حسن غريب.
(4) مسلم، ك الفتن وأشراط الساعة رقم 132 ـ 135.
(5) البداية والنهاية (11/ 199).(1/271)
أنواع كثيرة من الشرب، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً، فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونها، فمن وفي شر بطنه فقد وفي شراً عظيماً والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام (1)، ولذلك حذرنا ربنا سبحانه من إتباع وساوسه ومكائده التي تؤدي إلى طغيان شهوة البطان وعدم الاكتفاء بالحلال، فقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين)) (البقرة، الآية: 168)، كما أرشد سبحانه إلى الاعتدال في الطعام والشراب لئلا يؤدي ذلك إلى تسلط شهوة البطن وانحرافها قال تعالى ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرَِفين)) (الأعراف، الآية: 31). فالأمر التي تدل على تسلط شهوة البطن أن يُكثر صاحبها من الطعام والشراب فوق الحاجة، ويبالغ في الشبع ويفرط فيه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أخطار هذا الإسراف وضرره على الجسد والنفس، وذلك فيما رواه الترمذي عن مقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه (2).
وفي هذا الحديث النبوي بيان للمنهج السوي الذي ينبغي التمسك به في الإقلال من الطعام والشراب وعدم الإسراف في شهوة البطن لأن هذا الإسراف يؤدي إلى الشر الكبير، وليس المقصود بالشر هنا ما يتعلق بأمراض المعدة فحسب، وإنما المقصود أيضاً الشر الذي يصيب النفس حينما تعتاد الشرهَ في الطعام والشراب وشدة التعلق بهما فيتحول الطعام من وسيلة للغذاء وتقوية البدن إلى غاية وهدف يسعى صاحبه من أجله ويصبح ذلك السعي شغله الشاغل حتى تصبح همته مصروفة إليها، فمهما شبعت بطنه لا تشبع نفسه، لأن شهوة البطن أضحت عنده مقياس السعادة (3)، فطغيان شهوة البطن لا يعني كثرة الأكل فحسب لأن كثرة
_________
(1) جهاد النفس / على الدهامي صـ 93.
(2) الترمذي، ك الزهد، رقم 380، حديث حسن صحيح
(3) أمراض النفس، و. أنس كرزُون صـ 109(1/272)
الأكل عرض ظاهري لهذا المرض، وإنما حقيقة المرض في شَرَه النفس وما دِّيتها وتحول الطعام من وسيلة إلى غاية حتى يصبح الإنسان كالبهائم التي تسيِّرها شهواتها وفي ذلك يقول الله عز وجل: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)) (محمد، الآية: 12)، وقد روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد (1).
ومعنى هذا الحديث أن من شأن المؤمنين التقليل من الأكل للاشتغال بأسباب العبادة، والكافر بخلاف ذلك كله لأنه تابع لشهوة نفسه مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام، وإن أكل قليلا فليس ذلك لزهده في الدنيا وإنما لمراعاة الصحة ورياضة الجسم، فهو لشدة حرصه على الدنيا وتمسكه بها كأنه يأكل في سبعة أمعاء كما تقول: فلان يأكل الدنيا أكلاً وأما المؤمن فإنه يأكل في معي واحد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في هذا الحديث للمؤمن وزهده في الدنيا وللكافر وحرصه عليها (2)، وقد ذكر النووي ـ رحمه الله ـ توجيهاً آخر لهذا الحديث فقال: قيل: المراد بالسبعة سبع صفات، الحرص والشره، وطول الأمل، والطمع، وسوء الطبع، والحسد، والسمن (3). وقد قال: ابن القيم ـ رحمه الله ـ: لعينه وذاته كالمحرمات والثاني: ما يفسده بقدر وتعدي حده كالإسراف في الحلال والشبع المفرط، فإنه يثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولته حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها والتأذي بثقلها، وقوى عليه مواد الشهوة، وطرق مجاري الشيطان ووسعها، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فالصوم يضيق مجارية ويسد عليه طرقه والشبع يطرقها ويوسعها، ومن أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً فخسر كثيراً (4)
قول الحسن رضي الله عنه: وكان خارجاً من سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه (5)، فالحسن رضي الله عنه يدعو إلى التحكم في شهوة الفرج ولا يكون
_________
(1) مسلم رقم 2060
(2) فتح الباري شرح البخاري (9/ 538 ـ 539)
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 23)
(4) مدارج السالكين (1/ 458ـ459)
(5) البداية والنهاية (11/ 199)(1/273)
إشباعاً إلا بما شرّع المولى عز وجل، الآن طغيانها يترتب عليه نتائج خطيرة، كقسوة القلب وضعف الإيمان، فكلما تمادت شهوة الفرج في الطغيات ازداد القلب قسوة وظلمة ووحشة ابتداء من النظر إلى ما حرم الله ثم الاختلاط بين الجنسين وما يتبعه من رجُّل النساء وتخنث الرجال، وما ينتج عنه من تهوين أمر الفاحشة والتمهيد لها حتى يقع فيها وعندها يتمكن المرض من القلب، وتبتعد عنه حقيقة الإيمان، ومصداق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (1). قال البخاري ـ رحمه الله ـ عند روايته لهذا الحديث: أي لا يكون هذا مؤمناً تاماً ولا يكون له نور الإيمان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان فوق رأسه كالظُلة، فإذا أخرج من ذلك العمل رجع إليه الإيمان (2). فأصحاب الكبائر ينزع منهم نور الإيمان ويضعف تعظيم الرب سبحانه من قلوبهم، إذ لو استشعروا من أتى الكبائر مثل الزنى أو السرقة أو شرب الخمر وغير ذلك، فلا بدأ أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور، وإن بقى أصل التصديق في قلبه، وهذا من الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة (3)
ومن نتائج طغيان شهوة الفرج، كثرة الوقوع في المعاصي، فالمعصية ولو كانت صغيرة تمهد الطريق لأختها حتى تتابع المعاصي ويهون أمرها ولا يدرك صاحبها خطرها، فالنظرة تؤدي إلى الفكرة ثم يتولد الخاطر في القلب وتتحرك الشهوة وقد يؤدي ذلك إلى العزم على اقتراف الفاحشة، فإن تيسرت أسبابها وقع فيها ولهذا كانت النظرة مقدمة من مقدمات الزنى، وباباً من الأبواب الموصلة إليه، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش،، والرجل زناها الخُطا، والقلب
_________
(1) البخاري، ك الحدود (8/ 13) مسلم رقم 57.
(2) صححه الحاكم في المستدرك (1/ 22) ووافقه الذهبي.
(3) كتاب الإيمان، لابن تيمية صـ 29 ..(1/274)
يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه (1)، وهكذا تتدرج المعاصي في تسربها إلى قلب العبد وتأثيرها عليه حتى لا يبالي بها ولا يقدر على مفارقتها ويطلب ما هو أكثر منها (2)، وفي ذلك يقول ابن اقيم ـ رحمه الله ـ: إن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها .. حتى تصير هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة، ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره حتى يعاودها، حتى إن كثيراً من الفسَّاق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها إلا لما يجده من الألم بمفارقتها (3). ومن نتائج طغيان شهوة الفرج، ذهاب الحياء، فإذا اعتاد العبد على مقارفة الآثام نتيجة لطغيان شهوته، سيصل إلى حال لا يبالي فيه باطلاع الناس على أفعاله القبيحة، بل أن كثيراً من هؤلاء يخبرون الناس بما يفعلونه ويتباهون به لأنهم انسلخوا من الحياء (4).
وهكذا نجد أن التهاون في وقاية شهوة الفرج من الانحراف ولو كان يسيراً، سيؤدي شيئاً فشيئاً إلى ما هو أخطر وحتى لا يقع المرء فريسة طغيان الشهوة التي يصعب التخلص من شرودها، وتؤدي في النهاية إلى طمس قلب صاحبها وانسلاخه من الأخلاق الفاضلة بالإضافة إلى ما يصيبه من الأمراض النفسية والجسدية (5)، فقد شرع الإسلام تدابير وقائية من طغيان شهوة الفرج منها:
- غض البصر وستر العورة:
لأن الطريق الذي تنفذ منه سهام الشهوة إلى القلب هو البصر ولذلك أمر الله عباده بغض البصر عمّا حرّم عليهم وستر عواراتهم عمن لا يحل لهم قال تعالى:
_________
(1) مسلم رقم 2657.
(2) أمراض النفس صـ 121.
(3) الجواب الكافي صـ 59 ـ 60.
(4) أمراض النفس صـ 122.
(5) أمراض النفس صـ 123.(1/275)
((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) (النور، الآية: 30) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد (1). يقول ابن القيم ـ رحمه الله: قد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق شهوته (2) ويقول أيضاً: النظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمّية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمي في الحشيش اليابس، فإن لم تُحرقه كلَّه أحرقت بعضه وقد قيل:
كل الحوادث مبداها من النظر
ومعظم النار من مُستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وَتر
والمرء ما دام ذا عين يُقلبِّها
في أعين الغيد موقوف على الخطر
يَسُرُّ مقلته ما ضرّ مهجته
لا مرحباً بسرور عاد بالضرر (3)
- ـ تحريم الاختلاط والأمر بحجاب النساء:
وقد ورد في بيان ذلك آيات قرآنية وأحاديث نبوية عديدة ومنها: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً)) (الأحزاب، الآية: 59). وقوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)) الأحزاب، الآية: 153) وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله قال: إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت (4). والحمو: أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج كابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم وقوله صلى الله عليه وسلم الحمو الموت. معناه
_________
(1) مسلم رقم 338
(2) روضة المحبين صـ 109
(3) المرجع نفسه صـ 114
(4) مسلم رقم 2172.(1/276)
أن الخوف منه أكثر من غيره لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي (1)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم (2) كما ورد التشديد والوعيد في أحاديث عديدة من تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال في اللبس والحركة لما في ذلك من إثارة الشهوات وانحرافها، روي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (3).
- ـ الترغيب في الصيام لتسكين الشهو:
إذا لم يتيسر الزواج ولم يجد المرء المقدرة عليه لسبب من الأسباب فعليه أن يقي نفسه من تسلط الشهوة وذلك بالمبادرة إلى الصيام لما فيه من تسكين الشهوة وتخفيف وطأتها، وقد ورد في الإرشاد إلى ذلك الحديث الذي رواه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (4)، أي: أن الصوم يقطع الشهوة، ويُلحق بذلك التقليل من الأغذية المحركة للشهوة لكي يكسر من حدتها ويضعف تأثيرها، فإذا لم يحرص المرء على هذه التدابير الوقائية ولم يلتزم بها، فإن سهام الشهوة وسمومها لا بد أن تنفذ إلى القلب ما دام على أهبة الاستعداد لقبول هذا الانحراف، وعندها سيتمادى في مرضه وتتمادى الشهوة في طغيانها يوماً بعد يوم حتى يقع صاحبه في حمأة الرذيلة (5)، فقول الحسن بن علي رضي الله عنه: كان خارجاً من سلطان فرجه، فلا يستخفُّ له عقله ولا رأيه (6)، دعوة صريحة إلى كبح طغيان شهوة الفرج.
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 153).
(2) مسلم رقم 1341.
(3) البخاري، ك اللباس (7/ 55).
(4) مسلم رقم 400.
(5) أمراض النفس صـ 126.
(6) البداية والنهاية (11/ 199).(1/277)
ـ قول الحسن بن علي رضي الله عنه: كان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرص منه أن يتكلم (1). وفي هذا احترام للعلماء وتقديرهم والاستفادة منهم، فتوقيرهم واحترامهم من السنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر ويعرف لعالمنا حقه (2). لقد كان سلف هذه الأمة يحترمون علماءهم احتراماً كبيراً ويتأدبون معهم ولقد أكثر أهل العلم من الكلام عن أسلوب التعامل مع العالم في مجلسه، وأسلوب الحديث معه مما هو مذكور بتوسع في كتب آداب العالم والمتعلم، ومن أجمع ما رُوي في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: إن من حق العالم ألاّ تكثر عليه السؤال، ولا تعنته في الجواب، وأن لا تُلِحَ عليه إذا كسل ـ ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشينّ له سراً ولا تغتابن عنده أحداً، وإن زلَّ قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته (3). وقال: من حق العالم عليك أن أتيته أن تسلِّم عليه خاصة، وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل قال فلان خلاف قولك ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال فإنه بمنزلة النخلة المرطبة لا يزال يسقط عليك منها شئ (4) وقال عبد الرحمن بن مهدي ـ رحمه الله ـ: كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمة سأله وتعلم منه وإذا لقي من هو دونه في العلم علَّمه وتواضع له، وإذا لقي من هو قرينه في العلم ذاكره ودارسه (5).
ولقد ضرب السلف الصالح أبلغ المثل في الحرص على الطلب، والسعي في الأخذ عن أهل العلم والاستماع إليهم واحترامهم وتقديرهم تشهد لذلك قصصهم التي ساقها الخطيب البغدادي وغيره في هذا المجال.
_________
(1) المصدر نفسه (11/ 199).
(2) سنن الترمذي رقم 1986 صححه ابن حبان رقم 1913.
(3) جامع بيان العلم وفضله (1/ 129).
(4) المصدر نفسه (1/ 146).
(5) المحدث الفاصل للرامهرمزي صـ 206، قواعد في التعامل مع العلامء، عبد الرحمن بن معلا اللويحق صـ 86.(1/278)
ـ قول الحسن بن علي رضي الله عنه: كان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بذَّ القائلين، كان لا يشارك في دعوى، ولا يدخل في مراء (1). فالحسن بن علي رضي الله عنه يدعو إلى التقليل من الكلام، ومنابذة المراء، وفي الحديث: إذا أصبح العبد فإن الأعضاء كُلها تُكفِّرُ اللسان، تقول: اتِّق الله فينا، فإنما نحن بك، فإذا استقمت استقمنا، وإن أعوججت أعوججنا (2)، وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسه في كلامه، لئن اللسان أيسر حركات الجوارح وهي أضرُّها على العبد، وكان الصديق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد (3)، والكلام أسيركُ، فإذا اخرج من فيك صرت أنت أسيره والله عند لسان كل قائل ((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) (ق، الآية: 18).
وفي اللسان آفتان عظيمتان إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء، مداهن؛ إذا لم يخف على نفسه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط ـ وهم أهل الصراط المستقيم ـ كفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلا عن أن نضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلَّها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتَّصل به (4)، فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق، ولا السكوت كذلك، بل لا بد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر، وكان السلف كثيراً يمدحون الصمت عن الشر، وعما لا يعني لشدته على النفس، ولذلك يقع فيه الناس كثيراً، فكانوا يعالجون أنفسهم، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم (5)، قال الفضيل بن
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 199).
(2) الترمذي رقم 2407 حسنه الألباني في الصحيح الجامع (1/ 5136).
(3) جهاد النفس صـ 76
(4) الداء والدواء لابن القيم صـ 379
(5) جهاد النفس صـ 77(1/279)
عياض ـ رحمه الله ـ: ما حج ولا رباط، ولا جهاد أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في غم شديد. وقال: سجن اللسان سجن المؤمن، ولو أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في غم شديد (1)
ـ قول الحسن بن علي رضي الله عنه: كان إذا ابتدأه أمران (2) لا يرى أيهما أقرب إلى الحقِّ، نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه:
فالحسن رضي الله عنه، يحث على مخالفة الهوى، والهوى، ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع (3)، ويعتبر الهوى من الأسباب التي لأجلها خالفت كثير من الأمم أنبيائها فاستكبروا ولم يقبلوا الحق والهدى والنور الذي جاءتهم به أنبياؤهم، عليهم السلام. قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أنْفُسَهم َفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)) (المائدة، الآية: 10) كما أن الله تعالى أمر نبيه داود عليه السلام بمخالفة الهوى، قال تعالى: ((يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ يَومُ الحِسَاب)) (ص، الآية: 26). ويقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: ونفس الهوى ـ هو الحب والبغض الذي في النفس ـ لا يلام عليه، فإن ذلك قد لا يملك، وإنما يلام على اتباعه (4)،وقال في موضع آخر: ومجرد الحب والبغض هوى، لكن المحرم اتباع حبّه وبغضه بغير هدى من الله (5)،
إن العلاج الناجع والبلسم الشافي لمن ابتلى بشئ من الهوى، إلزام النفس بالكتاب والسنة، واتباع منهج السلف الصالح وتربية النفس باستمرار على التقوى والخشية من الله تعالى، واتهام النفس ومحاسبتها دائماً فيما يصدر منها وعدم الاغترار بأهوائها وتزييناتها وخداعها، والإكثار من إستشارة أهل العلم
_________
(1) جامع العلوم والحكم
(2) البداية والنهاية (11/ 199
(3) التعريفات للجرجاني ص 257.
(4) القناوي (28/ 131).
(5) المصدر نفسه (28/ 133) ..(1/280)
والإيمان واستجلاء آرائهم حول ما يريد أن يقوله ويفعله، وكذلك ترويض النفس على استنصاح الآخرين وتقبل الآراء الصحيحة الصائبة وإن كانت مخالفة لما في النفس، وتعويدها على التريث وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام وإمضاء الأعمال والحذر من ردود الأفعال التي قد يكون فيها إفراط وتفريط وغلو أو تقصير، وجهل وبغى وعدوان، وإكثار المرء من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى بأن يجنبه اتباع الهوى ومضلات الفتن ويسأله تعالى أن يوفقه لقول كلمة الحق في الغضب والرضا ويكثر الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته: وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب (1). وقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء (2).
4 ـ قال الحسن رضي الله عنه: يجوز أن يظن السوء بمن علم السوء منه وبدت عليه أدلته وليس ينبغي أن يظن به السوء بمجرد الظن فإن الظن يكذب كثيراً (3). ومفهوم هذه الحكمة الحسنية أن المؤمن الكيس الفطن يجوز له ظن السوء بمن علم من أحواله، وتصرفاته، وسلوكه ومواقفه وأقواله ما يشير إلى السوء به، فإن الإنسان يظهر بعض ما في نفسه على صفحات وجه وفلتات لسانه، وبعض مواقفه، وهذا الظن لا يبني عليه عقاب أو جزاءً على الشخص المشكوك فيه بطبيعة الحال ولكن المقصد من قول الحسن رضي الله عنه الاحتراز والحذر والحيطة من أمثال هؤلاء حتى لا يقع الإنسان المسلم في مصائب وويلات بسبب حسن الظن بأمثال هؤلاء ومن عاشر الناس علم خطورة الثقة في من له سوابق من سوء الظن وقرائن تدل على ذلك وأما مجرد ظن السوء بالمسلم بلا دلائل ولا قرائن قوية فلا ينبغي للمسلم، فقد قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)) (الحجرات، الآية: 12). قال بعض العلماء في قوله تعالى ((إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)). هو أن تظنَّ بأهل الخير سوءاً، فأمّا أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن
_________
(1) النسائي، ك السهو، باب الدعاء بعد الذكر (3/ 55) صححه الألباني.
(2) سنن الترمذي وصححه الألباني، كما في صحيح سنن الترمذي (3/ 183).
(3) الشهب اللامعة في السياسة النافعة للمالقي صـ 173.(1/281)
بهم مثل الذي ظهر لنا (1)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث (2). وعد ابن حجر سوء الظن بالمسلم من الكبائر الباطنة حيث قال ..
وذلك أنّ من حكم بشرِّ على غيره بمجرد الظن حمله الشيطان على احتقاره، وعدم القيام بحقوقه، والتّواني في إكرامه، وإطالة اللسان في عرضه، وكل هذا مهلكات، وكل من رأيته يسئ الظّّنَّ بالناس، طالباً لإظهاره معايبهم ـ فاعلم أنّ ذلك لخبث باطنه وسوء طويّته، فإن المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب لخُبث باطنه (3).
فهذه إطلالة موجزة على قول الحسن بن علي رضي الله عنه: يجوز أن يظن السوء بمن علم السوء منه وبدت عليه أدلته وليس ينبغي أن يظن به السوء بمجرد الظن، فإن الظن يكذب (4) كثيراً.
5 ـ قول الحسن بن علي رضي الله عنه: والله ما تشاور قوم قط إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم (5)، فالحسن رضي الله عنه يحث الناس ويوصيهم بضرورة التشاور فيما بينهم في جميع أمورهم، وقد مارس الرعيل الأول الشورى وتعلمها من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وقد شاور الحسن أخيه الحسين وابن عمه عبد الله بن جعفر وغيرهم من قادة دولته في الصلح مع معاوية رضي الله عنهم كما سيأتي بيانه، وتعتبر الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين ـ من الأحكام ـ فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه (6). وقال الجصاص الحنفي ـ رحمه الله ـ في تفسيره بأحكام القرآن معقباً على قوله تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) وهذا يدل على جلالة موقع الشورى لذكرها مع
_________
(1) الأخلاق بين الطبع والتطبع صـ 243.
(2) البخاري رقم 5143، مسلم رقم 2563.
(3) الزواجر صـ 114.
(4) الشهب اللامعة في السياسة اللامعة صـ 173.
(5) تهذيب الرياسة، وترتيب السياسة للقلعي صـ 183.
(6) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 379).(1/282)
الإيمان، وإقامة الصلاة، ويدل على أننا مأمورون بها (1)، قال الطاهر بن عاشور: مجموع كلام الجصاص يدل على أن مذهب أبي حنيفة وجوبها (2)، وقال النووي ـ رحمه الله ـ: واختلف أصحابنا هل كانت الشورى واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كانت سنة في حقه كما في حقنا، والصحيح عندهم وجوبها، وهو المختار قال الله تعالى: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ))، والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحققو الأصول أن الأمر للوجوب (3).
وقال ابن تيميه رحمه الله: لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) (آل عمران، آية: 159). إن الشورى من قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم، وقد شرع نظام الشورى لحكم بالغة ومقاصد عظيمة، ولما فيها من المصالح الكبيرة، والفوائد الجليلة التي تعود على الأمة والدولة والمجتمع بالخير والبركة ومن ذلك:
ـ الشورى نوع من الحوار المفتوح، ومن أحسن الأساليب لتوعية الرأي العام وتنويره، وتعزيز عوامل الحب والثقة بين الحاكم والمحكومين، والقائد والمقودين، والرئيس والمرءوسين، وهو خير أسلوب في الحكم لعزل الشكوك، ونفي الهواجس، وإزالة الأوهام، ووقف الإشاعات التي تنمو عادة في ظل الاستبداد، وتنشر في عتمة الغوغائية
ـ تقضي مبادئ الإسلام بأن يشعر كل فرد أن له دوراً في حياة المجتمع والجماعة، والشورى تتيح الفرصة أمام كل فرد لكي يقدم ما يستطيع من جهود وأفكار وآراء ومهارات لخير المجتمع، كما تتيح الفرصة أمام كل فرد ليعبر عن رأيه في الشئون العامة.
ـ إن الشورى تمنح الدفء العاطفي، والتماسك الفكري لأفراد الأمة، وفيها إشعار الفرد بقيمته الذاتية، وقيمته الفكرية، وقيمته الإنسانية، وتدفع أفراد المجتمع
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (3/ 386)
(2) التحرير والتنوير (4/ 149)
(3) شرح النووي على مسلم (4/ 76)(1/283)
نحو الاجتهاد والإبداع والرضى وتتفجر الطاقات وتنكشف المواهب المغمورة في الأمة.
ـ إن الشورى تساهم في علاج ضروب الكبت الضاغطة، وكوامن الأحقاد الدفينة، وتطيح بكثير من الكظوم الخفية، تدفع رعايا الدولة للعطاء والحرص على ترسيخ النظام، وصدق الولاء.
ـ وفي نظام الشورى تذكير للأمة بأنها هي صاحبة السلطان وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة الحكم والسلطان.
ـ وفي المشاورة امتثال لأمر الله بها، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه المزية أرجح المزايا المتقدمة، وهذا أهم العوامل في نجاح نظام الشورى (1). فالحسن بن علي رضي الله عنه يحث الناس على الاهتمام بالشورى وممارستها وتطبيقها ولذلك قال: والله ما تشاور قوم قط إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم (2)
6 ـ قال الحسن بن علي رضي الله عنه في بعض مواعظه للمسلمين: يا ابن آدم عف عن محارم الله تكن عابداً وارض بما قسم الله لك تكن غنياً واحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك بمثله تكن عادلاً. أنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيراً ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً أصبح جمعهم بوراً وعملهم غروراً ومساكنهم قبوراً. يا ابن آدم انك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فجد بما في يدك لما بين يديك فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع (3)، وتلا هذه الآية: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (البقرة، آية: 197).
أ ـ وهذا شرح موجز لهذه الخطبة الحسنية
_________
(1) الشورى بين الأصالة والمعاصرة لعز الدين التميمي صـ 33، 34
(2) تهذيب الرياسة وترتيب السياسة صـ 183
(3) نور الأبصار، الشبلنجي صـ 121، الحسن بن علي صـ 28(1/284)
يا ابن آدم عف عن محارم الله تكن عابداً (1)، فهذا توجيه من الحسن بن علي يحث فيه الناس على الابتعاد من المحرمات، ويعتبر الحسن بن علي من ترك المحرمات فهو العابد فالوقوع في المحرمات توقع الإنسان في الغفلة وتعرضه لسخط الله وعقابه وغضبه، كما أن الوقوع في المحرمات والغفلة عن طاعة الله سببان لمفاسد كثيرة وأضرار بليغة في الدنيا والآخرة يقول ابن القيم: قلة التوفيق وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونضرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب، ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم وضنك المعيشة، وكسف البال، كل هذه الأشياء تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع من الماء، والإحراق من النار، وأضداد هذه تتولد من الطاعة (2)، فالبعد عن المحرمات طريق للطاعات، فيصبح المسلم عابداً، ولذلك قال الحسن عف عن محارم الله تكن عابداً (3).
ب ـ وأرض بما قسم الله لك تكن غنياً (4):
يتحدث الحسن رضي الله عنه عن الرضى بما كتبه الله على العبد، وأن الرضى يؤدي إلى الغنى بالله سبحانه وتعالى، والرضا عن الله سبحانه وتعالى معناه: أن لا يكره العبد ما يجري به قضاء الله تعالى (5). وأعلاه: سرور القلب، وسكينة النفس إلى قضاء الله وقدره خيره وشره والإيمان بالقضاء والقدر أحد الأركان الستة، حلوه ومره، وهذا القسم من الرضا من أجل الأخلاق الإيمانية لأنه: آخذ بزمام مقامات الدين كلها، إذ هو روحها وحياتها، فإنه روح التوكل وحقيقته،
_________
(1) المصدر نفسه صـ 121
(2) الفوائد صـ 32
(3) الحسن بن علي صـ 28، نور الأبصار صـ 121
(4) المصدر نفسه صـ 28
1المفردات للراغب صـ 197
(5) مدارج السالكين (2/ 218)(1/285)
وروح اليقين، وروح المحبة ودليل صحة محبة المحب، وروح الشكر ودليله (1)، وهو أيضاً يفتح باب حسن الخلق مع الله تعالى ومع الناس، فإن حسن الخلق من الرضا، وسوء الخلق من السخط، بل إن بعض العلماء عرف الرضا بحسن الخلق مع الله، قال، لأنه يوجب ترك الاعتراض عليه في ملكه، وحذف فضول الكلام الذي يقدح في حسن خلقه ... فلا يسمى شيئاً قط قضاه الله تعالى وقدره باسم مذموم، إذا لم يذمه الله تعالى، لأنه ينافي الرضا (2)، ولذلك كان هذا النوع من الرضا محل عناية القرآن الكريم في التحدث عنه بآيات كثيرة يقول فيها عز وجل: ((رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)) (التوبة، الآية: 100) مما يدل على أنه من أعلى مقامات الإيمان لما يعينه من كمال الخُلق مع الخالق جلا وعلا لكل ما يقضيه الله عز وجل في خلقه وكونه وتشريعه، فيقبله العبد بكل سرور واطمئنان وانشراح نفس، فلا يجد في نفسه حرجاً ممّا قضاه الله تعالى له من خير أو شر ـ بل يرضى بمرُ القضاء الذي قدره له ـ ولا على ما قضاه في الكون من تدبير وخلق وفناء بداية لما يعلمه من حكمته سبحانه في تدبيره الملكوت كله، ولا على ما شرعه لعباده من تشريع على ألسنة رسله، وفي محكم كتابه، لأنه كله هو الحق والهدى ـ فصاحب هذا الخلق يتلقى كل ذلك بالمحبة والسرور على مراد الله الذي قضاه في كل ذلك، لعلمه أن
الله عز وجل حكيم في فعله وتدبيره وقضائه ودود مع عباده لا يفعل لهم إلا محض الخير مهما بدا لأنفسهم خلافه (3)، وقد كان جدّ الحسن صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى والأسوة الحسنى، فقد بين لنا صلى الله عليه وسلم كيف كان رضاه عن الله تعالى فيما يبتليه به في الحياة من متاعب في النفس أو المال أو البنين أو الأقارب؟، فكان صلى الله عليه وسلم على ذلك النحو من الرضا كمالاً وتماماً سواء فيما ناله من الأذية في نفسه من جراء دعوته إلى الله تعالى في مكة أو في الطائف أو في المدينة، ولقد بلغت به الأذيّة، أن جرت عليه عدة محاولات اغتيال فلم تفلح، فلم يزد على تقرير المحاولين ما أرادوه، ثم العفو عنهم، وأما رضاه بما كان عليه
_________
(1) مدارج السالكين (2/ 220)
(2)
(3) أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة (1/ 96).(1/286)
من القلة في المال، فلم تعرف البشرية رضاً مثله، حيث بلغ به في حاله ذاك، أن جعل يدعو الله تعالى ويقول: اللهم أجعل رزق آل محمداً قوتاً (1)، وأما في فقد الأولاد فلما مات خال الحسن ولد النبي صلى الله عليه وسلم الرضيع إبراهيم عليه السلام عن ثمانية عشراً شهراً، وقد رزق به على الكِبَر وبعد موت أبنائه الذكور من قبل، لم يتزعزع رضاه عليه الصلاة والسلام لقضاء الله وقدره، بل أعلن رضاه بذلك، وقال فيما رواه عنه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا بما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون (2) وأما أقاربه صلى الله عليه وسلم فقد صُرِّعوا حوله بين يديه في الدفاع عنه وعن دعوته، فلم يتبرم لذلك، بل جاء أنه قال في حق عمه أسد الله وأسد رسوله حمزةبن عبد المطلب (3)
رضي الله عنه ـ الذي استشهد بأحد، ومُثِّلَ به أيَّما تمثيل: فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه، نظر إليه، وقد مُثِّل به، فما زاد على أن قال: رحمة الله عليك، إن كنت ما علمتك إلا وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله في بطون السباع (4) ومع ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من كمال الرضا عن الله تعالى في كل أحواله، فقد كان دائب الدعاء أن يرزقه الله تعالى المزيد من الرضا والثبات الدائم عليه (5)، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ... وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة، وفتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين (6)، ولم تقتصر أقواله صلى الله عليه وسلم في الرضا على ما كان يعبر به عن نفسه من ذلك الخلق العظيم، بل كذلك كان ينوه بهذا الخلق العظيم، ويبين ما له من عظيم الأجر والثواب عند الله، ليحض أمته عليه، وذلك كما في
_________
(1) البخاري، الرقائق رقم 1055.
(2) مسلم رقم 2315.
(3) طبقات بن سعد (3/ 8) ..
(4) تفسير ابن كثير (2/ 592) عزاه ابن كثير إلى البزار وقال عنه بعد إيراده له بسنده: هذا إسناده فيه ضعف، وذكره بنحوه ابن هشام في سيرته (3/ 171) عن ابن إسحاق مرسلاً.
(5) أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة (1/ 100)
(6) سنن النسائي، في السهو (3/ 55) من حديث عمار بن ياسر اسناده حسن(1/287)
قوله صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله، رضيت بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبالإسلام دينا، غفر له ذنبه (1).
ويلاحظ هنا كيف ربط النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء بأمر يتكرر يومياً خمس مرات، ليصبح هذا الدعاء ومضمونه شيئاً راسخاً في نفس المؤمنين والمؤمنات، وقوله صلى الله عليه وسلم: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا (2). فقد بين في هذين الحديثين عظيم خلق الرضا عن الله تعالى حيث أبان أن هذا الخلق سبب لمغفرة الذنوب، وشهد له في الحديث الآخر أنه مما يوجد حلاوة الإيمان، وذلك لأن صاحب هذا الخلق يعلم أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن تدبير الله تعالى له خير من تدبيره لنفسه، فيعيش قرير العين في هذه الحياة في السراء والضراء، يحمد الله تعالى على الخير وغيره، لأن ذلك كله فعل الله تعالى وتصرفه في ملكه، وأي راحة للمرء أكثر من أن يعيش في هذه الحياة على هذا النحو (3)؟، فالحسن بن علي رضي الله عنه حثّ على هذا الخلق بلسان الحال ولسان المقال فقد قال: وأرضى بما قسم الله لك تكن غنيا (4)
جـ ـ قوله: واحسن جوار من جاورك تكن مسلماً (5):
فالحسن رضي الله عنه يحث المسلمين على حسن الجوار فحق الجار على جاره من أعظم الحقوق، قال تعالى ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) (النساء، آية:36)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (6) وذلك لشدة الوصية به وتأكيدها ومن حقوق الجوار وآدابه في الإسلام أمر منها:
_________
(1) مسلم رقم 386
(2) مسلم رقم 2758
(3) أخلاق النبي في القرآن والسنة (1/ 101).
(4) الحسن بن علي صـ 28، نور الأبصار 121.
(5) المصدر نفسه صـ 28.
(6) البخاري، رقم 6015.(1/288)
ـ عدم إيذائه بأي شئ من قول أو عمل: فقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (1). فيجب على الإنسان أن يكف اذاه عن جاره، وسواء كان بالقول، أو بالفعل، أو بالإشارة فأذية الجار محرمة على كل حال
ـ الإحسان إليه دائماً: وبكل صورة ممكنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً، أو ليسكت (2) ونظراً للأهمية الكبرى التي يعطيها الإسلام للجار ربط الرسول صلى الله عليه وسلم بين صدق الإيمان بالله واليوم الآخر والإحسان للجار ولو طبقنا هذا التوجيه النبوي مع جيراننا في مجتمعاتنا لتحولت هذه المجتمعات إلى مجتمعات متعاونة ومتكاثفة ولعاش أهلها حياة طيبة.
ـ تحمل أذى الجار والصبر عليه: وكما قيل: ليس حسن الجوار بكف الأذى على الجار، ولكن بتحمل أذاه. فينبغي للمسلم أن يصبر على أذى جاره، وأن يتحمله، وأن يقابله بالإحسان. فإن بهذا يغلق الباب أمام نزغ الشيطان
ـ مواساته بالطعام ولا سيما إذا كان فقيراً:
قال صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع جنبه (3)، وقال صلى الله عليه وسلم: إذا طبخ أحدكم قدراً فليكثر مرقها، ثم ليناول جاره منها (4)، وقال صلى الله عليه وسلم: يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة (5). فينبغي لكل
مسلم أن يتنبه إلى هذا الأدب الرفيع، وألا يهمله، فإن له أثراً عظيمًا على الجار، وهو دليل على اتصاف المجتمع المسلم بالتراحم،
والتعاطف، والتكافل بين أفراده (6) ويفهم من الحديث الحرص على سد احتياجات الجار ما أمكن من ملابس وأدوية وغيرها
_________
(1) البخاري، رقم 6018.
(2) مسلم، رقم 48.
(3) المستدرك (4/ 167) السلسلة الصحيحة رقم 148.
(4) مجمع الفوائد (8/ 165)، صحيح الجامع للألباني رقم 676
(5) مسلم رقم 1030
(6) موسوعة الآداب الإسلامية (1/ 299)(1/289)
ـ مشاركته الفرح والحزن:
فإذا كان عند جاره مناسبة سارة فينبغي له أن يذهب إليه، وأن يشاركه ويقاسمه فرحه، ما لم يكن فيه معصية وإذا أحلت به
نازلة فينبغي له أن يحضره، وأن يشاركه ويقاسمه حزنه، ويواسيه بالكلمة الصالحة، ويشد من أزره. وكل هذا من حق المسلم أصلا على أخيه المسلم، والجار أولى بهذه الحقوق من غيره.
ـ أن يعرض عليه البيت قبل غيره إذا أراد التحول عنه:
فإذا أراد أن ينتقل من داره فليعرضها على جاره قبل غيره، فقد يرغب في شرائها، وكذلك أي أرض أو عقار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فأراد بيعها فليعرضها على جاره (1). وهذا أطيب لخاطره ولقلبه، وإذا فرط الناس في هذا الأمر فإنهم يفتحون بابا للمشاحنات والمنازعات والعداوات، فالله المستعان.
ـ ألا يمنع جاره من غرس خشبه في جداره: إذا احتاج الجار إلى ذلك، فينبغي أن يسمح له بغرس هذه الخشبة، ولا يمنعه من الانتفاع بها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يمنع جار جاره أن يغرس خشبه في جداره (2). ثم قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم. أي لأصرحن ولأحدثن بها بينكم مهما ساءكم ذلك وأوجعكم (3) ويفهم من الحديث كل مساعدة يحتاجها الجار ولا يترتب عليها ضرر لجاره، فالإسلام يحث على تقديمها.
ـ تعظيم حرمة الجار وعدم خيانته: لا بإفشاء سره، ولا بهتك عرضه، ولا بالفجور بأهله، فإنه من أقبح الكبائر قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قيل ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك (4)، بل ينبغي أن يحفظه في نفسه وماله وعرضه، حتى يأمنه جاره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: والله لا يؤمن ـ ثلاثاً ـ الذي لا يأمن جاره بوائقه (5). أي غدره وخيانته (6). ولذلك كان
_________
(1) سنن ابن ماجة رقم 2493، صحيح ابن ماجة 2022
(2) البخاري رقم 2463
(3) موسوعة الآداب الإسلامية (1/ 301)
(4) مسلم رقم 86
(5) البخاري رقم 6016
(6) موسوعة الآداب الإسلامية (1/ 301)(1/290)
الحسن بن علي رضي الله عنه يوصي الناس في مواعظه وخطبه بحسن الجوار والإحسان إلى الجار فقد قال: واحسن جوار من جاورك تكن مسلماً (1).
ح ـ قوله: وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك بمثله تكن عادلاً: فالحسن رضي الله عنه يحث المسلمين على إنصاف الناس ومصاحبتهم بالعدل وعدم ظلمهم، فالإنصاف خصلة شريفة، وخلة كريمة، يدل على نفس مطمئنة، وأفق واسع، ونظر في العواقب بعيد، ويعرف بأنه، استيفاء الحقوق لأربابها (2)، واستخراجها بالأيدي العادلة، والسياسة الفاضلة (3)، وقال ابن القيم في إنصاف الناس: أن تؤدي حقوقهم، وألا تطالبهم بما ليس لك، وألا تحملهم فوق وسعهم، أن تعاملهم بما تحب أن يعاملوك به، وأن تعوضهم ممّا تحب أن يعوضوك منه، وأن تحكم لهم أو عليهم بما تحكم به لنفسك أو عليها (4). الإنصاف والعدل تؤمان نتيجتهما عُلُوُّ الهمَّة، وبراءة الذِّمَّة باكتساب الفضائل، واجتناب الرَّذائل (5)، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالأنصاف، ونهى أن يحملنا بغضنا للكُفَّار على عدم الأنصاف، فقال عزّ وجلَّ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَاتعْمَلُون)) (المائدة: 8). قال ابن تيميه ـ رحمه الله ـ: فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألاَّ يعدلوا، فكيف إذا كان البغض لفاسق، أو مبتدع، أو متأوِّل من أهل الإيمان؟ فهو أولى أن يجب عليه ألاَّ يحمله ذلك على ألاَّ يعدل على مؤمن، وإن كان ظالماً له (6). وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، فإن العدل واجب على
_________
(1) الحسن بن علي صـ 28 نور الأبصار صـ 121
(2) أرباب: أصحاب، مفرد رب
(3) الأخلاق بين الطبع والتطبع صـ 228
(4) زاد المعاد (2/ 407) بتصرف
(5) التَّوفيق على مهَّمات التعريف للمناوي صـ 64
(6) الاستقامة (1/ 38)(1/291)
كلِّ أحد في كل أحد في كل حال، وقال لبعض السلف: ما عملت من عص الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه (1).
وقال سبحانه وتعالى: ((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)) (المائدة: 2). قال أبو عبيدة والفراء: أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا (2) الحق إلى البال، والعدل إلى
الظلم (3) فما أجمل أن يتحلى المرء بالإنصاف، فهو من صفات الربانيين الذين لا يرجون إلا الحق (4).
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
وتعر من ثوبين من يلبسهما
يلق الردى بمذمة وهوان (5)
ثوب من الجهل المركب فوقه
ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة
زينت بها الأعطاف والكتفان (6)
وقال المتنبي:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال ولو كان ذوي رحم
ومن إنصاف العباد إنصافهم في الأموال والمعاملات، والحجج والمقالات وقد عاب الله سبحانه وتعالى الذين يبخسون الناس أشياءهم، وأوعدهم بالخسارة والهلاك، فقال سبحانه وتعالى: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)) (المطففين: 1 ـ 3). قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ: دلت الآية الكريمة على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب عليه أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في عموم هذه الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن واحد منهما يحرص على ما له من الحجج، فيجب عليه ـ أيضاً ـ أن يبين ما لخصمه
_________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 7)
(2) تعتدوا: تتجاوزا
(3) تفسير القرطبي (6/ 45)
(4) الأخلاق بين الطبع والتطبع صـ 229
(5) الهوان: الخزي والعار
(6) الأعطاف: جمع عطف، وهو الجانب(1/292)
من الحجج التي لا يعلمها، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه (1)، وتواضعه من كبره، وعقله من سفهه (2). فما أجمل قول الحسن بن علي رضي الله عنه: وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك بمثله تكن عادلاً (3)
خ ـ قول الحسن رضي الله عنه: إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيراً ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً أصبح جمعهم بوراً وعملهم غروراً ومساكنهم قبوراً يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فجد بما في يدك لما بين يديك فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع وتلا هذه الآية ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (البقرة، الآية: 197). فالحسن رضي الله عنه يصف صنفاً من الناس منغمساً في الدنيا وزينتها، مشغولاً بالجمع والبناء ومصاباً بمرض طول الأمل فهذا حال أغلب الناس إلا من رحم ربي، فإذا الموت يأتي بغتة، فلم ينتفعوا بما جمعوا، فأصبحت أعمالهم ضائعة، ومساكنهم خالية، فالحسن بن علي رضي الله عنه يحذر الناس من الإغترار بهذه الدنيا ويحثهم على الزهد فيها وإنما ينشأ الزهد لليقين بالتفاوت بين الدنيا والآخرة، قال تعالى ((قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)) (النساء، آية: 77). والقرآن يربي المؤمن على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الكفار هم الذين يغترون بزينة الدنيا وزخرفها، فقال تعالى: ((زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) (البقرة، الآية: 212).
وقد بين القرآن الكريم في كثير من المواضع أن الدنيا حقيرة لا يجب أن تشغل المرء عن طلب الآخرة منها قوله تعالى: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ
_________
(1) الإعتساف: أشد الظلم
(2) تفسير ابن سعدي صـ 915
(3) الحسن بن علي صـ 28(1/293)
الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)) (التكاثر، الآية: 1ـ 8)، أي أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها (1). وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) يقول ابن آدم مالي مالي، وهو لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت، فأمضيت (2)؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس، فأبلى، أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس (3)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله (4)، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يهرم ابن آدم وتبقى معه اثنتان: الحرص والأمل (5)، وقال الأحنف بن قيس لما رأى في يد رجل درهماً: لمن هذا الدرهم؟ فقال الرجل: لي، فقال: إنما هو لك إذا أنفقته في أجر، أو ابتغاء شكر، ثم أنشد الأحنف متمثلاً قول الشاعر:
أنت للمال إذا أمسكته
فإذا أنفقته فالمال لك (6)
وفي قوله تعالى: ((ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم)) أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما إذا قابلتم به نعمة من شكره وعبادته (7). وقال تعالى: ((وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزْواجاً منْهُم زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) (طه: 131، 132).
_________
(1) معنى الزهد والمقالات وصفة الزاهدين لأبي سعيد البعري صـ 9
(2) مسلم رقم 2958
(3) مسلم 2959
(4) البخاري رقم 6514
(5) مسلم رقم 1047
(6) معنى الزهد والمقالات وصفة الزاهدين صـ 10
(7) معنى الزهد والمقالات وصفة الزاهدين صـ 10(1/294)
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم وما فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: ((أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)) يعني: الأغنياء، فقد آتاك الله خيراً مما آتاهم. ولهذا قال: ((وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئاً قال: إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: بركات الأرض (1) وقال قتادة والسدي: (زهرة الحياة) يعني: زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة: ((لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)) لنبتليهم. وقوله: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) أي: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)) (التحريم، الآية: 6). وقوله: ((لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) يعني: إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب.
كما قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)) (الطلاق: 2، 3) ولهذا قال: ((لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)). وقال الثوري: لا نسألك رزقاً: أي لا نكلفك الطلب. وقال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة (2). وعن زيد ابن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة (3). وقوله: ((وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) أي: وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن أتقى .. انتهى (4). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فأثر في جنبه فلما استيقظ جعلت امسح عنه، فقلت: يا رسول الله، ألا آذنتنا
_________
(1) البخاري رقم 6427
(2) معنى الزهد والمقالات وصفة الزاهدين صـ 11
(3) سنن ابن ماجة رقم 4105، وصححه الألباني صحيح الجامع 6510
(4) ففروا إلى الله صـ 62 لأبي ذر القلموني بتعرف(1/295)
فبسطنا شيئاً يقيك منه، فتنام عليه، فقال: مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال تحت شجرة، ثم تركها (1).
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم سائرين على نهج النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا أزهد الناس وأرغبهم في الآخرة، فنظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا زاد الراكب ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم، فعلموا أنهم سينظرون إليها بقلوبهم وأعينهم ولمَّا علموا أنهم سيرتحلون منها بأبدانهم تعبوا قليلاً، وتنعموا كثيراً، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم، فأحبوا ما أحبَّ لهم، وكرهوا ما كره لهم، قال ابن مسعود رضي الله عنه للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا خيراً منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، فكان في التابعين من هو أكثر قياماً وصياماً وعبادة من الصحابة رضي الله عنهم، ولكن الصحابة رضي الله عنهم سبقوا بأحوالهم الإيمانية من الزهد واليقين، وصدق التوكل على الله عز وجل ولا شك في أن الصحابة رضي الله عنهم تعلموا الزهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاث أهلة في شهرين، ولا يُوقد في بيته من أبياته نار (2). وأما قول الحسن بن علي رضي الله عنهما: فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع وتلا هذه الآية: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (البقرة، الآية: 197). ففيها دعوة للتقوى، والالتزام بها، والتقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله والمطلوب من العبد أن يتعلق قلبه بالله وحده محبة له وإخلاصاً له في عبادته ورغبة فيما عنده من نعيم أعده للمتقين، فخوفاً من سخطه وعقابه وعذابه.
وللتقوى ثمار يحتاج إليها كل مسلم منها، المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب العبد، قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)) (الطلاق، الآية: 4).
_________
(1) سنن الترمذي رقم 2377 وصححه الألباني صحيح الجامع رقم 5668
(2) البخاري رقم 6567 مسلم رقم 2972.(1/296)
ومنها، تيسير العلم النافع، قال تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)) (البقرة، الآية: 282). ومنها، إطلاق نور البصيرة، قال تعالى ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) الأنفال، الآية: 29)، ومنها، محبة الله عز وجل ومحبة ملائكته والقبول في الأرض، قال تعالى: ((بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) (آل عمران، الآية: 76)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل عليه السلام ثم ينادي في أهل السماء، إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض (1). ومنها، نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده: وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) (البقرة، الآية: 194) فهذه المعية هي معية التأييد والنصرة والتسديد وهي معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه ومعيته للمتقين والصابرين وهي تقتفي التأييد والحفظ والإعانة كما قال تعالى لموسى عليه السلام وهارون ((لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) (طه، الآية: 46) وأما المعية العامة مثال قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) (الحديد، الآية: 4) وقوله: ((وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)) (النساء: 108). والمعية العامة تستوجب من العبد الحذر والخوف ومراقبة الله عز وجل.
ومنها، البركات من السماء والأرض قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)) (الأعراف، الآية: 96). ومنها البشرى في الحياة الدنيا، وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم، قال تعالى: ((أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ َلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) (يونس، الآية: 62 ـ 64) والبشرى في الحياة ما بشر الله: المؤمنين المتقين. في غير مكان من كتابه وعن النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة من الله (2). وعنه صلى الله عليه وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات.
_________
(1) مسلم، ك البر والصلة رقم 6937.
(2) البخاري، ك الرؤيا رقم 6986.(1/297)
قالوا: وما المبشرات قال: الرؤيا الصالحة (1). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن (2). وقد رأينا من الموفقين ثناء الناس على أعمالهم في الدنيا. ومنها الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم قال تعالى: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) (آل عمران، الآية: 120). يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن (3). ومنها، حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى عز وجل، قال تعالى: ((وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)) (النساء، الآية: 9).
وفي الآية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذين يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم ويدخلون تحت حفظ الله وعنايته، ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع، وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف كما الآية: ((وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)) (الكهف، الآية: 82). فإن الغلامين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما (4)، ومنها، سبب قبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) (المائدة، الآية: 27). ومنها، سبب النجاة من عذاب الدنيا، قال تعالى: ((وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) (فصلت، الآية: 18 ـ 19). ومنها، تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار، وعظم الأجر، وهو سبب الفوز بدرجة الجنة، قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)) (الطلاق، الآية: 5).
_________
(1) البخاري، رقم 6990.
(2) مسلم، (4/ 2034).
(3) تفسير القرآن العظيم (1/ 329).
(4) محاسن التأويل للقاسمي (5/ 47).(1/298)
ومنها ميراث الجنة، فهم أحق الناس بها وأهلها، بل ما أعد الله الجنة إلا لإصحاب هذه الرتبة العلية والجوهرة البهية. قال تعالى: ((تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا)) (مريم، الآية: 63).
فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل، وهم لا يذهبون إلى الجنة سيراً على أقدامهم بل يحشرون إليها ركباناً مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفعاً لمشقتهم كما قال تعالى: ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)) (ق، الآية: 31) وقال تعالى ((يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)) (مريم، الآية: 85). فالحسن رضي الله عنه يحث المسلمين على التقوى حرصاً منه على أن ينال المسلمين هذه الثمار في الدنيا والآخرة ولذلك قال: فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع وتلا هذه الآية: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (1) (البقرة، الآية: 197).
_________
(1) الحسن بن علي صـ 28، نور الأبصار صـ 121.(1/299)
المبحث الثالث
من أهم الشخصيات في خلافة الحسن بن علي
كانت الظروف التى أعقبت وفاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه صعبة ومعقدة؛ إذ لازالت الحرب قائمة مع معاوية بن أبي سفيان، وفى هذه الظروف بايع أهل الكوفة الحسن بن علي رضي الله عنه بالخلافة عام 40هـ/ ْ660م، ولذلك لم يكن لدى الحسن رضي الله عنه متسع من الوقت لإجراء تغييرات إدارية، أو تغيير الولاة، فأقر عمال أبيه على ولاياتهم، عدا الكوفة، فقد ولى عليها المغيرة بن نوفل (1) بعد ما سار إلى معاوية بدلاً من واليها السابق هاني ابن النخعى (2)، أما على المدائن، فقد استمر سعد بن مسعود الثقفى عاملاً عليها (3)، وقد كان عاملاً للخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ذات المدينة (4)، وقد استبقاه الحسن إبان خلافته واستمر يشغل منصبه الإداري إلى نهاية عهد الحسن بن علي رضي الله عنه وتنازله لمعاوية، أما على البصرة فقد جاء في بعض الروايات، بأن عبد الله بن عباس كان واليًا عليها من قبل الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبقي عليها لغاية عقد الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، ثم خرج من البصرة معتزلاً السياسة قاصدًا مكة المكرمة (5)، متفرغًا للعلم والتعليم، أما ولاية فارس فقد كانت لزياد بن سفيان (6)، وكان علي رضي الله عنه قد بعثه إلى فارس لتأديب بعض المتمردين بها، فظفر بهم وتمكن من القضاء عليهم (7)، ثم ولاه بعد ذلك على فارس فاستمرت ولايته لغاية عقد الصلح مع
__________
(1) التبيين في أنساب القرشيين، ص: (80، 81).
(2) تاريخ خليفة بن خياط، نقلاً عن الحسن بن علي، فتيخان، ص (85).
(3) أنساب الأشراف (5/ 214)، نهاية الأرب (2/ 266).
(4) التاريخ الكبير للبخارى (4/ 50).
(5) الحلة السيراء للقضاعى نقلاً عن الحسن بن علي، ص (86).
(6) الحسن بن علي، ص (86).
(7) الحسن بن علي، ص (86).(1/300)
معاوية (1)، كما أبقى الحسن رضي الله عنه العمال أنفسهم الذين كانوا يعملون لوالده الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد استبقى عبيد الله بن أبي رافع كاتبًا (2)، وكذلك استبقى شريح بن الحارث قاضى الكوفة (3)، وأبقى معقل ابن قيس الرياحى على الشرطة (4)، وكان من أهم شخصيات عهد خلافته، شقيقه الحسين بن علي رضي الله عنه، وهذا سنفرد له كتابًا خاصًا به بإذن الله تعالى، ومن أهم شخصيات عهده أيضاً قيس بن لمعد بن عبادة الخزرجى، وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمى، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمى، وقد رأيت أن أترجم للشخصيات الثلاث الأخيرة.
أولاً: قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه:
هو قيس بن سعد بن عبادة بن دُليم بن حارثة بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب، الأمير المجاهد، أبو عبد الله سيد الخزرج وابن سيدهم أبي ثابت، الأنصارى الخزرجي الساعدى، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن صاحبه (5)، كان من فضلاء الصحابة وأحد دهاة العرب وكرمائهم، وكان من ذوي الرأي الصائب والمكيدة في الحرب، مع النجدة والشجاعة، وكان شريف قومه غير مدافع، ومن بيت سيادتهم (6)، له عدة أحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها، عن أبي ليلى قال: كان سهل بن حُنيف، وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمرت بهما جنازة فقاما، فقيل؛ إنما هو من أهل الأرض فقالا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرت به جنازة فقام، فقيل: إنما هى جنازة يهودى، فقال: أليست نفسًا (7).
وفى هذا الحديث تكريم الإنسان من حيث هو إنسان، وعن أبي عمار، عن قيس بن سعد قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصوم عاشوراء قبل أن ينزل رمضان،
__________
(1) مروج الذهب (3/ 15)، الحسن بن علي، ص (86).
(2) محاضرة الأبرار، لابن العربي (1/ 66)، الحسن بن علي، ص (87).
(3) مختصر التاريخ لابن الكمازروني، ص (80).
(4) نهاية الأرب (5/ 223).
(5) سير أعلام البلاء (3/ 102).
(6) أسد الغابة (4/ 450).
(7) البخاري، رقم (1312).(1/301)
فلما نزل رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله (1)، وعن محمد بن شرحبيل، عن قيس بن سعد قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له ماء فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية، فالتحف بها، فكأنى أنظر إلى أثر الورسى على عُكنة (2)، روى عنه أنس، وثعلبة بن أبي مالك، وأبو ميسرة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعروة (3)، وعبد الله بن مالك الجيشاني وأبو عمار الهمداني، وميمون بن أبي شيب، وعريب بن حميد الهمداني، والوليد بن عبده وآخرون (4)، وقد حدث قيس بن سعد بالكوفة والشام ومصر (5)، كان قيس ضخمًا حسنًا طويلاً إذا ركب الحمار خطت رجلاه الأرض (6)، وكانت أمه بنت عم أبيه واسمها فكيهة بنت عبيد ابن دُليم (7)، وكان موقعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كصاحب الشرطة من الأمير، وحمل لواء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض الغزوات، واستعمله على الصدقة (8)، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد (9)، وشارك في بعض السرايا منها:
1 - سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى سيف البحر:
تعتبر سرية أبي عبيدة رضي الله عنه إلى سيف البحر، استمرارًا لسياسة النبى - صلى الله عليه وسلم - العسكرية ولإضعاف قريش ومحاصرتها اقتصاديًا على المدى الطويل، فقد بعث - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة راكب قبل الساحل ليرصدوا عيرًا لقريش، وعندما كانوا ببعض الطريق فنى الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكان قدر مزود تمره يأكلون منه كل يوم قليلاً، حتى كان أخيرًا نصيب الواحد منهم تمرة واحدة، وقد أدرك الجنود صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية
__________
(1) مسند أحمد (3/ 422).
(2) العكن جمع عكنة وهى الطي في البطن من السمن، تاريخ دمشق (52/ 271).
(3) الإصابة (5/ 361).
(4) سير أعلام النبلاء (3/ 102).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 102).
(6) الإصابة (5/ 360).
(7) الإصابة (5/ 360).
(8) البداية والنهاية (11/ 354).
(9) الإصابة (5/ 360، 361).(1/302)
فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقت ممكن (1)، يقول جابر رضي الله عنه أحد أفراد هذه السرية: كنا نمصها كما يمص الصبى ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل (2)، وقد سأل وهب بن كيسان جابرًا رضي الله عنه: ما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت (3)، وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشجر، قال جابر رضي الله عنه: وكنا نضرب بعصينا الخبط (4)، ثم نبله بالماء فنأكله (5)، فسمى ذلك الجيش جيش الخبط (6)، وقد أثر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه وكان من أحد جنود هذه السرية، فنحر للجيش ثلاث جزائر (7)، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه (8)، وقد جاء ما فعله قيس بن سعد من كرم وجود مفصلاً في تاريخ ابن عساكر، فعن داود بن قيس، وإبراهيم بن محمد الأنصارى وخارجة بن الحارث، قالوا: بعث - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة في سرية فيها المهاجرون والأنصار، ثلاثمائة رجل إلى ساحل البحر، إلى حين، فأصابهم جوع شديد، فقال قيس بن سعد: من يشترى مني تمرًا بجزر، يوفينى الجزر ها هنا وأوفيه التمر بالمدينة، ... فوجد رجلاً من جهينة فقال قيس: بعني جزرًا أوفيك وسقة من تمر المدينة، قال الجهنى: والله ما أعرفك، فمن أنت؟ قال: أنا ابن سعد بن عبادة بن دليم. قال الجهينى: ما أعرفني بنسبك، وذكر كلامًا، فابتاع منه خمس جزائر، كل جزور بوسق من تمر، فشرط عليه البدوى تمر دخرة مصلبة من تمر آل دُليم، يقول قيس: نعم، قال: فأشهد له نفرًا من الأنصار، ومعهم نفر من المهاجرين، قال قيس: أشهد من تحب، فكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب، قال عمر: ما أشهد، هذا يدين ولا ماله إنما المال
__________
(1) السرايا والبعوث النبوية، ص (118).
(2) شرح النووي على مسلم (13/ 84).
(3) فتح الباري (8/ 77).
(4) الخبط: ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها واسم الورق الساقط: خبط.
(5) شرح النووي (13/ 84).
(6) فتح الباري (8/ 78).
(7) جمع جزور، والجزور: البعير، أو خاص بالناقة.
(8) فتح الباري (8/ 78).(1/303)
لأبيه، قال الجهينى (1): والله ما كان سعد ليخنى بابنه في وسقة من تمر، وأرى وجهًا حسنًا وفعالاً شريفًا ... وأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة كل يوم جزورًا، فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره، وقال: تريد أن قخفر ذمتك ولا مال لك (2)، وجاء في رواية أخرى: .... أقبل أبو عبيدة ومعه عمر، فقال: عزمت عليك أن لا تنحر أتريد اْن تخفر ذمتك؟ قال قيس: يا أبا عبيدة، أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة لا يقضي عني وسقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله، فكاد أبو عبيدة أن يلين له وجعل عمر يقول: اعزم فعزم عليه وأبي أن ينحر، وبقي جزوران، فقدم بهما قيس المدينة ظهرًا يتعاقبون عليهما، وبلغ سعدًا فقال: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال: نحرت، قال: أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، قال: ثم ماذا؟، قال: نحرت، قال: أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نُهيت، قال: من نهاك؟ قال: أبو عبيدة أميري، قال: وثم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، وأن المال لأبيك، فقلت: أبي يقضى عن الأباعد، ويحمل الكل، ويطعم الطعام في المجاعة ولا يصنع هذا بي، قال: فلك أربع حوائط أدناها حائط منه تجذ خمسين (3) وسقًا، وقدم البدوي مع قيس فأوفاه وسقته وحمله وكساه. وجاء في رواية أن الأعرابى قال: والله ما مثل أبيك ضيعت ولا تركت بغير مال، فأبوك سيد من سادات قومك، نهانى الأمير أن أبيعه، فقلت: لم؟ قال: لا مال له، فلما انتسب عرفته وتقدمت لما أعرف أنك تسمو إلى معالي الأخلاق وجسيمها، وإنك غير مدبر، ولا معرفة لديك، فأعطى ابنه يومئذ أموالاً عظامًا (4). وفى هذه القصة قيم ودووس وعبر كثيرة منها:
أ- ضرورة الصبر لأصحاب الدعوة لأنهم سيمرون بمشاق عظيمة.
ب- أهمية تربية الأبناء على الكرم والمروءة ومكارم الأخلاق، وهذا واضح في تربية سعد لابنه قيس وإعطاؤه الأموال العظيمة تشجيعًا له للمضي في طريق المروءة والكرم.
__________
(1) أي يسلمه ويخفر ذمته.
(2) تاريخ ابن عساكر (92/ 280).
(3) تاريخ ابن عساكر (92/ 280).
(4) تاريخ ابن عساكر (92/ 280).(1/304)
ج- أهمية وجود المال الصالح للعبد الصالح فلو لم يكن لسعد مال كثير لم يستطع قيس المساهمة في حل أزمة المجاعة.
د- وكان قيس بن سعد رضي الله عنه يقول: اللهم هب لي حمدًا ومجدًا، لا مجدًا إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم لا يصلحنى إلا القليل (1).
2 - في فتح مكة:
دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام (2)، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح (3)، مستشعراً بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز (4)، وعندما دخل مكة فاتحًا -وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحى والسياسي- رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد (5)، وهو ابن مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يردف أحدًا من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمان من الهجرة (6)، وقد حرص النبى - صلى الله عليه وسلم - على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند دخوله يوم الفتح، ولذلك عندما بلغه مقولة سعد بن عبادة لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم نستحل الكعبة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة" (7)، وأخذ الراية من سعد بن عبادة وسلمها لابنه قيس بن سعد، وبهذا التصرف الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها، وفى نفس الوقت لم يُثره، ولا أثار الأنصار، فهو لم يأخذ الراية من أنصارى ويسلمها لمهاجر، أو أنصاري آخر بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر أن لا يرضى الإنسان بأن
__________
(1) تاريخ ابن عساكر: (52/ 284).
(2) مسلم، رقم (1358).
(3) البخاري، رقم (4281)، ك المغازى.
(4) صور وعبر من الجهاد النبوى في المدينة، ص (396).
(5) البخاري، رقم (4289).
(6) السيرة النبوية لأبى الحسن الندوي، ص (337).
(7) البخاري، ك المغازى، (5/ 108)، رقم (4280).(1/305)
يكون أحد أفضل منه إلا ابنه (1). وفى هذه الحادثة تظهر حكمة النبى - صلى الله عليه وسلم - في كيفية تصحيح الخطأ وأسلوبه في التعامل مع النفوس، فلم يترك خطأ سعد يمر، وفى نفس الوقت راعى نفسيته، فصحح خطأ سعد وأعطى الراية ابنه.
3 - في عهد الصديق رضي الله عنه:
كانت أواصر النسب بين الصديق وقيس بن سعد بن عبادة من القوة بمكان، فقد تزوج قيس رضي الله عنه قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق (2)، وقد ذكر ابن عبد البر خبرًا حكم عليه بالصحة حيث قال: توفى -سعد بن عبادة - عن حمل لم يعلم به، فلما ولد -وقد كان سعد رضي الله عنه قسم ماله في حين خروجه من المدينة بين أولاده- فكلم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما في ذلك قيسًا، وسألاه أن -ينقض ما صنع سعد من تلك القسمة، فقال: نصيبى للمولود، ولا أغير ما صنع أبي ولا أنقصه- خبر صحيح من رواية الثقات (3)، وهذا الخبر الصحيح يبين بطلان الرواية الباطلة التى تنسب لسيد الأنصار العمل على شق عصا المسلمين، والتنكر لكل ما قدمه من نصرة وجهاد وإيثار للمهاجرين والطعن بإسلامه من خلال ما ينسب إلى سعد بن عبادة من قول: لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتى، وأخضب سنان رمحي، وأضرب سيفي، فكان لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع بجماعتهم ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهم، حتى هلك أبو بكر (4)، فقد استغلت هذه الرواية الباطلة للطعن بوحدة المهاجرين والأنصار وصدق أخوتهم، فالراوى صاحب هوى وهو إخبارى تالف لا يوثق به (5) ولا سيما في المسائل الخلافية وهو لوط بن يحيى أبو مخنف متروك، ولم يعتد بأبي مخنف ويعتبر بروايته ويعتمد عليها سوى الشيعة، فقد كان من أعظم
__________
(1) قيادة الرسول السياسية والعسكرية، ص (196).
(2) البداية والنهاية (11/ 355).
(3) الاستيعاب (3/ 1289).
(4) تاريخ الطبري (4/ 42) لا يفيض بإفاضتهم: أي في الحج.
(5) ميزان الاعتدال في نقد الرجال (3/ 2992).(1/306)
مؤرخي الشيعة على قول ابن القمي (1)، وزعمت رواية أخرى في غاية الضعف بأن سعد عاش حتى عهد عمر حيث قالت: .. فلما ولى عمر، لقيه فقال: إيه يا سعد؟ فقال: إيه يا عمر؟ فقال عمر: أنت صاحب ما أنت صاحبه؟ قال: نعم. وقد أفضى إليك هذا الأمر، وكان صاحبك والله أحب إلينا منك، وقد أصبحت كارهًا لجوارك، قال: من كره ذلك تحول عنه. فلم يلبث إلا قليلاً حتى انتقل إلى الشام. فمات بحوران (2).
إن الرواية الصحيحة تبين بأن سعد بن عبادة مات في خلافة الصديق كما مر معنا، كما أن سعد بن عبادة رضي الله عنه بايع أبا بكر بالخلافة في أعقاب النقاش الذي دار في سقيفة بنى ساعدة إذ أنه نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وبايع للصديق بالخلافة، وكان ابن عمه بشير بن سعد الأنصارى أول من بايع الصديق رضي الله عنهم في اجتماع السقيفة، ولم يثبت النقل الصحيح أية أزمات، لا بسيطة ولا خطيرة، ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في الخلافة كما زعم بعض كتاب التاريخ، ولكن الأخوة الإسلامية ظلت كما هي، بل ازدادت توثقًا كما يثبت ذلك النقل الصحيح، ولم يثبت النقل الصحيح تآمرًا حدث بين أبي بكر وعمر وأبى عبيدة لاحتكار الحكم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3)، فهم كانوا أخشى لله وأتقى أن يفعلوا ذلك (4)، وقد حاول بعض الكُتَّاب من المؤرخين من أصحاب الأهواء أن يجعلوا من السيد الكبير الشريف، أبو قيس الأنصارى الخزرجي الساعدي المدني، النقيب سيد الخزرج (5) سعد بن عبادة رضى الله عنه منافسًا للمهاجرين يسعى للخلافة بالشر، ويدبر لها المؤامرات ويستعمل في الوصول إليها كل أسأليب التفرقة بين المسلمين. هذا الرجل -الذي هو والد قيس- إذا راجعنا تاريخه وتتبعنا مسلكه، وجدنا مواقفه مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجعله من الصفوة
__________
(1) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبرى: د. يحيى البحيي، ص (45، 46).
(2) سير أعلام النبلاء (1/ 277) إسنادها في غاية الضعف لأن الواقدى متروك، ومحمد بن صالح التمار
صدوق يخطئ، والزبير بن منذر مستور.
(3) استخلاف أبو بكر - جمال عبد الهادي، ص (50 - 53).
(4) أبو بكر الصديق، للصلابي، ص (144).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 270).(1/307)
الأخيار الذين لم تكن الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ علمهم، فهو النقيب في بيعة العقبة الثانية حتى لجأت قريش إلى تعقبه قرب مكة وربطوا يديه إلى عنقه وأدخلوه مكة أسيرًا حتى أنقذه منهم جبير بن مطعم بن عدي حيث كان يجيرهم في المدينة وهو من الذين شهدوا بدرًا (1)، وحظى بمقام أهل بدر ومنزلتهم عند الله، وكان من بيت جود وكرم وشهد له ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتمد عليه -بعد الله- وعلى سعد بن معاذ كما في غزوة الخندق عندما استشارهم في إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن الفزارى، فكان رد سعد بن عبادة يدل على عمق الإيمان وكمال (2) التضحية. فمواقف سعد مشهورة ومعلومة، فهذا الصحابي الجليل صاحب الماضى المجيد في خدمة الإسلام والصحبة الصادقة لرسول الله لا يثبت ولا يعقل أنه كان يريد أن يحيى العصبية الجاهلية في مؤتمر السقيفة لكي يحصل في غمار هذه الفرقة على منصب الخلافة، كما أنه لم يثبت ولم يصح ما ورد في بعض المراجع من أنه -بعد بيعة أبي بكر- كان لا يصلي بصلاتهم ولا يفيض في الحج بإفاضتهم (3)، كأنما انفصل سعد بن عبادة رضي الله عنه عن جماعة المسلمين (4)، فهذا باطل ومحض إفتراء، فقد ثبت من خلال الروايات الصحيحة أن سعدًا بايع أبا بكر، فعندما تكلم أبو بكر يوم السقيفة، فذكر فضل الأنصار وقال: ولقد علمتم أن رسول الله قال: لو سلك الناس واديًا، وسلكت الأنصار واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار (5). ثم ذكر سعد بن عبادة بقول فصل وحجة لا ترد فقال: ولقد علمت يا سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم.
قال سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء (6)، فتتابع القوم على البيعة وبايع سعد (7)، وبهذا تثبت بيعة سعد بن عبادة، وبها يتحقق إجماع الأنصار على بيعة
__________
(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 594).
(2) الخلافة والخلفاء الراشدون، سالم البهنساوي، ص (48).
(3) المصدر نفسه، ص (49).
(4) المصدر نفسه، ص (49).
(5) البخاري، ك التمني - رقم (7244).
(6) السلسلة الصحيحة، رقم (1156)، مسند أحمد، رقم (18).
(7) الأنصار في العصر الراشدي، ص (102)، تاريخ الطبري (3/ 223).(1/308)
الخليفة أبي بكر، ولا يعود أي معنى للترويج لرواية باطلة، بل سيكون ذلك متناقضًا للواقع واتهامًا خطيرًا أن بنسب لسيد الأنصار العمل على شق عصا المسلمين، والتنكر لكل ما قدمه من نصرة وجهاد، وإيثار للمهاجرين، والطعن بإسلامه من خلال ما ينسب إليه من قول ثبت بطلانه. وقد لبينا أن إسناده في غاية الضعف، وأما متنه فهو يناقض سيرة سعد بن عبادة! وما في عنقه من بيعة على السمع والطاعة ولما روى عنه من فضائل (1). هذا وقد كان لسعد وصية أوصى بها ابنه جاء فيها: يا بني أوصيك بوصية فاحفظها؛ فإن أنت ضيعتها فأنت لغيرها من الأمر أضيع؛ إذا توضأت فأتمم الوضوء، ثم صل صلاة امرئ ى دع يرى إنك لا تعود، وأظهر اليأس من الناس، فإنه غنى، وإياك وطلب الحوائج إديهم فإنه فقر حاضر، وإياك وكل شيء يعتذر منه (2).
4 - في عهد علي رضي الله عنه:
استشهد عثمان رضى الله عنه وعلى مصر محمد بن أبي حذيفة مغتصبًا للولاية فيها، ولم يقره عثمان عليها، وبعد وفاة عثمان أقره عليّ على مصر فترة من الوقت لم تطل، حيث وجه معاوية جيشًا إلى نواحى مصو فظفر بمحمد بن أبي حذيفة فقبض عليه ثم سجن وقتل (3)، وقد ذكر أن عليًا لم يعين محمد بن أبي حذيفة على مصر وإنما تركه على حاله حتى إذا قتل عين على قيس بن سعد الأنصاري على ولاية مصر (4)، فقال له: سر إلى مصر وليتكها واخرج إلى رحلك واجمع إليه ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله. فأحسن إلى المحسن واشتد على المريب وارفق بالعامة والخاصة فإن الرفق يمن (5)، وقد ظهر ذكاء قيس وحسن تصرفه في العديد من المواقف؛ فإنه حين توجه إلى مصر كان فيها مجموعة ممن غضبوا لمقتل عثمان، ومجموعة ممن اشتركوا في قتله، ولقد لقيته
__________
(1) الأنصار قى العصر الراشدي؟ ص (102، 103).
(2) تاريخ ابن عساكر (22/ 181).
(3) ولاة مصر للكندي، ص (42، 43)، الولاية على البلدان (2/ 9).
(4) ولاة مصر، ص (44)، النجوم الزاهرة (1/ 94).
(5) الكامل في التاريخ (2/ 354).(1/309)
خيل من مصر قبل دخوله إليها فقالوا: من أنت؟ قال: من فألة عثمان، فأنا أطلب من أوى إليه فانتصر به لله، قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد، قالوا: امض فمضى حتى دخل مصر (1)، وهذا الموقف الذي لقيس هو الذي مكنه من دخول مصر، ثم أعلن بعد ذلك أنه أمير، وربما لو أنه أعلن لهؤلاء الأجناد أنه أمير لمنعوه من دخول مصر أصلاً، كما حدث لمن وجهه عليّ إلى الشام فمنعته أجناد الشام من دخولها حينما علموا أنه قد بعث أميرًا على الشام (2)، وحينما وصل قيس بن سعد إلى الفسطاط صعد المنبر وخطب في أهل مصر، وقرأ عليهم كتابًا من على ابن أبي طالب رضي الله عنه وطلب البيعة لعلى (3)، وهنا انقسم أهل مصر إلى فريقين فريق دخل في بيعة على وبايعوا قيسًا، وفريق توقف واعتزل، وكان قيس ابن سعد حكيمًا مع الذين بايعوا والذين امتنعوا، حيث لم يجبرهم على البيعة وكف عنهم وتركهم في حالهم (4)، ولم يكتف بذلك بل إنه بعث لهؤلاء أعطياتهم في مكان اعتزالهم، ووفد عليه قوم منهم فأكرمهم وأحسن إليهم (5)، فساعدت تلك المعاملة الطيبة على تجنب الصدام بهم، وبالتالى ساعدته على هدوء الأوضاع بمصر، حتى استطاع قيس أن ينظم الأمور فيها، فوزع الأمراء ونظم أمور الخراج وعين رجالات على الشرطة (6)، وبذلك استطاع أن يرتب ولاية مصر، وأن يسترضى جميع الأطراف فيها (7)، وأصبح قيس بن سعد في هذا الموقع يشكل ثقلاً سياسيًا وخطرًا عسكريًا على معاوية بن أبي سفيان في الشام، ونظرًا لقرب مصر من الشام ولترتيب قيس لها وتنظيمها، وما اشتهر عن قيس من حزم ودهاء، وخوف معاوية من حركات عسكرية مناوئة له تخرج من مصر، ولذلك فإنه أخذ يراسل قيس بن سعد في مصر مهددًا له، وفى الوقت نفسه يحاول إغراءه
__________
(1) الفألة: الجماعة المنهزمون، لسان العرب (11/ 531).
(2) الولاية على البلدان (2/ 10) نقلاً عن نهاية الأرب في تاريخ العرب للنويرى.
(3) تهذيب تاريخ دمشق (4/ 39).
(4) ولاة مصر، ص (44).
(5) ولاة مصر، ص (44).
(6) الولاية على البلدان (2/ 11)، النجوم الزاهرة (1/ 98).
(7) الولاية على البلدان (2/ 11).(1/310)
بالانضمام إليه وكانت إجابات قيس على تلك الرسائل إجابات ذكية بحيث لم يستطع معاوية أن يفهم موقف قيس وما ينوى عمله، وقد تعددت بينهما الرسائل (1)، وقد انتشرت الروايات الشيعية من الرسائل بين معاوية وقيس بن سعد التى ذكرها أبو مخنف في كتب التاريخ وهى باطلة لا تصح، فقد انفرد بها هذا الرافضي التالف الذي ضعفه رجال الجرح والتعديل بها، وفى متن تلك الرواية الساقطة غوائب من أبرزها ما يلى:
أ- خطاب على إلى أهل مصر مع قيس بن سعد وفيه: ثم ولى بعدهما وال فأحدث أحداثًا فوجدت عليه الأمة مقالاً فقالوا ثم نقموا عليه فغيروا، وهذا يعني أن الذين قاموا على عثمان رضي الله عنه، رجال الأمة، وأن الأمة قد غيرت هذا المنكر بقتل عثمان، وعلى رضي الله عنه برئ من هذا القول، وهو يعلم أن الذين قتلوا عثمان هم أوباش الناس وأن قتله ظلم وفجور، وأقواله تدل على ذلك ومنها ما رواه ابن عساكر أن محمد بن الحنفية قال: ما سمعت عليًا ذاكرًا عثمان بسوء قط (2)، وأخرج الحاكم وابن عساكر أن عليًا رضي الله عنه قال: اللهم إنى أبرأ إليك من دم عثمان. ولقد طاش عقلى يوم قتل عثمان وأنكرت نفسى، وجاؤونى للبيعة فقلت: والله إنى لأستحى من الله أن أبايع قومًا قتلوا رجلاً قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا أستحى ممن تستحى منه الملائكة وإنى لأستحى من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا فلما دفن رجع الناس يسألوننى البيعة، فقلت: اللهم إنى مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت، فلما قالوا: أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبى وانسكب (3) بعبرة، وقد أرسل الحسن والحسين رضي الله عنهما للدفاع عن عثمان رضي الله عنه وأقواله في هذا المعنى كثيرة (4)، وقد جمعتها في كتابى تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان (5).
__________
(1) الكامل (2/ 355)، الولاية على البلدان (2/ 11).
(2) تاريخ ابن عساكر ترجمة عثمان، ص (395).
(3) المستدرك (2/ 355) صحيح على شرط الشيخين.
(4) مرويات أبي مخنف د. يحيى اليحيى، ص (211).
(5) عثمان بن عفان، للصلابى، ص (407 - 409).(1/311)
ب- قول قيس بن سعد: أيها الناس إنا قد بايعنا خير ما نعلم بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا مردود؛ إذ أن الثابت تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، على بقية الصحابة وعلى علىٍّ رضي الله عنه كما صح عن على نفسه أنه صرح بذلك وهذا لا يشك فيه أحد في ذلك الزمان من الصحابة وغيرهم، وعليه فلا يصح نسبة هذا الكلام لقيس بن سعد رضي الله عنه ولا لغيره من الصحابة، ولم يشتهر هذا إلا عند الشيعة الروافض المتأخرين (1)، قال ابن تيمية: الشيعة المتقدمون كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر (2)، والأدلة في تفضيل أبي بكر وعمر كثيرة منها ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبى - صلى الله عليه وسلم -، فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان (3)، والأحاديث في ذلك كثيرة (4)، ومشهورة وحقيقة الأمر كما مر معنا في الروايات. الصحيحة السابقة أن معاوية طلب من أمير المؤمنين تسليمه قتلة عثمان ولم يتهم أمير المؤمنين على به.
ج- رسالة معاوية إلى قيس بن سعد: وإشارته فيها إلى كون على طرفًا في قتل عثمان، وهذا لا يصح صدوره من معاوية، ذلك أن الأمر واضح فيه براءة على رضى الله عنه كما في الفقرة السابقة وهذا لا يجهله معاوية رضي الله عنه فضلاً أن يُقره لقيس بن سعد رضى ألله عنهما، وهذا محمد بن سيرين من كبار التابعين ومن الذين عاصروا ذلك المجتمع يقول: لقد قتل عثمان وما أعلم أحدًا يتهم عليًا في قتله (5)، ويقول أيضاً: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار يومئذ لغاصة، فيهم عبد الله بن عمر، وفيهم الحسن بن علي في عنقه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم أن لا يقاتلوا (6)، وأخرج ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن محمد بن الحنفية أن عليًا قال: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل والبر
__________
(1) مرويات أبي مخنف، ص (211).
(2) منهاج السنة (1/ 111).
(3) البخاري، رقم (3697).
(4) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبرى، ص (212).
(5) تاريخ ابن عساكر ترجمة عثمان، ص (395)، مرويات أبي مخنف، ص (212).
(6) تاريخ ابن عساكر، ص (350).(1/312)
والبحر (1)، والنصوص الصحيحة في هذا المعنى كثيرة جدًا (2)، مما يؤكد اشتهار كراهية علي رضي الله عنه لقتل عثمان (3).
د- وأما ما أورده من اتهام معاوية للأنصار في دم عثمان فهذا لا يصح من معاوية وهو يعلم أن الذي قام بالدفاع جميعًا هم الأنصار، فقد أخرج ابن سعد بسند صحيح أن زيد بن ثابت رضي الله عنه جاء إلى عثمان رضي الله عنه وهو محصور فقال: هذه الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، قال: فقال عثمان: أما القتال فلا (4).
هـ- ما ذكره من اختلاق معاوية كتابًا على لسان قيس بن سعد، فهذا من الكذب الذي لا يعقل صدوره من معاوية، ذلك أن العرب كانوا يعدون الكذب من أقبح الصفات التى يتنزه عنها الرجال الكرام، وهذه قصة أبي سفيان وهو يومئذ على الشرك فيما أخرجه البخاري في قصة سؤال هرقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من يأثرون على كذبًا لكذبت عنه (5)، فهذه منزلة الكذب عند العرب، وعند المسلمين أشد وأخزى. ولا يقول قائل: هذه خدعة، والحرب خدعة؛ فإن الخدعة ليس معناها الكذب، كما هو معلوم من كلام العرب، ومعاوية رضي الله عنه أحذق من أن يفعل هذا (6).
و- رواية هذه الكتب الكثيرة بين قيس ومعاوية وعلى رضي الله عنهم بهذا التسلسل وبهذه الدقة تدخل الشك والريبة على القارئ لجهالة المطلع والناقل لها. يقول الدكتور يحيى اليحيى: إن ولاية قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما على مصر من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر مجمع
__________
(1) المصنف (15/ 268).
(2) تاريخ ابن عساكر ترجمة عثمان، ص (395).
(3) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبرى، ص (213).
(4) الطبقات (3/ 70) سنده صحيح.
(5) البخاري، رقم (7).
(6) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، ص (214).(1/313)
عليه (1)، وكل من ترجم لقيس لم يذكر هذه التفاصيل (2) - أي التى ذكرها أبو مخنف في روايته -وحتى مؤرخو مصر المعتبرون لم يذكروا ذلك (3)، هذا وقد نقل رواية أبي مخنف من الطبرى بعد حذف واختصار كل من: ابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون، وابن تغرى بردى (4)، وقد أخرج الكندى أيضاً عن عبد الكريم الحارث قال: لما ثقل مكان قيس على معاوية كتب إلى بعض بنى أمية بالمدينة: أن جزى الله قيس بن سعد خيرًا واكتموا ذلك؛ فإنى أخاف أن يعزله على إن بلغه ما بينه. وبين شيعتنا حتى بلغ عليًا فقال من معه من رؤساء أهل العراق وأهل المدينة: بدل قيس وتحول، فقال على: ويحكم إنه لم يفعل، فدعونى، قالوا لتعزله فإنه بدل، فلم يزالوا به حتى كتب إليه: إنى قد احتجت إلى قربك، فاستخلف على عملك وأقدم (5)، وقد رجح هذه الرواية الدكتور اليحيى في كتابه القيم مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبرى قال:
- أنها من رواية مصرى ثقة وهو أعلم بقطره من غيره.
- أخرجها مؤرخ مصرى.
- خلوها من الغرائب.
- متنها مما يتفق مع سيرة أولئك الرجال.
- بينت تردد على في عزل قيس حتى ألح عليه الناس، فاستبقاه عنده وهكذا القائد لا يفرط بالقيادات الحاذقة وقت المجن (6).
هذا وقد تدخل بعض الناس للإفساد بين على وقيس بن سعد لكى يعزله وفى نهاية المطاف طلب بعض مستشارى على منه أن يعزل قيسًا وصدقوا تلك الإشاعات التى قيلت فيه، وألحوا في عزله، فكتب إليه على: إنى قد احتجت إلى
__________
(1) تاريخ خليفة، ص (201)، فتوح مصر، ص (274)، سير أعلام النبلاء (3/ 12).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 52)، تاريخ بغداد (1/ 177) سير أعلام النبلاء (3/ 102).
(3) النجوم الزاهرة (1/ 97)، البداية والنهاية (7/ 251).
(4) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبرى، ص (210).
(5) ولاة مصر، ص (45، 46) وفيها المدائنى وهو صدوق وبقية رجالها ثقات إلا أنها مرسلة.
(6) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبرى، ص (210).(1/314)
قربك فاستخلف على عملك وأقدم (1). كان هذا الكتاب بمثابة عزل لقيس عن ولاية مصر، وقد عين على مكانه الأشتر النخعى (2)، على أكثر الأقوال، وقد التقى علي بالأشتر قبل سفره إلى مصر، فحدثه حديث أهل مصر وخبره خبر أهلها، وقال: ليس لها غيرك اخرج رحمك الله؛ فإنى إن لم أوصك اكتفيت برأيك واستعن بالله على ما أهمك فأخلط الشدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ واعزم بالشدة حين لا يغنى عنك إلا الشدة (3)، وقد توجه الأشتر إلى مصر ومعه رهط من أصحابه إلا أنه حينما وصل إلى أطراف بحر القلزم -البحر الأحمر- مات قبل أن يدخل مصر، وقد قيل إنه سقى شربة مسمومة من عسل فمات منها، وقد اتهم أناس من أهل الخراج أنهم سموه بتحريض من معاوية (4)، والتهمة الموجهة إلى معاوية في قتل الأشتر بالسم لا تثبت من طريق صحيح واستبعد ذلك ابن كثير (5)، وابن خلدون (6)، وسار على نهجهم الدكتور يحيى اليحيى (7)، وملت إلى هذا القول، هذا وقد مات الأشتر قبل أن يباشر عمله في مصر، ومع ذلك فإن المصادر تتحدث عنه كأحد ولاة مصر لعلي بن أبي طالب، وقد ولى بعده على مصر محمد بن أبي بكر (8)، وقد سبق لمحمد بن أبي بكر أن عاش في مصر قبل أن يغادرها الوالى الأول قيس بن سعد، وقد دارت محاورة بين قيس بن سعد ومحمد بن أبي بكر قدم فيها قيس عدة نصائح لمحمد، خصوصًا فيما يتعلق بالناس الغاضبين لمقتل عثمان، والذين لم يبايعوا عليًا بعده وقد قال قيس: يا أبا القاسم إنك قد جئت من عند أمير المؤمنين وليس عزله وإياى بمانعى أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، ودع هؤلاء القوم ومن انضم إليهم -يقصد الذين لم يبايعوا عليًا ولا غيره- على ما هم عليه؛ فإن أتوك، فاقبلهم وإن
__________
(1) ولاة مصر، ص (45، 46).
(2) فتوح البلدان، ص (229)، الولاية على البلدان (2/ 12).
(3) النجوم الزاهرة (1/ 103).
(4) المصدر نفسه (1/ 104)، سير أعلام النبلاء (4/ 34).
(5) البداية والنهاية (8/ 303).
(6) تاريخ ابن خلدون (4/ 112).
(7) مرويات أبي مخنف، ص (224).
(8) النجوم الزاهرة (1/ 106).(1/315)
تخلفوا عنك فلا تطلبهم، وأنزل الناس على قدر منازلهم، وإن استطعت أن تعود المرضى وتشهد الجنائز فافعل فإن هذا لا ينقصك (1). ثم رجع قيس إلى المدينة وبعدها التحق بأمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالكوفة وشهد معه معركة صفين وهو القائل يومها:
هذا اللواء الذي كُنا نحف به ... مع النبى وجبريل لنا مدد
ما ضر من كانت الأنصار عيبته (2) ... أن لا يكون له من غيرهم أحد
قوم إذا حاربوا طالت أكُفُهمُ ... بالمشرفية حتى يفتح البلد (3)
وبقى مع أمير المؤمنين علي حتى قتل. فصار مع الحسن في مقدمته إلى معاوية، فلما بايع الحسن معاوية -وسيأتي تفصيلها بإذن الله- دخل قيس في بيعة معاوية، وعاد إلى المدينة (4)، وأقبل على العبادة (5).
5 - قول قيس: إنا لا نعود في شيء أعطيناه (6):
عن موسى بن أبي عيسى أن رجلاً استقرض من قيس بن سعد بن عبادة ثلاثين ألفًا، فلما ردها عليه أبي أن يقبلها وقال: إنا لا نعود في شيء أعطيناه (7).
6 - قول قيس: لقد سألت فأحسنت (8):
جاءت عجوز إلى قيس بن سعد بن عبادة قد كان يعرفها، فقال لها: كيف أنت؟ فقالت: أحمد الله إليك ما في بيتى فأرة تدب، فقال: لقد سألت فأحسنت، لأملان عليك بيتك فأرًا، فأمر لها بدقيق كثير وزيت وما يحتاج إليه معها وانصرفت (9). وقد ذكرها ابن عبد البر وقال: مشهورة صحيحة (10).
__________
(1) تاريخ ابن عساكر (22/ 181).
(2) عيبة الرجل: موضع سره.
(3) المشرفية: سيوف منسوية إلى المشارف وهى قرى من أرض اليمن.
(4) أسد الغابة (4/ 452).
(5) الاستيعاب (3/ 1290).
(6) المصدر نفسه (3/ 1291)
(7) المصدر نفسه (3/ 1291)
(8) تاريخ دمشق (52/ 286).
(9) تاريخ دمشق (52/ 286).
(10) الاستيعاب (3/ 1292).(1/316)
7 - حال الرجل الذي تمنى قيس أن يعمل مثله (1):
قال قيس بن سعد: تمنيت أن أكون في حال رجل رأيته، أقبلنا من الشام، فإذا نحق بخباء، فقلنا: لو نزلنا ها هنا فإذا امرأة في الخباء، فلم نلبث أن جاء رجل بذود له، فقال لامرأته: من هؤلاء؟ فقالت: قوم نزلوا بك، فجاء بناقة فضرب عرقوبيها ثم قال: دونكم، وقال: يا هؤلاء انحروها، قال: فنحرناها فأصبنا من أطايبها، فلما كان من الغد جاءنا بأخرى، فضرب عرقوبيها، وقال: يا هؤلاء انحروها، قال: فنحرناها، فقلنا: اللحم عندنا كما هو قال: إنا لا نطعم أضيافنا الغاب، قال: فقلت لا"صحابى: إن هذا الرجل إن أقمنا عنده لم يبق عنده بعير، فارتحلوا بنا، وقلت لقيمى: اجمع ما عندك، قال: ليس إلا أربع مائة درهم، قلت: هاتها، وهات كسوتى، فجمعناها فقلت: بادروه، فدفعناه إلى امرأته، ثم سرنا، فلم نلبث أن رأينا شخصًا، فقلت: ما هذا؟ قالوا: لا ندرى، فدنا، فإذا رجل على فرس يجر رمحه، فإذا صاحبنا، فقلت: وأسوأتاه استقل والله ما أعطيناه، قال: فدنا، فقال: دونكم متاعكم، فخذوه فقلت: والله ما كان إلا ما رأيت، ولقد جمعنا ما كان عندنا، قال: إنّى والله لم أذهب حيث تذهبون، فخذوه، قلنا: فلا نأخذه، قال: والله لأميلنّ عليكم برمحى ما بقى منكم رجل أو تأخذونه، قال: فأخذناه فوليّ وقال: إنا لا نبيع القِرَى (2)، أي الضافة.
8 - أسخى الناس هل قيس بن سعد، أم عبد الله بن جعفر، أم عرابة الأوسى؟
امترى ثلاثة في الأجواد، فقال رجل: أسخى الناس عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقال آخر: أسخى الناس في عصرنا هذا قيس بن سعد بن عبادة، وقال الثالث: أسخى الناس عرابة الأوسى، فتلاحوا وأفرطوا وكثر ضجيجهم في ذلك بفناء الكعبة، فقال لهم رجل: قد أكثرتم، فلا عليكم يمضى كل منكم إلى صاحبه، يساله حتى ينظر ما يعطيه، ونحكم على العيان، فقام صاحب عبد الله بن جعفر، فصادفه وقد وضع رجله في غرز راحلته، يريد ضيعة له، فقال له: يا ابن عم رسول - صلى الله عليه وسلم -، قال: قل ما تشاء، قال: ابن سبيل ومنقطع به، قال: فأخرج
__________
(1) تاريخ دمشق (52/ 285).
(2) تاريخ دمشق (52/ 285).(1/317)
رجله من الغرز وقال: ضع رجلك واستو على الناقة، وخذ ما في الحقيبة، ولا تحد عن السيف، فإنه من سيوف علي بن أبي طالب وامض لشأنك، قال: فجاء بالناقة والحقيبة فيها مطاوف خزّ، وفيها أربعة آلاف ينار، وأعظمها وأجلها خطرًا السيف.
ومضى صاحب قيس بن سعد بن عبادة فلم يصادفه وعاد، فقالت له الجارية: هو نائم فما حاجتك إليه؟ قال: ابن سبيل ومنقطع به، قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبع مائة دينار، ما في دار قيس مال في هذا اليوم غيره، وامضي إلى معاطن الإبل إلى مولانا بغلامينا، فخذ راحلةٍ مرحّلة، وما يصلحها، وعبدًا، وامض لشأنك، فقيل: إن قيسًا انتبه من رقدته، فخبرته المولاة بما صنعت، فأعتقها، وقال لها: ألا نبهتنى فكنت أزيده من عروض ما في منزلنا، فلعل ما أعطيته لم يقع بحيث ما أراد.
ومضى صاحب عرابة الأوسي إليه فألفاه وقد خرج من منزله يريد الصلاة، وهو متوكّئ. على عبدين، وقد كُفّ بصره فقال: يا عرابة، قال: قل ما تشاء قال: ابن سبيل ومنقطع به قال: فخليّ عن العبدين، ثم صفّق بيده اليمنى على اليسرى ثم قال: أوه والله ما أصبحت ولا أمسى وقد تركت الحقوق لعرابة من مال، ولكن خذهما فهما حرّان، وإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ، وأقبل يلتمس الحائط بيده قال: فأخذهما وجاء بهما قال: فحكم الناس على ابن جعفر قد جاء بمال عظيم، وإن ذلك ليس بمستنكر له إلا أن السيف أجلهّا، وأن قيسًا أحد الأجواد حكّم مملوكة في ماله بغير علمه، واستحسانه ما فعله وعتقه لها، وما تكلم به، وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسى لأنه جهد من مُقّل (1). ومن قيم ذلك العصر الواضحة المعالم التنافس في الكرم والجود وفعل الخير.
9 - خبر منسوب إلى قيس لا يصح إثباته:
بعث قيصر إلى معاوية بن أبي سفيان، أن ابعث على سراويل أطول رجل من العرب، فقال لقيس بن سعد: ما أظننا إلا قد احتجنا إلى سراويلك، قال: فقام
__________
(1) تاريخ دمشق (52/ 286).(1/318)
فتنحىّ فجاء بها فألقاها إلى معاوية، فقال معاوية: رحمك الله، ما أردت إلا هذا؟ ألا ذهبت إلى منزلك ثم بعثت بها إلينا؟ فقال قيس:
أردت بها كى يعلم الناس أنّها ... سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادى نمته ثمود
وإنى من الحيّ اليمانى لسيدٌ ... وما الناس إلاّ سيد ومسود
فكدهم بمثلى إن مثلى عليهم ... شديد وخلقى في الرجال مديد
قال: فأمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه فوقعت بالأرض، قال: فدعا معاوية بسراويل، فلما جيء بها. قال له قيس: نح عنك ثيابك هذه،
فقال معاوية:
أما قريش فأقوام مسرولة ... واليثربيون أصحاب التبابين
فقال قيس:
تلك اليهود التى يعنى ببلدتنا ... كما قريش هم أهل السخاخين (1)
وجاء في رواية أخرى: أن قيصر كتب إلى معاوية: إنِّى قد وجهت إليك رجلين: أحدهما أقوى رجل ببلادي، والآخر أطول رجل في أرضى، وقد كانت الملوك تتجارى في مثل هذا وتتحاجى به، فأخرج إليهما ممن في سلطانك من يقاوم كلّ واحد منهما، فإن غلب صاحباك حملت إليك من المال وأسارى المسلمين كذا وكذا، وإن غلب صاحباي هانتنى ثلاث سنين، فلما ورد كتاب قيصر على معاوية أهمّه وشاور فيه أصحابه فقيل له: أما الأيد فادع لمناهضته إما محمد ابن الحنفية وإما عبد الله بن الزبير، فقال: فأحضر محمد بن علي والأيد الرومى حاضر، فأخبره بما دعاه له، فقال محمد للرومى: ما تشاء؟ فقال: يجلس كلّ واحد منا ويدفع يده على صاحبه، فمن قلع صاحبه من موضعه أو رفعه عن مكانه فقد فلح عليه، ومن عجز عن ذلك وقهره صاحبه قضى بالغلبة له، فقال محمد: هذا لك، فاختر أينا يبدأ بالجلوس، فقال له: اجلس أنت، فجلس وأعطاه يديه، فجعل يمارسه ويجتهد في إزالته عن موضعه فلم يتحرك محمد، وظهر
__________
(1) تاريخ دمشق (52/ 293، 294).(1/319)
عجز الرومى لمن حضر، فقال له محمد: اجلس الآن، فجلس وأخذ بيده فما لبث أن اقتلعه ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض، فسّر معاوية وحاضروه من المسلمين. وقال معاوية لقيس بن سعد والرومى الطوال: تطاولا، فقال قيس: أنا أخلع سراويلى ويلبسها هذا العلج، فإن ما بيننا يبين بذلك، ثم خلع سراويله، وألقاها إلى الرومى فلبسها، فبلغت ثدييه وانسحب بعضها في الأرض، فاستبشر الناس بذلك، وجاءت الأنصار إلى قيس فقالت له: تبذَّلت بين يدى معاوية ولو كنت مضيت إلى منزلك وبعثت بالسراويل إليه، فقال:
أردت لكيما يعلم الناس ... أنهما سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادّى نمته وتمود
وإني من القوم الثمانين سيّدٌ ... وما الناس إلا لسيّد ومسود
وفضلنى في الناس أصلى ووالدى ... وباع به أعلو الرجال مديد (1)
قال أبو عمر بن عبد البر حافظ الأندلس الشهير: خَبُره في السراويل عند معاوية كذب وزور مختلق ليس لها إسناد، لا يشبه أخلاق قيس، ولا سيرته في نفسه ونزَاهته، وهى حكاية مفعلة وشعر مزور (2).
10 - دهاة العرب حين ثارت الفتنة:
كان قيس بن سعد بن عبادة من ذوي الرأي من الناس، قال ابن شهاب: وكان يعدّون دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة رهط، يقال لهم: ذوو رأى العرب في مكيدتهم: معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وقيس بن سعد والمغيرة بن شعبة، ومن المهاجرين: عبد الله بن بُديل الخُزاعى، وكان قيس وابن بديل مع على رضي الله عنه، وكان المغيرة معتزلاً بالطائف وأرضها حتى حكم الحكمان واجتمعوا بأذرح (3)، وكان قيس يقول: لولا الإسلام لمكرت مكرًا لا تطيقه العرب (4).
__________
(1) تاريخ دمشق (52/ 294).
(2) الاستيعاب (3/ 1293).
(3) تاريخ دمشق (52/ 288).
(4) المصدر نفسه (32/ 287).(1/320)
11 - لوددنا أن نشترى لقيس لحية بأموالنا (1):
ذكر الزبير بن بكار أن قيس بن عبادة، وعبد الله بن الزبير، وشريحًا القاضى، لم يكن في وجوههم شعرة ولا شيء من لحية، وذكر غير الزبير أن الأنصار كانت تقول: لوددنا أن نشترى لقيس بن سعد لحية بأموالنا. وكان مع ذلك جميلاً رضى الله عنه (2).
12 - قول قيس: لِم تَرين قلّ عوّادى؟
باع قيس بن سعد مالاً من معاوية بتسعين ألفًا، فأمر مناديًا، في أهل المدينة، من أراد القرض فليأت منزل سعد، فأقرض أربعين أو خمسين وأجاز الباقى، وكتب على من أقرضهَ صَكّا، فمرض مرضًا قلَّ عواده، فقال لزوجته قريبة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر: يا قريبة لم ترين قلّ عوادى؟ قالت: للذى لك عليهم من الدين، فأرسل إلى كلّ رجل بصكّة (3) وجاء في رواية ... فمرض واستبطأ عواده، فقيل له: إنهم يستحيون من أجل دينك، فأمر مناديًا ينادي: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو له، فأتاه الناس حتى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه (4).
13 - قيس بن سعد يطعم الناس في أسفاره:
كان قيس بن سعد يطعم الناس في أسفاره مع النبي - صلى بن عليه وسلم -، وكانت له صحفة يدار بها حيث دار، وكان إذا أنفذ ما معه يدين، قال: وكان ينادى في كل يوم: هلمَّوا إلى اللحم، والثريد (5).
14 - خبر لا يصح بين قيس ومعاوية رضي الله عنه:
قال معاوية لقيس بن سعد: إنما أنت حبر من أحبار يهود، إن ظهرنا عليك قتلناك، وإن ظهرت علينا نزعناك، فقال: إنما أنت وأبوك صنمان من أصنام
__________
(1) الاستيعاب (3/ 1292).
(2) الاستيعاب (3/ 1292).
(3) تاريخ دمشق (52/ 284).
(4) الاستيعاب (3/ 1293).
(5) تاريخ دمشق (52/ 283).(1/321)
الجاهلية، دخلتما في الإسلام كُرها وخرجتما منه طوعًا (1)، قال الذهبى: هذا منقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف.
15 - وفاة قيس بن سعد رضي الله عنه:
مات في أواخر خلافة معاوية، وذهب إلىّ ذلك خليفة بن خياط (2)، والذهبى (3)، وقال ابن حبان: مات سنة 85هـ في خلافة عبد الملك (4)، ووافق ابن حجر خليفة والذهبى (5) وقال ابن عبد البر: ... لزم قيس المدينة، وأقبل على العبادة حتى مات بها سنة ستين هجرية وقيل: سنة تسع وخمسين في آخر خلافة معاوية، وكان رجلاً طوالاً سُناطًا (6).
ثانيًا: عبيد بن بن عباس بن عبد المطلب الهاشمى "أبو محمد":
هو عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمى، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (7)،
وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن بن بجير الهزَم بن رُوَيْبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة (8)، وأخو عبد الله، وكثير، والفضل، وقُتَم، ومعبد، وتمّام (9).
1 - أولاده وزوجاته:
ولد لعبيد الله بن العباس: محمد وبه كان يكنى، وأمه الفرعة (10) بنت قطن ابن الحارث بن حزن بن بُجير بن الهُزم بن هلال بن عامر، والعباس (11)، والعالية، تزوجها علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب فولدت له محمد بن
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 111).
(2) الإصابة (5/ 361).
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 112).
(4) الإصابة (5/ 361).
(5) الإصابة (5/ 361).
(6) السناط: بالكسر، وبالضم: لا لحية له أصلاً أو الخفيف العارض، أو لحيته في الذقن وما بالعارضين شيء.
(7) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 214)، سير أعلام النبلاء (3/ 512).
(8) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 212).
(9) سير أعلام النبلاء (3/ 512).
(10) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 212).
(11) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 212).(1/322)
على، وفى ولده الخلافة من بنى العباس، وميمونة، وأمهم عائشة بنت عبد بن من مذجح (1) ولبابة وأم محمد، وأمهما عمرة بنت عَريب الحميرى (2)، وعبد الرحمن وقثم وأمهما أم حكيم بنت قارظ بن خالد الكنانية (3)، وعبد الله وجعفرًا وأمّ كلثوم وعمرة وأم العباس وأمهم أم ولد (4).
2 - عمره ورؤيته لرسول الله - صلى بن عليه وسلم -:
كان عبيد بن بن العباس أصغر سنًا من عبد بن بن العباس بسنة (5)، فكان رسول الله - صلى بن عليه وسلم - قبض وهو ابن اثنتى عشرة سنة، وقد رأى النبى - صلى بن عليه وسلم - وسمع منه (6)، وقيل له رؤية وله حديث عن النبى -صلى بن عليه وسلم- في سنن النسائى: أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبى -صلى بن عليه وسلم- تشتكى زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء زوجها، فقال: يا رسول الله هى كاذبة، وهو يصل إليها، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله - صلى بن عليه وسلم -: "ليس ذلك حتى تذوقى عسيلته" (7) وأورده أحمد من طريق هشيم لنفس الإسناد، ورجاله ثقات، إلا أنه ليس بصريح بأن عبيد بن شهد القصة (8)، وأورده الهيثمى في المجمع (9) مختصرًا عن عبيد بن والفضل بن العباس، وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح (10)، وقال الذهبى عن حديثه في سن النسائى، حكمه بأنه مرسل (11) وحدث عنه: ابنه عبد الله، عطاء، وابن سيرين، وسليمان بن يسار، وغيرهم، وكان أميرًا، شريفًا جوادًا، مُمدَّحًا (12).
__________
(1) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 212).
(2) المصدر نفسه (1/ 213).
(3) المصدر نفسه (1/ 213).
(4) نسب قريش، ص (31)، الطبقات (1/ 214).
(5) الاستيعاب (3/ 1009).
(6) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 214).
(7) سنن النسائى (6/ 148) وقد تخرف في المطبوع من عبيد الله إلى عبد الله.
(8) مسند أحمد (1/ 214) رجاله ثقات إلا أنه ليس بصريح بأن عبيد بن شهد القصة.
(9) المجمع (4/ 340) رواه أبو بعلى، ورجاله رجال الصحيح.
(10) سير أعلام النبلاء (3/ 513).
(11) سير أعلام النبلاء (3/ 513).
(12) سير أعلام النبلاء (3/ 513).(1/323)
أ- كان رسول الله يصف عبد الله وعبيد الله وكتيرًا بني العباس:
عن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله - صلى بن عليه وسلم - يصُف عبد الله وعبيد الله، وكثيرًا بني العباس، ثم يقول: من سبق إلىَّ فله كذا. فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره فيقبّلهم ويلزمهم (1).
ب- كان عبيد الله أحب إلى العباس من قثم:
قال عبد الله بن جعفر: لو رأيتنى وقُثمًا وعبيد الله ابنى العباس ونحن صبيان نلعب إذ مر النبى - صلى بن عليه وسلم - على دابة فقال: ارفعوا إلىَّ هذا، فحملنى أمامه. وقال لقُثَم: ارفعوا إليَّ هذا، فحمله وراءه، قال: وكان عبيد الله أحبَّ إلى العباس من قُثَم، فما استحيا من عمه أن حمل قثمًا وترك عبيد الله (2).
3 - استعمال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على اليمن:
استعمل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبيد الله بن العباس على اليمن، وأمَّره على الموسم، فحجّ بالناس سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين، فلما كانت سنة ثمان وثلاثين بعثه أيضاً على الموسم، وبعث معاوية في ذلك العام يزيد بن شجرة الرُّهاوي ليقيم الحج، فاجتمعا فسأل كل واحد منهما صاحبه أن يُسلم له، فأبى واصطلحا على أن يصلّى بالناس شيبة بن عثمان، وفي هذا الخبر اختلاف بين أهل السير، منهم من جعله لقُثم بن العباس، وقال خليفة: في عام أربعين بعث معاوية بسُر بن أرطأة العامرى إلى اليمن، وعليها عبيد الله بن العباس، فلم يزل عليها حتى علي رضي الله عنه (3).
4 - بسر بن أبي أرطأة وحقيقة قصة مقتل ولدي عبيد الله:
تذكر بعض كتب التاريخ بأن عبد الرحمن وقثم ابنا عبيد الله بن العباس قتلهما بسر بن أبي أرطأة باليمن، وقتل أيضاً بعض أنصار علي رضي الله عنهم هناك ثم
__________
(1) مسند أحمد (1/ 459)، رقم (1836).
(2) تاريخ دمشق (39/ 353)، الطبقات، تحقيق السلمي (2/ 14) إسناده حسن.
(3) الاستيعاب (3/ 1009).(1/324)
رجع على الشام، وكان أمير المؤمنين قد وجه جارية بن قدامة السعدى قيل ففعل مثلما فعل بسر وقتل بعض محبي عثمان في اليمن (1) قال ابن كثير: وهذا الخبر مشهور عند أهل السير وفى صحته عندي نظر (2)، ولا شك أن قتل الأبرياء لم يحصل في تلك المرحلة حتى في أيام البصرة وصفين عندما قامت الحرب بين الطرفين، فكيف يقتل الأطفال والأبرياء في مرحلة الهدنة لذلك لا يمكن قبول هذه الأعراف المناقضة لأعراف المسلمين وقيمهم ودينهم (3)، كما أن رواية مقتل بسر بن أبي أرطأة للطفلين، ذكرها ابن سعد من طريق الواقدى وهو متروك وذكره الطبرى في تاريخه (4)، ذكر عن زياد البكائي عن عوانة قال: أرسل معاوية .. وهذا إسناد منقطع على ما في عوانة بن الحكم الأخبارى من كلام (5)، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب (6)، قصة قتله لابن عبيد الله بن عباس من طريق هشام الكلبى عن أبي مخنف وهما متروكان (7)، فأما هشام بن محمد بن السائب الكلبي، اتفقوا على غلوه في التشيع قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟ ما ظننت أحدًا يحدث عنه، وقال الدارقطني: متروك (8)، وقاك ابن حبان: كان غاليًا في التشيع (9)، وقال ابن عساكر: رافضى ليس بثقة (10)، وقال الذهبى: الرافضي النسابة (11). وأما أبو مخنف، لوط بن يحيى، قال عنه ابن عدى: شيعى محترق، صاحب أخبارهم (12)، وعده ابن تيمية في الشيعة وقال عنه: متروك كذاب (13)،
__________
(1) تاريخ الطبرى (6/ 55).
(2) البداية والنهاية (7/ 334).
(3) الإنصاف د. حامد، ص (575).
(4) تاريخ الطبرى (5/ 139)، الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 213).
(5) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 213).
(6) الاستيعاب (1/ 89).
(7) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 213).
(8) المجروحين لابن حبان (3/ 91)، تذكرة الحفاظ (1/ 343).
(9) المجروحين (3/ 91).
(10) سير أعلام النبلاء (10/ 102).
(11) تذكرة الحفاظ (1/ 343).
(12) الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 2110).
(13) منهاج السنة (5/ 82).(1/325)
ولم يذكر قتل بسر لشيعة على باليمن أو الحجاز المؤرخ الثقة خليفة بن خياط في تاريخه (1)، وطبقاته (2)، وإنما ذكر خبر بعث معاوية له للاستيلاء على اليمن والحجاز وكذلك البخارى في الكبير (3)، والحاكم في المستدرك (4)، ولا يصح أبدًا قتل بسر بن أبي أرطأة العامرى لابنى عبيد الله باليمن، ويرى أهل الشام بأن بسر ابن أبي أرطأة سمع من النبى -صلى الله عليه وسلم-، وهو أحد الذين بعثهم عمر بن الخطاب مددًا إلى عمرو بن العاص لفتح مصر، على اختلاف فيه، فيمن ذكره فيهم، قال: كانوا أربعة: الزبير، وعمير بن وهب، وخارجة بن حذافة، وبسر بن أرطأة، والأكثرون يقولون: الزبير، والمقداد، وعمير بن وهب، وخارجة بن حذافة وهو أولى بالصواب (5)، ولبسر بن أرطأة عن النبى -صلى الله عليه وسلم- حديثان: أحدهما: لا تقطع الأيدي في المغازى (6) والثانى: في الدعاء: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة" (7).
وأمام البحث النزيه لا يصح مقتل ولدى عبيد الله بن العباس على يدى بسر بن أبي أرطأة العامرى، وما ترويه كتب التاريخ والأدب في الشعر المنسوب إلى عائشة بنت عبد الله والدة الطفلين من شعر ليس له أساس من الصحة، حيث زعموا أنها قالت:
ها من أحسن با بنيَّ اللذين هما ... كالدُّرتين تشظَّى عنهما الصَّدَف
ها من أحسن با بنىَّ اللذين هما ... سمعى وعقلى فقلبى اليوم مُختطف
حدّثتُ بسرًا وما صدّقتُ ما زعموا ... من ميلهم ومن الإثم الذي اقترفوا
__________
(1) تاريخ خليفة، ص (198).
(2) طبقات ابن خياط، ص (27).
(3) التاريخ الكبير في البخاري (2/ 123).
(4) المستدرك (3/ 591).
(5) الاستيعاب (1/ 88).
(6) مسند أحمد (4/ 181) الحديث الصحيح.
(7) مسند أحمد (4/ 181) سنده حسن.(1/326)
أنحى على ودجى ابنى مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإثم يُقتَرفُ
فزعموا أنها وسوست، فكانت تقف في الموسم تنشد هذا الشعر، وتهيم على وجهها (1)، وكذلك الشعر المنسوب لعبيد الله بن العباس ليس له أساس من الصحة، فقد ذكر المؤرخون بأنه دخل على معاوية في خلافته وبعد حديث أنشأ عبيد الله بن عباس يقول:
يا بن صخر وابن حربٍ تبيّن ... من تقيسون بعبد المطلب
من إذا رأت قريش وجهه ... عظموا المرء وخرّوا للركب
صاحب الفيل وساقي زمزم ... ثمت الفدية رأس في العرب
وهدى آخرنا آخركم ... فيه الملك لكم أجرى الحقب
إن بُسرا قتل ابنيَّ وما ... بين بُسر وبنى فهر نسب
فاقتل العبدَ بفرخي هاشم ... إنّ هذا من بواء العجب
اجعل الفضة فينا ذهبًا ... ونضار القوم فينا كالغرب
لا يقرّ العين إلاّ قتل من ... سبب القتل وللقتل سبب
ذاك ما ذاك ابن حرب إنه ... قُطب الشّر وللشرّ قطب (2)
وزعموا أن معاوية رضي الله عنه رد عليه في أبيات منها:
إن بسُرا قتل ابنيك على ... غير جُرم قاطعًا منك النّسب
أنزل بن ببسر بأسه ... وعلى بسُر من الله الغضب
اضرب العبد على يا فوخه ... ضربة تذهب منه ما ذهب
في مقيل الدهر من ضعف به ... ليس هذا من مناف بعجب (3)
__________
(1) الاستيعاب (1/ 89).
(2) تاريخ دمشق (39/ 354، 355).
(3) المصدر نفسه (39/ 355).(1/327)
5 - قول عبيد الله: والله لهو أسخى منا وأجود وإنما أعطيناه بعض ما نملك وجاد هو
علينا وآثرنا على مهجة نفسه وولده (1):
خرج عبيد الله بن العباس في سفر له، ومعه مولى له، حتى إذا كانا في بعض الطريق رفع لهما بيت أعرابي، قال: فقال لمولاه: لو أنّا مضعيفًا -وجدنا من يضيفنا- فنزلنا بهذا البيت وبتنا به؟ قال: فمضى، وكان عبيد الله رجلاً جميلاً جهيرًا، فلما رآه الأعرابي أعظمه وقال لامرأته: لقد نزل بنا رجل شريف، وأنزله الأعرابي، ثم إن الأعرابي أتى امرأته فقال: هل من عشاء لضيفنا هذا؟ فقالت: لا، إلا هذه السُّوَيمة (2) التى حياة ابنتك من لبنها. قال: لابد من ذبحها، قالت: أفتقتل ابنتك؟ قال: وإن! قال: ثم إنه أخذ الشاة والشفرة وجعل يقول:
يا جارتى لا توقظي البُنيَّة ... إن توقظيها تنتحب عَليَّه
وتنزع الشفَّرة من يديَّه (3)
ثم ذبح الشاة، وهيّأ منها طعامًا، ثم أتى به عبيد الله ومولاه، فعشاهما وعبيد الله يسمع كلام الأعرابى لامرأته ومحاورتهما، فلما أصبح عبيد الله قال لمولاه: هل معك شيء؟ قال: نعم، خمسمائة دينار فضلت من نفقتنا. قال: ادفعها إلى الأعرابي. قال: سبحان الله! أتعطيه خمسمائة دينار وإنما ذبح لك شاة ثمنها خمسة دراهم؟ قال: ويحك! والله لهو أسخى منّا وأجود، إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا وآثرنا على مهجة نفسه وولده. قال: فبلغ ذلك معاوية، فقال: لله درُّ عبيد الله! من أي بيضة خرج؟ ومن أي عش درج (4)؟ وجاء في رواية: عبيد بن معلم الجود، وهو والله كما قال الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النِّعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولأكدُّوا (5)
__________
(1) أسد الغابة (3/ 543).
(2) السويمة: تصغير سائمة.
(3) أسد الغابة (3/ 543).
(4) أسد الغابة (3/ 543).
(5) تاريخ دمشق (29/ 360).(1/328)
6 - بين عبد الله بن جعفر والحسن بن على وعبيد بن بن العباس رضي الله عنهم:
قال أبو الزناد: قيل: أى هؤلاء الثلاثة أسخى: عبد الله بن جعفر، أو الحسن بن على، أو عبيد الله بن العباس؟ فقال: ما رأينا أعطى الجزيل من الحسن، وما رأينا أحدًا أعطى الجزيل وغير الجزيل من عبد الله بن جعفر، وما مررنا بأبيات عبيد الله ابن العباس في ساعة قط إلا رأينا عنده قوتًا رطبًا، قال: وكان ينحر كل يوم جزورًا في مجزرته وبه سميت مجزرة ابن عباس، قال: فقلت الجزُر حتى بلغت خمسة عشر دينارًا وعشرين دينارًا، فعاتبه عبد الله بن جعفر على ذلك وقال: لا يقوم لهذا مال، فقال: والله لا أدع ذلك أبدًا (1).
7 - ضيوف جاءوا لبيت عبيد الله بدون موعد:
أراد رجل بالمدينة أن يسوء عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، ويضارّ به، فجعل يأتي وجوه أهل المدينة فيقول: قال لكم عبيد الله بن العباس: تغدّوا عندي، فجاء الناس حتى ملأوا عليه الدار، وعبيد بن غافل، فقال: ما شأن الناس؟ قال: جاءهم رسولك أن يتغدّوا عندك، فعلم ما أريد به، فأمر بالباب فأغلق، وأرسل إلى السوق في أنواع الفاكهة، وذكر الأُترجّ (2)، والعسل والموز فشغلهم، وأمر بالأطعمة فطبخت وشُويت فلم يفرغوا من الفاكهة حتى أتوا بالطعام حتى صدورا عنه. فقال عبيد الله: أموجود هذا كلمّا شئت؟ فقالوا: نعم، قال: ما أبالى من أتانى (3).
8 - امرأه أصيبت بنيها:
قدمت امرأة إلى البصرة في سنة شهباء ومعها ابنان لها، فلم يأت عليها الحول حتى دفنتهما فقعدت بين قبريهما فقالت:
فلله عيناي اللذّان نراهما ... قريبين منّى والمزار بعيد
هما تركا عينيّ لا ماء فيهما ... وشكّا سواد القلب، فهو عميد
__________
(1) تاريخ دمشق (39/ 357)، الطبقات (2/ 23) إسناده ضعيف.
(2) الأترج. شجر يعلو، زكي الرائحة، حامض كالليمون الكبار.
(3) تاريخ دمشق (39/ 357).(1/329)
مقيمان بالبيداء لا يبرحانها ... ولا يسألان الرّكب: أين يريد؟
فقيل لها: لو أتيت عبيد الله بن العباس فقصصت عليه القصة فأتته، فقالت له: يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنى أصبحت لا عند قريب يحميني، ولا عند عشيرة تؤوينى، وإني سألت عن المرجى سببه، المأمول نائله: المعطى سائله، فأُرشدت إليك، فاعمل بي واحدة من ثلاث: إما أن تقيم أودى، أو تحسن صلتى، أو تردّ بى إلى أهلى، فقال عبيد الله: كلّ يفعل بك (1).
9 - الجمال والفقه والسخاء في دار العباس:
ذكر أبو العباس أحمد الطبرى المكي في كتابه تراجم آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ذخائر العقبى في مناقب ذوى القربى .. وكان يقال: من أراد الجمال والفقه والسخاء
فليأت دار العباس، الجمال للفضل، والفقه لعبد الله، والسخاء لعبيد الله (2).
10 - خيرا الدنيا والآخرة في دار ابن عباس:
دخل أعرابى دار العباس بن عبد المطلب وفى جانبها عبد الله بن عباس لا
يرجع في شيء يُسأل عنه، وفى الجانب الآخر عبيد الله بن العباس يطعم كل من
دخل، فقال الأعرابى: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بدار العباس بن عبده المطلب،
هذا يفتى ويفقّه الناس، وهذا يُطعم الطعام (3)، وعن مصعب بن عبد الله، قال:
بعض أهل العلم: كان عبد الله يوسعهم علمًا، وكان عبيد الله يوسعهم طعامًا (4)،
وكان عبيد الله يتجر (5).
11 - حكيم المعضلات وتيار الفرات:
كان عبد الله بن عباس يسُمّى حكيم المعضلات، وكان عبيد الله يسمى تيار
الفرات، وكان يطعم كل يوم، فقال له أبوه: يا بُنى مالك تغدّي ولا تعشي؟ إذا
غدّيت فعشِّ، فقال عبيد بن لغلام له: يا بُنىّ انحر غدوة وانحر عشية (6).
__________
(1) تاريخ دمشق (39/ 358).
(2) ذخائر العقبى، ص (394).
(3) تاريخ دمشق (39/ 356).
(4) تاريخ دمشق (39/ 356).
(5) الإصابة (4/ 331).
(6) تاريخ دمشق (39/ 356)، الإصابة (4/ 331).(1/330)
12 - ما قيل في جوده من شعر:
كان معاوية يقول: إن عبيد الله بن عباس علّم قريشًا الجود، وكان عبيد الله أجود العرب وقد قال فيه شاعر من قريش:
وعلمها عبيد الله ما لم ... تكن تأتيه من شيم الكرام
وورثها مكارم ثابتات ... نفى عنها بها لوم اللئام
وصية هاشم وبنى أبيه ... قُصى والهمام بن الهمام (1)
13 - صيامه يوم عرفة:
عن عبد الله بن عباس، أنه دعا أخاه عبيد الله يوم عرفة إلى طعام، فقال: إنى صائم. فقال: إنكم أئمة يُقتدى بكم، قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بحلاب في هذا اليوم فشرب (2).
14 - طلبه للعلم:
قيل لعبيد الله بن العباس: لم تطلب العلم؟ قال: إذا نشطت فهو لذتى، وإذا اغتممت فسلوتى (3).
15 - إحسانه لعجوز وأولادها الثلاثة:
مر عبيد الله بن العباس بقرب عجور لها أولاد، فأكرمتهم وأحسنت وفادتهم، فأراد عبيد الله أن يصلح من شأنهم ويحسن إليهم، فلما اجتمعوا عند عبيد الله أدناهم من مجلسه، وقال: إنى لم أبعث إليكم ولا إلى أمكم لما تكرهون، قالوا: فما بعد هذا؟ قال: أحب أن أصلح من أمركم، وألمُّ من شعثكم، قالوا: إنّ هذا قلّ ما يكون إلا عن سؤال أو مكافأة لفعل قديم، قال: ما هو لشيء من ذلك، ولكن جاورتكم في هذه الليلة، وخطر ببالي أن أضع بعض مالى فما يحب الله عز وجل، قالوا: يا هذا، إن الذي يحب الله لا يحب لنا إن كنا في خفض من
__________
(1) تاريخ دمشق (39/ 355).
(2) الإصابة (4/ 331) سنده صحيح.
(3) الإصابة (4/ 332)، تاريخ دمشق (39/ 364).(1/331)
العيش، وكفاف من الرزق، فإن كنت هذا أردت فوجهه نحو من يستحقه، وإن كنت أردت النوال مبتدئًا لم يتقدمه سؤال فمعروفك مشكور، وبرك مقبول، فأمر لهم عبيد الله بعشرة آلاف درهم، وعشرين ناقة، وحول أثقاله إلى البغال والدواب، وقال: ما ظننت أن في العرب والعجم من يشبه هذه العجوز وهؤلاء الفتيان، فقالت العجوز لفتيانها: ليقل كل واحد منكم شيئًا من الشعر في هذا الشريف، ولعلى أن أعينكم فقال الكبير:
شهدتُ عليك بطيب الكلام ... وطيب الفعال وطيب الخبر
وقال الأوسط:
تبرعت بالجود قبل السؤال ... فعال كريم عظيم الخطر
وقال الأصغر:
وحق لمن كان ذا فعلة ... بأن يسترق رقاب البشر
وقالت العجوز:
فعمرك الله من ما جد ... ووقيت سوء الردى والحدر (1)
16 - وفاته:
اختلف في تحديد سنة وفاته على عدة أقوال: قال البخارى (2) والفسوى (3): مات زمن معاوية (4)، وقال خليفة (5)، وغيره: سنة ثمان وخمسين (6)، وقال أبو عبيد، وأبو حسان الزيادى: مات سنة سبع وثمانين (7)، وقيل: توفى أيام يزيد وهو الأكثر، وكان موته بالمدينة وقيل: باليمن والأول أصح (8)، ولنا في وفاة إخوة
__________
(1) الإصابة (4/ 332)، تاريخ دمشق (39/ 364).
(2) البخارى في تاريخه الصغير، ص (73).
(3) المعرفة والتاريخ (3/ 322).
(4) تاريخ الإسلام، حوادث سنة 81 - 100هـ، ص (147).
(5) في تاريخه ص 225.
(6) تاريخ الإسلام، حوادث سنة 81 - 100هـ، ص (147).
(7) تاريخ الإسلام، حوادث سنة 81 - 100هـ، ص (147).
(8) أسد الغابة (3/ 544).(1/332)
عبيد الله عبرة وذكرى لأصحاب القلوب الحية، فعبد الله بن عباس دفن بالطائف، واستشهد معبد بأفريقية، واستشهد قثم بسمرقند (1)، وعبيد الله بالمدينة وكلهم أبناء أب واحد وأم واحدة قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]
ثالثًا: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه:
هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، السيد العالم، أبو جعفر القرشى الهاشمى، الحبشى المولد، المدنى الدار، الجواد بن الجواد ذي الجناحين (2)، وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية أخت ميمونة بنت الحارث لأمها، ولدت عبد الله بن جعفر بالحبشة وهو أول من ولد لها من المسلمين (3)، وولدت هناك، محمدًا وعونًا (4)، ثم ولد للنجاشى بعد ما ولدت أسماء ابنها عبد الله بأيام ابنٌ، فأرسل إلى جعفر، ما سميت ابنك؟ قال: عبد الله فسمى النجاشى ابنه عبد الله، وأخذته أسماء بنت عميس، فأرضعته حتى فطمته بلبن عبد الله بن جعفر، ونزلت أسماء بذلك عندهم منزلة، فكان من أسلم من الحبشة يأتي أسماء بعد فيخبرها خبرهم (5)، وقد تزوجت أسماء بعد استشهاد جعفر، أبا بكر الصديق، فولدت محمدًا ثم تزوجها على فولدت له يحيى، (6) فيكون عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر الصديق، ويحى بن على بن أبي طالب رضى الله عنهم لأمهم (7)، ويعتبر عبد الله بن جعفر آخر من رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - من بنى هاشم وفاة (8).
__________
(1) تاريخ دمشق (39/ 350).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 456).
(3) الإصابة (4/ 36).
(4) الطبقات، للسلمي (2/ 7).
(5) الطبقات، للسلمي (2/ 7).
(6) الإصابة (4/ 37).
(7) أسد الغابة (3/ 199).
(8) البداية والنهاية (12/ 300).(1/333)
1 - أولاده وأزواجه:
ولد لعبد الله بن جعفر، جعفر الأكبر وبه كان يكنى، وأمه الأُميَّة وتكنى أم عمرو بنت خراش العبسية (1)، وعلى وعون الأكبر، ومحمد وعباس، وأم كلثوم وأمهم زينب بنت علي بن أبي طالب وأمها فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (2)، وحسين درج، وعون وعون الأصغر قُتِلا مع الحسين بن علي لا بقيه له (3)، وأمهما جمانة بنت المسيب بن نجبة بن ربيعة بن عوف من بنى فزارة (4)، وأبو بكر وعبيد بن، ومحمدًا، وأمهم الخوصاء بنت خصفة بن ثقف بن عابدين بن عدى بن الحارث بن تيم بن بن ثعلبة بن بكر بن وائل (5) وصالح لا بقية له، ويحيى وهارون لا بقية لهما، وموسى لا بقية له وجعفر وأم أبيها وأم محمد، وأمهم ليلى بنت مسعود بن خالد، وحميد والحسن لأم ولد، وجعفر، وأبو سعيد، وأمهما أم الحسن بنت كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة (6)، ومعاوية وإسحاق وقثم لا بقية له، وأم عون لأمهات أولاد شتى (7).
2 - مجيء جعفر بن أبي طالب بأسرته من الحبشة إلى المدينة:
قدم جعفر بن أبي طالب وصحبه من مهاجرى الحبشهَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح خيبر ومعه زوجته أسماء وأولاده عبد الله، وعون ومحمد، وفرح لقدومه رسول الله فرحًا عظيمًا، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل في طلبهم من النجاشي، عمرو بن أمية الضمرى، فحملهم في سفينتين ووافق قدومهم عليه يوم فتح خيبر، وقد رافق جعفر أبو موسى الأشعرى ومن بصحبته من الأشعريين، فعن أبي موسى الأشعرى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبى - صلى الله عليه وسلم - ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما
__________
(1) الطبقات الكبرى (2/ 6) تحقيق السلمي.
(2) المصدر نفسه (2/ 6).
(3) المصدر نفسه (2/ 6).
(4) المصدر نفسه (2/ 6).
(5) المصدر نفسه (2/ 6).
(6) المصدر نفسه (2/ 6).
(7) المصدر نفسه (2/ 6).(1/334)
قال: في بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومى، فركبنا السفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشى بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا جميعًا، فوافقنا النبى -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر (1).
3 - لكم أنتم أهل السفينة هجرتان:
فعن أبي موسى: ... كان أناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة زوج النبى - صلى الله عليه وسلم - زائرة -وكانت هاجرت إلى النجاشى فيمن هاجر- فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء ابنة عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم! قال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله ورسول الله، وأيم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاءت النبى -صلى الله عليه وسلم- قالت: كذا وكذا. قال: "ليس بأحق بى منكم -له وأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم-أهل السفينة- هجرتان" (2)، فأخذت أسماء والدة عبد الله بن جعفر هذا الوسام ووزعته على جميع أعضاء الوفد حيث كانوا (3)، كما قالت: يأتونى أرسالاً يسألوننى عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في نفوسهم مما قال لهم النبى - صلى الله عليه وسلم - (4)، وقد أشركهم النبى - صلى الله عليه وسلم - مغازم خيبر بعد أن استأذن من الصحابة رضي الله عنهم الذين شاركوا في فتحها (5).
4 - استشهاد جعفر بن أبي طالب في مؤتة:
عن يحيى بن أبي يعلى، سمعت عبد الله بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمى فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسى ورأس
__________
(1) البخارى، ك المغازى، رقم (4230، 4231)، معين السيرة، ص (253).
(2) البخارى، ك المغازى، رقم (4231).
(3) فقه السيرة للغضبان، ص (535).
(4) مسلم، رقم (2502، 2503)
(5) الصراع مع اليهود لأبي فارس (3/ 96).(1/335)
أخي، وعيناه تُهْرقان الدموع حتى تقطر لحيته، ثم قال: اللهم إن جعفرًا قد قدم إلى أحسن الثواب، فاخلُفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدًا من عبادك في ذريته، ثم قال: يا أسماء: ألا أبشرك؟ قالت: بلى بأبى أنت وأمى، قال: إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة. قالت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، فأعلم الناس بذلك، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ بيدى يمسح رأسى حتى رقا على المنبر، وأجلسنى أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم فقال: "ألا إن جعفرًا قد استشهد، وقد جُعل له جناحان يطير بهما في الجنّة"، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بيته وأدخلنى معه، وأمر بطعام فصنع لأهلى، وأرسل إلى أخى فتغدينا عنده والله غداء طيبًا مباركًا، عمَدت سلمى خادمه إلى شعير فطحنته ثم نسّفته (1)، ثم أنضجته .. فتغديت أنا وأخى معه (2).
5 - لا تبكوا أخى بعد اليوم:
قال عبد الله بن جعفر: إن النبى - صلى الله عليه وسلم - أتاهم بعد ما أخبرهم بقتل جعفر بعد ثلاثة، فقال: لا تبكوا أخى بعد اليوم ثم قال: ائتونى ببنى أخى، فجيء بنا كأننا أفرخ، فقال: ادعوا لي الحلاق فأمره، فحلق رؤوسنا، ثم قال: أما محمد فشبه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبه خَلقي وخُلُقى، ثم أخذ بيدى، فأشالها. ثم قال: "اللهم اخلف جعفرًا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقته"، قال: فجاءت أُمُّنَا، فذكرت يتمنا. فقال: "العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟ " (3). معنى العيلة: الفقر.
6 - حمل النبى - صلى الله عليه وسلم - له على دابته:
عن عبد الله بن جعفر قال: كان النبى -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر تُلُقى بالصبيان من أهل بيته قال: وإنه قدم من سفر فسبق بى إليه قال: فحملنى بين يديه. قال: ثم أُتى بأحد ابنى فاطمة -إما الحسن وإما الحسين- فأردفه خلفه. قال: فدخلنا المدينة تلاثة على الدابة (4).
__________
(1) نسفته: تنقيه الجيد من الرديء لسان العرب (9/ 328).
(2) الطبقات، تحقيق السلمي (2/ 8) إسناده ضعيف جدًا، وله شواهد.
(3) مسند أحمد (1/ 24) من طريق وهب بن جرير، عن أبيه بهذا الإسناد وهو قوى.
(4) مسلم، رقم (2428).(1/336)
7 - دعاء النبى - صلى الله عليه وسلم - له:
عن عمرو بن حريث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بعبد الله بن جعفر وهو يلعب مع الغلمان أو الصبيان فقال: "اللهم بارك لعبد الله في بيعته أو في صفقته" (1)، وعن عبد الله بن جعفر: أن رسول الله مسح على رأسه ثلاثًا كلما مسح قال: "اللهم اخلف جعفرًا في ولده" (2).
8 - ذكر بيعته للنبى - صلى الله عليه وسلم -:
عن هشام بن عروة عن أبيه: عبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر بايعا النبى - صلى الله عليه وسلم - وهما ابنا سبع سنين، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رآهما تبسم وبسط يده فبايعهما (3)، والصحيح أن عبد الله بن الزبير ولد عام الهجرة (4).
9 - تفقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبناء جعفر:
قال جابر بن عبد الله: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لأسماء بنت عميس: "ما شأن أجسام بنى أخى ضارعة أتصيبهم حاجة؟ " قالت: لا، ولكن تسرع إليهم العين (5)، أفأرقيهم؟ قال: وبماذا؟ فعرضت عليه فقال: "ارقيهم" (6) ومعنى ضارعة: الضارع: النحيف الضاوى الجسم.
10 - علمتنى أسماء شيئًا أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقوله عند الكرب:
عن عبد الله بن جعفر، قال: علمتنى أسماء بنت عميس شيئًا أمرها رسول الله أن تقوله عند الكرب: "الله الله ربي لا أشرك به شيئًا" (7).
11 - شكوى الجمل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم خلفه، فأسرَّ إلى حديثًا لا أحدث به أحدًا أبدًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب ما أستتر به في حاجته
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 458)، مجمع الزوائد (9/ 286) رجالهما ثقات.
(2) مسند أحمد (1/ 204) من طريق وهب بن جرير عن أبيه بهذا الإسناد وهو قوى.
(3) المستدرك (3/ 566، 567) في سنده إسماعيل بن عياش ضعيف عن غير أهل بلده.
(4) الإصابة (4/ 38).
(5) ما يصيب المرء إذا نظر إليه عدو أو حسود، فأثرت فيه فمرض بسببها.
(6) الرقية: العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك.
(7) الطبقات، تحقيق السلمي (2/ 11) إسناده ضعيف.(1/337)
هدفًا (1)، أو حائش (2) نخل -زاد يزيد بن هارون في هذا الحديث بهذا الإسناد-، فدخل يومًا حائطًَا من حيطان الأنصار -يعنى النبى - صلى الله عليه وسلم-- فإذا جمل قد أتاه فجرجر (3) وذرفت عيناه، فمسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَرَاته (4)، وذفراه (5)، فسكن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صاحب هذا الجمل؟ " فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله. قال: "أما تتقى الله في هذه البهيمة التى ملككها الله، إنه شكا إلي إنك تُجيعه وتدئبه" (6).
هذا وكان عمره عشر سنين عند موت النبى - صلى الله عليه وسلم - (7)، وقد ثبت صحبته لرسول الله وروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أحاديث وروى عن أمه أسماء بنت عميس، وعمه على ابن أبي طالب، وروى عنه بنوه، إسماعيل وإسحاق، ومعاوية، ومحمد بن على ابن الحسين، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مُليكة، وعبد الله بن شداد بن الهاد، والشعبى، وعباس بن سهل بن سعد، ومورق العجلى، وخالد بن سارة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي رافع الفهمى (8).
12 - سلام ابن عمر على عبد الله بن جعفر:
قال الشعبى: كان ابن عمر إذا سلم على عبد الله بن جعفر، قال: السلام عليك يا ابن ذى الجناحين (9).
13 - حرص أمير المؤمنين عليٍّ على تعليم عبد الله بن جعفر:
عن عبد الله بن شداد، أن عليًا قال لعبد الله بن جعفر -رضي الله عنه-: ألا أعلمك كلمات لم أعلمهن حسنًا ولا حسينًا، إذا سألت الله مسألة فأردت أن
__________
(1) الهدف: كل بناء مرتفع مشرف.
(2) الحائش: النخل الملتف المجتمع.
(3) الجرجرة. صوت البعير عند الفجر، النهاية في غريب الحديث (1/ 255).
(4) سراته: أى ظهره.
(5) وذفراه: ذفرى البعير: أصل أذنيه، النهاية في غريب الحديث (1/ 161).
(6) تدئبه: تكده وتتعبه، الطبقات، تحقيق السلمي (2/ 13، 14) إسناده صحيح.
(7) الإصابة (4/ 37).
(8) تاريخ دمشق (29/ 169).
(9) سير أعلام النبلاء (3/ 459)، أخرجه البخارى (7/ 62).(1/338)
تنجح (1)، لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم (2)، وقد صاحب عبد الله بن جعفر عمه على رضي الله عنهم، وكان أحد أمرائه يوم صفين (3).
من أخبار كرمه وجوده:
كان عبد الله بن جعفر جوادًا، ظريفًا، حليمًا، عفيفًا، سخيًا يسمى بحر الجود (4)، وكان يقال له: قطب السخاء (5)، ويقال: إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه -أي في عصره- ويقولون: إن أجود العرب في الإسلام عشرة، فأجواد أهل الحجاز عبد الله بن جعفر، وعبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، وسعيد بن العاص، وأجود أهل الكوفة عتاب بن ورقاء أحد بنى رباح بن يربوع، وأسماء بن خارجة بن حصن الفزارى وعكرمة بن ربعى الفياض أحد بنى تيم الله ابن ثعلبة، وأجواد أهل البصرة عمرو بن عبيد بن معمر، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى ثم أحد بنى مليح وهو طلحة الطلحات، وعبيد الله بن أبي بكرة، وأجواد أهل الشام خالد بن عبد الله بن خالد بن أسد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وليس في هؤلاء كلهم أجود من عبد الله بن جعفر، ولم يكن مسلم يبلغ مبلغه في الجود، وعوتب في ذلك فقال: إن الله عودنى عادة، وعودت الناس عادة، فأنا إن قطعتها قطعت عنى (6)، وعن على بن حسين عن الحسين رضى الله عنه قال: علمنا عبد الله بن جعفر السخاء (7)، وهذا تواضع الحسين رضي الله عنه وإلا فله ولأخيه الحسن القدح المعلى في الجود والكرم والإنفاق، وإليك بعض أخبار جود عبد الله بن جعفر في الكرم والجود.
__________
(1) تنجح: نجح فلان وأنجح، إذا أصاب طلبته وأنجحت حاجته.
(2) الطبقات، للسلمى (2/ 16) إسناده صحيح.
(3) الإصابة (4/ 37).
(4) الاستيعاب (3/ 881).
(5) الإصابة (4/ 37).
(6) الاستيعاب (3/ 288).
(7) تاريخ دمشق (29/ 187).(1/339)
1 - ما عندنا ما نصلك ولكن عليك ابن جعفر:
ذكر أن أعرابيًا وقف في الموسم على مروان بالمدينة، فسأله فقال: ما عندنا ما نصلك، ولكن عليك بابن جعفر، فأتاه الأعرابي فإذا ثقُلُه قد سار، وراحلة بالباب عليها متاعها وسيف معلق فخرج عبد الله، فأنشأ الأعرابى يقول:
أبو جعفر من أهل بيت نبوة ... صلاتهم للمسلمين طهور
أبا جعفر ضن الأمير بماله ... وأنت على ما في يديك أمير
أبا جعفر يا بن الشهيد الذي له ... جناحان في أعلى الجنان يطير
أبا جعفر ما مثلك اليوم أرتجى ... فلا تتركنى بالغلاة أدور (1)
فقال: يا أعرابى سار الثقل، فعليك الراحلة، وإياك أن تُخدع عن السيف، فإنى أخذته بألف دينار (2).
2 - وهل أعطيناه إلا ما يبلى ويفنى وأعطانا مدحًا يروى وثناء يبقى:
مدحه نُصيب -أحد الشعراء- فأعطاه إبلاً وخيلاً وثيابًا ودنانير ودراهم، فقيل له: تعطى لهذا الأسود مثل هذا؟ فقال: إن كان أسود فشعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ما يبلى ويفنى، وأعطانا مدحًا يروى وثناء يبقى. وقد قيل إن هذا الخبر إنما جرى لعبد الله بن جعفر مع عبيد الله بن قيس الرقيات (3)، ومن شعره في عبد الله بن جعفر:
وما كنت إلا كالأغر بن جعفر ... رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرًا (4)
ومن شعره أيضاً في عبد الله بن جعفر:
نفدت بي الشهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارُها
يزور امْرأ قد يعلم الله أنه ... تجود له كف قليل غرارها
__________
(1) تاريخ الإسلام، حوادث ووفيات، 61 - 80، ص (31).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 459).
(3) الاستيعاب (3/ 882) وقد ذكر أن اسمه عبد الله.
(4) الإصابة (4/ 38).(1/340)
فوالله لولا أن تزور ابن جعفر ... لكان قليلاً في دمشق قرارُها
أتيتك أثنى بالذى أنت أهله ... عليك كما أثنى على الروض جارُها
ذكرتك إذا فاض الفرات بأرضنا ... وجلل أعلا الرقتين بحارُها
فإن متّ لم يوصل صديق ولم تقم ... طريق من المعروف أنت منارُها (1)
وقال مصعب بن عبد الله: قال عبد الملك بن مروان: أي ويحك يا ابن قيس أما اتقيت حين تقول في ابن جعفر:
أنت رجلاً قد يعلم الله أنه ... يجود له كف قليل غرارها
ألا قلت: قد يعلم الناس، ولم يقل: قد يعلم الله، قال له ابن قيس: قد والله علمه بن وعلمته، وعلمه الناس (2).
وقال الشماخ بن ضرار يمدح عبد الله بن جعفر:
إنك يا ابن جعفر نعم الفتى ... ونعم مأوى طارق إذا أتى
ورب ضيف طرق الحى سُرى ... صادف زادًا وحديثًا ما اشتهى (3)
وجاء أعرابى إلى عبد الله بن جعفر وهو محموم، فأنشأ يقول:
كم لوعة للندى وكم قلق ... للجود والمكرمات من قلقك
ألبسك بن منه عافية ... في نومك المعترى وفى أرقك
أخرج من جسمك السقام كما ... أخرج ذم الفعال من عنقك
فأمر له بمائة ألف دينار. (4)
وذات يوم كان عبد الله بن جعفر في سفر له فمر بفتيان يوقدون تحت قدر لهم فقام إليه أحدهم فقال:
__________
(1) الإصابة (4/ 38).
(2) تاريخ دمشق (29/ 185).
(3) الإصابة (4/ 39).
(4) تاريخ دمشق (29/ 194).(1/341)
أقول له حين ألفيته ... عليك السلام أبا جعفر
فوقف وقال: عليك السلام ورحمة الله، فقال:
وهدى ثيابي قد أخلقت ... وقد عفّنى زمن منكر
قال: فهذى ثيابى مكانها، وعليه جبة خز ويعينك على زمنك، فقال:
فأنت كريم بنى هاشم ... وفى البيت منها الذي يذكر
قال: يا ابن أخى، ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وكتب رجل إلى عبد الله بن جعفر رقعة فجعلها في ثنى وسادة التى يتكئ عليها، فقلب عبد الله الوسادة، فنظر بالرقعة، فقرآها فردها في موضعها، وجعل مكانها كيسًا فيه خمسة آلاف دينار فجاء الرجل فدخل عليه، فقال: اقلب المرفقة فانظر ما تحتها فخذه، فأخذ الرجل الكيس وخرج وأنشأ يقول:
زاد معروفك عندي عظمًا ... أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأنه لم تأته ... وهو عند الله مشهور كبير (2)
3 - ديون الزبير بين عبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر:
أسلف عبد الله بن جعفر الزبير ألف ألف، فلما توفى قال ابن الزبير لعبد الله ابن جعفر: إنى وجدت في كتب أبي أن له عليك ألف ألف درهم، قال: هو صادق، فاقبضها إذا شئت، ثم لقيه بعد فقال: إنما وهمت عليك، المال لك عليه، قال: فهو له، قال: لا أريد ذلك (3). قال الذهبى: هذه الحكاية من أبلغ ما بلغنا في الجود (4)، وجاء في رواية ابن عساكر عندما قال عبد الله بن الزبير لعبد الله بن جعفر: لا أريد ذاك، قال ابن جعفر: فاختر إن شئت فهو له، وإن كرهت ذلك فلك فيه نظرة ما شئت، فإن لم ترد ذلك فبعنى من ماله ما شئت، قال: أبيعك، ولكنى أقوِّم، فقوم الأموال ثم أتاه فقال: أحب أن لا يحضرنى وإياك أحد، فقال
__________
(1) تاريخ دمشق (29/ 199).
(2) المصدر نفسه (29/ 189).
(3) تاريخ الإسلام، حوادث ووفيات، 61 - 80، ص (431).
(4) المصدر نفسه، ص (431).(1/342)
له ابن جعفر: يحضرنا الحسن والحسين فيشهدان لك، قال: ما أحب أن يحضرنا أحد، قال: انطلق فمضى معه، فأعطاه خرابًا وسباخًا لا عمارة له، وقومه عليه حتى إذا فرغ، قال عبد الله لغلامه: ألق لي في هذا الموضع مصلى، فألقى له في أغلظ موضع من تلك المواضع مصلى، فصلى ركعتين وسجد، فأطال السجود يدعو، فلما قضى ما أراد من الدعاء قال لغلامه: احفر في موضع سجودى، فحفر، فإذا عين، فملأ نبطها فقال له ابن الزبير: أقلنى، قال: أما دعائى وإجابة الله إياى فلا أقيلك فصار ما أخذ منه أعمر مما في يدى ابن الزبير (1).
4 - لئن والله وعدنا نعيم الآخرة، فقد عجلت نعيم الدنيا (2):
عن محمد بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن أبيه، عن جده، قال: دخل ابن أبي عمار -وهو يومئذ فقيه أهل الحجاز- على نخاس يعترض منه جارية، فعرض عليه جارية بأكثر مما كان معه من الثمن، وكانت حسنة الوجه جدًا، فعلق بها، وأخذه أمر عظيم، ورآه النخاس فتباعد عليه في الثمن، واستُهْتر بذكرها فمشى إليه عطاء وطاوس ومجاهد يعذلونه، فكان جوابه أن قال:
يلومنى فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالى أطار اللوم أوقعا
قال: فبلغ خبره عبد الله بن جعفر، فبعث إلى مولى الجارية، فاشتراها منه بأربعين ألف درهم، وأمر قيّمة جواريه أن تزينها وتحيها ففعلت، وقدم المدينة، فجاءه الناس يسلمون عليه، وجاءه جلة أهل الحجاز فقال: ما لى لا أرى ابن أبي عمار زائرًا؟ فأخبر الشيخ، فأتاه، فلما أراد أن ينهض استجلسه فقال له ابن جعفر: ما فعل حبك فلانة، قال: في اللحم والدم والمخ والعصب والعظم، فقال له: أتعرفها إن رأيتها؟ قال: جعلت فداك، هى مصورة في نصب عينى عند كل خطرة وفكرة، قال: والله ما نظرت إليها منذ ملكتها، يا جارية أخرجيها، فأخرجت ترفل في الحلى والحلل فقال: هى هذه؟ فأنشأ يقول:
هى التى هام قلبى من تذكرها ... والنفس مشغولة أيضاً بذكراها
__________
(1) تاريخ دمشق (29/ 187).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 461).(1/343)
قال: فشأنك بها، فخذها، فبارك الله لك فيها، قال: جعلت فداك، لقد تفضلت بشيء ما كان يتفضل به إلا الله -على حذر عنها- فلما ولى بها قال: يا غلام احمل معها مائة ألف درهم، كي لا يهتم بها، ولا تغنم به، فبكى ابن أبي عمار سرورًا، ثم قال: الله يعلم حيث يجعل رسالاته، والله جعلت فداك، لئن كان الله وعدنا نعيم الآخرة، فقد عجلت نعيم الدنيا (1).
5 - ما غلبنا بالسخاء إلا الشيخ العُذرى:
عن بُديح مولى عبد الله بن جعفر قال: خرجت مع عبد الله بن جعفر في بعض أسفاره، فنزلنا إلى جانب خباء من شعر قال: وإذا صاحب الخباء رجل من بنى عذرة، قال: فبينا نحن كذلك، إذا نحن بأعرابى قد أقبل بسوق ناقة حتى وقفت علينا ثم قال: أى قوم أبغونى شفرة، فناولناه الشفرة، فوجأ في لُبتها وقال: شأنكم بها، قال: وأقمنا اليوم الثانى، وإذا نحن بالشيخ العُذرى، يسوق ناقة أخرى، فقال: أى قوم أبغونى شفرة، قال: فقلنا: إن عندنا من اللحم، قال: فقال: أبحضرتى تأكلون الغاب (2)، ناولنى الشفرة، فوجأ في لبتها، ثم قال شأنكم بها، وبقينا اليوم الثالث، فإذا نحن بالعذرى يسوق أخرى حتى وقف علينا، فقال: أى قوم أبغونى شفرة، قال: فقلنا: إن معنا من اللحم ما ترى، قال: أبحضرتى تأكلون الغاب، إنى لأحسبكم قومًا لئامًا، ناولونى الشفرة، فوجأ في لبتها ثم قال: شأنكم بها، قال: وأخذنا في الرحيل، فقال ابن جعفر لجارية، ما معك؟ قال رزمة ثياب وأربع مائة دينار، قال: اذهب بها إلى الشيخ العُذرى، قال: فذهب بها، فإذا جارية في الخباء، فقال: يا هذه خذى هدية ابن جعفر، قالت: إنا قوم لا نقبل على قرى (3) أجرًا، قال: فجاء إلى بن جعفر، فأخبره، فقال: عُد إليها فإن هى قبلت وإلا فارم بها على باب الخيمة فعاودها فقالت: اذهب عنا بارك الله فيك، فإنا قوم لا نقبل على قرانا أجرًا، فوالله لئن جاء شيخى فرآك ها هنا لتلقانا منه أذى، قال: فرمى بالرزمة والصرّة على باب الخباء ثم
__________
(1) تاريخ دمشق (29/ 195).
(2) أغب اللحم: أنتن كغبّ، وأغب القوم: جاءهم يومًا وترك يومًا كغب عنهم.
(3) قرى: ضيافة.(1/344)
ارتحلنا، فما سرنا إلا قليلاً حتى إذا نحن بشخص يرفعه السراب مرة ويضعه أخرى، فلما دنا منا إذا نحن بالشيخ العذرى ومعه الصرة والرزمة، فرمى بذلك إلينا ثم ولى مدبرًا، فجعلنا ننظر في قفاه هل يلتفت فهيهات قال: فكان ابن جعفر يقول: ما غلبنا بالسّخاء إلا الشيخ العُذرى (1).
6 - ما سمعت بأعجب من هذا:
خرج عبد الله بن جعفر حاجًا حتى إذا كان ببعض الطريق تقدم ثقله على راحلة له، فانتهى إلى أعرابية جالسة على باب الخيمة، فنزل عن راحلته ينتظر أصحابه، فلما رأته قد نزل، قامت إليه، فقالت: إلىّ بوَّاك بن مساكن الأبرار، قال: فأعجب بمنطقها، فتحول إلى باب الخيمة، فألقت إليه وسادة من أدم، فجلس عليها، ثم قامت على عنيزة لها في كسر الخيمة، فما شعر حتى قدمت منها عضوًا فجعل ينهش وأقبل أصحابه فلما رأوه نزلوا، فأتتهم بالذى بقى عندها من العنز، فطعموا وأخرجوا سفرهم، فقال عبد الله: ما بنا إلى طعامكم حاجة سائر اليوم. فلما أراد أن يرتحل دعا مولاه الذي كان يلى نفقته فقال: هل معك من نفقتنا شيء؟ قال: نعم، قال: وكم هو؟ قال: ألف دينار، قال: أعطها خمس مائة واحتبس لنفقتك باقيها، قال: فدفعه إليها، فأبت أن تقبل، فلم يزل عبد الله يكلمّها وهى تقول: أى والله أكره عذل بعلى (2)، فطلب إليها عبد الله حتى قبلت فودّعها وارتحل هو وأصحابه، فلم يلبث أن استقبله أعرابي يسوق إبلاً له، فقال عبد الله: ما أراه إلا المحذور، فلو انطلق بعضكم فعلم لنا علمه ثم لحقنا، فانطلق بعض أصحابه راجعًا متنكرًا حتى نزل قريبًا منه، فلما أبصرت المرأة الأعرابى مقبلاً قامت إليه تفداه وتقول: بأبى أنت وأمى
توسمته لما رأيت مهابة ... عليه فقلت: المرء من آل هاشم
وإلا فمن آل المرار فإنهم ... ملوكُ ملوكٍ من ملوك أعاظم
فقمت إلى عنز بقيت أعنز ... فأذبحها فعل امرئ غير نادم
يعوضنى منها غنان ولم يكن ... يساوى لُحيم العنز خمس دراهم (3)
__________
(1) تاريخ دمشق (29/ 190).
(2) البعل: الزوج.
(3) تاريخ دمشق (29/ 192).(1/345)
فأظهرت له الدنانير، وقصت عليه القصة، فقال: بئس لعمر بن معقل الأضياف كنت، أبعت معروفك بما أرى من الأحجار؟ قال: إنى والله قد كرهت ذلك، خفت العذْلَ، قال: وهذه لم تخافى العار، وخفت العذْلَ؟ كيف أخذ الركب؟ فأشارت إلى الطريق، قال: وهذا يعنى الرجل الذي أرسله عبد الله فقال: أسرجى لي فرسى، قالت: تصنع ماذا؟ قال: ألحق القوم، فإن سلموا لي معروفى وإلا حاربتهم، قالت: أنشدك بن أن تفعل فتسوءهم، فأقبل عليها ضربًا، وقال: ركنت إلى إمحاق المعروف؟ قال: وركب فرسه، وأخذ رمحه، فجعل الرجل صاحب عبد الله يسير معه ويقول له: ما أراك تدرك القوم، فقال: والله لآتينهم ولو بلغوا كذا وكذا، فلما رأى الرجل أنه غير منته قال: على رسلك، أُدرك لك القوم وأخبرهم خبرك، فتقدم الرجل، فأخبر ابن جعفر، وقصّ عليه القصة، فقال عبد الله: قد كانت حذرة من المشؤوم، فقال: فرهقهم، فسلّم عليه ابن جعفر وأخبره بحسن صنيع المرأة، فقال: والله ما رأيت ذلك بتمّامه، فلم يزل يكلمّه، وسأله، فأبى الأعرابى إلا ردّها، فلما رأى عبد الله ذلك قال: لننظر ما عنده، ما نحبّ أن يرجع إلينا شيء قد أمضيناه، قال: فقام من بين يديه، فتنحى، فصلّى ركعتين ثم قام فركب فرسه، وأخرج قوسه، ونبله، فقال له عبد الله: ما هاتان الركعتان؟ قال: استخرت فيها ربى عز وجل في محاربتكم، وقال: فعلى ما عزم لك من ذلك؟ قال: عزم لي عليه رشدًا أو ترجعون أحجاركم وتسلمون لنا معروفنا، فقال له عبد الله: نفعل فأمر بالدنانير فقُبضت، فولّى الأعرابى منصرفًا، فقال له عبد الله: ألا نزودك طعامًا؟ قال: الحيّ قريب فهل من حاجة؟ قال: نعم قال: وما هى؟ قال: المرأة تخبرها بسوء فعلك، فاستضحك الأعرابي، وولّى منصرفًا، فقدم عبد الله بن جعفر بعد ذلك على يزيد بن معاوية، فحدّثه حديث الأعرابى، فقال يزيد: ما سمعت بأعجب من هذا (1).
7 - إن الله لا يحب المسرفين:
جاءت امرأة إلى عبد الله بن جعفر بدجاجة مسموطة في مكتل فقالت: بأبي أنت، هذه الدجاجة كانت مثل بُنيتى أكل من بيضها وتونسنى، فآليت ألا أدفنها
__________
(1) تاريخ دمشق (29/ 193).(1/346)
إلا في أكرم موضع أقدر عليه، ولا والله ما في الارض موضع أكرم من بطنك، قال: خذوها منها، واحملوا إليها من الحنطة كذا، ومن التمر كذا، وأعطوها من الدّراهم كذا، فعدد شيئًا، فلما رأت ذاك قالت: بأبى أنت، إن بن لا يحب المسرفين (1).
8 - كساد سلعة مجلوبة إلى سوق المدينة:
جلب رجل من أهل البصرة سكرًا إلى المدينة، فكسد عليه، فذكر لعبد الله، فأمر قهرمانه (2)، أن يشتريه فيدعو الناس فينهبهم (3) إياه (4)، وفى رواية قالوا للرجل: ائت عبد الله بن جعفر، فأتاه فاشتراه منه، وقال: من شاء أخذ، فقال الرجل: آخذ معهم؟ قال: خذ (5).
9 - إنفاقه مالاً وصله من يزيد بن معاوية:
وجَّه يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن جعفر مالاً جليلاً هدية، ففرَّقه في أهل المدينة، ولم يُدخل منزله منه شيئًا، وفى ذلك يقول عبيد بن قيس الرقيّات:
وما كنت إلا كالأغر بن جعفر ... رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرًا (6)
وعندما وفد عبد الله بن جعفر على يزيد، أمر له بألفى ألف (7)، وعلق الذهبى فقال: ما ذاك بكثير، جائزة ملك الدنيا لمن هو أولى بالخلافة منه (8).
10 - دعاء أعرابى لعبد الله بن جعفر رضي الله عنه:
قال أعرابى لعبد الله بن جعفر: لا ابتلاك الله ببلاء يعجز عنه صبرك، وأنعم الله عليك نعمة يعجز عنها شكرك (9).
__________
(1) تاريخ الإسلام (61/ 80)، ص (431، 432).
(2) القهرمان: كلمة فارسية وهو كالخازن والحافظ لما تحت يده.
(3) ينهبهم إياه: أى يعطيه لهم نُهبى بدون ثمن.
(4) الطبقات، للسلمى (1/ 19).
(5) تاريخ دمشق (29/ 193).
(6) الإصابة (4/ 38).
(7) سير أعلام النبلاء (3/ 457).
(8) المصدر نفسه (3/ 457).
(9) تاريخ دمشق (29/ 201).(1/347)
11 - ذاك مالى جدت به:
رُئى عبد الله بن جعفر (يماكس) في درهم، فقيل له: تماكس في درهم وأنت تجود من المال بكذا أو كذا؟ فقال: ذاك مالى جُدت به، وهذا عقلى بخلت به (1).
12 - هذا رجل أراد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطرًا:
ذكر بعض أهل العلم، أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أنشد:
إنّ الصنيعة لا تكون ضيعة ... حتى يصاب بها طريق المقنع
فقال محمد بن عبد الله المهرانى: هذا رجل أراد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطرًا، فإن صادفت موضعًا فذاك ما أردت، وإلا رجع إليك (2).
13 - إنما الجوادُ الذي يبدئ المعروف:
قال عبد الله بن جعفر ذى الجناحين: ليس الجواد الذي يعطى بعد المسألة، لأن الذي يبذل السائل من وجهه وكلامه أفضل مما يبذل من نائله، وإنما الجواد الذي يبدئ المعروف (3).
14 - إنا لا نأخذ على المعروف ثمنًا:
روى أن دُهقانا من أهل السواد كلم بن جعفر فى أن يكلم أمير المؤمنين عليًا في حاجة، فكلّمه فيها، فقضاها له، فبعث إليه الدُّهقان أربعين ألفًا، فقالوا: أرسل الدُّهقان الذي كلمّت له، فقال للرسول: قل له، إنّا أهل بيت لا نبيع المعروف (4)، وفى رواية: إنا لا نأخذ على المعروف ثمنًا (5).
15 - هو والناس في ماله شركاء:
قيل لمعاوية بن عبد الله بن جعفر: ما بلغ من كرم عبد الله بن جعفر؟ قال: كان ليس له مادون الناس، هو والناس في ماله شركاء، كان من سأله أعطاه، ومن استمنحه شيئًا منحه، لا يرى أنه يقتصر فيقتصر، ولا يرى أنه يحتاج فيدخر (6).
__________
(1) تاريخ دمشق (29/ 201) والمماكس محاولة تنزيل السعر من البائع.
(2) تاريخ دمشق (29/ 21).
(3) المصدر نفسه (29/ 201).
(4) المصدر نفسه (29/ 186).
(5) المصدر نفسه (29/ 187).
(6) المصدر نفسه (29/ 198).(1/348)
- من أخبار عبد الله بن جعفر مع معاوية:
كان عبد الله بن جعفر يفد على معاوية، وعلى عبد الملك، وكان كبير الشأن كريمًا، جوادًا، يصلح للإمامة (1)، وكانت علاقته بمعاوية متميزة وقوية، حتى أنه سمّى أحد أولاده بمعاوية وعن أبان بن تغلب، قال: ذكر لنا أن عبد الله بن جعفر قدم على معاوية وكانت له وفادة في كل سنة، يُعطيه ألف ألف درهم، ويقضى له منه حاجة (2)، وقد ذكرت كتب الأدب والتاريخ روايات بين معاوية، وابن جعفر لا تثبت ولا تصح وهى كثيرة، منها: ما قال يحيى بن سعيد بن دينار: بينما عبد الله ابن جعفر ذات ليلة عند معاوية بالخضراء (3) بدمشق إذ ورد على معاوية كتاب غمّه من الحسين بن على، فضرب به الأرض، ثم قال: من يعذرنى من ابن أبي تراب، والله لهممت أن أفعل به وأفعل. قال: فجعل عبد الله بن جعفر يجيبه بنحو مما يشتهى ويداريه حتى قام، فانصرف، قال: وكانت بينهما خوخة، فلما صار إلى منزله دعا برواحله فقعد عليها وخرج من ساعته متوجهًا إلى المدينة قال: ودخل معاوية على امرأته (4) بنت قرظة مغتمًا فقال: ماذا صنعت الليلة بابن جعفر ففحشت عليه وأسمعته في ابن عمه ما يكره، وحال ابن جعفر حاله وحبه لنا ومودته إيانا، فقالت: بئس والله ما صنعت ما أقبح ما أتيت إليه؛ فبات ليلته مغتمًا يتذكر صنيعه به ولا يأخذه النوم حتى أسحر، فقام فتوضأ وقال: والله لا ينبهه من فراشه غيرى، فمشى إليه، فدخل فإذا ليس فيه أحد فسأل عنه فقيل له: رحل إلى المدينة ساعة من عندك، فبعث في إثره، وقال: أدركوه فردوه ولو دخل منزله، فلحقوه فردوه إليه، فجعل معاوية يعتذر إليه منه تلك الليلة، وقال: قد أقطعتك ووهبت لك كل شيء (5) مررت به في مسيرك، قال: وقد كان، بإبل وغنم كثيرة لمعاوية فأمر بها فقبضها وذهب ما كان في نفسه (6).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 458).
(2) المصدر نفسه (3/ 459).
(3) قصر معاوية بدمشق.
(4) هى فاختة بنت قرظة بنت عمرو بن نوفل بن عبد مناف.
(5) المراد: كل شيء نملكه.
(6) الطبقات (2/ 19، 20) تحقيق السلمي، إسناده ضعيف منقطع.(1/349)
هذا الخبر لا يصح لأن إسناده ضعيف منقطع، فيحيى بن سعيد بن دينار السعدى، شيخ للواقدى، مجهول (1)، فهذا الأثر على سبيل المثال لا الحصر، وتذكر كتب التاريخ والأدب مساجلات شعرية بين معاوية وعبد الله بن جعفر منها؛ عن يونس بن ميسرة بن حلبس يقول: بلغ معاوية أن عبد الله بن جعفر أصابه خفقٌ وجهد هذا أو نحوه، فكتب إليه ببيتين من شعر:
لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعفّ من القنوع
يسد به نوائب تعتريه ... من الأيام كالنهر الشروع
وكتب إليه يأمره بالقصد ويرغبه فيه وينهاه عن السَّفر ويعيبه عليه، قال: فأجابه عبد الله بن جعفر:
سلى الطارق المعتر يا أم خالد ... إذا ما أتانى بين نارى ومجزرى
أأبسط وجهى أنه أول القرى ... وأبذل معروفى بهم دون مُنكرى
وقد أشترى عرضى بمالى وما عسى ... أخوك إذا ما ضيع العرض يشترى
يؤدى إلى الليل إتيان ماجد ... كريم ومالى سارح مال مقتر
فأعجب معاوية ما كتب إليه، وبعث بأربعين ألف دينار عونًا له على دينه (2).
- عبد الله بن جعفر وسماع الغناء:
نسبت كثير من كتب التاريخ والأدب إلى عبد الله بن جعفر سماعه للغناء، وانشغاله بالجوارى وهذا لا يصح، ولا يثبت، وإنما جاءت روايات ضعيفة، فقد ذكر ابن عساكر رواية مطولة، عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة قالوا: وذكر فيها قصة المغنية عمّارة، وأنه كان يجد بها وجدًا شديدًا (3)، وذكر ابن كثير القصة بصيغة قيل (4)، وقال أبو عمر بن عمر عبد البر: ويقال: .. وكان لا يرى بسماع
__________
(1) الطبقات (2/ 19).
(2) تاريخ دمشق (29/ 200).
(3) تاريخ دمشق (29/ 195).
(4) البداية والنهاية (12/ 301).(1/350)
الغناء بأسًا (1)، وأما الذهبى فلم يذكر في تقريره أى إسناد يعتمد عليه (2)، فهذه أقوال لا سنام لها ولا خطام، وبعضها مشكوك في أصله وعليه لا يمكننى التسليم بأن عبد الله بن جعفر كان يستمع لغناء الجوارى وكان له معهن قصص من الحب والغرام، كما تزعم الروايات.
- وفاته:
توفى عبد الله بن جعفر سنة ثمانين وهو عام الجحاف (3) نسبة إلى السيل الجحاف بمكة، لأنه جحف على كل شيء مرّ به، وحمل الحجّاج من بطن مكة والجمال بما عليها، والرجال والنساء لا يستطيع أحد أن يُنقذهم منه، وبلغ الماء إلى الحجون (4)، وغرق خلق كثير، وقيل: إنه ارتفع حتى كاد أن يُغطى البيت (5)، وقيل: إنه توفى سنة أربع أو خمس وثمانين، وهو ابن ثمانين سنة، ورجح ابن عبد البر وفاته عام 80هـ وصلّى عليه أبان بن عثمان وهو يومئذ أمير المدينة (6)، في عهد عبد الملك بن مروان، وقد وضع على قبره بيتين من الشعر جاء فيها:
مقيم إلى أن يبعث بن خلقه ... لقاؤك لا يُرجى وأنت قريب
تزيد بلى في كل يوم وليلة ... وتُنسى كما تُبلى وأنت حبيب (7)
__________
(1) الاستيعاب (3/ 881).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 462).
(3) نسبة إلى سمل الجحاف، الطبقات تحقيق السلمي (2/ 25).
(4) الحجون: جبل بأعلى مكة، معجم البلدان (2/ 215).
(5) البداية والنهاية (12/ 296).
(6) الاستيعاب (3/ 881).
(7) تاريخ دمشق (29/ 204).(1/351)
المبحث الرابع
صلح الحسن بن علي مع معامرية رضي الله عنهم
بويع الحسن رضي الله عنه بيعة عامة، وبايعه الأمراء الذين كانوا مع والده، وكل الناس الذين بايعوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وباشر سلطته كخليفة، فرتب العمال وأمّر الأمراء وجند الجنود وفرق العطايا، وزاد المقاتلة في العطاء مائة مائة؛ فاكتسب بذلك رضاءهم (1)، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية، وكانت شخصيته الفذة من الناحية السياسية، والعسكرية، والأخلاقية، والدينية تساعد على ذلك مع وجود عوامل أخرى، كوجود قيس بن سعد بن عبادة، وحاتم بن عدى الطائى وغيرهما من قادة المسلمين الذين لهم من القدرات القيادية الشيء الكثير، إلا أن الحسن بن على مال إلى السلم والصلح لحقن الدماء، وتوحيد الأمة، ورغبة فيما عند الله وزهده في الملك، وغير ذلك من الأسباب التى سيأتي بيانها وتفصيلها، وقد قاد الحسن بن على مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة، وظل زمام الموقف في جانبه وبيده ويد أنصاره، وكانت جبهته العسكرية قوية كما جاء في رواية البخارى، وقد عبر عن ذلك عمرو بن العاص عندما قال: إنى لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها (2)، وقال الحسن ابن على: كانت جماجم العرب بيدى تحارب من حاربت وتسالم من سالمت (3)، ولو لم يكن الحسن مرهوب الجانب لما احتاج معاوية رضي الله عنه إلى أن يفاوضه ويوافق على ما طلب من الشروط والضمانات، ولكان عرف ضعف جانب الحسن وانحلال قوته عن طريق عيونه، ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على شروطه، ومطالبه.
وتفوق جانب معاوية على الحسن لا مراء فيه فهل صالح الحسن معاوية لهذا السبب (4)؟، قال ابن تيمية في منهاج السنة:
__________
(1) تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي، ص (87)، مقاتل الطالبين، ص (55).
(2) البخارى، ك الصلح رقم (2704).
(3) المستدرك (3/ 170) صحيح على شرط الشيخين.
(4) دراسة في تاريخ الخلقاء الأمويين بطاينة، ص (60. 61).(1/352)
فقد كان بمقدور الحسن أن يقاتل معاوية بمن كان معه وإن كان أقل ممن كان مع معاوية صنيع الذين قاتلوا خصومهم على قلة من كان معهم من الأعوان والأنصار، ولكن الحسن كان ذا خلق يجنح إلى السلم وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة، جعل الله به رأب الصدع، وجمع الكلمة (1).
وكان رضي الله عنه يملك رؤية إصلاحية واضحة المعالم، خضعت لمراحل، وبواعث، وتغلبت على العوائق وكتبت فيها شروط، وترتبت عليها نتائج، وأصبح هذا الصلح من مفاخر الحسن بن علي رضي الله عنهما على مر العصور وتوالى الأزمات، حتى قال الدكتور خالد الغيث حفظه الله: كان الحسن رضوان الله عليه في صلحه مع معاوية رضى الله عنه، وحقنه لدماء المسلمين، كعثمان في جمعه للقرآن، وكأبى بكر في الردة (2)، ولا أدل على ذلك في كون هذا الفعل من الحسن يعد علمًا من أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخارى من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، والحسن بن على إلى جنبه -وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (3). إن صلح الحسن مع معاوية رضى الله عنه من الأحداث العظام في تاريخ الأمة الإسلامية، وقد أسهم في تبوُّؤ هذا الحدث لهذه المنزلة عدة أسباب منها:
1 - كونه علمًا من أعلام النبوة.
2 - إن من ثمار هذا الصلح حقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم على إمام واحد بعد سنوات من الفرقة.
3 - كون الحسن رضي الله عنه أول خليفة يتنازل عن منصبه ويخلع نفسه طواعية، وبدون ضغوط، ومن مركز قوة لا من مركز ضعف، من أجل إصلاح ذات بين المسلمين.
__________
(1) منهاج السنة (4/ 536)، دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (61).
(2) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى، خالد الغيث، ص (134).
(3) البخارى، رقم (7109).(1/353)
4 - كون الحسن رضي الله عنه آخر خلفاء مرحلة النبوة من هذه الأسباب وغيرها امتلأت كتب العقيدة والسنة والتاريخ والأدب وغيرها من المصادر بأخبار صلح الحسن مع معاوية رضي الله عنهما، والقارئ لتلك المصادر -بما فيها تاريخ الطبرى- يلاحظ كثرة روايات الصلح وتضاربها مع بعضها واختلاط ضعيفها بصحيحها وتشابه بعض أحداثها، يضاف إلى ذلك عدم مراعاة المصادر للترتيب الزمنى لوقوع الحدث، مع أن التسلسل الزمنى لمجريات الصلح يعد بالغ الأهمية لفهم الحدث (1)، ولقد قام الأخ الكريم الدكتور خالد الغيث بجهد كبير في دراسة تلك المصادر واستخراج الروايات الصحيحة منها، واعتمدها في ترتيب أحداث الصلح ترتيبًا زمنيًا، كما استفاد من بعض الروايات الضعيفة المتوافقة مع الروايات الصحيحة وفقًا للمنهج الذي بيَّنه في رسالته المعروفة، بمرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى من أجل استكمال تفاصيل الحدث (2)، ولقد استفدت من ذلك الجهد الرائع، والترتيب المبدع، والتسلسل الجميل لمجريات الصلح.
- أهم مراحل الصلح:
المرحلة الأولى:
دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للحسن بأن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فتلك الدعوة المباركة التى دفعت الحسن رضى الله عنه إلى الإقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم (3)، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن ابنى هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظميتين من المسلمين" (4)، فلم تكن نبوءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن بن على أنه سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين مجرد نبأ يسمعه الحسن والمسلمون ويصدقونه كالنبوءات النبوية الأخرى، بل كانت الكلمة الموجهة الرائدة للحسن بن علي رضي الله عنهما في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته، لابدّ أنها حلّت في قرارة نفسه، واستولت على مشاعره، وامتزجت بلحمه ودمه، واعتبرها كوصيّة من
__________
(1) مرويات خلافة معاوية قى تاريخ الطبرى، ص (125).
(2) مرويات خلافة معاوية قى تاريخ الطبرى، ص (125).
(3) مرويات خلافة معاوية قى تاريخ الطبرى، ص (125).
(4) البخارى، رقم (7109).(1/354)
الرسول - صلى الله عليه وسلم -وهو نبيه وجدُّه- يتكلم بهذه الكلمات رأى السرور في أسارير وجهه، والبريق في عينيه - صلى الله عليه وسلم -، فتمسك بها كهدف من أهداف حياته، وكالمثل الأعلى له في مستقبله.
وقد ظهرت آثار هذه النبوءة في جميع حركاته وسكناته، حتى في الحديث مع والده الكبير الذي يحبه حبّ الأبناء البررة للآباء العظام الذين خصهم الله بمواهب ومناقب، قلّما يشاركهم فيها أفراد الأمة، وكان من أعرف الناس بها بحكم البنوة والصحبة، ويجلّه إجلال العارفين والمعجبين، وقد أشار على أبيه علىّ بن أبي طالب بعد مقتل عثمان أن يعتزل الناس إلى حيث شاء من الأرض حتى تثوب إلى العرب عوازب أحلامها، وقال له: لو كنت في جُحر ضبّ لاستخرجوك منها فبايعوك دون أن تعرض نفسك لهم، ولما عزم علىّ على قتال أهل الشام، وعزم على التجهّز، وخرج من المدينة وهو عازم على أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه، جاء إليه الحسن بن على وقال: يا أبت دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين ووقوع الاختلاف بينهم (1)، ولكن عليًا لم يقبل ما أشار به الحسن ولم يكن ليترك الناس في فتنة دون أن يؤدى ما يدين الله به من أمر بمعروف ونهى عن منكر، وردّ الأمر إلى نصابه، والحقّ إلى أصحابه ولكلٍّ وجهة هو موليها (2)، وكان على رضى الله عنه مصيبًا في رأيه.
ْوقد ظهرت المعجزة النبوية، وبلغت ذروتها بتربية الحسن بن على التربية الإسلامية الربانية، من كون هذا الإمام الفذ سيدًا جليلاً، وليست السيادة بالقهر وسفك الدماء، أو إهدار الأموال والحرمات، بل السيادة بصيانتها وإزالة البغضاء والشحناء، فصلحه وحقنه لدماء المسلمين بلغ فيه ذروة السيادة، التى لا يستطيعها من فكر بالقوة وهو يملك طرفًا منها، وقد صالح الحسن معاوية وحوله الألوف فيهم من هو طامع مدسوس ولكن فيهم الكثير الكثير من المخلصين الأوفياء، فما أراد أن تراق بسببه قطرة دم، أو يخدش مسلم في هذا السبيل، وإن الرئاسة للأقوام إن لم تكن لصيانتها، وحياطتها وحفظها، وترقيتها فهى نوع من الطاغوت
__________
(1) البداية والنهاية (7/ 229، 230) نقلاً عن المرتضى للندوى، ص (198).
(2) المرتضى للندوى، ص (198).(1/355)
الأعمى والتهور الأحمق، والمغامرة والمقامرة التى تجلب معها الدمار والخراب، والإذلال والسباب وينتهى أصحابها إلى غضب الله، ولعنة التاريخ، وهل تدافع أمواج الدماء البشرية عبر العصور والقرون إلا من الحرص على الرئاسة والسلطان والتكالب على الدنيا؟! (1).
لقد كان الحسن زاهدًا في الدنيا والملك والرئاسة، ولو أرادها لأدار الحرب الطحون سنين وسنين ولكنه كان ينظر إلى الدار الآخرة، ويريد حفظ دماء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال الحسن البصرى: فلما ولى الحسن ما أهريق في سببه محجمة دم (2)، وكان يعلنها صريحة ويفتخر بذلك ويعتز بتنفيذه للوصية النبوية، وسلوكه مسلك التربية الإيمانية (3)، فقد أصلح بن بالحسن بين أهل العراق والأمة كلها، فجعل النبى - صلى الله عليه وسلم - الإصلاح من فضائل الحسن، مع أن الحسن نزل عن الأمر وسلم الأمر إلى معاوية، فلو كان القتال هو المأمور به دون ترك الخلافة ومصالحة معاوية لم يمدحه النبى - صلى الله عليه وسلم - على ترك ما أمر به وفعل ما لم يؤمر به، ولا مدحه على ترك الأولى وفعل الأدنى، فعلم أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله لا القتال (4).
المرحلة الثانية:
شرط البيعة الذي وضعه الحسن رضي الله عنه أساسًا لقبوله مبايعة أهل العراق له، ذلك الشرط الذي نص على أنهم يسالمون من يسالم ويحاربون من يحارب (5)، فعن ميمون ين مهران، قال: إن الحسن بن على بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علىّ على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضى به (6)، وفى رواية أخرى، من طريق خالد بن مصرَّب، قال:
__________
(1) الدوحة النبوية الشريفة، ص (94).
(2) دلائل النبوة للبيهقى (6/ 443)، الدوحة النبوية الشريفة، ص (95).
(3) الدوحة النبوية الشريفة، ص (95).
(4) الفتاوى (28/ 300).
(5) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى، ص (156).
(6) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 316، 317) إسناده حسن.(1/356)
سمعت الحسن بن على يقول: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم، قالوا: ما هو؟ قال: تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت (1). ويستفاد من الروايتين ابتداء الحسن رضي الله عنه في تبييته لنية الصلح قبل استخلافه، وذلك تحقيقًا منه لنبوءة المصطفى (2)، وأدخل الحسن رضي الله عنه بشرطه في عقلية العراقيين بأن خيار السلم قابل للنقاش والأخذ والعطاء، وليس فيه إرادة السلم على الحرب، فهو يشتمل عليهما معًا، وإن كان يوحى بالسلم وهذا دليل على عبقريته وحسن قيادته، ومعرفته بالأمور، كما أنه رضي الله عنه تقدم للخلافة لما كانت مصلحة الإسلام والمسلمين في ذلك.
المرحلة الثالثة:
وقوع المحاولة الأولى لاغتيال الحسن رضي الله عنه بعد أن كشف عن نيته في الصلح مع معاوية رضي الله عنه، وهذه المحاولة يبدو إنها قد جرت بعد استخلافه بقليل، وهو ما أشارت إليه الروايات التالية: ما أخرجه ابن سعد في طبقاته من طريق أبي جميلة (3): أن الحسن بن على لما استخلف حين قتل على، فبينما هو يصلى إذا وثب عليه رجل فطعنه بخنجر -وزعم حصين بن عبد الرحمن السلمي أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بنى أسد- والحسن ساجد، قال حصين: وعمى أدرك ذلك، قال: فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه فمرض منها أشهرًا ثم برئ، فقعد على المنبر فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإنا أمرِاؤكمِ وضيفانكم، أهل البيت الذين قال الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، قال: فما زال يقول ذلك حتى ما رُئى أحد من أهل المسجد إلا وهو يخن (4) بكاء (5). وما أخرجه ابن سعد في طبقاته من طريق هلال بن يساف (6)، قال: سمعت الحسن بن على وهو يخطب وهو
__________
(1) الطبقات، تحقق السلمي (1/ 386، 387) إسناده صحيح.
(2) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى، ص (111).
(3) ميسرة بن يعقوب، أبو جميلة الطهوى ذكره بن حبان في ثقاته (5/ 427).
(4) الخنين: البكاء في الأنف، القاموس المحيط، ص (1541).
(5) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 323).
(6) هلال بن يساف الأشجعى أخرج له البخارى حديثه معلقًا ومسلم والأربعة، التقريب، ص (576).(1/357)
يقول: يا أهل الكوفة، اتقوا بن فينا، فإنا أمراؤكم وإنا أضيافكم، ونحن أهل البيت الذين قال بن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] قال: فما رأيت يومًا قط أكثر باكيًا من يومئذ (1).
المرحلة الرابعة:
خروج الحسن رضي الله عنه بجيش العراق من الكوفة إلى المدائن، وإرساله للقوة الضاربة من الجيش وهى شرطة الخميس إلى مسكن بقيادة قيس بن سعد بن عبادة (2)، وقد أشار ابن سعد في طبقاته إلى ذلك في الرواية التى أخرجها من طريق الشعبى، قال: بايع أهل العراق بعد على بن أبي طالب الحسن بن على، ثم قالوا له: سر إلى هؤلاء القوم الذين عصوا الله ورسوله، ارتكبوا العظيم وابتزوا (3) الناس أمورهم، فإنا نرجو أن يمكن بن منهم، فسار الحسن إلى أهل الشام، وجعل على مقدمته قيس بن سعد بن عبادة في اثنى عشر ألفًا، وكانوا يسمون شرطة الخميس (4).
من خلال الرواية السابقة يتضح أن أهل العراق هم الذين دفعوا الحسن رضى الله عنه إلى الخروج لقتال أهل الشام من غير رغبة منه، وهذا الأمر قد أشار إليه ابن كثير رحمه الله بقوله: ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحدًا، ولكن غلبوه على رأيه، فاجتمعوا اجتماعًا عظيمًا لم يُسمع بمثله، فأمّر الحسن بن على، قيس ابن سعد بن عبادة، على المقدمة في اثنى عشر ألفًا بين يديه، وسار هو بالجيوش في أثره قاصدًا يلاد الشام، فلما اجتاز بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بين يديه (5)، وقد أشهر الحسن حنكة كبيرة دلت على سعهَ أفقه ودهائه وبصيرته، عندما لم يشأ أن يواجه أهل العراق من البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليمه الأمر لأنه يعرف خفتهم وتهورهم، فأراد أن يقيم من مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم،
__________
(1) الطبقات: تحقيق السلمي (1/ 381) إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه (1/ 321).
(3) الابتزاز: أخذ الشيء بجفاء وقهر.
(4) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 319 - 321) إسناده لا بأس به.
(5) البداية والنهاية (11/ 132).(1/358)
وعلى سلامه ما اتجه إليه، فوافقهم على المسير لحرب معاوية وعبأ جيشه (1)، وكان خروج الحسن بن على من الكوفة إلى المدائن على ما رجحه الدكتور خالد الغيث في شهر صفر من السنة التالية وهى سنة 41هـ (2).
المرحلة الخامسة:
خروج معاوية رضي الله عنه من الشام وتوجه إلى العراق بعد أن وصل خبر خروج الحسن من الكوفة إلى المدائن بجيوشه، يقول ابن سعد في طبقاته: وأقبل معاوية في أهل الشام يريد الحسن حتى نزل جسر منيح (3)، ثم أضاف قائلاً: فأقبل من جسر منيح إلى مسكن في خمسة أيام وقد دخل يوم السادس (4)، وقد تأخر خروج معاوية وكان ذلك بعد سماعه لخروج الحسن بجيوشه، وكان معاوية قد أضيب إصابة بليغة من جراء محاولة الاغتيال التى تعرض لها من قِبَلْ الخارجى البرك بن عبد الله التميمى، حين خرج لصلاة الفجر، وهى المحاولةَ التى نفذت في نفس فجر اليوم الذي اغتيل فيه على رضي الله عنه، وهو فجر يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة 40هـ على الصحيح المشهور من الأقوال (5)، وقد أشار الخلاَّل إلى شدة إصابة معاوية رضي الله عنه في الرواية التى أخرجها من طريق جندب قال: كنا مع سعد بن أبي وقاص في ركب فنزل سعد ونزلت واغتنمت نزوله قال: فجعلت أمشى إلى جانبه فحمدت الله وأثنيت عليه وقلت: إن معاوية طعن طعنًا بينًا لا أراها إلا قاتلته، وإن الناس (6) قاتلون بقية أصحاب الشورى، وبقية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنشدك بن إن وليت شيئًا من أمرهم، أو تشق عصاهم وأن تفرق جمعهم، أو تدعوهم إلى أمر مهلكة، فحمد سعد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فوالله لا أشق عصاهم ولا أفَرِّقهم جمعهم، ولا أدعهم إلى أمر هلكة حتى يأتونى بسيف يقول: يا سعد هذا مؤمن فدعه، وهذا كافر فاقتله (7).
__________
(1) العالم الإسلامى في العصر الأموي، د. عبد الشافى محمد، ص (101).
(2) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى، ص (130).
(3) جسر منيح قرية في الجزيرة الفراتية، الطبقات، السلمي (1/ 321).
(4) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 323).
(5) البداية والنهاية (11/ 131).
(6) يقصد الخوارج.
(7) السنة للخلال تحقيق د. الزهرانى، ص (474، 475) إسناده صحيح.(1/359)
وبينما الحسن في المدائن، إذ نادى منادٍ من أهل العراق إن قيسًا قد قتل فسرت الفوضى في الجيش، وعادت إلى أهل العراق طبيعتهم في عدم الثبات، فاعتدوا على سرادق الحسن ونهبوا متاعه حتى أنهم نازعوه بساطًا كان تحته، وطعنوه وجرحوه، وهنا حدثت حادثهَ لها دلالة كبيرة، فقد كان والى المدائن من قبل على، سعد بن مسعود الثقفى، فأتاه ابن أخيه المختار بن أبي عبيد بن مسعود، وكان شابًا، فقال له: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وماذاك؟ قال: توثق الحسن، وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله، أثبت على ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأوثقه، بئس الرجل أنت (1)، فلما رأى الحسن صنع أصحابه أيقن أنه لا فائدة منهم، ولا نصر يرجى على أيديهم، وهذه كانت قناعته من البداية (2)، فدفعه ذلك إلى قطع خطوات أوسع والاقتراب أكثر من الصلح.
المرحلة السادسة:
تبادل الرسل بين الحسن ومعاوية، ووقوع الصلح بينهما رضوان بن عليهما، فقد سجل الإمام البخارى رحمه الله في صحيحه تلك اللحظات الحرجة من تاريخ الأمة المسلمة حين التقى الجمعان، جمع أهل الشام وجمع أهل العراق، وذلك في الرواية التى أخرجها من طريق الحسن البصرى، قال: استقبل -والله- الحسن بن على معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إنى لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية -وكان والله خبر الرجلين: أى عمرو، وإن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، مَنْ لي بنسائهم، من لي بضيعتهم (3)؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس- عبد الرحمن ابن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه. فأتياه، فدخلا عليه، فتكلما، وقالا له، وطلبا إليه، فقال
__________
(1) تاريخ الطبرى (5/ 159) نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي، ص (101).
(2) العالم الإسلامى في العصر الأموي، ص (101).
(3) قال ابن حجر رحمه الله: بشير -يقصد معاوية- إلى أن رجال العسكرين معظم من في الإقليمين، فإذا قتلوا ضاع أمر الناس وفد حالهم بعدهم وذراريهم، والمراد بقوله: ضيعتهم: الأطفال والضعفاء وما يؤول إليه أمرهم، لأنهم إذا تركوا ضاعوا لعدم استقلالهم بأمر المعاش.(1/360)
لهما الحسن بن على: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال (1)، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ (2) قالا: نحن لك به (3)، فما سألهما إلا قالا: نحن لك به، فصالحه، فقال الحسن أى البصرى: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر -والحسن بن على إلى جنبه- وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (4)، وقد تحدث ابن حجر رحمه الله عن الفوائد المستنبطة من رواية الصلح فقال:
1 - وفى هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة.
2 - ومنقبة للحسن بن على، فإنه ترك الملك لا لقلة، ولا لذلة، ولا لعلة، بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى مصلحة الأمة.
3 - وفيها رد على الخوارج الذين كانوا يكفرون عليًا ومت معه، ومعاوية ومن معه، بشهادة النبى - صلى الله عليه وسلم - بالطائفتين بأنهم من المسلمين.
4 - وفيها فضيلة الإصلاح بين الناس، ولاسيما في حقن دماء المسلمين.
5 - ودلالة على رأفة معاوية بالرعية، وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك، ونظره في العواقب.
6 - وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل، لأن الحسن ومعاوية ولى كل منهما الخلافة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان.
7 - وفيه جواز خلع الخليفة نفسه، إذا رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين، والنزول عن الوظائف الدينية والدنيوية بالمال، وجواز أخذ المال على ذلك
__________
(1) أى فرقنا منه في حياة على وبعده ما رأينا في ذلك صلاحه، فنبه على ذلك خشية أن يرجع عليه بما تصرف فيه، الفتح (13/ 69، 70).
(2) أى من يضمن لي الوفاء من معاوية، الفتح (13/ 70).
(3) أى نحن نضمن، لأن معاوية كان فوض لهما ذلك الفتح (13/ 70).
(4) البخارى، رقم (7109).(1/361)
وإعطائه، بعد استيفاء شرائطه، بأن يكون المنزول له أولى من النازل، وأن يكون المبذول من مال الباذل، فإن كان في ولاية عامة وكان المبذول من بيت المال اشترط أن تكون المصلحة في ذلك عامة (1).
كما أخرج ابن سعد -رحمه الله- رواية لا تقل أهمية عن رواية البخارى في الصلح، وتعد مكملة لها، وهى من طريق عمرو بن دينار (2): إن معاوية كان يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة، فلما توفى على بعث إلى الحسن، فأصلح الذي بينه وبينه سرًا، وأعطاه معاوية عهدًا إن حدث به حدث والحسن حى لَيُسَمَيّنًّه (3)، وليجعلن هذا الأمر إليه، فلما توثق منه الحسن، قال ابن جعفر (4)، والله إنى لجالس عند الحسن إذ أخذت لأقوم فجذب بثوبى وقال: اقعد يا هناه (5)، وأجلس، فجلست قال: إنى قد رأيت رأيًا وأحب أن تتابعنى عليه قال: قلت: ما هو؟ قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلى بين معاوية، وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطلت الفروج -يعنى الثغور- فقال ابن جعفر: جزاك الله عن أمة محمد، فأنا معك على هذا الحديث، فقال الحسن: ادع لي الحسين، فبعث إلى الحسين فأتاه فقال: يا أخى قد رأيت رأيًا وإنى أحب أن تتابعنى عليه. قال: ما هو؟ قال: فقص عليه الذي قال لابن جعفر قال الحسين: أعيذك بالله أن تكذب عليًا في قبره وتصدق معاوية. قال الحسن: والله ما أردت أمرًا قط إلا خالفتنى إلى غيره، والله لقد هممت أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضى أمرى. قال: فلما رأى الحسين غضبه قال: أنت أكبر ولد على، وأنت خليفته، أمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك (6).
__________
(1) فتح البارى (13/ 71، 72).
(2) عمرو بن دينار المكى الجمحى مولاهم، ثقة ثبت، من الطبقة الرابعة مات 126هـ أخرج له الستة التقريب، ص (421).
(3) أى يرشحه للخلافة من بعده، وعندما نتعرض لشروط الصلح، بإذن الله، سوف نبين أن الأمر الذي استقر هو أن يكون بعد وفاة معاوية شورى بين المسلمين.
(4) أى: عبد الله بن جعفر.
(5) يا هناه: يا رجل.
(6) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 330، 331).(1/362)
ويلاحظ على روايتى البخارى وابن سعد اتفاقهما على أن معاوية رضي الله عنه كان صاحب المبادرة في الاتصال بالحسن رضي الله عنه وعرض الصلح عليه (1).
من المبادر إلى الصلح الحسن أم معاوية؟
وهنا قد يسأل سائل: من المبادر إلى الصلح، أهو الحسن رضي الله عنه الذي ورد حديث الرسول في الصلح بحقه، والذى كاد أن يقتل في المحاولة الأولى لاغتياله بسبب شرط البيعة الذي اشترطه على أهل العراق والذى يفهم منه عزمه على صلح معاوية، أم معاوية رضي الله عنه؟
وجواب ذلك: أن الرغبة في الصلح كانت موجودة لدى الطرفين، فقد سعى الحسن رضي الله عنه إلى الصلح، وخطط له منذ اللحظات الأولى لمبايعته، ثم جاء معاوية فأكمل ما بدأه الحسن، فكان عمل كل واحد منهما مكملاً للآخر رضوان الله عليهم أجمعين (2)، والقدح المعلى في السعى في نجاح الصلح للحسن.
المرحلة السابعة:
محاولة أخرى لاغتيال الحسن رضي الله عنه:
بعد نجاح مفاوضات الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، شرع الحسن رضي الله عنه في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيبًا ليبين لهم ما تم بينه وبين معاوية، وفيما هو يخطب هجم عليه بعض عسكره محاولين قتله، لكن الله سبحانه وتعالى أنجاه كما أنجاه من قبل. وقد أورد البلاذرى خطبة الحسن التى ألقاها في أتباعه، ومحاولة قتله رضي الله عنه فقال: إنى أرجو أن أكون أنصح خلقه لخلقه، وما أنا محتمل على أحد ضغينة، ولا حقدًا، ولا مريدًا به غائلة، ولا سوءًا، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإنى ناظر لكم خيرًا من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمرى، ولا تردوا علىّ، غفر الله لي ولكم. فنظو بعض الناس إلى بعض وقالوا: عزم والله
__________
(1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى؛ ص (138).
(2) المصدر نفسه، ص (141).(1/363)
على صلح معاوية، وضعف وخار، وشدوا على فسطاطه، فدخلوه، انتزعوا مصلاه من تحته، وانتهبوا ثيابه، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي جعال الأزدى، فنزع مطرفه (1) من عاتقه، فبقى متقلدًا سيفه قدهش ثم رجع ذهنه، فركب فرسه، وأطاف به الناس، فبعضهم يعجزه ويضعفه، وبعضهم ينحى أولئك منه، ويمنعهم منه، وانطلق رجل من بنى أسد بن خزيمة من بنى نضر بن قعين الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد، يقال له: الجراح بن سنان (2)، وكان يرى رأى الخوارج، على مظلم ساباط (3)، فقعد له فيه ينتظره فلما مر الحسن، ودنا من دابته فأخذ بلجامها، ثم أخرج معولاً (4) كان معه وقال: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، وطعنه بالمعول في أصل فخذه، فشق في فخذه شقًا كاد يصل إلى العظم، وضرب الحسن وجهه، ثم اعتنقا وخرا إلى الأرض، ووثب عبد الله بن الخضل الطائى (5)، فنزع المعول من يد الجراح، وأخذ ظبيان بن عمارة التميمى (6) بأنفه فقطعه، وضرب بيده إلى قطعة آجرة فشدخ بها وجهه ورأسه حتى مات، وحُمل الحسن إلى المدائن .. ثم إن سعد بن مسعود أتى الحسن بطبيب، وقام عليه حتى برئ وحوَّله إلى أبيض (7) المدائن (8).
وقد يعترض بشأن خطبة الحسن رضي الله عنه أنها وردت عند البلاذرى وأبى حنيفة الدينورى قبل صلح الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، وجواب ذلك، أن ما ورد في رواية البخارى من وصف لجيش الحسن، يفيد قوة جيش الحسن وتماسكه
__________
(1) مطرفه أى: رداءه، الفيروزأبادى القاموس المحيط (1075).
(2) الجراح بن سنان الأسدى له سابقة في الشر، حيث كان من الذين بهتوا سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه، وسعوا في عزله في الكوفة أيام خلافة عمر، فدعا عليهم سعد، فكان لهم من سوء الخاتمة نصيب، الطبرى (4/ 141).
(3) ساباط المدائن: موضع على الضفة الغربية لنهر دجلة، ومظلم موضع هناك، معجم البلدان (3/ 166)
(4) معولاً: حديدة ينقر بها الصخر، القاموس المحيط، ص (1340).
(5) عبد الله بن الخضل الطائى، قال التوابين الذين طالبوا بدم الحسين 65هـ.
(6) ظبيان بن عمارة، يروى عن على من تابعى أهل الكوفة.
(7) يسمى القصر الأبيض، يقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة، الروض العطار، ص (9).
(8) أنساب الأشراف للبلاذرى مخطوطة نقلاً عن مرويات خلافة معاوية، ص (142).(1/364)
مما يعنى أن جيش العراق قد قابل جيش الشام وهو في أحسن حالاته المادية والمعنوية، وحيث إن جيش أهل العراق قد اضطرب حاله بعد خطبة الحسن فإن هذا يعنى انتفاء مقابلة جيش العراق لجيش الشام بعد الخطبة، لذا فإن الأقرب للواقع أن خطبة الحسن في معسكره كانت بعد التقاء الجيشين العراقى والشامى، وبعد وقوع الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما (1)، هذا بالإضافة إلى أن خطبة الحسن هذه كانت مدخلاً وتمهيدًا منه رضي الله عنه لإخبار أتباعه بالصلح الذي تم بينه وبين معاوية، وهذا ما تبينه الروايات التالية:
ما أخرجه ابن سعد من طريق رياح بن الحارث (2): إن الحسن بن على قام بعد وفاة على رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن كل ما هو آت قريب، وإن أمر بن واقع، وإن كره الناس، وإنى والله ما أحببت أن ألى من أمر أمة محمد ما يزن مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما يضرنى مما ينفعنى فألحقوا بطيتكم (3) (4)، وقد يقول قائل: إن هذه الرواية قد قيلت في الكوفة وليست في المدائن والجواب على ذلك: أن أحمد بن حنبل أخرج الرواية نفسها من طرق رياح بن الحارث وبإسناد صحيح (5)، وفيها: أن الناس اجتمعوا إلى الحسن بن على بالمدائن (6) .. ثم ذكر بقية رواية ابن سعد، وحيث إن هذه الخطبة قد قيلت في المدائن فإن الأرجح أنها قيلت بعد صلح الحسن مع معاوية -رضي الله عنهما- حيث يرد شأنها ما ورد بشأن خطمة الحسن التى عند البلاذرى. بل لعلها كانت جزءًا من خطبة الحسن التى أوردها البلاذرى وأسفرت عن اضطراب معسكر الحسن.
وقد بقيت الإشارة إلى موقف الحسن رضي الله عنه تجاه ما حصل له في معسكره وهو ما أخرجه ابن سعد من طريق هلال بن خباب (7)، قال: جمع الحسن ابن على رؤوس أصحابه في قصر المدائن، فقال: يا أهل العراق، لو لم تذهل
__________
(1) مرويات خلافة معاوية، ص (142).
(2) رياح بن الحارث النخفى ثقة، التقريب، ص (211).
(3) بطيتكم: أى بوجهتكم، لسان العرب (15/ 2).
(4) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 317).
(5) فضائل الصحابة (2/ 773).
(6) المصدر السابق (2/ 773) إسناد صحيح.
(7) هلال بن خباب العبدى، صدوق، التقريب، ص (575).(1/365)
نفسى (1)، عنكم إلا لثلاث خصال لذهلت: مقتلكم أبي، ومطعنكم بغلتى وانتهابكم ثقلى، أو قال: ردائى عن عاتقى، وإنكم قد بايعتمونى أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، وإنى قد بايعت معاوية فاسمعوا له وأطيعوا قال: ثم نزل فدخل القصر (2).
1 - موقف شرطة الخميس من الصلح:
أما موقف شرطة الخميس -وهم مقدمة جيش العراق إلى مسكن- من الصلح، فقد أخرج الحاكم عن أبي الغريف (3)، قال: كنا في مقدمة الحسن بن على اثنى عشر ألفًا، تقطر أسيافنا من الحدة على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمرطة (4)، فلما أتانا صلح الحسن بن على ومعاوية كأنما كسرت ظهورنا من الحرد (5) والغيظ، فلما قدم الحسن بن علىّ على الكوفة، قام إليه رجل منا يكنى أبا عامر سفيان بن الليل (6). فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال الحسن: لا تقل ذلك يا أبا عامر، لم أذل المؤمنين، ولكنى كرهت أن أقتلهم في طلب الملك (7). ويبدو أنا أبا العمرّطة كان أميرًا على مجموعة من جيش الخميس في المقدمة، وكان فيهم أبو الغريف، لأنه من الثابت أن جيش الخميس كان عليه قيس بن سعد رضى الله عنه، كما أن الروايات الصحيحة لا تذكر أى وجود لعبيد الله بن العباس على جيش الخميس، مما يثير الشك حول وجود عبيد الله بن العباس في العراق في هذه الفترة (8)، ولا يلتفت إلى الروايات الساقطة والموضوعة التى تزعم أن عبيد الله خان الحسن مقابل رشاوى مالية من معاوية.
أما قيس بن سعد فقد تردد في الدخول في الصلح، واعتزل بمن أطاعه ثم شرح الله صدره، ودخل في الصلح وبايع معاوية رضوان الله عليهم أجمعين، وفى
__________
(1) تذهل تفسى: تسلو نفسى، لسان العرب (11/ 259).
(2) الطبقات، تحقيق السُّلمي (1/ 324).
(3) عبيد الله بن خليفة الهمدانى المرادى، صدوق، رمى بالتشيع، التقريب، ص (370).
(4) اسمه عمير بن يزيد الكندى، شارك في حركة حجر بن عدى سنة 51هـ، تاريخ الطبرى (5/ 259)، مرويات معاوية، ص (146).
(5) الحرد: الغضب، القاموس المحيط، ص (353).
(6) من الذين شاركوا المختار الثقفى في الطلب بدم الحسين 66هـ.
(7) المستدرك (3/ 175).
(8) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى، ص (114).(1/366)
الروايات التالية بيان موقف قيس حين جاءه خبر الصلح، أخرج ابن حجر من طريق حبيب بن أبي ثابت (1)، أنه قال: فبعث الحسن بالبيعة إلى معاوية، فكتب بذلك الحسن إلى قيس بن سعد، فقال قيس بن سعد في أصحابه فقال: يا أيها الناس، أتاكم أمران، لابد لكم من أحدهما: دخول في الفتنة، أو قتل مع غير إمام، فقال الناس: ما هذا؟ فقال: الحسن بن على قد أعطى البيعة معاوية، فرجع الناس، فبايعوا معاوية (2).
تشير الرواية السابقة إلى دخول قسم كبير من شرطة الخميس في الصلح فور سماعهم نبأ وقوع الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهم، ولكنها لا تذكر دخول قائدهم قيس بن سعد في الصلح، وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى ذلك بقوله: وبعث الحسن بن على إلى أمير المقدمة قيس بن سعد أن يسمع ويطيع، فأبى قيس بن سعد قبول ذلك، وخرج من طاعتهما جميعًا، واعتزل بمن أطاعه، ثم راجع الله، فبايع معاوية (3)، كما تحدث ابن أبي شيبة عن موقف قيس بن سعد رضي الله عنه -ومن تابعه من شرطة الخميس- من الصلح: فقال: عن هشام ابن عروة عن أبيه، قال: كان قيس بن سعد بن عبادة مع الحسن بن على رضى الله عنه على مقدمته، ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعد ما مات على بن أبي طالب رضي الله عنه، وتبايعوا على الموت، فلما دخل الحسن في بيعة معاوية أَبَىَ قيس أن يدخل، وقال لأصحابه: ما شئتم، إن شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا، وإن شئتم أخذت لكم أمانًا، فقالوا: خذ لنا أمانًا، فأخذ لهم كذا وكذا، ألا يعاقبوا بشيء، وأنه رجل منهم، ولم يأخذ لنفسه خاصة شيئًا فلما ارتحل نحو المدينة ومضى بأصحابه جعل ينحر لهم كل يوم جزورًا حتى بلغ (4)، وفى الرواية السابقة -على ما فيها من تقديم وتأخير في تسلسل الأحداث- إشارة لعدد الذين تابعوا قيسًا من المجموع الكلى لتعداد شرطة الخميس الذي هو اثنا عشر ألفاً (5).
__________
(1) حبيب بن أبي ثابت بن دينار الأسدى، التقريب، ص (150).
(2) المطالب العلية (4/ 317 - 319) هذا الإسناد صحيح.
(3) البداية والنهاية (8/ 16).
(4) البداية والنهاية (8/ 16).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 472).(1/367)
2 - مواقف أمراء علي رضي الله عنه من الصلح:
اتسمت مواقف أمراء علي رضي الله عنه من الصلح بالتباين والتفاوت، حيث قبله بعضهم وكرهه بعضهم الآخر، وفيما يلى تبيان لتلك المواقف:
أ- موقف القبول والاستحسان، ويأتي في مقدمة هؤلاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
ب- موقف الرفض ثم القبول، ويأتي في مقدمة هؤلاء قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه، وزياد بن أبيه.
- وهناك فريق ثالث دخل في الصلح وهو كاره له، هؤلاء ينقسمون إلى قسمين.
- قسم يرى أن الصلح ملزم له في ظل حياة الحسن رضي الله عنه فقط، ويمثل هؤلاء حجر بن عدى رضي الله عنه.
- قسم يرى أن الصلح ملزم له في ظل حياة الحسن ومعاوية رضي الله عنه، أو الآخر موتًا منهما، ويمثل هؤلاء الحسين بن علي رضي الله عنهما.
المرحلة الثامنة:
تنازل الحسن بن على عن الخلافة وتسليمه بن إلى معاوية رضوان الله عليهم أجمعين.
بعد أن أنجى الله سبحانه وتعالى الحسن بن على من الفتنة التى وقعت في معسكره، ترك المدائن وسار إلى الكوفة، وقد تحدث البلاذرى عن مسير الحسن إلى الكوفة، فقال: قالوا: ولما أراد الحسن المسير من المدائن إلى الكوفة، حين جاءه ابن عامر (1)، وابن سمرة (2) بكتاب الصلح، وقد أعطاه فيه معاوية ما أراد خطب فقال في خطبته: وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، وسار إلى الكوفة (3)، بعد ذلك سار معاوية رضي الله عنه من مسكن إلى النخيلة (4)، وفى
__________
(1) هو عبد الله بن عامر رضي الله عنه.
(2) هو عبد الرحمن بن سمرة.
(3) أنساب الأشراف مخطوط، ص (447) نقلاً عن مرويات معاوية، ص (150).
(4) النخيلة موضع قرب الكوفة على سمت الشام، معجم البلدان (5/ 278).(1/368)
ذلك يقول البلاذرى: قالوا: وشخص معاوية من مسكن إلى الكوفة ونزل بين النخيلة ودار الرزق (1)، ثم خرج الحسن رضي الله عنه من الكوفة إلى النخيلة ليقابل معاوية رضي الله عنه ويسلم الأمر له، فعن مجالد (2)، عن الشعبى (3)، قال: شهدت الحسن بن علي رضي الله عنه بالنخيلة حين صالحه معاوية رضى الله عنه، فقال معاوية: إذا كان ذا فقم فكلم وأخبر الناس أنك قد سلمت هذا الأمر لي، وربما قال: أخبر الناس بهذا الأمر الذي تركته لي -فقام فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه- قال الشعبى: وأنا أسمع - ثم قال: أما بعد فإن أكيس (4) الكيس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقًا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهِم، أو يكون حقًا كان لامرئ كان أحق به مني ففعلت ذلك {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (5) [الأنبياء: 111]. كما أخرج هذه الرواية ابن سعد (6)، والحاكم (7)، وأبو نعيم الأصفهانى (8)، والبيهقي (9)، وابن عبد البر (10)، كلهم بنحو رواية الطبرانى من ظريق الشعبى، كذلك أخرج رواية البيعة أحمد بن حنبل من طريق أنس بن سيرين، قال: قال الحسن بن على يوم كلم معاوية: ما بين جابلص (11) وجابلق رجل جده نبى غيرى، وإنى رأيت أن أصلح بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكنت أحقهم بذاك، ألا إنا قد بايعنا معاوية ولا أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" (12).
__________
(1) أنساب الأشراف نقلاً عن معاوية، ص (150).
(2) مجالد بن سعيد الهمذانى، فيه كلام.
(3) عامر الشعبى ثقة.
(4) أكيس: أعقل، والكيس العقل لسان العرب (16/ 201).
(5) المعجم الكبير (3/ 26) إسناده حسن.
(6) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 329).
(7) المستدرك (3/ 175).
(8) حلية الأولياء (2/ 37).
(9) دلائل النبوة (6/ 444).
(10) الاستيعاب (1/ 388، 389).
(11) جابلص وجابلق مدينتان، إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب.
(12) فضائل الصحابة (2/ 769) إسناده صحيح.(1/369)
وجاء قى رواية ابن سعد من طريق عمرو بن دينار، وفيها فقال الحسن: أيها الناس، إنى كنت أكره الناس لأول هذا الحديث، وأنا أصلحت آخره لذى حق أديت إليه حقه أحق به مني، أو حق جدت به لصلاح أمة محمد، وإن الله قد ولاك يا معاوية هذا الحديث لخير يعلمه عندك أو لشر يعلمه فيك {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111] ثم نزل وأما الرواية التى تشير إلى أن عمرو بن العاص وأبو الأعور السلمي قالوا لمعاوية لما بايع الحسن بن على معاوية: لو أمرت الحسن فصعد المنبر فتكلم عيى (1) عن المنطق فيزهد فيه الناس، فقال معاوية: لا تفعلوا فوالله لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمص لسانه وشفته ولن يَعْيَ لسان مصه النبى - صلى الله عليه وسلم - أو شفتان، فآبوا على معاوية فصعد الحسن المنبر فحمد بن وأثنى عليه .. " فهذه رواية باطلة من حيث الإسناد والمتن، فإسنادها ضعيف ومتنها منكر، (2) وليس معاوية بمن يجهل القدرات البلاغية والخطابية للحسن.
وجاء في رواية البلاذرى أن الحسن دخل بقيس على معاوية ليبايعه، فعن جرير ابن حازم، قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: لما بايع الحسن معاوية، ركب الحسن إليه إلى عسكره، وأردف قيس بن سعد بن عبادة خلفه، فلما دخلا المعسكر، قال الناس: جاء قيس، جاء قيس، فلما دخلا على معاوية، بايعه الحسن، ثم قال لقيس: بايع. فقال قيس بيده: هكذا، وجعلها في حجره ولم يرفعها إلى معاوية، ومعاوية على السرير، فبرك معاوية على ركبتيه، ومدّ يده حتى مسح على يد قيس، وهى في حجره قال -جرير بن حازم- وحكى لنا محمد بن سيرين صنيعه، وجعل يضحك وكان قيس رجلاً جسيمًا (3).
وبتنازل الحسن بن على عن الخلافة ومبايعته رضوان الله عليهم أجمعين تنتهى بذلك فترة خلافة النبوة وهى ثلاثون سنة والحجة في ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتى الله الملك، أو ملكه من يشاء" (4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) عيى: العى: خلاف البيان، وعيى في المنطق عيا أى حصر في الكلام فلم يستطع البيان، لسان العرب (5/ 112، 113).
(2) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 325) إسناده ضعيف ومتنه منكر.
(3) أنساب الإشراف نقلاً عن مرويات خلافة معاوية، ص (154)، إسناده صحيح.
(4) سنن أبي داود مع شرح عون المعبود (12/ 259) صحيح سنن أبي داود، الألباني (3/ 879).(1/370)
"الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" (1)، وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال: وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن على، فإنه نزل على الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه توفى في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وتسليمًا (2)، وبذلك يكون الحسن بن على رضي الله عنه خامس الخلفاء الراشدين (3).
- أهم أسباب ودوافع الصلح:
كانت هناك عوامل وأسباب متعددة ساهمت في دفع أمير المؤمنين الحسن للصلح مع معاوية رضي الله عنه فمنها:
أولاً: الرغبة فيما عند الله وإرادة صلاح هذه الأمة:
قال الحسن بن على رضى الله عنهما ردًا على نفير الحضرمى عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجم العرب بيدى، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله (4)، وقال في خطبته التى تنازل فيها لمعاوية: .. إما كان حقًا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة (5).
إن استحضار الحسن رضي الله عنه وإرادة وجه الله وتقديم ذلك، والحرص على إصلاح ذات البين من أسباب الصلح ودوافعه عند الحسن بن علي رضي الله عنه، فمكانة الصلح في الإسلام عظيمة، وهو من أجل الأخلاق الاجتماعية، إذ به يرفع الخلاف وينهى المنازعة التى تنشأ بين المتعاملين ماديًا أو اجتماعيًا، ويعود بسببه الود والإخاء بين المتنازعين لكونه يرضى طرفى النزاع ويقطع دابر الخصام، ولذلك كان الصلح من أسمى المطالب الشرعية لتتحقق به الأخوة التى ينشدها لهم ويصفهم بها، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]
__________
(1) سنن الترمذى مع شرحها تحفة الأحوذى (6/ 395 - 397) قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.
(2) البداية والهاية (8/ 6).
(3) مآثر الإنافة (1/ 105) للقلقشندى مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى، ص (155).
(4) البداية والهاية (11/ 206).
(5) المعجم الكبير للطبرانى (3/ 26) إسناده حسن.(1/371)
وهى الأخوة التى يذهبها الخلاف والتنازع فيما بينهم (1) ولذلك اعتنى القرآن الكريم بالصلح كثيرًا، أمرًا به، وترغيبًا فيه، وتنويهًا به وبأهله، وإليك البيان.
1 - الأمر بالإصلاح:
ففى مثل قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10] فترى أن الله تعالى أمر عباده بأن يصلحوا ذات بينهم لما بينهم من الإخاء كما صرح به في آية الحجرات حيث قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] إذ بينت هذه الآية علّيَّة الأمر بالإصلاح بين المؤمنين بصيغة القصرَ، المفيدة لحصر حالهم في حال الأخوة، مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين، لما بينهم من انتساب إلى أصل واحد وهو الإيمان الذي هو منشأه البقاء الأبدى في الجنات، فأشارت جملة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} إلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين ومن هذه الأوامر القرآنية يُعلم أن الإصلاح بين الناس ليس من نافلة القول، بل هو تكليف إلهى للقادرين عليه، حتى لا تفسد أواصر الأخوة الإيمانية بين المؤمنين، وهو مع ذلك من التعاون على البر والتقوى، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذين أمر الله تعالى بهما في غير آية، ومعلوم أن هذا من الواجبات الشرعية التكليفية على المؤمنين في علاقتهم الاجتماعية، فكل هذه الأمور تحتم على المسلم القيام بالإصلاح بين المسلمين بل وبين الناس عامة، ولتستقر الحياة الاجتماعية عامرة بالود والإخاء (2)، كانت هذه الأوامر دافعة للحسن بن على رضى الله عنه للسعى في الإصلاح.
__________
(1) أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - القرآن والسنة (2/ 969).
(2) أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة (2/ 971).(1/372)
2 - الترغيب في القيام بالإصلاح:
ولقد رتب الله تعالى على القيام به فضلاً كبيرًا وأجرًا عظيمًا، يناله القائم بذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى كما قال الله جل شأنه: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. ووعد القائمين به مغفرة ورحمة، كما يفيده قول الله جل ذكره: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] فإن في هذه الآية إشارة إلى مغفرة بن ورحمته للمصلحين، كَما أذن به ختم الآية بصفتى المغفرة والرحمة لله سبحانه وتعالى (1)، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182]، فإن فيها من الإشارة إلى مغفرته ورحمته سبحانه للمصلح ما في سابقتها، بدلالة نفى الإثم، وتذييلها بصفتى المغفرة والرحمة، وهى إشارة جلية (2) وقد وصف سبحانه نفسه بقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].
3 - التنويه بالصلح والقائمين عليه:
وتكرار هذا الوعد يدل على علو شأن الإصلاح بين الناس عند الله تعالى، ولذلك أجزل للقائم به تلك المثوبة الكريمة والأجر العظيم، وقد دل على ذلك أيضاً تنويه الله تعالى به بمثل قوله سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] فإن وصفه بالخيرية دليل على علو منزلته عند الله تعالى، وذلك لما له من عظيم الأثر في إصلاح ذات البين بين الناس، الذي طالما تشوف الشارع الحكيم إليه في المجتمعات الإنسانية، ولما له من دلالة على كريم أخلاق القائم به أو الراضى عنه، ولهذا كان من أبرز أخلاق الرسل عليهم الصلاة والسلام كما قال الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]، كما قال على لسان موسى وهو يخاطب أخاه هارون رضي الله عنه: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] إلى غير ذلك من الآيات، والإصلاح في
__________
(1) أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة (2/ 971).
(2) أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة (2/ 971).(1/373)
مثل هاتين الآيتين عام فيشمل الإصلاح في الدين والدنيا، ومنه الإصلاح بين الناس عند حدوث المقتضى لذلك من نزاع ونحوه لا يخلو منه مجتمع من المجتمعات البشرية (1). فهذا المقصد القرآنى الكريم، كان دافعًا للحسن بن على في الصلح، وقد تتبع خطوات جده - صلى الله عليه وسلم - في الحرص على الصلح، فقد كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يجهد نفسه في الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فقد حدث ذات يوم أن أهل قباء اقتتلوا (2) حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم" (3)، فانظر كيف أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يتوان عن الذهاب للإصلاح بين المسلمين حينما بدر الشقاق بينهم ليحسم الخلاف، ويعيد الوئام قبل أن يستفحل الأمر ويتسع الخرق على الراقع (4).
ولأهمية الصلح بين الناس وفضله أجاز الإسلام الكذب فيه إذا كان القصد من ذلك الإصلاح بين المتخاصمين، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمى خيرًا أو يقول خيرًا" (5)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: الرجل يحدت امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس" (6)، وما ذلك إلا لعظم خطر الخلاف بين المسلمين وفساد ذات بينهم كما بينه - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة" (7) أى: الخصلة التى من شأنها أن تحلق، أراد أنها خصلة سوء تذهب الدين كما تذهب الموسى الشعر (8)، ولقد بين عليه الصلاة والسلام ما للصلح من أجر عظيم بقوله: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله قال: "إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هى الحالقة" (9). ولذلك كان من أمله الكبير ورجائه العظيم في
__________
(1) أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة (2/ 971).
(2) أى: فعلوا فعلاً يؤدى بهم إلى القتل من مضاربة بالأيدى والعصى.
(3) البخارى، ك الصلح، رقم (2690).
(4) أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - في ضوء القرآن والسنة (2/ 979).
(5) البخارى، ك الأدب، رقم (4900).
(6) سنن أبي داود مع عون المعبود (13/ 263)، رقم (4900).
(7) سنن الترمذى، رقم (2508) قال عنه الترمذى: صحيح غريب من هذا الوجه.
(8) جامع الأصول لابن الأثير (6/ 668).
(9) سنن الترمذى، رقم (2509) وقال الترمذى: حديث صحيح.(1/374)
نسله المبارك الحسن السبط -رضي الله عنه- أن يصلح الله به فساد ذات البين الذي أعلمه الله بحدوثه في أمته بعد وفاته، فمن حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، والحسن بن على إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن بنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (1)، فرغبة الحسن بن علي رضي الله عنه في الأجر والمثوبة وإرادته للإصلاح دفعته لهذا الصلح المبارك.
ثانيًا: إن ابنى هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين:
إن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دفعت الحسن إلى التخطيط والاستعداد النفسى للصلح والتغلب على العوائق التى في الطريق، فقد كان هذا الحديث الكلمة الموجهة الرائدة للحسن في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته، فقد حلت في قرارة نفسه واستولت على مشاعره وأحاسيسه واختلطت بلحمه ودمه، ومن خلال هذا التوجيه واستيعابه وفهمه له بنى مشروعه الإصلاحى، وقسم مراحله وكان متيقنًا من نتائجه، فالحديث النبوى كان دافعًا أساسيًا وسببًا مركزيًا في اندفاع الحسن للإصلاح.
ثالثًا: حقن دماء المسلمين:
قال الحسن رضي الله عنه: ... خشيت أن يجىء يوم القيامة سبعون ألفًا، أو أكثر أو أقل، كلهم تنضح أوداجهم دمًا، كلهم يستعدى الله فيما هُريق دمه (2)؟ وقال رضي الله عنه: ألا إن أمر الله واقع إذ ليس له دافع وإن كره الناس، إنى ما أحببت أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما ينفعنى مما يضرنى ألحقوا بطيتكم (3) (4)، وقال في خطبته التى تنازل فيها لمعاوية عن الخلافة وتسليمه الأمر إليه: ... إما كان حقًا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم (5).
__________
(1) البخارى، رقم (7109).
(2) البداية والنهاية (11/ 206).
(3) بطيتكم: جهتكم ونواحيكم.
(4) تاريخ دمشق (14/ 89).
(5) المعجم الكبير للطبرانى (3/ 26) إسناده حسن.(1/375)
تلحظ من كلام سيدنا الحسن رضي الله عنه شدة خوفه من الله تعالى ذلك الخوف الذي دفعه إلى الصلح، وقد مدح بن أنبياءه عليهم السلام وأولياءه بمخافتهم الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21] فالخوف المحمود من الله يحث على العلم، ويكدر جميع الشهوات، ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا، ويدعوه إلى التجافى عن دار الغرور، دون الحديث النفسى الذي لا يؤثر في الكف عن المعاصى والحث على فعل الطاعات، ودون الوصول إلى اليأس الموجب للقنوط (1). فالحسن بن علي رضي الله عنه أراد أن يحقن دماء المسلمين قربة إلى الله عز وجل، وخشى على نفسه من حساب الله يوم القيامة في أمر الدماء، ولو أدى به الأمر إلى ترك الخلافة، فكان ذلك دافعًا له نحو الصلح، فالحسن بن على رضي الله عنه يعلم خطورة سفك الدماء بين المسلمين، لأن ذلك من أخطر الأمور التى تهز كيان البشرية، ولذلك ورد تحريمه والوعيد عليه، وتحديد عقوبته في كثير من نصوص الكتاب والسنة، والقتل أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة مما يدل على عظم شأن قتل النفس والاعتداء على حرمة الإنسان، فقد روى البخارى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء" (2)، فأمر الدماء عظيم يوم القيامة، والعمل على حفظها في الدنيا من مقاصد الشريعة ولذلك حرص الحسن على الصلح حفظًا لدماء المسلمين، لقد عنيت الشريعة الإسلامية التى فهمها واستوعبها الحسن -رضي الله عنه- بالنفس عناية فائقة، فشرعت من الأحكام ما يجلب المصالح لها، ويدفع المفاسد عنها، وذلك مبالغة في حفظها وصيانتها، ودرء الاعتداء عليها لأنه بتعرض الأنفس للضياع والهلاك يُفقد المكلف الذي يتعبد الله سبحانه وتعالى وذلك بدوره يؤدى إلى ضياع الدين، والمقصود من الأنفس التى عنيت الشريعة بحفظها هى الأنفس المعصومة بالإسلام الجزية أو الأمان (3)، ولهذا لما قيل للحسن من بعض المعترضين
__________
(1) جامع العلوم والحكم، ص (363)، الإيمان أولاً، ص (117).
(2) البخارى، ك الديات، رقم (6864).
(3) روضة الطالبين (9/ 148)، مقاصد الشريعة لليوبى، ص (211).(1/376)
على الصلح: يا عار المؤمنين! قال: للعار خير من النار (1)، وفى رواية ابن سعد: إنى اخترت العار على النار (2)، ونلحظ أن الحسن بن على كان يناقش أتباعه ويبين، لهم دوافعه ويرتقى بهم نحو قناعته، ولم يكن ممن تقوده الجماهير، وهمه ما يطلبه المستمعون، وإنما شق طريقه وفق تصوراته وفهمه لحقائق الأمور، ونأى بنفسه أن يتأثر بضغط عوام الناس ما دامت الخطوات التى يسير بها فيها رضا الله، ومصلحة المسلمين، وهذا درس كبير لكثير من القيادات الإسلامية، في كون القائد هو الذي يقود عامة الناس ويرتقى بهم نحو أهدافهم، وفى مثل ظروف الحسن عادة يكون الزعماء بين أمور:
أ- ما تطلبه الجماهير.
ب- من لا يهتم ولا يرد على أحد.
ج- عمل الصواب والحق والارتقاء بالجماهير. ونرى الحسن بن على اختار الطريق الثالث وهو عمل الصواب والحق والارتقاء بالجماهير نحو الأهداف السامية التى رسمها، ولذلك قام بتقديم رؤية واضحة وخطوات تنفيذية عبر مراحل وتمهيدات ووضع شروط وتغلب على العوائق، واهتم بإقناع المخالفين لوجهة نظره وهذا هو الصواب والله أعلم.
رابعًا: حرصه على وحدة الأمة:
قام الحسن بن على خطيبًا رضي الله عنه في إحدى مراحل الصلح فقال: أيها الناس، إنى قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة (3)، وإنى ناظر لكم كنظرى لنفسى، وأرى رأيًا فلا تردوا علىَّ رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة (4). وقد تحقق بفضل الله ثم حرص الحسن على وحدة الأمة ذلك المقصد العظيم، فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة حقنًا لدماء المسلمين، وتجنبًا للمفاسد العظيمة التى ستلحق الأمة كلها في المآل إذا بقى
__________
(1) تاريخ دمشق (14/ 88).
(2) الطبقات، تحقيق السلمي (1/ 329) إسناده ضعيف جدًا.
(3) الضغينة: الحقد.
(4) الأخبار الطوال، ص (200).(1/377)
مصرًا على موقفه، من استمرار الفتنة، وسفك الدماء، وقطع الأرحام، واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها، وقد تحققت -بحمد الله- وحدة الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا حتى سمى ذلك العام عام الجماعة (1). وهذا يدل على فقه الحسن في معرفته لاعتبار المآلات ومراعاته نتائج التصرفات، ولهذا الفقه مظاهره في كتاب الله وشواهده، فقد رتب المولى عز وجل الحكم على مقتضى النتائج والشواهد ومثال ذلك:
1 - النهى عن سب المشركين:
قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. رغم أن سب آلهة المشركين أمر جائز لما فيه من إهانة الباطل ونصرة الحق إلا أن الشارع الحكيم لم يقف نظره واعتباره عند هذه الغاية القريبة، بل نظر إلى نتيجة هذا العمل المشروع، وما سينجر عنه من آثار غير مشروعة، ثم قضى بعدم سب آلهة المشركين سدًا لذريعة سبهم لله تعالى انتقامًا لآلهتهم، وانتصارًا لباطلهم، إذ إن المصلحة التى ستحصل من إهانة آلهتهم أهون بكثير من مفسدة سبهم لرب العالمين، والمفسدة إذا أربت على المصلحة قدم درء المفسدة على جلب المصلحة (2).
2 - النهى عن الجهر والمخافتة في القراءة:
قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] حيث نهى المولى عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الجهر بالقراءة في الصلاة؛ التفاقًا إلى مآل ذلك إذا سمع المشركون قراءته، فيحملهم ذلك على سب الله تعالى وشتم دينه وكلامه (3)، يقول ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية: إن الكفار -يعنى بمكة حين كان مختفيًا- كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}
__________
(1) اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، ص (167).
(2) المصدر نفسه، ص (124).
(3) المصدر نفسه، ص (125).(1/378)
أى بقراءتك فيسمعِ المشركون فيسبوا القرآن، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا يسمعون، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1).
3 - خرق الخضر للسفينة:
قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. الاعتداء على ملك الغير بغير حق من الأمور المحظورة على وجه القطع في الشرع، لكننا رأينا الخضر عليه السلام يهوى على السفينة بالخرق الذي هو في ظاهر الحال تعييب، وإلحاق الخسارة بأهلها، ولما أنكر عليه موسى عليه السلامِ فعله، وقرره بالجميل الذي أسداه إليهما أهل السفينة حين أركبوهما بغير أجرة؛ بيَّن له أن المفسدة لم ترتكب إلا لما فيها من دفع مفسدة أعظم وهى غصب السفينة وذهابها جملة؛ حيث إن وراءهم ملكًا يأخذ كل سفينة سالمة من العيوب غصبًا، ولا شك أن ارتكاب ضرر يسير في الحال إذا كان فيه دفع لمفسدة أعظم في المآل، يعتبر أمرًا محمودًا، والشريعة جارية على ملاحظة النتائج ودفع المفاسد العظيمة المتوقعة في الآجل، حتى وإن كان ذلك بارتكاب مفاسد أقل منها في الحال، ثم إن مفسدة خرق السفينة وتعييبها يمكن تداركها بالإصلاح، بينما ذهاب ذات السفينة إذا تحقق؛ لم يتعلق بعودتها أمل (2).
4 - ومن مظاهر اعتبار المآل في السنة النبوية وشواهده، دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، منها كالامتناع عن قتل المنافقين، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصارى: يا للأنصار وقال المهاجرى: يا للمهاجرين؛ فسمعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما هذا؟ " فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الله، فقال الأنصارى: يا للأنصار؛ وقال المهاجرى: يا للمهاجرين؛ فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها فإنها منتنة"، قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد؛ فقال عبد الله بن أبي: أو قد فعلوا؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال
__________
(1) أسباب النزول للواحدى، ص (223، 224).
(2) اعتبار المآلات، ص (126).(1/379)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (1)، إن قتل المنافقين واستئصالهم فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين، وتطهير لصفهم من أن تندس إليه عناصر التخذيل والإفساد؛ لكن لما كان في ذلك هز الثقة بالمسلمين وزرع لقالة السوء عنهم بحيث ينتشر في الناس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يعامل الذين يعتنقون دينه بالقتل والتصفية الجسدية، فإن الأمر يتغير، وأصبح التغاضى عن قتلهم مصلحة أعلى وأولى من الصالح الأخرى التى تتأتى من استئصالهم، ورغم أن بقاء المنافقين فيه من المفاسد المحققة ما لا ينكره عاقل، إلا أن في القضاء عليهم مفسدة تفوق مفسدة بقائهم؛ لذا اقتضت حكمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن تدفع المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى (2).
ومن هدى النبى -صلى الله عليه وسلم- في اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، ترك تجديد الكعبة على قواعد إبراهيم وهو ما ثبت من حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشًا حين بنت البعت استقصرت؛ ولجعلت لها خلفًا" (3). لما كانت الكعبة المشرفة تمثل مهوى أفئدة المؤمنين، ومجلى تاريخ النبواب الأولى، كان الأصل أن تبقى على ما تركها عليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لكن قريشًا حين أرادت تجديد بنائها في الجاهلية، لم يكن معها من المال الحلال ما يكفى لإعادة البناء إلى ما كان عليه، فانتهت لها الاستطاعة إلى تشييدها على النحو الذي كانت عليه في عهد المصطفى، وقد كانت نفس النبى - صلى الله عليه وسلم - تستشرف إلى تدارك ما قصرت عنه نفقة قريش، غير أنه ترك المصلحة المحققة في إعادة بناء البيت على قواعده الأصلية التى أسسها إبراهيم عليه السلام، خشية اهتزاز حرمة البيت من النفوس، وخوف نفور الناس من الإسلام لاعتقادهم أن ذلك جرأة على الكعبة واعتداء على حرمتها (4).
__________
(1) البخارى، التفسير، رقم (4905).
(2) اعتبار المآلات، ص (138، 139).
(3) البخارى، ك الحج، رقم (1585).
(4) اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، ص (148، 149).(1/380)
إن الحسن بن على رضى الله عنه فى فهمه العميق لفقه اعتبار المآلات ومراعاة التصرفات، كان نتيجة طبيعة لتربيته على القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، فقد كان مستوعبًا لمقاصد الشريعة قادرًا على التطبيق بين هدى الشريعة والواقع الفعلى الذى عاشه، فكانت اجتهاداته فريدة، فى مجال السياسة الشرعية، فتحت للمسلمين آفاق رحبة فى تحقيق وحدة الأمة وتلاحم صفها، وقوة شوكتها، وإعادة دورها الحضارى، وهذا الفقه الدقيق والفهم العميق نحن فى أشد الحاجة لفهمه والعمل به فى حياتنا المعاصرة. فالحسن بن على يعلمنا أضلاً عظيمًا من أعظم أصول الإسلام؛ المحافظة على الجماعة؛ وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا وأن لا يتفرقوا، وهو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به فى كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى مواطن عامة وخاصة (1). فقد قام الحسن بن على بمحاربة التفرق والاختلاف، وعملٍ بالتوجيهات القرآنية الهادفة لتوحيد الأمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 102 - 106].
خامسًا: مقتل أمير المؤمنين على رضى الله عنه:
ومن الأسباب التى دعت أمير المؤمنين الحسن بن على إلى الصلح ما رُوع به من مقتل أبيه، فقد ترك ذلك فراغًا كبيرًا فى جبهة العراق وأثر اغتياله على نفسية الحسن رضى الله عنه فترك فيها حزنًا وأسى شديدًا، فقد قتل هذا الإمام العظيم بدون وجه حق، ولم يرع الخوارج سابقته فى الإسلام ولا فضائله العظيمة، ولا
__________
(1) رسالة الألفة بين المسلمين، لابن تيمية، ص (27).(1/381)
خدماته الجليلة التى قدمها للإسلام، فقد كانت حياته حافلة بالقيم والمثل والعمل على تكريس أحكام الشريعة على مستوى الدولة والشعب، لقد كان علىّ رضى الله عنه معلمًا من معالم الهدى وفارقًا بين الحق والباطل، فكان من الطبيعى أن يتأثر المسلمون لفقده ويشعروا بالفراغ الكبير الذى تركه، فقد كان وقع مصيبة مقتله على المسلمين عظيمًا، فجللهم الحزن، وفاضت مآقيهم بالدموع، ولهجت ألسنتهم بالثناء والترحم عليه رضى الله عليه، وكان مقتله سببًا فى تزهيد الحسن فى أهل العراق أولئك الذين غمرتهم مكارم أخلاق أمير المؤمنين. وشرف صحبته فأضلتهم الفتن والأطماع، وانحرفوا عن الصراط المستقيم، ونستثنى من أولئك الصادقين المخلصين لدينهم وخليفتهم الراحل العظيم رضى الله عنه وأرضاه، فقد كان مقتله ضربة قوية وجهت لعهد الخلافة الراشدة وكانت من أسباب زوالها فيما بعد.
سادسًا: شخصية معاوية رضى الله عنه:
إن تسليم الحسن بن على الخلافة إلى معاوية مع أن معه أكثر من أربعين ألفًا بايعوه على الموت، فلو لم يكن أهلاً لها لما سلمها السبط الطيب إليه، ولحاربه (1)، فمعاوية رضى الله عنه لم يتزعم أهل الشام من فراغ، فقد ذكر المترجمون لهذا الصحابى الكريم فضائل جمة، وإليك شيئًا منها:
1 - من القرآن الكريم:
اشترك معاوية رضى الله عنه فى غزِوة حنين، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
ومعاوية رضى الله عنه من الذين شهدوا غزوة حنين، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبى - صلى الله عليه وسلم - (2).
2 - من السنة:
دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية رضى الله عنه، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اجعله
__________
(1) الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية، ص (57).
(2) مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، خالد الغيث، ص (23).(1/382)
هاديًا (1) مهديًا (2)، واهد به" (3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم علِّم معاوية الكتاب، والحساب، وقه العذاب" (4). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أول جيش من أمتى يغزون البحر قد أوجبوا" (5). قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أول جيش من أمتى يغزون مدينة قيصر (6) مغفور لهم". فقلت -أى أم حرام-: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: "لا" (7). قال المهلب (8): فى هذا الحديث منقبه لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر (9).
3 - نظرات أهل العلم على معاوية رضى الله عنه:
أ- ثناء عبد الله بن عباس رضى الله عنهما:
قيل لابن عباس رضى الله عنهما: هل لك فى أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه (10).
ب- ثناء عبد الله بن المبارك على معاوية رضى الله عنه:
قال عبد الله بن المبارك: معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزرًا اتهمناه على القوم، يعنى: الصحابة (11).
ج- ثناء أحمد بن حنبل:
سئل الإمام أحمد -رحمه الله:- ما تقول رحمك الله فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحى، ولا أقول: إنه خال المؤمنين، فإنه أخذها بالسيف
__________
(1) هاديًا للناس، أو دالاً على الخير.
(2) مهديًا: أى مهتديًا فى نفسه.
(3) صحيح سنن الترمذى للألبانى (3/ 236).
(4) موارد الظمآن (7/ 249) إسناده حسن.
(5) أوجبوا: أى: فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة، فتح البارى (6/ 121).
(6) مدينة قيصر: يعنى القسطنطينية.
(7) البخارى، رقم (2924).
(8) المهلب بن أحمد الأندلسى، مصنف شرح صحيح البخارى توفى 435هـ.
(9) فتح البارى (6/ 120).
(10) المصدر نفسه (7/ 130).
(11) مرويات خلافة معاوية، ص (28).(1/383)
غصبًا؟ (1) قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، تجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ونبين أمرهم للناس (2).
د- ثناء القاضى ابن العربى على معاوية رضى الله عنه:
تحدث ابن العربى عن الخصال التى اجتمعت فى معاوية رضى الله عنه، فذكر منها: قيامه بحماية البيضة، وسد الثغور، وإصلاح الجند، والظهور على العدو، وسياسة الخلق (3)، وقد علق محب الدين الخطيب على هذا النص بقوله: وقد بلغ من همته -يعنى معاوية- وعظيم عنايته بذلك أن أرسل يهدد ملك الروم وهو فى معمعة القتال مع على فى صفين، وقد بلغه: أن ملك الروم اقترب من الحدود فى جنود عظيمة (4)، وفى ذلك يقول ابن كثير: وطمع فى معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه، وأذله، وقهر جنده، ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب عليّ تدانى إلى بعض البلاد فى جنود عظيمة، وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين، لأصطلحن أنا وابن عمى عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت؛ فعند ذلك خاف ملك الروم، وبعث يطلب الهدنة (5).
هـ- ثناء ابن تيمية على معاوية رضى الله عنه:
قال عنه ابن تيمية: "فإن معاوية ثبت بالتواتر: أنه أمَّره النبى - صلى الله عليه وسلم -، كما أمَّر غيره، وجاهد معه، وكان أمينًا له بالوحى، وما اتهمه النبى - صلى الله عليه وسلم - فى كتابة الوحى، وولاه عمر بن الخطاب الذى كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه فى ولايته (6).
__________
(1) مرويات خلافة معاوية، ص (28).
(2) السنة للخلال، تحقيق، عطية الزهرانى (2/ 434).
(3) العواصم من القواصم، ص (210، 211).
(4) مرويات خلافة معاوية، ص (31).
(5) البداية والنهاية (8/ 119).
(6) الفتاوى (4/ 472)، سير أعلام النبلاء (3/ 129).(1/384)
و- ثناء ابن كثير عليه:
قال عنه ابن كثير: وأجمعت الرعايا على بيعته فى سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلاً بالأمر فى هذه المدة إلى هذه السنة التى كانت فيها وفاته، والجهاد فى بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرضي، والمسلمون معه فى راحة وعدل، وصفح، وعفو، وقال أيضًا: كان حليمًا (1)، وقورًا، رئيسًا، سيدًا فى الناس، كريمًا، عادلاً، شهمًا (2). وقال عنه أيضًا: كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر رحمه الله تعالى (3).
4 - روايته للحديث:
يعد معاوية رضى الله عنه من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومرد ذلك إلى ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة، لكونه صهره، وكاتبه، هذا وقد روى معاوية رضى الله عنه مائة وثلاثة وستون حديثًا عن رسول الله، اتفق له البخارى ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخارى بأربعة، ومسلم بخمسة. (4)
وكانت سيرة معاوية رضى الله عنه مع الرعية فى ولايته من خير سير الولاة مما جعل الناس يحبونه، وقد ثبت فى الصحيح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: خيار أئمتكم- حكاوكم- الذين "تحبونهم، ويحبونكم وتصلون عليهم -تدعون لهم- ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضعونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" (5).
5 - قول أمير المؤمين على بن أبى طالب على إمارته:
عن سفيان بن الليل قال: قلت للحسن بن على لما قدم الكوفة إلى المدينة: يا مذل المؤمنين، قال: لا تقل ذلك، فإنى سمعت أبى يقول: لا تذهب الأيام والليالى حتى يملك معاوية، فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تراق بينى وبينه
__________
(1) أفرد ابن الدنيا، وأبو بكر بن أبى عاصم تصنيفًا فى حلم معاوية.
(2) البداية والنهاية (8/ 118).
(3) المصدر نفسه (8/ 126).
(4) مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، ص (23).
(5) مسلم، ك الإمارة، رقم (65).(1/385)
دماء المسلمين (1). وفى رواية، عن على رضى الله عنه، قال: لا تكرهوا إمارة معاوية، فوالله لئن فقدتموه لترون رؤوسًا تندر عن كواهلها كأنها الحنظل (2).
فهذه آثار تشير إلى قدرة معاوية على الإمارة، كما أن أسلوب معاوية فى التفاوض والتعامل مع الحسن أوجد قواسم مشتركة للوصول إلى الإصلاح، وإن كان المهندس الفعلى لمشروع الإصلاح هو الحسن بن على، إلا أن شخصية معاوية وسعة أفقه ورحابة صدره، وما أبداه من المرونة ساعد على نجاح الصلح، وقد كان رضى الله عنه يتأدب إلى الحسن ويكرمه ويروى فضائل أهل البيت، فهذا يدل على إيثاره الحق مع المنازعة والمخاصمة التى سبقت بقدر الحق سبحانه (3)، وقد أخرج أحمد فى مسنده عن معاوية قال: كان رسول الله يمص لسان الحسن وشفتيه وأنه لن يعذب الله لسانًا أو شفة مصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
وكان رضى الله عنه صريحًا مع نفسه معترفًا بذنوبه، طالبًا مغفرة ربه، وطامعًا فى رحمته وحلمه، فعن ابن شهاب، عن عروة أن المسور أخبره أنه قدم على معاوية، فقال: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا، وأحسن فيما جئنا له. قال: لتكلمنى بذات نفسك مما تعيب علىَّ؟ قال: فلم أترك شيئًا إلا بينته، فقال: لا أبرأ من الذنب فهل تعد لنا مما نلى من الإصلاح فى أمر العامة، أم تعد الذنوب، وتترك الإحسان؟ قلت: نعم. قال: فإنا نعترف لله بكل ذنب، فهل لك من ذنوب فى خاصتك تخشاها؟ قال: نعم. فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق منى، فوالله ما آلى من الإصلاح أكثر مما تلى، ولا أُخيَّر بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على سواه، وإنى لعلى دين يقبل فيه العمل، ويجزى فيه الحسنات، قال: فعرفت أنه قد خصمنى، قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه (5) -أى دعا له- والحديث عن معاوية بالتفصيل سوف يأتى بإذن الله تعالى، إن أعطانا الله القوة ويسر الأسباب بمنه وكرمه وجوده فى حديثنا عن
__________
(1) تاريخ دمشق (12/ 105).
(2) تاريخ دمشق (12/ 105).
(3) الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية، ص (57).
(4) المسند، رقم (16848) إسناده صحيح.
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 392).(1/386)
الدولة الأموية، ومع هذه النية المبيتة للحديث عن معاوية رضى الله عنه بالتفصيل، فلا يمنع من ذكر هذه القصة التى تبين خوفه وخشيته من الله تعالى، فعندما كان يروى فى مجلسه حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، من أمة محمد القارئ المرائى، والمنفق المرائى، والمجاهد المرائى، وبيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك وقال لأبى هريرة: "يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" (1)، فكان معاوية يقول عندما يسمع الحديث: فقد فعل هؤلاء هذا فكيف بمن بقى من الناس؟ فقال الراوى: ثم بكى معاوية بكاء شديدًا، حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق ومسحِ عن وجهه، وقال: صدق الله، ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16] (2).
إن شخصية معاوية رضى الله عنه وتاريخه فى خدمة الإسلام كان عاملاً مهمًا فى نجاح الصلح، ولا نزعم بأنه من طبقة الخلفاء الراشدين، المهديين، ولكنه من الملوك العادلين، كما أن سيرته غنية بالفقه السياسى والإدارى والعسكرى، والاقتصادى والاجتماعى، وهذا يحتاج إلى دراسة متأنية لعصره ونسأل الله أن يوفقنا إلى ذلك.
سابعًا: اضطراب جيش العراق وأهل الكوفة:
كان لخروج الخوارج أثر فى إضعاف جيش أمير المؤمنين على رضى الله عنه، كما أن الحروب فى الجمل وصفين والنهروان، تسببت فى ملل أهل العراق للحرب ونفورهم منها، وخاصة أهل الشام فى صفين، فإن حربهم ليس كحرب غيرهم، فمعركة صفين الطاحنة لم تفارق مخيلتهم، فكم يتمت من الأطفال ورملت من النساء، بدون أن يتحقق مقصودهم ولولا الصلح أو التحكيم الذى رحب به أمير المؤمنين على وكثير من أصحابه لكانت مصيبة على العالم الإسلامى لا يتخيل
__________
(1) رواه الترمذى والحاكم عن أبى هريرة، وصححه الألبانى، رقم (1713).
(2) النهاية فى الفتن والملاحم (2/ 52).(1/387)
آثارها السيئة، فكان التخاذل عن المسير مع على رضى الله عنه إلى الشام مرة أخرى أحب إلى فريق منهم وتميل إليه نفوسهم، وإن كانوا يعلمون أن عليًا على حق (1).
ومن المعضلات التى أوهنت جانب أمير المؤمنين على رضى الله عنه، خروج فرقة تغالي فى تعظيم أمير المؤمنين علىّ وترفعه إلى مقام الألوهية، حتى بدا للبعض أن هذا رد فعل للخوارج الذين يتبرءون من على ويكفرونه (2)، ولكن هؤلاء كان مقصدهم سيئًا وهو إدخال معتقدات فاسدة على المسلمين لهدم الدين وإضعاف المسلمين عامة وليس جيش علي فقط (3)، ولقد تصدى لهم أمير المؤمنين على رضى الله عنه -كما بينا- بحزم وقوة.
ولا شك أن مباينة الخوارج وقتلهم أضعف جانب علىّ كثيرًا، ثم تتابعت الفتوق على عليٍّ من بعد، فخرج الخريت بن راشد، وقيل اسمه الحارث بن راشد فى قومه من بنى ناجية، وكان من ولاة علىّ على الأهواز، فدعا إلى خلع على، أجابه خلق كثير واحتوى على البلاد وجبى الأموال، فبعث إليه على جيشًا بقيادة معقل بن قيس الرياحى فهزمه وقتله (4)، وطمع أهل الخراج فى ناحية على فى كسر الخراج، وانتقض أهل الأهواز، ولابد أن عليًا واجه من أجل ذلك بعض الصعوبات المالية والعسكرية، وقد روى عن الشعبى فى هذا الخصوص قوله: لما قتل على أهل النهروان، خالفه قوم كثير، وانتفضت عليه أطرافه، وخالفه بنو ناجية، وقدم ابن الحضرمى البصرة، وانتفض أهل الأهواز، وطمع أهل الخراج فى كسره وأخرجوا سهل بن حنيف عامل على بن أبى طالب من فارس (5).
وقد استلم الحسن رضى الله عنه الخلافة، وجيش العراق مضطرب وأهل الكوفة مترددون فى أمرهم، وقد جاء فى المجتبى لابن دريد: قام الحسن بعد موت أبيه فقال: والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنما كنا نقاتلهم بالسلامة
__________
(1) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص (345).
(2) نظام الخلافة فى الفكر الإسلامى، ص (15، 16)، مصطفى حلمى.
(3) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص (350).
(4) تاريخ الطبرى (6/ 27 - 47).
(5) تاريخ الطبرى (6/ 53).(1/388)
والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم فى منتدبكم إلى صفين دينكم أمام دنياكم، فأصبحتم ودنياكم أمام دينكم، ألا وإنا لكم كما كنا، ولستم لنا كما كنتم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين؛ قتيل بصفين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره، فأما الباقى فخاذل، وأما الباكى فثائر، ألا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وإن أردتم الحياة قبلناه قال: فناداه القوم من كل جانب: التقية التقية، فلما أفردوه أمضى الصلح (1).
وإنى وإن كنت أشك فى صحة نسبة هذه الخطبة ولكنها تصور نفسية سيدنا الحسن وأتباعه، مما عجل بالصلح بينه وبين معاوية (2) رضى الله عنه، وقد تحدث الحسن عما فعله به بعض أهل العراق وما قدموا إليه من الإساءات والإهانات وأظهر القول وجهر به فقال: أرى والله معاوية خير لى من هؤلاء يزعمون أنهم لى شيعة، ابتغوا قتلى وأخذوا مالى، والله لأن آخذ من معاوية عهدًا أحقن به دمى وآمن به فى أهلى خير من أن يقتلونى فيضيع أهل بيتى وأهلى، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقى حتى يدفعوا بى إليه سلمًا، والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلنى وأنا أسير، أو يمن على فيكون منه على بنى هاشم آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحى منا والميت (3)، وقال أيضًا: عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لى من كان منهم فاسدًا، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة فى قول ولا فعل، إنهم مختلفون ويقولون لنا إن قلوبهم معنا، وإن سيوفهم لمشهورة علينا (4)، فالحسن لم يعد يثق بأهل الكوفة بعد ما فعلوه بأبيه وبعد أن حاولوا قتله ونهبوا متاعه. وقد عبر عن ذلك فى خطبته عندما قال: يا أهل العراق، لو لم تذهل نفسى (5) عنكم إلا لثلاث خصال لذهلت: مقتلكم أبى،
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 269).
(2) الدوحة النبوية الشريفة، ص (93).
(3) الشيعة وأهل البيت، ص (379) نقلاً عن الاحتجاج للطبرسى، ص (148).
(4) المصدر نفسه، ص، (376) نقلاً عن الاحتجاج للطبرسى، ص (148).
(5) تذهل نفسى: تسلو نفسى، لسان العرب (11/ 259).(1/389)
ومطعنكم بغلتى، وانتهابكم ثقلى، أو قال: ردائى عن عاتقى (1)، وقيل للحسن: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قومًا لا يثق بهم أحد أبدًا إلا غُلب، ليس أحد منهم يوافق آخر فى رأى ولا هوى، مختلفين لا نية لهم، فى خير ولا شر، لقد لقى أبى منهم أمورًا عظامًا، فليت شعرى لمن يصلحون بعدى (2)، وهذا ليس على إطلاقه فجيش الحسن يمكن تقويته كما أنه هناك فصائل منه على استعداد للقتال على رأسهم قيس بن سعد الخزرجى وغيره من القادة.
ثامنًا: قوة جيش معاوية رضى الله عنه:
وفى الجانب الأَخر كان معاوية رضى الله عنه يعمل بشتى الوسائل سرًّا وعلانية على إضعاف جانب أهل العراق منذ عهد على رضى الله عنه فاستغل ما أصابِ جيشه من تفكك وخلاف، فأرسل جيشًا إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص رضى الله عنه سيطر عليها وضمها إليه، وقد ساعده على ذلك عدة عوامل منها:
1 - انشغال أمير المؤمنين على بالخوارج.
2 - عامل أمير المؤمنين على رضى الله عنه على مصر محمد بن أبى بكر لم يكن على قدر من الدهاء كسلفه قيس بن سعد بن عبادة الساعدى الأنصارى، فدخل فى حرب مع المطالبين بدم عثمان ولم يسايسهم كما كان يصنع الوالى السابق فهزموه.
3 - اتفاق معاوية مع المطالبين بدم عثمان فى مصر فى الرأى فساعده فى السيطرة عليها (3).
4 - بعد مصر عن مركز أمير المؤمنين على رضى الله عنه، وقربها من الشام.
5 - طبيعتها الجغرافية فهى متصلة بأرض الشام عن طريق سيناء وتمثل امتدادًا طبيعيًا، وقد أضافت مصر قوة كبيرة لمعاوية رضى الله عنه؛ قوة بشرية واقتصادية
__________
(1) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 324) إسناده حسن.
(2) الكامل فى التاريخ (2/ 448).
(3) الطبقات لابن سعد (3/ 839) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص (351) سنده صحيح.(1/390)
كبيرة، وكذلك أرسل أمير المؤمنين على من يصدها (1)، وعمل معاوية رضى الله عنه على استمالة كبار أعيان القبائل وعمال على رضى الله عنه، فقد حاول سحب قيس بن سعد رضى الله عنه عامل علىّ على مصر إليه فلم يستطع، ولكنه استطاع أن يثير شك حاشية على ومستشاريه فيه بعزله (2)، وكان عزل سعد بن قيس مكسبًا كبيرًا لمعاوية، كما حاول سحب زياد بن أبيه عامل على رضى الله عنه على فارس ففشل فى ذلك (3)، وقد استطاع معاوية رضى الله عنه أن يؤثر على بعض الأعيان والولاة بسبب ما يمنيهم ويعدهم، ولما يرونه من علو أمره وتفرق أمر على رضى الله عنه، حتى أنه قال فى إحدى خطبه: ألا أن بسرًا قد أطلع من قبل معاوية، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون عليكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبطاعتهم أميرهم ومعصيتكم أميركم، وبأدائهم الأمانة وبخيانتكم، استعملت فلانًا فقتل وغدر وحمل المال إلى معاوية، واستعملت فلانًا فخان وغدر وحمل المال إلى معاوية، حتى لو ائتمنت أحدهم على قدح خشيت على علاقته، اللهم إنى أبغضتهم وأبغضونى، فأرحهم منى وأرحنى منهم. (4)
واستمر معاوية رضى الله عنه فى الاتصال بالأعيان والزعماء فى العراق حتى بعد مقتل أمير المؤمنين على رضى الله عنه، فقد اجتمعت لمعاوية رضى الله عنه عوامل ساعدت على قوة جبهته منها طاعة الجيش له، اتفاق الكلمة عليه من أهل الشام، خبرته الإدارية فى ولاية الشام، وثبات مصادره المالية، وعدم تحرجه فى دفع الأموال من أجل تحقيق أهدافه التى يراها مصلحة للأمة.
- شروط الصلح:
تحدثت الكتب التاريخية والمصادر الحديثة وأشارت إلى حصول الصلح وفق شروط وضعها الطرفان، وقد تناثرت تلك الشروط بين كتّاب التاريخ وحاول بعض العلماء جمعها وترتيبها واستئناسا إلى ما وصلوا إليه نحاول ترتيبها على وفق ما وصل إليه اجتهادى مع التعليق على كل مادة من مواد الصلح بما يناسبها.
__________
(1) تاريخ خليفة، ص (198) بدون سند.
(2) الاستيعاب (2/ 525، 526).
(3) ولاة مصر، ص (45، 46).
(4) التاريخ الصغير للبخارى (1/ 125) بسند منقطع وله شواهد.(1/391)
أولاً: العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء:
ورواية البخارى ذكرت أن الحسن ما سأل الوفد (عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر) شيئًا إلا قالا له: نحن لك به، والتذكير بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الراشدين يتناسب مع الحالة التى تم فيها الصلح وهو نوع من التذكير والإلزام لمعاوية بالسير على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين، ولا نوافق ما ذهب إليه بعض المؤرخين ومنهم أستاذى وشيخى الدكتور أحمد بطاينة فى كون إيراد ذلك ضمن شروط الصلح تعريض من الرواية بمعاوية واتهامه بمجافاة ذلك، مما ينفى أن يكون هذا الشرط من شروط الصلح بين الجانبين (1)، وقد ذكر هذا الشرط مجموعة من العلماء منهم ابن حجر الهيثمى حيث ذكر صورة الصلح بين الحسن ومعاوية وجاء فيها: صالحه على أن يسلم إليه ولاية المسلمين وأن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين (2)، وحتى بعض كتب الشيعة ذكرت هذا الشرط وهذا دليل على توقير الحسن بن على لأبى بكر وعمر وعثمان وعلى إلى حد جعل من أحد الشروط على معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه: أنه يعمل ويحكم فى الناس بكتاب الله وسنة رسوله، وسيرة الخلفاء الراشدين (3) -وفى النسخة الأخرى- الخلفاء الصالحين (4)، ففى هذا الشرط ضبط لدولة معاوية فى مرجعيتها ومنهجها فى الحياة ونفهم من هذا الشرط أمورا منها:
1 - مصادر التشريع فى عهد الخلافة الراشدة:
أ- القرآن الكريم:
قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
__________
(1) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (68).
(2) الصواعق المحرقة (2/ 399).
(3) الشيعة وأهل البيت، ص (54).
(4) منتهى الآمال (ج 2/ 212) نقلاً عن الشيعة وأهل البيت، ص (54).(1/392)
فهو المصدر الأول الذى يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التى تتعلق بشئون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكامًا قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها.
ب- السنة المطهرة:
هى المصدر الثانى الذى يستمد منه الدستور الإسلامى أصوله ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية لأحكام القرآن (1)، وقد أمر المولى عز وجل بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]. وقد بين المولى عز وجل خطورة من يخالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
ونفى الخيار عن المؤمنين إذا صدر حكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
وقد أمر المولى عز وجل بالرد إلى الرسول عند النزاع قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. وجعل الرد إلى الرسول عند النزاع من موجبات الإيمان ولوازمه قال تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].
فكان من الطبيعى أن تكون السنة المطهرة من مصادر التشريع فى عهد الخلافة الراشدة.
إن دولة الخلافة الراشدة خضعت للشريعة، وكانت سيادة الشريعة الإسلامية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون، وأعطت صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الإسلامية دولة شريعة، خاضعة بكل أجهزتها لأحكام هذه الشريعة،
__________
(1) فقه التمكين فى القرآن الكريم، للصلابى، ص (432).(1/393)
والحاكم فيها مقيد بأحكام لا يتقدم ولا يتأخر عنها (1). ففى عهد الخلافة الراشدة وفى مجتمع الصحابة، الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم، والمحكوم. ولهذا قيد الصديق طاعته التى طلبها من الأمة بطاعة الله ورسوله فقال: "أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم" (2).
2 - أهمية سنة الخلفاء الراشدين:
كان الحسن بن على رضى الله عنه -كما مر معنا- مستوعبًا لعهد الخلافة الراشدة، وقد ذكرنا أهم الدروس والعبر والفوائد التى استفاد منها من عهد الصديق والفاروق وذى النورين، ووالده على رضى الله عنهم أجمعين، فالعهد الراشدى تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوى وقربه منه، فكان العهد الراشدى امتدادًا للعهد النبوى، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت فى العهد النبوى، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه، والسير فى ركابه والاستمرار فى الالتزام به، كما أن العهد الراشدى وضع التنظيمات الجديدة المتعلقة بمؤسسات الدولة لترسيخ دعائمها ومواجهة المستجدات المتنوعة، على أصول قواعد الشورى، وحدثت اجتهادات جديدة فى مجالات متعددة استفادت الدولة والأمة الإسلامية منها ويكفى للبرهان على أهمية عهد الخلافة الراشدة للحكام المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى" (3)، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا بالذين من بعدى: أبى بكر وعمر" (4).
3 - من معالم الخلافة الراشدة:
أ- كان خلفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينطلقون من حكمهم وتصرفاتهم ورعايتهم لأمور الدولة ومعالجتهم للأحداث من الإسلام وباسم الإسلام وشورى من المسلمين.
__________
(1) نظام الحكم فى الإسلام، ص (227).
(2) البداية والنهاية (6/ 306).
(3) سنن أبى داود (4/ 201)، الترمذى (5/ 44) حسن صحيح.
(4) صحيح سنن الترمذى للألبانى (3/ 200) ..(1/394)
ب- لم يتول أحد منهم أمر المسلمين بفرض نفسه عليهم أو يفرضه من قبل من سبقه فى رئاسة الدولة بدءًا من أبى بكر وانتهاءً بعلى، بل كان كل ذلك بشورى من المسلمين، ولكن هذه الشورى قد اتخذت صورًا متعددة مما يدل على أن الإسلام لم يفرض كيفية معينة لاختيار الخليفة، بل إن ذلك متروك.
ج- بعد الاختيار المنبثق من الشورى تتم مبايعة الخليفة علنًا ولا يُلتفت لما قد يحصل من مخالفة البعض، فالعبرة بما تراه غالبية الأمة وسوادهم الأعظم، ثم إذا حصلت البيعة لا يجوز نقضها إلا حين يكون كفرًا بواحًا.
د- الأمة مسئولة عن محاسبة الخليفة فى كل تصرفاته بدءًا من الشئون المالية وانتهاء بشئون السياسة والحكم والولاية، ولكن ذلك ضمن أطر حددها الإسلام ويتم ذلك عن طريق أهل الحل والعقد، ولا يجوز للأمة أن تثور بشكل غوغائى لأن ذلك يؤدى إلى الفتنة وانتشار الإشاعات، كما حدث فى فتنة عثمان رضى الله عنه (1)، ومبدأ محاسبة الحاكم وحق الأمة فى مراقبته قرره الخلفاء الراشدون بأقوالهم وأفعالهم؛ فأبو بكر رضى الله عنه يقول: فإن أحسنت فأعينونى وإن أسأت فقومونى (2)، وعمر يقول: أحب الناس إلىَّ من رفع إلىَّ عيوبى (3)، وقال: إنى أخاف أن أخطئ فلا يردنى أحد منكم تهيبًا (4)، وما قاله عثمان: إن وجدتم فى كتاب الله أن تضعوا رجلى فى القيد فضعوا رجلى فى القيد (5)، وقال على رضى الله عنهم جميعًا: إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم إلا أنه ليس لى أمر دونكم (6).
وقد جرى العمل فى عهد الخلفاء الراشدين على التسليم للأمة بحق الرقابة على الحكام ولم ينكره أحد فدل ذلك على الإجماع (7)، كما أن إجماع الصحابة -
__________
(1) الخلفاء الراشدون أعمال وأحداث د. أمين القضاة، ص (13).
(2) البداية والنهاية (6/ 305).
(3) الشيخان أبو بكر وعمر ومن رواية البلاذري، ص (231).
(4) المصدر نفسه، ص (231)، نظام الحكم فى عهد الخلفاء الراشدين، ص (198).
(5) مسند أحمد الموسوعة الحديثية، رقم (524) ثبت إسناده إلى عثمان.
(6) تاريخ الطبرى (5/ 449 - 457).
(7) الدولة والسيادة فى الفقه الإسلامي، فتحى عبد الكريم ص 378.(1/395)
حكامًا ومحكومين- فى عهد الخلافة الراشدة له معنى واحد وهو الفهم الصحيح للكتاب، والطريق السليم للعمل بالسنة (1).
هـ- للخليفة أن يقوم بما يراه من إجراءات تنظيمية فيما لا نص فيه تحت شعار المصالح المرسلة وفى ظلال الشورى حسب ما يراه مناسبًا لتحقيق الصلحة العامة.
كما فعل أبو بكر فى جمع القرآن، وكما فعل عمر فى أرض السواد وقضاياه التنظيمية، كديوان الجند والخراج، وعثمان فى نسخه للمصحف وتوزيعه على الأمصار.
و- اختلاف علماء الأمة وعظمائها أمر طبيعى، ولكن فى ظلال الأخوة والتناصح والبحث عن مصلحة الأمة، فتفاوت العقول يؤدى إلى تفاوت الآراء واختلاف وجهات النظر، كما حصل فى سقيفة بنى ساعدة، وحروب الردة وجمع القرآن، ويجب أن لا يصل ذلك إلى تفرق الأمة وتنازعها، فذلك مؤد إلى الفشل، لا محالة، والحكم فى ذلك كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - (2).
ز- يمكن اختزال ملامح الخلافة الراشدة فى النظام السياسى إلى: المرجعية العليا للكتاب والسنة، حكم الشريعة -دولة القانون- ولكنه السماوى، والتطبيق الشامل له، الحاكم منتخب، الحاكم أجير، بيت المال للأمة وليس للحاكم، نظام الشورى الشاملة وله آلية تراض بين أفراد المجتمع، الأمة فاعلة ومشاركة فى الأحداث.
وأما فى البناء الاجتماعى: تميز عهد الخلافة الراشدة فى مجمله بالإعداد النفسى الإيمانى، وقوة الوازع الداخلى، ومحاربة العنصرية، والإعداد الشامل للإنسان المسلم، وحماية حقوق الإنسان عمومًا، وحماية الوحدة الداخلية، وحماية حدود الدولة، والمسئولية الحضارية على الجميع حكامًا ومحكومين، فهذه هى المفاهيم الأساسية فى الدولة الإسلامية والتي أصبحت نموذجًا ومقياسًا لكل العصور، وعبر عنه المسلمون بلفظ الخلافة الراشدة تمييزًا له عن أى شكل آخر من
__________
(1) على بن أبى طالب، للصَّلابى (1/ 345).
(2) على بن أبى طالب، للصَّلابى (1/ 345).(1/396)
أشكال الحكم الأخرى (1)، ولذلك اشترط الحسن بن على فى صلحه مع معاوية رضى الله عنه؛ العمل بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الخلفاء الراشدين.
ثانيًا: الأموال:
ذكر البخارى فى صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية وعبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد الطلب قد أصبنا من هذا المال .. فمن لى بهذا؟ قالا: نحن لك به (2). فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بنى عبد المطلب يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه من قادم (3)، وذكر ابن أعثم أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لى فيء المسلمين (4)، وذكر أبو جعفر الطبرى برواية عوانة بن الحكم أن أهل البصرة حالوا بين الحسن وبين خراج داردا بجرد، وقالوا: فيئنا (5)، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة فى هذا الجانب، ولكن الرواية أشارت إلى أن خراج داردا بجرد لم يكن فى الأموال التى صُيرت إلى الحسن (6)، ورُوى أن الحسن قال لمعاوية: إن علىّ عدَّات ودُيونًا، فأطلق له من بيت المال نحو أربعمائة ألف أو أكثر (7)، وذكر ابن عَساكر: يُسلّم له بيت المال فيقضى منه ديونه ومواعيده التى عليه، ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده وأهل بيته (8). وذهب بعض المؤرخين إلى أن إبقاءه ما فى بيت المال معه (خمسة ملايين درهم)، استبقاه لأولئك المحاربين الذين كانوا معه، يوزعه بينهم، ويبقى لمعيشته له ولأهل بيته ولأصحابه (9)، ولا شك أن توزيع الأموال على بعض الجنود يساعد فى تخفيف شدة التوتر.
__________
(1) الذاكرة التاريخية للأمة د. قاسم محمد، ص (70).
(2) البخارى، ك الصلح، رقم (2704).
(3) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (64).
(4) الفتوح (293/ 3).
(5) تاريخ الطبرى (5/ 165).
(6) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (64).
(7) تاريخ الإسلام، عهد معاوية، ص (7).
(8) تاريخ دمشق (14/ 90).
(9) فى التاريخ الإسلامى، شوقى أبو خليل، ص (268).(1/397)
إن الذى جاء فى رواية البخارى هو الذى أميل إليه، فالأمر لا يكون تجاوز طلب العفو عن الأموال التى أصابها الحسن وآله فى الأيام الخالية (1)، وأما الروايات التى تشير بأن يجرى معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليونى درهم فى كل عام، ويفضل بنى هاشم فى العطاء والصلات على بنى عبد شمس (2)، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات، وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفًا أمام مصالحه الخاصة (3). وأما حقه من العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشر معشار ما ذكرته الروايات (4).
ثالثًا: الدماء:
ويتضمن اتفاق الصلح بين الجانبين أن الناس كلهم آمنون لا يؤخذ أحد منهم بهفوة أو إحنة، ومما جاء فى رواية البخارى أن الحسن قال لوفد معاوية: وأن هذه الأمة عاثت فى دمائها، فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا من الدماء (5)، ولكن الرواية عن الزهرى ذكرت أن عبيد الله بن عباس قائد جيش الحسن لما علم بما يريد الحسن من معاوية، بعث إلى معاوية يسأله الأمان وشرط لنفسه على الأموال التى قد أصاب، ثم خرج إليهم ليلاً ولحق بهم وأن قيس بن سعد الذى خلّفه على الجيش تعاهد والجيش على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة على ولمن كان اتبعه على أموالهم ودمائهم (6).
وقد حاول المستشرق فلهوزن أن يلصق هذه التهمة الباطلة بعبد الله بن عباس، وذكر أن قائد الجيش كان عبد الله بن عباس، واستند فلهوزن فى ذلك إلى أن الاسم الذى ورد فى بعض النسخ المخطوطة من تاريخ الطبرى هو عبد الله
__________
(1) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (64).
(2) الأخبار الطوال، ص (218).
(3) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (63).
(4) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (63).
(5) البخارى، ك الصلح (2/ 963).
(6) تاريخ الطبرى (5/ 163، 164).(1/398)
ابن عباس، وأن الاختلاف بين المخطوطات فى عبد الله وعبيد الله ليس مرجعه إلى الناسخ وإنما إلى الرواة الذين لم يريدوا أن يلحق هذا العار بعبد الله بن عباس جد العباسيين، وأما إخوة عبيد الله فلم يروا بأسًا من التخلى عن الدفاع عنه (1)، والحقيقة التاريخية تقول: أن قائد الجيش كان الحسن بن على، وأن قائد مقدمته كان قيس بن سعد ولا ذكر لعبد الله بن عباس أو أخيه عبيد الله فى هذا الجانب (2)، إلا فى الروايات الضعيفة والتى لا يقوم عليها دليل، كما أنه مما ورد عند أبى حنيفة الدينورى فى الأخبار الطوال (3)، وابن حجر فى المطالب العلية (4)، وابن أعثم فى الفتوح (5)، أن قطبى الرحى فى الجيش كانا الحسن بن على وقيس بن سعد، ولا ذكر لعبد الله بن عباس وعبيد الله بن عباس (6). وتأكيد فلهوزن على أن عبد الله بن عباس كان قائدًا للجيش لا عبيد الله واحتجاجه على ذلك بما سبق الإشارة إليه يخالفه ما نقله زياد بن عبد الله البكائى عن عوانة بن الحكم الذى لا يتهم بمحاباة العباسيين قال: إن عبيد الله بن عباس كان واليا لعلى على اليمن، ولما بلغه مسير بسر بن أرطاة إليه استخلف على اليمن عبيد الله بن عبد المدائن الحارثى وهرب إلى على بالكوفة، وذلك عام أربعين للهجرة، وأرسل على بن أبى طالب جيشًا إلى اليمن يتعقب جيش بسر، وقتل على فى نفس العام، ولم يرد ما يشير إلى أن عبيد الله بن عباس ترك الكوفة إلى اليمن (7)، وسواء كان قائد الجيش عبد الله بن عباس أو عبيد الله أو غيرهما فإن دواعى اتصال قائد جيش الحسن بمعاوية وطلب الأمان منه غير قائمة، فجيش الحسن قوى وممتنع كما جاء عند البخارى، والاتصالات بين الحسن وقيادته موجودة نقلاً وعقلاً، والحسن ولى الأمر ورأسه، وقد جرت المفاوضات بينه وبين وفد معاوية، وأخذ الأمان لأتباعه ومن كان فى جانبه فضلاً عن بنى العباس وغيرهم من بنى
__________
(1) تاريخ الدولة العربية، ص (103 - 106).
(2) تاريخ الطبرى (5/ 159، 160).
(3) الأخبار الطوال، ص (217).
(4) المطالب العلية (4/ 318، 319).
(5) الفتوح (3/ 289).
(6) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (66).
(7) تاريخ الطبرى (5/ 139، 140)، دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (66).(1/399)
المطلب بشأن الدماء والأموال، وأعلم الحسن قيادته بالصلح وتنازله عن الخلافة لمعاوية، وأمرهم بالدخول فى الجماعة ومبايعة معاوية، ولما رأى قيس ومن معه أنهم لم يعدوا مع إمام مفترض الطاعة تركوا القتال وبايعوا معاوية، ودخلوا فى الجماعة (1)، ولكن فى رواية الزهرى ثناء على قيس دون الحسن وولدى العباس من غير ما ضرورة (2).
إن الحسن بن على اشترط على معاوية، أن لا يطلب أحدًا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء (3)، والذى يلاحظه المؤرخ، أنه من ذلك الوقت ترك الطلب بدم عثمان (4)، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشىء كان فى أيام على، وهى قاعدة بالغة الأهمية تحول دون الالتفات إلى الماضى وتركز على الحاضر والمستقبل (5)، وقد تم التوافق المبنى على الالتزام والشرعية حيث تم الصلح على أساس العفو المطلق عن كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام الصلح، وبالفعل لم يعاقب معاوية أحدًا بذنب سابق، وتأسس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، تأليفًا لقلوب الجماعة، خاصة أنه كان بالخيار وهذا هو العمل العظيم الذى قام به الحسن حيث أعاد للأمة وحدتها ولحمتها من جديد، وقد تم بسط الأمن وحفظ الدماء فى عهد معاوية إلى حد كبير، وقد اجتهد فى قضايا سيأتى بيانها وتفصيلها فى محله بإذن الله تعالى.
رابعًا: ولاية العهد، أم ترك الأمر شورى بين المسلمين:
قيل: ومما اتفق الجانبان عليه من الشروط أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن (6)، وإن معاوية وعد إن حَدَثَ به حدث والحسن حى ليُسَمَّينه وليجعلن الأمر إليه (7)، ولكن ابن أعثم روى فى هذا الخصوص عن الحسن إنه قال: أما
__________
(1) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (67).
(2) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (67).
(3) التبيين فى أنساب القرشيين، ص (127).
(4) الخلفاء الراشدون للنجار، ص (482).
(5) الدور السياسى للصفوة فى صدر الإسلام، ص (341).
(6) فتح البارى (13/ 70).
(7) سير أعلام النبلاء (3/ 264).(1/400)
ولاية الأمر من بعده، فما أنا بالراغب فى ذلك ولو أردت هذا الأمر لم أسلمه (1)، وجاء فى نص الصلح الذى ذكره ابن حجر الهيثمى: ... بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين (2).
وعند التدقيق فى روايات طلب الحسن الخلافة بعد معاوية، نجد أنها تتنافى مع أنفة وقوة وكرم الحسن، فكيف يتنازل عن الخلافة حقنًا لدماء المسلمين وابتغاء مرضاة الله ثم يوافق على أن يكون تابعًا يتطلب أسباب الدنيا، ويشرئب عنقه للخلافة مرة أخرى، والدليل على أن هذا غير صحيح ما ذكر جبير بن نضير قال: قلت للحسن بن على: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال: كانت جماجم العرب بيدى يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء مرضاة الله (3). ومن الملاحظ أن أحدًا من أبناء الصحابة أو الصحابة لم يذكروا خلال بيعة يزيد شيئًا من ذلك، فلو كان الأمر كما تذكر الروايات عن ولاية عهد الحسن بعد معاوية، لاتخذها الحسين بن على رضى الله عنه حجة، ولكن لم نسمع شيئًا من ذلك على الإطلاق مما يؤكد على أن مسألة خلافة الحسن لمعاوية لا أساس لها من الصحة، ولو كان الحسن رضى الله عنه أسند إليه منصب ولاية العهد فى الشروط لكان قريبًا من معاوية فى إدارة الدولة أو تولى أحد الأقاليم الكبرى، لا أن يذهب إلى المدينة وينعزل عن إدارة شئون الحكم، كما أن روح ذلك العصر تشير إلى أن مبدأ اختيار الأمة للحاكم عن طريق الشورى هو الأصل.
- سبُّ أمير المؤمنين على بين معاوية والحسن:
تذكر كتب التاريخ: اشترط الحسن على معاوية ألا يُسبَّ عليٌّ وهو يسمع؛ وكأن الحسن عفا عن سب على رضى الله عنه وهو لا يسمع، ولذلك قال أستاذى وشيخي الدكتور محمد بطاينة: فقد لا تكون هذه القضية بحثت بين الحسن ومعاوية (4). وقد اتهم الشيعة الروافض معاوية رضى الله عنه بحمل الناس على
__________
(1) الفتوح (3، 4/ 293).
(2) الصواعق المرسلة (2/ 299).
(3) البداية والنهاية (11/ 206).
(4) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (68).(1/401)
سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذى يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حيث صارت عند المتأخرين من المسلمات التى لا مجال لمناقشتها ولم يثبت قط فى رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء فى كتب الدميرى واليعقوبى وأبى الفرج الأصفهانى، علمًا بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء (1) من احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحكاية لعن علىّ على منابر بنى أمية لا تتفق مع منطق الحوادث، ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبنى أمية، فإننا لا نجد فيها ذكرًا لشىء من ذلك أبدًا .. وإنما نجده فى كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم فى عصر بنى العباس بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بنى أمية فى نظر الجمهور الإسلامى، وقد كتب ذلك المسعودى الشيعى الرافضى، فى مروج الذهب وغيره من كُتَّاب الشيعة الروافض وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيحة صريحة، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن مثل هذه الدعوى عند المحققين والباحثين، فكيف بها وقد صدرت من الروافض الحاقدين، ومعاوية -رضى الله عنه- منزه عن مثل هذه التهم، بما ثبت من فضله فى الدين، وكان محمود السيرة فى الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير (2).
1 - فعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لما ولاّه الشام: لا تذكروا معاوية إلا بخير (3).
2 - وعن على رضى الله عنه قال بعد رجوعه من صفين: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل (4).
__________
(1) الحسن والحسين، محمد رضا، ص (18) كلام المحقق د. أحمد أبو الشباب.
(2) الانتصار للصحب والآل، ص (367) للرحيلى.
(3) البداية والنهاية (8/ 25).
(4) المصدر نفسه (8/ 134).(1/402)
3 - وعن ابن عمر أنه قال: ما رأيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسود (1) من معاوية فقيل: ولا أبوك؟ قال: أبى عمر -رحمه الله- خير من معاوية، وكان معاوية أسود منه (2).
4 - وعن ابن عباس قال: ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية (3)، وفى صحيح البخارى أنه قيل لابن عباس: هل لك فى أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه (4)، وذُكر عند ابن عباس معاوية، فقال: لله تلاد ابن هند ما أكرم حسبه، وأكرم مقدرته، والله ما شتمنا على منبر قط، ولا بالأرض ضنّا منه بأحسابنا وحسبه (5).
5 - وعن عبد الله بن الزبير أنه قال: لله در ابن هند يعنى معاوية إنا كنا لنفرقه (6)، وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام فى هذا الجبل حجر وأثار إلى أبى قبيس.
6 - وعن الزهرى قال: عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئًا، والآثار عن الصحابة والتابعين وأتباعهم كثيرة وإنما ذكرنا جزءًا منها. كما أثنى على معاوية رضى الله عنه العلماء المحققون فى السير والتاريخ، ونقاد الرجال.
1 - يقول ابن تيمية -رحمه الله-: واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك، كان ملكه ملكًا ورحمة (7). وقال: فلم يكن من ملوك المسلمين خير من معاوية، ولا كان الناس زمان ملك من الملوك خيرًا منهم فى زمان معاوية (8).
__________
(1) من السيادة وسمى سيدًا لأنه يسود سواد الناس، من لسان العرب (3/ 229).
(2) السنة للخلال (1/ 443)، سير أعلام النبلاء (2/ 152).
(3) البداية والنهاية (8/ 137).
(4) البخارى، رقم (3765).
(5) تاريخ دمشق (62/ 128، 129).
(6) الفرق: الخوف والفزع.
(7) مجموع الفتاوى (4/ 478).
(8) منهاج السنة (6/ 232).(1/403)
2 - وقال ابن كثير فى ترجمة معاوية رضى الله عنه: وأجمعت الرعايا على بيعته فى سنة إحدى وأربعين .. فلم يزل مستقلاً بالأمر فى هذه المدة إلى هذه السنة التى كانت فيها وفاته، والجهاد فى بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه فى راحة وعدل، وصفح وعفو (1).
3 - وقال ابن أبى العز الحنفى: وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين (2).
4 - وقال الذهبى فى ترجمته: أمير المؤمنين ملك الإسلام (3). وقال: معاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم (4). وإذا ثبت هذا فى حق معاوية رضى الله عنه فإنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن على رضى الله عنه على المنابر وهو من هو فى الفضل، وهذا يعنى أن أولئك السلف وأهل العلم من بعدهم الذين أثنوا عليه ذلك الثناء البالغ، قد مالؤوه على الظلم والبغى واتفقوا على الضلال (5)، وهذا من البهتان العظيم لأولئك العلماء من الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم من العلماء الربانيين، ومن علم سيرة معاوية رضى الله عنه فى الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية رضى الله عنه فى الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال (6) وإليك بعض الأمثلة:
1 - قال عبد الملك بن مروان وقد ذُكر عنده معاوية: ما رأيت مثله فى حلمه واحتماله وكرمه (7).
__________
(1) البداية والنهاية (8/ 122).
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص (722).
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 120).
(4) المصدر نفسه، ص (371).
(5) البداية والنهاية (8/ 138).
(6) سير أعلام النبلاء، ص (371).
(7) البداية والنهاية (8/ 138).(1/404)
2 - وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحدًا أعظم حلمًا، ولا أكثر سؤددًا، ولا أبعد أناة، ولا ألين مخرجًا، ولا أرحب باعًا بالمعروف من معاوية (1).
3 - ونقل ابن كثير: أن رجلاً أسمع معاوية كلامًا سيئًا شديدًا، فقيل له: لو سطوت عليه؟ فقال: إنى لأستحيي من الله أن يضيق حلمى عن ذنب أحد من رعيتى (2).
4 - وقال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك، فقال معاوية: بلى من واجه الرجال بمثل هذا (3). فهل يعقل بعد هذا أن يسع حلم معاوية -رضى الله عنه- سفهاء الناس وعامتهم المجاهرين له بالسب والشتائم، وهو أمير المؤمنين، ثم يأمر بعد ذلك بلعن الخليفة الراشد على بن أبى طالب رضى الله عنه على المنابر، ويأمر ولاته بذلك فى سائر الأمصار والبلدان -ويبقى هذا السب إلى أن يأتى عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيلغى ذلك- والحكم فى هذا لكل صاحب عقل وفهم (4)؟!
وأما ما استدل به الروافض على تلك الفرية من صحيح مسلم فليس فيه ما يدل على زعمهم، فعن عامر بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبى سفيان سعدًا فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلن أسبه، لأن تكون لى واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم (5). قال النووى: قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعدًا بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب. كأنه يقول: هل امتنعت تورعًا أو خوفًا، أو غير ذلك، فإن كان تورعًا وإجلالاً له عن السب فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر، ولعل سعدًا قد كان فى طائفة يسبون فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار، أو أنكر عليهم، فسأله هذا السؤال. قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه فى رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ (6)، وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم معلقًا على
__________
(1) البداية والنهاية (8/ 138).
(2) البداية والنهاية (8/ 138).
(3) البداية والنهاية (8/ 138).
(4) الانتصار للصحب والآل، ص (372).
(5) مسلم، ك فضائل الصحابة (4/ 1871).
(6) شرح صحيح مسلم (15/ 175).(1/405)
وصف ضرار الصُّدائى لعلى رضى الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك وتصديقه لضرار فيما قال: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل على رضى الله عنه، ومنزلته، وعظيم حقه، ومكانته، وعند ذلك يبعد عن معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه، لما كان معاوية موصوفًا به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبى وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس بتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية، سكن وأذعن، وعرف الحق لمستحقه (1).
قال الدكتور إبراهيم الرحيلى صاحب الكتاب النفيس القيم الانتصار للصحب والآل من افتراءات السماوى الضال: والذى يظهر لى فى هذا والله أعلم: أن معاوية إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل على رضى الله عنه، فإن معاوية رضى الله عنه كان رجلاً فطنًا ذكيًا، يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد فى على رضى الله عنه، فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. وهذا مثل قوله رضى الله عنه لابن عباس: أنت على ملة على؟ فقال له ابن عباس: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). فظاهر أن قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب، وأما ما ادعى الروافض من الأمر بالسب فحاشا معاوية رضى الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك (3)، والمانع من هذا عدة أمور:
1 - أن معاوية نفسه ما كان يسب عليًا رضى الله عنه كما تقدم حتى يأمر غيره بسبه، بل كان معظمًا له، معترفًا له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه.
__________
(1) الفهم للقرطبى (6/ 278).
(2) الإبانة لابن بطة (1/ 355) الكبرى، شرح أصول اعتقاد، اللالكائى (1/ 94).
(3) الانتصار للصحب والآل، ص (374).(1/406)
أ- قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولانى وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع عليًا أم أنت مثله؟ فقال: والله إنى لأعلم أنه خير منى وأفضل، وأحق بالأمر منى (1).
ب- ونقل ابن كثير أيضًا عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة قال: لما جاء خبر قتل على إلى معاوية جعل يبكى، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم (2). فهل يسوغ فى عقل ودين أن يسب معاوية عليًا بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا (3)!!
2 - أنه لا يُعرف بنقل صحيح أن معاوية رضى الله عنه تعرض لعلى رضى الله عنه بسب أو شتم أثناء حربه له فى حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
3 - أن معاوية رضى الله عنه كان رجلاً ذكيًا مشهورًا بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب على -حاشاه ذلك- أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه، وهو من هو فى الشجاعة والفضل والورع، مع عدم دخوله فى الفتنة أصلاً؛ فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيرًا، فكيف بمعاوية.
4 - أن معاوية رضى الله عنه انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن على رضى الله عنه له، واجتمعت عليه الكلمة ودانت له الأمصار بالملك، فأى نفع له فى سب على؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضى عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية رضى الله عنه الذى شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير.
5 - أنه كان بين معاوية رضى الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وأبناء على من الألفة والتقارب، ما هو مشهور فى كتب السير، والتاريخ (4)، ومن ذلك أن الحسن
__________
(1) البداية والنهاية (8/ 133).
(2) البداية والنهاية (8/ 133).
(3) الانتصار للصحب والآل، ص (375).
(4) نفس المصدر، ص (376).(1/407)
والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتى ألف. وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلى، فقال له الحسين: ولم تعط أحدًا أفضل منا (1). ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: مرحبًا وأهلاً بابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر له بثلاثمائة ألف (2). وهذا مما يقطع الكذب ما يدّعى فى حق معاوية من حمله الناس على سب على، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم. وبهذا يظهر الحق فى هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة (3)، كما أن ذلك المجتمع فى عمومه مقيد بأحكام الشرع حريص على تنفيذها، ولذلك كانوا أبعد الناس على الطعن واللعان والقول الفاحش والبذىء، فعن ابن مسعود -رضى الله عنه- مرفوعًا-: ليس المؤمن بالطعان ولا باللعّان ولا بالفاحش ولا البذيء (4). وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سب الأموات المشركين فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضى الله عنها -مرفوعًا- لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا (5).
وبعد أن تمّ الصلح تنازل الحسن عن الخلافة، وتمّ بيان ذلك فى حديثنا عن المراحل، وبذلك طويت صفحة من الخلاف والفرقة، واجتمعت الكلمة، وصار معاوية خليفة مجمعًا عليه، قيل: عام أربعين للهجرة (6)، ولكن ابن إسحاق (7) والواقدى (8)، وخليفة بن خياط (9)، يجعلون ذلك عام واحد وأربعين للهجرة ويختلفون فى الشهر الذى وقع فيه الصلح من ذلك العام أهو ربيع الأول أو ربيع
__________
(1) البداية والنهاية (8/ 139).
(2) المصدر نفسه (8/ 140).
(3) الانتصار للصحب والآل، ص (377).
(4) صحيح ابن حبان، رقم (47)، صححه الألبانى فى الصحيحة، رقم (320).
(5) البخارى، رقم (6516).
(6) المعجم الكبير للطبرانى (3/ 26) دراسة فى الخلفاء الأمويين، ص (69).
(7) تهذيب التهذيب (2/ 299) ترجمة الحسن بن على.
(8) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (69).
(9) تاريخ خليفة، ص (203).(1/408)
الآخر، أو جمادى الأولى، أو جمادى الآخرة (1)، ومضى معاوية يقود مسيرة الأمة من غير أن يجعل للفتنة وأحداثها سبيلاً (2).
- موقف معاوية من قتلة عثمان:
وقد يسأل سائل عما فعل معاوية بقتلة عثمان بعد صيرورة الخلافة إليه؟ ويجيب ابن قتيبة فى عيون الأخبار قائلاً: إن معاوية بن أبى سفيان لما قدم بعد عام الجماعة، دخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عفان بن عثمان وبكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا ابنة أخى، إن الناس أعطونا طاعة، وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا ذلاًّ تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهَم نكثوا بنا، ولا ندرى أعلينا تكون أم لنا، لأن تكونى ابنة عم أمير المؤمنين خيرًا من أن تكونى امرأة من عرض الناس (3). والذى يعتد به من كلام ابن قتيبة ما جاء عن العهود والمواثيق التى أبرمت بين معاوية والحسن، وقضت بالصلح بين الناس، ووضع الحرب، وحقن الدماء، وعدم تهييج النفوس، وإضافة إلى ذلك فإن السنوات الخمس التى احتضنت المعارك فى الجمل وصفين والنهروان ومصر وغيرها ذهبت بأولئك الذين ترددت أسماؤهم بتهمة قثل عثمان، ومع ذلك فإن مسألة قتل عثمان ظلت حاضرة فى ذهن الخلفاء من بنى أمية ونوابهم فى الأغلب، وأما انتصار بنى أمية لعثمان كان حقيقة لا شبهة فيها (4). كما أن الصحابة الذين بايعوا معاوية رضى الله عنه جميعًا يستحال أن يرضوا بسب علىٍّ على منابر الدولة الأموية ولا يتكلم منهم أحد أو يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وإليك أسماؤهم:
فقد روى عن الأوزاعى أنه قال: أكدت خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم سعد، وأسامة وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بت مخلد، وأبو سعيد الخدرى، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك،
__________
(1) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (69).
(2) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (69).
(3) المصدر نفسه، ص (70).
(4) دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، ص (70).(1/409)
ورجال أكثر مما سميت أضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله تأويله، ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله، منهم، عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز فى أشباه له، لم ينزعوا يده عن مجامعة فى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (1).
- من نتائج الصلح:
أولاً: توحد الأمة تحت قيادة واحدة:
سجل فى ذاكرة الأمة عام الجماعة وأصبح هذا الحدث من مفاخرها التى تزهو به على مر العصور، وتوالى الدهور، فقد التقت الأمة على زعامة معاوية، ورضيت به أميرًا عليها، وابتهج خيار المسلمين بهذه الوحدة الجامعة، بعد الفرقة المشتتة، وكان الفضل فى ذلك لله ثم للسيد الكبير مهندس المشروع الإصلاحى العظيم الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، ويعد عام الجماعة من علامة نبوة المصطفى وفضيلة باهرة من فضائل الحسن، ولا يلتفت إلى ما قاله العقاد فى عام الجماعة فى هجومه الخاطئ على المؤرخين الذين سمّوا سنة إحدى وأربعين هجرية بعام الجماعة، فقد قال: فليس أضل ضلالاً، ولا أجهل جهلاً من المؤرخين الذين سموا سنة إحدى وأبعين هجرية بعام الجماعة لأنها السنة التى استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها، لأن صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت فى تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها (2). والعقاد رحمه الله لم يأت بجديد فى حكمه الخاطئ بل سبقه إليه كثير من مؤرخي الشيعة الرافضة، ويكفى معاوية فخرًا أن كل الصحابة الأحياء فى عهده بايعوه، فقد بايع معاوية جم غفير من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (3)، وفى ذلك يقول ابن حزم: فبويع الحسن ثمّ سُلِّم الأمر إلى
__________
(1) البداية والنهاية (8/ 33) نقلاً عن أثر العلماء فى الحياة السياسية فى الدولة الأموية، عبد الله الخرعان ص (83).
(2) معاوية بن أبى سفيان، ص (125) للعقاد.
(3) مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، ص (167).(1/410)
معاوية، وفى بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم؛ أولهم عن آخرهم بايع معاوية، ورأى إمامته (1)، ونتعلم من فقه الحسن وموقف الصحابة من بيعة معاوية فهمهم العميق لآيات النهى عن الاختلاف، قال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154] فالصِّراط المستقيم هو: القرآن، والإسلام، والفطرة التى فطر الله النَّاس عليها، والسٌّبل هى: الأهواء، والفرق، والبدع، والمحدثات، قال مجاهد: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] يعنى: البدع، والشُبهات، والضلالات (2)، ونهى الله سبحانه وتعالى هذه الأمة عمّا وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف والتفرق من بعد ما جاءتهم البينات، وأنزل الله إليهم الكتب، فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105]. ونهى الأمّة أن تكون من المشركين، الذين فرّقوا دينهم، وكانوا شيعًا، فقال عز من قائل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32] وأخبر سبحانه وتعالى: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بريء منِ الذين يفرقون دينهم ويكونون شيعًا وأحزابًا (3)، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، وقد أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. لقد تحقق بفضل الله تعالى ثم بنجاح الحسن بن علي فى صلحه مع معاوية مقصد عظيم من مقاصد الشريعة من وحدة المسلمين واجتماعهم، وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى، ونحن مأمورون بالتواصى بالحقِّ والتواصى،
__________
(1) الفصل (5/ 6).
(2) تفسير مجاهد، ص (227).
(3) دراسات فى الأهواء والفرق والبدع، ناصر العقل، ص (49).(1/411)
بالصبر، فلابدَّ من تضافر الجهود بين الدُّعاة، وقادة الحركات الإسلاميّة، وبين علماء المسلمين، وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحًا حقيقيًا لا تلفيقيًا، لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر ممَّا تصلح، وقد تحدث الشيخ عبد الرحمن السعدى عن الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة، واتفاق الكلمة، وبعد أن ذكر الآيات، والأحاديث الدّالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال: فإن من أعظم الجهاد السَّعى فى تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدِّينيَّة والدنيوية (1)، إن الأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، لأن هذه الخطوة مهمة جدًا فى إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم، وهذا من فقه الخلفاء الراشدين، ويتجلى فى أبهى صورة فى تنازل الحسن بن على رضى الله عنه لمعاوية رضى الله عنه من أجل وحدة الأمة، وحفظ دمائها، والأجر والمثوبة عند الله.
ثانيًا: عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه:
إن دعوة الناس للدخول فى دين الله تعالى من مقاصد الإسلام الكبرى، ومن الوسائل التى استخدمت فى عهد الراشدين حركة الفتوحات المباركة، وتعد الفتنة التى أدت إلى استشهاد عثمان رضى الله عنه أكبر معوق أصاب الدعوة الإسلامية بعد حركة الردة أيام أبى بكر رضى الله عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم فى فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا أن تداركتها رحمة الله سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن على رضى الله عنه مع معاوية رضى الله عنه، وقد امتلأت المصادر بالنصوص التى تبين أثر الفتنة فى انحسار حركة الجهاد (2) وفيما يلى بعضها:
1 - عن الحسن بن على رضى الله عنه أنه قال: قد رأيت أن أعمد على المدينة فأنزلها وأخلى بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطَّلت الفروج -يعنى الثغور (3).
__________
(1) وجوب التعاون بين المسلمين، ص (5).
(2) مرويات خلافة معاوية، ص (309).
(3) الطبقات، تحقيق السُّلمى (1/ 331).(1/412)
2 - ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي بإسناده، قال: لما قبل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية، ولا صائفة، حتى اجتمعت الأمة على معاوية (1).
3 - قول أبى بكر المالكى: فوقعت الفتنة .. واستشهد عثمان رضى الله عنه، وولى بعده على رضى الله عنه، وبقيت إفريقية على حالها إلى ولاية معاوية رضى الله عنه (2).
فمن نتائج الصلح عودة حركة الفتوحات إلى ما كانت عليه وأصبحت فى عهد معاوية ثلاث جبهات رئيسية هى:
1 - جبهة الروم:
وتعتبر هذه الجبهة من أهم الجبهات، وأخطرها، نظرًا لقوة الروم، ومجاورتهم لبلاد المسلمين، هذا فضلاً عن امتلاكهم لجيوش برية وأساطيل بحرية على درجة كبيرة من التنظيم والخبرة، مما دفع المسلمين والروم فى البر والبحر معًا.
2 - جبهة المغرب:
وهذه الجبهة ترتبط بجبهة الروم برباط وثيق، وذلك لوجود مستعمرات رومية على بلاد المغرب كان لها أثر كبير فى عرقلة حركة الفتوحات الإسلامية فى المنطقة.
3 - جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر (3):
تعتبر سجستان وخراسان من أوائل البلاد التى انتقضت على المسلمين بعد استشهاد عثمان (4) رضى الله عنه. وقد ترك معاوية رضى الله عنه معالم واضحة فى سياسته الجهادية أوردها خليفة بن خياط فى تاريخه حيث قال: كان آخر ما أوصاهم به معاوية أن شُدوا خناق الروم، فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم (5)، وقد سلك معاوية خطوات لتحقيق هذه السياسة فى أثناء خلافته:
__________
(1) مرويات خلافة معاوية، ص (310).
(2) رياض النفوس (1/ 27).
(3) يقصد بمصطلح ما وراء النهر تلك البلاد الواقعة وراء نهر جيحون.
(4) مرويات خلافة معاوية، ص (34).
(5) تاريخ خليفة، ص (230).(1/413)
أ- التركيز على عمليات الصوائف والشواتى، من أجل تحقيق عدة أهداف منها:
* استنزاف قوى الروم.
* انتزاع زمام المبادرة من الروم وجعلهم فى حالة دفاع مستمر.
* إرغام الروم على توزيع قواتهم بحيث لا يستطيعون القيام بهجمات حاسمة وقوية ضد الدولة الإسلامية.
ب- مهاجمة الروم فى عقر دارهم ومحاصرة عاصمتهم، وما يترتب على ذلك من إضعاف معنوياتهم، وقذف الرعب فى قلوبهم.
ج- تقليص النفوذ البحرى للروم عن طريق فتح الجزر الواقعة فى بحر الشام، وما يترتب على ذلك من حرمان سفن الروم من قواعدها البحرية، وأما سياسة معاوية رضى الله عنه فى جبهة المغرب فكانت كالتالى:
1 - أولى معاوية رضى الله عنه جبهة المغرب اهتمامًا خاصًا تمثل بارتباط هذه الجبهة به شخصيًا، حيث كان معاوية رضى الله عنه المرجع المباشر لقيادة هذه الجبهة إلى سنة 47هـ، وهى السنة التى ضمت فيها جبهة المغرب إلى والى مصر.
2 - عمل معاوية رضى الله عنه على إقامة قاعدة جهادية متقدمة فى قلب بلاد المغرب تكون عزّا للإسلام والمسلمين وذلك ببناء مدينة القيروان (1).
وأما سياسة معاوية رضى الله عنه فى جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر فكانت:
1 - استعانة معاوية رضى الله عنه بفاتح سجستان وخراسان أيام عثمان رضى الله عنه، وهو عبد الله بن عامر رضى الله عنه، وتكليفه بإعادة فتحها مرة أخرى.
2 - العمل على تثبيت الحكم الإسلامى، ونشر دعوة الإسلام فى هذه المنطقة عن طريق إسكان خمسين ألفًا من العرب بعيالاتهم فى خراسان (2)، فلولا الله سبحانه وتعالى ثم تنازل الحسن بن على لمعاوية ما عادت حركة الجهاد والفتوحات
__________
(1) مرويات خلافة معاوية، ص (363).
(2) مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، ص (364، 365).(1/414)
إلى ما كانت عليه، فمن نتائج الصلح تحقيق هذا المقصد الشرعى العظيم، فالوحدة بين المسلمين على كتاب الله وسنة رسوله لها ثمار طيبة فى دنيا المسلمين، فلو استوعبت الأمة عمومًا وقيادتها خصوصًا هذا المقصد العظيم وطبقته فى حماتها لكان حالها فى صعود وارتقاء.
ثالثًا: تفرغ الدولة للخوارج:
من نتائج الصلح تفرغ الدولة الإسلامية للخوارج، فقد استطاع معاوية أن يضعف من شوكتهم وقوتهم، وتصدى لحركة فروة بن نوفل الأشجعى، وحركة المستورد بن عُلف التيمى، وحركة حيان بن ظبيان السلمى، وهذه الحركات ظهرت فى الكوفة (1)، وأما حركة يزيد الباهلى وسهم الهجيمى، وحركة قريب الأزدى وزحاف الطائى، وغيرهم فكانت بالبصرة (2). ولسنا فى محل تفصيل هذا الصراع بين الدولة الإسلامية والخوارج، ولكننا فى محل تقرير نتيجة طبيعية من نتائج الصلح، وهى التضييق والتصدى للخوارج، ولذلك اتسمت حركة الخوارج فى عهد معاوية رضى الله عنه بالعشوائية والارتجال وقلة التنظيم، وكانت أشبه ما يكون بعمليات انتحار جماعى، لأنهم يخرجون بفئات قليلة لا تلبث أن تستأصل، افتقارهم إلى قيادة واعية ومحنكة تستطيع استثمار شجاعتهم وفروسيتهم لتحقيق أهدافهم، تكرارهم لأخطاء بعضهم وعدم استفادة كل حركة من تجربة سابقتها، استبعادهم لأسلوب الحوار والمناظرة فى دعوتهم، ومحاولة فرض فكرهم على المجتمع المسلم بالقوة، اختلاط الدوافع الدينية التى دعتهم للخروج -بزعمهم- مع دوافع العصبية الجاهلية فى حركاتهم، والمتمثلة بخروج بعضهم ثأرًا لمن قتل من أصحابهم، شعورهم بالغربة داخل المجتمع المسلم، ونفورهم منه، واقتناعهم أن قتال أهل القبلة أولى من جهاد الكفار، عدم بحثهم عن أرض جديدة لنشر دعوتهم، واقتصارهم على بعض مدن العراق، وخاصة الكوفة والبصرة (3)، فمن نتائج الصلح الملموسة التضييق على حركة الخوارج.
__________
(1) مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، ص (196، 197).
(2) المصدر نفسه، ص (197 - 208).
(3) مرويات خلافة معاوية، ص (209، 210).(1/415)
- انتهاء عهد الخلافة الراشدة:
انتهى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بتنازل الحسن بن على لمعاوية رضى الله عنه، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء أن تكون، يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت" (1). وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتى الله الملك، أو ملكه من يشاء" (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخلافة فى أمتيى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" (3) وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية فى ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه توفى فى ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليمًا (4)، وبذلك تكون مرحلة خلافة النبوة قد انتهت بتنازل الحسن رضى الله عنه عن الخلافة لمعاوية فى شهر ربيع الأول من سنة 41هـ (5)، فالحديث النبوى الكريم أشار إلى مراحل تاريخية وهى:
1 - عهد النبوة.
2 - عهد الخلافة الراشدة.
3 - عهد الملك العضوض (6).
4 - عهد الملك الجبرى.
5 - ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.
__________
(1) مسند أحمد (4/ 371، 372)، سلسلة الأحاديث الصحيحة.
(2) سنن أبى داود شرح عون المعبود (12/ 259)، صحيح سنن الألبانى (3/ 879).
(3) سنن الترمذى شرح تحفة الأحوذى (6/ 395 - 397) حديث حسن.
(4) البداية والنهاية (8/ 16).
(5) مرويات خلافة معاوية، ص (165).
(6) العضوض: الشديد فيه عسف وعنف وظلم.(1/416)
وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة (1)، ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكًا، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخارى ومسلم فى صحيحهما عن أبى هريرة رضى- الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت بنو إسرائيل يسوسمهم الأنبياء، كلما هلك نبى خلفه نبى وإنه لا نبي بعدى، وستكون خلفاء فتكثر". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "وفوا ببيعة الأول، فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" (2)، فقوله: فتكثر دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرًا، وأيضًا قوله: وفوا بيعة الأول فالأول دل على أنهم يختلفون؛ والراشدون لم يختلفوا، وقوله: فأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم دليل على مذهب أهل السنة؛ فى إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم (3)، فمعاوية رضى الله عنه أفضل ملوك هذه الأمة، والذين كانوا قبله خلفاء نبوة، وأما هو فكانت خلافته ملكًا، وكان ملكه ملكًا ورحمة، وكان فى ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيرًا من ملك غيره (4)، ومعاوية رضى الله عنه وإن كان عالمًا ورعًا عدلاً، دون الخلفاء الأربعة فى العلم والورع والعدل، كما ترى من التفاوت بين الأولياء؛ بل الملائكة والأنبياء، فإمارته وإن كانت صحيحة بإجماع الصحابة وتسليم الحسن - رضى الله عنه- إلا أنها ليست على منهاج خلافة من قبله، فإنه توسع فى المباحات، وتحرز عنها الخلفاء الأربعة، وأما رجحان الخلفاء الأربعة فى العبادات: والمعاملات فظاهر مما لا سترة فيه (5). وقد حدد ابن خلدون مدى التغير الذى حدث، فقرر أن الخلافة وإنما كانت تحولت إلي ملك، فإن معانى الخلافة قد بقيت -بعضها- وإنما كان التغير فى الوازع فبعد أن كان دينًا انقلب عصبية وسيفًا؛ يقصد بذلك أنه بعد أن كان الناس يتصرفون بوازع الدين، والخلافة شورى، صار الحكم مستندًا إلى العصبية والقوة، ولكن معانى الخلافة أى مقاصدها وأهدافها
__________
(1) سنن الدارمى (2/ 114)، الأشربة (الفتاوى 35/ 14).
(2) البخارى، رقم (3455).
(3) الفتاوى (35/ 15).
(4) الفتاوى (4/ 292).
(5) الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية، ص (78).(1/417)
بقيت أى أن غايات هذا الملك كانت لا تزال تحقق مقاصد الدين والحكم وفق الشريعة الإسلامية بالعدل وتنفيذ الواجبات التى يأمر بها الإسلام: أى أن الحكم أو الملك استمر إسلاميًا وشرعيًا (1)، ولخص الأدوار التى مرت بها الخلافة فقال: فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً، ثم التبست معانيها واختلطت بالملك، ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبية الخلافة والله مقدر الليل والنهار (2)، فالدور الأول الذى يشير إليه هو عصر الخلفاء الراشدين وهو عصر الخلافة الخالصة أو الكاملة، والدور الثانى هو عصر الخلفاء الأمويين والعباسيين-ولا يمنع كذلك العثمانيين- وهذا عصر الخلافة المختلطة بالملك أو الملك المختلط بالخلافة: أى الذى يحقق فى الوقت نفسه مقاصد الخلافة، أما الدور الثالث فهو عصر الملك المحض الذى صار بقصد لذات الملك والأغراض الدنيوية، وانفصل عن حقيقة الخلافة أو معانيها الدينية، فهذا وصف أو تفسير ابن خلدون المؤرخ الفقيه للتطور الذى حدث والأدوار التى مرت بها الخلافة (3).
إن الخلافة الحقيقية أو الكاملة أو خلافة النبوة استمرت ثلاثين عامًا وهو عصر الخلفاء الراشدين، ثم تحولت إلى ملك، ولكن لكى نعبر عن الحقيقة يجب أن يراعى هذا التحديد، وهو أن الخلافة لم تنته أو تذهب كلية، وإنما بقيت معانيها أو مقاصدها، وأن التغيير حصل فى الأساس الذى قامت عليه، أما حقيقتها فقد بقيت، فالتغيير إذن لم يكن كليًا ولكن جزئيًا: أى أن الخلافة فى العصر الأول كانت هى الخلافة الكاملة المثالية، ثم نقصت عن المثال من وجه أو بعض الوجوه، لكن معظم عناصرها بقيت، فهى خلافة أقل من الرتبة أو خلافة مختلطة بالملك (4)، والرأى العام فى الإسلام يتمسك بالمثال، أو خلافة النبوة، أو الخلافة الكاملة، وهى تلك التى تقوم على الشورى والاختيار التام من الأمة، وأنه إذا كانت الظروف الواقعية والعوامل الاجتماعية قد حتمت أو أدت إلى هذا التطور،
__________
(1) النظريات السياسية للريس، ص (194) نقلاً عن المقدمة.
(2) مقدمة ابن خلدون، النظريات السياسيهً، ص (195).
(3) مقدمة ابن خلدون، النظريات السياسيهً، ص (195).
(4) مقدمة ابن خلدون، ص (196).(1/418)
فإن تحمل ذلك أو قبوله لا يكون إلا مؤقتًا أو من باب الضرورة، ولكن يلزم أن يكون المثل الكامل حاضرًا دائمًا فى فكر الرأى العام، وبمجرد أن تزول تلك العوامل والظروف تجب العودة إلى تحقيق المثل الكامل، ولذا فإن الكتابات الإسلامية الأصيلة ظلت ملتزمة ومتشبثة بالمثال الكامل ولا تستخلص مبادئها إلا منه، وتفرق بين الخلافة وهى الخلافة الحقيقية الشرعية، والخلافة الواقعية التى بعدت قليلاً أو كثيرًا عن الحقيقة (1). وقد ذكر ابن تيمية: أن مصير الأمر -أى الخلافة- إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة والأمراء ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص فى الراعى والرعية جميعًا، فإنه كما تكونوا يؤوَّل عليكم وقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} (2) [الأنعام: 129]. لقد ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وصار ملكًا ظهر النقص فى الأمراء، وكذلك فى أهل العلم والدين وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يبق من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا فى أواخر عصر أصاغر الصحابة فى إمارة الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعى التابعين انقرضوا فى أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية (3).
- هل معاوية رضي الله عنه يعتبر أحد الخلفاء الاثني عشر؟
عن جابر بن سمرة رضى الله عنه: دخلت مع أبى على النبى - صلى الله عليه وسلم -، فسمعته يقول: "إن هذا الأمر لا ينقضى حتى يمضى فيم اثنا عشر خليفة"، قال: ثم تكلم بكلام خفى علىَّ، قال: فقلت لأبي: ما قال، قال: "كلهم من قريش" (4)، وفى رواية أخرى عن جابر: "لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثنى عشرة خليفه .. كلهم من قريش" (5)، وفى رواية أخرى: "لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثنى عشر خليفة .. كلهم من قريش" (6)، زاد أبو داود فى سننه، بإسناده عن جابر رضى الله
__________
(1) مقدمة ابن خلدون، ص 197.
(2) الفتاوى (35/ 15).
(3) الفتاوى (10/ 207).
(4) صحيح مسلم على شرح النووى (12/ 502).
(5) صحيح مسلم على شرح النووى (12/ 502).
(6) المصدر نفسه (12/ 203).(1/419)
عنه قال: فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: "ثم يكون الهرج" (1) (2).
وقد شرح ابن كثير هذا الحديث فقال: ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثنى عشر خليفة صالحًا يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بنى العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدى المُبشَّر به فى الأحاديث الواردة بذكره .. وليس هذا بالمنتظر الذى تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامراء (3)، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهم الخيالات الضعيفة - وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثنى عشر الأئمة الاثنى عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم (4). وإضافة لمن ذكرهم ابن كثير نضيف خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين الحسن رضى الله عنه، وقد ناقشت معتقد أهل السنة والشيعة الإمامية فى المهدى المنتظر فى كتابى أسمى المطالب فى سيرة أمير المؤمنين على بن أبى طالب شخصيته وعصره، فمن أراد التفصيل فليرجع إليه مشكورًا، وبالنسبة لمرحلة الخلفاء الاثنى عشر فإنه استنادًا إلى الوجه الذى ذكره ابن كثير، فإن هذه المرحلة تمتاز بأن مداها الزمنى يتخلل المراحل الأخرى كلها، وخلفاء. هذه المرحلة يكون ظهورهم فى الأمة متتابعًا ومتفرقًّا وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمهّ- ويبدأ ظهورهم من وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -- أى بخلافة أبى بكر رضى الله عنه، وتكتمل هذه المرحلة بظهور آخرهم فى آخر الزمان حيث يعقب خلافته الهَرْج (5)، وقد ذكر ابن كثير أن من خلفاء هذه المرحلة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ولما كان معاوية رضى الله عنه أفضل من
__________
(1) هرج الناس: وقعوا فى فتنة واختلاط وقتل، القاموس المحيط، ص (268).
(2) سنن أبى داود مع شرحها عون المعبود (11/ 249)، صحيح سنن الألبانى (3/ 807).
(3) سامراء: مدينة بين بغداد وتكريت على شرقى دجلة.
(4) التفسير (2/ 34).
(5) مرويات خلافة معاوية، ص (165).(1/420)
عمر بن عبد العزيز فهذا يعنى دخول معاوية رضى الله عنه فى خلفاء هذه المرحلة، هذا والله تعالى أعلم. وقد تقدم بيان شىء من فضائل معاوية رضى الله عنه.
- هل الحسن بن على رضى الله عنه تنازل لمعاوية من موقف قوة أو موقف ضعف؟
تنازل الحسن بن على رضى الله عنه لمعاوية من موقف قوة وهناك دلائل تشير إلى ذلك منها:
1 - الشرعية التى كان يملكها الحسن:
فقد كانت بيعته فى شهر رمضان من سنة 40هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين على رضى الله عنه، وقد اختير الحسن بعده اختيارًا شوريًا وأصبح الخليفة الشرعى على الحجاز واليمن والعراق، وكل الأماكن التى كانت خاضعة لوالده، وقد استمر فى خلافته ستة أشهر، وتلك المدة تدخل ضمن الخلافة الراشدة التى أخبر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن مدتها ثلاثون سنة ثم تصير ملكًا، فقد روى الترمذى بإسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "الخلافة فى أمتى ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك" (1).
وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال: إنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن ابن على، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية فى ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه توفى فى ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه (2)، وبذلك يكون الحسن بن على خامس الخلفاء الراشدين (3)، وقد تحدث عن شرعية الحسن بالخلافة كثير من علماء أهل السنة منهم، أبو بكر بن العرين (4)، والقاضى
__________
(1) سنن الترمذى مع شرحها تحفة الأحوذى (6/ 395 - 397) حديث حسن.
(2) البداية والنهاية (11/ 134).
(3) مآثر الأنافة (1/ 105). مرويات خلافة معاوية، ص (155).
(4) أحكام القرآن لابن العربى (4/ 1720).(1/421)
عياض (1)، وابن كثير (2)، وشارح الطحاوية (3)، والمناوى (4)، وابن حجر الهيثمى (5) ولو أراد الحسن أن يتعب معاوية بحكم أن الشرعية معه لأمكن ذلك، ولرتب حملة إعلامية منظمة فى أوساط أهل الشام، لكسب ثقتهم أو على الأقل زعزعة موقف معاوية بينهم، فقد كان يملك قوة معنوية ونفوذًا روحيًا لا يستهان به بحكم الشرعية التى يستند إليها، ولكونه حفيد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
2 - تقييم الحسن بن على للموقف وقدراته القيادية:
فعندما قال له نفير بن الحضرمى: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال: كانت جماجم العرب بيدى، يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله (6). فهذه شهادة من الحسن رضى الله عنه، بأنه كان فى وضع قوى، وبأن أتباعه على استعداد لمحاربة من يريد أو مسالمتهم، كما كان رضى الله عنه يملك من الملكات الخطابية والفصاحة البيانية، وصدق العاطفة وقوة التأثير، وقربًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجعله أكثر قوة وتماسكًا، ودليلنا على ذلك ما قام به من استنفار أهل الكوفة للخروج مع والده، وكان أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه قد ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال والفتنة وأسمعهم ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التحذير من الاشتراك فى الفتنة (7)، فقد أرسل على رضى الله عنه قبل الحسن محمد بن أبى بكر، ومحمد بن جعفر ولكنهما لم ينجحا فى مهمتهما، وأرسل على بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، ففشل فى مهمته لتأثير أبى موسى عليهم (8)، وأتبعه على بعبد الله بن عباس، فأبطأوا عليه، فأتبعه يعمار بن ياسر والحسن (9)، وكان للحسن أثر واضح، فقد قام فى
__________
(1) شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 201).
(2) البداية والنهاية (11/ 134).
(3) شرح الطحاوى، ص (545).
(4) فيض القدير (2/ 4099).
(5) الصواعق المحرقة (2/ 397).
(6) البداية والنهاية (11/ 206).
(7) تاريخ الطبرى (5/ 514) مصنف ابن أبى شيبة (15/ 12) إسناده حسن.
(8) خلافة على بن أبى طالب، ص (144)، عبد الحميد على، سير أعلام النبلاء (3/ 486).
(9) فتح البارى (13/ 53)، على بن أبى طالب، للصلابى (2/ 60).(1/422)
الناس خطيبًا وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى (1)، أمثل فى العاجلة وخير فى العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به (2) وابتليتم، ولبى كثير من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى على ما بين الستة إلى سبعة آلاف رجل (3)، ولا ننسى أن أبا موسى الأشعرى كان واليًا على الكوفة، ومن قيادات العراق المحبوبين من عهد عمر وهو من هو فى علمه وزهده ومكانته عند الناس، ومع ذلك فقد استطاع الحسن أن يكسب أهل الكوفة لصفه وخرجوا معه.
3 - إن صف الحسن بن على كان يملك من القيادات الكبيرة، كأخيه الحسين، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وقيس بن سعد بن عبادة -وهو من دهاة العرب- وعدى بن حازم وغيرهم، فلو أراد الخلافة لأعطى المجال لقياداته للتحرك نحو تعبئة الناس والدخول فى الحرب مع معاوية وعلى الأقل يكون خليفةً على دولته إلى حين.
4 - كانت له قدرات خاصة فى التعامل مع أهل العراق ومعرفة نفوسهم ولذلك زاد لهم فى العطاء منذ بداية خلافته، كما أن مهمته التى قادها فى نجاح مشروعه الإصلاحى كانت أصعب من حربه لمعاوية، ومع ذلك تغلب على الكثير من العوائق التى واجهته، فقد حاولوا قتله، ورفض بعض الناس الصلح، وغير ذلك من العوائق إلا أنه تغلب عليها كلها وحقق الأهداف التى رسمها من حقن الدماء، ووحدة الأمة، وأمن السبيل، وعودة حركة الفتوح .. إلخ مما يدل على قدراته القيادية الفذّة.
5 - تقييم عمرو بن العاص، ومعاوية لقوات الحسن - صلى الله عليه وسلم -: فقد جاء فى البخارى: استقبل والله الحسن بن على معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقاك عمرو ابن العاص: إنى أرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها. فقال معاوية -وكان خير الرجلين- أى عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء مَنْ لى بأمور الناس، من لى بنسائهم،
__________
(1) تاريخ الطبرى (5/ 516) أولو النهى أصحاب العقول.
(2) تاريخ الطبرى (5/ 516).
(3) مصنف عبد الرزاق (5/ 456، 457) بسند صحيح إلى الزهري.(1/423)
من لى بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس -عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز- فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا له، واطلبا إليه (1).
أ- فعمرو بن العاص رضى الله عنه القائد العسكرى الشهير والسياسي المحنك والذى عركته الحروب يقول: إنى أرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها.
ب- وأما معاوية رضى الله عنه، فتقييمه للموقف العسكرى بأنه لا يستطيع أحد أن ينتصر ويحقق حسمًا عسكريًا إلا بعد خسائر فادحة للطرفين ولا يستطيع معاوية حتى لو كان هو المنتصر أن يتحمل تركة الحزب من أرامل وأيتام وقتل خير المسلمين، وما يترتب على ذلك من مفاسد كبرى اجتماعية وسياسية واقتصادية، وأخلاقية للأمة الإسلامية وغيرها.
ج- ولذلك اختار معاوية رضى الله عنه شخصيتين كبيرتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أصحاب النفوذ فى المجتمع الإسلامى ولهم حضور واحترام عند الحسن رضى اللهْ عنه وهما من قريش:
* عبد الرحمن بن سمرة ين حبيب بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف أبو سعيد القرشى العبشمى الأمير، أسلم عبد الرحمن يوم الفتح وكان أحد الأشراف، نزل البصرة، وغزا سجستان (2)، وهو الذى قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها (3). وله فى مسند بقى بن مخلد أربعة عشر حديثا، وحدث عنه: ابن عباس، وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وحيّان بن عمير، وابن سيرين، والحسن، وأخوه سعيد بن أبي الحسن، وحميد بن هلال، وقيل: كان اسمه عبد كلال، فغيره رسول الثه (4) إلى عبد الرحمن.
__________
(1) البخارى، ك الصلح، رقم (2704).
(2) سير أعلام النبلاء (2/ 571).
(3) مسلم، ك الإيمان، رقم، (1652).
(4) سير أعلام النبلاء (2/ 572).(1/424)
مات بالبصرة سنة خمسين، وقيل: توفى سنة إحدى وخمسين (1)، فعبد الرحمن بن سمرة صحابى جليل مجاهد له مكانته فى ذلك العهد، وشارك فى الفتوحات وتولى إمارة جيوش الفتح فى عهد عثمان وفتح سجستان صلحًا ثم افتتح فيما بعد بست وما يليها، ومضى إلى كابل وزابلستان فافتتحهما جميعًا وبعث بالغنائم إلى ابن عامر رضى الله عنه (2).
* عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيِّ القرشى العبشمى (3). ولد فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك فى السنة الرابعة من الهجرة (4)، وعندما اعتمر الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فى السَّنة السابعة للهجرة عمرة القضاء، ودخل مكة، حمل إليه عبد الله بن عامر، قال ابن حجر: .. فتلمَّظ وتثاءب، فتفل رسول الله فى فيه، وقال: هذا ابن السُّلمية؟ قالوا: نعم، فقال: هذا أشبهنا، وجعل يتفل فى فيه، ويعوِّذه فجعل يبتلع ريق النبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّه لمسقُّى، فكان لا يعالج أرضًا إلا ظهر له الماء (5). وقد ترجمت له فى كتابى عن عثمان بن عفان رضى الله عنه عند حديثى عن مؤسسة الولاة فى عهد ذى النورين (6)، وهو الرجل الذى له من الحسنات والمحبة فى قلوب الناس ما لا يُنكر كما يقول ابن تيمية (7)، وقال فيه الذهبى: وكان من كبار أمراء العرب، وشجعانهم، وأجوادهم، وكان فيه رفق وحلم (8)، وهو ممن اعتزل القتال فى الجمل وصفين. فالشخصيتان اللتان أرسلهما معاوية رضى الله عنه تدل على حرصه على نجاح الصلح مع الحسن بأى ثمن ممكن، وقد ظل زمام الموقف بيد الحسن بن على رضى الله عنه ويد أنصاره، وكانت جبهته العسكرية قوية كما مرّ
__________
(1) سير أعلام النبلاء (2/ 572).
(2) تاريخ دمشق (26/ 289، 290).
(3) البداية والنهاية (8/ 91).
(4) تهذيب التهذيب (5/ 272).
(5) الطبقات (5/ 31)، تهذيب التهذيب (5/ 272).
(6) عثمان بن عفان، للصَّلابى، ص (302).
(7) منهاج السنة (3/ 189، 190).
(8) سير أعلام النبلاء (3/ 21).(1/425)
معنا فى رواية البخارى والروايات الأخرى، وأما ما تعرض له الحسن رضى الله عنه من محاولة القتل والاعتداء فإنه يعود إلى أسباب تتصل بظروف القتال والصلح مع معاوية، حقيقة أو إشاعة كما مر معنا، وقد هزم المرجفون وقتل الرجل الذى قام بالاعتداء عليه، وتقدم هو من بعد ذلك واجتمع بمعاوية، ولو لم يكن الحسن مرهوب الجانب لما احتاج معاوية إلى أن يفاوضه ويوافق على ما طلب من الشروط والضمانات، ولكان عرف ضعف جائب الحسن وانحلال قوته عن طريق عيونه، ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على شروطه ومطالبه (1)، وقد كان بمقدور الحسن أن يقاتل معاوية، بمن كان معه من الأنصار والأعوان، ولكن الحسن كان ذا خلق يجنح للسلم ويكره الفتنة وينبذ الفرقة، وقد جمع الله به رأب الصدع وجمع الكلمة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار (2) إلى ذلك فقال: "إن ابنى هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (3).
- الحسن والزهد فى الملك:
فالحسن بن على رضى الله عنه قدوة للمسلمين فى الترفع عن حطام الدنيا وطلب ما عند الله تعالى واحتساب الأجر والمثوبة، فالزهد فى المناصب والكراسى من الأمور الثقيلة على النفس البشرية، فالإخوان والأصحاب والأقارب يتقاتلون على الكراسى والمناصب، فانظر إلى التاريخ القديم والحديث ترى العجب العجاب، فالزهد فى الرئاسة أقل ما يكون فى دنيا الناس، وكم من أناس زهدوا فى المال والنساء وغيرها من الأمور، ولكنهم أمام الزعامة والرئاسة والمناصب ينهزمون، فالزهد فى الرياسة أقل ما يكون فى دنيا الناس وقيل بأنه آخر ما ينزع من صدور الصالحين وتأمل مقولة سفيان الثورى، فقد قال: ما رأيت الزهد فى شىء أقل منه فى الرياسة ترى الرجل يزهد فى المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع حامى عليها وعادى (4).
__________
(1) دراسة فى تاريخ خلفاء الدولة الأموية، ص (61).
(2) دراسة فى تاريخ خلفاء الدولة الأموية، ص (61).
(3) البخارى، رقم (7109).
(4) سير أعلام النبلاء (7/ 262).(1/426)
إياك وحب الرياسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء، فتفقد نفسك واعمل بنية، واعلم أنه قد دنى من الناس، أمر يشتهى الرجل أن يموت (1).
فالحسن بن على يعلمنا كيف نترك المناصب والكراسى إذا كان تركها رضاءً لله، ومصلحة للأمة، وحقنًا لدمائها، وعملاً على توحيدها، ومن الأمور التى تساعدنا على الزهد فى الدنيا قصر الأمل، وذكر الموت وزيارة القبور، وكان الحسن بن على مكتوب على خاتمه:
قدّم لنفسك ما استطعت من التقى ... إن المنية نازل بك يا فتي
أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى ... أحباب قلبك فى المقابر والبلى (2)
لقد كان الحسن بن على من زهاد عصره، ونال فى مقام الزهد القدح المعلى، فقده ترك الدنيا وحطامها واشتغل برضا الله تعالى، وكان له فى ذلك شغل عن طلب المنزلة عند الخلق، ومع هذا فقد أعطاه الله المنزلة فى قلوب الخلق والشرف عندهم، وإن كان لا يريد ذلك ولا يقف معه، بل يهرب منه أشد الهرب خشية أن يقطعه الخلق عن الحق جل جلاله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. أى فى قلوب عباده، وفى الحديث: "إن الله إذا أحب عبدًا نادى: يا جبريل إنى أحب فلانًا فيحبه جبريل، ثم يحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول فى الأرض" (3)، وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف فى الدنيا، وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه، وطلب شرف الدنيا لا يجامع شرف الآخرة، ولا يجتمع معه، والسعيد من آثر الباقى على الفانى، قال أبو الفتح البُستى:
أمران مفترقان لست تراهما ... يتشوقان لخلطة وتلاقى
طلب المعاد مع الرياسة والعُلى ... فدع الذى يفنى لما هو باقى (4)
__________
(1) حلية الأولياء (6/ 376)، فقه الفتن، عبد الله شعبان، ص (142).
(2) تاريخ دمشق (14/ 86).
(3) مسلم، رقم (2637).
(4) أمراض النفس، د. أنس كرزون، ص (77).(1/427)
إن الحسن بن على رضى الله عنه يعلمنا كيف نزهد فى الجاه والسلطان والملك والشهرة ابتغاء مرضاة الله تعالى، فالحسن رضى الله عنه ازداد رفعة وسيادة بتنازله فى الدنيا وأصبح رمزًا لنكران الذات ومعلمًا للإيثار ومدرسة وفخرًا للأمة عبر الأجيال فى تقديمه مصلحة الأمة فى وحدتها وحفظ دمائها على أى مصلحة أخرى، ولقد بلغت شهوة حب الجاه فى قلوب الكثيرين مداها وأصبحوا يتنافسون على بلوغها، ويبذلون من أجلها الأموال والطاقات، ويتحايلون على الوصول إليها بالحيل والخداع ويقدمونها على شهوة حب المال وذلك للأسباب التالية:
1 - لأن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه، فالعالم أو العابد الذى تقرر له جاه فى القلوب لو أراد اكتساب المال لبذل له الناس من أموالهم وأعمالهم ما يحقق له ذلك.
2 - أن المال معرض للتلف أو الزوال ويتطرق إليه الخطر، أما الجاه فإنه إذا دخل القلوب ملكها واستقر فيها فلا تمتد إليه الأخطار إلا إذا حصل ما يغير نظرة الناس إلى صاحب الجاه.
3 - أن ملك القلوب يسرى ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة، فالناس إذا أعجبوا بشخص أكثروا مدحه والحديث عنه وانتشر صيته بينهم (1).
وهناك تداخل كبير بين شهوتى حب النفس وحب الجاه، وينتج عن هذا التداخل العقد أمراض نفسمة منها، الرياء، والكبر، والتعالي على الناس والإعجاب بالنفس، وحب الدح بين الناس، الأنانية والشح والحسد، وكثرة الغضب، والذل والمداهنة، وهى فى الحقيقة محرمات قلبية تحتاج لمجاهدة وتربية سلوكية على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما أن من يحرص على بلوغ الجاه عند أهل الدنيا، ويجعل من ذلك شغله الشاغل، فإنه سيبذل لهم من دينه وكرامته لكى ينال ما يطمح إليه، ويذل لهم ليكسب رضاهم (2)، وفى ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: وكذلك طالب الرياسة والعلو فى الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها،
__________
(1) أمراض النفس، ص (77).
(2) المصدر نفسه، ص (78 - 92).(1/428)
ولو كان فى الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو فى الحقيقة يرجوهم ويخافهم فهو فى الظاهر رئيس مطاع، وفى الحقيقة عبد مطيع لهم (1).
وهذا كلام خطير على القيادات الإسلامية أن تستوعبه وتتحرر من رقة القلب ولينه أمام مطالب الجماهير، عندما تكون مطالبهم لا تخدم دين الله وشرعه، فالحسن بن على يعلمنا الاستعلاء بالمبادئ والقيم على حظوظ النفس الخفية، فقد تعرض لهجوم كاسح من بعض أتباعه الذين لا يريدون الصلح مع معاوية، ومع هذا رد عليهم ردًا جميلاً وحاول الارتقاء بهم، وبيَّن لهم دوافعه التى دفعته للتنازل لمعاوية، من حفظ الدماء، ووحدة الأمة، وابتغاء ما عند الله تعالى، ونجح فى قيادة الأمة بأسرها لتحقيق مشروعه العظيم، ولم يتأثر بضغوط القواعد الشعبية، ولا بغيرها، وهكذا القادة الربانيون يفعلون، لقد كان الحسن رضى الله عنه فى صلحه مع معاوية مصيبًا بارًا راشدًا ممدوحًا وليس يجد فى نفسه حرجًا ولا تلومًا ولا ندمًا، بل هو راض بذلك مستبشر به (2)، وكان رضى الله عنه يرد على منتقديه بأدب جم وحجة ظاهرة، فعندما قال له أبو عامر سفيان بن الليل: السلام عليك يا مُذل المؤمنين، فقال له الحسن: لا تقل هذا يا أبا عامر لست بمُذل المؤمنين، ولكنى كرِهت أن أقتلهم على الملك (3). وعندما قال لهم: العار خير من النار (4)، فقول الحسن رضى الله عنه: العار خير من النار يفتح لنا آفاقًا واسعة فى فقه القدوم على الله تعالى، فقد كان رضى الله عنه عاملاً به فى حياته مستوعبًا لأبعاده يظهر ذلك فى سكناته وحركاته واختياراته رضى الله عنه وأرضاه.
- من حياة الحسن فى المدينة بعد الصلح:
ترك الحسن الكوفة بعد تنازله لمعاوية ورجع بمن معه من أصحابه وبنى هاشم إلى المدينة واستقر بها، وكان الهاشميون محل الإجلال والتكريم والاحترام من معاوية رضى الله عنه، وكانت زعامتهم عند الحسن بن على رضى الله عنه،
__________
(1) العبودية لابن تيمية، ص (48، 49).
(2) البداية والنهاية (12/ 141).
(3) البداية والنهاية (12/ 141).
(4) المصدر نفسه (12/ 204).(1/429)
وكانت المدينة فى تلك الفترة يسكنها عدد كبير من علماء الصحابة يضاف إليهم عدد من التابعين ممن تتلمذوا على الصحابة العلماء وساروا بسيرتهم ونهجوا نهجهم، وهؤلاء كانوا خليطًا من المهاجرين والأنصار ومن غير المهاجرين والأنصار، وقد جعل هؤلاء القوم همهم العبادة وتعليم الناس ورواية ما حفظوه من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يدخلون فيما دخلت فيه الأمة ولا ينزعون يدًا من جماعة، ومن هؤلاء عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، وأبو هريرة وأبو سعيد الخدرى، وجابر بن عبد الله (1). كانت أجواء المدينة خيرًا على الحياة العلمية، حيث تفرغ طلاب العلم فيها لرواية الحديث، وتفسير القرآن، واستنباط الأحكام الفقهية فقصدها الناس من أجل العلم، فقد كان بها الهدوء والاطمئنان الذى يساعد على العلم والبحث (2).
1 - العلاقة بين الحسن ومعاوية رضى الله عنهما بعد الصلح:
كان الحسن بن على يقدم على معاوية فى خلافته، فقدم عليه ذات مرة فقال له معاوية: لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحدًا قبلك ولا أجيز بها أحدًا بعدك، فأعطاه أربع مائة ألف فقبلها (3)، وجاء فى رواية: أن الحسن بن على كان يفد كل سنة إلى معاوية فيصله بمائة ألف درهم، فقعد سنة عنه ولم يبعث إليه معاوية بشىء فدعا بدواة ليكتب إليه فأغفى قبل أن يكتب فرأى النبى - صلى الله عليه وسلم - فى منامه كأنه يقول: يا حسن أتكتب إلى مخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟ قال: فما أصنع يا رسول الله وقد كثر دينى؟ قال: قل اللهم إنى أسألك من كل أمر ضعفت عنه قوتى وحيلتى ولم تنته إليه رغبتى، ولم يخطر ببالى ولم يبلغه أملى، ولم يجر على لسانى من اليقين الذى أعطيته أحدًا من المخلوقين الأولين والمهاجرين والآخرين إلا خصصتنى يا أرحم الراحمين. قال الحسن: فانتبهت وقد حفظت الدعاء فكنت أدعو به فلم يلبث معاوية أن ذكرنى فقيل له: لم يقدم السنة، فأمر [له بمائتي ألف درهم] (4)
[وفي رواية أن الدعاء الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم -]
__________
(1) تاريخ الطبرى (6/ 80)، المدينة فى العصر الأموى، ص (84) شرّاب.
(2) المدينة فى العصر الأموى، شراب، ص (62).
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 269).
(4) تاريخ دمشق (14/ 8).(1/430)
للحسن فى المنام هو: اللهم اقذف فى قلبى رجاك، واقطع رجائى عما سواك حتى لا أرجو أحدًا غيرك. اللهم وما ضعفت عنه قوتى وقصر عنه عملى، ولم تنته إليه ركبتى، ولم تبلغه مسألتى ولم يجر على لسانى مما أعطيت أحدًا من الأولين والآخرين من اليقين فخصنى به يا رب العالمين، قال: فوالله ما ألححت به أسبوعًا حتى بعث إلىَّ معاوية بألف ألف وخمس مائة ألف، فقلت: الحمد لله الذى لا ينسى من ذكره، ولا يخيب من دعاه، فرأيت النبى -صلى الله عليه وسلم- فى المنام فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت: بخير يا رسول الله وحدثته حديثى، فقال: يا بُنى هكذا من رجا الخالق ولم يرجُ المخلوق (1).
2 - صلات معاوية للحسن والحسين وابن الزبير وضى الله عنهم:
أمر معاوية للحسن بن على بمائة ألف فذهب بها إليه فقال لمن حوله: من أخذ شيئًا فهو له، وأمر للحسين بن على بمائة ألف فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة آلاف عشرة آلاف، وأمر لعبد الله بن جعفر بمائة ألف (2). وكان معاوية إذا تلقى الحسن بن على قال له: مرحبًا وأهلاً بابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا تلقى عبد الله بن الزبير قال له: مرحبًا بابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر للحسن بن على بثلاثمائة ألف وعبد الله بن الزبير بمائة ألف (3)، وجاءت بعض الروايات بسند حسن بأن معاوية كان دائم الوصل للحسين ويسارع فى تلبية مطالبه وحاجاته، وكان يغدق عليه العطاء (4)، ولقد اعترف الشيعة أنفسهم بعطايا معاوية للحسن والحسين وعبد الله بن جعفر (5). ويبدو أن صلات الحسين بمعاوية كانت طيبة واستمرت العلاقات بين الطرفين تتسم بكل احترام وتقدير، ولم تنقطع علاقة أهل الكوفة بالحسن والحسين بعد خروجهما من الكوفة واستقرارهما فى المدينة، بل
__________
(1) تاريخ دمشق (14/ 8).
(2) المصدر نفسه (62/ 133).
(3) المصدر نفسه (62/ 133).
(4) مصنف ابن شيبة (11/ 94) بسند حسن، مواقف المعارضة فى خلافة يزيد بن معاوية، ص (177).
(5) انظر جلاء العيون للمجلسى، ص (376)، والكافى فى الفروع كتاب الحقيقة باب الأسماء والكنى (6/ 19) الأمالى للطوسى (22/ 334)، شرح ابن أبى الحديد (2/ 823). وقد فصل الدكتور محمد الشيبانى الأمر فى كتابه مواقف المعارضة فى خلافة يزيد حول الحسين، ص (177).(1/431)
استمرت العلاقة بين الجانبين عن طريق الرسائل التى يبعث بها الكوفيون باستمرار، ولقد كانت تلك الرسائل -كما يبدو- تحمل دعوة لمعارضة الحكم القائم، كما تحمل تأكيدًا بأحقيتها فى الخلافة، واستنها هممهم إليها، وما كانت تلك الكتب لتؤثر على الحسن بل أعطته انطباعًا وتصورًا واضحًا عن أهل التشيع فى الكوفة، وأنهم أهل شر وفتنة، ولا يريدون اجتماع الأمة ووحدة كلمتها (1)، قال يزيد بن الأصم: جاءت الحسن إضبارة (2) من الكتب فقال: يا جارية هات المخضب، فصبت فيه الماء وألقى الكتب فى الماء، فلم يفتح منها شيئًا ولم ينظر إليها، فقلت: يا أبا محمد: ممن هذه الكتب؟ قال: من أهل العراق من قوم لا يرجعون إلى حق ولا يقصرون عن باطل، أما إنى لست أخشاهم على نفسى ولكنى أخشاهم على ذلك وأشار إلى الحسين (3)، ولما توفى الحسن بن على اجتمعت الشيعة فى دار سليمان بن صرد وكتبوا إلى الحسين كتابًا بالتعزية فى وفاة الحسن وقالوا فى كتابهم: إن الله قد جعل فيك أعظم الخلق ممن مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، والمسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك (4)، فرد الحسين على كتابهم: إنى لأرجو أن يكون رأى أخى رحمه الله فى الموادعة، ورأيه فى جهاد الظلمة رشدًا وسدادًا، فالصقوا بالأرض وأخفوا الشخص، واكتموا الهوى، واحترسوا فى الأضناء ما دام ابن هند حيًا، فإن يحدث به حدث وأنا حى يأتكم رأيي إن شاء الله (5)، ولقد كانت مكانة الحسين رضى الله عنه من المسلمين بعد وفاة الحسن مكانة لا تنكر، وأصبح هناك شعور قوى بأن المرشح الوحيد بعد وفاة معاوية للخلافة هو الحسين بن على رضى الله عنه، وقد كان يزوره كبار أهل الحجاز وزعماء الكوفة وهم لا يشكون فى أنه سيكون الخليفة
__________
(1) مواقف المعارضة فى خلافة يزيد بن معاوية، ص (178).
(2) إضبارة: الإضبارة: الحُزمة من الصحف، لسان العرب (4/ 479).
(3) المعرفة والتاريخ (2/ 756) بإسناد حسن، معجم الطبرانى وقال المجمع (6/ 243) ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن الحكم بن أبى زياد وهو ثقة.
(4) أنساب الأشراف (3/ 152) بإسناد جمعى، الأخبار الطوال، ص (221، 222).
(5) المصدر نفسه (3/ 152)، مواقف المعارضة، ص (179).(1/432)
بعد معاوية (1)، ولم تقتصر محاولات الكوفيين على طلب الحسين فقط، بل إنهم طلبوا من محمد بن الحنفية القدوم عليهم فانتبه إلى خطورة أهل الكوفة عليه وعلى آل على بن أبى طالب رضى الله عنهم، فأخذ يحذر الحسين من الانجرار وراءهم وتصديق مزاعمهم، ومما قاله للحسين: إن القوم يريدون أن يأكلوا بنا ويشيطوا دماءنا (2). ولقد أثارت تلك الرسائل المتبادلة بين الحسين وأهل الكوفة، مخاوف بنى أمية فى المدينة فكتبوا إلى معاوية يستشيرونه بشأن الحسين؛ فكتب إليهم بأن لا يتعرضوا له مطلقًا (3)، ولا يمكن أن تخفى تلك الرسائل على معاوية، ولا العلاقات الوثيقة التى تربط بين الحسين وبين الكوفيين، ولهذا فقد طلب معاوية من الحسين: أن يتقى الله عز وجل وأن لا يشق عصا المسلمين ويذكره بالله فى أمر المسلمين (4)، ولقد كان الحسن والحسين رضى الله عنهما مخلصين لعهدهما، والتزامًا ببيعتهما لمعاوية، وكان الحسين يرى أن الصلح له ملزم فى ظل حياة الحسن ومعاوية وكذلك بعد وفاة أخيه.
3 - هل يصح اتهام معاوية بسمِّ الحسن بن على رضى الله عنه؟
ذكرت بعض الروايات أن الحسن بن على توفى متأثرًا بالسم الذى وضع له، وقد اتجهت أصابع الاتهام نحو زوجة الحسن: جعدة بنت الأشعث بن قيس أمير كندة، فهذه أم موسى سرية على تتهم جعدة بأنها دست السم للحسن، فاشتكى منه شكاة، فكان يوضع تحته طست (5) وترفع أخرى نحوًا من أربعين يوماً (6)، وهذه رواية إسنادها لا يصح وهى ضعيفة (7)، وحاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجد علاقة بين البيعة ليزيد ووفاة الحسن، وزعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن سُمِّى حسنًا فإنى سأتزوجك، ففعلت، فلما مات
__________
(1) أنساب الأشراف (3/ 152) بإسناد جمعى، نقلاً عن مواقف المعارضة فى خلافة يزيد، ص (179).
(2) الطبقات ابن سعد (5/ 356) يشيطوا دماءنا: يسفكوا دماءنا.
(3) أنساب الأشراف (3/ 152)، مواقف المعارضة، ص (180).
(4) أنساب الأشراف (3/ 152)، مواقف المعارضة، ص (180).
(5) طست: إناء معلوم.
(6) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 338) إسناده ضعيف.
(7) المصدر نفسه (1/ 338).(1/433)
الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء، فقال: إن والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا (1). وفى سندها يزيد بن عياض، ابن جعدية كذبه مالك وغيره (2)، وقريب من هذه الرواية جاءت فى مقاتل الطالبين، بإسناده عن أحمد بن عبد الله بن عمار وهو من رؤوس الشيعة (3). وفى أسانيده أيضًا عيسى بن مهران رافضى كذاب، قال عنه الخطيب من شياطين الرافضة (4). وذكر البلاذرى (5) بسند عن الهيثم بن عدى أن الذى بعث لها معاوية بمئة ألف هى هند بنت سهيل بن عمرو زوجة الحسن، والهيثم بن عدى كذاب (6)، وقد شربت هذه الروايات فى كتب السنة بدون تمحيص، مع العلم أن أسانيد تلك الروايات أسانيدها ضعيفة (7)، وأما كتب الشيعة الرافضة فى اتهام معاوية فى قتل الحسن بالسّم فحدث ولا حرج وليس لهم روايات صحيحة يعتمد عليها والقوم متخصصون فى الكذب والبهتان وإلصاق التهم الباطلة، والروايات الظالمة فى الطعن فى الصحابة وخصوصًا معاوية رضى الله عنه، وقد تحدث العلماء المحققون عن هذه التهمة الباطلة فقالوا:
أ- قال ابن العربى: فإن قيل: دس على الحسن من سمّه، قلنا: هذا محال من وجهين:
أحدهما: أنه ما كان ليتقى من الحسن بأسًا وقد سلَّم الأمر، الثانى: أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله، فكيف تحملونه بغير بينة على أحد من خلقه، فى زمن متباعد، ولم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدى قوم ذوى أهواء، وفى حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغى، فلا يقبل منها إلا الصافى، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم (8).
__________
(1) تهذب الكمال (6/ 453) وفى السند يزيد بن عياض كذبه مالك وغيره.
(2) تقرب التهذيب، ص (604).
(3) ميزان الاعتدال (1/ 118).
(4) لسان الميزان (4/ 406).
(5) أنساب الأشراف (3/ 59) فيه الهيثم بن عدى كذاب.
(6) مواقف المعارضة، ص (122).
(7) مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، ص (393).
(8) العواصم من القواصم، ص (220، 221).(1/434)
ب- وقال ابن تيمية: وأما قوله: معاوية سمّ الحسين، فهذا مما ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية، أو إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم (1). وقد جاء عن ابن تيمية فى رده عن اتهام معاوية بسم الحسن وأنه أمر الأشعث بن قيس بتنفيذ هذه الجريمة وكانت ابنته تحت الحسن ما يدل على قدرات ابن تيمية للنقد العلمى القوى للروايات التاريخية حيث قال: وإذا قيل إن معاوية أمر أباها كان هذا ظنًّا محضًا، والنبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" ... ثم إن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين وقيل سنة إحدى وأربعين، ولهذا لم يذكر فى الصلح الذى كان بين معاوية والحسن بن على فى العام الذى كان يسمى عام الجماعة وهو عام واحد وأربعين، وكان الأشعث حما الحسن بن على، فلو كان شاهدًا لكان يكون له ذكر فى ذلك، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين فكيف يكون هو الذى أمر ابنته (2).
ج- وقال الذهبى: قلت: هذا لا يصلح فمن الذى أطلع عليه (3).
د- وقال ابن كثير: روى بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمى الحسن وأنا أتزوجك بعده، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن أفنرضاك لأنفسنا؟ وعندى أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى (4).
هـ- وقال ابن خلدون: وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث، فهو من أحاديث الشيعة وحاشا لمعاوية من ذلك (5).
و- الدكتور جميل المصرى: وقد علق على هذه القضية بقوله: ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد .. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعًا آنذاك، لأننا نلمس لها أثرًا فى قضية قيام الحسين، أو حتى عتابًا من الحسين لمعاوية (6).
__________
(1) منهاج السنة النبوية (4/ 469).
(2) المنتقى من منهاج الاعتدال، ص (226).
(3) تاريخ الإسلام، عهد معاوية، ص (40).
(4) البداية والنهاية (8/ 43).
(5) تاريخ ابن خلدون (2/ 527).
(6) أثر أهل الكتاب فى الفتن والحروب الأهلية، ص (482)، مرويات خلافة معاوية، ص (395).(1/435)
وقد ناقش الدكتور خالد الغيث فى كتابه مرويات معاوية فى تاريخ الطبرى الجانب الطبى فى المرويات التى تحدثت عن وفاة الحسن وفيما يلى النصوص الخاصة بالجانب الطبى فى هذه المسألة، فقد أخرج ابن سعد بإسناده، أن الحسن رضى الله عنه، دخل كنيفًا له، ثم خرج فقال: ... والله لقد لفظت الساعة طائفة من كبدى قبل، قلبتها بعود كان معى، وإنى سقيت السم مرارًا فلم أسق مثل هذا (1)، وأخرج ابن سعد بإسناده، أن الحسن رضى الله عنه قال: إنى سقيت السم غير مرة وإنى لم أسق مثل هذه، إنى لأضع كبدى (2)، وأخرج ابن سعد بإسناده، قال: كان الحسن بن على سقى السم مرارًا، كل ذلك يفلت منه، حتى كان المرة الأخيرة التى مات فيها، فإنه كان يختلف (3) كبده (4)، وقد عرضت النصوص المتعلقة بالجانب الطبى فى هذه المسألة على أ. د كمال الدين حسين الطاهر، أجاب بقوله: لم يشتك المريض (5) من أى نزف دموى سائل، مما يرجح عدم إعطائه أى مادة كيميائية (أو سم) ذات قدرة على إحداث تثبيط لعوامل تخثر الدم، فمن المعروف أن بعض الكيميائيات، والسموم، تؤدى إلى النزيف الدموى، وذلك لقدرتها على تثبيط التصنيع الكبدى لبعض العوام المساعدة على تخثر الدم، أو لمضادات تأثيراتها فى عملية التخثر؛ ولذلك فإن تعاطى هذه المواد سيؤدى إلى ظهور نزف دموى فى مناط متعددة من أعضاء الجسم مثل العين، والأنف، والفم والجهاز المعدى -المعوى- يخرج الدم بشكل نزف دبرى سائل، منفردًا أو مخلوطًا مع البراز، ولا يظهر فى شكل جمادات أو قطع دموية، صلبة كانت أو إسفنجية، أو فى شكل قطع من الكبد، ولذلك يستبعد إعطاء ذلك المريض إحدى المواد الكيميائية، أو السموم ذات القدرة على إحداث نزيف دموى (6)، وعن طبيعة قطع الدم المتجمد التى أشارت الروايات إلى أنها قطع من الكبد يقول: أ. د كمال
__________
(1) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 335) إسناده ضعيف.
(2) المصدر نفسه (1/ 338) إسناده ضعيف.
(3) يختلف: المراد - يتردد على الحمام مما به من الألم حتى أن كبده تقطع وتنزل المخرج.
(4) الطبقات تحقيق السلمى (1/ 339) إسناده ضعيف.
(5) مرويات خلافة معاوية، ص (396) المراد المريض الحسن بن على.
(6) مرويات خلافة معاوية، ص (396).(1/436)
الدين حسين الطاهر: هنالك بعض أنواع سرطانات، أو أورام الجهاز المعدى المعوى، الثابتة أو المتنقلة عبر الأمعاء، أو بعض السرطانات المخاطية التى تؤدى إلى النزف الدموى المتجمد، المخلوط مع الخلايا وبطانات الجهاز المعدى -المعوى- وقد تخرج بشكل جمادات -قطع من الكبد كما فى الروايات- ولذلك فإنى أرجح أن ذلك المريض قد يكون مصابًا بأحد سرطانات، أو أورام الأمعاء (1)، وهذا التحليل الطبى اعتمد روايات ضعيفة، وبالتالى يصعب التسليم بالنتيجة التى وصل إليها.
وبالنسبة لسم الحسن رضى الله عنه، فنحن لا ننكر هذا، فإذا ثبت أنه مات مسمومًا فهذه شهادة له وكرامة فى حقه (2). وأما اتهام معاوية وابنه فهذا لا يثبت من حيث السند، كما مر معنا ومن حيث المتن، وهل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال -كما تذكر الروايات- حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد، وبالتالى تكون زوجة له، أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن على أفضل الناس شرفًا ورفعة بلا منازعة. إن أمه فاطمة وجده الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكفى به فخرًا، وأبوه على بن أبى طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، إذًا ما هو الشىء الذى تسعى إليه جعدة وتحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير (3). إن هناك الكثير الذين هم أعداء للوحدة الإسلامية، وزادهم غيظًا وحنقًا ما قام به الحسن بن على، كما أن قناعتهم قوية بأن وجوده حيًا صمام أمان للأمة، فهو إمام ألفتها، وبالتالى حتى تضطرب الأحداث وتعود الفتن إلى ما كانت عليه فلابد من تصفيته وإزالته، فالمتهم الأول فى نظرى هم السبئيهَ أتباع عبد الله بن سبأ الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل لمعاوية ووضع حدًا للصراع، ثم الخوارج الذين قتلوا أمير المؤمنين على بن أبى طالب وهم الذين طعنوه فى فخذه، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم فى النهروان وغيرها (4).
__________
(1) مرويات خلافة معاوية، ص (397).
(2) منهاج السنة (4/ 42).
(3) مواقف المعارضة فى خلافة يزيد بن معاوية، ص (123).
(4) المصدر نفسه، ص (124).(1/437)
4 - رؤية الحسن بن على فى المنام واقتراب أجله:
عن عمران بن عبد الله بن طلحة، قال: رأى الحسن بن على كأن بين عينيه مكتوبًا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، فاستبشر به وأهل بيته، فقصوها على سعيد بن المسيب فقال: إن صدقت رؤياه فقلَّ ما بقى من أجله، فما بقى إلا أيامًا (1).
5 - الأيام الأخيرة من حياة الحسن:
وفى حياته بالمدينة سقى السم مرارًا، ثم لما كانت المرة الأخيرة جاء الطبيب فقال: هذا رجل قد قطع السم أمعاءه (2)، وقال عمير بن إسحاق: دخلت أنا ورجل من قريش على الحسن بن على، فقام فدخل المخرج، ثم خرج فقال: لقد لفظت طائفة من كبدى أقلبها بهذا العود، ولقد سقيت السم مرارًا وما سقيت السم مرة هى أشد من هذه، قال: وجعل يقول لذلك الرجل: سلنى قبل أن لا تسألنى، قال: ما أسألك شيئًا يعافيك الله، قال: فخرجنا من عنده، ثم عدنا إليه من غد وقد أخذ فى السَّوْق -أى نزع الموت- فجاء الحسين حتى قعد عند رأسه، فقال: أى أخى من صاحبك؟ قال: تريد قتله؟ قال: نعم، قال: لئن كان صاحبى الذى أظن لله أشد لى نقمة، وإن لم يكنه، ما أحب أن تقتل بى بريئًا (3).
أ- وصية الحسن للحسين رضى الله عنه:
قال ابن عبد البر: وروينا من وجوه أن الحسن بن على لما حضرته الوفاة قال: للحسين أخيه: يا أخى، إنا أبانا رحمه الله تعالى لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استشرف لهذا الأمر، رجا أن يكون صاحبه، فصرفه الله عنه، ووليها أبو بكر، فلما حضرت أبو بكر الوفاة تشوف لها أيضًا، فصرفت عنه، إلى عمر، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشك أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان، فلما هلك عثمان بويع، ثم نوزع حتى جرد السيف وطلبها، فما صفى له شىء منها، وإنى والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت، النبوة
__________
(1) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 334) إسناده منقطع، عمران لم يدرك الحسن.
(2) الدوحة النبوية الشريفة ص، (97، 98).
(3) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 335) إسناده ضعيف.(1/438)
والخلافة، فلا أعرفنك ما استخفك سفهاء الكوفة فأخرجوك (1)، ولم يذكر ابن عبد البر أسانيده فى الرواية، وأما المتن ففيه نكارة، كما أنه ينافى ما ثبت عن على رضى الله عنه فى تقديمه لأبى بكر وعمر فى الخلافة، وقد بينت ذلك فى كتبى عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهم.
ب- تفكره فى ملكوت السماء واحتسابه نفسه عند الله:
لما حضر الحسن بن على قال: أخرجونى إلى الصحن حتى أنظر فى ملكوت السماوات -يعنى الآيات- فأخرجوا فراشه فرفع رأسه، فنظر فقال: اللهم إنى أحتسب نفسى عندك، فإنها أعز الأنفس علىَّ، قال: فكان مما صنع الله له أنه أحتسب نفسه عنده (2)، وجاء فى رواية: اللهم إنى أحتسب نفسى عندك، فإنى لم أصب بمثلها، غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3)، ويظهر فى هذا الموقف العظيم والمشهد الرهيب صدق توجه الحسن لله وحده المتفرد بالكبرياء والعظمة والجبروت، وفى هذه العبارات تتفجر معانى الخضوع والتذلل لله عز وجل مع كمال الرجاء وتعلق قلبه بالله وحده فلا ينبغى أن تتعلق قلوبنا بغير الله عز وجل، كما أنه وهو يودع هذه الدنيا لا ينسى عبادة التفكر فى ملكوت السماوات وما فيها من المخلوقات المتنوعة، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، ثم نظر إلى نفسه التى هى أعز الأنفس عليه غير رسول الله، فاحتسبها عند الله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. فإن التأمل والتفكر فى الكون والنفس وآيات الله المنظورة داع قوى للإيمان، لما فى هذه الموجودات من عظمة الله الخالق الدالة على قدرة خالقها وعظمته؛ وما فيها: من الحسن والانتظام، والإحكام الذى يحير الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته؛ وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التى لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره، وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها، وبارئها وشكره واللهج بذكره؛ وإخلاص الدين له،
__________
(1) الاستيعاب (1/ 391).
(2) البداية والنهاية (11/ 209).
(3) صفة الصفوة (1/ 762).(1/439)
وهذا هو روح الإيمان وسره (1)، وإذا تأملنا فى مخلوقات الله كلها، نجدها مضطرة ومحتاجة إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغنى عنه طرفة عين خصوصًا ما تشاهده فى نفسك من أدلة الافتقار وقوة الاضطراب، وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله فى جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره فى دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على ربه، وكمال الثقة بوعده، وشدة الطمع فى بره وإحسانه، وبهذا يتحقق الإيمان، ويقوى التعبد فإن الدعاء مخ العبادة وأصلها (2)، فالحسن بن على رضى الله عنه أتقن عبادة التفكر وهو فى لحظاته الأخيرة من هذه الحياة الدنيا، وعلمنا معنى عظيمًا وكبيرًا فى المفهوم الشامل للعبادة فقد احتسب نفسه عند ربه، وهكذا يفهم الصحابة معانى الاحتساب عند الله، وكان معاذ رضى الله عنه قد أجاب أبا موسى الأشعرى عندما قال له: فكيف تقرأ يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئى من النوم، فأقرأ ما كتب الله، فأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى (3)، فالأكل وجماع الرجل لأهله، إذا احتسبه المسلم عند الله فيه الأجر والمثوبة من الله تعالى، والحسن ابن على يحتسب نفسه عند الله ويودع الدنيا بعبادة التفكر وعبادة الاحتساب فى المصائب، فقد كان رضى الله عنه لسان حاله قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
ج- يا أخى إنى أدخل فى أمر من أمر الله لم أدخل فى مثله قط، وأرى خلقًا من خلق الله لم أر مثله قط (4).
قال أبو نعيم (5): لما اشتد بالحسن بن على الوجع جزع فدخل عليه رجل فقال له: يا أبا محمد، ما هذا الجزع؟ ما هو إلا أن تفارق روحك جسدك فتقدم على
__________
(1) شجرة الإيمان للسعدى، ص (49)، والوسطية فى القرآن الكريم، للصلابى ص (239).
(2) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، ص (51)، الوسطية، للصلابى، ص (239).
(3) البخارى، ك المغازى، رقم (4342).
(4) البداية والنهاية (11/ 210).
(5) هو الفضل بن دكين.(1/440)
أبويك على وفاطمة، وعلى جديك النبى -صلى الله عليه وسلم- وخديجة، وعلى أعمامك حمزة وجعفر، وعلى أخوالك القاسم والطيب وإبراهيم، وعلى خالاتك رقية وأم كلثوم وزينب، قال: فسُرِّى عنه (1). وفى رواية أن القائل له ذلك الحسين، وأن الحسن قال له: يا أخى، إنى أدخل فى أمر من أمر الله لم أدخل فى مثله وأرى خلقًا من خلق الله لم أر مثله قط، قال: فبكى الحسين رضى الله عنه (2) وفى رواية: يا أخى إنى أقدم على أمر عظيم وهول لم أقدم على مثله قط (3)، أى والله وقد بين المولى عز وجل فى كتابه وسنة رسوله تفصيل مسيرة الإنسان منذ خروج روحه إلى أن يستقر أهل الجنة فى الجنة وأهل النار فى النار، ولذلك كان السلف يخافون من سوء الخاتمة، فلا يدرى أحد بماذا يختم له، فالأعمال بالخواتيم، والمؤمنون يخافون من سوء الخاتمة عند كل خطوة وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، ويخافون من سكرات الموت، وقبض الروح، ومعرفة المصير، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم هوِّن علىَّ سكرات الموت" (4). ومع الخوف من سكرات الموت يكون أيضًا الخوف من صورة ملك الموت، ودخول الروع والخوف منه على القلب (5)، يقول القرطبى: وأما مشاهدة ملك الموت - عليه السلام- وما يدخل على القلب منه من الروع والفزع، فهو أمر لا يعبر عنه لعظم هوله، وفظاعة رؤيته، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الذى يتبدى له، ويطلع عليه (6)، ومع الخوف الذى ينبغى أن يلازمنا من سكرات الموت وصورة ملكه فإن الأمر الخطير الذى من شأنه أن يزيدنا خوفًا على خوفنا هو: ظهور نتيجة امتحان الدنيا فى ذلك الوقت فهل سنكون ممن تقول لهم الملاكة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. أم سنكون .. {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]؟.
__________
(1) البداية والنهاية (11/ 210).
(2) تاريخ دمشق (14/ 109).
(3) تهذيب الكمال (6/ 254)، سكب العبرات (1/ 148).
(4) الترمذى، ك الجنائز، رقم (978).
(5) الإيمان أولاً، ص (94).
(6) التذكرة (1/ 113).(1/441)
قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" فقالت عائشة: إنا نكره الموت، فقال: "ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان من الله وكرامته فليس شىء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموت بُشِّر بعذاب الله وعقوبته فليس شىء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" (1). وعن أبى هريرة -رضى الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها -فذكر من طيب ريحها- ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه فيُنطلق به إلى ربه ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه -فذكر من نتنها- ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل" (2).
وللقبر ضمة وضغطة لا ينجو منها أحد كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن للقبر ضغطة لو نجا أحد منها لنجا سعد بن معاذ" (3)، والقبر -كما قال - صلى الله عليه وسلم -- "حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة" (4)، وأمامنا الحشر ومجيء الساعة وقيام القيامة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] إنه يوم عصيب: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] فالجميع سيحشر بداية من أبي البشر حتى آخر إنسان تقوم عليه الساعة (5)، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] وقد تحدث القرآن الكريم والرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أهوال يوم القيامة قال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 21 - 24]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى
__________
(1) البخارى، رقم (6507).
(2) صحيح مسلم، صحيح الجامع، رقم (504).
(3) مسند أحمد (6/ 55) رجاله رجال الصحيح.
(4) سنن الترمذى، رقم (2578) حديث غريب.
(5) الإيمان أولاً فكيف نبدأ به؟ ص (96).(1/442)
بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" (1) فيا له من مشهد مهيب تنفطر منه القلوب (2)، ولذلك قال الحسن بن على رضى الله عنه: "العار خير من النار" (3)، وذلك خشي على نفسه الزكية أن تحاسب بين يدى الله يوم القيامة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء" (4)، ومن مشاهد يوم القيامة المفزعة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخبُ دمًا فيقول: يا رب سل هذا فيما قتلنى؟ حتى يُدينه من العرش" (5)، نعم إنها أهوال عليها قادمون، فإذا كان سيد شباب أهل الجنة يخشى على نفسه فى دخوله على أمر من أمر الله لم يدخل فى مثله قط، فكيف بأمثالى وأمثالك يا أيها القارئ الكريم، فيجب أن نعتبر ونعمل لمثل هذا الموقف العصيب، نسأل الله أن يرحمنا ويعفو عنا برحمته وعفوه إنه كريم حليم وودود رحيم.
6 - دفنه فى البقيع:
لما احتضر الحسن بن على قال للحسين: أدفنونى عند أبى -يعني النبى - صلى الله عليه وسلم -- إلا أن تخافوا الدماء، فإن خفتم الدماء فلا تهريقوا فىّ دمًا، ادفنونى فى مقابر المسلمين فلما قبض تسلح الحسين وجمع مواليه، فقال له أبو هريرة: أنشدك الله وصية أخيك فإن القوم لن يدعوك حتى يكون بينكم دماء، وكان مروان بن الحكم قد عارض دفنه فى جوار النبى -صلى الله عليه وسلم- وقال: لا يدفن هناك أبدًا، فلم يزل به أبو هريرة وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، والمسور بن مخرمة وغيرهم حتى رجع ثم دفنوه فى بقيع الغرقد بجانب أمه الزهراء البتول (6)، وقد اختلطت الروايات الضعيفة فى حادثة دفن الحسن بن على رضى الله عنه، ووجد أصحاب الأغراض مجالاً للدس والتشويه والتزوير، فقد زعم بعضهم بأن السيدة
__________
(1) مسلم، ك صفة النار، صحيح الجامع، رقم (8001).
(2) رحلة إلى الدار الآخرة، ص (390).
(3) البداية والنهاية (12/ 204).
(4) أخرجه البخارى، ومسلم وأحمد عن مسعود، صحيح الجامع، رقم (2577).
(5) رواه الترمذى والنسائى وابن ماجة وصححه الألبانى فى صحيح الجامع، رقم (8031).
(6) الدوحة النبوية الشريفة، ص (98).(1/443)
عائشة رفضت دفن الحسن بجانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وقالت: لا يكون لهم رابع أبدًا، وإنه لبيتي أعطانيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى حياته، فإنه هذا لا يثبت وإسناده مظلم (1). وقد أثبت ابن تيمية بأن السيدة عائشة أذنت للحسن بأن يدفن فى حجرتها، ولكن كره ذلك ناس آخرون، ورأوا أن عثمان -رضى الله عنه- لما لم يدفن فيها فلا يدفن فيه غيره، وكادت تقوم فتنة (2)، وما تزعمه كتب التاريخ بأن أبان بن عثمان بن عفان قال: إن هذا لهو العجب العجاب يدفن ابن قاتل عثمان مع رسول الله وأبى بكر وعمر، ويدفن أمير المؤمنين المظلوم الشهيد ببقيع الغرقد (3)، فهذا إسناده ضعيف جدًا، وفى متنه نكارة (4)، وهناك روايات ذكرت اعتراض مروان بن الحكم على دفن الحسن بجانب النبى -صلى الله عليه وسلم- إلا أن أسانيدها ضعيفة، وقد ذكرها الدكتور محمد صامل السلمى فى تحقيقه لكتاب الطبقات (5)، وإنما الرواية الصحيحة فى هذا المقام هى ما رواه أبو حازم حيث قال: لما حضر الحسن، قال للحسين: ادفنونى عند أبى -يعنى النبى -صلى الله عليه وسلم-- إلا أن تخافوا الدماء، فإن خفتم الدماء فلا تهريقوا فيّ دمًا، ادفنونى عند مقابر المسلمين، قال: فلما قبض تسلح الحسين وجمع مواليه، فقال أبو هريرة: أنشدك الله ووصية أخيك فإن القوم لن يدعوك حتى يكون بينكم دماء، قال: فلم يزل به حتى رجع. قال: ثم دفنوه فى بقيع الغرقد (6)، فقال أبو هريرة: أرأيتم لو جيء بابن موسى ليدفن مع أبيه فمنع أكانوا قد ظلموه؟ (7) قال: فقالوا: نعم، قال: فهذا ابن نبى الله قد جيء به ليدفن مع أبيه (8)، وقد صلى على الحسن بن على سعيد بن العاص وكان يبكى، وكان مرضه الذى مات فيه أربعين يومًا (9)، وقد قدم الحسين بن على
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 276).
(2) الفتاوى (27/ 222).
(3) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 335) إسناده ضعيف جدًا.
(4) المصدر نفسه (1/ 355).
(5) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 356، 357، 364) فقد بين ضعف أسانيد الروايات.
(6) الغرقد: مقبرة أهل المدينة، والغرقد كبار العوسج وبه سميت المقبرة.
(7) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 340) إسناده صحيح.
(8) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 340) إسناده صحيح.
(9) المستدرك على الصحيحين (3/ 190).(1/444)
سعيد بن العاص للصلاة على الحسن، لأنه كان واليًا على المدينة لمعاوية وقد اعتزل الفتنة ولم يقاتل مع معاوية وقد ولى إمارة الكوفة لعثمان بن عفان وفيه يقول الفرزدق:
ترى الغُرّ (1) الجحاجح (2) من قريش ... إذا ما الأمر ذو الحدثان (3) عالا (4)
قيامًا ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلال (5)
وقد كان سعيد بن العاص أحد من ندبه عثمان لكتابة المصحف لفصاحته، وشبه لهجته بلهجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6)، ووقف أبو هريرة على مسجد رسول الله يبكى وينادى بأعلى صوته: يا أيها الناس مات اليوم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابكوا (7)، وقد اجتمع الناس لجنازته، حتى ما كان البقيع يسع أحدًا من الزحام (8)، ولو طرحت إبرة ما وقعت إلا على رأس إنسان (9)، وقد كان الحسن رضى الله عنه، حليمًا ورعًا فاضلاً، دعاه ورعه إلى ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله، وقال عنه الذهبى: وكان هذا الإمام سيدًا وسيمًا، جميلاً عاقلاً، رزينًا، جوادًا، ممدَّحًا، خيرًا، دينًا، ورعًا، محتشمًا كبير الشأن (10)، فرحمة الله ورضوانه على هذا السيد الجليل وجمعنا الله به مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين. ففى سيرته عبرة لمن اعتبر، وتبصرة لمن أدَّكَر ورحم الله العلامة محمد إقبال إذ قال:
فى روض فاطمة نما غصنان لم ... ينجبهما من النيرات سواها
فأمير قافلة الجهاد وقطب دائرة ... الوئام والاتحاد ابناها
__________
(1) الغر: جمع أغر: وهو الأبيض الغرة.
(2) الجحاجح جمع جحجاح: السيد الكريم.
(3) الحدثان: ما يحدث من نوائب الدهر.
(4) عال: أثقل وقدح.
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 445).
(6) المصدر نفسه (3/ 448، 449).
(7) البداية والنهاية (12/ 211)، الدوحة النبوية الشريفة، ص (98).
(8) البداية والنهاية (12/ 211).
(9) الطبقات، تحقيق السلمى (1/ 351) إسناده ضعيف.
(10) سير أعلام النبلاء (3/ 253).(1/445)
حسن الذى صان الجماعة بعدما ... أمسى تفرقها يحل عُراها
ترك الإمامة ثم أصبح فى الديار ... إمام ألفتها وحسن عُلاها (1)
7 - التحقيق فى سنة وفاته وعمره:
كانت وفاة الحسن بن عليٍّ على أكثر الآراء فى سنة تسع وأربعين من الهجرة (2)، وقيل: سنة خمسين (3)، وقيل: سنة إحدى وخمسين (4)، وقد رجح الدكتور خالد الغيث بأن وفاة الحسن بن على فى سنة 51هـ (5) وهو قول البخارى (6)، وإليه أميل وقال جعفر بن الصادق: عاش الحسن سبعًا وأربعين سنة (7)، وعلق الذهبى بقوله: وغلط من نقل عن جعفر أن عمره ثمان وخمسون سنة (8)، وقال الدكتور خالد الغيث: توفى وعمره ثمانٍ وأربعون (9)، وأكد ما ذهب إليه بقول ابن عبد البر: أن ولادة الحسن بن على: فى النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، هذا أصح ما قيل فى ذلك (10)، وبذلك جزم ابن حجر (11)، وبذلك يكون عمر الحسن عند وفاته ثمانى وأربعين سنة، وأنه توفى سنة 51هـ، والله تعالى أعلم (12).
وهكذا خرج الحسن بن على من الدنيا شهيدًا رضى الله عنه بأيدى الغدر والخيانة بعد أن قدم عملاً جليلاً ومشروعًا إصلاحيًا فبريدًا ساهم فى وحدة الأمة وأعاد دورها الحضارى فى نشر دين الله فى الآفاق، وستظل الأمة الإسلامية مدينة لهذا السيد الجليل الذى حمل لواء الوحدة والألفة وحفظ الدماء وساهم فى الإصلاح بين الناس، وقدم بجهاده الرائع، وبصبره الجميل، مثالاً يقتدى به على
__________
(1) الدوحة النبوية الشريفة، ص (99).
(2) تاريخ خليفة، ص (209)، أنساب الأشراف (3/ 64)، تهذيب الكمال (6/ 256).
(3) الإنباء بأنباء وتواريخ الخلفاء، فتح البارى (7/ 120).
(4) مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، ص (402).
(5) مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، ص (402).
(6) سير أعلام النبلاء (3/ 277).
(7) سير أعلام النبلاء (3/ 277).
(8) سير أعلام النبلاء (3/ 277).
(9) مرويات خلافة معاوية، ص (402).
(10) الاستيعاب (1/ 384).
(11) الإصابة (2/ 68).
(12) مرويات خلافة معاوية، ص (402).(1/446)
مر العصور، وكر الدهور وتوالى الأزمان، فمواقفه الشامخة واستعلاؤه الكبير على حطام الدنيا، حفظها لنا التاريخ ولم تهملها الليالى ولم تفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون.
...
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب فى 21 صفر 1425هـ الموافق 11/ 4/ 2004م الساعة العاشرة إلا ربعًا ليلاً.
والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل المتواضع ويشرحِ صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2].
ولا يسعنى فى نهاية هذا الكتاب إلا أن أبتهل إلى الله وأتضرع إليه بقلب خاشع منيب، معترفًا بأنعامه وفضله وكرمه وجوده وتوفيقه وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملى لوجهه خالصًا ولعباده نافعًا، وأن يثيبنى على كل حرف كتبته، ويجعله فى ميزان حسناتى، وأن يثبت إخوانى الذين أعانونى بكل ما، يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه، قال تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته، ورضوانه
على محمد محمد الصلابى(1/447)
أهم المصادر والمراجع
1 - سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة بيروت 1402هـ.
2 - نسب قريش: أبو عبد الله مصعب بن عبد الله الزبيرى دار المعارف القاهرة.
3 - الدوحة النبوية الشريفة، د. فاروق حمادة، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1420هـ-2000م.
4 - الذرية الطاهرة النبوية، لمحمد بن أحمد بن حماد الدولابى وأخرج أحاديثه سعد المبارك الحسن، نشر الدار السلفية، الكويت الطبعة الأولى 1407هـ، 1986م.
5 - الطبقات الكبرى، محمد سعد بن منيع الزهرى، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.
6 - مسند أحمد، المكتبة الإسلامية، بيروت، لبنان.
7 - صحيح ابن حبان، أبو حاتم بن حبان البستى، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وحسين الأسد، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1404هـ.
8 - المستدرك على الصحيحين، لأبى عبد الله محمد بن عبد الله النيسابورى، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1411هـ.
9 - معجم الطبرانى الكبير، لأبى القاسم، سليمان بن أحمد الطبرانى، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الثانية 1406هـ- 1985م.
10 - منهج التربية النبوية للطفل، محمد نور بن عبد الحفيظ سويد، مؤسسة الريان، بيروت لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الطبعة الخامسة 1414هـ- 1994م.
11 - الحسن بن على ودوره السياسى، فتيخان كردى، رسالة ماجستير لم تطبع بعد.(1/449)
12 - صحيح البخارى، لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1411هـ-1999م.
13 - تسمية المولود، بكر عبد الله أبو زيد، دار العاصمة، الطبعة الثالثة 1416هـ-1995م.
14 - تحفة المولود بأحكام المولود، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى 1422هـ-2001م.
15 - موسوعة تربية الأجيال، نصر الصنقرى، دار الإيمان، الطبعة الأولى.
16 - صحيح مسلم، تحقيق، محمد فؤاد عبد الباقى، دار إحياء التراث العربى، بيروت - لبنان الطبعة الثانية -1972م،
17 - سنن الترمذى، أبو عيسى، محمد بن عيسى الترمذى، دار الفكر 1398هـ.
18 - ذخائر العقبى فى مناقب ذوى القربى، لأبى العباس أحمد بن محمد الطبرى المكى، مكتبة الصحابة الإمارات العربية.
19 - المعجم الصغير للطبرانى، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبرانى.
20 - موسوعة عظماء حول الرسول، خالد العك.
21 - سيرة آل بيت النبى الأطهار، مجدى فتحى السيد، المكتبة التوفيقية.
22 - الإصابة فى تمييز الصحابة، أحمد بن على بن حجر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ-1995م.
23 - الاستيعاب فى معرفة الأصجاب، لأبى عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ-1992م.
24 - ميزان الاعتدال فى نقد الرِّجال، محمد بن عثمان الذهبى تحقيق: على البجاوى، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة الطبعة الأولى.
25 - لسان الميزان، أحمد بن على بن حجر، حيدر آباد الدكن، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، 1331هـ-1912م.(1/450)
26 - البداية والنهاية، أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقى دار الريان، الطبعة الأولى 1408هـ- 1988م.
27 - تقريب التهذيب لابن حجر.
28 - دائرة المعارف البريطانية.
29 - جمهرة أنساب العرب، على بن أحمد بن الأندلسى، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، 1382هـ.
30 - فضائل الصحابة، لأبى عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، دار بن الجوزى، السعودية، الطبعة الثانية 1420 هـ- 1999 م.
31 - تحفة الأحوذى لشرح سنن الترمذى، محمد عبد الرحمن المباركفورى، تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة الاعتماد، نشر محمد عبد
المحسن الكتبى.
32 - منهاج السنة لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة.
33 - التبيين فى أنساب القرشيين، موفق الدِّين أبى محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسى، حققه محمد نايف الدليمى، عالم الكتب، الطبعة الثانية.
34 - الشيعة وأهل البيت، إحسان إلهى ظهير، الناشر إدارة ترجمان السنة، توزيع دار السلام الرياض، الطبعة العاشرة.
35 - نساء أهل البيت منصور عبد الحكيم، التوفيقية.
36 - المرتضى أبو الحسن على بن أبى طالب، لأبى الحسن الندوى، دار القلم.
37 - السيرة النبوية لابن هشام، دار إحياء التراث، الطبعة الثالثة، 1417 هـ، 1997 م.
38 - تاريخ الإسلام للذهبى، محمد أحمد بن عثمان الذهبى، دار الكتاب العربى، الطبعة الأولى 1407هـ- 1987م.
39 - دلائل النبوة للبيهقى.(1/451)
40 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين على بن أبى الهيثمى دار الكتاب العربى، بيروت الطبعة الثالثة، 1402 هـ.
41 - سنن ابن ماجة، الحافظ أبو عبد الله محمد بن زيد القزوينى، دار الفكر.
42 - أسد الغابة فى معرفة الصحابة، لعز الدين بن الأثير، أبى الحسن بن على بن محمد الجزرى، دار إحياء التراث العربى، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ- 1996م.
43 - حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء، لأبى نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانى، دار الكتب العلمية، بيروت.
44 - صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلى، دار النفائس الطبعة الثالثة، 1408هـ.
45 - صفة الصفوة الإمام أبى الفرج بن الجوزى، دار المعرفة، بيروت.
46 - التاريخ الإسلامى مواقف وعبر، د. عبد العزيز عبد الله الحميدى، دار الدعوة، الإسكندرية، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى
1408هـ.
47 - من معين السيرة، صالح أحمد الشامى، المكتب الإسلامى، الطبعة الثانية 1412هـ-1992م.
48 - السيرة النبوية، لعلى محمد الصلابى، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
49 - صحيح سنن أبى داود، محمد ناصر الدين الألبانى، مكتبة التربية العربى لدول الخليج، الرياض الطبعة الأولى 1405هـ.
50 - أسمى المطالب فى سيرة أمير المؤمنين على بن أبى طالب، د. علي محمد الصلابى، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
51 - العقيدة فى أهل البيت بين الإفراط والتفريط د. سليمان بن سالم بن رجاء السُّحيمى، مكتبة الإمام البخارى، الطبعة الأولى 1420هـ-2000م.(1/452)
52 - السنن الكبرى للبييهقى، للحافظ أحمد بن الحسين البيهقى، طبع دار المعارف، بيروت، لبنان، توزيع مكتبة المعارف الرياض.
53 - الانتصار للصحب والآل من افتراءات السّماوى الضال، الدكتور إبراهيم الرحيلى، مكتبة الغرباء الأثرية، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م.
54 - ديوان محمد إقبال، الأعمال الكاملة، سيد عبد الماجد غورى، دار ابن كثير، الطبعة الأولى 2003 م.
55 - أحاديت بشأن السبطين، عثمان الخميس، رسالة ماجستير لم تطبع حتى الآن.
56 - الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان، لأبي الحسين الأمير علاء الدين على ابن بلبان، قدم له وضبط نصه كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى 1987 م.
57 - الشريعة للآجرى، دراسة وتحقيق د. عبد الله الدميجى، دار الوطن، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م.
58 - النهاية فى غريب الحديث، لابن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوى، ومحمود محمد الطناحى.
59 - فتح البارى، لابن حجر العسقلانى، دار المعرفة بيروت - لبنان.
60 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للمزي، جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكى عبد الرحمن المزي، الدار القيمة.
61 - شرح النووى على صحيح مسلم للإمام أبو زكريا محيى الدين يحيى بن شرف، المتوفى 676هـ-1349م.
62 - شرح فتح القدير لكمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام مطبعة دار الفكر، بيروت الطبعة الثانية 1397هـ.
63 - الإنصاف فى معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد: لعلاء الدين أبى الحسن على بن سليمان المرداوى، دار إحياء التراث العربى.(1/453)
64 - معالم السنن للخطابى لأبى سليمان بن محمد الخطابى المكتبة العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ مصور عن الطبعة الأولى 1352 هـ.
65 - الأم للشافعى، لمحمد بن إدريس الشافعى، تصحيح محمد زهرى النجار، نشر دار المعرفة، بيروت.
66 - المجموع شرح المهذب للنووى، الناشر دار الفكر.
67 - حاشية رد المحتار على الدر المختار المعروف بحاشية ابن عابدين، لمحمد أمين عمر الدمشقى الشهير بابن عابدين الطبعة الثانية، مطبعة البابى الحلبى، مصر.
68 - بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، أحمد بن محمد الصاوى المالكى، دار المعرفة، بيروت 1398 هـ.
69 - حاشية الدسوقى على الشرح الكبير، لمحمد أحمد بن عرفة الدسوقى، نشر دار الفكر.
70 - شذرات الذهب فى أخبار من ذهب، لأبى الفلاح عبد الحى بن العماد الحنبلى، دار إحياء التراث العربى، بيروت.
71 - المنتقى: شرح موطأ مالك، لأبى الوليد سليمان بن خلف الباجى، دار الكتاب العربى الطبعة الرابعة 1404هـ، مصور عن الأولى 1322 هـ.
72 - الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية: لعلاء الدين أبى الحسن على بن محمد البعلى تحقيق محمد حامد الفقى، دار المعرفة بيروت.
73 - إعلام الموقعين لابن القيم، دار الجيل، بيروت لبنان.
74 - مختارات من أدب العرب للندوى، دار ابن كثير، دمشق.
75 - حقبة من التاريخ، عثمان الخميس، دار الإيمان الإسكندرية.
76 - ثم أبصرت الحقيقة، محمد سالم الحضر، دار الإيمان الإسكندرية طبعة 2003 م.
77 - دراسات فى الفرق د. أحمد جلى، شركة الطباعة الغربية السعودية، الطبعة الأولى 1406هـ.(1/454)
78 - الإمامة والنص، فيصل نور، كتاب لم يطبع حتى الآن.
97 - وسطية أهل السنة بين الفرق، د. محمد باكريم محمد باعبد الله، فى دار الراية، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى 1415هـ/ 1994م.
80 - زاد المعاد فى هدى خير العباد، أبو عبد الله محمد بن أبى بكر المعروف بابن القيم، الطبعة الأولى 1399 هـ، دار الرسالة.
81 - السيرة النبوية ضوء القرآن والسنة، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة 1417هـ-1996م.
82 - مقدمة ابن خلدون.
83 - الإمام الزهرى، محمد شراب، دار القلم دمشق.
84 - استخلاف أبى بكر الصديق، د. جمال عبد الهادى، د. وفاء محمد رفعت جمعة، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الأولى 1406هـ- 1986 م.
85 - أبو بكر رجل الدولة، مجدى حمدى، دار طيبة الرياض، الطبعة الأولى 1415هـ.
86 - عصر الخلافة الراشدة د. أكرم ضياء العمرى مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1414هـ- 1994م.
87 - الأنصار فى العصر الراشد، حامد محمد الخليفة، دار الصحابة 2003م.
88 - الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبى بكر الصديق، على محمد الصلابى، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
89 - الإسلام وأصول الحكم، محمد عمارة.
90 - عقيدة أهل السنة فى الصحابة الكرام، د. ناصر بن على عائض حسن الشيخ، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1413هـ- 1993م.
91 - أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، د. إبراهيم على شعوط المكتب الإسلامى، الطبعة السادسة، 1408هـ-1988م .......(1/455)
92 - تاريخ بغداد، الخطيب البغدادى، دار الغرب الإسلامى، بيروت لبنان.
93 - الإبانة عن أصول الديانة، لأبى الحسن على بن إسماعيل الأشعرى، الطبعة الثانية، الجامعة الإسلامية 1405هـ.
94 - الإنصاف فيما يجوز اعتقاده ولا يجوز الجهل به، لأبى بكر بن الطيب الباقلانى، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، نشر عالم الكتب، بيروت الطبعة الأولى 1986م.
95 - الخلافة والخلفاء الراشدون بين الشورى والديمقراطية، سالم بهنساوى، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة الثانية 1418هـ-1997م.
96 - دراسات فى عهد النبوة والخلافة الراشدة د. عبد الرحمن الشجاع، دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى 1419 هـ- 1999 م.
97 - صحيح سنن ابن ماجه، لمحمد ناصر الدين الألبانى، منشورات الكتب الإسلامى.
98 - تاريخ الأمم والملوك لأبى جعفر الطبرى، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ-1987م.
99 - معجم الطبرانى الأوسط لأبى القاسم سليمان بن أحمد الطبرانى.
100 - أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية، د. ناصر القفارى، دار الرضا بمصر الطبعة الثالثة.
101 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة فى أصول الاعتقاد، أبو المعالى الجوينى، تحقيق: محمد يوسف موسى - على عبد المنعم - بمكتبة الخانجى، مصر.
102 - خلافة على بن أبى طالب وترتيب وتهذيب كتاب البداية والنهاية، محمد صامل السلمى، دار الوطن، الطبعة الأولى 1422 هـ- 2002م.
103 - تاريخ اليعقوبى، دار بيروت للطباعة والنشر، طبعة 1400 هـ- 1980 م.
104 - الكامل فى التاريخ، أبو الحسن على بن أبى المكارم الشيبانى المعروف بابن الأثير، تحقيق: على شيرى، دار إحياء التراث العربى، بيروت، الطبعة الأولى ............(1/456)
105 - الشورى بين الأصالة والمعاصرة، عز الدين التميمى، دار البشير، الطبعة الأولى 1405هـ- 1985م.
106 - تاريخ خليفة بن خياط، أبو عمر خليفة بن خياط بن أبى هبيرة الليثى، تحقيق: أكرم ضياء العمرى، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، ودار القلم، طبعة 1397 هـ.
107 - قصة بعث أبى بكر جيش أسامة، د. فضل إلهى، دار بن حزم، بيروت، الطبعة الثانية، 1420هـ-2000م.
108 - تاريخ الدعوة إلى الإسلام فى زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين، د. جميل عبد الله المصرى، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1407هـ 1987م.
109 - عبقرية الصديق، عباس محمود العقاد، المكتبة العصرية، بيروت.
110 - الصديق أبو بكر، محمد حسين هيكل، دار المعارف بمصر، الطبعة 1971م.
111 - حركة الردة د. على العتوم، مكتبة الرسالة الحديثة عمّان، الطبعة الثانية 1997م.
112 - مشكاة المصابيح، تحقيق ناصر الدين الألبانى، المكتب الإسلامى.
113 - فقه التمكين فى القرآن الكريم. على محمد الصلابى، دار الوفاء المنصورة، الطبعة الأولى 1421هـ- 2001م.
114 - تفسير الطبرى، لأبى جعفر الطبرى.
115 - تاريخ دمشق الكبير، لأبى القاسم على بن الحسن بن هبة الله الشافعى، دار إحياء التراث العربى، الطبعة الأولى 1412هـ- 2001م.
116 - الخراج لأبى يوسف، منشورات مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ الطبع.
117 - مصنف فى الأحاديث والآثار لأبى شيبة، دار التاج، بيروت، لبنان ...................(1/457)
118 - عقائد الثلاثة والسبعين فرقة لأبى محمد اليمنى تحقيق ودراسة: محمد عبد الله زربان الغامدى، مكتبة دار العلوم، الطبعة الأولى 1414هـ.
119 - تهذيب التهذيب، أحمد بن على بن حجر، دار صادر، بيروت، لبنان.
120 - مختصر التحفة الإثنى عشرية، لمحمود شكرى الألوسى؛ تحقيق: محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة 1373 هـ.
121 - على بن أبى طالب مستشار أمين للخلفاء الراشدين، د. محمد عمر الحاجى، دار الحافظ بدمشق، الطبعة الأولى 1998 م.
122 - فقه السيرة للبوطى، محمد سعيد رمضان البوطى، الطبعة الحادية عشرة، 1991م، دار الفكر، دمشق.
123 - المختصر من كتاب الموافقة بين أهل البيت والصحابة للزمخشرى، تحقيق سيد إبراهيم صادق، دار الحديث، أمام جامعة الأزهر.
124 - النهى عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب لمحمد عبد الواحد المقدسى، تحقيق: عبد الرحمن التركى، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى.
125 - النضرة فى مناقب العشرة لأبي جعفر أحمد الشهير بالمحب الطبرى، المكتبة القيمة القاهرة.
126 - أضواء البيان فى تاريخ القرآن، صابر حسن محمد أبو سليمان، دار عالم الكتب، الطبعة الأولى 1421هـ-2000م.
127 - تيسير الكريم المنّان فى سيرة عثمان بن عفان، د. على محمد الصلابى، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى 1423 هـ- 2002 م.
128 - الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، عبد الرحمن عبد الكريم العانى، د.
حسن فاضل زعين، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد طبعة 1989 م.
129 - أوليات الفاروق للقرشى، د. غالب عبد الكافى القرشى، المكتب الإسلامى بيروت، مكتبة الحرمين الرياض، الطبعة الأولى 1403هـ- 1983م .......(1/458)
130 - الخلفاء الراشدون للخالدى، دار القلم دمشق.
131 - الخلافة والخلفاء الراشدون بين الشورىَ والديمقراطية، سالم البهنساوى، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة الثانية 1418هـ- 1997م.
132 - أشهر مشاهير الإسلام فى الحرب والسياسة، رفيق العظم، دار الرائد العربى، بيروت، لبنان، الطبعة السادسة 1402هـ- 1983م.
133 - مرويات أبى مخنف فى تاريخ الطبرى، يحيى إبراهيم اليحيى، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى 1410هـ.
134 - المدينة النبوية، فجر الإسلام والعصر الراشدى، محمد حسن شراب، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ-1994م.
135 - نظام الحكم فى الشريعة والتاريخ الإسلامى، ظافر القاسمى، دار النفائس - بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ- 1987م.
136 - عثمان بن عفان، لصادق عرجون، الدار السعودية الطبعة الثالثة 1410هـ-1990م.
137 - شهيد الدار، عثمان بن عفان، أحمد الخروف، دار البيارق، دار عمار الطبعة الأولى 1418 هـ- 1997 م
138 - التمهيد والبيان فى مقتل الشهيد عثمان، محمد بن يحى بن أبى بكر المالقى الأندلسى د. محمود يوسف زايد، دار الدوحة، الطبعة الأولى 1405هـ- 1985م.
139 - مجلة البحوث الإسلامية، العدد (10).
140 - أثر التشيع على الروايات التاريخية، د. عبد العزيز نور ولى، دار الخضرى، المدينة الطبعة الأولى 1417 هـ- 1996 م.
141 - عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ضمن الرسائل المنبرية، للبهيج إسماعيل الصابونى، نشر محمد أمين رمح 1970م .............(1/459)
142 - رياض النفوس، للمالكى، أبو بكر عبد الله بن محمد المالكى، دار الغرب الإسلامى، بيروت، لبنان، طبعة عام 1403هـ- 1983م.
143 - الجهاد والقتال فى السياسة الشرعية، محمد خير هيكل، الطبعة الأولى 1414هـ- 1993م.
144 - ليبيا من الفتح العربى حتى انتقال الخلافة الفاطمية للدكتور صالح مصطفى مفتاح المزينى، منشورات جامعة قاريونس، بنغازى، الطبعة الثالثة 1994م.
145 - الشرف والتسامى بحركة الفتح الإسلامى، د. على محمد الصلابى، مكتبة الصحابة، الشارقة، الطبعة الأولى 1422 هـ- 2001 م.
146 - فتنة مقتل عثمان د. محمد عبد الله الغبان، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 1419هـ- 1999م.
147 - تحقيق مواقف الصحابة فى الفتنة من روايات الطبرى، والمحدثين، تأليف د. محمد أمحزون، دار طيبة، مكتبة الكوثر، الرياض الطبعة الأولى 1415هـ.
148 - عثان بن عفان الخليفة الشاكر الصابر، عبد الستار الشيخ، الطبعة الأولى 1412هـ-1991م.
149 - تاريخ المدينة، أبو زيد عمر بن شبة النميرى البصرى، تحقيق: محمود شلتوت، نشر السيد حبيب محمود أحمد، المدينة 1393م.
150 - منهاج القاصدين فى فضل الخلفاء الراشدين، مخطوط فى مكتبة عارف حكمت بالمدينة رقم 253.
151 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبى الحسن الأشعرى، مكتبة النهضة المصرية.
152 - لوامع الأنوار البهية للسفارينى، المكتب الإسلامى.
153 - الوصية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبع دار المطبعة السلفية ومكتبتها، نشر قصى محب الدين الخطيب، الطبعة التالثة 1401هـ.(1/460)
154 - الثقات لابن حبان، محمد بن حبان، مكتبة العلم، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1393م.
155 - استشهاد عثمان ووقعة الجمل فى مرويات سيف بن عمر فى تاريخ الطبرى دراسة نقدية، د. خالد بن محمد الغيث، دار الأندلس الخضراء جدّة.
156 - أحكام القرآن لابن العربى، دار المعرفة، بيروت لبنان.
157 - شرح الطحاوية، للعلامة محمد بن على بن محمد الأذرعى، المكتب الإسلامى، بيروت.
158 - التاريخ الصغير للبخارى.
159 - عبد الله بن سبأ وأثره فى أحداث الفتنة فى صدر الإسلام، سلمان بن حمد العودة، دار طيبة، الرياض، الطبعة الثالثة 1412 هـ.
160 - العواصم من القواصم، القاضى أبو بكر بن العربى، تحقيق محب الدين الخطيب، دار الثقافة، قطر الدوحة - الطبعة التانية 1989 م.
161 - تثبيت دلائل النبوة للهمدانى.
162 - الفصل فى الملل والنحل، لأبى محمد بن حزم الظاهرى، مكتبة الخانجى، مصر.
163 - دول الإسلام، للذهبى.
164 - الوافى بالوفيات للصدفى.
165 - مروج الذهب ومعادن الجوهر لأبى الحسن على بن الحسين بن على المسعودى، دار الكتاب اللبنانى، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1402هـ.
166 - سنن سعيد بن منصور، دار الصميعى، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ.
167 - كتاب أهل البغى من الحاوى الكبير للماوردى.
168 - المنتقى من منهاج الاعتدال، للحافظ أبى عبد الله محمد بن عثمان الذهبى، دار البيان، وحققه وعلق على حواشيه محب الدين الخطيب.(1/461)
169 - الفتن لنعيم بن حماد.
170 - أحداث وأحاديث فتنة الهرج، د. عبد العزيز دخان، مكتبة الصحابة، الطبعة الأولى 1424 هـ- 2003م.
171 - تهذيب ابن عساكر، دار إحياء التراث العربى، بيروت، الطبعة الثالثة 1407 هـ-1987م.
172 - عقيدة الإمام ابن قتيبة، على العليانى، مكتبة الصديق، الطبعة الأولى 1412 هـ- 1991 م السعودية.
173 - الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة، مؤسسة الحلبى، القاهرة.
174 - الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة لأبى العباس أحمد ابن محمد بن على بن حجر الهيثمى، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة
الأولى 1417هـ- 1997م.
175 - تفسير القرطبى، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى، دار إحياء التراث العربى، بيروت لبنان.
176 - وقعة صفين لابن مزاحم، تحقيق عبد السلام هارون -الطبعة الثانية- القاهرة 1382 هـ.
177 - تنزيه خال المؤمنين معاوية بن أبى سفيان من الظلم والفسق فى مطالبته بدم أمير المؤمنين عثمان لأبى يعلى محمد الفراء، تحقيق دار النبلاء، عمان، الطبعة الأولى 1422هـ.
178 - دراسة فى تاريخ الخلفاء الأمويين، د. محمد ضيف الله بطاينة، دار الفرقان، الأردن عمان.
179 - الأخبار الطوال، لأبى حنيفة أحمد بن داود، تحقيق عبد المنعم عامر، مراجعة د. جمال الدين الشيال، مكتبة المتنبى بغداد.
180 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده، دار البلاغة لبنان.(1/462)
181 - معاوية بن أبى سفيان، صحابى كبير، وملك مجاهد، منير محمد الغضبان، دار القلم دمشق، الطبعة الثالثة 1417هـ- 1996م.
182 - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى 1398هـ.
183 - الأساس فى السنة، سعيد حوى، دار السلام، القاهرة.
184 - الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة لأبى بكر أحمد بن الحسين البيهقى، الناشر، حديث أكاديمى، نشاط أباد فيصل أباد.
185 - المحن لابن أبى العرب.
186 - بذل المجهود فى إثبات مشابهة الرافضة لليهود، عبد الله الجميلى، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة الطبعة الثانية، 1414هـ- 1994م.
187 - الإمامة والرد على الرافضة، تحقيق على ناصر فقيهى.
188 - تطور الفكر السياسى الشيعى من الشورى إلى ولاية الفقيه، أحمد الكاتب.
189 - الحكومة الإسلامية للخمينى.
190 - مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى.
191 - الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى.
192 - المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم، لأبى الفرج عبد الرحمن بن على الجوزى، دار الكتب العلمية، بيروت.
193 - كتب حذر منها العلماء، لأبى عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان دار الهيعى السعودية، الطبعة الأولى 1415هـ- 1995م.
194 - السيف اليمانى في نحر الأصفهانى، وليد الأعظمى، الطبعة الثانية، 1410هـ- 1989م، دار الوفاء، مصر.
195 - معجم الأدباء، ياقوت الحموى، دار صادر.(1/463)
196 - الأدب فى الإسلام، نايف معروف، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1410هـ-1990م.
197 - وفيات الأعيان وأنباء وأبناء الزمان لابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد، تحقيق إحسان عباس، دار صادر بيروت.
198 - منهج الرسول فى غرس الروح الجهادية فى نفوس أصحابه، السيد محمد نوح، الطبعة الأولى 1411 هـ- 1990 م جامعة الإمارات العربية المتحدة.
199 - التفسير المنير، د. وهبة الزحيلى، دار الفكر المعاصر بيروت، دار الفكر دمشق 1411هـ- 1991 الطبعة الأولى.
200 - الإيمان أولاً فكيف نبدأ به، مجدى الهلالى، دار التوزيع والنشر الإسلامية مصر.
201 - عيون الأخبار، لأبى محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1406هـ- 1986م.
202 - تهذيب مدارج السالكين، لابن القيم، هذبه عبد المنعم صالح العلى العزى مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1409هـ-1989م.
203 - الرقائق، لمحمد أحمد الراشد، دار البشير مصر.
204 - صحيح الجامع الصغير، محمد ناصر الدين الألبانى، الطبعة الثالثة، 1408هـ- 1988م، المكتب الإسلامى بيروت - لبنان.
205 - السلسلة الصحيحة، للألبانى، المكتبة الإسلامية.
206 - رهبان الليل، د. سيد بن حسين العفانى، مكتبة معاذ بن جبل، مصر.
207 - ماذئبان جائعان لابن رجب، تحقيق محمد صبحى حلاق، مؤسسة الريان، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م.
208 - جواهر الأدب للهاشمى، السيد أحمد الهاشمى، مؤسسة المعارف، بيروت، لبنان.(1/464)
209 - صحيح الترغيب والترهيب، للمنذرى.
210 - الأخلاق بين الطبع والتطبع، لأبى عبد الله فيصل بن عبده الحاشدى، دار الإيمان- الإسكندرية.
211 - صلاح الأمة فى علو الهمة، د. سيد بن حسين العفانى، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1417هـ- 1997م.
212 - جهاد النفس، على بن محمد الدهامى، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى 1424 هـ- 2003م.
213 - جامع العلوم والحكم، لابن رجب.
214 - الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، محمد رضا، المكتبة العصرية، لبنان، الطبعة الأولى 1422 هـ- 2001م.
215 - علموا أولادكم حب آل بيت النبى، محمد عبده يمانى، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة الطبعة الثانية 1418هـ- 1998م.
216 - منهج الإسلام فى تزكية النفس، د. محمد خير فاطمة، دار الخير، الطبعة الأولى 1424هـ- 2003م.
217 - مدارج السالكين، لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقى، دار الكتاب العربى، بيروت، 1392 هـ.
218 - أمراض النفس، دراسة تربوية لأمراض النفوس ومعوقات تزكيتها وعلاج ذلك، د. أنس أحمد كرزون، دار ابن حزم، الطبعة الثالثة 1424 هـ.
219 - الجواب الكافى، لابن القيم.
220 - جامع بيان العلم وفضله لأبى عمر يوسف بن عبد البر، الطبعة الرابعة، 1419هـ- 1998م.
221 - المحدث الفاصل للرامهرمزى.
222 - قواعد فى التعامل مع العلماء، عبد الرحمن بن معلا اللويحق، دار الورّاق، الطبعة الأولى 1415 هـ- 1994 م.(1/465)
223 - الداء والدواء لابن القيم.
224 - التعريفات للجرجانى.
225 - سنن النسائي، أحمد بن شعيب بن على النسائى، دار الفكر بيروت.
226 - - الزواجر لابن حجر الهيثمى.
227 - الشهب اللامعة فى السياسة النافعة لعبد الله بن يوسف بن رضوان المالقى، دار المدار الإسلامى، لبنان، الطبعة الأولى.
228 - أحكام القرآن، أحمد بن على الرازى المعروف بالجصاص، دار الكتاب العربى، بيروت، لبنان.
229 - المحور الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، أبى محمد عبد الحق ابن غالب الأندلسى، تحقيق المجلس العلمى بفاس، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالمغرب.
230 - التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، دار الكتب الشرقية تونس.
231 - القوائد لابن القيم، محمد بن أبى بكر بن قيم الجوزية، دار الريان للتراث، القاهرة مصر، الطبعة الأولى 1407هـ- 1987م.
232 - تفسير ابن كثير، دار الفكر، ودار القلم، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية.
233 - تفسير السعدى .. تيسير الكريم الرحمن فى تفسير كلام المنان لعبد الرحمن ناصر السعدى، المؤسسة السعدية بالرياض.
234 - معنى الزهد والمقالات وصفة الزاهدين للإمام أبى سعيد أحمد بن محمد، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1424هـ- 2003م.
235 - محاسن التأويل للقاسمى، محمد جمال الدين القاسمى دار الفكر، بيروت.
236 - نهاية الأرب فى فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى، مطبعة كوتسا توماسى بالقاهرة.(1/466)
237 - صور وعبر من الجهاد النبوى فى المدينة، د. محمد فوزى فيض الله، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ- 1996م.
238 - قيادة الرسول السياسية والعسكرية، أحمد راتب عرموش دار النفائس، الطبعة الأولى 141هـ- 1981م.
239 - ولاة مصر، أبو يوسف محمد الكندى، تحقيق د. حسين نصار، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.
240 - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، جمال الدين أبو المحاسين يوسف ابن تغرى بردى، وزارة الثقافة والإرشاد القومى، القاهرة بدون تاريخ.
241 - المجروحون من المحدثين، أبو حاتم محمد بن حبّان بن أحمد، تحقيق: إبراهيم محمود زايد، حلب، دار الوعى.
242 - تذكرة الحفاظ، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى، بيروت، دار إحياء التراث.
243 - الكامل فى ضعفاء الرجال؛ للإمام الحافظ أبى أحمد عبد الله بن عدى الجرجانى، دار الفكر، بيروت لبنان، الطبعة الثانية، 1405هـ.
244 - المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سفيان الفسوى، تحقيق أكرم ضياء العمرى، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1401هـ.
245 - فقه السيرة، منير الغضبان، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث مكة المكرمة.
246 - الصراع مع اليهود لأبى فارس، دار الفرقان، الطبعة الأولى 1411 هـ- 1990م.
247 - مرويات خلافة معاوية فى تاريخ الطبرى، خالد محمد الغيث، دار الأندلس الخضراء السعودية، الطبعة الأولى 1420هـ 2000م.
248 - مجموعة الفتاوى، تقى الدين أحمد بن تيمية الحرّانى، دار الوفاء، الطبعة الأولى 1417هـ- 1997م.(1/467)
249 - السنة لأبى بكر الخلال، تحقيق عطية الزهراني، دار الراية، الطبعة الأولى 1410 هـ.
250 - المطالب العلية بزوائد المسانيد الثمانية، المطبعة العصرية، 1390 هـ- 1970 م.
251 - أخلاق النبى -صلى الله عليه وسلم- فى القرآن والسنة، د. أحمد بن عبد العزيز قاسم الحداد، دار الغرب الإسلامى، لبنان، الطبعة الثانية 1999 م.
252 - جامع الأصول من أحاديث الرسول، للإمام مبارك بن الجزرى، تحقيق حامد الفقى، إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض 1370 هـ.
253 - مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، محمد سعد اليوبى، دار الهجرة.
254 - اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، د. عبد الرحمن بن معمر السنوسى، دار بن الجوزى، الطبعة الأولى رجب 1424 هـ السعودية.
255 - أسباب النزول للواحدى، على بن أحمد الواحدى، دار الفكر، بيروت، لبنان.
256 - رسالة الألفة بين المسلمين، لابن تيمية.
257 - الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية عبد العزيز بن أحمد بن حامد، غرّاس للتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى.
258 - نظام الخلافة فى الفكر الإسلامى، مصطفى حلمى، دار الدعوة الإسكندرية.
259 - الشيخان أبو بكر وعمر رواية البلاذرى فى أنساب الأشراف، تحقيق د. إحسان صدقى العمد، المؤتمن للنشر، السعودية، الطبعة الثالثة 1418 هـ 1997م.(1/468)
260 - الدولة والسيادة فى الفقه الإسلامي، فتحى عبد الكريم، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1404 هـ- 1984م.
261 - الذاكرة التاريخية للأمة، د. قاسم محمد.
262 - الدور السياسى للصفوة فى صدر الإسلام، السيد عمر، الطبعة الأولى 1417هـ- 1996م.
263 - أثر العلماء فى الحياة السياسية فى الدولة الأموية د. عبد الله عبد الرحمن الخرعان مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1424 هـ.
264 - دراسات فى الأهواء والفرق والبدع، وموقف السلف منها د. ناصر بن عبد الكريم العقل، مركز دار أشبيليا، الطبعة الأولى 1418هـ- 1997م.
265 - وجوب التعاون بين المسلمين، لعبد الرحمن السعدى، دار المعارف، الرياض، طبعة 1402هـ.
266 - سنن الدارمى، لأبى عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمى، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
267 - النظريات السياسية محمد ضياء الريس.
268 - قضاء الحوائج لأبى بكر بن أبى الدنيا، دار بن حزم، تحقيق محمد خير رمضان يوسف.
269 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوى، دار الفكر للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1391هـ- 1972م.
270 - مآثر الأنافة فى معالم الخلافة للقلقشندى، تحقيق عبد الستار أحمد الفرج، عالم الكتب، بيروت.
271 - العبودية لابن تيمية.
272 - المدينة العصر الأموى، محمد محمد شراب، مؤسسة علوم القرآن دمشق.(1/469)
273 - مواقف المعارضة فى خلافة يزيد، محمد الشيبانى، دار البيارق، عمان، الأردن.
274 - تهذيب الكمال فى أسماء الرجال، للمزى، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة بيروت.
275 - أثر أهل الكتاب فى الفتن والحروب الأهلية فى القرن الأول الهجرى، الطبعة الأولى 1422 هـ- 2001 م.
276 - الوسيطة فى القرآن الكريم، على الصَّلابى، دار الصحابة، الإمارات، الطبعة الأولى 1422 هـ- 2001 م.
277 - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، عبد الرحمن السعدى.
278 - المرتضى سيرة أمير المؤمنين أبى الحسن على بن أبى طالب لأبى الحسن الندوى، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية 1419هـ- 1998م.
279 - تاريخ العراق فى ظل الحكم الأموى د. على حسن الخربوطلى، دار المعارف بمصر.
ْ28 - المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، لأبى العباس أحمد عمر القرطبى، تحقيق: محى الدين مستو، يوسف بدوى، دار ابن كثير، الطبعة الأولى 1417هـ.(1/470)
المؤلف فى سطور
علي محمد محمد الصلابي
- ولد فى مدينة بنغازى بليبيا عام 1383هـ 1963م
- حصل على درجة الإِجازة العالية (الليسانس) من كلية الدعوة وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز وكان الأول على دفعته عام 1413/ 1414هـ الموافق 1992/ 1993 م.
- نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان الإسلامية كلية أصول الدين قسم التفسير وعلوم القرآن عام 1417 هـ/ 1996م.
- نال درجة الدكتوراه فى الدراسات الإِسلامية بمؤلفة "فقة التمكين فى القرآن الكريم" من جامعة أم درمان الإسلامية.
- صدرت له عدة كتب:
1 - من عقيدة المسلمين فى صفات رب العالمين (دار البيارق).
2 - الوسطية فى القرآن الكريم (دار البيارق - دار النفاش).
سلسلة (صفحات من التاريخ الإِسلامى فى الشمال الأفريقى).
3 - صفحات من تاريخ ليبيا الإسلامى والشمال الأفريقى (دار البيارق).
4 - عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج (دار البيارق).
5 - الدولة العبيدية (الفاطمية) الرافضية (دار البيارق).
6 - فقه التمكين عند دولة المرابطين (دار التوزيع والنشر الإِسلامية - دار البيارق).
7 - دولة الموحدين (دار التوزيع والنشر الإسلامية - دار البيارق).
8 - الدولة العثمانية عوامل النهوض وسباب السقوط (دار التوزيع والنشر الإسلامية).
9 - الحركة السنوسية فى ليبيا (دار البيارق).
(أ) الإِمام محمد بن على السنوسى ومنهجه في التأسيس.
(ب) محمد المهدى السنوسى، وأحمد الشريف.
(ج) إِدريس السنوسى، وعمر المختار.
10 - فقه التمكين فى القرآن الكريم (دار الوفاء، دار البيارق).
11 - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دار التوزيع والنشر الإِسلامية).
12 - الانشراح ورفع الضيق فى سيرة أبو بكر الصديق (دار التوزيع والنشر الإِسلامية).
13 - فصل الخطاب فى سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (دار التوزيع والنشر الإسلامية).
14 - تيسير الكريم المنان فى سيرة عثمان بن عفان (دار التوزيع والنشر الإِسلامية).
15 - أسمي المطالب فى سيرة أمير المؤمنين على بن أبى طالب (دار التوزيع والنشر الإسلامية).(1/479)