ـ[معاوية بن أبي سفيان - شخصيته وعصره]ـ
المؤلف: عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي
الناشر: دار الأندلس الجديدة للنشر والتوزيع، مصر
الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون)) (آل عمران، الآية: 102).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء، الآية: 1).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) (الأحزاب، الآيتان: 70 ـ 71).
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى، أما بعد:
هذا الكتاب جزء من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار وقد سميته معاوية بن أبي سفيان، شخصيته وعصره فيتحدث الكتاب عن اسمه ونسبه وكنيته وأسرته وعن إسلام أبي سفيان والد معاوية رضي الله عنه، وعن هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية رضي الله عنهما، وعن أخوان وأخوات معاوية ويتحدث عن زوجات معاوية وأولاده وعن إسلام معاوية رضي الله عنه وشيء من فضائله، وعن رواية معاوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الأحاديث الباطلة التي لا تصح في شأن معاوية مدحاً وذماً، ويتكلم الكتاب عن دور بني أميه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلافة الراشدة، ويشير إلى متى(1/3)
بدأ نجم معاوية في الظهور وعن ولايته على دمشق وبعلبك والبلقان في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلاقته بعمر رضي الله عنهما، ويبين الكتاب جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام، وعن سنّ نظام
الصوائف والشواتي في عهد عمر، وعن تكوين أسطول إسلامي في البحر، وعن أعمال معاوية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فيوضح فتوحاته في عهده، وإصراره في الطلب من عثمان السماح له بالغزو البحري، وعن غزوه لقبرص واستسلام أهلها وطلب الصلح ثم نقض القبارصة للصلح ثم فتحها، ويتعرض الكتاب لحقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية وموقف عثمان رضي الله عنهم منه ويرد الكتاب عن الشبهات التي ألصقت بعثمان رضي الله عنه كاتهامه بإعطاء أقاربه من بيت المال، وتعيينه لأقاربه في مناصب الدولة على حساب المسلمين، ويتطرق الكتاب لأسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه كالرخاء وأثره في المجتمع وطبيعة التحول
الاجتماعي في عهده وظهور جيل جديد، واستعداد المجتمع لقبول الشائعات، ومجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتوقف الفتوحات بسبب موانع طبيعية أو بشرية، والمفهوم الخاطيء للورع، وظهور جيل جديد من الطامحين، ووجود طائفة موتورة من الحاقدين، والتدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان رضي الله عنه واستخدام الأساليب والوسائل المهيِّجة للنَّاس، ودور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة، وموقف معاوية بن أبي سفيان في الفتنة، ويتحدث عن مشورة عثمان لولاة الأمصار ورأي معاوية في ذلك، وعن مقتل عثمان وموقف الصحابة منه، وعن معاوية في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ويتطرق الكتاب إلى اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذ بها القصاص من قتلة عثمان، وإلى معركة صفين وإلى تسلسل الأحداث، ابتداءً من إرسال أم حبيبة أم المؤمنين بنت أبي سفيان لنعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام، ودوافع معاوية رضي الله عنه في عدم بيعه علي رضي الله عنه ورده على أمير المؤمنين علي، وعن تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام، وإرساله جرير بن عبد الله إلى معاوية بعد معركة الجمل لدعوته للبيعة، ومسيرة أمير المؤمنين علي إلى الشام، وخروج معاوية إلى صفين، وبداية المناوشات بين(1/4)
الطرفين، والموادعة بينهما ومحاولات الصلح ثم نشوب القتال ثم الدعوة إلى التحكيم ويتكلم الكتاب عن مقتل عمّار بن ياسر رضي الله وأثره على المسلمين، وعن المعاملة الكريمة أثناء الحرب المواجهة، ومعاملة الأسرى عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وعن عدد القتلى، وعن تفقد أمير المؤمنين علي للقتلى وترحمه عليهم، وعن موقف لمعاوية مع ملك الروم في تلك الأحداث، وعن قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين، وعن إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه أن تستمر المعركة وعن نهي أمير المؤمنين علي شتم معاوية ولعن أهل الشام، وعن التحكيم، وعن نص وثيقة
التحكيم وعن قصة التحكيم المشهورة وبيان بطلانها، وعن حقيقة قرار التحكيم، ومكان انعقاد المؤتمر، وأشار الكتاب إلى إمكانية الاستفادة من حادثة التحكيم في فض المنازعات بين الدول الإسلامية هذا وقد بينت موقف أهل السنة والجماعة من تلك الحروب، وتكلمت عن تغيير الموازين لصالح معاوية بعد معركة صفين، وعن المهادنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وعن استشهاد
أمير المؤمنين علي واستقبال معاوية خبر مقتله، ثم تحدثت عن المشروع الإصلاحي الكبير في عهد الحسن بن علي والذي توّج بوحدة الأمة وذلك بتنازل الحسن بالخلافة لمعاوية رضي الله عنهما وأشرت إلى مراحل الصلح وشروطه وأسبابه ومعوقاته، ونتائجه، كما وضحت الفقه الكبير في مقاصد الشريعة وفقه المصالح والمفاسد وفقه الخلاف الذي تميز به الحسن بن علي والذي بنى عليه مشروعه الإصلاحي العظيم والذي ترتب عليه دخول الأمة الإسلامية في مراحل جديدة تمّ فيها بيعة معاوية رضي الله عنه من كافة الصحابة الأحياء وأبناء الأمة ووضحت صفات معاوية رضي عنه والتي من أهمها، العلم والفقه، والحلم والعفو، والدهاء والحيلة، وعقليته الفذة وقدرته على الاستيعاب، وتواضعه وورعه، وبكاؤه من خشيت الله، ونقلت ثناء العلماء على معاوية، وأشرت إلى دخول دولة بني أمية في خير القرون والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (1)،وتحدثت عن عاصمة الدولة الأموية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فضائل أهل الشام، وعن أهل الحل والعقد في
_________
(1) البخاري رقم 6695 ..(1/5)
عهد معاوية رضي الله عنه، وعن الشورى، وحرية التعبير وعن سياسته الداخلية، من الإحسان إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة، وأبنائهم، وحسن علاقته مع الحسن والحسين وابن الزبير وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم وبينت بيان بطلان تعميم معاوية سب أمير المؤمنين علي على منابر الدولة، الأموية؟ وزعم بعض المؤرخين بأن معاوية سمّ الحسن بن علي، فأثبتت بالحجج العلمية والبراهين الساطعة بطلان ذلك أيضاً، وتعرضت لموقف معاوية من قتلة عثمان بعد ما أصبح أمير المؤمنين، وكذلك مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه، وموقف عائشة أم المؤمنين من مقتله كما أوضحت حرص معاوية على مباشرة الأمور بنفسه وتوطين الأمن في خلافته، فتحدثت عن مجلسه في يومه، وعن الدواوين المركزية التابعة له، كديوان الرسائل، وديوان الخاتم، وديوان البريد وعن نظام الحجابة، والحرس، والشرطة، وعن حسن اختياره للرجال والأعوان وعن استخدامه للمال في تأكيد ولاء الأعوان وتأليف القلوب وإتباعه سياسة الشدة واللين، وسياسة المنفعة المتبادلة بين بني أمية ورعيتهم، واتخاذه سياسة إعلامية للإشادة به وبخلافته وجعل الناس يميلون إليهم، وعن اهتمامه بجهاز الاستخبارات، وبناء الجيش الإسلامي وتطويره وعن فقهه الكبير في سياسة الموازنات بين القبائل، والعشائر، وأعيان المجتمع وعن سياسته مع الأسرة الأموية، وتكلمت عن حياته في المجتمع وعن اهتماماته العلمية والتاريخية والشعرية واللغوية والعلوم التجريبية، وأفردت مباحثاً في علاقته بالخوارج، ووسائله في تحجيم دورهم وإضعافهم، وبينت النظام المالي في عهده، ومصادر دخل الدولة، كالزكاة، والجزية، والخراج، والعشور، والصوافي، والغنائم، وعن النفقات
العامة، كالنفقات العسكرية، والإدارية، والاجتماعية واهتمامه بالزراعة والتجارة الداخلية والخارجية،
والحرف والصناعات، وأثرت قضية الشبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية وناقشتها بعلم وأنصاف، كالتفرقة في العطاء وكذبة أعطاء مصر طعمه لعمرو بن العاص وكالتوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار، ومظاهر النزف عند الأمويين، وأفردت مبحثاً عن القضاء في عهد معاوية، والدولة الأموية، وصلته بالعهد الراشدي وتخلي الخلفاء عن ممارسة القضاء وفصل(1/6)
السلطات، ومرتبات القضاة وتسجيل الأحكام والأشهاد عليها، وأعوان القضاة، كالمنادي والحاجب، والترجمان أو المترجم، والمراقبة والمتابعة وعن مصادر الأحكام القضائية في العهد الأموي وعن اختصاص القضاة وذكرت أسماء أشهر القضاة في عهد معاوية كما أشرت إلى ميزات القضاء في عهد معاوية والأموي عموماً وإلى خطاب عمر بن الخطاب إلى معاوية رضي الله عنهما في القضاء، وتكلمت عن مؤسسة الشرطة في عهد معاوية وواجباتها، كحماية الخليفة وولاة الأمصار ضد مناوئيهم في الداخل، ومعاقبة المذنبين والخارجين عن القانون، وتنفيذ العقوبات الشرعية، وعن قوات ومؤسسات أخرى وعلاقتها بالشرطة كالحرس والعرفاء، وصاحب الاستخراج أو العذاب، وجهاز الحسبة، ونظام المراقبة، ومؤسسة الدرك، وتحدثت عن مؤسسة الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه وأهم الأقاليم التابعة لدولته وأسماء أشهر ولاته وأهم أعمالهم في تلك الأقاليم، وعند ما تحدثت عن المدينة النبوية ترجمت لشخصية أبي هريرة رضي الله عنه حيث توفي بها عام 58 هـ أو 59 هـ وقد عاش في عهد معاوية ما يقرب من ثمانية عشر سنة وقد تعرض هذا الصحابي الجليل لهجمة ظالمة من قبل أعداء الصحابة في القديم والحديث وتلقف تلك الاتهامات الباطلة مجموعة من المستشرقين فرأيت لازماً عليّ أن أدافع عن هذا الصحابي الجليل الذي يعتبر من أكبر رواة السنة النبوية الشريفة، فعرفت به وبشيء من حياته، كعبادته وعفافه وحلمه وعفوه، واهتمامه بالعلم ورددت على الشبهات التي أثيرت حوله والتي
هدفها التشكيك في ما وصل إلينا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بالطعن في هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وكان لسان حالي في مجادلة أولئك الكذابين قول الشاعر:
وإذا اضطررت على الجدال ولم تجد ... لك مهربا وتلاقت الصَّفان
فاجعل كتاب الله درعاً سابغاً ... والشرع سيفك وابد في الميدان
والسُّنةُ البيضاء دونك جنة ... واركب جواد العزم في الجولان
واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى ... فالصبر أوثق عدة الإنسان(1/7)
واطعن برمح الحق كل معاند ... لله درُّ الفارس الطعان
واحمل بسيف الصِّدق حملة ... مخلص متجرداً لله غير جبان
هذا وقد وصفت حركة الفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه وقدمت بين يدي حركة الفتوحات
مقدمه تناقش الشبهات التي ألصقت كذباً وزوراً وبهتاناً بحركة الفتوحات إن معاوية رضي الله عنه حمى وعزّز منجزات الموجة الأولى في حركة الفتح التي قادها وخطط لها الخلفاء الراشدون، فالموجة الثانية لحركة الفتوح هي التي بدأت في عهد معاوية نفسه واستمرت فيما بعد لكي تبلغ أقصى أتساعها في عهد الوليد بن عبد الملك، لقد وصفت ما قام به معاوية من حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية واهتمامه بفتح القسطنطينية، وتخطيطه الاستراتيجي للاستيلاء عليها، كاهتمامه بدور صناعة السفن في مصر والشام وتقوية الثغور البحرية بهما، واستيلاؤه على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط، وتحصينه أطراف الشام الشمالية، وقد قام بحصار القسطنطينية، وقد توفي أبو أيوب الأنصاري في حصار القسطنطينية، وقد ترك أبو أيوب رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى ما يمكن من أرض العدو، وهذه صورة رائعة تدل على تعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم وأراد أن يتوغل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه ما حقق في حياته فتمنى مزيداً عليه بعد مماته، وهذا مالا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق.
هذا وقد استطاع معاوية رضي الله عنه أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة براً وبحراً وقد أرهق البيزنطيين وأذاقهم ألوان الضنك والخوف وأنزل بهم خسائر فادحة بالرغم من كل ذلك لم يستطع اقتحام القسطنطينية بسبب عوامل عديدة سيراها القاريء في الكتاب بإذن الله تعالى، وقد دخل معاوية في علاقات سلمية مع الدولة البيزنطية وتم تبادل المراسلات والخبرات، والسفراء فيما بين الدولتين الأموية والبيزنطية وواصل معاوية فتوحاته في الشمال الإفريقي، وانطلقت حملة معاوية بن حديج رضي الله عنه في عهده، وبرز اسم عقبة بن نافع في تلك الفتوحات وقام ببناء مدينة القيروان بتونس اليوم(1/8)
وكان ذلك في عهد معاوية وقد أصبحت القيروان مركز الإشعاع الحضاري الإسلامي بالمغرب وعاصمتها العلمية وسيمضي القاريء مع الفتوحات في الشمال الإفريقي حتى استشهاد عقبة رحمه الله تعالى وتحدثت في فتوحات معاوية في الجناح الشرقي للدولة الأموية في خراسان وسجستان وما وراء النهر، وعن فتوحات السند في عهده ولخصت أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات والتي من أهمها، أثر الآيات والأحاديث النبوية في نفوس المجاهدين، وسنن الله في الفتوحات، كسنة الله في الاتحاد والاجتماع، وسنة الأخذ بالأسباب، وسنة التدافع، وسنة الله في الظلم والظالمين، وسنة الله في المترفين، وسنة الله في الطغيان والطغاة، وسنة التدرج، وسنة تغيير النفوس، والتخطيط الاستراتيجي للفتوحات عند معاوية، وسياسته تجاه الروم، وجبهة الشمال الإفريقي، وجبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر، وإدارته للشورى في حركة الفتوحات، ومركزية القيادة والإمداد في إدارته، ونظام الألوية والرايات واهتمامه بالعيون والبريد، والحدود البرية للدولة، واهتمامه بالأسطول والحدود البحرية، وبديوان الجند
والعطاء، والأثر العلمي والاقتصادي والاجتماعي في عهده، وتحدثت عن بعض كرامات المجاهدين في عهده.
إن من فضائل الدولة الأموية في عهد معاوية وعبد الملك وبنيه الوليد وسليمان الفتوحات الواسعة التي تمت على أيديهم والتي امتدت ديار الإسلام نتيجة ذلك بين الصين في الشرق وبلاد الأندلس وجنوبي فرنسا في الغرب وكان الخلفاء يرسلون أبناءهم إلى الجهاد ويشهدون القتال وكان الصحابة وكبار التابعين من ضمن تلك الجيوش، فحركة الفتوحات أشرفت عليها الدولة وتفاعل معها المجتمع الإسلامي بكافة ألوانه من العلماء والفقهاء والتجار والزهاد والعباد وتحركت تلك الجيوش في المشارق والمغارب، كان الفاتحون لتلك الشعوب المترامية الأطراف قد جاؤوها بالعدل والإحسان ومطالب الروح ومطالب البدن، وجاءوا إليهم بدين الإسلام الذي يقرّر الإنسانية بمعناها الصحيح في هذه الأرض لذلك كان الإسلام سريع المدخل إلى نفوسهم، لطيف التخلل في الأفكار، قوي التأثير على الألباب(1/9)
والعقول وجاء الفاتحون لتلك الشعوب بالحقائق التي سعد بها أصحاب محمد وأسعدوا بها تلك الأمم قال الشاعر:
الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا
طلعت به شمس الهداية للورى ... وأبى لها وصف الكمال أفولا
والحق أبلج في شريعته التي ... جمعت فروعاً للهدى وأصولا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئوا القنديلا
لقد كانت الفتوحات الكبرى في عهد معاوية والدولة الأموية دليلاً ملموساً على حيوية الأمة وتفاعلها مع دين الله وحرصها على هداية الشعوب.
هذا وقد تكلمت عن فكرة ولاية العهد والخطوات التي اتبعها معاوية لبيعة يزيد، من مشاورات، وحملات إعلامية وقبول أهل الشام لبيعة يزيد، وبيعة الوفود، وطلب البيعة من أهل المدينة واعتراض عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم عن تلك البيعة وعن أسباب ترشيح معاوية لابنه يزيد، كالحفاظ على وحدة الأمة، وقوة العصبية القبلية، ومحبة معاوية لابنه وقناعته به، وعن الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد، وعن المآخذ على فكرة ولاية العهد في عهد معاوية وعن الأيام الأخيرة من حياته وعن دعائه وهو في سكرات الموات وقوله: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وتجاوز بحلمك عن جهل ما لم يَرْجُ غيرك فإنك واسع المغفرة ليس لذي خطيئة مهرب إلا إليك ثم مات
والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان
حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني على إكمال هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه، فإن دعوة الأخ لأخيه في ظهر الغيب مستجابة إن شاء الله تعالى. واختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي(1/10)
عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)) (النمل، الآية: 19).
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصَّلاَّبيَّ
الأخوة الكرام، يسر المؤلف أن تصله ملاحظاتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبه من خلال دور النشر، ويطلب من إخوانه الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص والصواب ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا
عنوان المؤلف
E_mail: abumohamed2@maktoob.com(1/11)
الفصل الأول
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من مولده حتى نهاية عهد الخلافة الراشدة
المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته وأسرته
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته ومولده:
هو معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب أمير المؤمنين ملك الإسلام، أبو عبد الرحمن، القرشي الأمويُ المكي (1)، ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، والأول أشهر (2)، وكان رجلاً طويلاً، أبيض، جميلاً، مهيباً، وقد تفرس فيه والده ووالدته منذ الطفولة بمستقبل كبير، فهذا أبو سفيان ينظر إليه وهو يحبو فيقول لوالدته: إن إبني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند: قومه فقط، ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة (3)، وعن أبان بن عثمان قال: كان معاوية يمشي مع أمه هند، فعثر، فقالت: قم لا رفعك الله، وأعرابي ينظر، فقال: لما تقولين له؟ فوالله إني لأظنه سيسود قومه: قالت: لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه (4).
ثانياً: إسلام أبي سفيان والد معاوية رضي الله عنهما:
كان أبو سفيان من عتاة الجاهلية الذين حاربو الإسلام .. وكتب السيرة النبوية وصفت أعماله ضد الدعوة الإسلامية إلا أن الله تعالى أراد الهداية له، فأسلم قبل فتح مكة بقليل، وقد أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وأعلن: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن (5)، وفي هذا الإكرام النبوي الشريف لأبي سفيان لفتة تربوية، ففي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بيت أبي سفيان شيء يشبع ما تطلع إليه نفس أبي سفيان، وفي هذا تثبيت له على الإسلام وتقوية لإيمانه (6)، وكان هذا
الأسلوب النبوي
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 120).
(2) الإصابة (6/ 151).
(3) البداية والنهاية (11/ 398).
(4) سير أعلام النبلاء (3/ 121).
(5) البخاري رقم 4280.
(6) المستفاد من قصص القرآن (2/ 403).(1/13)
الكريم عاملاً على امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان، وبرهن له بأنَّ المكانة التي كانت له عند قريش لن تنتقص شيئاً في الإسلام، إن هو أخلص له، وبذل في سبيله (1)، وهذا منهج نبوي كريم، على العلماء والدّعاة إلى الله أن يستوعبوه، ويعملوا به في تعاملهم مع الناس (2) وقد حسن إسلام أبي سفيان وشاهد المواقع وقدم خدمات جليلة للإسلام، فقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وشارك في حصار الطائف وفقد إحدى عينيه فيها، وفي اليرموك فقد الثانية (3)، وبعد ثقيف أرسله رسول الله مع المغيرة بن شعبة لهدم اللات (4)
ـ صنم ثقيف، وقد كانت اللات معظمة عند قريش كذلك، وكانوا يحلفون بها، وهذا دليل على تغلغل الإيمان في قلب أبي سفيان رضي الله عنه، لقد أسلم أبو سفيان إذن بعد أن ظل حبه للرياسة وممارسته لها حائلاً بينه وبين الإسلام وقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العوامل النفسية المؤثرة على نفس أبي سفيان ونفوس علية القوم من قريش بعد الفتح، فقد جعل من دخل دار أبي سفيان آمناً، كما أعطاه من غنائم حنين مع غيره ممن سموا آنذاك بالمؤلفة قلوبهم (5).
ولم ينس أبو سفيان ما فعله ضد الإسلام أيام الجاهلية، وحرص على مضاعفة جهده في خدمة الإسلام، وقال عنه إبن كثير: من سادات قريش في الجاهلية، وتفرَّد فيهم بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكانت له مواقف شريفة، وآثار محمودة في اليرموك وما قبله وما بعده (6).
وروي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل واحد يقول: يا نصر الله اقترب، والمسلمون يقتتلون هم والروم، فذهبت أنظر فإذا هو أبو سفيان تحت راية إبنه يزيد (7)، وروي أنه كان يوم اليرموك يقف على الكراديس: فيقول الناس: الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهمَّ هذا يوم من أيامك، اللهمَّ أنزل نصرك على عبادك (8)، وقيل مات سنة إحدى أو إثنتين أو ثلاث أو أربع وثلاثين (9)،
_________
(1) قراءة سياسة للسيرة النبوية لمحمَّد رواس صـ 245.
(2) السيرة النبوية للصَّلاَّبَّي (2/ 497).
(3) التبيين في أنساب القرشيين صـ 203.
(4) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 195) ..
(5) الدولة الأموية المفترى عليها صـ 142.
(6) البداية والنهاية (11/ 397).
(7) التبيين في أنساب القرشيين صـ 203.
(8) المصدر نفسه صـ 203.
(9) المصدر نفسه صـ 203.(1/14)
وصلى عليه ابنه معاوية، وقيل: بل صلى عليه عثمان، وله ثلاث وثمانون، وقيل: كان له بضع وتسعون سنة (1).
ثالثاً: هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية رضي الله عنهما:
هي أم معاوية، أسلمت يوم الفتح، بعد إسلام زوجها أبي سفيان، فأقاما على نكاحهما، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرِّجال، بايع النساء، وفيهنَّ هند بنت عتبة وكانت متنكرة، خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعت بحمزة ـ على ألاَّ يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن، وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، ولما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ولا يسرقن قالت هند: يا رسول الله، إن أبي سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بنيَّ، فهلَّ عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف، ولما قال: ولا يزنين قالت هند: وهل تزني الحرّة؟ ولمّا عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عمّا سلف عفا الله عنك، وقد بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء، ولا يمس يد إمرأة إلا إمرأة أحلّها الله له، أو ذات محرم منه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: لا والله! ما مست يد رسول الله يد إمرأة قط (2). وروى ابن سعد بسنده عن عبد الله بن الزبير إنه لما بايعت هند تكلمت فقالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتنفعني رحمك يا محمد، إنني إمرأة مؤمنة بالله، مصدقة برسوله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحباً بك، فقالت: والله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض من أهل خباءٍ أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خِبائك، قال: وأيضاً والذي نفسي بيده.
قالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل ممسك، فهل عليَّ حرج أن أُطعم من الذي له عِيالنا قال: لا أراه إلا بالمعروف (3). ولما أسلمت هند وبايعت عادت إلى
_________
(1) المصدر نفسه صـ 204.
(2) البخاري رقم 5288 مسلم رقم 1866.
(3) الطبقات الكبرى (8/ 172)، البخاري رقم 3825.(1/15)
بيتها فجعلت تكسر صنماً كان عندها حتى فلذته فلذة وهي تقول: كنت منك في غرور (1)، ولما رأت المسلمين ببيت الله الحرام قالت: والله ما رأيت الله عُبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً (2). وكان لهند في جاهليتها موقف مع زينب بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كانت بمكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه بها إلى المدينة، وكان ذلك بعد ((بدر)) ولم تجف دماء قريش بعد، وكانت ((هند)) قد أصيبت بأبيها وأخيها وعمها، وكانت تطوف على مجالس قريش وأنديتها تُذكي نار الثأر، وتؤجج أوار الحرب، وفي الطريق لقيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد تسرَّب خبر استعدادها للخروج لأبيها فقالت هند: أي بنت محمد: بلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك!! .. أي إبنة عمي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يعينك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلي أبيك، فعندي حاجتك فلا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما يكون بين
الرجال، تروي زينب رضي الله عنها ذلك، وتقول: ووالله ما أراها قالت إلا لتفعل (3). ثم يوم خروج زينب يتعرض لها رجال من قريش، يريدون إرجاعها، فتسقط من على ناقتها وكانت حاملاً، فتنزف، وتسمع هند، فتخرج مسرعة وترفع عقيرتها في وجه قومها: معركة مع أنثى عزلاء؟؟ أين كانت شجاعتكم يوم بدر؟ وتحول بينهم وبين زينب وتضمها إليها وتمسح عنها ما بها، وتصلح شأنها، حتى إستأنفت الخروج إلى أبيها في أمن وأمان (4).
وكانت هند إمرأة حازمة شاعرة ذات نفس وأنفة. ويروى أنها كانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيات قريش، له مجلس يأتيه ندماؤه فيدخلون بغير استئذان، فدخلته هند يوماً وليس فيه أحد، فنامت فيه، وجاء بعض ندماء الفاكه فدخل البيت، ورأى هند نائمة فخرج، فلقيه الفاكه خارجاً، ثم دخل فوجد هند في المجلس نائمة فقذفها بالرجل فشرى (5) الأمر إلى أن إتفقوا على أن يتحاكموا إلى كاهن في بعض النواحي، فحملها أبوها عتبة وخرج معهم الفاكه حتى إذا دنوا من الكاهن رآها أبوها متغيرة مصفراً لونها، فخلا بها وقال: يا بُنية مالي أراك قد
_________
(1) الطبقات (8/ 172).
(2) نحو رؤية جديدة للتاريخ صـ 200.
(3) المصدر نفسه صـ 208 فرسان من عصر النبوة صـ 853.
(4) المصدر نفسه صـ 208.
(5) فشرى: بمعنى عظم وتفاقم.(1/16)
اصفرّ لونك وتغيّر جسمك، فإن كنت قد ألممت بذنب بأخبريني حتى أفلّ (1) هذا الأمر قبل أن نفتضح على رؤوس الناس. فقالت: يا أبتي إني لبريئة، ولكني أعلم أنا نأتي بشراً يخطئ ويصيب، فأخشى أن يخطئ فيّ بقول يكون عاراً علينا إلى آخر الدهر. قال عتبة: فإني سأختبره، فخبأ له حبة بُرّ في إحليل مهر (2)، ثم ربط عليها، فلما أتى الكاهن قال: قد خبأت لك خبيئاً فما هو؟ قال: ثمرة في كَمَرةٍ، قال: بيِّن، قال: حبة بُر في إحليل مهر. فأجلسوا هنداً بين نساء ثم سألوا الكاهن، فقام فضرب بيده بين كتفي هند وقال: قومي حصاناً غير زانية وَلَتَلِدَنَّ ملكاً يقال له معاوية: فوثب الفاكه، فأخذ بيدها وقال: إمرأتي، فنزعت يدها من يده وقالت: والله لأحرصنَّ أن يكون من غيرك، فتزوجها أبو سفيان، وولدت له معاوية (3). وهذا وقد توفيت في ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه (4).
رابعاً: من إخوان وأخوات معاوية رضي الله عنه:
1 ـ يزيد بن أبي سفيان، وكان يقال له يزيد الخير، وهو أفضل بني أبي سفيان، أسلم يوم الفتح وشهد حنيناً،
وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقيّة (5)، واستعمله أبو بكر على أول الجيوش التي أرسلها إلى الشام وكانت مهمته الوصول إلى دمشق وفتحها ومساعدة الجيوش الإسلامية الأخرى عند الضرورة، وكان جيش يزيد أول الأمر ثلاثة آلاف رجل، وقبل رحيل جيش يزيد أوصاه الخليفة أبو بكر وصية بليغة عالية المستوى تشتمل على حكم باهرة في مجالي الحرب والسلم، وشيعه ماشياً وأوصاه بما يأتي: إني قد وليتك لأبلوك وأجرِّبك وأخَرجِّك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم تولياً له، وأقرب الناس من الله أشدُّهم تقرباً بعمله، وقد وليتك عمل خالد (6)، فإياك وعبِّية الجاهلية (7) فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على
_________
(1) أي: حتى أفك.
(2) من إختبار الكاهن، فإن عرف سألوه وإلا تركوه.
(3) التبيين في أنساب القرشيين صـ 219.
(4) المصدر نفسه صـ 219.
(5) التبيين في أنساب القرشيين صـ 204.
(6) يعني خالد بن سعيد بن العاص وكان قد استعفى أبا بكر فأعفاه.
(7) يعني التعصب لما كان عليه أهل الجاهلية.(1/17)
جندك فأحسن صحبتهم وأبدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلِّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها، والتخشع فيها، وإذا قدم عليكم رسل عدوك فأكرمهم وأقْلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا ترينّهم فيروا خَلَكَ (1)، ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك (2)،
وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لاعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فأصدق الحديث تُصدق المشورة، ولا تخزُ عن المشير خبرك فتُوْتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عنك الأستار وأكثر حرسك، وبدِّدهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه، وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النَّوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنها أيسرهما لقربها من النهار، ولا تَخَفْ من عقوبة المستحق ولا تلجَّنَّ فيها، ولا تسرع إليها، ولا تتخذ لها مدفعاً، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسّس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم ولا تجالس العبّاثين، وجالس أهل الصدق والوفاء وأصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر، ويدفع النصر، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له قال ابن الأثير: وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعاً لولاة الأمر (3). ومن فوائد هذه الوصية:
_ ... أن الولايات والمناصب ليست حقاً ثابتاً لأصحابها وإنما بقاؤهم فيها مرهون بالإحسان والنجاح في العمل، ومن واجب المسئول الأعلى أن يَعْزلهم إذا أساؤوا وإن هذا الشعور يدفع صاحب العمل إلى مضاعفة الجهد في بذل الطاقة ليصل إلى مستوى أعلى من النجاح في العمل، أما إذا ضمن البقاء فإنه قد يميل إلى الكسل والاشتغال بمتاع الدنيا، فيخل بمسئولته ويعرّض من تحت ولايته إلى أنواع من الفساد والفوضى والنزاع.
_________
(1) يعني لا تطلعهم على دخيلة أمرك فيطلعوا على عيوبك.
(2) ليروا قوة المسلمين ..
(3) الكامل ـ لابن الأثير (2/ 64 ـ 65).(1/18)
_ ... إن تقوى الله عز وجل هي أهم عوامل النجاح في العمل، لأن الله تعالى مطلع على ظاهر أعمال الناس وباطنهم، فإذا اتقوه في باطنهم فَحَريٌّ بهم أن يتقوه في ظاهرهم، وبذلك يتجنب الوالي كل مظاهر الفساد والإفساد، التي تكون عادة من الاستجابة للعواطف الجامحة التي لا تلتزم بتقوى الله تعالى.
_ ... التحذير من التعصب للآباء والأجداد والأقوام، فإن التعصب لذلك قد يحمل الإنسان على الإنحراف عن الطريق المستقيم، إذا كان ما عليه الآباء والأجداد مخالفاً للاستقامة، إضافة إلى أنه يضعف من الإنتماء للرابطة الإسلامية الوحيدة وهي الأخوة في الله.
_ ... الإيجاز في الموعظة فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، فيضيع المقصود، ويغلب على السامع الأعجاب ببلاغة المتكلم إن كان بليغاً عن استيعاب ما يقول والاستفادة من مواعظه، وإن لم يكن بليغاً فإن الملل يأخذ بالسامع فلا يعي ما يقول المتكلم.
_ ... إذا أصلح المسئول نفسه وتفقد عيوبه وجعل من نفسه نموذجاً صالحاً للقدوة الحسنة فإن ذلك يكون سبباً في صلاح من هم تحت رعايته.
_ ... الإهتمام بإقامة الصلاة كاملة مظهراً ومخْبراً مَظْهَراً من ناحية إكمال أقوالها وأفعالها، ومَخْبَراً من ناحية الخشوع فيها وحضور القلب مع الله تعالى، فإن هذه الصلاة الكاملة يقام بها ذكر الله في الأرض، وتهذّب السلوك، وتقوِّي القلوب، وتبعث على ارتياح النفوس، وتعتبر ملاذاً للمسلم عند الشدائد.
_ ... إكرام رسل العدو إذا قدموا مع الاحتراس منهم، وعدم تمكينهم من معرفة واقع الجيش الإسلامي، فإكرامهم نوع من الدعوة إلى الإسلام فيما إذا عرف العالم ما يتحلى به المسلمون من مكارم الأخلاق، ولكن لا يصل هذا الإكرام إلى حد إطلاعهم على بطانة أمور المسلمين، بل ينبغي إطلاعهم على قوة جيش المسلمين ليُرهبوا بذلك أقوامهم (1).
_________
(1) التاريخ الإسلامي (9/ 194).(1/19)
_ ... الاحتفاظ بالأسرار، وعدم التهاون بإفشائها، خاصة فيما يتعلق بأمور المسلمين العامة، فإن الحكيم يستطيع التعرف في الأمور وإن تغيرت وجوهها ما دام سرُّه حبيساً في ضميره، فإذا أفشاه اختلطت عليه الأمور ولم يستطع التحكم فيها.
_ ... إتقان المشورة أهم من النظر في نتائجها فإن المستشار وإن كان حصيف الرأي ثاقب الفكر، فإنه لا يستطيع أن يفيد من استشاره حتى ينكشف له أمره بغاية الوضوح، فإذا أخفى المستشير بعض تفاصيل القضية فإنه يكون قد جنى على نفسه، حيث قد يتضرر بهذه المشورة.
_ ... أن على القائد وكل مسئول أن يكون مخالطاً لمن ولي أمرهم على مختلف طبقاتهم ليكون دقيق الخبرة بأمورهم، وفي هذا أكبر العون له على تصور مشكلاتهم والمبادرة بإيجاد الحلول لها، أما المسئول الذي يعيش في عزلة ولا يختلط إلا بأفراد من كبار رعيته، فإنه لا يصل إليه من المعلومات إلا ما كان من طريق هؤلاء، وقد لا يكشفون له الأمور بكل تفصيلاتها، فقد يحللون له الأمور على غير وجهها الصحيح.
_ ... الاهتمام بأمر حراسة المسلمين خاصة من مكامن الخطر، واختبار الحرّاس الأمناء من ذوي النباهة وعدم وضع الثقة الكاملة بهم، بل لا بدَّ من الرقابة عليهم حتى يؤتى المسلمون من قبلهم.
_ ... أن يسلك المسئول في عقاب المخالف مسلكاً وسطاً، فلا يتهاون فيترك عقوبة المستحق، فإن ذلك يجرِّئه على مزيد من المخالفة، ويجريْ غيره على ارتكاب المخالفات، فتسود الفوضى وينفلت الأمر، ولا يشتد في العقوبة فينفِّر الرعية، ويدفعهم إلى التسخط والتحزب، بل تكون عقوبته بحكمة واتزان بعد النظر والتروي بحيث تؤدي غرضها التربوي بدون إثارة ضجة، ولا دفع إلى النقد والتسخط (1).
_ ... أن يكون لدى المسئول يقظة وإنتباه لكل ما يجري في حدود المسئولية المناطة به حتى يشعر أفراد الرعية بأن هناك إهتماماً بأمورهم فيزيد المحسن إحساناً ويقتصر
_________
(1) التاريخ الإسلامي (9/ 195).(1/20)
المسيء عن الإساءة، ولكن بدون تجسس عليهم، فإن ذلك يعتبر فضيحة لهم، وقد ينقطع بذلك خيط العلاقة الذي يربط المسئول بأفراد رعيته، من المودة والإعجاب والشكر على الجميل، وهذا الخيط ما دام قائماً فإنه يمنع أصحاب الجنوح من إرتكاب المخالفات التي تفسد المجتمع وتحدث الفوضى، فإذا انقطع ولم يكن هناك عاصم من تقوى الله تعالى فإن أهم الحواجز التي تحول دون الإنطلاق وراء الشهوات تكون قد تحطمت، ويصعب بعد ذلك علاج الأمور لأنها تحتاج إلى قوة رادعة وهذه لها سلبياتها المعروفة.
_ ... أن يحرص المسئول على مجالسة أهل الصدق والوفاء والعقول الراجحة وإن سمع منهم ما يكره أحياناً من النقد والتوجيه، فإن ذلك يعود عليه وعلى من استرعاه الله أمرهم بالنفع،
وأن لا يجالس أصحاب اللهو والأهداف الدنيوية فإن هؤلاء وإن أنس بكلامهم وثنائهم فإنهم يحولون بينه وبين التفكير في الأمور الجادة، فلا يستفيق بعد ذلك إلا والنكبات قد حلت به وبمن ولي أمورهم.
_ ... أن يصدق القائد في لقاء الأعداء وأن لا يجبن، فإن جُبنه يسري على جنده فيقع بذلك الفشل والهزيمة، وفي غير الحرب أن يكون المسئول شجاعاً في مواجهة المواقف، وأن لا يضعف فيسري ضعفه على من هم تحت إدارته من العاملين، فيقل بذلك مستوى الأداء ويضعف الإنتاج.
_ ... أن يتجنب القائد الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها هذا في مجال الحرب، وفي مجالات السلم أن يتجنب المسئول أية استفادة دنيوية من علمه لا تحل له شرعاً، مثل أخذ الهدايا التي يقصد لها دفعها الاستفادة من المسئول في مجانبة الحق، فإن ذلك من الغلول، والغلول كما جاء في هذه الوصية يقرب إلى الفقر، ويدفع النصر.
_ ... ومن هذه الفوائد تبين لنا عظمة الوصية التي أوصى بها أبو بكر رضي الله عنه أحد قواده، وهي تبين لنا أنه كان يعيش بفكره مع قضايا المسلمين وأنه كان يتصور ما قد يواجهه قواده فيحاول تزويدهم بما ينفعهم في تلافي الوقوع في المشكلات، وحلها إذا وقعت، وهذه الوصية وأمثالها تسجِّل إضافة جديدة لمواقف(1/21)
أبي بكر المتعددة (1)، وجاء في رواية أن أبا بكر رضي الله عنه لم ينس اللمسات الإنسانية في وصيته لجيش يزيد حيث وصاه بدستور المسلمين للحرب المكون من عشرة نقاط تجسد إنسانية الحضارة الإسلامية وروحها المفعمة بالرحمة، والشفقة، وقد جاءت هذه الوصية على شكل مقتبس من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: أيها الناس: قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تفسدوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً، ولا إمرأة، ولا تقعروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بعيراً إلا لأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له .. اندفعوا باسم الله (2). وقد استفاد منها يزيد بن أبي سفيان غاية الاستفادة، ولما فتح الشام، في عهد عمر ولّى الفاروق يزيد فلسطين وناحيتها، ثم لما مات أبو عبيدة استخلف معاذ بن جبل، فلما مات معاذ بن جبل استخلف يزيد بن أبي سفيان، ثم مات يزيد فاستخلف أخاه معاوية، وكان موت هؤلاء كلهم في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة: وقيل: مات يزيد
سنة تسع عشرة بعد فتح قيسارية، وقيل: بل مات قبل فتح قيسارية وإنما افتتحها معاوية (3). وقال أبو إسماعيل محمد بن عبد الله البصري: جزع عمر على يزيد جزعاً شديداً، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام (4).
2 ـ عتبة بن أبي سفيان:
يكنى أبا الوليد، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه عمر بن الخطاب الطائف وصدقاتهم، ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص، وحكى عنه أنه اعترضه إعرابي وهو على مكة فقال: أيها الخليفة. قال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه. قال: أَسْمَعْتَ فقل: قال: شيخ من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة، ويختص بالخؤولة (5)، ويشكو إليك كثرة العيال، ووطأة الزمان، وشدة فقر، وترادف ضُرّ، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه، استغفر
_________
(1) التاريخ الإسلامي (9/ 196).
(2) صور من تسامح الحضارة الإسلامية مع غير المسلمين، سلامه الهرفي صـ62، نقلاً عن تاريخ الطبري (3/ 227).
(3) التبيين في أنساب القرشيين صـ 205.
(4) المصدر نفسه صـ 205.
(5) المصدر نفسه صـ 207، قادة فتح الشام ومصر صـ 99.(1/22)
الله منك، واستعينه عليك. قال: قد أمرنا لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك (1)، وكان خطيباً فصيحاً، يقال: إنه لم يكن في بني أمية أخطب منه (2)، وأقام بمصر والياً سنة ثم توفي بها، ودفن في مقبرتها سنة أربع وأربعين وقيل سنة ثلاث وأربعين (3).
3 ـ عنبسة بن أبي سفيان:
يكنّى أبا عثمان، روي عن أبي أمامة قال: لما حضر عنبسة بن أبي سفيان الموت اشتد جزعه وجاءه الناس يعودونه فجعل عنبسة يبكي ويجزع، فقال له القوم: يا أبا عثمان ما يبكيك وما يحزنك وقد كنت على سمت من الإسلام حسن وطريقة إن شاء الله حسنة!؟ فإزداد حزناً وشدة بكا وقال: ما يمنعني ألاّ أبكي وأن لا يشتد حزني من هول المطلع، وما يدريني ما أُشرفُ عليه غداً، وما قدمت من كبير عمل تثق به نفسي (4).
4 ـ أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها:
هي رملة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من أسمها وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ولدت رضي الله عنها قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند عبيد الله بن جحش بن رباب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة وبها كانت تكنى، وقد ارتد زوجها عبيد الله بن جحش عن الإسلام ودخل في النصرانية فهلك وهو على تلك الحالة وتمسكت بدينها وذلك من فضل الله عليها ليتم لها الإسلام والهجرة فأبدلها الله عز وجل به خير البشر عليها وأفضلهم سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهي أقرب
أزواجه نسباً إليه وأكثرهن صداقاً رضي الله عنها وأرضاها (5). قال الذهبي عنها: وهي من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في أزواجه من هي أكرم نسباً إليه منها ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مائة دينار، وجهزها بأشياء (6).
_________
(1) التبيين في أنساب القرشيين صـ 208.
(2) المصدر نفسه صـ 208.
(3) المصدر نفسه صـ 208.
(4) التبيين في أنساب القرشيين صـ 208.
(5) الطبقات لابن سعد (8/ 96 ـ 100) مجمع الزوائد (9/ 249).
(6) سير أعلام النبلاء (2/ 219).(1/23)
وقد ورد لها بعض المناقب التي تدل على علو مكانتها وعظيم شأنها رضي الله عنها وأرضاها ومن تلك المناقب:
أـ أنها كانت ممن هاجر في الله الهجرة الثانية إلى الحبشة فارة بدينها رضي الله عنها، فقد روى الحاكم بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت فقلت تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتياً يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت عليَّ فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليَّ أن أزوجكه فقالت: بشرك الله بخير قالت: يقول لك الملك وكِّلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته (1) .. ففي هذا الحديث فضيلة ظاهرة ومنقبة عالية لأم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وهي أنها كانت ممن شرف بالهجرة إلى أرض الحبشة وثبتت على إسلامها وهجرتها (2).
ب ـ ومن ماقبها أنها أكرمت فراش رسول الله من أن يجلس عليه أبوها، لما قدم المدينة لعقد الهدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش ومنعته من الجلوس عليه لأنه كان يومئذ على الشرك ولم يكن قد أسلم (3)، فقد روى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن مسلم الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله وهو يريد غزو مكة، فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية قلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه، فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت إمرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية أصابك بعدي شر (4).
_________
(1) المستدرك، ك معرفة الصحابة (4/ 20 ـ 21).
(2) العقيدة في أهل البيت صـ 113.
(3) المصدر نفسه صـ 113.
(4) سير أعلام النبلاء (2/ 223)، الطبقات الكبرى (8/ 99 ـ 100).(1/24)
ج ـ ومن مناقبها ما رواه ابن سعد والحاكم عن عوف بن الحارث قال: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقالت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت: سررتيني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك، وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما (1).
5 ـ أم الحكم بنت لأبي سفيان رضي الله عنهما:
هي أم عبد الرحمن بن أم الحكم، كانت من مسلمة الفتحة، كانت حين نزول قوله تعالى: ((وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)) (الممتحنة: آية 10) تحت عياض بن غنم الفهري، ففارقها حينئذ، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي (2).
6 ـ عزة بنت أبي سفيان ـ رضي الله عنهما:
ذكرها ابن شهاب في حديث أم حبيبة في الرضاع، أخرج مسلم حديثها وهو ما يروي عن أم حبيبة أنها قالت: يا رسول الله هل لك في أختي؟ قال: ما أصنع بها؟ قالت: تنكحها، قال: أتحبين ذلك؟ قالت: نعم لست بمخلية لك وأحبّ من شركني في خير أختي (3)، وبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحل له (4) إذ لا يجوز في الإسلام الجمع بين الأختين (5). هذا وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة بنت أبي سفيان سنة ست للهجرة (6) وكان عمرها 33 سنة يوم عقد عليها رسول الله، وقال الذهبي: فكان لها يوم قدم بها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية إلى المدينة بضع وثلاثون سنة (7)، وقد توفيت سنة 44 هـ (8).
7 ـ أميمة بنت أبي سفيان:
ولدت أبا سفيان بن حويطب بن عبد العُزّى وجويرية وذكرها ابن قدامة في التبيين في أنساب القرشيين باقتضاب (9).
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 223).
(2) التبيين في أنساب القرشيين صـ 209.
(3) مسلم رقم 1449.
(4) مسلم رقم 1449.
(5) الدولة الأموية المفترى عليها صـ 142.
(6) سير أعلام النبلاء (2/ 220).
(7) المصدر نفسه (2/ 222).
(8) المصدر نفسه (2/ 222).
(9) التبيين في أنساب القرشيين صـ 209.(1/25)
خامساً: زوجات معاوية رضي الله عنه وأولاده:
1 ـ من نساء معاوية رضي الله عنه ميسون بنت بحدل الكلبي، ولدت له يزيد بن معاوية، وأمة رب المشارق فماتت صغيرة (1)، وكان معاوية رضي الله عنه يجل ميسون بنت بحدل ويحترمها إلا أنها
كانت تحن إلى مرتع طفولتها في البادية، وتكثر ذكر أهلها وحياتهم البسيطة وصوف عيشتهم، وبعدهم عما يكدرهم، وتزهد في حياة القصور، بما فيها من الخدم والوصيفات، وذات يوم تذكرت باديتها وحنت إلى أترابها وأناسها، وتذكرت مسقط رأسها فبكت وتنهّدت فقالت لها بعض حظاياها: ما يبكيك وأنت في مُلْكٍ يضاهي ملك بلقيس؟ فتنفست الصعداء ثم أنشدت:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحبّ إليَّ من قصر منيف
وبكر (2) يتبع الأظعان سبقاً
أحبّ إليَّ من بَغْلِ زفوف (3)
وكلب ينبح الطّراق عني
أحبّ إليَّ من قطٍ أليف
ولبسُ عباءةٍ وتقرّ عيني
أحبّ إليَّ من لبس الشفوف (4)
وأكل كُسيرة في كِسْر بيتي
أحبّ إليَّ من أكل الرّغيف (5)
وأصوات الرّياح بكلِّ فجٍّ
أحبّ إليَّ من نقر الدفوف
وخِرْق من بني عمي نحيف
أحبّ إليَّ من عِلْج كليف (6)
خشونة عيشي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطّريفِ
فما أبغي سوى وطني بديلاً
فحسبي ذاك من وطن شريف
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 246 ـ 247).
(2) البكر: الفتى من الأبل: والشقب: الذكر من ولد الناقة.
(3) زفوف: مسرع.
(4) الشفوف: جمع شف: وهو الثوب الرقيق الذي يشفُّ ما وراءه.
(5) الكسيرة: القطعة من الخبز: الكِسْر: طرف الخباء من الأرض.
(6) الخِرق: القنى السّمح الكريم العلج: الشديد.(1/26)
فلما دخل معاوية عرَّفَته الحظيّة بما قالت: وقيل: إنه سمعها وهي تنشد ذلك فقال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني عِلجاً علوفاً، هي طالق، مُرُوها فلتأخذ جميع ما في القصر فهو لها، ثمَّ سيرها إلى أهلها بالبادية فأخذت معها ابنها يزيد فنشأ في البريّة فصيحاً (1)
ونقل البغدادي ـ رحمه الله ـ في خزنة الأدب، إن معاوية لما طلقها قال لها كنت فبْنت، فأجابته: ما سُررنا إذْ كُنَّا، ولا أسفنا إذْ بِنَّا (2). والله درَّ القائل حيث أشار إلى هذا في قوله:
وحبّبَ أوطان الرّجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا الأوطان ذكّرتهم
عهود الصِّبا فيها فحنّوا لذلكا (3)
2 ـ ومن زوجاته، فاخته ابنة قرَظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، ولدت له عبد
الرحمن وعبد الله ابني معاوية، وكان عبد الله محمّقاً ضعيفاً وكان يكنى أبا الخير، وأما عبد الرحمن (4)، فمات صغيراً.
3 ـ ومن زوجاته، كنود بنت قَرَظة وهي أخت فاخته تزوجها منفردة عنها بعدها، وهي التي كانت معه حيث افتتح قبرص (5).
4 ـ وتزوج نائلة بنت عمارة الكلبية ثم طلقها (6)، ومن بناته رملة تزوجها عمرو بن عثمان بن عفان (7)، وهند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر (8) وعائشة وعاتكة وصفية (9).
سادساً: إسلام معاوية رضي الله عنه وشئ من فضائله:
أسلم معاوية مع أبيه وأخيه يزيد رضي الله عنهم يوم الفتح (10) هذا على المشهور، ولكن يروى عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية ـ أي عمرة القضاء سنة 7 هـ
_________
(1) شاعرات العرب صـ (396 ـ 397) نساء من عصر التابعين أحمد خليل صـ 43.
(2) خزانة الأدب (3/ 593) نساء من عصر التابعين صـ 43.
(3) نساء عصر التابعين صـ 44.
(4) تاريخ الطبري (6/ 147).
(5) البداية والنهاية (11/ 462).
(6) المصدر نفسه (11/ 463).
(7) المصدر نفسه (11/ 463).
(8) المصدر نفسه (11/ 464).
(9) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ 129.
(10) الإصابة (3/ 433)، التبيين في أنساب القرشيين صـ 105.(1/27)
- ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك، فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه فقلت له: لم آل نفسي جهد، ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي، فجئته فرحب بي وكتبت بين يديه (1)، وشهد معاوية ـ رضي الله عنه ـ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً وأعطاه مائة من الأبل وأربعين أوقية من الذهب (2) وقد ذكر العلماء لمعاوية رضي الله عنه فضائل كثيرة من هذه الفضائل:
1 ـ من القرآن الكريم:
فقد اشترك معاوية رضي الله عنه في غزة حنين قال تعالى: ((ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)) (التوبة، الآية: 26). ومعاوية رضي الله عنه من الذين شهدوا غزوة حنين وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم (3)، كما أنه ممن وعدهم الله الحسنى: قال تعالى: ((لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) (الحديد، الآية: 10). ومعاوية رضي الله عنه ممن وعدهم الله الحسنى، فإنه أنفق في حنين والطائف وقاتل فيهما (4).
2 ـ من السنة:
أـ دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعله هادياً (5)، مهدياً (6)، واهد به (7).
وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب (8).
ب ـ ما أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواريت خلف الباب، قال: فجاء
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 396).
(2) المصدر نفسه (11/ 396).
(3) الفتاوي (4/ 458).
(4) المصدر نفسه (4/ 495).
(5) هادياً: أي للناس أو دالاً على الخير.
(6) مهدياً: مهتدياً في نفسه.
(7) الشريعة (5/ 2437) إسناده صحيح.
(8) موارد الظمآم للهيثمي، تحقيق حسين الداراني (7/ 249) إسناده حسن.(1/28)
فحطأني حطأةً وقال اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: لا أشبع الله بطنه (1)
قال النووي معلقاً على هذا الحديث. وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب (2)، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة دعاء له (3)، ولذلك قال ابن عساكر عن حديث لا أشبع الله بطنه: أصح ما روي في فضل معاوية .. وبعده حديث .. اللهم علمه الكتاب، وبعده حديث .. اللهم اجلعه هادياً مهدياً (4). وعن الحديث نفسه قال الذهبي: قلت: لعل أن يقال، هذه منقبة لمعاوية لقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم من لعنته أو سببته، فاجعل ذلك له زكاة ورحمة (5). وقال الألباني: قد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعناً في معاوية رضي الله عنه، وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم (6)، وقيل في لا أشبع الله بطنه: أنها كلمة جرت على عادة العرب نحو قاتله الله ما أكرمه، ويل أمه وأبيه ما أجوده، مما لا يراد معناه (7).
جـ ـ ما أخرجه البخاري من طريق أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت: نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما اضحكك؟ قال: أناس من أمتي
عرضوا علي، يركبون هذا البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت قولها، فأجباها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية (8)، فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين، فقُرِّبت إليها دابة لتركبها
_________
(1) مسلم رقم 2604.
(2) اسم الباب: من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلاً.
(3) شرح صحيح مسلم لنووي (16/ 165).
(4) تاريخ دمشق (62/ 24).
(5) سير أعلام النبلاء (14/ 130).
(6) السلسلة الصحيحة (1/ 165).
(7) الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية صـ69.
(8) وذلك في إمارة معاوية على الشام في خلافة عثمان سنة 27 هـ.(1/29)
فصرعتها فماتت (1). قال ابن حجر معلقاً على رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله:: ناس من أمتي عرضوا على غُزاة .. يشعر بأنه ضحكه كان إعجاباً بهم، وفرحاً لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة (2).
د ـ ما أخرجه البخاري من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا (3)، قالت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر (4) مغفور لهم فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا (5).
قال المهلب (6) معلقاً على هذا الحديث: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر (7). وكان معاوية رضي الله عنه يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم (8)، وكذلك رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زعماء القبائل (9)، وكتبة معاوية للوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتاح له لون من القرب الطبيعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة التي أعقبت فتح مكة حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يستتبع بالضرورة التأثر بشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والأخذ المباشر منه (10).
سابعاً: رواية معاوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يعد معاوية رضي الله عنه من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرد ذلك إلى ملازمته
لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وكان عمره في فتح مكة حوالي ثماني عشرة سنة (11)، ولكونه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه فقد أتيحت له فرصة عظيمة مكنته من الاستفادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وقد روى معاوية رضي الله عنه
_________
(1) فتح الباري على صحيح البخاري (6/ 22).
(2) المصدر نفسه (11/ 76).
(3) أوجبوا: أي فعلوا فعلاً وجبت لهم الجنة.
(4) مدينة قيصر: يعني القسطنطينية فتح الباري (6/ 120).
(5) فتح الباري على صحيح البخاري (6/ 22).
(6) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي الأندلسي، مصنف شرح صحيح البخاري، توفي سنة 435 انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 589) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ 27.
(7) فتح الباري (6/ 120).
(8) البداية والنهاية (11/ 396).
(9) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 434).
(10) الدولة الأموية المفترى عليها صـ 145.
(11) الطبقات الكبرى (7/ 406)، خلافة معاوية د. عمر العقيلي صـ 14.(1/30)
مائة وثلاثة وستين حديثاً (1) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة (2)، ومن هذه الأحاديث التي رواها معاوية رضي الله عنه:
1 ـ دخل معاوية على عبد الله بن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر، ولم يقم ابن الزبير فقال معاوية: مَهْ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يمثل له عباد الله قياماً، فليتبوَّأ مقعده من النار (3).
2 ـ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين (4).
3 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم (5)، قالوا: جلسنا نذكر الله عزل وجل قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إنِّي لم استحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسبم أَقلَّ عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ علينا بك، قال: آللهِ ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أما إنيِّ لم استحلفكم تهمة لكم، وإنَّه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أنّ الله عز وجل يباهي بكم الملائكة (6).
4 ـ عن معبد الجهني، قال: كان معاوية قلّما يُحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويقول هؤلاء الكلمات قلَّما يدعهنَّ أو يحدِّثُ بهنَّ في الجمع، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإن هذا المال حُلوٌ خضرٌ فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح، فإنَّهُ الذبح (7).
_________
(1) أسماء الصحابة الرواة لابن حزم صـ 55 مرويات خلافة معاوية صـ 23.
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 162).
(3) الموسوعة الحديثية مسند الإمام أحمد (28/ 40) إسناده صحيح.
(4) المصدر نفسه (28/ 48) إسناده صحيح.
(5) أي: في المسجد.
(6) الموسوعة الحديثية مسند أحمد (28/ 50) إسناده صحيح.
(7) المصدر نفسه (28/ 52) إسناده صحيح.(1/31)
5 ـ عن عبد الرحمن بن عبد عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شَرِب الخمر، فاجلدوه، فإن عاد، فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه فإن عاد الرّبعة، فاقتلوه (1).
6 ـ عن عيسى بن طلحةقال سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن المؤذِّنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة (2).
7 ـ عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن معاوية أخبره: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصَّر من شعره بمشقص فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية، فقال: ما كان معاوية على رسول الله متهماً.
8 ـ عن الزهري قال حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنَّه سمع معاوية يخطب بالمدينة يقول:: يا أهل المدينة، أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يفرض علينا صيامه، فمن شاء منكم أن يصوم فليصم فإني صائم، فصام النَّاس (3) بداية.
9 ـ عن الحَكَم بنِ ميناء أن يزيد بن جارية الأنصاري أخبره أنه كان جالساً في نفر من الأنصار، فخرج عليهم معاوية، فسألهم عن حديثهم، فقالوا: كُنَّا في حديث من حديث الأنصار فقال معاوية: ألا أَزِيدكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبَّ الأنصار أحبَّهُ الله عز وجل، ومن أبغض الأنصار، أبغضه الله عز وجل (4).
10 ـ عن أبي صالح عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية (5).
11 ـ قال محمد بن كعب القُرَظي، سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصَّلاة: اللَّهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجَدُّ (6).
_________
(1) المصدر نفسخ (28/ 61) إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه (28/ 75) إسناده صحيح على شرط مسلم.
(3) الموسوعة الحديثية مسند الإمام أحمد (28/ 81) إسناده صحيح.
(4) المصدر نفسه (28/ 85) إسناده صحيح.
(5) المصدر نفسه (28/ 89) صحيه لغيره.
(6) المصدر نفسه (28/ 100) إسناده صحيح.(1/32)
12 ـ عن أبي بردة عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفَّر الله عنه به من سيِّئاته (1).
13 ـ وعن معاوية رضي الله عنه قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقِّ لا يرضهم من خالفهم حتي يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس (2).
14 ـ وعن معاوية بن أبي سفيان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نسي شيئاً من صلاته فليسجد سجدتين وهو جالس (3).
15 ـ وعن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مقعده من النار (4).
16 ـ وعن عمير بن هانيء قال سمعت معاوية بن أبي سفيان على هذا المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم ظاهرون على الناس. فقام مالك بن يخامر السكسكيُّ فقال: يا أمير المؤمنين سمعت معاذ بن جبل يقول: وهم أهل الشام، فقال معاوية ورفع صوته: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: وهم أهل الشام (5).
17 ـ حدّثنا روح، قال: حدّثنا أبو أميّة عمرو بن يحي بن سعيد قال: سمعت جدِّي يُحَدِّث أن معاوية أخذ الإِداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها واشتكى أبو هريرة فبينما هو يوضيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ، فقال: يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله عز وجل واعدل، قال: فما زلت أني مُبتلىً بعملٍ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى ابتُليتُ (6).
_________
(1) المصدر نفسه (28/ 107) إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه (28/ 116) إسناده صحيح على شرط مسلم.
(3) المصدر نفسه (28/ 118) صحيح لغيره.
(4) المصدر نفسه (28/ 118) صحيح لغيره.
(5) الموسوعة الحديثية منسد أحمد (28/ 129) إسناده صحيح.
(6) المصدر نفسه (28/ 130) رجاله ثقات رجال الصحيح غير أن جد عمرو بن يحي ـ وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص لم يتبين لنا سماعه من معاوية، فقد ذكر البخاري في تاريخيه الكبير (3/ 331) فقال: ويُروى في فضائل معاوية أشياء ضعيفة تحتمل وذكر منها هذا الحديث.(1/33)
18 ـ وعن أبي عامر عبد الله بن لُحَيِّ، قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلمَّا قدمنا مكة قان حين صَلَّى صلاة الظهر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأُمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تَجَارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله. والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به (1)
ثامناً: من الأحاديث الباطلة التي لا تصح في شأن معاوية مدحاً وذماً:
1 ـ من الأحاديث الباطلة التي لا تصح في مدح معاوية:
وقد ساق ابن عساكر في ترجمته لمعاوية أحاديث واهية وباطلة طوّل بها جداً، فمن الأباطيل المختلفة (2)
أـ عن واثلة مرفوعاً: كاد معاويةأن يبعث نبياً من حلمه وائتمانه على كلام ربي (3).
ب ـ وعن أبي موسى: نزل عليه الوحي، فلما سُرِّي عنه، طلب معاوية، فلما كتبها ـ يعني آية الكرسي. قال: غفر الله لك يا معاوية ما تقدم إلى يوم القيامة (4).
ت ـ وعن أنس: هبط جبريل بقلم من ذهب، فقال يا محمد: إن العليَّ الأعلى يقول: قد أهديت هذا القلم من فوق عرشي إلى معاوية، فمره أن يكتب آية الكرسي به ويشكله ويعجمه، فذكر خبراً طويلاً (5).
ث ـ وعن ابن عباس، قال: لما أنزلت آية الكرسي، دعا معاوية فلم يجد قلماً، وذلك أن الله أمر جبريل أن يأخذ الأقلام من دواته، فقام ليجيء بقلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ القلم من أذنك، فإذا قلم ذهب مكتوب عليه لا إله إلا الله، هدية من الله إلى أمينه معاوية.
ج ـ وعن حذيفة مرفوعاً: يبعث معاوية وعليه رداء من نور الإيمان (6).
_________
(1) الموسوعة الحديثية مسند أحمد (28/ 135) إسناده حسن.
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 127، 128).
(3) المصدر نفسه (3/ 128) موضوع.
(4) المصدر نفسه (3/ 129) موضوع.
(5) المصدر نفسه (3/ 129) موضوع.
(6) المصدر نفسه (3/ 130) موضوع.(1/34)
ح ـ وعن أنس مرفوعاً: لا أفتقد أحداً غير معاوية، لا أراه سبعين عاماً، فإذا كان بعد أقبل على ناقة من المسك، فأقول: أين كنت؟ فيقول في روضة تحت العرش.
س ـ وعن ابن عمر مرفوعاً: يا معاوية، أنت مني وأنا منك، لتزاحمنِّي على باب الجنة (1)
قال الذهبي بعد ذكر هذه الأحاديث وغيرها: فهذه الأحاديث ظاهرة الوضع والله أعلم (2). وقد ذكر أكثر هذه الأحاديث الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (3)، وقال ابن كثير بعد أن ذكر حديثاً منها وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث كثيرة موضوعة (4)، والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبِّهُ عليها وعلى نكارتها وضعف حالها (5).
2 ـ من الأحاديث الباطلة في ذم معاوية:
قال ابن الجوزي: قد تعصب قوم ممن يدعي السنة فوضعوا في فضله أحاديث ليغضبوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح (6) ومن الأحاديث الواهية في ذمه:
أـ الحديث المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي فطلع معاوية. وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله القائد والمقود، أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة وهذا الحديث لا يصح وهو كذب على رسول الله، وهو من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يرجع إليها في معرفة الحديث، ولا له إسناد معروف (7)، ثم من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس، وأصبرهم على من يؤذيه، وأعظم الناس تأليفاً لمن يعاديه، فكيف ينفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه أعظم الناس مرتبة في الدين والدنيا، وهو محتاج إليه في كل أموره؟ فكيف لا يصبر
_________
(1) المصد نفسه (3/ 131) موضوع.
(2) المصدر نفسه (3/ 131).
(3) الفوائد المجموعة صـ 403 ـ 407.
(4) البداية والنهاية (11/ 409).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 131).
(6) الموضوعات (2/ 15).
(7) البداية والنهاية (11/ 438).(1/35)
على سماع كلامه وهو بعد المُلك يسمع كلام من يسبّه قي وجهه، فلماذا لا يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً من هذه حالة (1).
3 ـ دور بني أمية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رغم إسلام الكثير من رجال بني أمية منذ بداية الدعو، وتضحياتهم وهجرتهم إلى الحبشة، ورغم إسلام جميع بني أمية عند فتح مكة، وترحيب الرسول بهم وفرحه بإسلامهم، والاعتماد عليهم في جلائل الأعمال وقد أفسح لهم مكاناً في دولته لتستفيد بجهودهم ومقدرتهم، فقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم لآبي سفيان ميزة لم يعطها أحد من أهل مكة، حين قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن (2)، وهذا شرف كبير حازه أبو سفيان يدل على تقدير الرسول للزعماء وأصحاب الكلمة في قومهم، واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا سفيان على نجران، واتخذ ابنه معاوية كاتباً له (3). روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس، أن أبا سفيان طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمره حتى يقاتل الكفار كما كان يقاتل المسلمين، وأن يجعل معاوية كاتباً بين يديه، فاستجاب له النبي صلى الله عليه وسلم (4)، وكان أول وال على مكة ـ وهي أشرف بلاد الله ـ بعد فتحها رجلاً من بني أمية، هو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، يروى ابن إسحاق عن زيد بن أسلم
أنه قال:: لما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهماً: فقال أيها الناس: أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم درهماً فليست بي حاجة إلى أحد (5)، كما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية على قرى خيبر ووادي القرى وتيماء وتبوك، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو عليها (6)، كما استعمل الحكم بن سعيد بن العاص على سوق مكة (7)، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على صنعاء (8)،
واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على البحرين، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
_________
(1) أمير المؤمنين معاوية لابن تيمية جمع وتقديم محمد مال الله صـ 88.
(2) البخاري رقم 4280.
(3) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ 11.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 62).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 69 ـ 149)، تاريخ خليفة بن خياط صـ 97.
(6) منهاج السنة (3/ 175 ـ 176).
(7) المصدر نفسه (3/ 175/176).
(8) خليفة بن خياط صـ 97 ..(1/36)
عليها (1)، كما كان أبان وخالد إبنا سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان إضافة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنهم ـ من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم (2). وخلاصة القول: فقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُعظم رجالات بني أمية على مختلف الأعمال، من الولاية والكتابة، وجباية الأموال، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر منهم (3)، واستعمال النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر رجال بني أمية، أكبر دليل على كفاءتهم وأمانتهم (4). وأما قوله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء (5)، فهذه الكلمات، جعل بعض الناس منها سبة في جبين بني أمية وحدهم، وجعلوا يعيرونهم بأنهم الطلقاء وأبناء الطلقاء، ولم يفهموا أن هؤلاء الطلقاء وأبناءهم قد أسلموا وحسن إسلامهم، وكانت لهم مواقف مشهودة في نصرة الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده في الفتوحات في عهد خلفائه الراشدين (6)، ونحب أن نشير إلى عدة نقاط متعلقة بوصف الطلقاء منها:
1 ـ إن هذا الاتهام وليد عصر الخصومة الحزبية الحادة، لما تفجرت الأحقاد ضد بني أمية في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه وبعد بروز نجم معاوية بن أبي سفيان وخلافه مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث أصبح ذلك الوصف يعني عندهم أنهم قوم ضعاف الإيمان، دخلوا الإسلام رغبة في غنائمه، أو رهبة من القتل، ليكيدوا لأهله ويفيدوا أنفسهم.
2 ـ أن أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية ليسا من الطلقاء بالمعنى الدقيق السابق لهذه الكلمة فقد أسلم أبو سفيان قبيل فتح مكة والرسول وجيشه بمر الظهران خارجها، وقد جاء فور إسلامه يدعو قومه إلى المسالمة والفتح، أما معاوية ابنه فقد أكدت بعض الروايات أنه أسلم قبل الفتح أيضاً، غير أنه كان يخفي إسلامه، ـ شأن بعض الناس آنذاك ـ لمكانته من أبيه
الذي كان يقود القتال ضد المسلمين، فقد روى أنه أسلم سراً يوم عمرة القضاء، أو عام الحديبية (7)، وإنما وضعهم المؤرخون في زمرة هؤلاء الطلقاء لقرب وقت إسلام أبي سفيان من الفتح، ولأنه كان زعيم مكة
_________
(1) منهاج السنة (3/ 175/176).
(2) تخريج الدلالات السمعية صـ 159 ـ 162.
(3) منهاج السنة (3/ 175)، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ 12.
(4) العالم الإسلامي في العصر الأمري صـ 12.
(5) الطبقات (2/ 141 ـ 142).
(6) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ 8.
(7) البداية والنهاية (11/ 396).(1/37)
الذي ارتبط إسلامه بإسلامها، كما أن معاوية كان إسلامه سراً لم يشع، ولم يعرف إسلامه إلا مع الطلقاء بعد فتح مكة.
3 ـ إن وصف الطلقاء لا يقتضي الذم، فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح الذين أسلموا عام فتح مكة وأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا نحو من ألفي رجل، ومنهم من صار من خيار المسلمين كالحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، ويزيد بن أبي سفيان وحكيم بن حزام، وأبي سفيان بن الحارث، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتاب بن أسيد الذي ولاه النبي مكة لما فتحها، وغير هؤلاء ممن حسن إسلامهم.
4 ـ إن النظرة الإسلامية في هذا الشأن أن الإسلام يجب ما قبله، ويفسح المجال للإفادة من جميع الطاقات والقدرات ويدفع بها نحو تحقيق غاياته الكبرى، وينزل الناس منازلهم، وأن خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا، ولم يمنع تأخر إسلام خالد وعمرو بن العاص من تبوئهما المكانة العالية عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل عمراً أميراً على ذات السلاسل، وسمّى خالداً سيف الله .. هذا مع حفظ المكانة الأسمى والمنزلة العظمى للسابقين الصادقين في الإسلام، ومن هؤلاء السابقين كان جماعة من بني أمية وغيرهم، كما كان من الطلقاء بني أمية وغيرهم (1).
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها صـ 144.(1/38)
المبحث الثاني: الأمويون ومعاوية في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم:
أولاً: في خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
واجه المسلمون بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ظروف عصيبة وأجمع المسلمون على بيعة أبي بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بجهود عظيمة في مواجهة الأخطار، فحارب المرتدين حتى ردهم إلى الإسلام والجماعة وبدأ حركة الفتوح في بلاد الفرس والروم، وكان أول كتاب كتبه أبو بكر بشأن حروب الردة إلى عامله الأموي على مكة عتاب بن أسيد حيث كتب إليه بركوب من ارتد من أهل عمله بمن ثبت على الإسلام، فواجههم عتاب في تهامة حتى ظفر بهم (1)، ثم جهز من أهل مكة وأعمالها خمسمائة رجل وأمر عليهم أخاه خالد بن أسيد، فاشتركوا في قتال
المرتدين باليمن (2)، وإعادة أهل حضرموت وكندة إلى حظيرة الإسلام (3)، وفي حروب المسلمين ضد مسيلمة الكذاب كان قائد الجيش خالد بن الوليد الذي جعل على قيادة المهاجرين في جيشه أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ومعه زيد بن الخطاب (4) فقاتل أبو حذيفة قتالاً مجيداً، ولما انكشف المسلمون في أول القتال كان أبو حذيفة يهتف فيهم: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال، وقاتل حتى قتل رضي الله عنه (5)، وحمل راية المهاجرين يومذاك مولاه سالم وقاتل بها حتى قتل أيضاً (6)، وشهد حروب اليمامة ضد مسيلمة معاوية رضي الله عنه (7)، كما استشهد من حلفاء بني أمية عكاشة بن محصن الأسدي في قتال طليحة الأسدي (8)، وساهم العلاء الحضرمي حليفهم أيضاً في أخماد الردة في البحرين،
_________
(1) تاريخ الطبري (3/ 319) الدولةالأموية المفترى عليها صـ 148.
(2) المصدر نفسه (3/ 322، 329، 330).
(3) المصدر نفسه (3/ 330 ـ 342). .
(4) المصدر نفسه (3/ 381).
(5) المصدر نفسه (3/ 291).
(6) المصدر نفسه (3/ 291 ـ 292) الدولة الأموية المفترى عليها صـ 148.
(7) البداية والنهاية (11/ 396).
(8) ديوان الردة للعتوم صـ 86.(1/39)
ففعل وظفر بهم بعد بلاء حسن وآيات عجيبة (1)،
وكان من الطبيعي بعد انتهلء حروب الردة وعودة المرتدين إلى حظيرة الدين وانصياعهم للحكومة الراشدة، أن تطمح الأبصار إلى تخليص الشعوب المستعبدة من حكوماتها الظالمة ودعوتها إلى الإسلام، وبدأ ما عرف في التاريخ بحركة الفتوح الكبرى على جبهتي فارس والروم .. وقد كان لبني أمية دور بارز في هذه الحروب مما يؤكد عمق التزامهم الإسلامي وحيوية دورهم التاريخي في هذه الفترة، غير أننا نشير في البداية إلى وضوح سمتين ظاهرتين صاحبتا حركة الفتوح (2):
الأولى: هي تعاظم دور مسلمة الفتح وطلقاء مكة في الفتوح ـ ومنهم بعض بني أمية ـ وقد كان ذلك متوقعاً لسببين، الأول هو ما قرره أبو بكر من ضرورة عدم الاستعانة بمن ارتد عن الإسلام ثم عاد إليه في الفتح (3). وقد كان هذا يعود إلى حرص أبي بكر الصديق رضي الله عنه على نقاء هذه الفتوحات من آثار رقة الدين أو شهوات هذه النفوس التي لم تخلص بعد للإسلام، أو لم تبرهن على إخلاصها له.
والثاني: يعود إلى حرص هؤلاء السادة والأشراف على تعويض ما فاتهم من خدمة قضية الإسلام وأن يلحقوا بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الإسلام فسادوا بذلك وعلت أقدارهم (4).
والسمة الظاهرة الثانية: هي تركز نشاط الأمويين في الفتوح على جبهة الشام يشاركهم في
ذلك كثير من الفاتحين من أهل مكة عموماً، ويبدو أن ذلك كان أمراً مقصوداً من الخليفة الصديق الذي أدرك وجود صلات عميقة الجذور بين بني أمية والمكيين والقبائل العربية المقيمة ببلاد الشام تحت الحكم البيزنطي، تلك الصلات التي تعمقت من خلال النشاط التجاري المتواصل بين مكة والشام في الجاهلية والذي كان بنو أمية أبرز قواده ورواده (5)، وأما عن مشاركة الأمويين في حروب الفتح، فقد جاءت مبكرة، حيث شارك الوليد بن عقبة بن أبي معيط مع خالد بن الوليد في فتوح العراق الأولى، وشهد
_________
(1) تاريخ الطبري (3/ 301 ـ 313) سيرة أبي بكر الصديق الصَّلابي صـ 225 ..
(2) الدولة الأموية المفترى عليها صـ 148.
(3) تاريخ الطبري (3/ 319/347).
(4) الدولة الأموية حمدي شاهين صـ 149.
(5) المصدر نفسه صـ 149.(1/40)
معه قتل هرمز، وأرسله خالد إلى أبي بكر بالغنائم وبشارة الفتح وأخباره عن جمع جديد من الفرس (1)، ثم وجهه الخليفة مدداً إلى عياض بن غنم الذي كان قد أمره بفتح العراق من جهة الشمال، وكان يحاصر دومة الجدل فيجد العنت والمشقة في فتحها، فأشار عليه الوليد باستمداد خالد بن الوليد، فاستمده، فأنجده، وفتحوا معاً دومة الجندل (2)، ثم ولاه أبو بكر على النصف من صدقات قضاعة مما يلي دومة الجندل (3)، ولكن الخليفة ما لبث أن كتب إليه يعرض عليه الجهاد في سبيل الله، ويخبره بينه وبين أن يظل على عمله الذي ولاه إياه فأجابه بإيثار الجهاد، فوجه به إلى الشام (4)، وكان أول لواء عقده أبو بكر في حروب الشام لخالد بن سعيد بن العاص الأموي ثم عزله وولى بدله يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي أيضاً (5)، وأما جيش يزيد بن أبي سفيان، فكان أول جيش كبير يوجهه أبو بكر إلى الشام ويودعه ماشياً (6)،
ثم أتبعه بثلاثة جيوش أخرى يقودها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة بن الجراح (7)، يقول الذهبي عن يزيد بن أبي سفيان: وهو أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم أبو بكر لغزو الروم، عقد له أبو بكر، ومشى تحت ركابه يسايره ويودعه ويوصيه، وما ذلك إلا لشرفه، وكمال دينه (8). ثم اتبع الصديق بأناس آخرين يرغبون في الجهاد والحقهم بجيش يزيد وجعل عليهم أميراً معاوية بن أبي سفيان (9) .. وخرج أبو سفيان بن حرب ـ وهو يومئذ شيخ كبير (10)، كما اشترك في
الجهاد في الشام أيضاً خالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، وعمرو بن سعيد، وقاتلوا جميعاً هناك وقتلوا، حتى قيل: ما فتحت بالشام كورة من كورها إلا وجد عندها رجل من بني سعيد بن العاص شهيداً (11)، وقيل
_________
(1) البداية والنهاية (6/ 354).
(2) تاريخ الطبري (3/ 390) الدولة الأموية حمدي صـ 149.
(3) المصدر نفسه (3/ 390).
(4) المصدر نفسه (3/ 389 ـ 390) ,
(5) المصدر نفسه (3/ 387).
(6) فتوح الشام للواقدي (1/ 3 ـ 4) ..
(7) تاريخ الطبري (3/ 394).
(8) سير أعلام النبلاء (1/ 328).
(9) تاريخ الطبري (3/ 391).
(10) لما توفي كان عمره ثمان وثمانون سنة ولما حضر اليرموك كان عمره أكثر من سبعين سنة.
(11) النزاع والتخاصم صـ46، الدولة الأموية حمدي شاهين صـ 150.(1/41)
معركة اليرموك عقد قادة الجيوش مؤتمراً للحرب في الجولان .. ومر بهم أبو سفيان بن حرب فقال: ما كنت أظن أن أبقى حتى أرى أغلمة من قريش يذكرون أمر حربهم ويتذاكرون ما يكيدون به عدوهم ـ في منزلي ـ ولا يحضروني فاشترك معهم في مشورتهم، فأفسحوا له، فأسهم معهم في رسم خطة القتال (1). ولما أزفت ساعة الحرب في اليرموك عمد قادة الفريقين إلى إذكاء حماس الجنود، فبينما كان الروم يحضضهم القسيسون والرهبان، وينعون لهم النصرانية، حتى تشجعوا وخرجوا للقتال الذي لم يكن بعده قتال مثله (2)، كان المسلمون يتبادرون إلى لقاء الخطب البليغة والأرجاز المشيرة (3)،
بل أنهم عينوا أحد كبار شيوخهم والمخضرمين من رجالهم في مهمة ((القاص)) وكان ذلك الرجل هو أبو سفيان بن حرب نفسه (4)، ولا شك أن توليه ذلك العمل المهم هو أكبر دليل على صدقه وإخلاصه في دينه وإسلامه، إذ إن قادة الجيش لو علموا فيه آنذاك غير هذا الإخلاص ما جعلوه أميناً على تعبئة حماس الجند وإثارة حميتهم الإسلامية، ولو علم الجنود منه غير ذلك الصدق ما كان لعمله فيه ذلك الأثر العظيم، وقد كان اختياراً موفقاً فعلاً يتسق مع طبيعة تكوين ذلك الجيش الذي يضم الكثير من أهل مكة وقبائل العرب الذين تأخر إسلامهم، والذين احتفظوا بثقتهم القديمة في أبي سفيان، زعيمهم الذي خبروه (5)، وكان أبو سفيان رضي الله عنه يقف على الكراديس (6)، فيقول: الله الله، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل النصر على عبادك (7).
ثانياً: في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عندما توفي الصديق عام 13 هـ بويع الفاروق بالخلافة سار على نهج صاحبيه في استعمال بني أمية والثقة بهم، فلم يعزل أحد منهم من عمل، ولم يجد على أحد منهم مأخذاً والكل يعرف صرامة عمر، وتحريه أمر ولاته وعماله وتقصيه
_________
(1) فتوح الشام للواقدي (1/ 99).
(2) تاريخ الطبري (3/ 395).
(3) المصدر نفسه (3/ 395، 397، 398،401) ..
(4) تاريخ الطبري (3/ 397).
(5) الدولة الأموية، حمدي شاهين صـ 151.
(6) الكراديس: جمع كردوس: القطعة العظيمة من الخيل أو الكتيبة من الجند.
(7) التبيين في أنساب القرشيين صـ 203.(1/42)
أعمالهم وأخبارهم، ومحاسبتهم بكل
دقة وحزم، فاستمرارهم في عهده يدل على أمانتهم وكفايتهم، فقد بقي يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق، كما زاد عمر في عمل معاوية بالشام (1).
1 ـ بدا نجم معاوية في الظهور:
بدا نجم معاوية رضي الله عنه في الظهور في ميدان العمل السياسي والإداري في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه فقد ولاه فتح قيسارية (2) سنة خمس عشرة للهجرة (3)، وجاء في كتاب توليته له: أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير (4)، كانت هذه المهمة الجسيمة اختبار كبير من عمر لمعاوية في ميدان الواقع، فقد استطاع تجاوز هذا الاختبار بكل نجاح، فقد سار إلى قيسارية بجنوده الذين أعدهم له أخوه يزيد بن أبي سفيان ـ أحد ولاة الشام لعمر رضي الله عنه وكانت تلك المدينة محصنة وبأس أهلها شديد، فحاصرها معاوية طويلاً وزاحف أهلها مرات عديدة، فلم ييأس معاوية، فصمم على فتحها، واجتهد في القتال حتى فتح الله على يديه، وكان فتحه كبيراً فقد قتل من أهلها ما يقرب من مائة ألف (5) وبعث بالفتح والأخماس على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه (6)، وقد أثبت معاوية بعد توفيق الله ـ بهذا الفتح جدارته وحسن قيادته، فأكسبه ذلك ثقة الجميع، فأسند له أخوه يزيد ـ أمير دمشق ـ مهمة فتح سواحل الشام، وقد أبلى في ذلك بلاءً حسناً (7)، فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة فربما قوتل قتالاً شديد، وربما رمى ففتحها، وكان المسلمون كلما فتحوا مدينة ظاهرة أو عند ساحل رتبوا فيها قدر ما يحتاج لها إليه من المسلمين فإن حدث في شيء منها حدث من قبل العدو سربوا إليها الإمداد (8)،
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ 15.
(2) قيسارية: على ساحل الشام، تعد في أعمال فلسطين ياقوت (4/ 421).
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ 59.
(4) تاريخ الطبري (4/ 431).
(5) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية صـ 63، 64.
(6) البداية والنهاية (7/ 54).
(7) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ 59.
(8) فتوح البلدان للبلاذري صـ 134 ..(1/43)
ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وأنطاكية، وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك بعد القدس (1).
وكان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده ودعاهم إلى تفقد أنفسهم والحيطة من المعاصي، ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرّض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام، إني كنت من أحدث النقباء سنّاً ,ابعدهم أجلاً، وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم .. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم (2)؟ ثم بين لهم ما يخشاه منهم، فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين، أن تكونوا قد غللتم، أو لم تناصحوا الله في حملتكم (3)، وحض أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة (4)، فلم التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده وأخذ راجلاً، فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمون يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به، فقاتلوا الروم حتى هزموهم وأحجروهم في حصنهم (5) وبعد فتح قيسارية ونجاح معاوية في فتح سواحل دمشق ولاه عمر بن الخطاب ولاية الأردن وكان ذلك عام 17 هـ (6).
_________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة صـ 355.
(2) الأنصار في العصر الراشدي صـ 207.
(3) المصدر نفسه صـ 209.
(4) المصدر نفسه صـ 209
(5) المصدر نفسه صـ 209.
(6) تاريخ الطبري (4/ 67) خلافة معاوية للعقيلي صـ 17، 18.(1/44)
2 ـ ولايته على دمشق وبعلبك والبلقاء:
في سنة ثمان عشرة للهجرة توفي يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما في طاعون عمواس، فولى عمر معاوية عمل أخيه ـ دمشق وبعلبك والبلقاء (1)، وقد كان لعمل عمر هذا أكبر الأثر على نفسية والد معاوية ووالدته، فحين عزا عمر أبا سفيان في وفاة ابنه يزيد قال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟ قال: أخوه معاوية. قال: وصلت رحماً يا أمير المؤمنين. وكتب أبو سفيان لمعاوية ينصحه في بداية عمله هذا فمما قال: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وقصر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك (2)، وكذلك كتبت له والدته هند بنت عتبة
تقول: والله يا بني إنه قل أن تلد مثلك وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت (3).
وكان بعض الناس ـ لا سيما شيوخهم ـ استغربوا تولية عمر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه مع حداثة سنه ووجود من هو أكبر منه وأفضل، لذا سوغ عمر رضي الله عنه عمله هذا ـ حيث قالوا: ولى حدث السن ـ بقوله: تلومنني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به (4).
3 ـ معاوية في موكب عظيم وإنكار عمر عليه:
كان عمر رضي الله عنه ـ وهو الخبير بمعادن الرجال ـ يدرك أكثر من غيره ما يتمتع به معاوية من صفات تؤهله للقيادة، فحين قدم عمر الشام وافاه معاوية بموكب عظيم أنكره عليه عمر فقال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: هو ما بلغك
_________
(1) الطبقات الكبرى (7/ 406) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ 61.
(2) البداية والنهاية (11/ 399) المقصود أورثته عقبك أي: الحمد.
(3) المصدر نفسه (11/ 399).
(4) السلسلة الصحيحة (4/ 615) رقم 1969 وقال الألباني حديث صحيح.(1/45)
من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال له عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب (1) الضرس، لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب (2)، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديب (3). قال: فمرني يا أمير المؤمنين قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جَشَّمناه (4)، وفي رواية أن الرجل الذي قال لعمر ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه هو عبد الرحمن بن عوف، وكان مع عمر حين استقبلهما معاوية بهذا الموكب العظيم (5). وهذا الجواب من معاوية ـ رضي الله عنه ـ يدل على خبرة سياسية عالية، ومعرفة واعية بأحوال الأمم، ودراية كاملة بسياسة الرعية والمحافظة على الوضع الأمني للدولة التي يحكمها، ومن أجل هذا رضي عمر سياسته على الرغم من أنها تخالف سياسة عمر في اهتمامه بأحوال رعيته وبحث شكاواهم،
ولعل كلمة عمر ـ رضي الله عنه ـ من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه تدل على رضاه عن سياسة معاوية (6).
وكان عمر رضي الله عنه يتعهد معاوية بالتربية والوعظ والنصح، وأحياناً يشتد ويغلظ عليه، فعن أسلم مولى عمر رضي الله عنه قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض أو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أُصبُعَه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشِّراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنّا بأرض الحمّامات والريف فقال عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب. قال فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حُلة فلبسها، فوجد
_________
(1) الرواجب: جمع راجبة: وهي ما بين عقد الأصابع من داخل أي: أضيق ما يكون.
(2) البداية والنهاية (11/ 416).
(3) البداية والنهاية (11/ 416).
(4) البداية والنهاية (11/ 416).
(5) المصدر نفسه (11/ 416).
(6) الأمويون بين الشرق والغرب، لمحمد الوكيل (1/ 30).(1/46)
عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجّاً تَفِلاً، حتى إذا جاء أعظم بُلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما، فقال معاوية: إنما لبستهما لأدْخل فيهما على عشيرتي أو قومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، والله يعلم إني لقد عرفتُ الحياء فيه ثم نزع معاوية ثوبيه، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما (1)، وقال عمرو بن يحي بن سعيد الأموي، عن جَدِّه قال: دخل معاوية على عمر وعليه حُلَّةٌ خضراء فنظر إليها الصّحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدِّرَّة، فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين، الله الله فيَّ فرجع عمر إلى مجلسه، فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين وما في قومِك مثله؟، فقال: والله ما رأيت إلا خيراً وما بلغني إلا خير، ولكنِّي رأيته وأشار بيده (2) ـ فأحببت أن أضع منه (3)، وكان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب (4).
وكان معاوية رضي الله عنه في إمارته بالشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة وكان يرى أنه في ثغر تجاه العدو ويحتاج إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد (5) وإظهار الملك والسلطان، وكان يرى أن الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح وإنما ذمه لما فيه التغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله ولحمله على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً (6)، وقد قال الله تعالى: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)) (ص، آية: 33) لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك وكانت أبهة معاوية في الملك لها أغراض ومقاصد شرعية ولذلك سكت عمر رضي الله عنه، وذات يوم ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها إنه لمن يضحك في الغضب
ولا يُنال منه إلا على الرِّضا، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه (7)، ومهما يكن في هذه الرواية وغيرها من مبالغة، فإن ثقة عمر في معاوية تظل فوق مستوى الشبهة والشك (8)،
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 417).
(2) يعني: أأشار بيده إلى فوق.
(3) البداية والنهاية (11/ 418).
(4) المصدر نفسه (11/ 417) الاستيعاب صـ 668.
(5) ابن خلدون إسلامياً، عماد الله خليل صـ 78.
(6) المصدر نفسه صـ 78.
(7) البداية والنهاية (11/ 415).
(8) الدولة الأموية، حمدي شاهين صـ 154.(1/47)
فقد برهن معاوية لعمر عمق فهمه لضرورات السياسة وتغير البيئة والمجتمع، وأثر ذلك كله على التطوير السياسي لأدوات الحكم، ومهما يكن من أمر فقد عظمت مكانة معاوية عند عمر رضي الله عنه، فولاه أهم أقاليم دولته، وزاد في ولايته، ولم يعزله، على كثرة من كان يعزل من عماله وأمرائه، وكان معجباً بذكائه وإدارته ولا يكتم ذلك الإعجاب (1) حتى قال يوماً لجلسائه تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية (2).
4 ـ جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام:
لما تولى معاوية أمر الشام، وانطلق عمرو بن العاص لفتح مصر، أصبحت مهمة حماية الحدود الشامية للدولة الإسلامية والتوسع منها منوطة به، وتتلخص أهم إنجازاته العسكرية في أمرين هما: سن نظام الصوائف والشواتي (3)، وتكوين أسطول بحري إسلامي لأول مرة في تاريخ الإسلام (4).
أـ سن نظام الصوائف والشواتي في عهد عمر:
أصيب الروم على يد جنود الإسلام بهزائم مريرة متتالية فقدوا على أثرها الشام ومصر، بكل ما تمثلانه من أهمية اقتصادية وسياسية وعسكرية، غير أنهم لم يسلموا بهذه الهزائم، بل استمرت هجماتهم على الشام من خلال الدروب الجبلية التي تفصلهم عن باقي أجزاء إمبراطورية الروم، مما جعل عمر بن الخطاب يقول في جولته بالشام سنة 16 هـ: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه، وللروم ما وراءه (5)، وفي رحلته هذه إلى الشام سمى عمر الصوائف والشواتي، وسد فروج الشام ومسالكها (6)، ومن المحتمل أن يكون هدف الروم من هجماتهم على المدن الإسلامية الحدودية منذ البداية، هو اعتماد ذلك كتدبير وقائي لحماية بلاد الروم وردع المسلمين، لكن استجابة معاوية كانت فوق التحدي، فقد نقل المعركة إلى بلاد العدو، وابتعد بالحرب عن بلاد المسلمين، وكان لا بد لمعاوية ـ من أجل
_________
(1) الدولة الأموية، حمدي صـ 157.
(2) تاريخ الطبري (5/ 330).
(3) الصوائف: غزو بلاد الروم في الصيف والشواتي في الشتاء.
(4) الدولة الأموية، حمدي صـ 154.
(5) تاريخ اليعقوبي (2/ 133).
(6) تاريخ الطبري (4/ 62).(1/48)
تحقيق ذلك الهدف ـ من تطوير وسائط الدفاع، واعتبار العواصم والثغور مجرد قواعد متقدمة واجبها تلقي الصدمة والإنذار، مع استخدام هذه القواعد مركز انطلاق للهجمات المضادة، وقد قاد معاوية بنفسه بعض هذه الصوائف منها صائفة سنة 22 هـ حيث دخل بها بلاد الروم في عشرة آلاف، وصائفة 23 هـ (1)، حيث أوغل
حتى بلغ عمورية، ومعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وشداد بن أوس (2).
ب ـ تكوين أسطول إسلامي في البحر:
ويعود الفضل إلى الله ثم إلى معاوية في هذه المرحلة المبكرة إلى فتح باب الجهاد في البحر الذي أصبح ضرورياً لحماية الشام ومصر ومواجهة النشاط المتزايد للأسطول البيزنطي، وغاراته المتكررة على سواحل الإقليمين، وإمداداته للثائرين بهما. وقد استطاعت عمليات الصوائق والشواتي أن تضع حداً للتهديدات البرية، لكن المدن الساحلية، بداية من إنطاكية ونهاية بالأسكندرية، بقيت تحت رحمة البحرية البيزنطية، وأدرك معاوية أيضاً أنه من المحال تطوير عمليات الفتوح في أفريقيا ما لم يتم انتزاع السيطرة البحرية من البيزنطيين (3)، ولم يبدأ معاوية في غزو البحر فعلياً إلا في عهد عثمان وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى.
ثالثاً: معاوية رضي الله عنه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
حينما جاء عثمان إلى الخلافة كان معاوية رضي الله عنه والياً على معظم الشَّام، فأقرَّه عثمان عليها (4)، كما أقرَّ بعض الولاة الآخرين على ولاياتهم، كاليمن، والبحرين، ومصر وغيرها من الولايات، وقد تطورت الأحداث، وضُمَّت إلى معاوية بعض المناطق الأخرى حتى أصبح معاوية هو الوالي المطلق لبلاد الشام، بل أصبح أقوى ولاة عثمان، وأشدّهم نفوذاً وقد كان في بداية خلافة عثمان ولاة آخرون، منهم: عمير بن سعد الأنصاري، وكان على حمص، وينافس معاوية بن أبي سفيان في المكانة لدى عثمان رضي الله عنه إلا أن عميراً
_________
(1) تاريخ الأمم والملوك (4/ 144، 160).
(2) المصدر نفسه (4/ 241) الدولة الأموية حمدي صـ 155.
(3) معاوية بن أبي سفيان، بسام العسلي صـ 40.
(4) تاريخ خليفة بن خياط صـ 155.(1/49)
مرض مرضاً أعياه عن القيام بأعباء الولاية، فطلب من الخليفة عثمان أن يعفيه، فأعفاه، وضم ولايته إلى معاوية بن أبي سفيان، وبذلك زاد نفوذ معاوية، فامتد إلى حمص التي ولى عليها من قبله عبد الرحمن بن خالد بن الوليد (1)، كما توفي علقمة بن محرز، وكان على فلسطين، فضمّ عثمان ولايته إلى ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فاجتمعت الشَّام لمعاوية بعد سنتين من خلافة عثمان رضي الله عنه، وأصبح الوالي المطلق فيها طيلة السنوات الباقية من خلافة عثمان رضي الله عنه حتَّى توفي عثمان وهو عليها كما هو معروف (2)،
وقد كانت فترة معاوية على الشَّام مليئة بالأحداث، وكانت الشَّام من أهم مناطق الجهاد، ومع أن الشَّام في داخلها قد استقرت أوضاعها، وسادها الإسلام، وقلَّت محاولات الرُّوم إثارة القلاقل فيها، إلا أن الشام كانت متاخمة لأرض الروم، وبالتالي كان المجال مفتوحاً أمام معاوية للجهاد في تلك النواحي وسيأتي الحديث عنها بإذن الله، وقد كان لمعاوية
ثقله السياسي في الدولة الإسلامية أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه، إذ كان ضمن الولاة الذين جمعهم عثمان ليستشيرهم، حين بدأت ملامح الفتنة تلوح في الأفق، كما ظهرت له آراء خاصة في هذا الاجتماع، وجَّهها إلى عثمان (3) رضي الله عنه وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى.
1 ـ فتوحات حبيب بن سلمة الفهري رضي الله عنه:
كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز أمراء الجهاد في زمن ولاية معاوية على بلاد الشَّام، فعند أجلبت الرُّوم على المسلمين بالشام بجموع عظيمة أوّل خلافة عثمان، كتب معاوية إلى عثمان يستمده، فكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة والي الكوفة عندما انتهى من مهمته في أذربيجان وعاد إلى الموصل جاء في خطاب الخليفة إلى الوليد بن عقبة: أمَّا بعد: فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني: أن الرُّوم قد أجلبت (4) على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدّهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا، فابعث رجلاً ممَّن ترضى نجدته، وبأسه، وشجاعته، وإسلامه في ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 442).
(2) المصدر السابق (5/ 443) ..
(3) الولاية على البلدان (1/ 176).
(4) أجلبت: تجمّعت للحرب.(1/50)
إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي (1) والسَّلام. فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: أمّا بعد أيها الناس، فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاءً حسناً، وردَّ عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلاداً لم تكن افتتحت، وردَّهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشر آلاف إلى الثمانية آلاف، تمدُّون إخوانكم من أهل الشام، فإنَّهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا ـ رحمكم الله مع سليمان بن ربيعة، فانتدب النّاس، فلم يمض ثالثة حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا، حتى دخلوا الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهريُّ، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهليُّ، فسنُّوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاؤوا من سبي، وملؤوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصوناً كثيرة (2)،
وكان على المسلمين حبيب بن مسلمة، وكان صاحب كيد لعدوه، فأجمع أن يبيت قائدهم الموريان ـ أي: يباغته ليلاً ـ فسمعته امرأته أمُّ عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك، فقالت: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنة .. ثم بيتهم، فغلبهم. وأتى سرادق الموريان فوجد امرأته، قد سبقته إليه (3)، وواصل حبيب جهاده، وإنتصاراته المتوالية في أراضي أرمينية، وأذربيجان،
ففتحها إمّا صلحاً. أو عنوة (4)، وقد كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز القادة الذين حاربوا في أرمينية البيزنطية، فقد أباد جيوشاً بأكملها للعدوِّ، وفتح حصوناً، ومدناً كثيرة (5)، كما غزا ما يلي ثغور الجزيرة العراقية من أرض الروم فافتتح عدة حصون هناك، مثل شمشاط، وملطية، وغيرها (6).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 247).
(2) تاريخ الطبري (5/ 247) عثمان بن عفان للصَّلاَّبيِّ صـ 181 ..
(3) تاريخ الطبري (5/ 248).
(4) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، لحمدي شاهين صـ 252.
(5) حروب الإسلام في الشّام في عهود الخلفاء الراشدين صـ 577.
(6) عثمان بن عفان للصَّلابّي صـ 205.(1/51)
2 ـ غزوات معاوية في عهد عثمان في البر:
أدرك معاوية رضي الله عنه بأن إزالة خطر الروم وتهديدهم للمسلمين لا يتم إلا بمواصلة غزو الروم وتنشيط حركة الجهاد بشكل مستمر في الثغور الشامية والجزرية (1) وشحنهما بالمرابطين وتعهدها على الدوام، وقد أخذ منه ذلك وقتاً طويلاً وبذل فيه جهداً كبير خلال ولايته تلك في عهد عثمان، ففي سنة خمس وعشرين للهجرة قام معاوية بجولة عسكرية على الثغور الشامية، فوجد الحصون فيما بين أنطاكية وطرسوس خالية فوقف عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنسرين حتى انصرف من غزاته، ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك. وكانت الولاة تفعله (2)، وفي سنة إحدى وثلاثين غزا من ناحية المصيصة فبلغ درولية (3)، فلما خرج جعل لا يمر بحصن فيما بينه وبين النطاكيه إلا هدمه (4)، وكذلك الشأن في الثغور الجذرية فقد أولاها عنايته فقد وجه في الأيام الأولى لولايته تلك، كلا من حبيب بن مسلمة الفهري وصفوان بن المعطل السلمي إلى شمشاط ففتحها.
كما وجه حبيب بن مسلمة إلى إعادة فتح ملطية بعد أن انتقضت، ففتحها عنوة، ورتب فيها رابطة من المسلمين مع عاملها، كما قام معاوية بنفسه بعد ذلك بحملة أخرى يريد التوغل في أرض الروم فقد مرَّ على ملطية فشحنها بجماعة من أهل الشام والجزيرة وغيرهما وذلك لكي تكون طريقاً
آمناً لحملات الصوائق. كما غزا حصن المرأة من الثغور الجزرية في السنة نفسها (5)، وكان يتعهد حصن الحدث، وبنى مدينة مرعش وأسكنها الجند،
_________
(1) الثغور الشامية والجزرية هي شريط طويل من القلاع والحصون يمتد على الحدود الشمالية للدولة الإسلامية مع الدولة البيزنطية، ويبدأ هذا الشريط من ملطية إلى الفرات الأعلى إلى طرسوس بالقرب من ساحل البحر المتوسط. وينقسم خط هذه القلاع إلى مجموعتين: إحداهما تسمى بـ (الثغور الجزرية) وهي تمثل الجزء الشمالي الشرعي من هذا الخط ومن أهم ثغور هذا القسم: ملطية، وزبطرة، وحصن منصور، والحدث ومرعش وشمشاط والمجموعة الثانية تسمى بالثغور الشامية وهي تمثل الجزء الجنوبي الغربي من ذلك الخط وأهم ثغور ذلك القسم: عين زربة، وأذنة، وطرطوس، وهرقلة ويفصل بين المجموعتين فاصل طبيعي وهو جبل اللكام انظر: أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ67.
(2) فتوح البلدان صـ 69.
(3) المصيصة ودرولية من الثغور الشامية.
(4) فتوح البلدان ص169
(5) تاريخ خليفة بن خياط صـ 167، فتوح البلدان صـ 189.(1/52)
وكل هذه المدن والحصون من الثغور الجزرية (1)، ولما اطمأن معاوية إلى قوة جانبه بعد تلك الإجراءات أخذ يغزو في عمق الأراضي الرومية، فقد قاد بنفسه غزوة سنة اثنين وثلاثين للهجرة توغل فيها بجيشه حتى وصل مضيق القسطنطينية (2).
3 ـ معاوية يلتمس من عثمان رضي الله عنهما السماح له بالغزو البحري:
كان معاوية رضي الله عنه يلح على عمر في غزو البحر، ويصف له قرب الرُّوم من حمص، ويقول: إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم، وصياح دجاجهم حتى كان ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، إن ركن خرَّق القلب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأ عمر بن الخطاب كتاب عمرو بن العاص كتب إلى معاوية: أن لا، والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وتالله لمسلم أحبُّ إليَّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي، وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء منَّي، ولم أتقدم إليه في ذلك (3). ولكن الفكرة لم تبرح نفس معاوية، وقد رأي في الرُّوم ما رأى، فطمع في بلادهم وفتحها، فلمَّا تولَّى الخلافة عثمان عاود معاوية الحديث، وألحَّ به على عثمان، فردّ عليه عثمان رضي الله عنه قائلاً: أن قد شهدت ما ردَّ عليك عمر ـ رحمه الله ـ حين استأذنته في غزو البحر. ثم كتب إليه معاوية مرَّة أخرى يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص فكتب إليه: فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذوناً وإلا فلا (4). كما اشترط عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه أيضاً بقوله: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً، فاحمله وأعنه (5)، فلما قرأ معاوية كتاب عثمان نشط لركوب البحر إلى
_________
(1) فتوح البلدان صـ 187 ـ 196.
(2) تاريخ خليفة صـ 167، تاريخ الطبري (4/ 304) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ 69.
(3) تاريخ الطبري (5/ 258).
(4) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 538).
(5) تاريخ الطبري (5/ 260).(1/53)
قبرص، فكتب لأهل السواحل يأمرهم بإصلاح المراكب، وتقريبها إلى ساحل عكَّا، فقد رمَّه ليكون ركوب المسلمين منه إلى قبرص (1).
4 ـ غزو قبرص:
أعدَّ معاوية المراكب اللازمة لحمل الجيش الغازي، واتَّخذ ميناء عكَّا مكاناً للإقلاع، وكانت المراكب كثيرة، وحمل معه زوجه فاخته بنت قرظة، كذلك، كذلك حمل عبادة بن الصَّامت امرأته أمَّ حرام بنت ملحان معه في تلك الغزوة (2)، وأمُّ حرام هذه صاحبة القصَّة المشهورة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أمَّ حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أمُّ حرام تحت عبادة بن الصَّامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فأطعمته، ثم جلست تفلي من رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك. فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟: قال ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبيج هذا البحر ملوكاً على الأسرَّة، أو مثل الملوك على الأسرَّة. وقالت: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم! فدعا لها ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟!.
قال: ناس من أمتي عرضوا عليَّ في سبيل الله ... )) ـ كما قال في الرواية الأولى ـ. قال: أنت من الأوّلين. فركبت أمّ حرام بنت ملحان في البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت (3). ورغم أن معاوية رضي الله عنه لم يجبر الناس على الخروج، فقد خرج معه جيش عظيم من المسلمين (4)، مما يدل أن المسلمين قد هانت في أعينهم الدُنيا بما فيها، فأصبحوا لا يعبؤون بها بالرَّغم من أنها قد فتحت عليهم أبوابها، فصاروا يرفلون في نعيمها. أن المسلمين قد ترّبوا على أنّ ما عند الله خير، وأبقى، وأن الله اصطفاهم لنصرة دينه، وإقامة العدل، ونشر الفضيلة، والعمل على إظهار دين الله على كلِّ ما عداه، وهم يعتقدون: أنّ هذه المهمَّة هي
_________
(1) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 538).
(2) البداية والنهاية (7/ 159).
(3) البخاري رقم 2877.
(4) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين صـ 356.(1/54)
رسالتهم الحقيقية، وأن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الحصول على مرضاة الله، فإن هم قصَّروا في مهمَّتهم، وقعدوا عن أداء واجبهم، فسيمسك الله عنهم نصره في الدُّنيا، ويحرمهم مرضاته في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين، من أجل هذا هُرعوا مع معاوية، وتسابقوا إلى السفن يركبونها، ولعلَّ حديث أمِّ حرام قد ألمَّ بخواطرهم، فدفعهم إلى الخروج للغزو في سبيل الله تصديقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد انتهاء فصل الشتاء في سنة ثمان وعشرين من الهجرة 649م (1)، وسار المسلمون من الشام وركبوا من ميناء أم حرام لتركب دابَّتها، فنفرت الدّابة،
وألقت أمَّ حرام على الأرض، فاندقت عنقها، فماتت (2)، وترك المسلمون أمَّ حرام بعد دفنها في أرض الجزيرة عنواناً على مدى التضحيات التي قدَّمها المسلمون في سبيل نشر دينهم، وعرف قبرها هناك بقبر المرأة الصالحة (3)،
واجتمع معاوية بأصحابه، وكان فيهم: أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريُّ، وأبو الدَّرداء، وأبو ذر الغفاريُّ، وعبادة بن الصَّامت، وواثله بن الأسقع، وعبد الله بن بشر المازنيُّ، وشدّاد بن أوس بن ثابت، والمقداد بن الأسود، وكعب الحبر بن ماتع، وجبير بن نضير الضرمي. وتشاوروا فيما بينهم، وأرسلوا إلى أهل قبرص يخبرونهم: أنهم لم يغزوهم للاستيلاء على جزيرتهم (4)،ولكن أرادوا دعوتهم لدين الله، ثمَّ تأمين حدود الدولة الإسلامية بالشام، وذلك لأنَّ البيزنطيِّين كانوا يتخذون من قبرص محطَّة يستريحون فيها؛ إذا غزوا، ويتموَّنون منها، إذا قلَّ زادهم، وهي بهذه المثابة تهدِّد بلاد الشام الواقعة تحت رحمتها، فإذا لم يطمئن المسلمون على مسالمة هذه الجزيرة لهم، وخضوعها لإرادتهم، فإن وجودها كذلك سيظلُّ شوكة في ظهورهم، وسهماً مسدَّداً في صدورهم، ولكنّ سكّان الجزيرة لم يستسلموا للغزاة، ولم يفتحوا لهم بلادهم، بل تحصّنوا في العاصمة، ولم يخرجوا لمواجهة المسلمين، وكان أهل الجزيرة ينتظرون تقدّم الروم للدّفاع عنهم، وصدّ
_________
(1) المصدر نفسه ص356.
(2) البداية والنهاية [7/ 159].
(3) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين ص357 ..
(4) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين ص357.(1/55)
هجوم المسلمين عليها (1).
5 ـ الاستسلام وطلب الصلح:
تقدّم المسلمون إلى عاصمة قبرص ((قسطنطينا)) وحاصروها وما هي إلا ساعات حتى طلب الناس الصلح، وقدّموا للمسلمين شروطاً، واشترط عليهم المسلمين شروطاً، وأما شرط أهل قبرص، فكان هي طلبهم ألا يشترط عليهم المسلمون شروطاً تورّطهم مع الروم، لأنهم لا قبل لهم بهم، ولا قدرة لهم على قتالهم، وأمّا شروط المسلمين، فهي:
أـ ألا يدافع المسلمون عن الجزيرة، إذا هاجم سكانها محاربون.
ب ـ أن يدلّ سكان الجزيرة المسلمين على تحركات عدوّهم من الروم.
ج ـ أن يدفع سكان الجزيرة للمسلمين سبعة آلاف ومئتي دينار في كل عام.
د ـ أن يكون طريق المسلمين إلى عدوّهم عليهم.
س ـ ألا يساعدوا الروم إذا حاولوا غزو بلاد المسلمين، ولا يُطلعوهم على أسرارهم (2).
وعاد المسلمون إلى بلاد الشام، وأثبتت هذه الحملة قدرة المسلمين على خوض غمار المعارك البحرية بجدارة وأعطت المسلمين فرصة المران على الدخول في معارك من هذا النوع مع العدوّ المتربص بهم سواء بالهجوم على بلاد الشام، أو على الإسكندرية (3)
6 ـ عبد الله بن قيس قائد الأسطول الإسلامي في الشام:
استعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر عبد الله بن قيس الجاسيّ حليف بني فزارة فغزا خمسين غزاة ما بين شاتية، وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد، ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه الله العافية في جنده، وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتّى إذا أراد أن يصيبه وحده، خرج في قاربه طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم وعليه سُؤَّال يعترّون (4) بذلك المكان، فتصدق عليهم،
_________
(1) المصدر نفسه صـ357.
(2) تاريخ الطبري (5/ 261).
(3) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين صـ 358، 359.
(4) يعترّون: يتعرضون للناس دون أن يسألهم.(1/56)
فرجعت امرأة من السُّوَّال إلى قريتها، فقالت للرجال: هل لكم في عبد الله بن قيس؟ قالوا وأين هو؟ قالت: في المرفأ، قالوا: أي عدوّة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبّختهم، وقالت: أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد فساروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه، وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه، فجاؤوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه، ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله: وا عبد الله ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان: وكيف كان يقول؟ قالت: الغمرات ثم ينجلينا وأصيب في المسلمين يومئذ، وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس: الجاسيِّ (1)، وقيل لتلك المرأة التي استشارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كان كالتَّاجر، فلمّا سألته، أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبد الله بن قيس (2).
وهكذا حينما أراد الله تعالى أن يمنىَّ بالشهادة على هذا القائد العظيم أتيحت له وهو في وضع لا يضرُّ بسمعة المسلمين البحرية، حيث كان وحده يتطلع ويراقب الأعداء فكانت تلك الكائنة الغريبة التي أبصرت غورها تلك المرأة الَّذكَّية من نساء تلك البلاد، حيث رأت ذلك الرَّجل يظهر من مظاهر الخارجَّية بمظهر التُّجار العاديين، ولكنَّه يعطي عطاء الملوك، فلقد رأت فيه أمارات السِّيادة مع بساطة مظهره فعرفت: أنه قائد المسلمين، الذي دوّخ المحاربين في تلك البلاد، وهكذا كانت نسمات ذلك القائد وسخاؤه البارز حتى مع غير المسلمين في كشف أمره، ومعرفة مركزه، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فيتمَّ بذلك الهجوم عليه، وظفرْ بالشهادة، وهكذا يضرب قادة المسلمين المُثُل العليا بأنفسهم، لتتمَّ الإنجازات الكبرى على أيديهم، وليكونوا قدوة صالحة لمن يخلفهم، فقد قام هذا القائد الملهم بهمّة الاستطلاع بنفسه، ولم
يكل الأمر إلى جنوده، وفي انفراده بهذه المهمة مظنة للتورط مع الأعداء، والهلاك على أيديهم، ولكنه مع ذلك يغامر بنفسه، فيتولىَّ هذه المهمة، ثمّ نجده يتخلفَّ بأخلاق الإسلام العليا حتى مع نساء الأعداء، وضعفتهم فيمدُ لهم يد الحنان، والعطف، ويسخو لهم بالمال الذي هو من أعزِّ ما يملك الناس، ونجدة قبل ذلك مع جنده رفيقاً صبوراً، ولا معنِّفاً،
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 260).
(2) تاريخ الطبري (5/ 260).(1/57)
ولا مستكبراً، وإذا ادلهمِّت الخطوب، تفان بانكشاف الغّمة، ولم يجأ إلى لوم أصحابه، وتعنيفهم، ولم يهيمن عليه الارتباك الذي يفسد العمل، ويعجِّل بالخلل، والفوضى، وأمَّا خليفته سفيان الأزديَّ، فلعلهَّ وقع فيما وقع فيه من الإرتباك، والاشتغال بطرح اللائمة على جنده لكونه حديث العهد بأمور القيادة، ولكن مَّما يُحفظ له: أنَّه لما نبَّهته جارية عبد الله بن قيس إلى ذلك الأسلوب الحكيم الذي كان أميره ينتهبه في القيادة سارع في التأسي به في ذلك، ولم يحمله التكبُّر على عدم سماع كلمة الحقِّ، وإن صدرت من
جارية مغمورة. وهذا مثل من أمثلة التجرد من هوى النفس، هذا الخلق العظيم الذي كان غالباً في الجيل الأوَّل، وبه تمّ إنجاز الفتوحات العظيمة، ونجاح الولاة، والقادة في إدارة أمور الأمة، فلله درُّ أبناء ذلك الجيل: ما أبلغ ذكرهم وما أبعد نحورهم! وما أعظم وطأتهم في الأرض على الجبارين أو ما أعذب لمساتهم في الأرض عل المستضعفين والمساكين (1).
7ـ القبارصة ينقضون الصلح:
في سنة أثنتين وثلاثين هجرَّية، وقع سكان قبرص تحت ضغط رومي عنيف أجبرهم على إمداد جيش الرُّوم بالسُّفن، ليغزوا بها بلاد المسلمين، وبذلك يكون القبرصيون قد أخلوُّا بشروط الصلح، وعلم معاوية بخيانة أهل قبرص، فعزم على الاستيلاء على الجزيرة، ووضعها تحت سلطان المسلمين، فقد هاجم المسلمون الجزيرة هجوماً عنيفاً، فقتلوا، وأسروا وسلبوا، وهجم عليها جيش معاوية من جهة، وعبد الله بن سعد من الجانب الآخر، فقتلوا خلقاً كثيراً، وسبوا سبياً كثيراً، وغنموا مالا جزيلاً (2)، وتحت ضغط القوات الإسلامية اضطر حاكم قبرص أن يستسلم للفاتحين ويلتمس منهم الصلح، فأقرهم معاوية على صلحهم الأول (3)، وخشي معاوية أن يتركهم هذه المرة بغير جيش يرابط في الجزيرة، فيحميها من غارات الأعداء، ويضبط الأمن فيها حتى لا تتمرد على المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألفاً من الجنود، ونقل إليهم جماعة من بعلبك، وبنى هناك مدينة، وأقام فيها مسجداً، وأجرى معاوية على الجنود أرزاقهم، وظلّ الحال على
_________
(1) التاريخ الإسلامي (12/ 402).
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين ص 359 ـ 360.
(3) البلاذري ص 158.(1/58)
ذلك، الجزيرة هادئة والمسلمون آمنون من
هجمات الروم المفاجئة، ولاحظ المسلمون: أنّ أهل قبرص ليس فيهم قدرات عسكرية، وهم مستضعفون أمام من يغزوهم، وأحس المسلمون: أن الروم يغلبونهم على أمرهم، ويسخّرونهم لمصالحهم فرأوا أن من حقهم عليهم أن يحموهم من ظلم الروم، وأن يمنعوهم من تسلطّ البيزنطيين وقال: إسماعيل بن عيّاش: أهل قبرص أذلاء مقهورون ويغلبهم الروم على أنفسهم، ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم، ونحميهم (1).
8 ـ ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه:
وقد جاء في سياق هذه الغزوة المذكورة خبر أبي الدرداء رضي الله عنه حينما نظر إلى سبي الأعداء فبكى، ثمّ قال: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه، فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمن ناوأهم، فلما تركوا أمر الله ـ عز وجلّ ـ وعصوه، صاروا إلى ما ترى (2).
وجاء في روايةٍ: فقال له جبير بن نفير أتبكي وهذا يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك: إن هذه كانت أمّة قاهرة لهم ملك، فلما ضيّعوا أمر الله، صيرّهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السّبي، فليس لله فيهم حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى، إذا تركوا أمره (3). إن ما تفوّه به أبو الدرداء، يعتبر مثلاً للبصيرة النافذة، والفقه في أمر الله تعالى، فهذا الصحابي الجليل يبكي حسرة على هؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم، فلم ينقادوا لدعوة الحق، فباؤوا بهذا المصير المؤلم، حيث تحولوا من الملك، والعزة إلى الاستسلام والذّلة، لإصرارهم على لزوم الباطل، والتكبر على الخضوع لدعوة الحق، ولو أنهم عقلوا، وتدبّروا لكان في دخولهم في الإسلام بقاء ملكهم، وعمران ديارهم، والظفر بحماية دولة الإسلام، وإن هذا التفكير العميق من أبي الدرداء مظهرٌ من مظاهر الرّحمة، والعطف، تفتحت عنه نفسه الزكية، فتشكل ذلك في الظاهر على هيئة دموع تتحدّر من عيني هذا الرجل العظيم، ليعبّر عمّا يجول في نفسه من نظرات الحنان، والرّحمة، والأسى على مصير تلك الأمة التي
_________
(1) جولة تاريخية ص 361.
(2) التاريخ الإسلامي (12/ 396).
(3) البداية والنهاية (7/ 159).(1/59)
اجتمع البقاء على الضلال، والمآل السيء بزوال الملك، والوقوع في الذل والهوان، وإنّه بقدر ما يفرح المسلم بدخول الناس في الإسلام، فإنه يحزن من رؤية الكافرين وهم يعيشون في ضلال مع إدراكه ما ينتظرهم من العذاب الأليم المؤبد في الآخرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك وقوعهم في الأسر، والتشرّد، وتعرضهم للقتل في الحياة الدنيا (1)؟
9 ـ معاوية يوليّ عبادة بن الصامت رضي الله عنهما على قسمة غنائم قبرص:
قال عبادة بن الصامت لمعاوية رضي الله عنهما: شهدت رسول الله عليه وسلم في غزوة حنين الناس يكلمونه في الغنائم، فأخذ وبرة من بعير، وقال: مالي مما أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا
الخمس، والخمس مردود فيكم (2). فأتق الله يا معاوية! واقسم الغنائم على وجهها، ولا تعطي منها أحداً أكثر من حقه! فقال له معاوية: قد وليتك قسمة الغنائم، ليس أحد بالشّام أفضل منك، ولا أعلم، فاقسمها بين أهلها، واتق الله فيها، فقسمها عبادة بين أهلها، وأعانه أبو الدرداء، وأبو أمامة (3).
وعبادة بن الصامت رضي الله عنه من مؤسسي المدرسة الشامية فقد وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين فولي قضاءها، واستقر به المقام فيها، فكان أول من تولى قضاء فلسطين، وكان أيضا يعلم أهلها القرآن وظل على هذا النحو إلى أن مات بها (4)، وقد أسهم عبادة رضي الله بنصيب كبير في تنفيذ سياسة الخلافة الراشدة العلمية والتربوية والجهادية، وكان رضي الله عنه من أهل الزهد والخشونة، فعندما وصل إلى حمص قال لأهلها: ألا أن الدنيا عرض حاضر، وإن الآخرة وعد صادق، ألا أن للدنيا بنين وإن للآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها (5).
10 ـ حقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية وموقف عثمان رضي الله عنهم منه:
إن مبغضي عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا يشنّعون عليه أنه نفى أبا ذر رضي الله عنه إلى الربذة وزعم بعض المؤرخين: أن ابن السوداء عبد الله بن سبأ
_________
(1) التاريخ الإسلامي (12/ 397).
(2) البداية والنهاية (4/ 353).
(3) الرياض النضرة ص 561.
(4) عبادة بن الصامت، صحابي كبير وفاتح مجاهد ص 84.
(5) الاكتفاء الكلاعي (3/ 310).(1/60)
لقي أبا ذر في الشام، وأوحى إليه بمذهب القناعة، والزهد، ومواساة الفقراء، ووجوب أنفاق المال الزائد عن الحاجة، وجعله يعيب معاوية، فأخذه عبادة بن الصامت إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث أليك أبا ذر. فأخرج معاوية أبا ذر من الشام (1)، وقد حاول أحمد أمين أن يوجد شبهاً بين رأي أبي ذر، ورأي مزدك الفارسي، وقال بأن وجه الشبه جاء من أن ابن سبأ كان في اليمن وطوّف في العراق، وكان الفرس في اليمن، والعراق قبل الإسلام، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقَّى هذه الفكرة من مزدكية العراق، واعتنقها أبو ذرّ على حسن النية في اعتقادها (2). وكلَّ ما قيل في قصَّة أبي ذرّ، ممّا يُشَّنع به على عثمان باطل لا يُبنى على رواية صحيحة، وكلُّ ما قيل حول اتصال أبي ذر رضي الله عنه بإبن السَّوداء باطل لا محالة (3). والصحيح: أن أبي ذرّ رضي الله عنه نزل في الربذة باختياره، وأنَّ ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذرّ في فهم آية خالف فيه الصَّحابة، وأصرَّ على رأيه، فلم يوافقه أحد عليه، فطلب أن ينزل بالربذة (4)، التي كان يغدو إليها زمن
النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن نزوله بها نفياً قصرياً، أو إقامة جبرية، ولم يأمره الخليفة بالرّجوع عن رأيه، لأن له وجهاً مقبولاً، لكنَّه لا يجب على المسلمين الأخذ به (5).
وأصحُّ ما روي في قصة أبي ذرّ رضي الله عنه ما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب، قال: مررت بالرَّبذة، فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشَّام، فاختلفت أنا ومعاوية في ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم)) (التوبة، آية: 34) قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ الناس حتَّى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليَّ حبشيّاً، لسمعت وأطعت (6). وقد أشار هذا الأثر إلى أمور مهمة منها:
_________
(1) المدينة المنوّرة فجر الإسلام (2/ 216، 217).
(2) فجر الإسلام صـ 110.
(3) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 217).
(4) كانت منزلاً في الطريق بين العراق ومكة.
(5) المدينة المنورة، فجر الإسلام (2/ 217).
(6) البخاري، ك الزكاة رقم 1406.(1/61)
أـ سأله زيد بن وهب، ليتحقَّق ممَّا اشاعه مبغضون عثمان: هل نفاه عثمان أو اختار أبو ذرّ المكان؟ فجاء سياق الكلام: أنه خرج بعد أن كثر النّاس عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشَّام، وليس في نص الحديث: أنَّ عثمان أمره بالذهاب إلى الربذَّة، بل اختارها بنفسه، ويؤيد هذا ما ذكره ابن حجر عن عبد الله بن الصَّامت قال: دخلت على أبي ذرِّ عند عثمان، فحسر رأسه، فقال: والله ما أنا منهم ـ يعني: الخوارج ـ فقال: إنَّما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، إئذن لي بالرَّبذة. قال: نعم (1).
ب ـ قوله: كنت بالشَّام: بيَّن السَّبب في سكناه الشَّام، ما أخرجه أبو يعلي عن طريق زيد بن وهب: حدَّثني أبو ذرَّ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ البناء ـ أي المدينة ـ سَلْعَاً، فارتحل إلى الشَّام. فلمَّا بلغ البناء سلعاً، قدمت الشام فسكنت فيها (2).
جـ ـ إنَّ قصة أبي ذرِّ في المال جاء من اجتهاده في فهم الآية الكريمة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)) (التوبة، آية: 34 ـ 35). وروى البخاري عن أبي ذرِّ ما يدل على أنَّه فسرَّ الوعيد ((يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا)) الآية، وكان يخوِّف النَّاس به، فعن الأحنف بن قيس، قال: جلستُ إلى ملأ من قريش في مسجد المدينة، فجاء رجل خَشِن الشَّعر، والثّياب، والهيئة، حتى قام عليهم، فسلَّم، ثم
قال: بشرِّ الكانزين بَرضفٍ (3) يُحمى عليه في نار جهنَّم ثم يوضع على حلمة ثَدْي أحدهم، حتَّى يخرج من نُفضي كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل (4). ثمَّ ولّى فجلس في سارية، وتبعته، وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت قال: إنَّهم لا يعقلون شيئاً. واستدلَّ أبو ذرّ
_________
(1) فتح الباري (3/ 274).
(2) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 219).
(3) الرَّضف: الحجارة المحمَّاة، واحدها: رضفة.
(4) نفض: العظم الدقيق الذي على طرف الكتف: يتزلزل: يضطرب.(1/62)
رضي الله عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحبُّ أنَّ لي مثل أحد ذهباً، أنفقه كُلَّه إلا ثلاث دنانير (1).
د ـ وقد خالف جمهور الصحابة أبا ذرّ، وحملوا الوعيد على مانعي الزّكاة واستدلوا على ذلك بالحديث، الذي رواه أبو سعيد الخدريُّ، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس دون خمس ذَوْدٍ صدقة وليس وفيما دون خمسة أو ست صدقة (2). وقال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث: أنَّ ما زاد على الخمس ففيه صدقة، ومقتضاه: أنَّ كلَّ ما أخرجت منه الصَّدقة، فلا وعيد على صاحبه، فلا سمَّى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزاً (3)، هذا وقد فصلت في موضع أبي ذرّ وخلافه مع معاوية رضي الله عنهما في كتابي عثمان بن عفان رضي الله عنه وأثبت بالحجج والأدلة والبراهين بأن عثمان رضي الله عنه لم ينف أبا ذرِّ رضي الله عنه، إنما استأذنه، فأذن له ولكنَّ أعداء عثمان رضي الله عنه كانوا يشيعون عليه بأنَّه نفاه، ولذلك لمَّا سأل غالب القطان، الحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذرِّ؟ قال الحسن: لا معاذ الله (4)، وكل ما روي في إنه أنَّ عثمان نفاه إلى الربَّذة فإنه ضعيف الإسناد، لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته للمرويَّات الصحيحة والحسنة، التي تبيِّن أن أبا ذرِّ استأذن للخروج إلى الرّبذة، وأنَّ عثمان أذن له (5)، بل إن عثمان أرسل يطلبه من الشام، ليحاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشام: إنا أرسلنا إليك لخير، لتجاورنا بالمدينة (6). وقال له أيضا: كن عندي، تغدو عليك، وتروح اللقاح (7). أفمن يقول ذلك ينفيه (8). ولم تنصّ على نفيه إلا رواية رواها ابن سعد، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي، وفيه رفض.
فهل تقبل رواية رافضي تتعارض مع الروايات الصحيحة، والحسنة (9)؟ واستغل الرّافضة هذه الحادثة أبشع استغلال، فأشاعوا: أن عثمان رضي الله عنه نفي أبا ذر إلى الربذة، وأن ذلك مما عيب عليه من قبل الخارجين عليه،، أو أنّهم
_________
(1) البخاري: ك الزكاة رقم 1407.
(2) البخاري رقم 1405.
(3) فتح الباري (3/ 272).
(4) تاريخ المدينة، ابن شبَّة صـ 1037، إسناده صحيح.
(5) فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه (1/ 110).
(6) تاريخ المدينة صـ 1036 ـ 1037 إسناده حسن.
(7) الطبقات، لابن سعد (4/ 226 ـ 227)
(8) فتنة مقتل عثمان (1/ 111).
(9) المصدر السابق نفسه.(1/63)
سوّغوا الخروج عليه (1)، وعاب عثمان رضي الله عنه بذلك
ابن المطهّر الحلِّي الشيعي المتوفي سنة 726 هـ، بل زاد: أن عثمان رضي الله عنه ضرب أبا ذرٍّ ضرباً وجيعاً، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رداً جامعاً قوياً (2)، وكان سلف هذه الأمَّة يعلمون هذه الحقيقة، فإنَّه لما قيل للحسن البصريِّ: عثمان أخرج أبا ذرِّ؟ قال: لا، معاذ الله (3). وكان ابن سيرين إذا ذُكر له: أنَّ عثمان رضي الله عنه سيَّر أبا ذرّ، أخذه أمرٌ عظيم، ويقول: هو خرج من نفسه، ولم يسيِّره عثمان (4)، وكما تقدم في الرِّواية الصحيحة الإسناد: أنَّ أبا ذرّ رضي الله عنه لمَّا رأى كثرة النَّاس عليه خشي الفتنة، فذكر ذلك لعثمان كأنه يستأذنه في الخروج، فقال له عثمان رضي الله: إن شئت تنحيت، فكنت قريباً (5). كما أن أبا ذرِّ رضي الله عنه لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بآراء عبد الله بن سبأ اليهوديِّ، وقد أقام بالرَّبذة حتى توفيِّ، ولم يحضر شيئاً مما وقع في الفتن (6)، ثمَّ قد روى حديثاً من أحاديث النَّهي عن الدخول في الفتنة (7)، وبعد وفاة أبي ذرِّ رضي الله عنه ضمّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عياله إلى عياله (8)، فرضي الله على جميع الصحابة الأبرار، الطيبين الأطهار
11ـ اتهام عثمان رضي الله عنه بإعطاء أقاربه من بيت المال:
اتُّهم عثمان رضي الله عنه من قبل الغوغاء، والخوارج بإسرافه في بيت المال، وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتِِّهام حملة دعائية باطلة قادها أعداء الإسلام ضدَّه، وتسرَّبت في كتب التاريخ، وتعامل معها بعض المفكِّرين، والمؤرخين على كونها حقائق، وهي باطلة لم تثبت، لأنها مختلقة، والذي ثبت من إعطائه أقاربه أمور تعد مناقبه، لا من المثالب (9) فيه. إن عثمان رضي الله عنه كان ذا ثروة عظيمة، وكان وصولا للرحم (10) يصلهم بصلات كثيرة وفيرة، فنقم
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 111).
(2) منهاج السنة لابن تيمية (6/ 183).
(3) تاريخ المدينة (1037) إسناده صحيح.
(4) المصدر السابق.
(5) البخاري، ك: الزَّكاة رقم 1406.
(6) أحداث الفتنة الأولى بين الصحابة في ضوء قواعد الجرح والتعديل ص174
(7) المصدر نفسه ص174
(8) تاريخ الطبري (5/ 314)
(9) عثمان بن عفان للصَّلاَّبي ص148
(10) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب ص82(1/64)
عليه أولئك الأشرار، وقالوا بأنَّه إنما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا: إني أحبُّ أهل بيتي، وأعطيهم .. فأمّا حبِّي لهم؛ فإنَّه لم يمل معهم إلى جور، بل أحمل الحقوق عليهم .. وأما إعطاؤهم، فإني إنّما أعطيهم من مالي، ولا استحلُّ أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرَّعية من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي (1)، وفني عمري، وودَّعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا (2)؟ وكان عثمان قد قسم ماله، وأرضه في بني أميه، وجعل ولده كبعض مَنْ يعطي، فبدأ ببني أبي
العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة الآف، فأخذوا مئة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص، وفي بني العيص، وفي بني حرب (3)، فهذه النصوص وغيرها وممَّا اشتهر عنه، وما صحَّ من الأحاديث في فضائله الجمّة تدل على ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال، وإنفاق أكثره على أقاربه، وقصوره حكايات بدون زمام، ولا خطام (4).
إن سيرة عثمان رضي الله عنه في أقاربه تمثِّل جانباً من جوانب الإسلام الكريمة الرحيمة، لقوله تعالى: ((وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)) (الإسراء، الآية:26).كما أنَّها تمثِّل جانباً عملياً من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد رأى عثمان رضي الله عنه من رسول الله وعلم من حاله ما لم ير، أو يعلم غيره من منتقديه وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة النَّاس، وكان ممَّا رأى شدَّة حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاربه وبرِّه لهم، وإحسانه إليهم، وقد أعطى عمَّه العَّباس ما لم يعط أحداً عندما ورد عليه مال البحرين (5)، ولعثمان وسائر المؤمنين في رسول الله أعظم القدوة (6)، وقد ردَّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ على من اتَّهم عثمان بتفضيله أهله
_________
(1) جاوزت أعمارهم.
(2) تاريخ الطبري (5/ 356).
(3) تاريخ الطبري (5/ 356).
(4) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب صـ83.
(5) البخاري، ك الجزية.
(6) البداية والنهاية (7/ 201).(1/65)
بالأموال الكثيرة من بيت المال فقال: وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتَّى إنَّه دفع إلى أربعمائة نفر من قريش زوَّجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف وألف دينارـ مليون دينارـ فالجواب يقال: أين النقل الثابت بهذا؟. نعم كان يعطي أقاربه، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان يحسن إلى جميع المسلمين، وأمَّا هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت، ثم يقال ثانياً: هذا من الكذب البيِّن، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ (1).
12ـ هل عين عثمان رضي الله عنه أحداً من أقربائه على حساب المسلمين؟
لم يكن عثمان رضي الله عنه عين أحداً من أقاربه على حساب المسلمين ولو أراد أن يجامل أحداً من أقاربه على حساب المسلمين لكان ربيبه محمد بن أبي حذيفة أولى النَّاس بهذه المجاملة، ولكنَّ الخليفة أبى أن يوليه شيئاً ليس كفؤاً له بقوله: يابنيَّ لو كنت رضاً ثمّ سألتني العمل، لاستعملتك، ولكن لست (2) هناك. ولم يكن ذلك كراهية له، ولا نفوراً منه، وإلا لما جهَّزه من عنده، وحمله، وأعطاه حين أستأذن في الخروج إلى مصر (3) وأمّا استعمال الأحداث فكان لعثمان رضي الله عنه في رسول الله أسوة حسنة فقد جهَّز جيشاً لغزو الرُّوم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد، رضي الله عنهما (4)، وعندما توفيِّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم تمسَّك الصديق رضي الله باء نفاذ هذا الجيش،
لكنَّ بعض الصحابة رغبوا في تغيير أسامة بقائد أحسن منه، فكلَّموا عمر في ذلك ليكلمِّ أبا بكر، فغضب أبو بكر لمَّا سمع هذه المقالة، وقال لعمر: يا عمر استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أعزله (5). ويجيب عثمان بنفسه على هذه المآخذ أمام الملاء من الصحابة بقوله: ولم
_________
(1) منهاج السنة (3/ 190).
(2) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 247).
(3) المصدر السابق (1/ 247) تاريخ الطبري (5/ 416).
(4) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 247) تاريخ الطبري (5/ 416).
(5) تاريخ الطبري (5/ 416).(1/66)
أستعمل إلا مجتمعاً، محتلماً، مرضياً، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنهم، وهؤلاء أهل بلدهم وقد ولىَّ من قبلي أحدث منهم، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا قيل لي في استعماله لأسامة، أكذلك؟ قالوا: نعم يعيبون للنَّاس مالا يفسرون (1). ويقول عليّ رضي الله عنه: ولا يولِّ أي: عثمان ـ إلا رجلاً سويا، عدلا، وقد ولىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد على مكّة وهو ابن عشرين سنة (2)
ولم يكن ولاة الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنه جاهلين بأمور الشَّرع، ولم يكونوا من المفرِّطين في الدِّين، وإذا كانت لهم ذنوب، فلهم حسنات كثيرة، ومع ذلك فإن سيئات وذنوب هؤلاء تعود عليهم ولم يكن لها تأثير في المجتمع المسلم، وقد تتبعنا آثار هؤلاء الولاة أيَّام ولايتهم، ووجدناها عظيمة الفائدة للإسلام والمسلمين، وقد اهتدى على يدي ولاة عثمان مئات الألوف إلى الإسلام، وبسبب فتوحاتهم انضمّ إلى ديار الإسلام أقاليم واسعة، ولو لم يكن عند هؤلاء من الشجاعة، والدّين ما يحثهم على الجهاد، ما قادوا الجيوش إلى الجهاد، وفيه مظنة الهلاك، وفيه ترك الراحة، ومتاع الدنيا وقد تتبعت سيرة هؤلاء الولاة، فوجدت لكل واحد منهم فتحاً، أو فتوحاً في الجهات التي تجاور ولايته، مع مناقب وصفات حسنة تؤهله للقيادة وقد فصلت في كتابي عن عثمان رضي الله عنه في مبحث مستقل حقيقة ولاة عثمان (3) رضي الله عنه.
إن الذي يرجع إلى الصحيح الممحّص من وقائع التاريخ، ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النورين ـ رضوان الله عليهم ـ وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمّة، وسعادتها، فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه عن الجهر بالإعجاب، والفخر كلمّا أمعن في دراسة ذلك من أدوار التاريخ الإسلامي (4).
_________
(1) المصدر السابق (5/ 355).
(2) البداية والنهاية (7/ 178) ..
(3) عثمان بن عفان للصّلاّبي صـ 294.
(4) حاشة المنتقى من منهاج الاعتدال صـ 390(1/67)
إن عثمان رضي الله عنه وولاته انشغلوا بمدافعة الأعداء، وجهادهم، وردّهم، ولم يمنعهم ذلك من توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ومدّ نفوذها في مناطق جديدة، وقد كان للولاة تأثير مباشر في أحداث الفتنة حيث كانت التهمة موجهة إليهم، وأنّهم اعتدوا على الناس، ولكنّنا لم نلمس حوادث معينة يتّضح فيها هذا الاعتداء المزعوم، والمشاع، كما اتُّهم عثمان بتولية أقاربه، وقد
دحضنا تلك الفرية، وهكذا نرى: أنّ عثمان لم يألُ جهداً في نصح الأمة، وفي تولية من يراه أهلاً للولاية، ومع هذا لم يسلم عثمان، وولاته من اتهامات وجهت إليهم من قبل أصحاب الفتنة في حينها، كما أن عثمان رضي الله عنه لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المحقّقة عن عهد عثمان وخصوصاً الباحثين المحدثين الذين يطلقون أحكاماً لا تعتمد على التحقيق، أو على وقائع محددة، يعتمدون فيها على مصادر موثوقة، فقد تورّط الكثير منهم في الرّوايات الضّعيفة، والرافضّية، وبنو أحكاماً باطلة وجائرة في حق الخليفة الرّاشد عثمان بن عفان، مثل طه حسين في كتابه: الفتنة الكبرى، وراضي عبد الرحيم في كتابه: النظام الإداري والحربي، وصبحيّ الصالح في كتابه: النُّظم الإسلامية، ومولوي حسين في كتابه: الإدارة العربية، وصبحي محمصاني في كتابه: تراث الخلفاء الراشدين في الفقه، والقضاء، وتوفيق اليوزبكي في كتابه: دراسات في النظم العربية والإسلامية، ومحمد الملحم في كتابه: تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري، وبدوي عبد اللطيف في كتابه: الاحزاب السياسية في فجر الإسلام، وأنور الرِّفاعي في كتابه: النظم الإسلامية، ومحمد الرّيِّس في كتابه: النظريات السياسية، وعلي حسني الخربوطلي في كتابه: الإسلام والخلافة، وأبي الأعلى المودودي في كتابه الملك والخلافة وسيد قطب في كتابه: العدالة الاجتماعية، وغيرهم (1).
ولقد أكثر المؤرخون من الحديث عن محاباة عثمان أقاربه، وسيطرتهم على أزمة الحكم في عهده، حتّى أثاروا عليه نقمة كثير من الناس، فثاروا ناقمين عليه إطلاقه يد ذوي قرباه في شئون الدولة (2)، وأقارب عثمان الذي ولاهم رضي الله عنه
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 222 إلى 232).
(2) الدولة الأموية المفترى عليها صـ 159.(1/68)
أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، والثاني عبد الله بن أبي السرح، والثالث الوليد بن عقبة، والرّابع سعيد بن العاص، والخامس عبد الله بن عامر، هؤلاء خمسة ولاهم عثمان، وهم من أقاربه، وهذا في زعمهم مطعن عليه، فلو أخذنا إحصائية لوجدنا: أن عدد الولاة في عهد عثمان ستة وعشرون والياً، ألا يصح أن يكون خمسة من بني أمية يستحقون الولاية وبخاصة إذا علمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوليّ بني أمية أكثر من غيرهم؟ علماً بأن هؤلاء الولاة لم يكونوا كلّهم في وقت واحد، بل كان عثمان رضي الله عنه ولىّ الوليد بن عقبة، ثمّ عزله، فولى مكانه سعيد بن العاص، فلم يكونوا خمسة في وقت واحد، ولم يتوفّ عثمان إلا وقد عزل أيضا سعيد بن العاص، فعندما توفي عثمان لم يكن من بني أمية من الولاة ألا ثلاثة وهم معاوية، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط، عزل عثمان الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، ولكنّه عزلهما من أين؟ من الكوفة التي عزل منها عمر سعد بن أبي وقاص، الكوفة التي لم ترض بوالٍ أبداً إذ عزلُ
عثمان رضي الله عنه لأولئك الولاة لا يعتبر مطعناً فيهم، بل مطعن في أهل الشغب في المدينة التي وُلُّوا عليها (1).
إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يُتهم بقرابة منهم أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمّال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس! لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤددّ، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد بن أبي العاص على مكة، وأبا سفيان بن حرب على نجران، وخالد بن سعيد على صدقات بني مدحج، وأبان بن سعيد على بعض السّرايا ثمّ على البحرين فعثمان رضي الله عنه، لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جنسهم، وقبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام، وأقرّه عمر، ثمّ ولىّ عمر بعده أخاه معاوية (2). والسؤال الذي يطرح نفسه أأثبت هؤلاء كفاءتهم أم لا؟ والحقيقة العلمية التي أثبتها في كتابي عن عثمان رضي الله عنه بأن ولاة عثمان أثبتوا كفاءتهم، فالولاة
_________
(1) حقبة من التاريخ صـ 75.
(2) منهاج السنة (3/ 175،176).(1/69)
الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه من أقاربه قد أثبتوا الكفاءة والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان (1)، فمثلاً معاوية رضي الله عنه كانت سيرته مع الرعية في ولايته من خير سير الولاة ممّا جعل النّاس يحبونه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيار أئمتكم ـ حكامكم ـ الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم ـ تدعون لهم ـ ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم (2)،
وقد بين القاضي ابن العربي وأثبت أن رسول الله استكتبه، وأن سند ولايته الأعمال في الدولة الإسلامية لم يكن لأحد قبله، ولم يكن لأحد بعده، حيث أجتمع على توليته: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده خلفاؤه الثلاثة، ثم صالحه وأقرّ له بالخلافة الحسن بن علي بن أبي طالب (3).
13 ـ أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه:
قال الزهري: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة أميراً للمؤمنين، أوّل ستّ سنين منها لم ينقم الناس عليه شيئاً، وإنّه لأحبُّ إلى قريش من عمر بن الخطاب، لأنّ عمر كان شديداً عليهم، أمّا عثمان، فقد لان لهم، وَوَصَلَهم، ثمّ حدثت الفتنة بعد ذلك، وقد سمّى المؤرِّخون المسلمون الأحداث في النِّصف الثاني من ولاية عثمان 30 ـ 35 هـ (الفتنة)، التي أدَّت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه (4)، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر، وعمر، وصدراً من خلافة عثمان، متَّفقين، لا تنازع بينهم، ثم حدثت في أواخر خلافة عثمان أمور، أوجبت نوعاً من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة، والظلم فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، (5) وكان
المجتمع الإسلامي في خلافة الصديق، والفاروق، والنِّصف الأوَّل من خلافة عثمان يتَّصف بالسِّمات الآتية.
أنه في عمومه ـ مجتمع مسلم بكل معنى الإسلام، عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، مطبق الإسلام بجدية واضحة، والتزام ظاهر، وبأقلّ قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في التَّاريخ.
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة (1/ 417).
(2) مسلم، ك الإمارة رقم 65 ..
(3) العواصم من القواصم صـ 82.
(4) طبقات ابن سعد (1/ 39 ـ 47) الخلفاء الرّاشدون للخالدي صـ 112.
(5) مجموع الفتاوي (13/ 20).(1/70)
_ أنه المجتمع الذي تحقَّق فيه أعلى مستوى للمعنى الحقيقيِّ للأمَّة بمعناها الرَّباني، فهي الأمة التي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النظر عن اللغة، والجنس، واللَّون، ومصالح الأرض القريبة، وهذه لم تتحقَّق في التاريخ كما تحقّقت في الأمة الإسلامية.
ـ أنه مجتمع أخلاقيُّ يقوم على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر الدين، وتوجيهاته.
ـ أنه مجتمع جادٌ، مشغول بمعالي الأمور لا بسفاسفها، وليس الجدُّ بالضرورة عبوساً، وصرامة، ولكنه روح تبعث الهمّة في الناس، وتحثُّ على النشاط، والعمل، والحركة.
ـ أنه مجتمع مجنَّد للعمل، في كلِّ اتجاه، تلمس فيه روح الجنديَّة واضحة لا في القتال في سبيل الله فحسب، ولكن في جميع الاتجاهات، فهو معبَّأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدّافعة لبذل النشاط في كلِّ اتجاه (1)
ـ أنه مجتمع متعبِّدُ نلمس فيه روح العبادة واضحة في تصرفاته ليس فقط في أداء الفرائض، والتطوّع بالنَّوافل ابتغاء مرضات الله، ولكن في أداء الأعمال جميعاً والعمل في حسِّه عبادةٌ، يؤديه بروح العبادة (2).
هذه من أهم صفات عهد الخلفاء الراشدين ـ بصفة عامة ـ إلا أن تلك السِّمات كانت أقوى كلمَّا اقتربنا من عهد النبوة وتضعف كلَّما ابتعدنا عن عصر النُّبوة، وقد بدأ التغير على عهد الخلافة الراشدة مع ظهور فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وكان لظهور هذه المحنة العظيمة التي مرت بها الأمة أسباب منها:
أـ الرخاء وأثره في المجتمع: وغنيٌّ عن الإشارة: أنَّ النِّعم، والخيرات، وتلك الواردات من الفتوح سيكون لها أثرها على المجتمع، إذ تجلب الرَّخاء وما يترتَّب عليه من إنشغال النَّاس بالدُّنيا، والافتتان بها، كما أنَّها مادة للتنافس، والبغضاء خاصة بين أولئك الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم، ولم تهذبهم التَّقوى من أعراب البادية، وجفاتها، ومن مسلمة الفتوحات،
وأبناء الأمم المترفة، وقد أدرك
_________
(1) كيف نكتب التاريخ الإسلامي صـ 102.
(2) المصدر نفسه صـ 102.(1/71)
عثمان رضي الله عنه هذه الظاهرة وأنذر بما سيؤول إليه أمر الأمّة من التَّبذُّل والتغيُّر في كتابه الموجه إلى الرّعية: فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاثةٍ فيكم: تكامل النِّعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم للقرآن (1)، وحدث ما توقعه عثمان رضي الله عنه وبدأ التغير أثره يظهر أولاً على أطراف الدّولة الإسلامية ثم أخذ يزحف إلى عاصمة الخلافة، ممّا دفع عثمان رضي الله عنه إلى تذكير المسلمين في خُطَبهِ بضرورة الحذر من التهالك على الدنيا، وحطامها، فكان مما قاله في إحدى خطبه: إنَّ الله إنَّما أعطاكم الدُّنيا، لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها، لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى، وإن الآخرة تبقى، ولا تبطرنَّكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، ...
واحذروا ومن الله الغير، والزموا جماعتكم، لا تصيروا أحزاباً (2)، ثم قرأ: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران، آية: 103 ـ 104).
وفي مثل هذه الظروف، والخيرات، فاضت الدُّنيا على المسلمين وتفرّغ الناس بعد أن فتحوا الأقاليم، واطمأنُّوا فأخذوا ينقمون على خليفتهم (3). ومن هنا يُعلم أثر الرخاء في تحريك الفتنة، ومن هنا أيضاً يمكن فهم مقالة عثمان رضي اله عنه لعبد الرَّحمن بن ربيعة ـ له صحبة ـ وهو على الباب (4): إن الرَّعية قد أبطر كثيراً منهم البطنة، فقصِّر بهم، ولا تقتحم بالمسلمين، فإنِّي خاشٍ أن يبتلوا (5).
ب ـ طبيعة التحول الإجتماعيِّ في عهد عثمان رضي الله عنه:
حدثت تغيران إجتماعية عميقة، ظلَّت تعمل في صمت، وقوة لا يلحظها كثير من الناس، حتى ظهرت على ذلك الشكل العنيف المتفجِّر بدءاً من النِّصف الثاني من خلافة عثمان
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 245).
(2) أحداث وأحاديث الهرج ص567
(3) تحقيق مواقف الصحابة في التنة (1/ 362).
(4) المقصود بالباب: منطقة في جهة أذربيجان معجم البلدان (1/ 303).
(5) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 362).(1/72)
بلغت قمّة فورانها في التمرُّ الذي أدَّى إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه (1)، ولما توسَّعت الدولة الإسلامية عبر حركة الفتوح، حصل تغيُّر في تركيبة المجتمع والاختلالات في نسيجه، لأنَّ هذه الدَّولة بتوسُّعها المكانِّي، والبشريِّ، ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة من أجناس، وألوان ولغات، وثقافات، وعادات، ونظم، وأفكار،
ومعتقدات، وفنون أدبية، وعمرانية، ومظاهر، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة، وخروقات غير منتظمة، كما صيَّرت المجتمع غير متجانس في نسيجه التَّركيبيِّ، وبالذات في الأمصار الكبرى المؤثِّرة: البصرة، الكوفة، والشّام، ومصر، والمدينة ومكة، فقد كانت الأمصار الكبيرة ربموقعها وأهمينهار تدفع لجيش الفتوح، وتستقيلها وهي عائدة، وقد نقص عددها بالموت والقتل، وتستقبل بدلا عنهم أو أكثر منهم أعداداً وفيرة من أبناء المناطق المفتوحة، فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر، وكان أكثرهم من الفرس، أو النَّصارى العرب، أو غيرهم، أو من اليهود (2)، وأكثر سكان هذه الأمصار، وكان أغلب هؤلاء من القبائل العربَّية من جنوبها، وشمالها، وشرقها، والذين لم يكونوا ـ عادة ـ من الصَّحابة، وبمعنى أدق: ليسوا ممَّن تلقَّوا التَّربية الكافية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على أيدي الجيل الأوَّل من الصحابة، إمَّا لانشغالهم بالفتوح، أو لقلة الصحابة، وقد حصلت تغيراتٌ في نسيج المجتمع البشريِّ المكوَّن من الجيل السَّابقين، وسكّان البلاد المفتوحة، والأعراب، ومن سبقت لهم ردَّة، واليهود، والنَّصارى وفي تكوين نسيج المجتمع الثَّقافي، وفي بسطة عيش المجتمع، وفي ظهور لون جديد من الانحرافات،
وفي قبول الشائعات (3)
ث ـ ظهور جيل جديد: فقد حدث في المجتمع تغيُّر أكبر، ذلك: أن جيلا جديداً من الناس ظهر، وأخذ يحتل مكانه في المجتمع وهو غير جيل الصحابة، جيل يعيش في العصر غير الذي كانوا يعيشون فيه، ويتَّصف بما لا يتَّصفون به، فهو جيل (4)، يعتبر في مجموعه أقلَّ من الجيل الأوَّل الذي حمل على كتفه عبء بناء الدّولة، وإقامتها، فقد تمَّيز الجيل الأوَّل من المسلمين بقوَّة الإيمان، والفهم السَّليم
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها عليها صـ 166.
(2) دراسات في عهد النبوة ص379
(3) المصدر السابق نفسه ص380
(4) الدولة الأموية، يوسف العش ص132(1/73)
لجوهر العقيدة الإسلامَّية، والاستعداد التّام، لإخضاع النَّفس لنظام الإسلام المتمثلَّ في القرآن والسُّنَّة، وكانت هذه الميِّزات أقل ظهوراً في الجيل الجديد الذي وُجد نتيجة للفتوحات الواسعة، وظهرت فيه المطامع الفرديَّة، وبُعثت فيه العصبية للأجناس، والأقوام، وبعضهم يحملون رواسب كثيرة من رواسب الجاهليَّة التي كانوا عليها ولم ينالوا من التربية الإسلامية على العقيدة الصحيحة السَّليمة مثل ما نال الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة رضي الله عنهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكثرتهم، وانشغال الفاتحين بالحروب والفتوحات الجديدة (1)، فالصَّحابة كانوا أقلَّ فتناً من سائر من بعدهم، فإنَّه كلما تأخَّر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف (2)، ووجد دعاة الفتنة في المنحرفين من الجيل الجديد بغيتهم.
ج ـ استعداد المجتمع لقبول الشائعات:
ندرك من خلال هذا الخليط غير المتجانس في
نسيج المجتمع: أنه صار مهيَّئاً للهزَّات، مستعدَّاً للاضطراب، قابلاً لتلقِّي الإذاعات، والأقاويل والشائعات (3)، ولهذا لما كان الناس في خلافة أبي بكر وعمر ـ أقرب عهداً بالرِّسالة، وأعظم إيماناً، وصلاحاً، وأئمتهم أقوم بالواجب، وأثبت في الطمأنينة لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسط، أي: النفوس المطمئنة (4)، ولما كان في آخر خلافة عثمان، وخلافة عليَّ، كثر: ـ أهل النفس اللَّوَّامة التي تخلط عملاً صالحاً، وآخر سيئاً ـ فصار فيهم شهوة، وشبهة مع الإيمان، والدِّين، وصار ذلك في بعض الولاة، وبعض الرِّعايا، ثمَّ كثر هذا القسم، الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدَّم من عدم تمحيص التَّقوى، والطَّاعة في الطَّرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى، والمعصية في الطَّرفين، وكل منهم متأوِّلٌ وأنه يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، وأنَّه مع الحقِّ، والعذل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه من الظنِّ، وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحقِّ من الأخرى (5)، ويوضِّح هذا الواقع بدقة أكثر ذلك الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وأحد أتباعه، قال الرَّجل: ما بال
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 356)
(2) ذو النورين عثمان بن عفان، مال الله صـ 99.
(3) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة صـ 382.
(4) مجموع الفتاوي (28/ 148).
(5) المصدر نفسه (28/ 149).(1/74)
المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر، وعمر؟ قال علي: لأنَّ أبا بكر، وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم والٍ على مثلك (1)، وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفان مدركاً لما يدور في وسط المجتمع حيث قال في رسالته إلى الأمراء: أمّا بعد، فإن الرَّعَّية قد طعنت في الانتشار، ونزعت إلى الشَّره، وأَعْدّاها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء مسرعة، وضغائن محمولة، يوشك أن تنفر، فَتُغيَّر (2).
خ ـ مجيء عثمان بعد عمر، رضي الله عنهما:
كان مجيء عثمان رضي الله عنه مباشرة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختلاف الطبع بينهما مؤدِّياً إلى تغيُّر أسلوبهما في معاملة الرَّعية، فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه، ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعاً وأرقَّ في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه، أو يأخذ النّاس بما يأخذ به عمر حتّى يقول عثمان لنفسه: يرحم الله عمر: ومن يطيق ما كان عمر يطيق (3)؟! لكن النَّاس، وإن رغبوا في الشَّوط الأوَّل من خلافته، لأنَّه لان معهم، وكان رضي الله عنهم شديداً عليهم حتَّى أصبحت محبَّته مضرب المثل، فقد أنكروا عليه بعد ذلك، ويرجع هذا إلى نشأة عثمان في لطفه، ولين عريكته، ورقة طبعه ودماثة خلقه، ممّا كان له بعض الأثر في مظاهر الفرق عند الأحداث بين عهده، وعهد سلفه عمر بن الخطَّاب، وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: أتدرون ما جرّأكم عليَّ؟ ما جرَّأكم عليَّ إلا
حلمي (4)، وحين بدأت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجَّة في ردّه على المآخذ التي أخذوها عليه أمام الملأ من الصَّحابة والنّاس أبى المسلمون إلا قتلهم وأبى عثمان إلا تركهم، لحلمه، ووداعته قائلاً: بل نعفو، ونقبل، ولنصبرهم بجهدها، ولا نحادّ أحداً حتى يركب حدّاً، أ, يبدي كفراً (5).
ح ـ خروج كبار الصَّحابة من المدينة:
كان عمر رضي الله عنه قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن، وأجلٍ، فشكوه، فبلغه، فقام،
_________
(1) مقدمة ابن خلدون صـ189.
(2) التمهيد والبيان صـ 64.
(3) تاريخ الطبري (5/ 418).
(4) المصدر نفسه (5/ 250).
(5) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 364).(1/75)
فقال: ألا أنِّي قد سننت الإسلام سَنُّ البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثَنِيّاً، ثمّ رباعيّاً، ثم سدسيّاً، ثمّ بازلا (1)، فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإنَّ الإسلام قد نَزَل، ألا وإنَّ قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معوناتٍ دون عباده، ألا فأمّا وابن الخطاب حيٌّ فلا، إني قائم دون شِعب الحرَّة، آخذ بحلاقيم (2) قريش، وَحُجَزِها أن يتهافتوا في النَّار (3)، لقد كان عمر يخاف على هؤلاء الصَّحابة من انتشارهم في البلاد المفتوحة، وتوسُّعهم في القطاع والضِّياع فكان يأتيه الرَّجل، من المهاجرين، وهو ممَّن حبس في المدينة، فيستأذنه في الخروج، فيجيبه عمر: لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدُّنيا، ولا تراك (4)، وأمَّا عثمان فقد سمح لهم بالخروج، ولان معهم.
س ـ العصبية الجاهلية:
يقول ابن خلدون: لما استكمل الفتح، واستكمل للملَّة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة، والكوفة، والشّام ومصر، وكان المختصُّون بصحبة الرَّسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه، وآدابه: المهاجرين والأنصار، وقريش، وأهل الحجاز، ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم، وأمَّا سائر العرب من بني بكر بن وائل، وعبد القيس، وسائر ربيعة، والأزد، وكنده، وتميم، وقضاعة، وغيرهم فلم يكونوا في تلك الصحبة بمكان إلا قليل منهم. وكانت لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السَّابقة، ومعرفة حقِّهم، وما كانوا فيه من الذهول، والدَّهش لأمر النٌّبوّة، وتردُّد الوحي، وتنزل الملائكة، فلمَّا انحصر ذلك العباب، وتنوسي الحال بعض الشَّيء، وذل العدوُّ، واستفحل الملك، كانت عروق الجاهليَّة تنبض، ووجدوا الرِّياسة عليهم من المهاجرين، والأنصار، وقريش، وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق ذلك في أيَّام عثمان، فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللَّحظات، والخطوات، والاستبطاء عليهم بالطاعات، والتَّجنِّي بسؤال الاستبداد منهم، والعزل ويفيضون في النّكير
على عثمان، وفشت المقالة في ذلك في أتباعهم، وتناولوا بالظُّلم في جهاتهم، وانتهت
_________
(1) البازل: الذي انشق نابه بدخوله في التّاسعة.
(2) الحلاقيم: جمع حلقوم.
(3) تاريخ الطبري (5/ 413).
(4) المصدر نفسه (5/ 414).(1/76)
الأخبار بذلك إلى الصَّحابة بالمدينة، فارتابوا، وأفاضوا في عزل عثمان، وحمله على عزل أمرائه، وبعث إلى الأمصار من يأتيه بالخبر .. فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامُّهم (1).
ش ـ توقُّف الفتوحات بسبب حواجز طبيعية أو بشرية:
حيث توقَّفت الفتوح في أواخر عهد عثمان أما حواجز طبيعية أو بشرية لم تتجاوزها، سواء في جهات فارس، وشمالي بلاد الشَّام، أو في جهة إفريقية، توقفت الغنائم على أثرها، فتساءل الأعراب، أين ذهبت الغنائم القديمة؟ أين ذهبت الأراضي المفتوحة التي يعدونها حقاً من حقوقهم (2)، وانتشرت الشائعات الباطلة التي اتهمت عثمان رضي الله عنه بأنه تصرف في الأراضي الموقوفة على المسلمين وفق هواه، وأنه أقطع منها لمن شاء من النَّاس، وقد كان لها أثر، وواقع على الأعراب، وخاصة وأنَّ معظمهم بقي بدون عمل يقضون شطراً من وقتهم في الطعام، والنَّوم والشطر الآخر بالخوض في سياسة الدّولة، والحديث عن تصرُّفات عثمان التي كانت تهوِّلها السبئيَّة، وقد أدرك أحد عمّال عثمان هذا الأمر، وهو عبد الله بن عامر، فأشار على الخليفة حيث طلب من عماله ـ وهم وزراؤه، ونصحاؤه ـ أن يجتهدوا في آرائهم، ويشيروا عليه، فأشار عليه أن يأمر النَّاس بالجهاد ويجمرهم في المغازي حتَّى لا يتعدَّى همُّ أحدهم قمل فروة رأسه، ودبر دابته (3)، وفي ذلك الجو من الحديث، والفكر عند أفراد تعوَّدوا الغزو، ولم يفقهوا من الدِّين شيئاً كثيراً يمكن أن يتوقع كلُّ سوء ويكفي أن يحرّك هؤلاء الأعراب، وأن يُوجَّهوا توجيهاً، فإذا هم يثورون، ويحدثون القلاقل والفتن، وهذا ما حدث بالفعل، فإنَّ الأعراب ـ بسبب توقف الفتوحات ـ ساهموا في بوادر الفتنة الأولى، وكان سبباً من أسباب اندلاعها (4).
ص ـ المفهوم الخاطيء للورع بتحريم الحلال:
الورع في الشريعة طيِّبٌ، وهو أن يُترك ما لا بأس به، ومخافة ممَّا فيه بأس، وهو في الأصل ترفع عن المباحات في الله، والله، والورع شيء شخصي يصحُّ للإنسان أن يطالب به نفسه، ولكن لا
_________
(1) تاريخ ابن خلدون (2/ 477).
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 344).
(3) تاريخ الطبري (2/ 340).
(4) تحقيق موقف الصّحابة في الفتنة (1/ 353).(1/77)
يصح أن يطالب به الآخرين، ومن أخطر أنواع الورع: الورع الجاهل الذي يجعل المباح حراماً، أو مفروضاً، وهذا الذي وقع فيه أصحاب الفتنة (1)، فقد استغلَّ أعداء الإسلام يومها مشاعرهم هذه، ونفخوا فيها، فرأوا فيما فعله عثمان من المباحات، أو المصالح خروجاً على الإسلام، وتغييراً لسنَّة من سبقه، وعظمت هذه المسائل في أعين الجهلة، فاستباحوا أو أعانوا من استباح ـ دم الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه وفتحوا على المسلمين باب الفتنة إلى اليوم (2).
ط ـ ظهور جيل جديد من الطامحين:
وجد في الجيل الثاني من أبناء الصحابة رضي الله عنهم من يعتبر نفسه جديراً بالحكم والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أنَّ الطريق أمامهم مغلق، وفي العادة أنه متى وجد الطَّامحون الذين لا يجدون لطموحهم متنفساً، فإنَّهم يدخلون في كل عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهمية (3).
ع ـ وجود طائفة موتورة من الحاقدين:
لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد، والذكاء والدَّهاء، ما استطاعوا به أن يدركوا نقاط الضَّعف التي يستطيعون من خلالها أن يوجدوا الفتنة، ووجدوا من يستمع إليهم بآذان صاغية، فكان من آثار ذلك ما كان (4)، فقد عرفنا سابقاً وجود يهود، ونصارى، وفرس، وهؤلاء جميعاً معروف باعث غيظهم، وحقدهم على الإسلام، والدولة الإسلامّية، ولكنَّنا هنا نضيف من وقع عليه حدٌ أو تعزير لأمر ارتكبه في وسط الدولة، وعاقبه الخليفة، أو ولاته في بعض الأمصار وبالذّات البصرة، والكوفة، ومصر، والمدينة، فاستغلَّ أولئك الحاقدون من اليهود، ونصارى، وفرس، وأصحاب الجرائم مجموعات من الناس كان معظمهم من الأعراب، ممّن لا يفقهون هذا الدِّين على حقيقته، فتكوَّنت لهؤلاء جميعاً طائفة، وصفت من جميع من قابلهم بأنَّهم أصحاب شرِ، فقد وُصفُوا: بالغوغاء من أهل الأمصار، ونزَّاع القبائل، وأهل المياه، وعبيد المدينة (5)، وبأنهم ذؤبان العرب (6)، وأنَّهم حثالة النَّاس
_________
(1) الأساس في السنة (4/ 1676).
(2) أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ 517.
(3) الأساس في السنة (4/ 1676).
(4) المصدر نفسه (4/ 1676).
(5) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة صـ 392.
(6) المصدر السابق صـ 392.(1/78)
ومتَّفقون على الشَّرِّ (1)، وسفهاء عديمو الفقه (2)، وأرذال من أوباش القبائل (3)، فهم أهل جفاء، وهمج، ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل (4)، وأنَّهم آلة الشيطان (5)، وقد تردَّد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصَّنعاني اليهوديِّ ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان من اليهود، ثمّ أسلم، ولم يًنقَّب أحد عن نواياه، فتنقَّل بين البلدان الإسلاميَّة باعتباره أحد أفراد المسلمين، (6)، وسيأتي الحديث عنه بإذن الله.
غ ـ التّدبير المحكم لإثارة المآخذ ضدّ عثمان رضي الله عنه:
كان المجتمع مهيَّئاً لقبول الأقاويل، والشائعات نتيجة عوامل وأسباب متداخلة، وكانت الأرض مهيَّأةً، ونسيج المجتمع قابلاً لتلقي الخروقات، وأصحاب الفتنة أجمعوا على الطّعن في الأمراء بحجَّة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، حتى استمالوا النَّاس إلى صفوفهم، ووصل الطَّعن إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن نفسه
باعتباره قائد الدَّولة، وإذا ما حصرنا الدّعاوي التي رُوِّجت ضد الخليفة، وطعنوه بها، فيمكننا تصنيفها إلى مجموعات خمس:
ـ مواقف شخصَّية له قبل توليه الخلافة (تغيبه عن بعض الغزوات، والمواقع.
ـ سياسته الإدارية النَّافذة: توليه أقاربائه، طريقته في التَّولية.
ـ اجتهادات خاصة به، أو بمصلحة الأمَّة (إتمام الصَّلاة بمنى، جمع القرآن، الزِّيادة في المسجد.
ـ معاملته لبعض الصًّحابة: عمَّار، أبي ذرّ، ابن مسعود.
وقد بينت موقف عثمان رضي الله عنه في كلِّ ما وجه إليه في كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان شخصيته وعصره. وقد حدث تزيُّد في إبراز المطاعن على عثمان رضي الله عنه سواء في عهده، وما واجهوه بها، وردُّه عليها في حينه، أو ما تُقوِّل عليه فيما بعد عند الرُّواة، والكتَّاب، فإنهّا لم تصح، ولم تصل إلى حدِّ أن تكون سبباً في قتله (7).
_________
(1) الطبقات (3/ 71) هذا وصف ابن سعد.
(2) دراسات في عهد النبوة صـ 392.
(3) شذرات الذهب (1/ 40) هذا وصف ابن العماد.
(4) شرح صحيح مسلم (15/ 148، 149).
(5) تاريخ الطبري (5/ 327).
(6) دراسة في عهد النبوة صـ 394.
(7) دراسات في عهد النبوة، والخلافة الراشدة صـ 400.(1/79)
إن المآخذ السَّابق ذكرها والمدوَّنة في تاريخ الطَّبري، وغيره من كتب التاريخ والمرويّة عن طريق المجاهيل، والإخباريين الضُعفاء ـ خاصَّة الشيعة ـ كانت وما تزال بليَّة عظمى على الحقائق في سير الخلفاء والأئمَّة، خاصة في مراحل الاضطرابات والفتن، وقد كان مع الأسف لسيرة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه من ذلك الحظِّ الوافر، فرواية الحوادث ووضع الأباطيل على النَّهج الملتوي بعض ما نال تلك السيرة النيرة، من تحريف المنحرفين، وتشويه الغالين، بغية التأليب عليه، أو التشهير به وقد أدرك عثمان رضي الله عنه بنفسه ذلك عندما كتب إلى أمرائه: أمّا بعد، فإن الرَّعية طعنت في الانتشار ونزعت إلى الشرِّ، أعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء متسرّعة، وضغائن محمولة (1)، وقال ابن العربي على تلك المآخذ: قالوا متعدِّين متعلِّقين برواية كذَّابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم، ومناكير، ... هذا كله باطل سنداً ومتناً (2).
ف ـ استخدام الأساليب والوسائل المهيِّجة للنَّاس:
وأهم هذه الأساليب: إشاعة الأراجيف، حيث تردّدت كلمة الإشاعة، والإذاعة كثيراً، والتَّحريص، والمناظرة، والمجادلة للخليفة أمام النَّاس، والطَّعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب، واختلاقها على لسان الصَّحابة رضي الله عنهم، كعائشة، وعليِّ، وطلحة، والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه الأحق بالخلافة، وأنَّه الوصي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنظيم فرق في كل من البصرة، والكوفة، ومصر، أربع فرق من كلِّ مصر ممّا يدل على التَّدبير المسبق، وأوهموا أهل المدينة: أنهم ما جاؤوا إلا بدعوة الصَّحابة، وصعَّدوا الأحداث، حتى وصل الأمر إلى القتل (3)، وإلى جوار هذه الوسائل استخدموا مجموعة من الشعارات منها: التّكبير ومنها: أنَّ جهادهم هذا ضدَّ المظالم، ومنها: أنَّهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، ومنها: المطالبة باستبدال الولاة، وعزلهم، ثمَّ تطورت المطالبة إلى خلع عثمان، إلى أن تمادوا في جرأتهم وطالبوا، بل سارعوا إلى قتل الخليفة، وخاصَّة حينما وصلهم الخبر بأنَّ أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضيق الخناق على الخليفة، والشوُّق إلى قتله بأيِّ وسيلة (4).
_________
(1) التمهيد والبيان صـ 64.
(2) العواصم من القواصم صـ 61 ـ 63.
(3) دراسات في عهد النبوة صـ 401.
(4) المصدر نفسه صـ 402.(1/80)
ك ـ دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:
في السَّنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامِّي نتيجة عوامل التَّغيير التي ذكرنها، وأخذ بعض اليهود يتحيَّنون فرصة الظهور مستغلِّين عوامل الفتنة، ومتظاهرين بالإسلام، واستعمال التَّقيَّة، ومن هؤلاء: عبد الله بن سبأ الملقَّب بابن السَّوداء وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التَّهويل في شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة (1)، فإنه كذلك لا يجوز التَّشكيك فيه، أو الاستهانة بالدَّور الذي لعبه في أحداث الفتنة، كعامل من عواملها، على أنَّه أبرزها، وأخطرها، إذ أنَّ هناك أجواء للفتنة مهَّدت له، وعوامل أخرى ساعدته، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء، ومعتقدات ادّعاها، واخترعها من قبل نفسه، وافتعلها من يهوديَّته الحاقدة، وجعل يروِّجها لغاية ينشدها، وغرض يستهدفه، وهو الدس في المجتمع الإسلامي بغية النَّيل من وحدته، وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشِّقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدَّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وتفرُّق الأمة شيعاً وأحزاباً (2).
وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدِّمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة راحت لدى السُّذَّج، والغلاة، وأصحاب الأهواء من النَّاس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبَّس فيها على من حوله، حتى اجتمعوا عليه، فطرق باب القرآن بتأوّله على زعمه الفاسد، حيث قال: لَعَجبٌ ممَّن يزعم أنَّ عيسى يرجع، ويكذَِب بأن محمَّداً يرجع، وقد قال تعالي: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)) (القصص، آية: 85) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى (3)، كما سلك طريق القياس الفاسد من ادِّعاء إثبات الوصَّية لعليٍّ رضي الله عنه بقوله: إنَّه كان ألف نبيِّ، ولكل نبيٍّ وصيٌّ، وكان عليُّ وصيَّ محمد، ثمّ
قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج النَّاس على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه فصادف ذلك هوىً في نفوس بعض القوم، حيث قال لهم: من أظلم ممَّن لم يُجِزْ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمّة، ثمَّ قال لهم بعد
_________
(1) مثال سعيد الأفغاني في كتابه عائشة والسياسة.
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 327).
(3) تاريخ الطبري (5/ 247)(1/81)
ذلك: إن عثمان أخذها بغير حقٍّ، وهذا وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر، فحرَّكوه، وابدؤوا بالطَّعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، تستميلوا النَّاس، وادعوهم إلى هذا الأمر (1)،
وبثِّ دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السِّر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كلِّ مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم حتَّى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون ويسُّرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنّا لفي عافية ممَّا ابتلي به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنَّهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنَّا لفي عافية ممّا فيه النَّاس (2)،
ويظهر من هذا النَّصِّ الأسلوب الذي تبعه ابن سبأ، فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصَّحابة حيث جعل أحدهما مهضوم الحقِّ وهو عليُّ، وجعل الثاني مغتصباً وهو عثمان، ثمّ حاول بعد ذلك أن يحرِّك النَّاس ـ خاصَّة في الكوفة ـ على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم، علماً بأنَّه ركَّز في جملته هذه على الأعراب الذين وجد فيهم مادّة ملائمة لتنفيذ خطّته، فالقرَّاء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيّج أنفسهم، بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان، مثل تحيزه لأقاربه، وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنّه حمى الحمى لنفسه، إلى غير ذلك من التُّهم، والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضدّ عثمان رضي الله عنه، ثمّ إنه أخذ يحض اتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مضعمة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، وهكذا يتخيل النّاس في جميع الأمصار: أنّ الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السبئية، لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي (3)، هذا وقد شعر عثمان رضي الله عنه بأن شيئاً ما يحاك في الأمصار، وأنّ الأمّة تمخض
بشرٍّ، فقال: والله أن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات، ولم
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 348) ..
(2) المصدر السَّابق نفسه (5/ 348) ..
(3) الدولة الأموية يوسف العش صـ 68، تحقيق مواقف الصحابة (1/ 330).(1/82)
يحرّكها (1)، على أن المكان الذي رتع فيه أبن سبأ هو مصر، وهناك أخذ ينظّم حملته ضدّ عثمان رضي الله عنه، ويحثُّ على التوجّه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى: أنّ عثمان أخذ الخلافة بغير حقٍّ، ووثب على وصيِّ رسول الله، يقصد عليَّا (2)،
وقد غشهم بكتب أدعّى أنها وردت من كبار الصحابة حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنَّورة واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعاً، تبرّؤوا ممّا نسب إليهم من رسائل تؤلّب النَّاس على عثمان (3)، ووجدوا عثمان مقدّراً للحقوق، بل وناطرهم فيما نسبوا إليه، وردّ عليهم افتراءهم وفسر لهم صدق أعماله حتى قال أحد هؤلاء الأعراب وهو مالك بن الأشتر النّخعي: لعله مُكر به وبكم (4)، ويعتبر الذهبي: أنّ عبد الله بن سبأ المهيِّيج للفتنة بمصر، وباذر بذور الشِّقاق والنَّقمة على الولاية ثمَّ الإمام ـ عثمان ـ فيها (5)، ولم يكن ابن سبأ وحده وإنَّما كان عمله ضمن شبكة من المتآمرين، وأخطبوطاً من أساليب الخداع، والاحتيال، والمكر، وتجنيد الأعراب، والقرّاء وغيرهم، ويروي ابن كثير: أنَّ من أسباب تألُّب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ، وذهابه إلى مصر، وإذاعته بين النَّاس كلاماً اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر (6).
إنَّ المشاهير من المؤرِّخين والعلماء من سلف الأمَّة وخلفها يتَّفقون على أنَّ ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد، وأفكار، وخطط سبئيَّة، ليلفت المسلمين عن دينهم، وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفرقة، والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكوَّنت به الطائفة السَّبيئيَّة المعروفة التي كانت عاملاً من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه والذي يظهر من خطط السَّبئيَّة أنّها كانت أكثر تنظيماً، إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها، ونشر أفكارها، لامتّلاكها ناصية الدِّعاية، والتَّأثير بين الغوغاء والرُّعاع من النَّاس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة، أم الكوفة، أم مصر، مستغلة العصبية القبليَّة ومتمكَّنة من إثارة مكامن التَّذمُر عند الأعراب، والعبيد، والموالي، عارفة بالمواضع الحسَّاسة في حياتهم، وبما يريدون (7).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 350).
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 330) تاريخ الطبري (5/ 348) ..
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 330) تاريخ الطبري (5/ 365).
(4) المصدر نفسه (1/ 331).
(5) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 338).
(6) البداية والنهاية (7/ 167، 168).
(7) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 339).(1/83)
موقف معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في الفتنة:
في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس والي الكوفة سعيد بن العاص في مجلسه العام، وحوله عامَّة النَّاس، وكانوا يتحدَّثون، ويتناقشون فيما بينهم، فتسلَّلَ الخوارج من السَّبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة وجرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص، وبين أحد الحضور، وهو خًنيس بن حُبيش الأسدي، واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين، منهم: جندب الأزديُّ، الذي قتل ابنه السَّارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النَّخعيُ، وابن الكوَّاء، وصعصعة بن صحوان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خُنيس الأسدي في المجلس، ولمَّا قام أبوه يساعده، وينقذه، ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضَّرب، فلم يمتنعوا، وأُغمي على الرَّجل وابنه من شدَّة الضَّرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيداً تمكَّن من إصلاح الأمر (1)، ولمّأ علم عثمان بالحادثة، طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع، وذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم، وصاروا ينشرون الإشاعات، ويُذيعون الافتراءات والأكاذيب ضدّ سعيد والي الكوفة، وضدَّ عثمان، وضدَّ أهل الكوفة، ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم، وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال له سعيد: إنَّ عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك، فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة، وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النَّفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة، ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخرِّبون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة وكانوا بضعة عشر رجلاً، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء، فقال له: إنَّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفراً خلقوا للفتنة.
فَرُعْهُم، وأخِفْهم، وأدِّبهم، وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشداً، فأقبل منهم (2). ومن الذين تمَّ نفيهم إلى الشام، الأشتر النَّخعيُّ، وجندب الأزديُّ، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكوَّاء (3)، ولمّا قدموا على
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 323).
(2) المصدر السابق (5/ 324).
(3) الخلفاء الرّاشدون صـ 131.(1/84)
معاوية رحب بهم، وأحسن ضيافتهم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يُجرى عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدَّى، ويتعشَّى معهم فقال لهم يوماً: إنكم قوم من العرب لكم أسنان، وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم، ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً وإنّ قريشاً لو لم تكن، لعدتم أذلة كما كنتم (1). كان عثمان رضي الله عنه يدرك: أنَّ معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته، وله من حلمه، وصبره، وله
من ذكائه، ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتَّى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلَّها، وفعلاً بذل معاوية رضي الله عنه ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النَّفر: أكرمهم أوّلاً، وخالطهم، وجالسهم، وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالسة قبل أن يحكم عليهم بما نُقل عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم، وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أنَّ النَّعرة القبلية هي التي تحرِّكهم، وأنَّ شهوة الحكم والسُّلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بدَّ أن يلج عليهم من زاويتين اثنين:
الأولى: أثر الإسلام في عزَّة العرب.
الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمُّل أعبائه فإن كان للإسلام أثرٌ في تكوينهم، فلا بدَّ أن يرعَوَا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمَّة واحدة تخضع لإمام واحد وودعوا حياة الفوضى، وسفك الدِّماء، والقبليَّة المنتنة (2)، ويتابع معاوية حديثه معهم، فيقول: إن أئمَّتكم لكم إلى اليوم جُنَّة (3)، فلا تشذوا عن جنَّتكم، وإنَّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهنَّ أو ليبتلينَّكم الله بمن يسومكم، ثمَّ لا يحمدكم على الصَّبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرَّعيَّة في حياتكم، وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أمَّا ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية، فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنَّة، فإن الجُنَّة إذا اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت: أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلاً.
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 324).
(2) معاوية بن أبي سفيان، لمنير الغضبان صـ 101.
(3) جنة: وقاية.(1/85)
أُعْظِم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكِّرني الجاهليَّة؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجنُّك: أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجُنَّة، أخزى الله أقواماً أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم (1).
وعرف معاوية أنَّ الإشارة العابرة لن تقنعهم، ولا بد من شرح مسهب لواقع قريش أوَّلاً، فقال: افقهوا ـ ولا أظنكم تفقهون ـ أنَّ قريش لم تعزَّ في جاهليةٍ ولا في إسلام إلا بالله، عزَّ وجلَّ ـ، لم تكن أكثر العرب، ولا أشدَّهم، ولكنَّهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأعظمهم أخطاراً، وأكملهم مروءةً، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله الذي لا يُستَذَل من أعزَّ، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عرباً، أو عجماً، أو سوداً، أو حمراً إلا قد اصابه الدّهر في بلده، وحرمته بدولةٍ، إلا ما كان من قريش، فإنَّه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خدَّه الأسفل، حتى أراد الله أن ينقذ من أكرم، واتَّبع دينه من هوان الدٌّنيا، وسوء مردِّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثمَّ ارتضى له أصحاباً، فكان خيارهم قريشاً، ثمَّ بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله
يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهليَّة من الملوك الذين كانوا يدينونكم ـ أفٍّ لك، ولأصحابك ولو أن متكلماً غيرك تكلَّم، ولكنَّك ابتدأت، فأمَّا أنت يا صعصعة فإنَّ قريتك شرُّ قرىً عربية، أنتنها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشَّرِّ، وألأمها جيراناً، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هُجنة. ثمَّ كانوا أقبح العرب ألقاباً، وألأمها أصهاراً نزّاع (2) الأمم، وأنتم جيران الخطِّ وفعلة فارس، حتَّى أصابتكم دعوة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير (3)
في عمان، لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأنت شرُّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالنَّاس، وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجاً وتنزع إلى اللآمة، والذِّلة، ولا يصنع ذلك قريش، ولن يضرَّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنَّ الشَّيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشَّر من بين أمَّتكم،، فأغرى النَّاس، وهو صارعكم، لقد علم: أنَّه لا
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 324).
(2) النزاع: جمع نزيع وهو الغريب.
(3) الشطير: الغريب ..(1/86)
يستطيع أن يردَّ بكم قضاء الله، ولا أمراً أراد الله، ولا تدركون بالشَّر أمراً إلا فتح الله عليكم شراً منه، وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم (1) وبذلك بذل معاوية كلَّ طاقاته الفكريُّة، والثقافية، والسياسية، لإقناعهم:
ـ عرض لهم أولاً أمر قريش في الجاهلية والإسلام.
ـ تناول قبائل هؤلاء النّفر، ووضعها في الجاهلية، حيث كانت تعاني سوء المناخ، ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثمّ الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمها الله بالإسلام فعزت بعد ذلِّ، وارتقت بعد هوانٍ.
ـ تناول معاوية رضي الله عنه صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأّ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثمّ عاد وأنضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار.
ـ كشف معاوية رضي الله عنه مخطّطات صعصعة، وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجاً.
ـ وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة، ومحرّك هذا الشّر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله، ثمّ الإسلام، والعقيدة ثمّ كشف عن زيف هؤلاء النّفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخطّطاتهم، وصلتها بدعوى الجاهلية (2).
5 ـ جلسة أخرى:
ثمّ أتاهم القابلة فتحدَّث عنهم طويلاً، ثم قال: أيُّها القوم! ردُّوا عليَّ خيراً، أو اسكتوا، وتفكَّروا، وانظروا فيما ينفعكم، وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين،
فاطلبوه، تعيشوا، ونعش بكم قال صعصعة، لست بأهل لذلك، ولاكرامه لك أن تطاع في معصية الله. فقال معاوية: أوليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن تعتصموا بحبله جميعاً، ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة، وخلاف ما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم! قال: إنَّي آمركم الآن، إن كنت فعلت، فأتوب إلى الله، وآمركم بتقواه، وطاعته، وطاعة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توفِّروا أئمتكم، وتدلوُّهم على كلِّ
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 326).
(2) معاوية بن أبي سفيان، للغضبان صـ 111.(1/87)
حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لينٍ، ولطف في شيءٍ إن كان معهم، قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإنَّ من المسلمين من هو أحقُّ به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قِدْماً من أبيك، وهو بنفسه أحسن قِدْماً منك في الإسلام، قال معاوية والله إن لي في الإسلام قِدْماً، ولغيري كان أحسن قِدماً منَّي،، ولكنَّه ليس في زماني أحدُ أقوى على ما أنا فيه منّي، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطَّاب، فلو كان غيري أقوى منَّي، لم يكن لي عند عمر هوادة، ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين، لكتب بخطِّ يده، فاعتزلت عمله، ولو قضي الله أن يفعل ذلك، لرجوت أن يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلاً فإنَّ في ذلك وأشباهه ما يتمنَّى الشيطان، ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تُقضى على رأيكم، وأمانيِّكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، ولكنَّ الله يقضيها، ويدبِّرها وهو بالغ أمره، فعاوِدوا الخير، وقولوه. قالوا: لست لذلك أهلاً.
قال معاوية: أما والله إنَّ لله سطوات، ونقمات، وإنِّي لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشَّيطان حتَّى تُحَّلكم مطاوعة الشَّيطان، ومعصية الرّحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر، والخزي الدّائم في الآجل فوثبوا عليه، فأخذوا بلحيته، ورأسه، فقال: مه! إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشّام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إنَّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً، ثم قام من عندهم: فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت (1)، هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشَّام كلَّ جهده واستعمل حلمه، وثقافته، وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنَّه يدعوهم إلى تقوى الله، وطاعته، والاستمساك بالجماعة، والابتعاد عن الفرقة، وإذ بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله (2). وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد، فذكَّرهم بأنَّه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حدَّ زعمهم، فهو يتوب من المعصية، إن وقعت، ثمَّ يعود لدعوتهم إلى الطَّاعة، والجماعة، والابتعاد عن
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 330، 331).
(2) المصدر السابق نفسه (5/ 330).(1/88)
تفريق كلمة الأمَّة، ولو كان الوعظ يجدي معهم، لأمكن أن تتأثَّر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللُّطف، وهذا يوجِّههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهاديء في العظة، واللين في النُّصح،
فوجدنا المال رحباً أن يكشفوا في مكنون قلوبهم.
فقالوا: فإنَّا نأمرك أن تعتزل عملك، فإنَّ في المسلمين من هو أحقُّ به منك، وانتبه معاوية انتباهاً مفاجئاً إلى ما يكنُّون، فأحبَّ أنَّ يتعرف جانباً غامضاً عليه لعلَّ في هذا التعرُّف ما يوصله إلى من يحرِّكهم، ويبثًّ في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنَّهم أخفوا ما يكنُّون واكتفوا بالإشارة إلى أنَّهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولمن أبوه أفضل من أبيه، ثم تحلَّم عليهم أكثر فأكثر رغم الأسلوب الفجِّ الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جواباً مستفيضاً عن وجهة نظره في الحكم، والإمارة، والقيادة، وقد لخَّص معاوية إجابته في ستِّ نقاط أساسيَّة ومهَّمة:
ـ هي أنَّ له قِدْماً، وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشَّام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
ـ أنَّ هناك في المسلمين من هو أفضل منه، وأكرم، وأحسن سابقة، وأكثر بلاءً وهو يرى أنَّه أقوى من يحمي هذا الثَّغر الإسلاميَّ العظيم ـ الشّام ـ فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه، وسياسته، وفهم نفسيَّات أهله حتَّى أحبُّوه.
ـ إنَّ الميزان الحساس، والمعيار الدِّقيق الذي يقيِّم الولاة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد من معاوية شططاً، أو انحرافاً عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض عمله، واستخدمه كاتباً بين يديه، وولاه أبو بكر الصَّدَّيق من بعده، ولم يطعن في كفاءته أحد.
ـ إنَّ اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما هي الحجَّة التي يقدِّمها دعاة الفتنة، ليتمَّ الاعتزال على أساسها؟
ـ إنَّ الذي يقرِّر العزل عن العمل، أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إنَّ ذلك من حقَّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وهو الذي له الحقُّ في تعيين الولاة، وعزلهم.(1/89)
ـ إنَّ أمير المؤمنين عثمان يوم يقرِّر عزل معاوية، فهو واثق، أنَّ أمره خير كلَّهُ، ولا غضاضه في ذلك فهو أمير مأمور، وهو أمر خليفة المسلمين. (1) كان ختام الجلسة مؤسفاً أشدَّ الأسف، مؤلماً أشدَّ الألم، لقد حذَّرهم نقمة الله، وغضبه، وحذَّرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم، وقمعهم، ووجَّه لهم كلاماً قاسياً مبطَّناً بالتهديد، وعرف: أنَّ هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحقِّ، فلا بدَّ من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وكشف هويَّاتهم، وخطرهم، ليرى فيهم أمير المؤمنين رأياً آخر (2).
كتاب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما بشأن أهل الفتنة من الكوفة:
كتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُملون عليهم، ويأتون النَّاس ـ زعموا ـ من قِبَل القرآن فيشبهون على الناس،، وليس كل النَّاس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رُقَي الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيراً من النَّاس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجا فيه نفاقهم (3)، فكتب عثمان إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلىعبد الرحمن بن خالد بن الوليد،، وكان أميراً على حمص (4)،
فلما وصلوا إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، استدعاهم، وكلَّمهم كلاماً شديداً، وكان ممَّا قاله لهم: يا آلة الشيطان ألا مرحباً بكم، ولا أهلاً، لقد رجع الشيطان محسوراً خائباً، وأنتم مازلتم نشيطون في الباطل، خَسَّرَ الله عبد الرحمن إن لم
_________
(1) معاوية بن أبي سفيان، صحابي كبير، وملك مجاهد صـ 114 إلى 117.
(2) معاوية بن أبي سفيان للغضبان صـ 117، 118.
(3) تاريخ الطبري (5/ 331).
(4) تاريخ الطبري (5/ 331) ..(1/90)
يؤدِّ بكم ويخزِكم! يا معشر من لا أدري من أنتم أعرب، أم عجمٌ؟ لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عَجمته العاجمات، أنا ابن فاقيء الرِّدَّة، والله لأذلنَّكم! وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهراً كاملاً، وعاملهم بمنتهى الحزم، والشَّدَّة، ولم يَلِن معهم كما لان سعيد، ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه، وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهُّم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم صعصعة بن صوحان يقول له: يا بن الخطيئة! هل تعلم أنَّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشَّرُّ، وأن من لم يصلحه اللِّين أصلحته الشدَّة؟ وكان يقول لهم: لماذا لا تردُّون عليَّ، كما كنتم تردُّون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني، كما كنتم تخاطبوهما؟ ونفع معهم أسلوب عبد الرَّحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه، وشدَّته، وقسوته، وأظهروا له التَّوبة والنَّدم، وقالوا له: نتوب إلى الله، ونستغفره أقِلْنَا أقالك الله وسامحنا سامحك الله: بقي القوم في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد، وأرسل عبد الرّحمن أحد زعمائهم وهو الأشتر النَّخعي إلى عثمان ليخبره بتوبتهم، وصلاحهم، وتراجعهم عمَّا كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احللُ أنت ومن معك حيث شئتم، فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرَّحمن في الجزيرة مدّةً، أظهروا فيها
التّوبة، والاستقامة والصَّلاح (1)،
وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاثة وثلاثين، بعدما تمَّ نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشَّام، ثمَّ إلى عبد الرّحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أنَّ المصلحة تقتضي أن يسكتوا إلى حين (2). إلا أن بقية دعاة الفتنة كانوا يشتغلون في البصرة، ومصر، وغيرها وفي سنة أربع وثلاثين ـ السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان ـ أحكم عبد الله بن سبأ خطته، ورسم مؤامرته، ورتب مع جماعته السَّبئيِّين الخروج على الخليفة، وولاته، فقد اتَّصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشَّياطين من حربه في البصرة، والكوفة، والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم، وكاتبوه، وراسلهم، وراسلوه
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 327) ..
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي صـ134.(1/91)
وكان ممَّن كاتبهم، وراسلهم السَّبئيُّون في الكوفة، وقد كانوا بضعة عشر رجلاً منهم منفيين في الشَّام، ثمَّ في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين، كان زعيم السَّبئيِّين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس (1). وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها، وأشرافها، لأنََّّهم توجَّهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرُّعاع، والغوغاء الذين أثر فيهم السَّبئيُون والمنحرفون، وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضدَّ والي عثمان إلى الكوفة سعيد بن العاص رضي الله عنه (2)
واستطاع القعقاع بن عمرو التميميُّ أمير الحرب بالكوفة أن يقضي على التحرك الأوّل بقيادة يزيد بن قيس، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته، وبصيرته، لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان، وخلعه، وأظهر له كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد ابن العاص، والمطالبة بوالٍ آخر مكانه، فاستُجيب لطلبهم، ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة، لما سمع كلام يزيد، ثمّ قال يزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد، ولا يجتمع عليك أحد، واجلس في بيتك واطلب ما تريد من الخليفة، وسيحقِّق لك ذلك بإذن (3) الله، واستمر يزيد بن قيس في إشعال الفتنة، واضطر إلى تعديل خطّته في الخروج وبعد كيد ومكر وتدبير من أتباع السبيئيِّن، قرّر الغوغاء والرُّّعاع بقيادة يزيد بن قيس منع سعيد بن العاص من دخول الكوفة وكان سعيد بالمدينة (4).
ولمّا خرج السبيُّون، والغوغاء طلبا الفتنة، والتمُّرد، وإحداث القلاقل بقي في المسجد وجوه المسلمين، وأشرافهم، وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوَّة، والوحدة، ونهاهم عن التفُّرق، والاختلاف، والفتنة، والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمرِّدين (5)، قال القعقاع بن عمرو التميمي: أتردُّ السَّيل عن
عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات: لا والله لا تُسكِّن الغوغاء إلا المشرفيَّة (6)، ويوشك أن تُنْتضى، ثمَّ
_________
(1) الخلفاء الراشدون للخالدي صـ135.
(2) الخلفاء الراشدون صـ 135 ..
(3) تاريخ الطَّبري (5/ 337).
(4) المصدر نفسه (5/ 338).
(5) الخلفاء الرَّاشدون، للخالدي صـ139.
(6) نوع من السيوف.(1/92)
يعجُّون عجيج العتدان (1)، ويتمنون ما هم فيه، فلا يردهم عليهم أبداً، فاصبر، فقال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله (2) واستطاع أهل الفتنة أن يمنعوا سعيد بن العاص من دخول الكوفة ورجع إلى المدينة، وكان من رأيه: أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقلِّ، وبعد رجوعه إلى المدينة أخبر سعيد عثمان بما حصل. قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يداً من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة؟ وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنَّهم لا يريدونني والياً عليهم، ويريدون والياً آخر مكاني. قال له عثمان: من يريدون والياً؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعريِّ، قال عثمان: قد عيَّنا، وأثبتنا أبا موسى والياً عليهم، ووالله لن نجعل لأحد عُذراً ولن نترك لأحدٍ حجة، ولنصبرنَّ عليهم كما هو مطلوب منَّا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون، وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه والياً على الكوفة (3)، وكان أبو موسى رضي الله عنه يقوم بتهدئة الأمور، وبنهى النَّاس عن العصيان.
وقال لهم: أيها الناس لا تخرجوا في هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، والزموا جماعتكم، والطاعة وإياكم والعجلة، اصبروا، فكأنَّكم بأمير (4). فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان قالوا: على السَّمع، والطاعة لعثمان (5). وما كانوا صادقين في ذلك، لكنَّهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقيَّة عن الآخرين وكان أبو موسى يصليِّ بالنَّاس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه والياً على الكوفة، وكتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة: أما بعد فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنَّ لكم عِرضي، ولأبذُلنَّ لكم صبري، ولأستصلحنَّكم بجهدي، واسألوني كلَّ ما أحببتم، ممَّا لا يعصي الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئاً كرهتموه لا يُعصي الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم، حتَّى لا يكون لكم عليّ حجّة وكتب بمثل ذلك إلى الأمصار (6)، رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما كان أصلحه وأوسع صدره وكم ظلمه السَّبئيُّون والخارجون الحاقدون، واختلفوا عليه.
_________
(1) تنتضي: أخرجه السيف من غمره: العتدان: قيل الحولي من أولاد الماعز.
(2) تاريخ الطبري (5/ 338).
(3) تاريخ الطبري (5/ 339).
(4) أي: يأتيكم من قبل أمير المؤمنين عثمان.
(5) تاريخ الطبري (5/ 339).
(6) المصدر نفسه (5/ 343).(1/93)
مشورة عثمان لولاة الأمصار ورأي معاوية في ذلك:
واجه عثمان بن عفان الفتنة بوسائل وأساليب متنوعة منها، إرسال لجان تفتيش وتحقيق إلى الولايات، ومحاولة معرفة أغراض أهل الفتنة واستطاع أن يخترق صفوفهم، وأقام الحجة
على الغوغاء والمتمردين بالحوار والنقاش، والاستجابة لبعض مطالبهم وقد فصلت ـ الحديث عن سياسة عثمان في التعامل مع الفتنة في كتابي عن عثمان بن عفان رضي اله عنه ومن الأساليب التي اتخذها عثمان رضي الله عنه مشورته لولاة الأمصار رضي الله عنه حيث بعث إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجلٍ وكانوا: عبد الله بن عامر، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص ـ وهم من الولاة السابقين وكانت جلسة مغلقة وخطيرة، وقال فيه كل المشاركين برأيه وكان رأي معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام (1)، وبعد أن سمع عثمان من المشاركين اقتراحاتهم قام، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكلِّ أمر باب يؤتي منه، إنَّ هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمَّة كائن وإن بابه الذي يغلق عليه، فيُكفكف به اللِّين، والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سدَّه شيء فرفق، فذاك والله ليُفتحنَّ، وليست لأحد عليَّ حجة حقٍّ، وقد علم الله إنِّي لم آل الناس خيراً، ولا نفسي. والله إنَّ رحا الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرِّكها، كفكفوا النَّاس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله، فلا تُدِهنوا فيها (2)، فمنع عثمان رضي الله عنه منع الولاة من التَّنكيل بمثيري الشَّغب، وحبسهم، أو قتلهم، وقرَّر أن يعاملهم بالحسنى واللِّين (3)،
وطالب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كلُّ بصير يرى أنَّها قادمة (4)، وقبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشَّام أتى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين: انطلق معي
_________
(1) الكامل (2/ 278) تاريخ الطبري (5/ 351).
(2) تاريخ الطبري (5/ 351).
(3) خلافة عثمان، د. السلمي صـ 77 ..
(4) الخلفاء الراشدون، للخالدي صـ 151.(1/94)
إلى الشَّام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث مالا قِبَل لك بها. قال عثمان أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذاً أبعث لك جيشاً من الشَّام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة، ليدافع عنك، وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا حتى لا أقترّ على جيران رسول الله صلى الله غليه وسلم الأرزاق، بجند، تساكنهم ولا أضيِّيق على أهل الهجرة والنُّصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين: والله لتُغتلنَّ، أو لتُغزينَّ. قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل (1). ولقد حدث كل ما توقعه معاوية، فجاءت جموع أهل الفتنة لتحاصر عثمان رضي الله عنه وتغتاله في النهاية. وحين جاء هؤلاء الثوار من مختلف الأقاليم لا نجد من بينهم جماعة من أهل الشام (2)، من كل ما سبق نجد أننا أمام وال كبير يشق طريقه بجدارة من بين الولاة إلى ما هو أبعد من الولاية فقد استطاع أن يجعل من
إقليم الشام الإقليم المهيأ لقيادة بقية الأقاليم في الدولة الإسلامية بما عمق فيه من حسن الطاعة للقيادة، وبما ثبت فيه من دعائم الاستقرار، وقطعه لأسباب الفتنة وعوامل الفرقة فيه. وهذا ما لا نجده في غيره من الأقاليم (3).
مقتل عثمان رضي الله عنه وموقف الصحابة من ذلك:
اشتد الحصار على عثمان رضي الله عنه، حتى منع من أن يحضر للصَّلاَّة في المسجد، وكان صابراً على هذه البلوى التي أصابته كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وكان مع إيمانه القوي بالقضاء والقدر، يحاول أن يجد حلاً لهذه المصيبة، فنراه تارة يخطب الناس عن حرمة دم المسلم، وإنه لا يحل سفكه إلا بحقه وتارة يتحدث في الناس ويظهر فضائله وخدماته الجليلة في الإسلام ويستشهد على ذلك ببقية العشرة رضوان الله عليهم (4)، وكأنه يقول من هذا عمله وفضله هل من الممكن أن يطمع بالدنيا ويقدمها على الآخرة وهل يعقل يخون الأمانة ويعبث بأموال الأمة ودمائها وهو يعرف عاقبة ذلك عند الله وهو الذي تربى على عين النبي صلى الله عليه وسلم والذي شهد له وزكاه وكذلك أفاضل الصحابة ومتى بعد ما
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 353).
(2) عبد الله بن سبأ، للعودة صـ 152، أثر العلماء في الحياة.
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ 76.
(4) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد علي صـ 85.(1/95)
تجاوز السبعين وقارب الثمانين من عمره أهكذا تكون معاملته؟ واشتدت سيطرة المتمردون على المدينة حتى أنهم ليصلون بالناس في أغلب الأوقات (1)، وحينها أدرك الصحابة أن الأمر ليس كما حسبوا، وخشوا من حدوث ما لا يحمد عقباه، وقد بلغهم أن القوم يريدون قتله، فعرضوا عليه أن يدافعوا عنه، ويخرجوا الغوغاء عن المدينة إلا أنه رفض أن يراق دم بسببه (2)، وأرسل كبار الصحابة أبناءهم دون استشارة عثمان رضي الله عنه، ومن هؤلاء الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير، فقد كان عثمان يحب الحسن ويكرمه فعندما وقعت الفتنة وحوصر عثمان رضي الله عنه أقسم على الحسن رضي الله عنه بالرجوع إلى منزله وذلك خشية عليه أن يصاب بمكروه (3)، وقد قال عثمان للحسن رضي الله عنهما: أرجع ابن أخي حتى يأتي الله بأمره (4)،
وقد صحت روايات أن الحسن حمل جريحاً من الدار يوم الدار (5)، كما جرح غير الحسن، عبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، كما كان معهم الحسين بن علي، وابن عمر رضي الله عنهما (6)، وقد كان
علي رضي الله عنه من أدفع الناس عن عثمان رضي الله عنه، وشهد له بذلك مروان ابن الحكم (7)، كما أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، إن علياً أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئاً يستحل به دمك، فقال: جزيت خيراً، ما أحب أن يهراق دم في سببي (8)، وقد وردت روايات عديدة تفيد وقوفه بجانب عثمان رضي الله عنهما، أثناء الحصار فمن ذلك: أن الثائرين منعوا عن عثمان الماء حتى كاد أهله أن يموتوا عطشاً، فأرسل علي رضي الله عنه إليه بثلاث قرب مملؤة ماء فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصلت
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 515).
(2) فتنة مقتل عثمان (1/ 167) صحيح الإسناد.
(3) تاريخ المدينة لابن شبه (4/ 1208).
(4) الرياض النضرة نقلاً عن الحسن بن علي ودوره السياسي صـ 46 ..
(5) الطبقات لابن سعد (8/ 128) بسند صحيح.
(6) تاريخ خليفة صـ 174.
(7) تاريخ الإسلام صـ 460 ـ 461 إسناده قوي.
(8) تاريخ دمشق صـ 403.(1/96)
ولقد تسارعت الأحداث فوثب الغوغاء على عثمان فقتلوه رضي الله عنه، وأرضاه، ووصل الخبر إلى الصحابة وأكثرهم في المسجد، فذهبت عقولهم، وقال علي لأبنائه وابناء أخيه كيف قتل عثمان وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن، وكان قد جرح (1)، وضرب صدر الحسين وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله وهو يقول: تباً لكم سائر الدهر، اللهم أني أبرأ إليكم من دمه أن يكون قتلت أو مالأت على قتله (2)،
وهكذا كان موقف علي رضي الله عنه، نصح وشورى سمع وطاعة، ووقفة قوية بجانبه أثناء الفتنة، ومن أدفع الناس عنه، ولم يذكره بسوء قط، يحاول الإصلاح وسد الخرق بين الخليفة والخارجين عليه لكن الأمر فوق طاقته، وخارج إرادته، إنها إرادة الله عز وجل أن يفوز أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالشهادة (3) .... ويبوء المفسدين بالإثم. إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنكر قتل عثمان، وتبرأ من دمه، وكان يقسم على ذلك في خطبه، وغيرها: إنه لم يقتله ولا أمر بقتله، ولا مالأ عليه، ولا رضي، وقد ثبت ذلك عنه بطرق تفيد القطع (4)، خلافاً لما تزعمه الشيعة الرافضة من أنه كان راضياً بقتل عثمان رضي الله عنهما (5)، وقال الحاكم بعد ذكر بعض الأخبار الواردة في مقتله رضي الله عنه: فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كذب وزور، فقد تواترت الأخبار بخلافه (6). وقال ابن تيمية: وهذا كله كذب على علي رضي الله عنه، وافتراء عليه، فعلي رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان رضي الله عنه، ولا أمر ولا رضى، وقد
روي عنه ذلك وهو الصادق البار (7)، وقد قال علي رضي الله عنه: اللهم أني أبرأ إليك من دم عثمان (8).
وقد شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الضعيفة والموضوعة التي ذكرها كثير من المؤرخين والمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات
_________
(1) ابن أبي عاصم الآحاد والثماني (1/ 125) نقلاً عن خلافة علي صـ 87.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 209) إسناده صحيح ..
(3) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 209) إسناده صحيح.
(4) البداية والنهاية (7/ 202).
(5) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط صـ 129.
(6) المستدرك (3/ 103).
(7) منهاج السنة (4/ 406).
(8) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط صـ 229 الطبقات (3/ 3) إسناده حسن.(1/97)
أبي مخنف، والواقدي، وابن أعثم، وغيرها من الأخبار حبكت بطريقة ذات ميول عدائية للتاريخ الصحيح ويشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة، ويثيرون الفتنة، فأبي مخنف ذو الميول الشيعية لا يتورع في إتهام عثمان بأنه الخليفة الذي كثرت سقطاته، فاستحق ما استحق، ويظهر طلحة في مروياته كواحد من الثائرين على عثمان، والمؤلبين ضده، ولا تختلف روايات الواقدي عن روايات أبي مخنف، وقد كثرت الروايات الشيعية التي تتهم الصحابة بالتآمر ضد عثمان رضي الله عنه وأنهم هم الذين حركوا الفتنة، وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور (1)، وخلافاً للروايات الموضوعة والضعيفة فقد حفظت لنا كتب المحدثين بحمد الله، الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان والمنافحين عنه والمتبرأين من قتله (2)، والمطالبين بدمه بعد مقتله وبذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة، أو إثارتها (3).
إن الصحابة جميعاً رضي الله عنهم أبرياء من دم عثمان رضي الله عنه ومن قال خلاف ذلك، فكلامه باطل ولا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى مرتبة الصحة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم، عن أبيه، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين، والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجاً (4) من أهل مصر. وقال الإمام النَّووي: ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج، ورعاع من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل، تحزَّبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم، فحضروه حتَّى قتل، رضي الله عنه (5)، وقد وصفهم الزبير رضي الله عنه بأنهم غوغاء من الأمصار ووصفتهم السيدة عائشة بأنَّهم نزّاع القبائل (6)، ووصفهم ابن تيمية بأنهم خوارج مفسدون ضالون، باغون
معتدون (7)، ووصفهم الذهبيُّ بأنهم رؤوس شرًٍّ، وجفاء (8)، ووصفهم ابن العماد الحنبلي في الشذرات بأنَّهم أراذل من
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (20/ 14 إلى 18).
(2) خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي للصَّلاَّبيِّ صـ 122.
(3) تحقيق مواقف الصحابة (20/ 14 إلى 18).
(4) العلج: كل جاف شديد من الرِّجال: عثمان بن عفان للصَّلاَّبيِّ صـ 450.
(5) شهيد الدار عثمان بن عفان صـ 148.
(6) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 148).
(7) منهاج السنة (2/ 189 ـ 206).
(8) دول الإسلام للذهبي (1/ 12).(1/98)
أوباش القبائل (1)، ويشهد على هذا الوصف تصرُّف هؤلاء الرُّعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة رضي الله عنه ظلماً. وعدواناً، فكيف يمنع الماء عنه، والطعام وهو الذي طالما دفع من ماله الخاص ما يوري ظمأ المسلمين بالمجّان (2)، والذي يساهم بأموال كثيرة عندما يلمُّ النَّاس مجاعة، أو مكروه وهو الدائم العطاء عندما يصيب النَّاس ضائقة، أو شدَّة من الشدائد (3)،
حتى أن علياً رضي الله عنه يصف هذا الحال، وهو يؤنب المحاصرين بقوله: يا أيها الناس: إن الذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين، فلا تمنعوا عن هذا الرّجل الماء، ولا المادة ـ الطعام ـ فإنّ الروم، وفارس لتأسر وتطعم وتسقي (4)، لقد صحَّت الأخبار وأكّدت حوادث التاريخ على براءة الصَّحابة من التَّحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضدّه (5)، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان (6).
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 482) شذرات الذهب (1/ 40).
(2) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان صـ 450.
(3) التمهيد والبيان صـ 424 ..
(4) تاريخ الطبري (5/ 400).
(5) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 8).
(6) عثمان بن عفان للصَّلاَّبيِّ صـ 451 إلى 466.(1/99)
المبحث الثالث: معاوية بن أبي سفيان في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
كان معاوية رضي الله والياً على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، والياً على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى علي رضي الله عنه الخلافة أراد عزله ـ ويبدو أن هناك ضغوط على علي رضي الله عنه من قبل الغوغاء لكي يعزل معاوية، وخصوصاً أن الغوغاء يعرفون معاوية جيداً والذي جعلني أقول ذلك أن العلاقة بين علي ومعاوية قبل خلافة علي، لا يوجد ما يشوبها، بل كانت جيدة، كما أن الغوغاء فيما بعد ضغطوا على أمير المؤمنين علي في عزل قيس بن سعد من مصر ونجحوا في ذلك وترتب على ذلك ضياع مصر، وقد فصلت ذلك في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، هذا وقد اختار أمير المؤمنين علي بدلاً من معاوية عبد الله بن عمر فأبي عليه عبد الله قبول ولاية الشام
واعتذر في ذلك، وذكر له القرابة والمصاهرة التي بينهما (1)، ولم يلزمه أمير المؤمنين علي وقبل منه طلبه بعدم الذهاب إلى الشام، وأما الروايات التي تزعم أن علياً قام بالتهجم على عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لاعتزاله وعدم وقوفه إلى جانبه، ففي ذلك الخبر تحريف وكذب (2)، وأقصى ما وصل إليه الأمر في قضية عبد الله بن عمر وولاية الشام ما رواه الذهبي من طريق سفيان بن عيينة: عن بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: بعث إليَّ علي قال: يا أبا عبد الرحمن إنك رجل مطاع في أهل الشام، فسر فقد أمرتك عليهم، فقلت: أذكرك الله وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتي إياه، إلا ما أعفيتني، فأبى علي، فاستعنت بحفصة فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة (3)،وهذا دليل قاطع على مبايعة ابن عمر، ودخول في الطاعة، إذ كيف يوليه علي وهو لم يبايع، وفي الاستيعاب، لابن عبد البر من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن ابن عمر أنه قال
_________
(1) المصنف لابن أبي شيبة (7/ 472) إسناده صحيح.
(2) استشهاد عثمان ووقعة الجمل صـ 160.
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 224) رجاله ثقات ..(1/100)
حين احتضر: ما آسي على شيء إلا تركي قتال الفئة الباغية مع علي رضي الله عنه (1)، وهذا مما يدل أيضاً على مبايعته لعلي، وإنه إنما ندم على عدم خروجه مع علي للقتال، فإنه كان ممن اعتزل الفتنة، فلم يقاتل مع أحد، ولو كان قد ترك البيعة، لكان ندمه على ذلك أكبر وأعظم ولصرح به، فإن لزوم البيعة والدخول فيما داخل الناس، فيه واجب، والتخلف عنه متوعد عليه برواية ابن عمر نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية (2). وهذا بخلاف الخروج للقتال مع علي، فإنه مختلف فيه بين الصحابة، وقد اعتزله بعض الصحابة، فكيف يتصور أن يندم ابن عمر على ترك هذا القتال، ولا يندم على ترك البيعة لو كان تاركاً لها، مع ما فيه من الوعيد الشديد، وبهذا يظهر بطلان قول بعض المؤرخين في زعمهم من ترك ابن عمر البيعة لعلى رضي الله عنه حيث ثبت أنه كان من المبايعين له بل من المقربين منه، الذين كان يحرص على توليتهم، والاستعانة بهم، لما رأى فيه من صدق الولاء والنصح له (3)، وبعد اعتذار ابن عمر من قبول ولاية الشام، أرسل أمير المؤمنين علي سهيل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام حتى أخذته خيل معاوية وقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع (4)، وكانت بلاد الشام تغلي غضباً على مقتل عثمان ظلماً وعدواناً،
أولاً: اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذ بها القصاص من قتلة عثمان:
إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين علي من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم
من جهة أخرى ثم بعد ذلك بين علي ومعاوية رضي الله عنهما لم يكن سببه ومنشؤه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي وإمامته، وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محل إجماع بينهم، قال ابن حزم: ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ، واستحقاقه الخلافة، ولكنَّ اجتهاده أدّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان (5)
_________
(1) الاستيعاب (6/ 326) بحاشية كتاب الإصابة.
(2) مسلم، ك الإمارة رقم 1851.
(3) الانتصار للصحب والآل صـ 507.
(4) تهذيب تاريخ دمشق (4/ 39) خلافة علي، لعبد الحميد صـ 110.
(5) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 160).(1/101)
وقال ابن تيمية: ومعاوية لم يدّع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقرُ بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، ولا فعلوا (1)، وقال أيضاً: وكل فرقة من المتشيعين مقرّة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفؤاً لعلي بالخلافة، ولا يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي، فإن فضل علي وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته، وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معلومة، كفضل إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (2).
إن منشأ الخلاف لم يكن قدحاً في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية، إذ كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه موافقاً من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان رأيه أن يرجيء الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور واجتماع الكلمة وهذا هو الصواب (3)، قال النووي: وأعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدتهم وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه (4).
_________
(1) مجموع الفتاوي (35/ 72).
(2) المصدر نفسه.
(3) أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ 158.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 149).(1/102)
ثانياً: معركة صفين: 37 هـ
ـ تسلسل الأحداث التي قبل المعركة:
1 ـ أم حبيبة بنت أبي سفيان، ترسل النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام: لما قُتل عثمان رضي الله عنه: أرسلت أم المؤمنين، أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان: أرسلوا إليّ بثياب عثمان التي قُتل فيها، فبعثوا إليها بقميصه مضّرجاً بالدم، وبخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير، فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها (1)، وجاء في رواية: خرج النعمان بن بشير ومع قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها (2)، وكانت نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوج عثمان كلبية شامية (3)، فورد النعمان على معاوية بالشام فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس وعلق الأصابع في كم القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله، وحث بعضهم بعضاً على الأخذ بثأره (4)، وجاء شرحبيل بن السمط الكندي وقال لمعاوية: كان عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا (5) وآلى رجال الشام ألاَّ يمسوا النساء ولا يناموا على الفرش، حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم (6)، وكان ذلك ما يريده معاوية، فقد كانت الصورة التي نقلها النعمان بن بشير إلى أهل الشام كانت بشعة: مقتل الخليفة، سيوفاً مصلته من الغوغاء على رقاب الناس بالمدينة، بيت المال منتهكاً مسلوباً، وأصابع نائلة مقطوعة، فهاجت النفوس والعواطف، واهتزت المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها العيون. ولذلك كان إصرار معاوية ومن معه من أهل الشام على المطالبة بدم عثمان، وتسليم القتلة للقصاص قبل البيعة.
وهل تتصور أن يتم مقتل أمير المؤمنين وسيد
_________
(1) تاريخ الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين صـ 539.
(2) البداية والنهاية (7/ 539).
(3) تاريخ الدعوة الإسلامية لمحمد جميل صـ 398.
(4) البداية والنهاية (7/ 539) سندها ضعيف.
(5) الأنساب (4/ 418)، تاريخ الدعوة الإسلامية صـ 398.
(6) تاريخ الطبري (5/ 600).(1/103)
المسلمين من حاقدين محتالين متآمرين، ولا يتماوج العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه للقصاص من أصحاب هذه الجريمة البشعة (1)؟
2 ـ دوافع معاوية رضي الله عنه في عدم البيعة:
كان معاوية رضي الله عنه والياً على الشام في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى الخلافة
عليّ رضي الله عنه أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فاعتذر ابن عمر، فأرسل عليّ سهل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كان يصل مشارف الشام ـ وادي القرى ـ حتى عاد من حيث جاء، إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع (2)، لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتصّ علي رضي الله عنه من قتلة عثمان رضي الله عنه ثم يدخلون البيعة (3)، وقالوا لا نبايع من يأوي القتلة (4). وتخوّفوا على أنفسهم من قتلة عثمان رضي الله عنه الذين كانوا في جيش علي، فرأوا أن البيعة لعلي لا تجب عليهم قبل القصاص، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا بايعنا ظلمونا واعتدوا علينا وضاع دم عثمان، وكان معاوية رضي الله عنه يرى أن عليه مسئولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه، فهو ولي دمه والله يقول: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء، الآية: 33).
لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان، وأنه قتل مظلوماً على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام،، إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس، واستنكروا وعلت الأصوات وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أحدهم واسمه مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمت: .. وذكر الفتن وقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم (5).
_________
(1) معاوية بن أبي سفيان، للغضبان صـ 178، 183.
(2) تاريخ الطبري (5/ 466).
(3) البداية والنهاية (7/ 129).
(4) العواصم من القواصم صـ 162.
(5) صحيح سنن ابن ماجة (1/ 240).(1/104)
وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب معاوية القود من قتلة عثمان، ومنشطاً ودافعاً قوياً للتصميم على تحقيق الهدف، وهو: عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنهما قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه، فقال، يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاثاً، فقلت لها: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان لم يرضى بالذي أخبرته، حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه كتاباً (1). لقد كان الحرص الشديد في تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدم على البيعة، وليست لأطماع معاوية في ولاية الشام فضلاً عن طلبه للخلافة، إذ كان يدرك إدراكاً تاماً أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن علياً أفضل منه وأولى بالأمر منه (2)،
فعن أبي مسلم
الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فأتُوه، فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه، فلم يدفعهم إليه (3)، وأما ما شاع بين الناس قديماً وحديثاً أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان سببه طمع معاوية في الخلافة، وأن خروج هذا الأخير على عليّ وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام، فهذه روايات لا تصح ولا ثبتت، فقد جاء في كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لآبن قتيبة الدينوري، وهو لا يثبت له وإنما صاحبه ذو أنفاس شيعية رافضية، فقد ذكر أنَّ معاوية ادّعى الخلافة، وذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: اعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأنا أباه رأس الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه (4)، وهذا
_________
(1) مسند أحمد رقم 24045 حديث صحيح.
(2) خلافة علي بن أبي طالب، لعبد الحميد صـ 112 ..
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 140).رجاله ثقات وإسناده جيد.
(4) الإمامة والسياسة (1/ 113).(1/105)
كلام لا يثبت عن أمير المؤمنين علي وإنما من كلام الشيعة الروافض، وسيأتي الحديث عن كتاب الإمامة والسياسة وبيان كذبه وزوره ودوره في تشويه حقائق التاريخ في موضعه بإذن الله، وقد امتلأت كتب التاريخ والأدب بالروايات الموضوعة والضعيفة التي تزعم أن معاوية اختلف مع علي من أجل الملك والزعامة والإمارة (1).
والصحيح أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان حول مدى وجوب بيعة معاوية وأصحابه لعلي قبل توقيع القصاص على قتلة عثمان أو بعده، وليس هذا في أمر الخلافة في شيء فقد كان رأي معاوية رضي الله عنه ومن حوله من أهل الشام أن يقتص عليّ رضي الله عنه من قتلة عثمان، ثم يدخلون بعد ذلك في البيعة (2)، يقول القاضي ابن العربي أن سبب القتال بين أهل الشام وأهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما: فهؤلاء ـ أي أهل العراق ـ يدعون إلى عليّ بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء ـ أي أهل الشام ـ يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يأوي القتلة (3)، ويقول إمام الحرمين في ((لمع الأدلة)): إن معاوية وإن قاتل عليّاً، فإنه لا ينكر إمامته ولا يدّعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظآنَّاً منه أنه مصيب، وكان مخطئاً (4). ويقول الهيثمي: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أنَّ ما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من الحروب، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعليّ، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما
هاجت بسبب أن معاوية ابن عمّه فامتنع علي (5)،
لقد تضافرت الروايات وأشارت إلى أنّ معاوية رضي الله عنه اتخذ موقفه للمطالبة بدم عثمان، وأنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنه إذا أقيم الحد على قتلة عثمان ولو افترض أنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي وطمعاً في السلطة، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على من قتله عثمان؟ حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/ 145).
(2) البداية والنهاية (8/ 129) فتح الباري (13/ 92).
(3) العواصم من القواصم صـ 162.
(4) لمع الأدلة في عقائد أهل السنة والجماعة صـ 115.
(5) الصواعق المحرقة (2/ 622) هذا هو اجتهاد معاوية وإن كان الصواب هو أن يسلم معاوية ويطالب بالدعوة للقصاص ..(1/106)
معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليها إذا كان ذا أطماع (1)
إن معاوية رضي الله عنه كان من كتّاب الوحي، ومن قادة الصحابة، وأكثرهم حلماً، فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي ويهرق دماء المسلمين من أجل مُلك زائل؟ وهو القائل: والله لا أخير بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه (2)، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به (3)، وقال: اللهم علمه الكتاب وقه العذاب (4). وأما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان رضي الله عنه، فيظهر في رفضه أن يبايع لعلي رضي الله عنه قبل مبادرته إلى الاقتصاص من قتلة عثمان، ويضاف إلى ذلك خوف معاوية على نفسه لمواقفه السابقة من هؤلاء الغوغاء، وحرصهم على قتله بل ويلتمس منه أن يمكنه منهم، أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، بل يدخل في الطاعة ويرفع دعواه إلى الحاكم، ويطلب الحق عنده (5)، وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد ويأخذ حقه دون السلطان، أو من نصبه السلطان لهذا الأمر، لأن ذلك يفضي إلى الفتنة وإشاعة الفوضى (6). ويمكن القول: إن معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً، متأولاً يغلب ظنه أن الحق معه، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان ـ ابن عمه ـ وقد قتل مظلوماً، وقرأ عليهم الآية الكريمة: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء، الآية: 33).
ثم قال: أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقام
أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفنى الله أرواحهم (7). وإذا قارنّا بين طلحة والزبير رضي الله عنهما، ومعاوية لاحظنا أنهما أقرب إلى الصواب من معاوية رضي الله عنه ومن معه من أربعة أوجه كان أولها: مبايعتهما
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 150).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 151).
(3) صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 3018 (3/ 236).
(4) فضائل الصحابة (2/ 319) إسناده حسن.
(5) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 151).
(6) تفسير القرطبي (2/ 256).
(7) صفين لابن مزاحم صـ 32، تحقيق مواقف الصحابة (2/ 152).(1/107)
لعليّ رضي الله عنه طائعين مع إعترافهما بفضله، ومعاوية لم يبايعه وإن كان معترفاً بفضله (1). والثاني: منزلتهما في الإسلام وعند المسلمين وسابقتهما على معاوية ولاشك أن معاوية دونهما فيها (2). الثالث: أنهما أرادا قتل الخوارج على عثمان فقط ولم يتعمدا محاربة علي ومن معه في وقعة الجمل (3)، بينما أصر معاوية على حرب عليّ ومن معه في صفين (4)، والرابع: لم يتهما عليّاً بالهوادة في أخذ القصاص من قتلة عثمان، ومعاوية ومن معه اتهموه بذلك (5). ونضيف نقطة خامسة: أن طلحة والزبير اقتنعا بصواب موقف علي ودخلا في الطاعة عندما اتفقا مع القعقاع بن عمر وإنما الحرب بإثارة الغوغاء والسبائية لها.
3 ـ معاوية يرد على أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما:
بعث علي رضي الله عنه كتباً كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان رضي الله عنه في صفر، ثم بعث معاوية طُوماراً (6) مع رجل، فدخل به على عليِّ رضي الله عنه فقال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القوَدَ (7)، كلهم موتور (8)، تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. ثم خرج رسول معاوية من بين يدي عليَّ، فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد (9)
4 ـ تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام:
بعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي رضي الله عنهما عزم الخليفة على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى الأشعري بالكوفة، وبعث إلى
عثمان بن حنيف بالبصرة بذلك، وخطب
_________
(1) البداية والنهاية (8/ 129) وفتح الباري (13/ 92).
(2) كان طلحة والزبير من العشرة المبشرين بالجنة.
(3) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 113) تاريخ الطبري (5/ 475).
(4) تاريخ الطبري (5/ 612 ـ 615).
(5) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 139)، البداية والنهاية (7/ 259).
(6) الطومار: الصحيفة.
(7) القود: القتل بالقتيل.
(8) الموتور: صاحب الثأر.
(9) البداية والنهاية (7/ 240).(1/108)
الناس فحثهم على ذلك، وعزم على التجَهّزُ وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسين رضي الله عنهما فقال: يا أبتِ دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن عباس على الميمنة، وعمر بن أبي سلمة على المسيرة وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخ أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصداً الشام، جاءه ما يشغله عن ذلك (1)، وقد تمَّ تفصيل ذلك من خروج عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة إلى معركة الجمل، فليرجع إليه في كتاب أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2).
5 ـ إرسال أمير المؤمنين علي جرير بن عبد الله إلى معاوية بعد معركة الجمل:
ذُكر أن المدة بين خلافة أمير المؤمنين عليّ إلى فتنة السبئية الثانية أو ما يسمى البصرة، أو معركة الجمل، خمسة أشهر وواحد عشرين يوماً، وبين دخوله الكوفة شهر، وبين ذلك وخروجه إلى صفين ستة أشهر (3)، وروي شهران أو ثلاثة (4)، وقد كان دخول أمير المؤمنين الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: أنزل بالقصر الأبيض: فقال: لا إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلَّى بالجامع الأعظم ركعتين ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله، وكان على همدان من زمان عثمان، وإلى الأشعث بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على من هنالك ثم يُقبلا إليه، ففعلا ذلك، فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية يدعو إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا ذاهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنَّ بيني وبينه وُدَّاً، فآخذ لك البيعة منه، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 240، 241).
(2) علي بن أبي طالب للصَّلاَّبيِّ (1/ 498 إلى 624).
(3) مروج الذهب (2/ 360).
(4) التاريخ الصغير للبخاري (1/ 102).(1/109)
المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال علي: دعه، فبعثه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمَّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب، وطلب معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام، فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم. فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال
الأشتر: ألم أَنْهك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريراً؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية باباً إلا أغلقته. فقال له جرير: لو كنت لقتلوك بدم عثمان.
فقال الأشتر: والله لو بعثتني لم يعنني جواب معاوية ولأعجلنَّه عن الفكرة ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين، لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمَّة. فقام جرير مغضباً فأقام بقرقيسياء وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وقيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه (1). وهكذا كان الأشتر سبباً في إبعاد الصحابي جرير بن عبد الله، الذي كان والياً على قرقيسياء وعلى غيرها ورأساً في قبيلته بجيلة، ويضطره إلى مفارقة أمير المؤمنين علي، وهذا الصحابي جرير بن عبد الله البجلي قال: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي، وقال صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة مَلَكَ (2).
6 ـ مسيرة أمير المؤمنين علي إلى الشام:
استعد أمير المؤمنين علي لغزو الشام، فبعث يستنفر الناس، وجهز جيشاً ضخماً اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات ضعيفة (3)، إلا رواية واحدة حسنة الإسناد ذكرت أنه سار في خمسين ألفاً (4)، وكان مكان تجمع جند أمير المؤمنين بالنخلة (5)، وهو على ميلين من الكوفة آنذاك فتوافدت عليه القبائل من شتى أقليم العراق (6)، واستعمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أبا مسعود
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 265).
(2) مسلم رقم 2475.
(3) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2/ 630).
(4) تاريخ خليفة صـ 193 بسند حسن.
(5) النخلة: موقع قرب الكوفة من جهة الشام، معجم البلدان (5/ 278).
(6) خلافة علي بن أبي طالب، لعبد الحميد صـ 188.(1/110)
الأنصاري، وبعث من النخيلة زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف مقاتل، وبعث شريح بن هاني في أربعة آلاف، ثم خرج علي رضي الله عنه بجيشه إلى المدائن (بغداد) فانضم إليه من فيها من المقاتلة، وولى عليها سعد بن مسعود الثقفي، ووجه منها طليعة في ثلاثة آلاف إلى الموصل (1)، وسلك علي رضي الله عنه طريق الجزيرة الرئيسي على شط الفرات الشرقي حتى بلغ قرب قرقيسياء (2)، فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي رضي الله عنه إلى الرقة (3)، وعبر منها الفرات غرباً ونزل على صفين (4).
7 ـ خروج معاوية إلى صفين:
كان معاوية جادَّاً في مطاردة قتلة عثمان رضي الله عنه فقد استطاع أن يترصد بجماعة ممن غزا المدينة من المصريين أثناء عودتهم وقتلهم ومنهم: أبو عمرو بن بديل الخزاعي (5)، ثم كانت له أيد في مصر، وشيعة في أهل ((خربتا) تطالب بدم عثمان رضي الله عنه، وقد استطاعت هذه الفرقة من إيقاع الهزيمة بمحمد بن أبي حذيفة في عدة مواجهات عام 36 هـ، كما استطاع أيضاً أن يوقع برؤوس مدبري ومخططي غزو المدينة من المصريين مثل عبد الرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر، ومحمد بن حذيفة فحبسهم في فلسطين، وذلك في الفترة التي سبقت خروجه إلى صفين، ثم قتلهم في شهر ذي الحجة عام 36 هـ (6)، وعندما علم معاوية بتحرك جيش العراق نحو صفين جمع مستشاريه من أعيان أهل الشام، وخطب فيهم وقال: إن عليَّاً نهد إليكم في أهل العراق، .. فقال ذو الكلاع الحميري: عليك أم رأي وعلينا أم فعال (7). وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان رضي الله عنه والقتال (8)، وقد قام عمرو بن العاص رضي الله عنه بتجهيز الجيش وقاد الألوية، وقام في الجيش خطيباً يحرضهم، فقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 603) بسند منقطع.
(2) قرقيسياء: بلد يقع على نهر الخابور عند مصبه في الفرات، معجم البلدان (4/ 328).
(3) الرقة: مدينة مشهورة ـ في سوريا اليوم ـ على نهر الفرات الشرقي معجم البلدان (3/ 153).
(4) تاريخ الطبري (5/ 604).
(5) المحن لأبي العرب التميمي صـ 124، خلافة علي لعبد الحميد صـ 191.
(6) خلافة علي، لعبد الحميد صـ 191.
(7) الإصابة (1/ 480) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 192.
(8) أنساب الأشراف (2/ 52) بسند منقطع، وخلافة علي صـ 192.(1/111)
شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة المخالفين لعلي قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة ومنهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه (1).
وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره وكلها روايات منقطعة أسانيدها، وهي عين الروايات التي قدرت جيش علي رضي الله عنه، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفاً (2)، وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر من ذلك بكثير إلا أن الأقرب للصواب أنهم ستون ألف مقاتل، فهي وإن كانت منقطعة الإسناد إن أن راويها صفوان بن عمرو السكسي، حمصي من أهل الشام ولد عام ((72 هـ)) وهو ثبت ثقة، وقد أدرك خلق ممن شهد صفين، كما تبين من دراسة ترجمته (3)، والإسناد إليه صحيح (4)، وكان قادة جيش معاوية على النحو التالي: عمرو بن العاص، على خيول أهل الشام كلها، والضحاك بن قيس على رجالة الناس
كلهم، وذو الكلاع الحميري على ميمنة الجيش، وحبيب بن مسلمة على ميسرة الجيش، وأبو الأعور السلمي على المقدمة، هؤلاء هم القادة الكبار وتحت كل قائد من هؤلاء قادة وزعوا على حسب القبائل، وكان هذا الترتيب عند مسيرهم إلى صفين، ولكن أثناء الحرب تغير بعض القادة وظهر قادة آخرين مما اقتضته الظروف، ولعل هذا يكون السبب في اختلاف أسماء القادة في بعض المصادر (5). وبعث معاوية أبا الأعور السلمي مقدمة للجيش، وكان خط سيرهم إلى الشمال الشرقي من دمشق، ولما بلغ صفين أسفل الفرات، عسكر في مكان سهل فسيح، إلى جانب شريعة ماء في الفرات، ليس في ذلك المكان شريعة غيرها وجعلها في حيزه (6).
8 ـ القتال على الماء:
وصل جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعاً فسيحاً سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعاً ما إذ أغلب الأرض صخور ذات كدى وأكمات (7)، ففوجيء جيش العراق
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 601) بسند منقطع.
(2) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 194، المعرفة والتاريخ (3/ 313).
(3) سير أعلام النبلاء (6/ 380).
(4) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 194.
(5) امتداد العرب في صدر الإسلام، صالح العلي، خلافة علي صـ 194.
(6) صفين لنصر بن مزاحم صـ 160 ـ 161.
(7) خلافة علي بن أبي طالب، لعبد الحميد صـ 196.(1/112)
بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي رضي الله عنه يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث ابن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بين الفريقين، انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء (1)، إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال من أصله مفادها: أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هبوا إنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟ إن الله يقول: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) (الحجرات، الآية:9) قال معاوية: فما تريد؟ قالوا خلوا بيننا وبين الماء، فقال لأبي الأعور: خل بين إخواننا وبين الماء (2)،
وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين من المسلمين، إذا استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر، وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، فكان علي رضي الله عنه يخرج من جيشه كتيبة صغيرة يؤمر عليها أميراً، فيقتتلان مرة واحدة في اليوم في الغداة أو العشي، وفي بعض الأحيان يقتتلان مرتين في اليوم، وكان أغلب من يخرج من أمراء الكتائب في جيش علي، الأشتر، وحجر بن عدي وشبت بن ربعي، وخالد بن المعتمر، ومعقل بن يسار الرياحي، ومن جيش معاوية أغلب من يخرج، حبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو الأعور السلمي، وشرحبيل
بن السمط وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفين تصان به الأرواح والدماء (3).
9 ـ الموادعة بينهما ومحاولات الصلح:
ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة، طمعاً في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم ولكن المعلومات عن مراسلات هذه الفترة ـ شهر المحرم ـ وردت من طرق ضعيفة (4)، مشهورة إلا أن
_________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 294) بسند حسن.
(2) سير أعلام النبلاء (2/ 41) مرويات أبي مخنف صـ296 ..
(3) خلافة علي بن أبي طالب، لعبد الحميد صـ197، 198، تاريخ الطبري (5/ 614)، البداية والنهاية (7/ 266).
(4) تاريخ الطبري (5/ 612، 613) خلافة علي بن أبي طالب صـ119.(1/113)
ضعفها لا ينفي وجودها. كان الباديء بالمراسلة، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرسل بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني وشبت بن ربعي التميمي إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه كما دعاه من قبل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة فرد معاوية عليه برده السابق المعروف، بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً، ثم يدخل في البيعة، وقد تبين لنا موقف علي من هذه القضية (1)، كما أن قُرَّاء الفريقين قد عسكروا في ناحية من صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولات للصلح بينهما، فلم تنج تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه (2)، وقد حاول اثنان من الصحابة وهما أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما الصلح بين الفريقين، فلم تنجح مهمتهما، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما (3)، وكذلك حضر مسروق بن الأجدع أحد كبار التابعين وخطب الناس في محاولة منه لرأب الصدع بينهم فقال: أيها الناس أنصتوا ثم قال: أرأيتم لو أن منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عما أنتم فيه، أكنتم مطيعيه، قالوا: نعم: قال فوالله لقد نزل بذلك جبرائيل على محمد .. فما زال يأتي من هذا.
ثم تلا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رحيماً)) (النساء، الآية: 29). ثم أنساب في الناس فذهب (4). وقد انتقد ابن كثير التفصيلات الطويلة التي جاءت في روايات أبي مخنف ونصر بن مزاحم، بخصوص المراسلات بين الطرفين فقال: ... ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيه معاوية وأباه، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزلا في تردد فيه، وغير ذلك وأنه قال في غضون ذلك؟ لا أقول إن عثمان قُتل مظلوماً ولا ظالماً،
وهذا عندي لا يصح من علي رضي الله عنه (5). وموقف علي رضي الله عنه من قتل عثمان رضي الله عنه واضح، وقد بينته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنهما وفي هذا الكتاب.
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 613) خلافة علي بن أبي طالب صـ199.
(2) المصدر نفسه (5/ 614).
(3) البداية والنهاية (7/ 270).
(4) الطبقات (6/ 78)، القرّاء دورهم في الحياة العامة في صدر الإسلام والخلافة الأموية، هادي حسين حمود.
(5) البداية والنهاية (7/ 269).(1/114)
ثالثاً: نشوب القتال:
عادت الحرب على ما كانت عليه في شهر ذي الحجة من قتال الكتائب والفرق والمبارزات الفردية، خشية الالتحام الكلي إلى أن مضى الأسبوع الأول منه، وكان عدد الوقعات الحربية بين الفريقين إلى هذا التاريخ أكثر من سبعين وقعة وذكر أنها تسعون (1)، إلا أن علياً أعلن في جيشه أن غداً الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ إلى معاوية يخبره بذلك (2)، فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها وقام عمرو بن العاص بإخراج الأسلحة من المخازن لمن يحتاج من الرجال ممن فل سلاحه، وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال (3)، وبات جميع الجيش في مشاورات وتنظيم للقيادات والألوية (4).
1 ـ اليوم الأول:
أصبح الجيشان في يوم الأربعاء قد نظمت صفوفهم ووزعوا حسب التوزيع المتبع في المعارك الكبرى، قلب، وميمنة، وميسرة، فكان جيش علي رضي الله عنه على النحو التالي (5): علي بن أبي طالب على القلب، وعبد الله بن عباس على الميسرة، وعمّار بن ياسر على الرجالة، ومحمد بن الحنفية حامل الراية وهشام بن عتبة (المرقال) حامل اللواء، والأشعث بن قيس على الميمنة. وأما جيش الشام، فمعاوية في كتيبة الشهباء أصحاب البيض والدروع على تل مرتفع وهو أمير الجيش، وعمرو بن العاص قائد خيل الشام كلها، وذو الكلاع الحميري على الميمنة على أهل اليمن، وحبيب بن مسلمة الفهري على الميسرة على مضر والمخارق بن الصباح الكلاعي حامل اللواء (6)، وتقابلت الجيوش الإسلامية ومن كثرتها قد سدت الأفق، ويقول كعب بن جعيل التغلبي أحد شعراء العرب (7) وذلك عندما رأى الناس في ليلة الأربعاء وقد ثبتوا إلى نبالهم وسيوفهم يصلحونها استعداداً لهذا اليوم:
_________
(1) الأنباء بتواريخ الخلفاء صـ59، شذرات الذهب (1/ 45).
(2) البداية والنهاية (7/ 273).
(3) سنن سعيد بن منصور (2/ 240) ضعيف.
(4) علي بن أبي طالب للصَّلاَّبي (2/ 635).
(5) تاريخ خليفة بن خياط صـ193 بسند حسن إلى شاهد عيان.
(6) المصدر نفسه صـ193.
(7) الأعلام للزركلي (6/ 180).(1/115)
أصبحت الأمة في أمر عجب ... والملك مجموع غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب ... إن غداً تهلك أعلام العرب (1)
وتذكر بعض الروايات الضعيفة أن علياً خطب في جيشه، وحرضهم على الصبر والإقدام والإكثار من ذكر الله (2)، وتذكر أيضاً أن عمرو بن العاص، قد استعرض جيشه، وأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها (3)، وهذه الروايات لا يوجد مانع من الأخذ بها، لأن كل قائد يحرض جيشه ويحمسه، ويهتم بكل ما يؤدي به إلى النصر وألتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدماً إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، يصل كل فريق في معسكره وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما، وسأل أحد أفراد جيش على رضي الله عنه حين إنصرافه من الصلاة، فقال: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: من قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة (4) وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحد أحداً، ولم ير مولياً حتى إنتهى ذلك اليوم. وفي المساء خرج علي رضي الله عنه إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم أغفر لي ولهم (5).
2 ـ اليوم الثاني:
في يوم الخميس تذكر الروايات أن علياً رضي الله عنه قد غلس بصلاة الفجر واستعد للهجوم، وغير بعض القيادات، فوضع عبد الله بن بديل الخزاعي على الميمنة بدلاً من الأشعث بن قيس الكندي الذي تحول إلى الميسرة (6)، وزحف الفريقان نحو بعضهما واشتبكوا في قتال عنيف أشد من سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقاً على أهل الشام واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية وعليها حبيب بن مسلمة ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء) وأظهر شجاعة وحماساً منقطع النظير، وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 273)، تاريخ الطبري (5/ 626).
(2) تاريخ الطبري (5/ 622) من طريق أبي محنف.
(3) الطبقات (4/ 255) من طريق الواقدي.
(4) سنن سعيد بن منصور (2/ 344 ـ 345) بسند ضعيف.
(5) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 297) بسند صحيح.
(6) تاريخ الطبري (5/ 630).(1/116)
العراق، حتى أن معاوية، قد حدثته نفسه بترك ميدان القتال، إلا أنه صبر وتمثل بقول الشاعر:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
واكراهي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تسريحي (1)
واستحث كتيبته الشهباء واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، فأخذ مكانه في قيادة الميمنة الأشتر وتماسك أهل الشام وبايع بعضهم على الموت، وكروا مرة أخرى بشدة وعزيمة وقتل عدد من أبرزهم ذو الكلاع، وحوشب وعبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وإنقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدماً، وبدأ جيش العراق في التراجع، واستحر القتل في أهل العراق، وكثرت الجراحات ولما رأى علي جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمسهم، وقاتل قتالاً شديداً واتجه إلى القلب حيث ربيعة، فثارت فيهم الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعمر على الموت وكانوا أهل قتال (2).
وكان عمّار بن ياسر رضي عنه قد جاوز الرابعة والتسعين عاماً، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس، ويستنهض الهمم ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام، فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهانا واحد ونبينا واحد وقبلتنا واحدة (3).
ولما رأى عمار رضي الله عنه تقهقر أصحابه، وتقدم خصومه، أخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق ولا يغرنهم ضربات الشاميين الشديدة، فيقول رضي الله عنه: من سره أن تكتنفه الحور العين فليقدم بين الصفين محتسباً، فإني لأرى صفاً يضربكم ضرباً يرتاب منه المبطلون والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبغلوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل لعلمنا أن مصلحينا على
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 636).
(2) الإصابة (1/ 454)، أنساب الأشراف (2/ 56) بسند حسن إلى قتادة.
(3) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 290) الإسناد حسن لغيره.(1/117)
الحق وأنهم على الباطل (1)، ثم أخذ في التقدم، وفي يده الحربة ترعد ـ لكبر سنه ـ ويشتد على حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ويستحثه في التقدم ويرغبه ويطمعه فيما عند الله من النعيم، ويطمع أصحابه أيضاً فيقول: أزفت الجنة وأزينت الحور العين، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسباً وكان منظر مؤثر فهو صحابي جليل مهاجري بدري جاوز الرابعة والتسعين يمتلك كل هذا الحماس وهذا العزم والروح المعنوية العالية واليقين الثابت، فكان عاملاً هاماً من عوامل حماس جيش العراق ورفع روحهم المعنوية مما زادهم عنفاً وضراوة وتضحية في القتال حتى استطاعوا أن يحولوا المعركة لصالحهم وتقدم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو يرتجز بقوله:
أعور يبغي أهله مَحَلاَّ ... قد عالج الحياة حتى ملاَّ
لا بد أن يَفُلّ أو يُفَلاَّ (2)
وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل (3)، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين
اليوم ألقى الأحبة ... محمّداً وحزبه (4)
وعند غروب الشمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة من لبن ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن (5). ثمّ تقدم واستحث معه حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري فلم يرجعا وقتلا (6) رحمهما الله رضي الله عنهما.
3 ـ ليلة الهرير ويوم الجمعة:
عادت الحرب في نفس الليلة بشدة وإندفاع لم تشهدها الأيام السابقة وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم، وقاتل
_________
(1) مجمع الزوائد (7/ 243)، خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 219 إسناده حسن.
(2) تاريخ الطبري (5/ 652).
(3) الأسل: الرماح.
(4) تاريخ الطبري (5/ 652).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 302، 303). بسند منقطع.
(6) تاريخ الطبري (5/ 652).(1/118)
أمير المؤمنين علي قتالاً شديداً وبايع على الموت (1)، وذكر أن علياً رضي الله عنه صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف (2)، وقال الشافعي: وحفظ عن علي أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير (3)، يقول شاهد عيان: إقتتلنا ثلاثة أيام وثلاثة ليالي حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فأجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نعانق بعضنا بعض ولما صارت السيوف كالمناجل تضاربنا بعمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة القوم ثم ترامينا بالحجارة وتحاثينا بالتراب وتعاضينا بالأسنان وتكاد منا بالأفواه إلى أن أصبحوا في يوم الجمعة وارتفعت الشمس وإن كانت لا ترى من غبار المعركة وسقطت الألوية والرايات وأنهك الجيش التعب وكلت الأيدي وجفت الحلوق (4).
ويقول ابن كثير في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهما ليهمر على الآخر، ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا فإنا لله وإنا إليه لراجعون ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماؤهم في القتال حتى تضاحا النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام (5).
4 ـ الدعوة إلى التحكيم:
إن ما وصل إليه حال الجيشين بعد ليلة الهرير لم يكن يحتمل مزيد قتال، وجاءت خطبة الأشعث بن قيس زعيم كندة أصحابه ليلة الهرير فقال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن توافقنا غداً إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمان، أما والله
_________
(1) المستدرك (3/ 402) قال الذهبي ضعيف، خلافه علي صـ 226.
(2) سنن الكبرى للبيهقي (3/ 252) قال الألباني رواه البيهقي بصيغة التمريض إرواء الغليل (3/ 42).
(3) تلخيص الحبير (2/ 78)، خلافة علي بن أبي طالب صـ 227.
(4) شذرات الذهب (1/ 45)، وقعة صفين صـ 369.
(5) البداية والنهاية (7/ 283).(1/119)
ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحرب، ولكن رجل مسن، وأخاف على النساء والذراري غداً إذا نحن فنينا اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ (1).
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن إلتقينا غداً لتميلين الروم على ذرارينا ونسائنا ولتميلين أهل فارس على أهل العراق وذراريهم وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا (2)، وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ولن يضير معاوية أو عمرو بشيء أن تأتى أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة إنما يزعج ذلك أعداء الأمة الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركاماً من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل، كالمناداة بتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة جريمة ومؤامرة (3) وحيلة ونسبوا لأمير المؤمنين علي أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح على أنه قال: (إنهم ما رفعوها، ثم لا يرفعونها، ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة (4)، ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة (5)، ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص رضي الله عنه حتى لم تعد تجد كتاباً من كتب التاريخ إلا فيه انتقاص لعمرو بن العاص وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهم، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدون وغيرهم كثير، مما ساهم في تشوية الحقائق التاريخية الناصعة.
_________
(1) وقعه صفين للمتفري صـ 479.
(2) المصدر نفسه صـ (481 ـ 884).
(3) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين صـ 316.
(4) الكامل (2/ 386).
(5) المصدر نفسه (5/ 662، 663).(1/120)
إن رواية أبي مخنف تفترض أن علياً رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم
استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القراء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد (1)، وهذه الرواية تحمل سباً من علي لمعاوية وصحبه يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي، ويكفي للرواية سقوطاً أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، فهي روية لا تصمد للبحث النزيه ولا ما يرويه الأمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل ـ أحد رجال علي بن أبي طالب ـ فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علي المصحف، فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) (آل عمران، الآية 23). فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقال القُراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج، بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر رضي الله عنه للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: أيها الناس إن هذا فتح فقبل القضية ورجع، ورجع الناس (2). وأظهر سهل بن حنيف رضي الله عنه اشمئزازاً ممن يدعون إلى استمرار الحرب بين الإخوة وقال: أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم (3)،
وبين لهم بأنه لا خيار عن الحوار والصلح لأن ما سواه فتنة لا تعرف عواقبها، فقد قال: ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر إلا أسهلن بنا إلى ما نعرفه قبل هذا الأمر ما سد منها خُصماً إلا تفجر علينا خُصم ما ندري كيف نأتي له (4)، وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار ونسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 662، 663).
(2) مصنف أبي شيبة (8/ 336)، مسند أحمد مع الفتح الرباني (8/ 483).
(3) البخاري رقم 4189 ..
(4) البخاري رقم 4189.(1/121)
صفين، ليظهروهم بمظهر المتحمس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرار الفتنة (1)، إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب صفين، إذ أن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاهاً جماعياً رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في إتخاذ القرارات (2).
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قبل وقف القتال في صفين ورضي التحكيم وعد ذلك فتحاً ورجع (3) إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد. إن وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم ساهمت عدة عوامل به للتحكيم منها:
أـ أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بذلت لايقاف الصدام وحقن الدماء سواء تلك المحاولات الجماعية، أم المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبودلت بين الطرفين لتنفيذ وجهات نظر كل منهما، ولم تُجْد هي الأخرى ـ شيئاً وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال حيث كتب إلى علي رضي الله عنه يطالبه بتوقف القتال فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقي (4).
ب ـ تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلباً يرنو إليه الجميع.
جـ ـ الملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش علي في إتجاه الموادعة
_________
(1) الأنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدي من الخلاف صـ530.
(2) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ38.
(3) المصدر نفسه رقم 2916.
(4) الأخبار الطوال للدينوري صـ187، دراسات في عهد النبوة صـ432.(1/122)
وكانوا يرددون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة (1)، وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص. والحق أن فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من إبتكار عمرو بن العاص، بل رفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضي البصرة بسهم وقتل.
س ـ الاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح قال تعالى ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) (النساء، الآية: 59) ويؤيد هذا ما قاله علي بن أبي طالب حينما عرض عليه الاحتكام إلى كتاب الله قال: نعم أنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله (2).
5 ـ مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين:
يعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار رضي الله عنه: تقتلك الفئة الباغية (3) من الأحاديث الصحيحة
والثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان لمقتل عمّار رضي الله عنه أثر في معركة صفين، فقد كان علماً لأصحاب رسول الله يتبعونه حيث سار وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافاً سلاحه، فلما رأى مقتل عمّار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمّار: تقتله الفئة الباغية (4)، واستمر في القتال حتى قتل (5)، وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبو الأعور السلمي، عند شرعة الماء يسقونـ وكانت هي شربة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وأي رجل؟ قال: عمّار بن ياسر .. قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتله الفئة الباغية. فقال عمرو لمعاوية لقد قتلنا الرجل وقد
_________
(1) صفين صـ482 ـ 485، دراسات في عهد النبوة صـ433.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (8/ 336).
(3) مسلم رقم 2916.
(4) مسلم 2916.
(5) خلافة علي صـ211.(1/123)
قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض (1) في بولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به (2)، فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام إنتشار النار في الهشيم، وجاء في رواية صحيحة أن عمرو بن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتله الفئة الباغية.
فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار، فقال معاوية: قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية فقال له معاوية دحضت في بولك، أونحن قتلناه، إنما قتله علي وأصحابه، جاؤا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال بين سيوفنا (3). وفي رواية صحيحة أيضاً: جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنه قتلته، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطلب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" تقتله الفئة الباغية. قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل (4). من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حريص على قول الحق، والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده، هم الفرقة الباغية لقتلهم عماراً، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة، ولا شك أن مقتل عمار رضي الله عنه قد أثر في أهل الشام بسبب
هذا الحديث، إلا أن معاوية رضي الله عنه أول الحديث تأويلاً غير مستساغ ولا يصح في أن الذين قتلوا عمار هم الذين جاءوا به إلى القتال (5)، وقد أثر مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعاً لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب (6)، وقد قال رضي الله عنه: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة (7)،
وقد جاء في البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا
_________
(1) الدحض الزلق، والداحض لمن لا ثبات له ولا عزيمة في الأمور.
(2) مسند أحمد (2/ 206) إسناده حسن.
(3) مصنف عبد الرزاق (11/ 240) بسند صحيح.
(4) مسند أحمد (11/ 138 ـ 139) قال أحمد شاكر: سنده صحيح.
(5) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ325.
(6) معاوية بن أبي سفيان، الغضبان صـ215.
(7) أنساب الأشراف (1/ 170)، عمرو بن العاص للغضبان صـ603 ..(1/124)
نحمل لبنة لبنة وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. قال عمّار: أعوذ بالله من الفتن (1)، وقال ابن عبد البر: تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تقتل عمار الفئة الباغية، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو من أصح الأحاديث (2)، وقال الذهبي بعد ما ذكر الحديث: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر (3).
* فهم العلماء للحديث:
أـ قال ابن حجر: وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار، وردُّ على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه (4)، وقال أيضاً: دل الحديث: تقتل عماراً الفئة الباغية، على أن علياً كان المصيب في تلك الحروب، لأن أصحاب معاوية قتلوه (5).
ب ـ يقول النووي: وكانت الصحابة يوم صفين يتبعونه حيث توجه لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة لهذا الحديث (6).
ت ـ قال ابن كثير: كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثني من هو خير مني ـ يعني أبا قتادة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية (7). وقال أيضاً: وهذا مقتل عمار بن
ياسر رضي الله عنهما مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قتله أهل الشام، وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن علياً محق، وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائ النبوة (8).
ث ـ وقال الذهبي: هم طائفة من المؤمنين، بغت على الإمام علي، وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار: تقتلك الفئة الباغية (9).
_________
(1) البخاري رقم 447.
(2) الاستيعاب (3/ 1140).
(3) سير أعلام النبلاء (1/ 421).
(4) فتح الباري (1/ 646).
(5) فتح الباري (13/ 92).
(6) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 38).
(7) البداية والنهاية (6/ 220).
(8) البداية والنهاية (7/ 277).
(9) سير أعلام النبلاء (8/ 209).(1/125)
جـ ـ قال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ)) (الحجرات، الآية: 9)، هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من هذه الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: تقل عمار الفئة الباغية (1).
ح ـ وقال ابن تيمية: وهذا يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داعٍ إلى النار ـ وإن كان متأولاً ـ وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قال علي، وعلي هذا فمقاتله مخطئ ـ وإن كان متأولاً ـ أو باغ ـ بلا تأويل ـ وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على لذك قتال البغاة المتأولين (2). وقال أيضاً: مع أن علياً أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عمار قتلته الفئة الباغيةـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف (3).
س ـ وقال عبد العزيز بن باز: وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: تقتل عمار الفئة الباغية: فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين، فمعاوية وأصحابه بغاة، لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان (4).
وـ وقال سعيد حوى: بعد أن قتل عمار الذي وردت النصوص مبينة أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن علياً كان على حق وأن القتال معه كان واجباً ولذا عبّر ابن عمر عن تخلُّفه بأنه يأس بسبب هذا التخلف، وما ذلك إلا أنه ترك واجباً وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق كما أفتى بذلك الفقهاء (5)
* الرد على قول معاوية رضي الله عنه: إنما قتله من جاء به (6):
إن جل الصحابة والتابعين قد فهموا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك
_________
(1) أحكام القرآن (4/ 1717).
(2) مجموع الفتاوي (4/ 437).
(3) المصدر نفسه (4/ 449 ـ 450).
(4) فتاوى ومقالات متنوعة (6/ 87).
(5) الأساس في السنة (4/ 1710).
(6) مسند أحمد (2/ 206) إسناده حسن.(1/126)
الفئة الباغية (1)، إن المقصود جيش معاوية رضي الله عنه، مع أنهم معذورون في اجتهادهم فهم يقصدون الحق ويريدونه، ولكنهم لم يصيبوه، وفئة علي أولى بالحق منهم كما قال صلى الله عليه وسلم (2)، ومع أن الأئمة لم يعجبهم تأويل معاوية ـ كما سأنقل ـ إلا أنهم عذروه في إجتهاده، فهاهو ابن حجر يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (3). فإن قيل: كان قتله بصفين وهو مع علي، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟ فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في إتباع طنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام وكذلك معذورون للتأويل الذي ظهر لهم (4).
وقال القرطبي: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد، فصل: علي رضي الله عنه، كان إماماً حقاً في توليته، ومقاتلوه بغاة، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه (5)، وقال أيضاً: وقد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بأن قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من علي رضي الله عنه إلزام، لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب ابن دحية (6)، وقال ابن كثير: فقول معاوية: إنما قتله من قدمه إلى سيوفنا، تأويل بعيد جداً، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله، حيث قدمهم إلى سيوف الأعداء (7)، وقال ابن تيمية: وهذا القول لا أعلم له قائلاً من اصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة، ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم (8)، وقال ابن القيم معلقاً على هذا التأويل: نعم التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية (9)، فقالوا: نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا، فهذا هو التأويل الباطل المخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإن الذي قتله هو الذي قتله، لا من استنصر به (10).
_________
(1) مسلم رقم 2916.
(2) معاوية بن أبي سفيان صـ210 ـ 214.
(3) البخاري رقم 447.
(4) فتح الباري (1/ 645).
(5) التذكرة (2/ 222).
(6) التذكرة (2/ 223).
(7) البداية والنهاية (6/ 221).
(8) منهاج السنة (4/ 406).
(9) مسلم رقم 2916.
(10) الصواعق المرسلة (1/ 184، 185).(1/127)
6 ـ من هو قاتل عمّار بن ياسر؟
قال أبو الغادية الجهني وهو يحدث عن قتله لعمار: فلما كان يوم صفين، أقبل يستن أول
الكتيبة رَجِلاً، حتى إذا كان بين الصفين فأبصر رجلٌ عورة، فطعنه في ركبته بالرمح فعثر، فانكشف المغفر عنه، فضربته فإذا هو رأس عمار. ثم قتل عماراً، واستسقى أبو غادية/ فأتي بماء في زجاج، فأبى أن يشرب فيها، فأتى بماء في قدح فشرب، فقال رجل: ... يتورع عن الشرب في الزجاج ولم يتورع عن قتل عمار (1)، ويخبر عمرو بن العاص رضي الله عنه الخبر فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار وسالبه في النار (2). قال ابن كثير ومعلوم أن عماراً كان في جيش علي يوم صفين، وقتله أصحاب معاوية من أهل الشام، وكان الذي تولى قتله يقال له أبو الغادية، رجل من أفناد الناس، وقيل إنه صحابي (3)، وقال ابن حجر: والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا متأولين للمجتهد المخطيء أجر، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى (4)، وقال الذهبي: وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمار وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل (5)، وقد وفق الألباني في تعليقه على قول ابن حجر: هذا حق، لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل، لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة، أي (قاتل عمار وسالبه في النار) (6)،
إذ لا يمكن القول بأن أبا غادية القاتل لعمار مأجور، لأنه قتله مجتهداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار في النار (7)، فالصواب أن يقال: إن القاعدة صحيحة، إلا ما دل الدليل
_________
(1) الطبقات الكبرى (3/ 260، 261).
(2) السلسلة الصحيحة (5/ 18 ـ 19).
(3) البداية والنهاية (6/ 220).
(4) الإصابة (7/ 260).
(5) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين صـ654.
(6) السلسة الصحيحة (5/ 18 ـ 19) ..
(7) المصدر نفسه (5/ 18 ـ 19).(1/128)
القاطع على خلافها، فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها (1). وقد ترجم لأبي الغادية الجهني ابن عبد البر فقال: اختلف في اسمه، فقيل: يسار بن سًبُع وقيل يسار بن أزهر، وقيل إن اسمه مسلم. سكن الشام ونزل في واسط، يعدُّ في الشاميين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، رُوي عنه أنّه قال: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أيفع، أرد على أهلي الغنم، وله سماع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (2)، وكان محباً لعثمان، وهو قاتل عمار بن ياسر، وكان يصف قتله إذا سئل عنه لا يباليه وفي قصته
عجبٌ عند أهل العلم (3).
7 ـ المعاملة الكريمة أثناء الحرب والمواجهة:
إن وقعت صفين كانت من أعجب الوقائع بين المسلمين .. كانت هذه الوقعات من الغرابة إلى حد أن القارئ لا يصدق ما يقرأ ويقف مشدوهاً أمام طبيعة النفوس عند الطرفين، فكل منهم كان يقف وسط المعركة شاهراً سيفه وهو يؤمن بقضيته إيماناً كاملاً، فليست معركة مدفوعة من قبل القيادة يدفعون الجنود إلى معركة غير مقنعين بها، بل كانت معركة مدفوعة من قبل القيادة، معركة فريدة في بواعثها وفي طريقة أدائها وفيما خلفتها من آثار فبواعثها في نفوس المشاركين يعبر عنها بعض المواقف التي وصلت إلينا في المصادر التاريخية، فهم إخوة يذهبون معاً إلى مكان الماء فيستقون جميعاً ويزدحمون وهم يغرفون الماء وما يؤذي إنسان إنساناً (4)، وهم إخوة يعيشون معاً عندما يتوقف القتال فهذا أحد المشاركين يقول: كناإذا تواعدنا من القتال دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء وهؤلاء في معسكر هؤلاء .. وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم (5)، وهم أبناء قبيلة واحدة ولكل منهما اجتهاده،
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 19).
(2) مسند أحمد (4/ 76) وسنده حسن.
(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب رقم3089.
(4) تاريخ الطبري (5/ 610)، سير أعلام النبلاء (2/ 41)، مرويات أبي مخنف صـ296.
(5) البداية والنهاية (7/ 270)، دراسات في عهد النبوة صـ423.(1/129)
فيقتل أبناء القبيلة الواحدة كل في طرف (1)، قتالاً مريراً، وكل منهما يرى نفسه على الحق وعنده الاستعداد لأن يُقْتَل من أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخِنا (وهنا وضعفاً) ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا (2)، وهما أبناء دين واحد يجمعهما، وهو أحب إليهما من أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها (3)، ويوم قتل عمار بن ياسر صلى عليه الطرفان (4)،
ويذكر شاهد عيان إشترك في صفين: تنازلنا بصفين، فاقتتلنا أياماً فكثر القتلى بيننا حتى عقرت الخيل، فبعث علي إلى عمرو بن العاص أن القتلى قد كثروا فأمسك حتى يدفن الجميع قتلاهم فأجابهم، فاختلط بعض القوم ببعض حتى كانوا هكذا وشبك بين أصابعه، وكان الرجل من أصحاب علي يشد فيقتل في عسكر معاوية، فيستخرج منه، وقد مر أصحاب علي بقتيل لهم أمام عمرو، فلما رآه بكى وقال: لقد كان مجتهداً أخشن في أمر الله (5). وكانوا يسارعون إلى التناهي عن المنكر حتى في مثل هذه المواقع، فكانت هناك مجموعة عرفوا بالقراء، وكانوا من تلامذة عبد الله بن مسعود من أهل العراق ومن أهل الشام معاً، فلم ينضموا إلى أمير المؤمنين علي، ولا إلى معاوية بن أبي سفيان وقالوا لأمير
المؤمنين: إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له، أو بدا منه بغي كنا عليه فقال علي: مرحباً وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة من لم يرضى بهذا فهو جائر خائن (6). والحقيقة أن هذه المواقف منبعثة من قناعات وإجتهادات استوثقوا منها في قرارة أنفسهم وقاتلَّوا عليها (7)
_________
(1) تاريخ الطبري، نقلاً عن دراسات في عهد النبوة صـ424.
(2) البداية والنهاية (10/ 272).
(3) تاريخ الطبري، نقلاً عن دراسات في عهد النبوة صـ424.
(4) تاريخ دمشق (8/ 233) دراسات في عهد النبوة صـ424 ..
(5) أنساب الأشراف (6/ 56) بسند حسن.
(6) صفين صـ115، دراسات في عهد النبوة صـ424.
(7) دراسات في عهد النبوة صـ424.(1/130)
8 ـ معاملة الأسرى عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
إن المعاملة الحسنة للأسير وإكرامه في صفين من الأمور البدهيه بعد ما استعرضنا المعاملة الكريمة أثناء القتال، وقد بين الإسلام معاملة الأسرى، فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على إكرام الأسرى، وإطعامه أفضل الأطعمة الموجودة، هذا مع غير المسلمين فكيف إذا كان الأسير مسلماً، لا شك إن إكرامه والإحسان إليه أولى، ولكن الأسير في هذه المعركة يعتبر فئة وقوة لفرقته (1)، لذلك كان علي رضي الله عنه يأمر بحبسه، فإن بايع أخلى سبيله وإن أبى أخذ سلاحه ودابته أو يهبها لمن أسره ويحلفه إلا يقاتل وفي رواية يعطيه أربعة دراهم (2) وغرض الخليفة الراشد من ذلك واضح، وهو إضعاف جانب البغاة وقد أتى بأسير يوم صفين فقال الأسير: لا تقتلني صبراً فقال علي رضي الله عنه: لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله ثمّ قال: أفيك خير تبايع (3). ويبدو من هذه الروايات أن معاملته للأسرى كما يلي:
ـ إكرام الأسير والإحسان إليه.
ـ يعرض عليه البيعة والدخول في الطاعة، فإن بايع أخلى سبيله.
ـ إن أبى البيعة أخذ سلاحه ويحلفه أن لا يعود للقتال ويطلقه.
ـ إن أبى إلا القتال تحفظّ عليه في الأسر ولا يقتله صبرا (4). وقد أتى رضي الله عنه مرة بخمسة عشرا أسيراً ويبدو أنهم جرحى فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه (5). ويقول محب الدين الخطيب معلقاً على هذه الحرب: ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ الذي جرى فيها المتحاربان معاً على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيراً من قواعد
الحرب في
_________
(1) كتاب قتال أهل البغي من الحاوي الكبير صـ133، 134.
(2) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 243.
(3) الأم للشافعي (4/ 224) (8/ 256).
(4) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 243.
(5) تاريخ دمشق، تحقيق المنجد (1/ 331)، خلافة علي بن أبي طالب صـ 243.(1/131)
الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة (1)، قال أبن العديم: قلت: وهذا كله حكم أهل البغي، ولهذا قال أبو حنيفة: لولا ما سار علي فيهم، ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين (2).
9 ـ عدد القتلى:
تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى فذٍكر ابن أبي خيثمة أن القتلى في صفين بلغ عددهم سبعين ألفاً، من أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، ومن أهل الشام خمسة وأربعين ألف مقاتل (3)، كما ذكر أبن القيم أن عدد القتلى في صفين بلغ سبعين ألفاً أو أكثر (4)، ولا شك أن هذه الأرقام غير دقيقه، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل إلا مساء الجمعة فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة (5)، ومهما كان القتال عنيفاً، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية الآلف وخمسمائة (6)، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة،
10 ـ تفقد أمير المؤمنين على القتلى وترحمه عليهم:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد نهاية الجولات الحربية يقوم بتفقد القتلى، فيقول شاهد عيان: رأيت عليا على بغلة النبي صلى الله عيه وسلم الشهباء، يطوف بين القتلى (7)، وأثناء تفقده القتلى ومعه الأشتر، مر برجل مقتول ـ وهو أحد القضاء والعباد المشهورين بالشام ـ فقال الأشتر ـ وفي رواية أخرى عدي بن حاتم ـ: يا أمير المؤمنين أحابس (8) معهم؟ عهدي والله به مؤمن فقال علي، فهو اليوم مؤمن. ولعل هذا الرجل المقتول هو القاضي الذي أتى عمر بن الخطاب وقال: ياأمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفضعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين قال: فمع أيهما كنت؟ قال؟ مع القمر على الشمس، فقال
_________
(1) العواصم من القواصم صـ 168 ـ 169 من تعليق الخطيب في الحاشية.
(2) بغية الطالب في تاريخ حلب (1/ 309)، خلافة علي صـ 245
(3) الأنباء للقضاعي صـ59 نقلا عن خلافة علي صـ245
(4) الصواعق المرسلة (1/ 377) بدون سند تحقيق محمد دخيل الله
(5) الدولة الأموية صـ360 ـ 362
(6) تاريخ الطبري (4/ 388)
(7) مصنف ابن أبي شيبة
(8) حابس ابن سعد الطائي مخضرم، قتل بصفين(1/132)
عمر: قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)) (الإسراء، آية: 12) فانطلق فوالله لا تعمل لي عملاً أبداً، قال الرواي: فبلغني أنه قتل مع معاوية
بصفين (1)، وقد وقف علي على قتلاه وقتلى معاوية فقال: غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين جميعاً (2)، وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بين علي ومعاوية، خرج علي فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، ويصير الأمر إلي وإلى معاوية (3)، وكان يقول عنهم هم: المؤمنون (4)، وقوله رضي الله عنه في صفين لا يكاد يختلف عن قوله في أهل الجمل (5).
11 ـ موقف لمعاوية مع ملك الروم:
استغل ملك الروم الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما وطمع في ضم بعض الأراضي التي تحت هيمنة معاوية إليه، قال ابن كثير: .. وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أخشاه وأذله، وقهر جندهم ودحاهم، فلم رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ولأضيقنَّ عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة (6). وهذا الأثر يدل على أن الخلاف الذي بينه وبين علي رضي الله عنه لن يبقى لحظة واحدة فيما لو تعرض أمن الدولة الإسلامية في الشام للخطر، ولولا أن الروم يعلمون أن هذه الخلافات قابلة للنسيان المطلق ما أخذوا تحذير معاوية مأخذ الجد وكفوا أيديهم (7)
_________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (11/ 74) بسند منقطع.
(2) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 250، تنزيه لخال المؤمنين.
(3) مصنف بن أبي شيبة (15/ 303) بسند حسن.
(4) تاريخ دمشق (1/ 331، 329)، خلافة علي صـ 251.
(5) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 251، تنزيه لخال المؤمنين صـ 169.
(6) البداية والنهاية (8/ 122).
(7) الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام صـ 211.(1/133)
12 ـ قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين:
قال نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام باجتلدوا وحمل عمرو بن العاص .... فاعترضه علي وهو يقول:
قد علمت ذات القرون الميل
والخضر والأنامل الطفول (1)
إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ. فقال القوم: أفلتَ الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا.
قال فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي (2)، وذكر القصة ـ أيضاً ـ ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلي في الروض الأنف: وقول علي: إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرَحِمَ إلى أن قال: .. ويروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي رضي الله عنه ـ يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر الشهمي رواه ابن الكلبي وغيره:
أفي كل يوم فارس غير منته ... وعورته وسط العجاجة بداية
يكف لها عنه علي سنانه ... ويضحك منه في الخلاء معاوية (3)
والرد على هذا الافتراء والأفك المبين كالآتي، فراوي الرواية الأولى، نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي: رافضي جَلد، تركوه قال عنه العقيلي: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو خيثمة: كان كذاباً (4)، وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضياً غالياً ... ليس بثقة ولا مأمون (5) وأما الكلبي، هشام بن محمد بن السائب الكلبي، اتفقوا على غلوه في التشيع قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟ ما ظننت أن أحداً يحدث عنه وقال الدارقطني: متروك (6)، وعن طريق هذين الرافضين
_________
(1) الطفول: جمع طفل، بالفتح، وهو الرخص الناعم.
(2) وقعة صفين صـ 406 ـ 408)، قصص لا تثبت، سليمان الخراشي (6/ 16).
(3) الروض الأنف (5/ 462)، قصص لا تثبت (6/ 19).
(4) ميزان الاعتدال (4/ 253 ـ 254).
(5) لسان الميزان (6/ 157).
(6) المجروحين لابن حبان (3/ 91)، تذكرة الحفاظ (1/ 343) معجم الأدباء (19/ 287)، قصص لا تثبت صـ (1/ 18).(1/134)
سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة (1)، وتعد هذه القصة أنموذجاً لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغض من جناب الصحابة الأبرار ـ رضي الله عنهم ـ في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصَّاص وأصبح كثير منها من المسَلَّمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف (2).
13 ـ مرور أمير المؤمنين علي بالمقابر بعد رجوعه من صفين:
لما انصرف علي أمير المؤمنين رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر، فقال: السلام عليكم أهل الديار
الموحشة، والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبى لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاف (3).
14 ـ إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه على أن تستمر المعركة:
إن قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعلي رضي الله عنه يجيبهم إلى طلبهم فيأمر بوقف القتال وحقن الدماء فسعوا إلى محادثة ثني أمير المؤمنين في عزمه لكن القتال توقف، فسقط في أيديهم، فلم يجدوا بداً من الخروج على علي رضي الله عنه فاخترعوا مقولة (الحكم لله) وتحصنوا بعيداً عن الطرفين، والغريب أن المؤرخين لم يركزوا على ما فعله هؤلاء في هذه المرحلة،
_________
(1) قصص لا تثبت (1/ 20).
(2) المصدر نفسه (1/ 10).
(3) البيان والتبيان للجاحظ (3/ 148)، فرائد الكلام للخلفاء الكرام صـ 327.(1/135)
كما فعلوا في معركة الجمل، رغم أنهم كانوا موجودين في جيش علي، وعن سر إخفاق تلك المفاوضات التي دامت أشهر عديدة، وعن الدور الذي يمكن أن يكون قتلة عثمان قد قاموا به في معركة صفين لإفشال كل محاولة صلح بين الطرفين، لأن إصلاح علي مع معاوية هو أيضاً إصطلاح عل دمائهم، فلا يعقل أن يجتهدوا في الفتنة في وقعة الجمل، ويتركوا ذلك في صفين (1).
15 ـ نهي أمير المؤمنين علي عن شتم معاوية ولعن أهل الشام:
روي أن علياً ـ رضي الله عنه ـ لمّا بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما أن كفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتيا فقالا: يا أمير المؤمنين: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى وربّ الكعبة المسدّنة، قالا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي من لجج به (2)، وأما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليّاَ وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح، لأنَّ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه (3)، فقد
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: من لعن مؤمناً فهو كقتله (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بطعان ولا بلعّان (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة (6)، كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين لا تثبت من ناحية السند حيث فيها أبي مخنف لوط بن يحي الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته.
كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر علي من يسب معاوية ومن معه فقال: إني
_________
(1) أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ 147.
(2) الأخبار الطوال صـ 165 نقلاً عن تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/ 232).
(3) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 232).
(4) البخاري، ك الأدب (7/ 84).
(5) السلسلة الصحيحة للألباني رقم 320، صحيح سنن الترمذي (2/ 189) رقم 1110.
(6) مسلم (4/ 2006) رقم 2598.(1/136)
أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم أحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم (1)، فهذا السب والتكفير لم يكن من هدي علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة (2).
رابعاً: التحكيم:
تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد إنتهاء موقعة صفين، وهو أن يحكّم كل واحد منهما رجلاً من جهته ثم يتّفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما جميعاً، وكتب بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37 هـ، وقد رأى قسم من جيش علي رضي الله عنه أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر فعليه أن يتوب إلى الله تعالى وخرجوا عليه فسموا الخوارج، فأرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس (رضي الله عنهما فناظرهم وجادلهم ثم ناظرهم علي رضي الله عنه بنفسه فرجع طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبين علي رضي الله عنه حروب أضعفت من جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة.
تعتبر قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة وقد تاه فيها كثير من الكتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصاً: ابو موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوع في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب مكر وخداع، فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام
إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين الذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل الكثير من المسلمين، وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام على أنها حقائق
_________
(1) نهج البلاغة صـ 323.
(2) أصول مذهب الشيعة (2/ 934).(1/137)
تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها، وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في إهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث أن أصله حق لا شك فيه (1).
خامساً: نص وثيقة التحكيم:
بسم الله الرحمن الرحيم.
1 ـ هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 ـ قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم، قضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3 ـ إنّا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته، نُحي ما أحْيى ونُميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.
4 ـ وإن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظراً وحاكماً، ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظراً وحاكماً.
5 ـ على أن علياً ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذِمّته وذِمّة رسوله، أن يتخذا القرآن إماماً ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً وما لم يجدا في الكتاب ردّاه إلى سنة رسوا الله الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافاً، ولا يبقيان فيها بشبهة.
6 ـ وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه وليس لهما أن ينقُصا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7 ـ وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما، لم يعدو الحق، رضي به راض أو سخط ساخط، وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
_________
(1) مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري صـ 378، تنزيه لخال أمير المؤمنين معاوية صـ 38.(1/138)
8 ـ فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
9 ـ وإن مات أحد الأميرين قبل إنقضاء الأجل المحدود في هذه القضية، فلشيعته أن يُوِلوّا مكانه رجلاً يرضون عدله.
وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
10 ـ وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
11 ـ وقد وجبت القضية على ما سمّيناه في هذا الكتاب، من موقع الشرط على الأميرين والحَكمين والفريقين والله أقرب شهيد وكفى به شهيداً، فإن خالفا وتعدّيا، فالأمّة بريئة من حُكمهما، ولا عهد لهما ولا ذِمّة.
12 ـ والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل، والسلاح موضوعه، والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13 ـ وللحَكمين أن ينزلا منزلاً متوسطاً عدلاً بين أهل العراق والشام.
14 ـ ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراضٍ بينهما.
15 ـ والأجل إلى انقضاء شهر رمضان، فإن رأى الحَكمان تعجيل الحكومة عجّلاها، وإن رأى تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.
16 ـ فإن هما لم يحكُما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب.
17 ـ وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعاً يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحاداً أو ظلماً أو خلافاً، وشهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين، إبنا علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والأشعث بن قيس الكندي، والأشتر بن الحارث، وسعيد بن القيس الهمداني، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب،(1/139)
وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن الأرت، وسهل بن حنيف، وأبو بشر بن عمر الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن عبد الله الأسلمي، وعقبة بن عامر الجهني، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمر بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي، ويزيد بن حجية النكري، ومالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية، ومن أهل الشام، حبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور السلمي، وبشر بن أرطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والمخارق بن الحارث الذبيدي، ومسلم بن عمرو السكسي، وعبد الله بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالك، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن أبجر العبسي، ومسروق بن حبلة العكي، وبسر بن يزيد الحميري، وعبد الله بن عامر القرشي، وعتبة بن أبي سفيان،
ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمّار بن الأحوص الكلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح بن جلهمة الحميري، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع، وتمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكم.
وكتب يزم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين (1).
سادساً: قصة التحكيم المشهورة وبطلانها من وجوه:
لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبان للأحكام على مضامينها وقلما تجد أحداً وقف عندها فاحصاً محققاً، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص، وإذ إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه (2).
_________
(1) أنظر: الوثائق السياسية صـ 538، 537، الأخبار الطوال للدينوري صـ 196 ـ 199، أنساب الأشراف (1/ 382)، تاريخ الطبري (5/ 665، 666)، البداية والنهاية (7/ 276، 277).
(2) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري صـ 4042.(1/140)
1 ـ أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجالة ثقات عن الزهري مرسلاً قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصافحهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراق، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص فتعرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا من خفض القرآن، وأن يختار لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت ـ وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكم بن آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه، وقالوا، فما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشّام، وأبي علي وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان؟ قالوا: لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال: فوالله إني لا أظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأرجعهما، فدخل عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا
أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمّة، قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غيره ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو وقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد، فلما
اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشّام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها فكتبها(1/141)
أبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن تسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمّة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليّ أن أتابعك وإلا فلي عليك أن تتابعني، قال أبا موس أسمي لك معاوية بن أبي سفيان فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجد مثل عمرو كمثل الذي قال الله عز وجل ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا)) (الأعراف، آية: 175). فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل ((مَثََلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)) (الجمعة، آية: 5). وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار (1). والزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة (2)، كما قرّر العلماء، وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يضع الحديث (3). وفي سنده أيضاً الواقدي، وهو متروك (4)، وهذا نصها: ...
رفع أهل الشّام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظرون في أمور الناس فيرضوا بحكمها، فحكّم علي أبا موسى الأشعري، وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه، وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله ورجع معاوية إلى الشام بالإلفة واجتماع الكلمة عليه ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم
وخلع عليا ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما وبايع أهل الشام ومعاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين (5)،
_________
(1) المصنف (5/ 463)، مرويات تاريخ الطبري صـ 406.
(2) المراسيل لأبي حاتم صـ 3، الجرح والتعديل (1/ 246).
(3) تهذيب التهذيب (12/ 27)، مرويات تاريخ الطبري صـ 406.
(4) مرويات تاريخ الطبري صـ 406.
(5) تاريخ دمشق (16/ 53).(1/142)
وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به، وبأبي جناب الكلبي فالأول: وهو أبو مخنف لوط بن يحيى، ضعيف ليس بثقة (1)، وأخباري تالف غالي من الرفض وأما الثاني قال فيه أبن سعد: كان ضعيفاً (2)، وقال البخاري وأبو حاتم: كان يحيى القطان يضعفه (3) وقال عثمان الدارمي: ضعيف (4)، وقال النسائي: ضعيف (5).
هذه طرق قصة التحكيم المشهور، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفمثل هذا تقوم حجة، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفاً فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها (6).
2 ـ أهمية هذه القضية في جانب الاعتقاد والتشريع، ومع ذلك لم تنقل لنا بسند صحيح، ومن المحال أن يطبق العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها (7).
3 ـ وردت رواية تناقض تلك الروايات تماماً، وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصراً بسند رجاله ثقات، وأخرجه أبن عساكر مطولاً، عن الحصين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: إنه بلغني عن عمرو وأبو موسى فيه كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا ولا والله ما كان ما قالوا ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: أن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغني عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما (8). وقد روى أبو موسى عن تورّع عمرو ومحاسبته لنفسه، وتذكُّره سيرة أبي بكر وعمر، وخوفه من الإحداث بعدهما، قال أبو موسى: قال لي عمرو بن العاص:
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 223).
(2) مرويات أبي مخنف صـ 407.
(3) التاريخ الكبير (4/ 2/267)، الجرح والتعديل (9/ 138).
(4) التاريخ للدارمي صـ 238، تحقيق مواقف الصحابة 0 (2/ 223).
(5) الضعفاء والمتركون صـ 253.
(6) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري صـ 408.
(7) المصدر نفسه صـ 408.
(8) التاريخ الكبير (5/ 398).(1/143)
والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحلُّ لهما، غُبِنا
وأخطأ أو نقص رأيهما، ووالله ما كان مغبونين ولا مخطئين ولا ناقصي الرأي. ووالله ما جاءنا الوهم والضعف إلا من قِبلنا (1).ٍ
4ـ إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه وأنه أحق بالخلافة منه فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي فقد أخرج يحي بن سليمان الجعفي بسند جيد (2)، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا أبن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليا فكلموه فلم يدفعهم إليه (3)، فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختبار خليفة أو عزله (4)، ويقول ابن حزم في هذا الصدد بأن علياً قاتل معاوية لإمتناعه من تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجب طاعته، ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أَدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنّه وقوته على الطلب بذلك وأصاب في هذا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط (5)، وفهم الخلاف على هذه الصورة ـ وهي صورته الحقيقية ـ يبين إلى أيِّ مدى تخطئ الروايات السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين، إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قراراً في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يفقها موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد
جدّا (6)
_________
(1) العواصم من القواصم صـ 178 ـ 180.
(2) فتح الباري (13/ 86)
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 140)
(4) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري صـ409
(5) الفصل في الملل والنحل (4/ 160)
(6) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/ 225)(1/144)
5 ـ أن الشروط التي يجب توفرها في الخليفة هي العدالة والعلم، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، وأن يكون (1) قرشياً وقد توفرت هذه الشروط في
علي (رضي الله عنه) فهل بيعته منعقدة أم لا؟ فإن كانت منعقدة ـ ولا شك وقد بايعه المهاجرون والأنصار أهل الحل والعقد، وخصومه يقرون له بذلك، فقول معاوية السابق يدل عليه بأن ((الإمام إذا لم يَخْل عن صفات الأئمة، فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة، فإن عقد الإمام لازم، لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه، ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختبار لما استتب للإمام طاعة ولما استمرت له قدرة واستطاعة ولما صح لمنصب الإمام معنى (2). وإذا فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات كل من لم يرضى بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامه، وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك، فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد والبر والتقوى والخير (3)
6 ـ أن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة له، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءاً، والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا وبهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلاً ونقلاً.
7 ـ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حصر الخلافة في أهل الشورى وهم الستة وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك، فكان ذلك إذناً في أن الخلافة لا تعدوا هؤلاء إلى غيرهم ما بقي منهم واحد ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلا سعد بن أبي
_________
(1) الأحكام السلطانية الماوردي صـ6، الأحكام السلطانية لأبي يعلي صـ20، غياث الأمم صـ79 وما بعدها
(2) غياث الأمم صـ128، مرويات أبي مخنف صـ410
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 238).(1/145)
وقاص وقد أعتزل الأمر ورغب عن الولاية، والإمارة، وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره (1).
8 ـ أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم. والسؤال ما المسوغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مبرر آخر حتى ينسب عنهم ذلك، مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي (2)، أعلم الناس بأمر الشام (3) أنه قال: كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين
وكان معاوية بالشام يدعى الأمير فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين (4). فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي وإلى هذا ذهب الطبري، فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء (5)، وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع (6)، وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس ((كفئا لعلي بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي ((رضي الله عنه))، فإن فضل علي وسابقته وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه، أبي بكر، وعمر، وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم (7)، وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما (8)، والنصوص في هذا المعنى كثيرة (9) ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك (10).
9ـ أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونسوتها تنطف قلت قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم
_________
(1) مرويات تلريخ أبي مخنف صـ 411.
(2) سعيد بن عبد العزيز التنوخي ثقة إمام (التقريب).
(3) تهذيب التهذيب (4/ 60).
(4) تاريخ الطبري (6/ 76).
(5) المصدر نفسه (6/ 76).
(6) البداية والنهاية (8/ 16).
(7) الفتاوى (35/ 73).
(8) صحيح مسلم (3/ 1480).
(9) سنن البيهقي (8/ 144).
(10) مرويات أبي مخنف صـ 412.(1/146)
فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب حفظت وعصمت (1)، هذا الحديث قد يفهم منه مبايعة معاوية بالخلافة، وليس فيه تصريح بذلك، وقد قال بعض العلماء إن هذا الحديث كان في الاجتماع الذي صالح فيه الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية (رضي الله عنه)، وقال ابن الجوزي إن هذه الخطبة كانت في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده، ويرى ابن حجر في التحكيم (2)، ودلالة النص على القولين الأولين أقوى. فقوله: فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم. دليل على اجتماع الكلمة على معاوية، وأيام التحكيم أيام فرقة واختلاف لا أيام جمع وإتلاف (3).
10 ـ حقيقة قرار التحكيم: ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى
الأمة أو إلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي ومعاوية حول قتلة عثمان، ولم يكن معاوية مدعيا للخلافة ولا منكراً حق عليّ فيها كما تقرر سابقاً، وإنما كان ممتنعاً عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلباً عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيداً من طاعة الناس له بعد أن بقي واليا فيها زهاء عشرين سنة (4)، وقد قال ابن دحية الكلبي في كتابه ((أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين)): قال أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري ـ الباقلاني ـ في مناقب الأئمة: فما اتفق الحكمان قط على خلعه ـ علي بن أبي طالب ..... وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما أو إلى أن يبيّنا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة، ونصّ كتاب عليّ ـ عليه السلام ـ اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله عز وجلّ من فاتحته إلى خاتمته
_________
(1) البخاري 0 (5/ 48).
(2) فتح الباري (7/ 466).
(3) مرويات أبي مخنف
(4) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/ 234).(1/147)
لا يجاوزان ذلك ولا يحدان عنه، ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما ... والكتاب والسنة يثبتان إمامته، ويعظمانه ويثنيان عليه، يشهدان بصدقه وعدالته، وإمامته، وسابقته في الدين، وعظيم جهاده في جهاد المشركين، وقرابته من سيد المرسلين، وما خص به من القدم في الحلم والمعرفة بالحكم، ووفور الحلم، وأنه حقيق بالإمامة، وأهل الحمل أعباء الخلافة (1).
11 ـ مكان انعقاد المؤتمر:
كان الموعد المحدد لاجتماع الحكمين ـ كما جاء في الوثيقة ـ في رمضان في عام 37 هـ، إذا لم تحدث عوائق، في موضع وسط بين العراق والشام وهذا الموضع المختار هو دومة الجندل (2)، في روايات موثقة، وأذرح (3) في روايات أخرى دونها في الاتقان، ولعل لقرب المكانين من بعضهما أثر في اختلاف الروايات، إذ يقول خليفة بن خياط (4) ... ويقال بأذرح وهي من دومة الجندل قريب، وقد تم الاجتماع في الموعد المحدد بدون عوائق (5).
إن المكان الذي اجتمع فيه الحكمان هو دومة الجندل، وهذا بخلاف ما جزم به ياقوت الحموي من أن التحكيم حدث في أذرح واستدل على ذلك ببعض روايات لم يبينها وبالأشعار وبخاصة بشعري ذي الرمة (6)، في مدح بلال بن أبي بردة (7) وهو قوله:
أبوك تلافى الدين والناس بعدما ... تشاءوا وبيت الدين منقلع الكسر
فشد إصار الدين أيام أذرح ... ورد حروباً قد لقحن إلى عقر (8)
12 ـ هل حضر سعد بن أبي وقاص اجتماع الحكمين:
اجتمع الحكمان في موعدهما المحدد، ومع كل واحد منهما بضع مئات يمثلون وفدين، وفد عن أهل العراق، وآخر يمثل أهل الشام وطلب الحكمان من عدد من أعيان قريش
_________
(1) أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين صـ 177.
(2) دومة الجندل: غرب مدينة الجوف في شمال الجزيرة العربية.
(3) أذرح: اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة من نواحي البقاء.
(4) تاريخ خليفة صـ 191 ـ 192.
(5) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ 267.
(6) ذي الرمة، غيلات بن عقبة توفي 117 هـ سير أعلام النبلاء (5/ 267).
(7) بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، تهذيب تاريخ دمشق (3/ 321).
(8) ديوان ذي الرمّة صـ361 ـ 362 نقلاً عن خلافة علي صـ272.(1/148)
وفضلائهم الحضور لمشاورتهم والاستئناس برأيهم، ولم يحضر الاجتماع عدد من كبار الصحابة كانوا قد اعتزلوا القتال منذ بدايته، وأفضل هؤلاء: سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه فإنه لم يحضر التحكيم ولا أراد ذلك ولاهمَّ به (1)، فعن عامر بن سعد أن أخاه عُمرَ انطلق إلى سعد في غنم له خارجاً من المدينة فلمّا أتاه رآه سعد قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الركب، فلمَّا أتاه قال: يا أبة، أرضيت أن تكون أعرابياً في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي (2).
سابعاً: هل يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية؟
يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية وذلك بتحمل قادة البلاد الإسلامية جميعاً مسؤولياتهم ومن ورائهم الأمّة الإسلامية التي يحكومنها في الضغط الجادِّ الصادق، على الطرفين المتنازعين، لكي يوقفا بينهما من قتال، ويلجأ إلى التحكيم الشرعي في الإسلام فيرسل هذا الطرف حكماً من قبله، وذلك حكماً آخر من قبلة أيضاً، للفصل في النزاع القائم وذلك على ضوء ما يلي:
1 ـ تحديد صلاحيات الحكمين في إصدار الأحكام التي لا بُدّ منها لحل المشكلات التي هي سبب النزاع.
2 ـ جعل مصادر التشريع الإسلامي هي المرجع الوحيد لإصدار تلك الأحكام والحلول، التي تفصل في مسائل النزاع.
3 ـ أخذ العهد على كل طرف من طرفي النزاع، وأخذ العهد على جميع قادة البلاد الإسلامية بقبول ما يصدره الحكمان من أحكام، وحلول مشروعة إنهاء النزاع الرّاهن، على أنها واجبة التنفيذ بحكم الإسلام، وأن الخروج عليها، أو الرضى بذلك الخروج يترتب عليه الإثم شرعاً.
_________
(1) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد صـ272.
(2) المسند (1/ 168) وقال أحمد شاكر إسناده صحيح (3/ 26)، خلافة علي بن أبي طالب، للسُّلمي صـ107.(1/149)
4 ـ إذا أصدر الحكمان ما اتِّفَقَا عليه من أحكام، وحلول، وإنقاد لها الطرفات المتنازعان ـ قُضي الأمر، وكفى الله المؤمنين القتال.
5 ـ إذا رفض أحد الطَّرفين، أو كلاهما الانقياد لقضاء الحكمين اعتبر الطرف الرافض هو الطرف الباغي، سواء صدر الرفض من أحدهما، أو من كليهما، ووجب شرْعاً على القوات الإسلامية في الأقطار الأخرى أن تضع نفسها تحت تصرُّف ما يصدره الحكمان من قرارات عسكرية، من أجل التدخل لحسم النزاع بالقوة على وجه لا تترتب عليه أضرار ومخاطر هي أكبر من ضرر النزاع القائم.
6 ـ ويكون من صلاحيّات الحكمين بالاِّتفاق ـ إصدار القرارات التي تخص كيفية تحريك القوات المسلحة في الأقطار الإسلامية الأخرى، من أجل حل النزاع القائم على ضوء ما سلف بيانه (1)، ولعلّ اللجوء إلى مثل هذه الطريقة في حل المنازعات بين الأقطار الإسلامية، كفيل بسد الطريق على أيّة قوة خارجية تتدخل في نزاعات المسلمين بحجة أنَّ بعض أطراف النِّزاع دعاها إلى هذا التدخل .. ومن ثم تستغل هذه الفرصة، لكي تتآمر على المسلمين، فتعمل على تصعيد تلك النزاعات، وفرض الحلِّ الذي يَحْلو لها، ويكون فيه مصلحتها فقط وليعان المسلمون، بعدئذ، من آثار ذلك الحلِّ أسوأ ممّا كانوا يُعَانُون من فتنة النِّزَاع نفسها، فهذه المعاناة لا تهمها في شيء، لا بل إنَّ هذه المعاناة هي من جملة الاهتمامات التي فرضت من أجل تفجيرها ذلك الَحلَّ المشؤُوم، قلنا: لعل اللُّجُوء إلى التحكيم، على نحو ما سلف بيانه، يسد الطريق في وجه تلك القوى الخارجيّة التي تبغي في صفوف المسلمين الفساد، هذا، وإن الصفة الإلزميَّة شرعاً للحل عن طريق التحكيم الذي عرضانه ـ تستند إلى إجماع الصحابة، فقد أجمع الصحابة كلهم في عهد النِّزاع الذي نشب بين علي ومعاوية على اللجُوء التحكيم، والقبول به .. سواء في ذلك الصحابة الذين كانوا مع علي، والصحابة الذين كانوا مع معاوية، والصحابة الذين اعتزلوا الطريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وغيرهما ـ رضي الله عنهم أجمعين (2)،
_________
(1) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (3/ 1665).
(2) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (3/ 1665).(1/150)
ثامناً: موقف أهل السنة من تلك الحروب:
إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي
حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطيء في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم، وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي (1).
1 ـ قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات، آية: 9).
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله ـ عز وجل ـ مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك من الإيمان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الأيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيماناً حقيقياً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد (2)
_________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (2/ 727) تنزيه لخال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان من الظلم والضيق في مطالبته بدم أمير المؤمنين عثمان صـ 41 ..
(2) العواصم من القواصم صـ 169 ـ 170، أحكام القرآن (4/ 1717).(1/151)
2 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق (1). والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاق بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق، والحديث علم من أعلام النبوة: إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره (2).
3 ـ وعن أبي بكرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي: ابني هذا سيد
ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين (3) ففي هذا الحديث شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جداً. قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان (4)
فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته (5). كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى:" وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
_________
(1) مسلم (2/ 745).
(2) البخاري مع شرحه في فتح الباري (13/ 318).
(3) البخاري، ك الفتن رقم 7109.
(4) الاعتقاد للبيهقي صـ 198، فتح الباري (13/ 66).
(5) في صحيح مسلم (2/ 746) تكون في أمتي فرقتان(1/152)
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا " (الحجرات، آية:9). وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي بن أبى طالب رضي الله عنه كما مر معنا. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنهم ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم وكتب أهل السنة مملؤه ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها (1)
1 - سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر بها لساني مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها (2). قال البيهقي معلقاً على قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب (3)
2 - سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا (4).ومعنى قول الحسن هذا: أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا وما علينا إلا أن نتبعهم فيما
اجتمعوا عليه, ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا, ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله ـ عز وجل - إذ كانوا غير متهمين في الدين (5)
3 - سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقول: أقول ما قال الله: ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (6)) (طه, الآية:52)
4 - قال الإمام أحمد رحمه الله بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى (7) , وعن إبراهيم بن آرز الفقيه قال
_________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 732)
(2) الإنصاف للباقلاني ص16 , الطبقات (5/ 394)
(3) مناقب الشافعي ص 136
(4) الجامع لأحكام القرآن (16/ 332)
(5) المصدر نفسه (16/ 332)
(6) الإنصاف للباقلاني ص 164
(7) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 164(1/153)
حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال: اقرأ ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (البقرة ,الآية:141)
5 - وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به فقال: وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس ـ لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب (1)
6 - وقال أبو عبد الله بن بطه أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم (2)
7 - قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: ويجب أن يعلم: أن ماجرى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان ونعتقد أن عليا عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولايبدعون والدليل عليه قوله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" (الفتح, الآية: 18) وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران
وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه, ويدل على صحة هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: إن أبي هذا سيد وسيصلح الله
_________
(1) رسالته المشهورة مع شرحها الثمر الداني؟؟ 152؟؟؟ ص23
(2) الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص268(1/154)
به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (1) , فأثبت العظمة لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهما بصحة الإسلام وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)) (الحجر, الآية:47) ... إلى أن قال: ويجب الكف عمّا شجر بينهم والسكوت عنه (2)
8 - وقال ابن تيمية في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما هو زيد فيه ونقص وغيرّ عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون (3)
9 - وقال ابن كثير: أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين والإجتهاد يخطئ ويصيب ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً: وأما المصيب فله أجران (4)
10 - وقال ابن حجر: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن إجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً, وأن المصيب يؤجر أجرين (5)
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم وأرضاهم (6)
تاسعاً: تغير الموازين لصالح معاوية بعد معركة صفين
بعد معركة صفين بدأت الموازين تتبدل لصالح معاوية رضي الله عنه فقد خرج الخوارج من جيشى علي رضي الله عنه, وانشغل بقتالهم, بينما ازداد أمر معاوية
_________
(1) البخاري. ك الفتن رقم 7109
(2) الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولايجوز الجهل به ص 67 - 69
(3) العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص 173
(4) الباعث الحثيث ص 182
(5) فتح الباري (13/ 634) عقيدة أهل السنة (2/ 740)
(6) عقيدة أهل السنة (2/ 740).(1/155)
قوة لا سيما بعد انتهاء أمر التحكيم, وعدم الوصول إلى حل جزري زكان معاوية رضي الله عنه يعمل بشتى الوسائل سرَّاً وعلانية على
إضعاف جانب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه, واستغل ما أصاب جيشه من تفكك وخلاف, فأرسل جيشاً إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه سيطر عليها وضمها إليه وقد ساعده على ذلك عدة أمور منها:
1 - انشغال أمير المؤمنين علي بالخوارج
2 - عامل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على مصر - محمد بن أبي بكر- لم يكن على قدر من الدهاء كسلفه قيسى بن سعد الساعدي الأنصاري, فدخل في حرب مع المطالبين بدم عثمان ولم يسايسهم كما كان يضع الوالي السابق فهزموه
3 - اتفاق معاوية مع المطالبين بدم عثمان رضي الله عنه في مصر في الرأي, فساعده في السيطرة عليها (1)
4 - بعد مصر عن مركز أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقربها من الشام
5 - طبيعتها الجغرافية فهي متصلة بأرض الشام عن طريق سيناء وتمثل امتداداً طبيعياً, وقد أضافت مصر قوة كبيرة لمعاوية رضي الله عنه, قوة بشرية واقتصادية كبيرة, وكذلك أرسل معاوية بعوثه إلى شمال الجزيرة الغربية, ومكة والمدينة وإلى اليمن ولكن لم تلبث هذه البعوث أن ردت على أعقابها عندما أرسل أمير المؤمنين عليُّ من يصدها (2) , وعمل معاوية رضي الله عنه على استمالة كبار أعيان القبائل وعمال علي رضي الله عنه, فقد حاول سحب قيس بن سعد رضي الله عنه عامل علي علي مصر إليه فلم يستطيع, ولكنه استطاع أن يثير شك حاشية علي رضي الله عنه ومستشاريه فيه فعزله (3) , وكان عزل سعد عن ولاية مصر مكسباً كبيراً لمعاوية, كما حاول سحب زياد بن أبية عامل علي رضي الله عنه على فارس ففشل في ذلك (4) , وقد استطاع معاوية رضي الله عنه أن يؤثر على بعض الأعيان والولاة بسبب ما يمنيهم ويعدهم به, ولما يرونه من علو أمر معاوية وتفرق أمر علي رضي الله عنه؛
_________
(1) الطبقات (3/ 83) خلافة علي, لعبد الحميد ص 351 سند صحيح
(2) تاريخ خليفة ص 198 بدون سند
(3) ولاة مصر ص45, 46
(4) الاستيعاب (2/ 5,5 ,526)(1/156)
إذ يقول في إحدى خطبه: ألا إن بسراً قد أطلع من قبل معاوية, ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون عليكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم وبطاعتهم أميرهم ومعصيتكم أميركم, وبأدائهم الأمانة وبخيانتكم, استعملت فلاناً فغلَّ وغدر وحمل المال إلى معاوية, واستعملت فلاناً فخان وغدر وحمل المال إلى معاوية, حتى لو ائتمنت أحدهم على قدح خشيت على عِلاَ قَتِهِ, اللهم إني أبغضتهم, وأبغضوني فأرحهم مني وأرحني منهم (1).
ولم يستسلم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لهذه المصائب, وهذا التقاعس, والتخاذل فقد بذل جهده في
استنهاض همة جيشه بكل ما أوتي من علم وفصاحة وبيان, فخطبه الحماسية المشهورة التي اشتهرت عنه, وتعتبر من عيون التراث لم يقلها من فراغ أوخيال, بل مرتجرعه, وواقع أليم عاصره ولقد ذكرت منها في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (2).
عاشراً: المهادنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما: بالرغم من كل هذه المحاولات والجهود المضنية لم يستطع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن يحقق مايريد؛ إذ لم يستطع أن يغزو الشام بسبب التفكك والتصدع الذي حدث في داخل جيشه وتفرق كلمتهم وظهور الأهواء, فاضطر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في سنة أربعين للهجرة أن يوافق لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على أن يكون العراق له, والشام لمعاوية ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو (3) , قال الطبري في تاريخه: وفي هذه السنة -40 هـ - جرت بين علي وبين معاوية رضي الله عنهما المهادنة بعد مكاتبات جرت بينهما يطول بذكرها الكتاب على وضع الحرب بينهما, ويكون تعلي العراق, ولعاوية الشام, فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو (4) , ويبدو أن هذه المهدنة لم تستمر, فمعاوية أرسل بسر بن أطأة إلى الحجاز واليمن في العام الذي استشهد فيه علي رضي الله عنه (5).
_________
(1) التاريخ الصغير (1/ 125) بسند منقطع وله شواهد
(2) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2/ 1020)
(3) تاريخ الطبري (6/ 56) , خلافة علي, عبد الحميد ص 356
(4) المصدر نفسه (6/ 56)
(5) التاريخ الصغير للبخاري (1/ 41) , وخلافة علي أبي طالب ص 431(1/157)
الحادي عشر: استشهاد أمير المؤمنين علي واستقبال معاوية خبر مقتله:
ولما لم يتمكن علي رضي الله عنه من تجهيز الجيش بما يصبو ويريد ورأى خذلانهم كره الحياة وتمنى الموت الموت وكان يتوجه إلى الله بالدعاء ويطلب منه عز وجل أن يعجل منيته, فمما روي عنه أنه خطب يوماً فقال: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني, فأرحني منهم وأرحهم مني, فما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم, ووضع يده على لحيته (1) ,وقد ألح عليُّ رضي الله عنه في الدعاء في أيامه الأخيرة, فعن جندب قال: ازدحموا على علي رضي الله عنه حتى وطئوا على رحاله فقال: اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني, فأرحني منهم وأرحهم (2) , وفي رواية أخرى عن أبي صالح قال: شهدت علياً وضع المصحف على رأسه حتى سمعت تقعقع الورق, فقال: اللهم إني سألتهم ما فيه فمنعوني, اللهم إني قد مللتهم وملوني, وأبغضتهم وأبغضوني, وحملوني على غير أخلاقي, فأبدلهم بي شراً مني, وأبدلني بهم خيراً منهم ومث
قلوبهم ميثة الملح في الماء (3) , وفي رواية فلم يلبث إلا ثلاثاً أو نحو ذلك, حتى قتل رحمه الله (4) , وقال الحسن ابن علي: قال لي علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنح لي الليلة في منامي, فقلت: يارسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد (5)؟ قال: ادع عليهم قلت: ,اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم , وأبدلهم بي من هو شر مني لهم. قال الحسن رضي الله عنه فخرج فضربه الرجل (6).
ولما جاء خبر قتل علي إلى معاوية رضي الله عنهما جعل يبكي, فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم (7) وكان معاوية يكتب فيما ينزل به يسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك, فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب, فقال له أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام, فقال له: دعني عنك (8) , وقد
_________
(1) مصنف عبد الرزاق (10/ 154) بإسناد صحيح, الطبقات (3/ 4)
(2) الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/ 37) بإسناد حسن خلافة علي ص432
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 144)
(4) المحن ص 99 لأبي العرب وخلافة علي لعبد الحميد ص432
(5) الأود: العوج, اللدد: الخصومة
(6) تاريخ الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين ص 649
(7) البداية والنهاية (8/ 133)
(8) الاستيعاب (3/ 1108)(1/158)
طلب معاوية رضي الله عنه في خلافته من ضرار الصُّدائي أن يصف له علياً رضي الله عنه فقال: أعفني يا أمير المؤمنين قال: لتصفنَّه, قال: أما إذا لابد من وصفه فكان والله بعيد المدى, شديد القُوى, يقول فصلا (1) , ويحكم عدلا, يتفجر العلم من جوانبه, وتنطق الحكمة من نواحيه, ويستوحش من الدنيا وزهرتها, ويستأنس بالليل ووحشته وكان غزير العبرة, طويل الفكرة, يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن, وكان فينا كأحَدِنا, يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه, ونحن والله - مع تقريبه إيانا وقربه منا- لانكاد نكلمه هيبة له, يعظمِّ أهل الدين ويُقرِّب المساكين, لا يطمع القويُّ في باطله, ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد أنه لقد رأيته في بعض مواقفه - وقد أرخى الليل سُدولَه (2) , وغارت نجومه- قابضاً على لحيته, يتململ تململ السقيم, ويبكي بكاء الحزين, ويقول: يادنيا غُرِّي غيري إلي تعرضّت أم إليًّ تشوًّفتِ: هيهات هيهات, قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها, فعمرك قصير, وخطرك كثير, آه من قلة الزاد, وبُعد السفر, ووحشة الطريق, فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن, كان والله كذلك, فكيف حزنك عليه ياضرار؟ قال حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها (3) , وعن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر
جالسان عنده فسلمت عليه وجلست فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتاً وأجيف (4) الباب وأنا أنظر, فما كان بأسرع من خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة, ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة (5)
_________
(1) الاستيعاب (3/ 1107)
(2) سدوله: سدلته
(3) الاستيعاب (3/ 1108)
(4) أجيف الباب: رُدَّ وأغلق
(5) البداية والنهاية (8/ 133)(1/159)
المبحث الرابع: معاوية رضي الله عنه في عهد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم:
كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر رمضان من سنة 40 هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي (1) , وقد اختار الناس الحسن بعد والده ولم يعين أمير المؤمنين أحد من بعده, فعن عبد الله بن سبع قال: سمعت علياً يقول: لتُخضبن هذه من هذا (2) فما ينتظر بي الأشقى (3). قالوا يا أمير المؤمنين, فأخبرنا به نبير (4) عترته قال: إذن والله تقتلون بي غير قاتلي.
قالوا فاستخلف علينا قال: لا, ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته, قال وكيع (5) مرة: إذا لقيته قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك, ثم قبضتني إليك وأنت فيهم, فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم (6) , وفي رواية: أقول: اللهم استخلفني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني وتركتك فيهم (7) , وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن بن علي وكبر عليه أربع تكبيرات, ودفن بالكوفة, وكان أول من بايعه قيس بن سعد, قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المُحلِّين, فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط: فبايعه وسكت , وبايعه الناس (8) , وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون, تسالمون من سالمت, وتحاربون من حاربت (9) , وفي رواية قال لهم: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا:
_________
(1) الطبقات (3/ 35 - 38) تحقيق د. إحسان عباس
(2) أي: لتخضبن لحيته من دم رأسه
(3) مجمع الزوائد (9/ 139) مسند أحمد (2/ 325) حسن لغيره
(4) نبير عترته: نهلك أقرباءه لسان العرب (4/ 5) (4/ 538)
(5) وكيع بن الجراح, ثقة حافظ عابد, التقريب ص 581
(6) مسند أحمد (2/ 325) حسن لغيره الموسوعة الحديثية
(7) كشف الاستار عن زوائد البزار (3/ 204)
(8) تاريخ الطبري (6/ 77)
(9) المصدر نفسه (6/ 77)(1/160)
ما هو؟ قال تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت (1)
, وفي رواية ابن سعد: إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين, بايعهم على الأمرة, وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه, ويرضوا بما رضي به (2) , ويستفاد من الروايات السابقة ابتداء
الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه وقد باشر الحسن بن علي سلطته كخليفة, فرتب العمال وأمّر الأمراء وجند الجنود وفرق العطايا, وزاد المقاتلة في العطاء مائة مائة فاكتسب بذلك رضاءهم (3) , وكان في وسعه أن يخوض حرباً لاهوادة فيها ضد معاوية, وكانت شخصيته الفذة من الناحية العسكرية والأخلاقية, والسياسية, والدينية تساعده على ذلك مع وجود عوامل أخرى, كوجود قيس بن سعد بن عبادة, وحاتم بن عدي الطائي وغيرهم في صفه من الذين لهم من القدرات, القيادية الشيء الكثير, إلا أن الحسن بن علي, مال إلى السلم والصلح لحقن الدماء, وتوحيد الأمة, والرغبة فيها عند الله وزهده في الملك وغير ذلك من الأسباب وقد قاد الحسن بن علي مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة,
وقد تنازل الحسن بن علي من موقف قوة وهناك دلائل تشيرُ إلى ذلك منها:
1 - الشرعية التي كان يملكها الحسن:
لقد اختير الحسن بن علي بعد والده اختياراً شورياً وأصبح الخليفة الشرعي على الحجاز واليمن والعراق, وكل الأماكن التي كانت خاضعة لوالده, وقد استمر في خلافته ستة أشهر وتلك المدة تدخل ضمن الخلافة الراشدة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن مدتها ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً, فقد روى الترمذي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك (4) , وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال: إنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي, فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين سنة, وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من
_________
(1) الطبقات تحقيق د .. محمد السلمي (1/ 286,287)
(2) المصدر نفسه (1/ 316,317)
(3) تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي ص 67, مقاتل الطالبيين ص 55
(4) سنن الترمذي مع شرحها تحفة الأحوذي (6/ 397 - 395) حديث حسن(1/161)
الهجرة وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً (1) , وبذلك يكون الحسن بن علي خامس الخلفاء الراشدين (2) , وقد تحدث عن شرعية الحسن بن علي بالخلافة كثير من علماء أهل السنة منهم أبو بكر بن العربي (3) , والقاضي عياض (4) , وابن كثير (5) , وشارح الطحاوية (6) , والمناوي (7) , وابن الحجر الهيثمي (8) , ولو أراد الحسن أن
يتعب معاوية بحكم أن الشرعية معه لأمكن ذلك, ولقام بترتيب حملة إعلامية منظمة في أوساط أهل الشام, لكسب ثقتهم أو على الأقل زعزعة موقف معاوية بينهم, فقد كان يملك قوة معنوية ونفوذ روحي لا يستهان به بحكم الشرعية التي يستند إليها, ولكونه حفيد الرسول صلي الله عليه وسلم
2 - تقييم الحسن بن علي للموقف وقدراته القيادية:
فعندما قال له نفير بن الحضرمي: إن الناس يزعمون إنك تريد الخلافة، فقال: كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله (9)، فهذه شهادة الحسن رضي الله عنه، بأنه كان في وضع قوي، وبأن اتباعه على استعداد لمحاربة من يريد أو مسالمتهم، كما كان رضي الله عنه يملك من الملكات الخطابية والفصاحة البيانية، وصدق العاطفة وقوة التأثير والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجعله أكثر قوة وتماسكاً ودليلنا على ذلك، ما قام به من إستنفار أهل الكوفة للخروج مع والده، وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال والفتنة وأسمعهم ما سمعه من رسول الله من التحذير من الاشتراك في الفتنة (10)، فقد أرسل علي رضي الله عنه قبل الحسن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما، وأرسل علي بعد ذلك هشام بن عقبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته لتأثير أبي موسى عليهم (11)، وأتبعه علي بعبد الله بن عباس، فأبطوا عليه،
_________
(1) البدابة والنهاية (11/ 134)
(2) مآثر الانافة (1/ 105) مرويات خلافة معاوية ص 155
(3) أحكام القران لابن العربي (4/ 1720)
(4) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 201)
(5) البداية والنهاية (11/ 134)
(6) شرح الطحاوية ص 545
(7) فيض القدير (2/ 409)
(8) الصواعق المحرقه (2/ 397)
(9) البداية والنهاية (11/ 206).
(10) تاريخ الطبري (5/ 514) مصنف بن أبي شيبة (15/ 12) إسناده حسن.
(11) خلافة علي بي أبي طالب صـ 144، لعبد الحميد سير أعلام (3/ 486).(1/162)
فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن (1) وكان للحسن أثر واضح، فقد قام في الناس خطيباً وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه ألوا النهى (2)، أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به (3)
وابتليتم ولبى كثير من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بين الستة إلى سبعة آلاف رجل (4)، ولا ننسى أن أبا موسى الأشعري كان والياً على الكوفة ومن قيادات العراق المحبوبين من عهد عمر وهو من هو في علمه وزهده ومكانته عند الناس ومع ذلك فقد استطاع الحسن أن يكسب أهل الكوفة لصفه وخرجوا معه.
3 ـ وجود بعض القيادات الكبيرة في صفه: كان معسكر الحسن بن علي فيه من القيادة الكبيرة، كأخيه الحسين، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وقيس بن سعد بن عبادة، ـ وهو من دهاة العرب. وعدي بن حاتم وغيرهم فلو أراد الخلافة لأعطي المجال لقياداته للتحرك نحو تعبئة الناس والدخول في الحرب مع معاوية وعلى الأقل يكون خليفة على دولته إلى حين.
4 ـ معرفته لنفسية أهل العراق: كان له قدرات خاصة في التعامل مع أهل العراق ومعرفة نفوسهم ولذلك زاد لهم في العطاء منذ بداية خلافته، كما أن مهمته التي قادها في نجاح مشروعه الإصلاحي كانت أصعب من حربه لمعاوية، ومع ذلك تغلب على الكثير من العوائق التي واجهته، فقد حاولوا قتله، ورفض بعض الناس الصلح وغير ذلك من العوائق إلا أنه تغلب عليها كلها وحقق الأهداف التي رسمها من حقن الدماء، ووحدة الأمة، وأمن السبيل، وعودة حركة الفتوح .. إلخ مما يدل على قدراته القيادية الفذّة.
5 ـ تقييم عمرو بن العاص ومعاوية لقوات الحسن رضي الله عنهم: فقد جاء في البخاري: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني أرى لا تُولي حتى تقتل أقرانها. فقال
_________
(1) فتح الباري (13/ 53 (علي بن أبي طالب للصَّلاَّبّّي (2/ 60).
(2) تاريخ الطبري (5/ 516) أولوا النهى: أصحاب العقول.
(3) تاريخ الطبري (5/ 516) ..
(4) مصنف عبد الرزاق (5/ 456 ـ 457) بسند صحيح للزهري.(1/163)
معاوية ـ وكان خير الرجلين ـ أي عمرو، إن قتل هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس ـ عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز ـ فقال: أذهب إلى هذا الرجل فأعرضا عليه قولا له، واطلبا إليه (1).
أـ فعمرو بن العاص رضي الله عنه، القائد العسكري الشهير والسياسي المحنك والذي عركته الحروب يقول: إني أرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها.
ب ـ وأما معاوية رضي الله عنه، فتقييمه للموقف العسكري بأنه لا يستطيع أحد أن ينتصر ويحقق حسماً عسكرياً إلا بعد خسائر فادحة للطرفين، ولا يستطيع معاوية حتى لو كان هو المنتصر أن، يتحمل تركت الحرب من أرامل وأيتام وقتل خير المسلمين، وما يترتب على ذلك من مفاسد كبرى إجتماعية وسياسية واقتصادية، وأخلاقية للأمة الإسلامية، ولذلك اختار معاوية شخصيتين كبيريتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصحاب النفوذ في المجتمع الإسلامي ولهم حضور واحترام عند الحسن وهما من قريش، فالشخصيتان اللتان أرسلهما معاوية رضي الله عنه تدل على حرصه على نجاح الصلح مع الحسن بأي ثمن ممكن، وقد ظل زمام
الموقف بيد الحسن بن علي رضي الله عنه ويد أنصاره، ولو لم يكن الحسن مرهوب الجانب لما احتاج معاوية إلى أن يفاوضه ويوافق على ما طلب من الشروط والضمانات، ولكان عرف ضعف جانب الحسن، وانحلال قوته عن طريق عيونه، ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على شروطه ومطالبه (2) كان الحسن بن علي رضي الله عنه ذا خلق يجنح إلى السلم، وكان رضي الله عنه يملك رؤية إصلاحية واضحة المعالم، خضعت لمراحل وبواعث وتغلب على العوائق، وكتب شروطه، وترتب على صلحه نتائج، وأصبح هذا الصلح من مفاخر الحسن على مر العصور وتوالي الأزمان، فكان في صلحه مع معاوية وحقنه
_________
(1) البخاري، ك الصلح رقم 2704.
(2) دراسة في تاريخ خلفاء الدولة الأموية صـ 61.(1/164)
لدماء المسلمين، كعثمان في جمعه للقرآن، وكأبي بكر في حربه للمرتدين (1)،
ولا أدل على ذلك في كون هذا الفعل من الحسن يعد علماً من أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبرـ والحسن بن علي على جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (2).
أولاً: أهم مراحل الصلح: مر الصلح بمراحل من أهمها:
المرحلة الأولى:
1 ـ دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بأن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فتلك الدعوة المباركة دفعت الحسن رضي الله عنه إلى الإقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم (3)
المرحلة الثانية:
شرط البيعة الذي وضعه الحسن رضي الله عنه أساساً لقبول مبايعة أهل العراق له، ذلك الشرط الذي نص على أنهم يسالمون من يسالم ويحاربون من يحارب (4).
المرحلة الثالثة: وقوع المحاولة الأولى لإغتيال الحسن رضي الله عنه بعد أن كشف عن نيته في الصلح مع معاوية رضي الله عنه وهذه المحاولة يبدو إنها قد جرت بعد استخلافه بقليل (5)
المرحلة الرابعة: خروج الحسن بجيش العراق من الكوفة إلى المدائن، وإرساله للقوة الضاربة من الجيش وهي الخميس إلى مسكن بقيادة قيس بن سعد بن عبادة (6)
المرحلة الخامسة: خروج معاوية رضي الله عنه من الشام وتوجهه إلى العراق بعد أن وصل خبر خروج الحسن من الكوفة إلى المدائن بجيوشه
المرحلة السادسة: تبادل الرسل بين الحسن ومعاوية، ووقوع الصلح بينهما رضوان الله عليهما،
_________
(1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ 134 ..
(2) البخاري رقم 7109.
(3) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ 317.
(4) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ 156.
(5) المصدر نفسه صـ 126.
(6) المصدر نفسه صـ 128.(1/165)
المرحلة السابعة: محاولة اغتيال الحسن رضي الله عنه، فبعد نجاح مفاوضات الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، شرع الحسن رضي الله عنه في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيباً ليبين لهم ما تم بينه وبين معاوية، وفيما هو يخطب هجم عليه بعض معسكره محاولين قتله، لكن الله سبحانه وتعالى أنجاه كما أنجاه من قبل (1)
المرحلة الثامنة: تنازل الحسن بن علي عن الخلافة وتسليمه الأمر إلى معاوية رضوان الله عليهم أجمعين، بعد أن أنجى الله سبحانه وتعالى الحسن بن علي من الفتنة التي وقعت في معسكره، ترك المدائن وسار إلى الكوفة وخطب في أهلها فقال: أما بعد فإن أكيس الكيس (2) التُّقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرادة إصلاح هذه الأمة وحقن دمائهم، أو يكون حقاً كان لإمرئ كان أحق به مني ففعلت ذلك ((وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)) (3) (الأنبياء، آية: 111)
ثانياً: أهم أسباب ودوافع الصلح:
وأما أهم الأسباب والدوافع للصلح الذي تمَّ بين الحسن ومعاوية فهي:
1 ـ الرغبة فيما عند الله وإرادة صلاح هذه الأمة:
قال الحسن بن علي رضي الله عنه رداً على نفير الحضرمي عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله (4)
2 ـ دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له: إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (5) دفعت الحسن إلى التخطيط والاستعداد النفسي للصلح والتغلب على العوائق التي في الطريق، فقد كان هذا الحديث الكلمة الموجهة الرائدة للحسن
_________
(1) المصدر نفسه صـ 139.
(2) أكيس: أعقل، والكيس العقل: لسان العرب (16/ 201) ومن أراد التوسع فليراجع خلافة مرويات معاوية في تاريخ الطبري صـ 126 إلى 149.
(3) المعجم الكبير (3/ 26) إسناده حسن.
(4) البداية والنهاية (11/ 206).
(5) البخاري رقم 7109.(1/166)
في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته، فقد حلت في قرارة نفسه واستولت على مشاعره وأحاسيسه واختلطت بلحمه ودمه، ومن خلال هذا التوجيه واستيعابه وفهمه له بنى مشروعه الإصلاحي وقسم مراحله، وكان متيقناً من نتائجه، فالحديث النبوي كان دافعاً أساسياً وسبباً مركزياً في اندفاع الحسن للإصلاح.
3 ـ حقن دماء المسلمين: قال الحسن رضي الله عنه: ... خشيت أن يجئ يوم القيامة سبعون ألفاً، أو أكثر أو أقلُّ كلهم تنضج أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيما هُرِيقَ دمه (1)؟ وقال رضي الله عنه: ألا إن أمر الله واقع إذ لا له دافع وإن كره الناس، إني ما أحببت أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما ينفعني ممَّا يضرني ألحقوا بطيتكم (2).
4 ـ حرص على وحدة الأمة: قام الحسن بن علي خطيباً رضي الله عنه في إحدى مراحل الصلح فقال: أيها الناس، إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة (3)، وإني نظار لكم كنظري لنفسي، وأرى رأياً فلا تردوا علي رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة (4)، وقد تحقق بفضل الله ثم حرص الحسن على وحدة الأمة ذلك المقصد العظيم، فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل في الخلافة حقناً لدماء المسلمين، وتجنباً للمفاسد العظيمة التي ستلحق الأمة كلها في المآل إذا بقى مصراً على موقفه، من استمرار الفتنة، وسفك الدماء، وقطع الأرحام واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها ـ وقد تحققت بحمد الله ـ وحدة الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا حتى سمّي ذلك العام عام الجماعة (5)، وهذا يدل على فقه الحسن في معرفته لاعتبار المآلات ومراعاته التصرفات.
5 ـ مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
ومن الأسباب التي دعت أمير المؤمنين الحسن بن علي إلى الصلح ما روّع به من مقتل أبيه، فقد ترك ذلك فراغاً كبيراً في جبهة العراق وأثر اغتياله على نفسية الحسن رضي الله عنه، فترك فيها
حزناً
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 206).
(2) تاريخ دمشق (14/ 89) بطيتكم: جهتكم ونواد.
(3) الضغينة: الحقد.
(4) الأخبار الطوال صـ 200.
(5) اعتبارات المآلات ومراعاة نتائج التصرفات صـ 167.(1/167)
وأسى شديداً، فقد قتل هذا الإمام العظيم بدون وجه حق ولم يرع الخوارج سابقته في الإسلام ولأفضاله العظيمة، ولخدماته الجليلة التي قدمها للإسلام فقد كانت حياته حافلة بالقيم والمثل والعمل على تكريس أحكام الشريعة على مستوى الدولة والشعب، لقد كان علياً رضي الله عنه معلماً من معالم الهدى وفارقاً بين الحق والباطل فكان من الطبيعي أن يتأثر المسلمين لفقده ويشعروا بالفراغ الكبير الذي تركه، فقد كان وقع مصيبة مقتله على المسلمين عظيماً، فجللهم الحزن، وفاضت مآقيهم بالدموع ولهجت ألسنتهم بالثناء والترحم عليه، وكان مقتله سبباً في تزهيد الحسن في أهل العراق أولئك الذين غمرتهم مكارم أخلاق أمير المؤمنين وشرف صحبته فأضلتهم الفتن والأطماع، وانحرفوا عن الصراط المستقيم، ونستثنى من أولئك الصادقين المخلصين لدينهم وخليفتهم الرّاحل العظيم رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان مقتله ضربة قوية وجهت لعهد الخلافة الراشدة وكانت من أسباب زوالها فيما بعد.
6 ـ شخصية معاوية: إن تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية مع أنه كان معه أكثر من أربعين ألفاً بايعوه على الموت، فلو لم يكن أهلاً لها لما سلمها السبط الطيب إليه ولحاربه (1)، فقد ذكر المترجمون والمؤرخون لسيرته فضائل كثيرة وأعمال جليلة يأتي ذكرها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب.
7 ـ اضطراب جيش العراق وأهل الكوفة:
كان لخروج الخوارج أثر في إضعاف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، كما أن الحروب في الجمل وصفين والنهروان، تسببت في ملل أهل العراق للحرب ونفورهم منها، وخاصة أهل الشام في صفين، فإن حربهم ليس كحرب غيرهم، فمعركة صفين الطاحنة لم تفارق مخيلتهم فكم يتمت من الأطفال ورملت من النساء، بدون أن يتحقق مقصودهم ولولا الصلح أو التحكيم الذي رحب به أمير المؤمنين علي وكثير من أصحابه لكانت مصيبة على العالم الإسلامي لا يتخيل آثارها السيئة، فكان هذا التخاذل عن المسير مع علي رضي الله عنه إلى الشام مرة أخرى إلى فريق منهم وتميل إليه نفوسهم وإن كانوا يعلمون أن علياً على حق (2)، فقد استلم الحسن رضي الله عنه الخلافة، وجيش
_________
(1) الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية صـ 57.
(2) خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد علي صـ 345.(1/168)
العراق مضطرب وأهل الكوفة مترددون في أمرهم (1) وهذا ليس على إطلاقه فجيش الحسن يمكن تقويته كما أن هناك فصائل منه على استعداد للقتال على رأسهم قيس بن سعد الخزرجي وغيره من القادة (2).
8 ـ قوة جيش معاوية: وفي الجانب الآخر كان معاوية رضي الله عنه يعمل بشتى الوسائل سراً أو علانية على إضعاف جانب أهل العراق منذ عهد علي رضي الله عنه فاستغل ما اصاب جيشه من تفكك وخلاف، واجتمعت لمعاوية رضي الله عنه عوامل ساعدت على قوة جبهته منها، طاعة الجيش له، اتفاق الكلمة عليه من أهل الشام، خبرته الإدارية في ولاية الشام، وثبات مصادره المالية، وعدم تحرجه من دفع الأموال من أجل تحقيق أهدافه التي يراها مصلحة للأمة.
ثالثاً: شروط الصلح:
تحدثت الكتب التاريخية والمصادر الحديثة وأشارت إلى حصول الصلح وفق شروط وضعها الطرفان، وقد تناثرت تلك الشروط بين كتَّاب التاريخ وحاول بعض العلماء جمعها وترتيبها واستئناساً إلى ما وصلوا إليه نذكر أهم شروط الصلح منها:
1 ـ العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء: وقد ذكر هذا الشرط مجموعة من العلماء منهم ابن الحجر الهيثمي حيث ذكر صورة الصلح بين الحسن ومعاوية وجاء فيها: صالحه على أن يُسلم إليه ولاية المسلمين وأن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين (3)، وحتى بعض كتب الشيعة ذكرت هذا الشرط وهذا دليل على توقير الحسن بن علي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلى حد جعل من إحدى الشروط على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم: إنه يعمل ويحكم في الناس بكتاب الله وسنة رسوله، وسيرة الخلفاء الراشدين (4)، وفي النسخة الأخرى ـ الخلفاء الصالحين (5)، ففي هذا الشرط ضبط لدولة معاوية مرجعيتها ومنهجها في الحياة.
_________
(1) الشيعة وأهل البيت صـ 379 نقلاً عن الاحتجاج للطبرسي صـ 148.
(2) خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي صـ 358 للصَّلاَّبيِّ.
(3) الصواعق المراسلة (2/ 399).
(4) الشيعة وأهل البيت صـ 54.
(5) منتهى الآمال (2/ 212) نقلاً عن الشيعة وأهل البيت صـ 54.(1/169)
2 ـ الأموال:
ذكر البخاري في صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال .. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك (1) به.
فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه من قادم (2)، وأما
الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلي أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات، وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة (3). أما حقه من العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشرة معشار ما ذكرته الروايات (4).
3 ـ الدماء: ويتضمن اتفاق الصلح بين الجانبين أن الناس كلهم آمنون لا يؤخذ منهم أحد منهم بهفوة أو أحنة، ومما جاء في رواية البخاري أن الحسن قال لوفد معاوية .. وأن هذه الأمة عاثت في دمائها، فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا من الدماء (5)، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشيء كان في أيام علي وهي قاعدة بالغة الأهمية تحاول دون الالتفاف إلى الماضي وتركز على فتح صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل (6)، وقد تمّ التوافق المبني على الالتزام والشرعية حيث تمّ الصلح على أساس العفو المطلق من كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام الصلح، وبالفعل لم يعاقب معاوية بذنب أحداً بذنب سابق وتأسس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، وتأليف القلوب،
4 ـ ولاية العهد، أم ترك الأمر شورى بين المسلمين:
قيل ومما اتفق الجانبان عليه من الشروط أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن (7)، وإن معاوية وعد أن حدث به
_________
(1) البخاري، ك الصلح رقم 2704.
(2) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ 64.
(3) المصدر نفسه صـ 63.
(4) المصدر نفسه.
(5) البخاري، ك الصلح (2/ 963).
(6) الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام صـ 341.
(7) فتح الباري (13/ 70).(1/170)
حدث والحسن حي يُسمينَّه وليجعلن الأمر إليه (1)، ولكن ابن أكثم روى في هذا الخصوص عن الحسن إنه قال: إما ولاية الأمر من بعده، فما أنا بالراغب في ذلك ولو أردت هذا الأمر لم أسلمه (2)، وجاء في نص الصلح الذي ذكره ابن الحجر الهيثمي: .. بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين (3)، وعند التدقيق في روايات طلب الحسن الخلافة بعد معاوية، نجد أنها تتنافى مع أنفة وقوة وكرم الحسن، فكيف يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء المسلمين وابتغاء مرضاة الله ثم يوافق على أن يكون تابعاً يتطلب أسباب الدنيا، وتشرأب عنقه للخلافة مرة أخرى، والدليل على أن هذا غير صحيح ما ذكر جبير بن
نفير قال: قلت للحسن بن علي أن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء مرضاة الله (4)، ومن الملاحظ أن أحداً من أبناء الصحابة أو الصحابة لم يذكروا خلال بيعة يزيد شيئاً من ذلك، فلو كان الأمر كما تذكر الروايات عن ولاية عهد الحسن بن معاوية، لاتخذها الحسين بن علي رضي الله عنه حجة، ولكن لم نسمع شيئاً من ذلك على الإطلاق مما يؤكد على أن مسألة خلافة الحسن لمعاوية لا أساس لها من الصحة، ولو كان الحسن رضي الله عنه أسند إليه منصب ولاية العهد في الشروط لكان قريباً في عهد معاوية من إدارة الدولة أو تولي إحدى الأقاليم الكبرى، لا أن يذهب إلى المدينة وينعزل عن إدارة شئون الحكم، كما أن روح ذلك العصر يشير إلى مبدأ اختبار الأمة للحاكم عن طريق الشورى هو الأصل.
رابعاً نتائج الصلح:
إن أهم نتائج الصلح هي:
1 ـ توحد الأمة تحت قيادة واحدة.
2 ـ عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه.
3 ـ تفرغ الدولة للخوارج.
4 ـ انتقال العاصمة الإسلامية إلى بلاد الشام
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 264).
(2) الفتوح (3، 4/ 493).
(3) الصواعق المرسلة (2/ 299).
(4) البداية والنهاية (11/ 206).(1/171)
الفصل الثاني
بيعة معاوية وأهم صفاته ونظام حكمه
المبحث الأول: بيعة معاوية وأهم صفاته وثناء العلماء عليه:
أولاً: بيعة معاوية رضي الله عنه:
وبتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه اكتملت عوامل تولي معاوية الخلافة، وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميراً للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة (1)، وسجل في ذاكرة الأمه عام الجماعة وأصبح هذا الحدث من مفاخرها التي تزهو به على مر العصور، وتوالي الدهور، فقد التقت الأمة على زعامة معاوية، ورضيت به أميراً عليها، وأبتهج خيار المسلمين بهذه الوحدة الجامعة، بعد الفرقة المشتتة، وكان الفضل في ذلك لله ثم للسيد الكبير مهندس المشروع الإصلاحي العظيم الحسن بن علي بن أبي طالب، ويعد عام الجماعة من علامة نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفضيلة باهرة من فضائل الحسن ولا يلتفت إلى ما قال العقاد من فهم غير صحيح عن عام الجماعة في هجومه الخاطيء على المؤرخين الذين سموا سنة إحدى واربعين هجرية بعام الجماعة، فقد قال: فليس أضل ضلال، ولا أجهل جهلاً من المؤرخين الذين سموا سنة إحدى وأربعين هجرية بعام الجماعة لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها، لأن صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت في تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها (2)،
والعقاد رحمه الله لم يأت بجديد في حكمه الخاطيء بل سبقه إليه كثير من مؤرخي الشيعة، ويكفي معاوية فخراً أن كل الصحابة الأحياء في عهده بايعوه، فقد أجمعت الأمة على معاوية وبايعه علماء الصحابة والتابعين وعدوا خلافته شرعية
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 137)، تاريخ خليفة صـ 203.
(2) معاوية بن أبي سفيان للعقاد صـ 25 ..(1/173)
ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام في تلك المرحلة، فروي عن الأوزاعي أنه قال: أدركت خلافة معاوية عدة
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبوسعيد الخدري، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، ورجال أكثر مما سميت بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم.
حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويله، ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله، منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريزفي أشباه له، لم ينزعوا يده عن مجامعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم (1). وقال ابن حزم: فبويع الحسن ثم سلّم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية، ورأى إمامته (2). فالصحابة لم يبايعوا معاوية رضي الله عنه إلا وقد رأوا فيه شروط الإمامة متوفرة، ومنها العدالة، فمن يطعن في عدالة معاوية وإمامته فقد طعن في عدالة هؤلاء الصحابة جميعهم وخونّهم وتنقصهم. فمن رضيه هؤلاء لدينهم ودنياهم ألا نقبله ونرضى به نحن؟؟ ومن قال لعلهم بايعوا خوفا فقد أتهمهم بالجبن وعدم الصدع بالحق، وهم القوم المعلوم من سيرتهم الشجاعة والشهامة وعدم الخوف في الله لومة لائم (3). وفي مبايعة سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي لمعاوية درس بليغ وفهم عميق لآيات النهي عن الاختلاق، قال تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (الأنعام، آية: 153). فالصراط المستقيم هو: القرآن، والإسلام، والفطرة التي فطر الناس عليها، والسبل هي: الأهواء، والفرق، والبدع، والمحدثات، قال مجاهد: ولا تتبعوا السبل: يعني! البدع، والشبهات والضلالات (4)،
ونهى الله سبحانه وتعالى هذه الأمة عما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف والتفرق من بعد ما
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 434، 435).
(2) الفصل في الملل والنحل (5/ 6).
(3) من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية صـ120.
(4) تفسير مجاهد صـ 227، دراسات في الأهواء والفرق والبدع صـ 49 ..(1/174)
جاءتهم البيانات، وأنزل الله إليهم الكتب، فقال سبحانه: ((وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (آل عمران، آية: 105). وقد أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله، قال تعالى: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)) (آل عمران، الآية: 103) لقد تحقق بفضل الله تعالى ثم بنجاح الحسن بن علي في صلحه مع معاوية مقصد عظيم من مقاصد الشريعة من وحدة المسلمين واجتماعهم وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى ونحن مأمورون بالتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، فلا بدّ من تضافر الجهود بين الدعاة، وقادة الحركات الإسلامية،
وبين علماء المسلمين، وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحاً حقيقياً لا تلفيقياً، لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر ممّا تصلح، وقد تحدث الشيخ السعدي على الجهاد المتعلّق بالمسلمين بقيام الالفة، واتفاق الكلمة وبعد أن ذكر الآيات، والأحاديث الداّالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال: فإن من أعظم الجهاد السَّعي في تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدينية والدنيوية (1). ولا ينظر للحديث الضعيف الذي رواه ابن عدي من طريق عليِّ بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد ومن حديث مجالد (2)، وهو ضعيف أيضاً، عن أبي الودَّاك عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه (3). أسنده أيضاً من طريق الحكم بن ظهيره (4)، وهو متروك.
وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحاً لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنَّهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم (5)
1 ـ انتهاء عهد الخلافة الراشدة:
انتهى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بتنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عنه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء، أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء أن
_________
(1) وجوب التعاون بين المسلمين صـ 5.
(2) الكامل في الضعفاء (6/ 2416).
(3) البداية والنهاية (11/ 434) الكامل في الضعفاء (2/ 626).
(4) الكامل (2/ 626/627).
(5) البداية والنهاية (11/ 434).(1/175)
تكون، يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت (1). وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه من يشاء (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك (3). وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً (4)، وبذلك تكون
مرحلة خلافة النبوة قد انتهت بتنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية في شهر ربيع الأول من سنة 41 هـ (5) فالحديث النبوي الكريم أشار إلى مراحل تاريخية وهي:
أـ عهد النبوة.
ب ـ عهد الخلافة الراشدة.
جـ ـ عهد الملك العضوض (6).
د ـ عهد الملك الجبري.
س ـ ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة (7) ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكاً، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا
_________
(1) مسند أحمد (4/ 371 ـ 372) سلسلة الأحاديث الصحيحة.
(2) سنن أبي داود شرح عون المعبودل (12/ 259) صحيح سنن الألباني (3/ 879).
(3) سنن الترمذي شرح تحفة الأحوذي (6/ 395 ـ 397) حديث حسن.
(4) البداية والنهاية (8/ 16).
(5) مرويات خلافة معاوية صـ 165.
(6) العضوض: الشديد فيه عسف وعنف وظلم.
(7) سنن الدرامي (2/ 114) الأشربة، الفتاوي (35/ 14).(1/176)
فما تأمرنا؟ قال: وفوا بيعة الأول، فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم (1). فقوله: فتكثر دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيراً وأيضاً قوله وفوا بيعة الأول فالأول دل على أنهم يختلفون، والراشدين لم يختلفوا، وقوله: فأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم دليل على مذهب أهل السنة، في إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم (2)، فمعاوية رضي الله عنه أفضل ملوك هذه الأمة، والذين كانوا قبله خلفاء نبوة، وأما هو فكانت خلافته ملك، وكان ملكه ملكاً ورحمة وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيراً من ملك غيره (3)، ومعاوية رضي الله عنه كان عالماً ورعاً عدلاً دون الخلفاء الراشدين في العلم والورع والعدل، كما ترى من التفاوت بين الأولياء، بل الملائكة والأنبياء، فإمارته وإن كانت صحيحة بإجماع الصحابة وتسليم الحسن ـ رضي الله عنه ـ إلا أنها ليست على منهاج خلافة من قبله، فإنه توسع في المباحات، وتحرز عنها الخلفاء الأربعة، وأما رجحان الخلفاء الأربعة في العبادات والمعاملات فظاهر مما لا سترة فيه (4)
, وقد حدد
ابن خلدون مدى التغير الذي حدث, فقدر أن خلافة وإن كانت تحولت إلى ملك, فإن معاني الخلافة بقيت - بعضها- وإنما كان التغير في الوازع فبعد أن كان ديناً انقلب عصبية وسيفاً: يقصد بذلك أنه بعد أن كان الناس يتصرفون بوازع الدين, والخلافة شورى, صار الحكم مستنداً إلى العصبية والقوة, ولكن معاني الخلافة أي مقاصدها وأهدافها بقيت أي أن غايات هذا الملك كان لاتزال تحقيق مقاصد الدين والحكم وفق الشريعة الإسلامية بالعدل وتنفيذ الواجبات التي يأمر بها الإسلام: أي أن الحكم أو الملك استمر إسلامياً وشرعياً (5) ولخص الأدوار التي مرت بها الخلافة فقال: فقد بين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً, ثم التبست معانيها واختلطت بالملك, ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبية الخلافة والله مقدر الليل والنهار (6). فالدور الأول الذي يشير إليه
_________
(1) البخاري رقم 3455.
(2) الفتاوي (35/ 15).
(3) الفتاوي (4/ 292).
(4) النهاية عن طعن أمير المؤمنين معاوية صـ 78 ..
(5) النظريات السياسية للريس ص 194 نقلا عن المقدمة لابن خلدون.
(6) المصدر نفسه ص 195.(1/177)
هو عصر الخلفاء الراشدين وهو عصر الخلافة الخالصة أو الكاملة, والدور الثاني هو عصر الخلفاء الأمويين والعباسيين - ولا يمنع كذلك العثمانيين- وهذا عصر الخلافة المختلطة بالملك أو الملك المختلط بالخلافة: أي الذي يحقق في الوقت مقاصد الخلافة, أما الدور الثالث فهو عصر الملك المحض الذي صار بقصد لذات الملك والأغراض الدنيوية, وانفصل عن حقيقة الخلافة أو معانيها الدينية, فهذا وصف أو تفسير ابن خلدون المؤرخ الفقيه للتطور الذي حدث والأدوار التي مرت بها الخلافة (1).
إن الخلافة الحقيقة أو الكاملة أو خلافة النبوة استمرت ثلاثين عاماً وهو عصر الخلفاء الراشدين ثم تحولت إلى ملك, ولكن لكي نعبر عن الحقيقة يجب أن يراعى هذا التحديد, وهو أن الخلافة لم تنته أو تذهب كلية, وإنما بقيت معانيها أو مقاصدها, وأن التغيير حصل في الأساس التي قامت عليه, أما حقيقتها فقد بقيت, فالتغير إذن لم يكن كليا ولكن جزئياً: أي أن الخلافة في العصر الأول كانت هي الخلافة الكاملة المثالية, ثم نقصت عن المثال من وجه أو بعض الوجوه, لكن معظم عناصره بقيت, فهي خلافة أقل في الرتية أو خلافة مختلطة بالملك (2) , والرأي العام في الإسلام يتمسك بالمثال, أو خلافة النبوة, أو الخلافة الكاملة, وهي تلك التي تقوم على الشورى والاختيار التام من الأمة وأنه إذا كان الظروف الواقعية والعوامل الاجتماعية قد حتمت أو أدت إلى هذا التطور, فإن تحمل ذلك أو قوله لا يكون إلا مؤقتاً أو من باب الضرورة, ولكن لايلزم أن يكون المثل الكامل حاضراً دائماً في فكر الرأي العام, وبمجرد أن تزول تلك العوامل والظروف تجب العودة إلى تحقيق المثل الكامل, ولذا
فإن الكتابات الإسلامية الأصيلة ظلت ملتزمة ومتشبتة بالمثال الكامل ولا تستخلص مبادائها إلا منه وتفرق بين الخلافة وهي الخلافة الحقيقية الشرعية, والخلافة الواقعية التي بعدت قليلاً أو كثيراً عن الحقيقة (3) , وقد ذكر ابن تيمية: أن مصير الأمر - أي الخلافة - إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة الأمراء ليس لنقص فيهم فقط, بل لنقص في الراعي والرعية جميعاً, فإنه كما تكونوا يوّل عليكم وقد قال تعالى:" وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
_________
(1) المصدر نفسه ص195.
(2) النظريات السياسية ص 196
(3) المصدر نفسه ص 197.(1/178)
الظَّالِمِينَ بَعْضًا" (الأنعام: 129).
لقد ذهبت دولة الخلفاء الراشدين, وصار ملكاً ظهر النقص في الأمراء, وكذلك في أهل العلم والدين وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة, حتى إنه لم يبق من أهل بدر إلا نفر قليل وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك, وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية, وأوائل الدولة العباسية (1).
2 - هل يعتبر معاوية رضي الله عنه أحد الخلفاء الاثني عشر؟
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم, فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة, قال: ثم تكلم بكلام خفي عليَّ, قال: فقلت لأبي: ما قال, قال: كلهم من قريش (2) , وفي رواية أخرى عن جابر: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشرة خليفة .. كلهم من قريش (3) وفي رواية أخرى عنه: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة .. كلهم من قريش (4) , زاد أبو داود في سننه, بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون الهرج (5). وقد شرح ابن كثير هذا الحديث فقال: ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم, ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم, بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم, ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة, وبعض بني العباس, ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة, والظاهر أن منهم المهدي المُسرِّ به في الأحاديث الواردة بذكره .... وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامراء (6) , فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية, بل هو من
هوس العقول السخيفة وتوهم الخيالات الضعيفة, وليس المراد بهؤلاء الخلفاء
_________
(1) الفتاوى (10/ 207).
(2) صحيح مسلم على شرح النووي (12/ 502).
(3) صحيح مسلم على شرح النووي (12/ 503).
(4) المصدر نفسه (12/ 203).
(5) صحيح سنن الألباني (3/ 807) هرج الناس وقعوا في فتنة واختلاط وقتل.
(6) سامراء: مدينة بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة(1/179)
الاثنى عشر الأئمة الاثنى عشرة الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية (1).
وبالتأمل في النص بكل حيدة وموضعية نجد أن هؤلاء الاثني عشر وصفوا بأنهم يتولون الخلافة, وأن الإسلام في عهدهم يكون في عزة ومنعة وأن الناس تجتمع عليهم ولا يزال أمر الناس ماضياً وصالحاً في عهدهم وكل هذا الأوصاف لا تنطبق على من تدعي الاثنا عشريه فيهم الإمامة فلم يتول الخلافة منهم إلا أمير المؤمنين علي والحسن (2) ... ثم أنه ليس في الحديث حصر لأئمة بهذا العدد, بل نبوة منه, بأن الإسلام لا يزال عزيزاً في عصور هؤلاء, وكان عصر الخلفاء الراشدين وبني أميه عصر عزة ومنعه (3) , ولهذا قال ابن تيمية: إن الإسلام وشرائعه في بني أمية أظهر وأوسع مما كان بعدهم (4) , وعدّ معاوية من الائمة المقصودين بالحديث (5).
ثانياً: أهم صفات معاوية رضي الله عنه:
أشتهر معاوية رضي الله عنه بصفات كثيرة من أهمها
1 - العلم والفقه:
استفاد معاوية رضي الله عنه من ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وتربية وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيره قد ذكرت بعضها وقد روى له البخاري ومسلم مع شرطهما أن لا يرويان إلا عن ثقة ضابط صدوق (6) وشهد له ابن عباس بالفقة, فعن ابن أبي مليكة قال: قيل لابن عباس رضي الله عنه: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنّه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه رواه البخاري (7). قال الشرّاح: أي مجتهد, وفي رواية أُخرى للبخاري عن أبي مليكة قال: أوتر معاوية: رضي الله عنه - بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فأتى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: دَعْهُ فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ من فضلاء الصحابة، ويُلقّب: البحر، لسعة علمه وحبر الأمة، وترجمان القرآن، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم والحكمة
_________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 34).
(2) منهاج السنة (4/ 210) المنتقى ص533.
(3) أصول الشيعة (2/ 816).
(4) منهاج السنة (4/ 206).
(5) المصدر نفسه (4/ 206).
(6) الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية ص41.
(7) البخاري رقم 3764 رقم 3765.(1/180)
والتأويل، فاستجيب وكان من خواص أصحاب علي رضي الله عنه وشديد الإنكار على أعدائه، وأرسله علي رضي الله عنه ليحاج الخوارج فحاجهم حتى لم يبق لهم حجة، فإذا شهد مثله لمعاوية بأنه مجتهد وكف مولاه عن الإنكار مستدلاً بأنه من الصحابة (1)، كما أنه كان كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره مفتى الحرمين أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري في خلاصة السير إن كتَّابه صلى الله عليه وسلم ثلاثة
عشر: الخلفاء الأربعة وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أرقم، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسلمي، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان معاوية وزيد ألزمهم لذلك وأخصهم به (2)،
كما أن الفقهاء يعتمدون على اجتهاده ويذكرون مذهبه كسائر الصحابة، كقولهم: ذهب معاذ بن جبل، ومعاوية وسعيد بن المسيب إلى أن المسلم يرث الكافر وقولهم: روى (3) استلام الركنين اليمانيين عن الحسن أو الحسين وصح عن معاوية. وقال أبو الدراء الصحابي لأهل الشام: ما رأيت أحد أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من إمامكم هذا ـ يعني معاوية (4) وكان رضي الله عنه حريصاً على تعليم الناس العلم، فعن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن قال: الله أكبر الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال معاوية: وأنا. فلما قضي التأذين قال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس ـ حين أذن المؤذن ـ يقول ما سمعتم مني من مقالتي (5)، وكان رضي الله عنه يحث الناس على الفقه في الدين ويروي لهم الأحاديث الدالة على أهمية التفقه في الدين، فعن الزهري قال أخبرني حميد قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة. أو حتى يأتي أمر الله (6)،
_________
(1) الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية صـ 41.
(2) المصدر نفسه صـ 41 ..
(3) المصدر نفسه صـ 57.
(4) منهاج السنة (3/ 185).
(5) فتح الباري (2/ 462).
(6) فتح الباري (13/ 306) ..(1/181)
وكان رضي الله عنه يكاتب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ليتعلم منهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: أكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى علي المغيرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وقال ابن جريج أخبرني عدة أن وراداً أخبره بهذا. ثم وفدت بعد إلى معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك القول (1)، وكان رضي الله عنه حريصاً على اتباع السنة النبوية، فعن سعيد بن المسيب، وعن حمد بن عبد الرحمن بن عوف: أن معاوية لما قدم المدينة في آخره مقدمه قدمها، قال على منبر رسول الله صلى: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم ـ يوم عاشوراء ـ يقول: من شاء منكم أن يصومه فليصمه وفي رواية: وإني صائم، فصام الناس (2)، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينهي عن مثل هذا. وأخرج قصة من شعر من كمه،
فقال: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم (3) يعني وصل المرأة شعرها بشعر آخر، وقد صح في عدد من الأحاديث لعن الواصلة والمستوصلة. وفي رواية أخرى أنه قال لهم إنكم أحدثتم أي حدث سوء نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (الزور) (4). سماه الرسول زوراً لما فيه من التزوير والتغيرير فهنا نراه حريصاً على إحياء سنة كصوم عاشوراء الذي رأى أن الناس أهملوه، كما نراه حريصاً على إماتة بدعة ظهرت في الناس، وهي تقليد اليهوديات بوصل الشعر (5).
وروى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد جعلا ـ أي العقدين ـ صداقاً (أي كل منهما صداق الأخرى، فكتب معاوية بن أبي سفيان ـ وهو خليفة ـ إلى مروان، يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا السِّفار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (6)، فهو يراعي إقامة السنة في حياة الناس في الأمور كلها، أمور الفرد، وأمور الأسرة، وأمور الجماعة، (7)، وكان رضي الله عنه لا يروي
_________
(1) فتح الباري (11/ 521).
(2) فتح الباري (4/ 287)
(3) الفتح (6/ 591).
(4) الفتح (6/ 595).
(5) تاريخنا المفترى عليه للقرضاوي صـ 71.
(6) مسند أحمد رقم 16856 إسناده حسن.
(7) تاريخنا المفترى عليه للقرضاوي صـ 71.(1/182)
الحديث عن رسول الله إلا بمناسبة اقتضته فقد ورد أنه دخل على عبد الله بن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر له، ولم يقم ابن الزبير، فقال معاوية: مَهْ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يَمثُل له عباد الله قياماً، فليتبوّأ مقعده من النار (1). وعن مجاهد وعطاء عن ابن عباس: أن معاوية أخبره أن رسول الله قصر من شعره ـ أي في العمرة ـ بمِشْقَص، فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية. فقال: ما كان معاوية على رسول الله متّهماً (2)، وكان رضي الله عنه يهتم بمذاكرة العلم ويحرص عليه، فعن عبد الله بن الحارث قال: دخلت مع ابن عباس على معاوية فأجلسه على السرير، وفي تلك القصة سأله معاوية عن مسألة فقهية، وكان رضي الله عنه يعلم الناس ويحثهم على سؤاله والاستفادة من علمه، فقد خطب يوم جمعة وقال: أيها الناس أعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة فلتقيمن وجوهكم وصفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطنهم الله عليكم، فليسومنكم سوء العذاب، تصدقوا لا يقولنَّ الرجل: إني مقلُّ.
فإن صدقة المقلِّ أفضل من صدقة الغنى، إياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت: وبلغني فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسُئل عنها يوم القيامة (3). وكان رضي الله عنه حريصاً على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما دخل مكة سأل ابن عمر أين صلى رسول الله؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة (4) وله اجتهاد في تعيين ليلة
القدر، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن معاوية قال: ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين (5)، وكان يعترف بالحجة والبرهان لغيره، فعن ابن عباس أنه طاف مع معاوية وكان معاوية يستلم الأركان بالبيت، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يستلم هذان الركنان. فقال: ليس شيء من البيت مهجوراً (6) وجاء في رواية: فقال له ابن عباس ((لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة)) (الأحزاب، آية: 21) فقال معاوية: صدقت (7)، ومن الأحكام التي قضاها
_________
(1) البخاري رقم 3488.
(2) مسند أحمد رقم 16813 إسناده صحيح.
(3) البداية والنهاية (11/ 437).
(4) الفتح (3/ 544).
(5) الفتح (4/ 311).
(6) الخلافة الرائدة والدولة الأموية من فتح الباري صـ 585.
(7) المصدر نفسه صـ 586.(1/183)
معاوية، رضي الله عنه ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن معقل قال: ما رأيت قضاء أحسن من قضاء قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم (1) ومن المسائل الفقهية التي أثرت عن معاوية رضي الله عنه:
أـ أثر عنه رضي الله عنه أنه أوتر بركعة (2).
ب ـ أثر عنه رضي الله عنه الاستقاء بمن ظهر صلاحه (3).
جـ ـ أنه يجزيء إخراج نصف صاع من البر في زكاة الفطر (4).
س ـ استحباب تطيب البدن لمن أراد الإحرام (5).
ش ـ جواز بيع وشراء دور مكة (6).
ع ـ التفريق بين الزوجين بسبب العُنَّة (7).
غ ـ وقوع طلاق السكران (8).
ك ـ عدم قتل المسلم بالكافر قصاصاً (9)
ل- حبس القاتل حتى يبلغ ابن القتيل (10)
وأما علومه في الفقه السياسي والسياسة الشرعية, ومقاصد الشريعة, وفقه الجهاد, فالكاتب سوف يحدثنا عن الكثير من فقه في إدارة الدولة وتحقيق أهدافها.
2 - الحلم والعفو:
اشتهر أمير المؤمنين معاوية بصفة الحلم وكان يضرب به المثل في حلمه رضي الله عنه, وكظم غيظه وعفوه عن الناس وقد ذكر ابن كثير ما كان يتصف به أمير
_________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (11/ 374) سنن سعيد (1/ 45).
(2) فتح الباري (7/ 130).
(3) المغني (3/ 346).
(4) زاد المعاد (2/ 19).
(5) المغني (5/ 77).
(6) المصدر السابق (6/ 366).
(7) العُنَّةُ: هي عجز الرجل عن اتيان زوجته القاموس المحيط ص 1570 زاد المعاد (5/ 181).
(8) المصدر السابق (5/ 211).
(9) المغني (11/ 466).
(10) المصدر السابق (11/ 577) , مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ص 28 , 29.(1/184)
المؤمنين معاوية من الحلم حيث قال: وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاماً سيئاً شديداً, فقيل له: لو سطوت عليه: فقال: إني لأستحي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي, وفي رواية قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك!! فقال: إني لا ستحي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي وقال الأصمعي عن الثوري قال: قال معاوية: إني لأستحي أن يكون ذنب أعظم من عفوي, أو جهل أكبر من حلمي, أو تكون عورة لا أواريها بستري. وقال معاوية: يابني أمية فارقوا قريشاً بالحلم, فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما, وأرجع وهو لي صديق, إن استنجدته أنجدني, وأثور به فيثور معي, وما وضع الحلم عن شريف شرفه, ولا زاده إلا كرماً, وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم (1) وسئل معاوية: من أسود الناس؟ فقال: أسخاهم نفساً حين يسأل, وأحسنهم في المجالس خلقا, وأحلمهم حين يستجهل (2) , وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيراً:
فما قتل السفاهة مثل حلم
يعود به على الجهل الحليم
فلا تسْفَه وإن ملِّئتَ غيظاً
على أحد فإن الفحش لُوْمُ
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب
فإن الذنب يغفره الكريم (3)
وكتب معاوية إلى نائب زياد: إنه لا ينبغي أن يُساسَ الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا, ولا بالشدة فيُحَْمَلَ الناس على المهالك, ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة, وأنا للين والألفة والرحمة, حتى إذا خاف خائف وجد بابا يدخل منه (4).
فهذه الأقوال المروية عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه تبين لنا شيئاً مما اشتهر عنه من الاتصاف بخلق الحلم, وقد كان هذا الخلق همزة وصل بينه وبين من يعاملونه بشيء من الجفاء من أفراد رعيته, أو يصارحونه بقوة - بما يرونه حقاً وهو يخالفهم في ذلك, وكان لتخلقه بخلق الحلم الذي لم يخالطه ضعف أثر في
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 441).
(2) المصدر نفسه (11/ 442).
(3) المصدر نفسه (11/ 442).
(4) المصدر نفسه (11/ 443).(1/185)
نجاحه في تثبيت أركان دولته, وذلك بمقدرته الفائقة على امتصاص غضب المخالفين, وتحويلهم إلى الرضى والقناعة بسياسته, وهكذا تأتي مكارم الأخلاق التي من أهمها الحلم والعفو والصبر والكرم لتكون من أهم عناصر السيادة, وقد أبان في هذه الأقوال بأن الحلم يخالطه شيء من الذل كما أن النصر يخالطه شيء
من العز, ولكن أبدى سروره بذلك الذل لما يترتب عليه من النتائج الحميدة التي منها اكتساب الأصدقاء والأنصار (1) وفي كتابه إلى زياد أمير العراق بيان لسياسته الجيدة التي تخيف المتهورين الميالين إلى إحداث الفوضى والإخلال بالأمن, ولكنها في الوقت نفسه تبعث الأمل لدى من يراجعون أنفسهم ويريدون سلوك طريق الاستقامة والسلامة (2) , ولقد أثنى على أمير المؤمنين معاوية حكماء عصره وذكروا اتصافه بمكارم الأخلاق وخاصة الحلم, وفي ذلك يقول الحافظ بن كثير: وقال عبد الملك بن مروان - يوما وذكر معاوية فقال -: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه (3) , وقال قبيصة بن جابر: مارأيت أحداً أعظم حلماً, ولا أكثر سؤدداً, ولا أبعد أناة, ولا ألين مخرجاً, ولا أرحب بالمعروف من معاوية (4). وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: لله در ابن هند, إن كنا لنُفرْقه (5)
, وما الليث على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا, وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلةٍ من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا, والله لوددت أنا مُتِّعنا به مادام في هذا الجبل حجر- وأشار إلى أبي قبيس (6). وفي قول ابن الزبير هذا وصف دقيق لمعاملة معاوية لقادة المسلمين وسادتهم, فهو جريء شجاع ولكن يظهر عمدا ليصل من ذلك إلى عدم إثارة المخالفين, لأن إظهار الشجاعة يثير عنصر التحدي لديهم, وهو أدهى أهل الأرض في زمانه, ولكنه يظهر الانخداع أمام محدثيه ليصل إلى تجفيف منابع نقمتهم عليه, وهو في ذلك كله يخدم هدفاً سامياً وهو تحقيق حياة الرخاء والأمن للأمة الإسلامية, ولقد تمنى ابن الزبير أن يطول عمر معاوية لأنه يخشى من تغير الأحوال من بعده (7) , ويصف حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سياسة معاوية
_________
(1) التاريخ الإسلامي (17/ 26).
(2) التاريخ الإسلامي (17/ 26).
(3) البداية والنهاية (11/ 439).
(4) المصدر نفسه (11/ 439).
(5) نفرقه: نخوّفه ..
(6) البداية والنهاية (11/ 442).
(7) التاريخ الإسلامي (17/ 27).(1/186)
بكلام موجز, لكنه يعني خلاصة تفكير عميق حيث يقول: قد علمت بِمَ غلب معاوية الناس, وكانوا إذا طاروا وقع, وإذا وقع طاروا (1). وهذا يعني أنه إذا رأى السيول الجارفة قد أقبلت لم يقاومها, وإنما يفسح لها حتى تمر, ثم يحتوي الميدان وقد زال إقبال الناس الشديد فيتمكن مما يريد, وقد عبر معاوية عن هذه السياسة بقوله المشهور: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت, إذا جذبوها أرخيتها, وإذا أرخوها جذبتها ومن مواقفه في الحلم أنه: جرى بين رجل يقال له أبو جهم وبين معاوية كلام, فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية, فأطرق معاوية ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويأخذ أخذ الأسد, وإن قليله يغلب كثير الناس, ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمال, فقال أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية:
نميل على جوانبه كأنا ... نميل إذا نميل على أبينا
نُقلِّبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا (2)
وهكذا كان لحلم معاوية رضي الله عنه وحسن خلقه ومبادلته الإساءة بالإحسان الأثر الكبير في نفس أبي الجهم فقال هذين البيتين في الثناء على معاوية, ولقد كان سلوك أمير المؤمنين معاوية تطبيقاً لقوله الله تعالى: ((وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ? وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) (فصلت، الآيتان:35,34).
ونظراً لحلم معاوية الكبير وما يتصف به من الشجاعة والعزة فإن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أثنى عليه (3) بقوله: دعوا فتى قريش وابن سيدها, إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرضا, ومن لا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه (4). فهذا قول دقيق من عمر في وصف معاوية, فقد وصفه بالدرجة العالية من الحلم, والعزة التي تجعله منيعا لا ينال ما عنده على قهر منه, وهذه الصفة من صفاته التي جعلة أمير المؤمنين عمر يبقيه أميراً على الشام لخطورة ذلك الثغر (5).
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 443).
(2) التاريخ الإسلامي (17/ 28) البداية والنهاية (11/ 440).
(3) التاريخ الإسلامي (17/ 30,29).
(4) البداية والنهاية (11/ 415).
(5) التاريخ الإسلامي (11/ 30).(1/187)
وقال معاوية رضي الله عنه: العقل والحلم أفضل ما أعطي العبد, فإذا ذُكِّر ذكر وإذا أُعطي شكر, وإذا بتلي صبر, وإذا غضب كظم, وإذا قدر غفر, وإذا أساء استغفر, وإذا وعد أنجز (1) ففي هذا الخبر جمع أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه درراً من الحكم, وهي الشكر عند الرخاء, والصبر عند الابتلاء والتحكم في السلوك عند الغضب, والعفو عند المقدرة, والوفاء بالوعد, والاستغفار عند الإساءة, فهذا الخبر على قصره قد جمع ستة موضوعات, كل موضوع يحتاج إلى أن يكتب عنه في صفحات, وهذا من جوامع الكلم, وهو يعتبر من أعلى أنواع البلاغة, وذلك في جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة, وقد اشتهر في هذا البيان عدد من الصحابة رضي الله عنهم تتلمذوا في ذلك على رسول الله صلى الله الذي أوتي جوامع الكلم (2).
3 - الدهاء والحيلة
ومن الصفات التي تميز بها معاوية رضي الله عنه صفة الدهاء والحيلة ومما يروى من دهائه وحسن إدارته وتدبيره, أن المسلمين غزوا في أيامه فأسر جماعة منهم, فوقفوا بين يدي ملك الروم
بقسطنطينية, فتكلم بعض أسارى المسلمين, فدنا منه بعض البطارقة (3) , ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلطم حرّ وجهه (4) , وكان رجلاً من قريش فصاح: واسلاماه أين أنت عنا يا معاوية إذ أهملتنا وأضعت ثغورنا وحكَّمت العدو في دمائنا وأعراضنا فنمى ذلك الخبر إلى معاوية, فآلمه وامتنع من لذيذ الطعام والشراب, فخلا بنفسه, وامتنع عن الناس ولم يظهر ذلك لأحد من المخلوقين, ثم أعمل الحيلة في إقامة الفداء بين المسلمين والروم, إلى أن فدى ذلك الرجل, ومن أسر معه من المسلمين, فلما صار الرجل إلى دار الإسلام, دعاه معاوية فبره وأحسن إليه ثم قال له: لم نهملك, ولم نضيعك, ولا أبحنا دمك وعرضك ومعاوية أثناء ذلك يدبر الرأى ويعمل الحيلة ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور, وكان عارفاً كثير الغزوات في البحر صُمكّ (5) من الرجال مرطان بالرومية, فأحضره وخلابه, وأخبره بما قد عزم عليه وسأله إعمال
_________
(1) أنساب الأشراف (5/ 336).
(2) التاريخ الإسلامي (19/ 355,20).
(3) البطارقة: جمع بطريق وهو رئيس الأساقف والاسقف رجل الكنيسة.
(4) لطم حرّ وجه: ما ظهر منه.
(5) الصمك والصموك: القوي الشديد, والغليظ الجافي.(1/188)
الحيلة فيه, والتأني له, فتوافقا على أن يدفع للرجل مالا عظيماً, ليبتاع به أنواعاً من الطرف والملح والجهاز من الطيب والجوهر وغير ذلك, وأنشأ له مركبا لا يلحق في جريه سرعة, ولا يدرك في سيره, إنشاءً عجيباً, فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرص فاتصل برئيسها وأخبره أن معه حاجه للملك, وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية, قاصداً إلى الملك وخواصه بذلك فروسل (1)
الملك بشأنه, فأذن له, فدخل خليج القسطنطينية, فلما وصلها أهدى للملك وجميع بطارقته, وبايعهم وشاراهم, وقصدهم, إلا ذلك البطريق الذي لطم, القرشي, وتأنى الصوري من الأمور على حسب مارسمها له معاوية, وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام, وقد أمره أكثر البطارقة أن يبتاع حوائج ذكروها, وأنواعاً من الأمتعة وصفوها, فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سراً, وذكر له من الأمر ما جرى فابتيع له ما طلب منه وما علم أن رغبتهم فيه وتقدم إليه معاوية فقال: إن ذلك البطريق إذا عدت في كرتك هذه سيعذلك عن تخلفك عن بره, واستعانتك به, فاعتذر إليه ولاطفه بالقول والهدايا, واجعله القيم بآمرك, والتفقد لأحوالك تزداد عندهم, فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به, وعلمت ما غرض البطريق وإيش الذي يأمرك بابتياعه فعد به إلينا لتكون الحيلة على حسبه, فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة مما لم يطلب زادت منزلته, وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وسائر الحاشية, فلما كان في بعض الأيام وهو يريد الدخول إلى الملك, قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك, وقال له: ما ذنبي إليك؟ وبم استحق غيري أن تقصده, وتقضي حوائجه وتعرض عني, قال الصوري:
أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب, وأرحل إلى هذا البلد كالمتنكر من أسارى المسلمين, وجواسيسهم لئلا يَنِمُّو خبري ويوشوا بأمري إلى المسلمين فيكون في ذلك بواري والآن فإذا قد علمت ميلك إلى فلست أحب أن يعتني بأمري سواك, ولا يقوم بحالى عند الملك وغيره غيرك, فمرني بحوائجك وجميع ما يعرض من أمورك بأرض الإسلام, وأهدى إلى ذلك البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجوهر والطرف والثياب ولم يزل هذا فعله, يتردد من الروم إلى معاوية ومن
_________
(1) الشهب الآمعة ص 487 ..(1/189)
معاوية إلى الروم ويسأله الملك والبطريق وغيره من البطارقة الحوائج الجليلة والحيلة لا تتوجه إلى معاوية, حتى مضى على ذلك سنين فلما كان في بعضها قال البطريق
للصوري, وقد أراد الخروج إلى دار الإسلام قد اشتهيت أن تعمدني بقاء حاجة, وتمن بها على, وهي أن تبتاع لى بساط سوسنجرد بمخاده ووسائده, ويكون فيه من أنواع الألوان الحمرة والزرقة وغيرها, ويكون من صفة كذا وكذا, ولو بما بلغ ثمنه كل مبلغ, فأنعم له بذلك, وكان من شأن الصوري أن يكون مركبه إذا ورد القسطنطينية بالقرب من موضع ذلك البطريق وكان للبطريق ضيعة سرية, وفيها قصر مشيد, ومنتزه حسن على أميال من القسطنطينية راكبه على الخليج, وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه وكانت الضيعة فيما بين قسم الخليج من يلي بحر الروم والقسطنطينية فانصرف الصوري إلى معاوية سراً, فأخبره بالحال فأحضر معاوية بساطا بوسائد ومخاد ومجلس حسن (1)
, فانصرف به مع جميع ما طلب منه من أرض الإسلام, وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة, وكيفية إيقاعها وكان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤنسة والعشرة, وفي الروم طمع وشره فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية, وقد طابت له الريح, وقرب من ضيعة البطريق, أخذ الصوري أخبار البطريق من أصحاب القوارب والمراكب, فأخبر أن البطريق في ضيعته, وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمائة وخمسين ميلاً, والضياع والعمائر على حافتيه, والمراكب تختلف, والقوارب بأنواع المتاع والأقوات, إلى القسطنطينية من هذه العمائر لا تحصى كثرة, فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته فرش البساط ونضد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخاد في صحن المركب ومجلسه, والرجال تحت المجلس بأيديهم المقاذيف مشكله قائمة غير قاذفين بها, ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا من ظهر منهم في عمله والريح في القلع, والمركب مار في الخليج كأنه سهم خرج عن كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه لسرعة سيره واستقامته في جريه, فأشرفه على قصر البطريق, وهو جالس في مستشرفه مع حرمه, وقد أخذت منه الخمر, وعلاه الطرب, وذهب به الفرح والسرور كل مذهب, فلما رأى البطريق مركب الصوري
_________
(1) الشهب الامعة في السياسة والنافعة ص489 ..(1/190)
زعق طربا, وصاح فرحاً وسروراً وابتهاجاً
بقدومه, فدنا من أسفل القصر فحط القلع, وأشرف البطريق على المركب فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط, ونظم تلك الفرش, كأنه رياض يزهر, فلم يستطيع اللبث في موضعه, حتى نزل قبل أن يخرج الصوري من مركبه إليه, فطلع إلى المركب فلما استقر قدمه على المركب ودنا من المجلس, وضرب الصوري بعقبه على من تحت البساط وكانت علامة بينه وبين الرجال الذين في بطن المركب, فما استقر دقه في المركب بقدمه, حتى اختطف المركب, بالمقاذيف, وإذا هو وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء وارتفع الصوت ولم يدر ما الخبر لمعالجة الأمر, فلم يكن الليل حتى خرج عن الخليج وتوسط
البحر, وقد أوثق البطريق كتافاً, وطابت له الريح, وأسعده الجد, وحمله المقدار في ذلك اللج, فتعلق في اليوم السابع بساحل الشام, ورأى البر وحمل الرجل فكان في اليوم الثالث عشر مأسوراً بين يدي معاوية فسر بذلك معاوية (1). وقال: عليّ بالرجل القرشي, فأتى به وقد حضره خواص الناس, فأخذوا مجالسهم, وغص المجلس بأهله, فقال معاوية للقرشي: قم فاقتص من هذا البطريق الذي لطم وجهك على بساط معظمَّ الروم, فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك ولا عرضك فقام القرشي فدنا من البطريق, فقال معاوية: انظر لا تتعدى ما جرى عليك, واقتص منه على حسب ما ضع بك ولا تعتد, وارع ما أوجب الله عليك من المماثلة, فلطمه القرشي لطمات ووكزه في حلقه, ثم أكب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها, وقال: ما ضاع من سوَّدك, ولا خاب فيك من رأسك, أنت ملك لا يستضام (2) تمنع حماك, وتصون رعيتك وأرق في وصفه ودعائه, وأحسن معاوية إلى البطريق, وخلع عليه وبرّه, وحمل معه البساط, وأضاف إلى ذلك أشياء كثيرة وهدايا إلى الملك, وقال له: ارجع إلى ملكك, وقل له: تركت ملك المسلمين (3)
يقيم الحدود على بساطك, ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك وعزك, وقال للصوري: سر معه حتى تأني الخليج فتطرحه فيه ومن أسر معه, ممن كان بادر فصعد إلى المركب من غلمان البطريق, وخاصته
_________
(1) الشهب الامعة في السياية النافعة ص 490.
(2) الضيم الإذلال والقهر - أي ملك لا يقهر ولا يزل.
(3) أصل الكلمه في الأثل العرب ..(1/191)
فحملوا إلى صور مكرمين, وحمل الجميع في المركب, وطابت لهم الريح, فكانوا في اليوم الحادي عشر متعلقين بأرض الروم فقربوا من الخليج, فإذا قد أحكم فمه بالسلاسل والمنعة من الموكولين به, فطرح البطريق, وحمل من وقته إلى الملك ومعه الهدايا والأمتعة وتباشرت الروم بقدومه, وتلقوه مهنئين له بخلاصه من الأسر, فكافأ الملك معاوية على ما كان من فعله في أمر البطريق والهدايا, فلم يكن يستضام أسير من المسلمين في أيامه, وقال الملك: هذا أدهى العرب وأمكر الملوك, ولهذا قدمته
العرب عليها, فأساس أمورها, ولو هَمَّ بأخذي لتمت له الحيلة علي (1). وهذه القصة دليل على دهاء معاوية رضي الله عنه وحسن سيايته واهتمامه بأمور رعيته والمحافظه على حقوق كل فرد فيها وصيانة (2) كرامته.
4 - عقليته الفذه وقدرته على الاستيعاب:
امتاز معاوية رضي الله عنه بالعقلية الفذة, فإنه كان يتمتع بالقدرة الفائقة على الاستيعاب, فكان يستفيد من كل مايمر به من الأحداث, ويعرف كيف يتوقاها, وكيف يخرج منها إذا تورط فيها, وكانت خبراته الواسعة وممارسته لأعباء الحكم على مدى أربعين سنة, منذ ولاه عمر رضي الله عنه الشام, فكانت ولا يته على الشام عشرين سنة أميراً, وعشرين سنه خليفة (3) , هذه الفترة الطويلة التي تقلب فيها بين المناصب العسكرية والولاية المدينة اكسبتة خبرة في سياسة البلاد, والاستفادة من كل الظروف والأوضاع التي تمر بها, حتى استطاع أن يسير بالدولة عشرين سنة دون أن ينازعه منازع (4) , يقول الشيخ الخضري: أما معاوية نفسه, فلم يكن أحد أوفر منه يداً في السياسة, صانع رؤوس العرب, وكانت غايته في الحلم لا تدرك, وعصابته فيه لا تنزع ومرقاته فيه تزل عنها الأقدام (5) , ومن المعلوم أن السياسة الناجحة تتوقف على القدرة على ضبط النفس عند الغضب, واحتواء الشدائد حتى تنجلي, ولمعاوية في ذلك نصيب وافر -رضي الله عنه - وكانت تلك سياسته مع العامة والخاصة, وهذه طريقه مع الملوك والسوقة, وهذه أمثلة من سياسته في معاملة الناس.
_________
(1) الشهب الامعة في السياية النافعة ص 491.
(2) المصدر نفسه ص 491 تعليق محقق الكتاب السيد سليمات معتوق الرفاعي رحمه الله.
(3) الطبقات الكبرى (7/ 406).
(4) الأمويون بين الشرق والغرب (1/ 82).
(5) الدولة الأموية للخضري ص 377.(1/192)
أ- المسور بن مخرمة رضي الله عنه واعتراضه على معاوية:
عن عروة بن الزبير: أن المسور ابن مخرمة أخبره أنه قدم وافداً على معاوية بن أبي سفيان فقضى حاجته, ثم دعاه فأخلاه فقال: يامسور ما فعل طعنك على الأئمة؟ فقال: المسور دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له. قال: معاوية لا والله لتكلمنَّ بذات نفسك, والذي تعيب عليّ. قال المسور. فلم أترك شياً أعيبه عليه إلا بينته له. قال معاوية: لا بريء من الذنب, فهل تعد يامسور مالي من الأصلاح في أمر العامة, فإن الحسنة بعشر أمثالها؟ أم تعد الذنوب وتترك الحسنات. قال المسور: لا والله ما نذكر إلا ما ترى من هذه الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه فهل لك يامسور ذنب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله؟ قال مسور: نعم! قال معاوية: فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فو الله لما ألي من الإصلاح أكثر مما تَليِ ولكن والله لا
أُخير بين أمرين, وبين الله وغيره إلا اخترت الله تعالى على ما سواه, وأنا على دين يقبل الله فيه العمل, ويجزي فيه بالحسنات, ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء, فأنا احتسب كل حسنة عملتها بأضعافها, وأوازي أموراً عظاماً لا أحصيها ولا تحصيها من عمل لله في إقامة صلوات المسلمين, والجهاد في سبيل الله عز وجل, والحكم بما أنزل الله تعالى, والأمور التي ليست تحصيها وإن عددتها لك. قال المسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر. قال عروة: فلم يُسمع المسور بعد ذلك يذكرمعاوية إلا استغفر له (1)
وفي هذا الخبر مثل جيد في فن الإقناع ومحاولة إمتصاص غضب المخالفين وتحويل قناعاتهم, فقد استطاع أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أن يقنع المسور بن مخرمة رضي الله عنه بتقبل سياسته التي يسير عليها, وعاد مادحاً داعياً له بعدما كان منتقداً مهاجما له, وفي هذا الخبر لفتة تربوية من معاوية حيث أبان من العدل في الحكم على المسلم أن ينظر الحاكم عليه إلى حسناته وصوابه مع أن ينظر إلى سيئاته وخطئه, ثم يوازن بين الجانبين, فلعل هذا المسلم الذي برزت أخطاؤه في ذهن من تصدى لنقده تكون له حسنات كثيرة جليلة قد لا تعد أخطاؤه إلى جانبها شيئاً مذكوراً (2).
_________
(1) تاريخ بغداد (1/ 208,209) سير أعلام النبلاء (3/ 151) ..
(2) التاريخ الإسلامي (17,18/ 539).(1/193)
ب ـ ثابت بن قيس بن الخطيم الانصاري رضي الله عنه:
كان ثابت بن قيس بن الخطيم, شديد النفس, وكان له بلاء مع علي بن أبي طالب, واستعمله علي بن طالب على المدائن, فلم يزل عليها حتى قدم المغيرة بن شعبة الكوفه, وكان معاوية يتقي مكانه. انصرف ثابت بن قيس إلى منزله فوجد الأنصار مجتمعة في مسجد بني ظفر يريدون أن يكتبو إلى معاوية في حقوقهم أول ما استخلف, ... فقال: ما هذا, فقالوا: نريد أن نكتب إلى معاوية. فقال ما تصنعون أن يكتب اليه جماعة؟! يكتب إليه رجل منا فإن كانت كائنة برجل منكم فهو خير من أن تقع بكم جميعاً وتقع أسماؤكم عنده فقالوا: فمن ذلك الذي يبذل نفسه لنا؟ قال: أنا. قالوا: فشأنك, فكتب إليه وبدأ بنفسه فذكر أشياء منها: نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. وقال: حبست حقوقنا واعتديت علينا وظلمتنا, ومالنا إليك ذنب إلا نصرتنا للنبي صلى الله عليه وسلم, فلما قدم كتابه إلى معاوية دفعه إلى يزيد فقرأه ثم قال له: ما الرأي, فقال: تبعث فتصلبه على بابه, فدعا كبراء أهل الشام فاستشارهم, فقالوا: تبعث إليه حتى تقدم به ههنا وتقفه لشيعتك ولأشراف الناس حتى يروه, ثم تصلبه. فقال: هل عندكم غير هذا؟ قالوا: لا, فكتب إليه: قد فهمت كتابك, وما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت أنها كانت ضجرة لشغلي وما كنت فيه من الفتنة التي شهرت فيها نفسك فأنظرني ثلاثاً, فقدم كتابه على ثابت فقرأه على قومه, وصبَّحهم العطاء في اليوم الرابع (1).
فهذا الخبر فيه موقف كبير لأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه في الحكمة والسياسة, فهو بعد أن استشار ابنه يزيد بعض وجهاء الشام لم يعجبه رأيهم ولم يوافقهم على أخذ الناس بالشدة والعنف والجبروت, بل سارع إلى إرسال عطاء الأنصار رضي الله عنهم, ولم يؤاخذ ثابت بن قيس رضي الله عنه على شدة اللهجة في كتابة إليه, وبهذا التصرف الحكيم والسياسة الرشيدة لم يخسر شيئاً بل كسب رضى الأنصار عنه ورضى غيرهم ممن يطلع على خبره معهم, ولو أنه أخذ بمشورة السذج المتجبرين فبطش بصاحب ذلك الكتاب لثار عليه الأنصار, ولناصرهم طوائف من المسلمين لشهرتهم ومكانتهم في الإسلام (2).
_________
(1) تاريخ بغداد (1/ 176).
(2) التاريخ الإسلامي (17/ 537).(1/194)
جـ - الأحنف بن قيس - رحمه الله -:
ذكر ابن خلكان في ترجمته: ثم إن عبيد الله - يعني ابن زياد أمير العراق - جمع أعيان العراق وفيهم الأحنف وتوجه بهم إلى الشام للسلام على معاوية, فلما وصلوا دخل عبيد الله على معاوية وأعلمه بوصول رؤساء العراق, فقال: أدخلهم عليَّ أوَّ لاً فأوَّل على قدر مراتبهم عندك, فخرج إليهم وأدخلهم على الترتيب كما قال معاوية, وآخر من دخل الأحنف, فلما رآه معاوية - وكان يعرف منزلته ويبالغ في إكرامه لتقدمه وسيادته - قال: إليَّ يا أبا بحر, فتقدم إليه فأجلسه معه على مرتبته, وأقبل عليه يسأله عن حاله ويحادثه, وأعرض عن بقية الجماعة. قال: ثم إن أهل العراق أخذوا في الشكر في عبيد الله والثناء عليه, والأحنف ساكت, فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بحر؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم, فقال له معاوية: اشهدوا علي أنني قد عزلت عبيد الله عنكم, قوموا انظروا في أمير أوليه عليكم وترجعون إلىَّ بعد ثلاثة أيام. قال: فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإمارة لأنفسهم, وفيهم من عيَّن غيره, وسعوا في السَّر مع خواص معاوية أن يفعل لهم ذلك, ثم اجتمعوا بعد انقضاء الثلاثة كما قال معاوية, والأحنف معهم, ودخلوا عليه فأجلسهم على ترتيبهم في المجلس الأول, وأخذ الأحنف إليه كما فعل أوّلا وحادثه ساعة, ثم قال: ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كل واحد يذكر شخصاً وطال حديثهم في ذلك وأفضى إلى منازعة وجدال, والأحنف ساكت, ولم يكن في الأيام الثلاثة تحدث مع أحد في شيء, فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بحر؟ فقال الأحنف: إن ولَّيت أحداً من أهل بيتك لم تجد من يعدل عبيد الله ولا يسد مسدَّه, وإن وليت من غيرهم فذلك إلى رأيك, ولم يكن في الحاضرين الذين بالغوا في المجالس الأول في الثناء على عبيد الله, من ذكره في هذا المجلس ولا سأل عوده إليهم.
قال: فلما سمع معاوية مقالة الأحنف قال للجماعة: اشهدوا علي أني قد أعدت عبيد الله إلى ولايته, فكل منهم ندم على عدم تعيينه, وعلم معاوية أن شكرهم لعبيد الله لم يكن لرغبتهم فيه, بل كما جرت العادة في حق المتولي. قال: فلما فصل الجماعة من مجلس
معاوية خلا بعبيد الله وقال له: كيف ضيعت مثل هذا الرجل - يعني الأحنف- فإنه عزلك وأعادك إلى الولاية وهو ساكت, وهؤلاء الذين قدمتهم عليه واعتمدت عليهم لم ينفعوك ولا(1/195)
عرجوا عليك لما فوضت الأمر إليهم, فمثل الأحنف من يتخذه الإنسان عوناً وذخراً قال: فلما عادوا إلى العراق أقبل عليه عبيد الله وجعله بطانته وصاحب سره (1) وفي هذا الخبر موقف لمعاوية رضي الله عنه حينما علم قدر الأحنف بن قيس رحمه الله وأدرك رفعة منزلته, فرفعه وأدناه منه وأظهر له كثيراً من الاهتمام والاحترام وهذا كما أنه يعتبر من تقدير أهل الفضل فهو يعتبر من السياسية الجيدة في احتواء أهل القوة والتأثير على الناس (2) واستيعابهم ومن القصص التي حدثت بين معاوية والأحنف والتي تدل على سعة صدر معاوية ومعرفته بعواقب الأمور, فعندما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوما, فقال له معاوية: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القامة؟ فقال له الاحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي ابغضناك بها لفي صدورنا, وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها, وإن تدن من الحرب فتراً ندن منه شبراً, وإن تمشى اليها نهرول اليها, ثم قام وخرج وكانت اخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه فقالت: يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ قال هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف من تميم لا يدرون فيم غضب (3).
س- أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه:
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب وجاء بالسند فقال: من جامع معمر رواية عبد الرزاق (4) , قال: حدّثنا معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري , فقال له معاوية: يا أبا قتادة, لم يكن معنا دواب, قال معاوية: فأين النَّواضح؟ قال أبو قتادة: عقرناها في طلبك, وطلب أبيك يوم بدر, قال: نعم يا أبا قتاده: قال أبو قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إنَّا سنرى بعده أثرة, قال معاوية: فما أمركم به عند ذلك؟ قال: أمرنا بالصبر, قال: فاصبروا حتَّى تلقوه (5).
_________
(1) وفيات الأعيان (2/ 504,503).
(2) التاريخ الإسلامي (17/ 24).
(3) وفيات الاعيان (2/ 186).
(4) مصنف عبد الرزاق رقم 19909 وهو مرسل فإن عبد الله بن محمد بن عقيل لم يدرك معاوية وأبا قتادة, وابن عقيل ليس بذاك, وإما إخبار النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بأنهم سيرون بعده أثرةً وأمره لهم بالصبر حق ياتوه فثابت من حديث أسيد بن حضير عند البخاري رقم 3792, ومسلم رقم 1845 الاستيعاب ص 670.
(5) الاستيعاب ص 670 رقم الترجمة 2346.(1/196)
5 - تواضعه وورعه:
ومن صفات معاوية رضي الله عنه التي اشتهر بها صفة التواضع فقد كان في خطبه العامة يعترف بأن
في الناس من هو خير منه وأفضل, وكان ذلك بعد أن تولى أمر المسلمين, واجتمع عليه الناس, فأصبح الأمير الذي لا ينازع, خطب مرة فقال: أيها الناس ما أنا بخيركم, وإن منكم لمن هو خير مني, عبد الله بن عمر, وعبد الله بن عمرو, وغيرهما من الأفاضل, ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية, وأنكاكم في عدوكم, وأدرككم حلبا (1) , وروى الإمام أحمد بسنده إلى علي بن أبي حملة عن أبيه قال: رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه قميص مرقوع (2) , وعن يونس بن ميسر الحميري قال: رأيت معاوية في سوق دمشق, وهو مردف وراءه وصيفاً, وعليه قميص الجيب, يسير في أسواق دمشق (3) , وبلغ من ورعه أنه لما رأى إحدى جواريه, ونظر إليها بشهوة, ولكنه شعر بعجزه عن وطئها, قال لمن أحضرها إليه: اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال: لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي ـ وكان ربيعة فقيها ـ فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة, وقد رأيت منها ذلك وذلك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد. فقال ربيعة: لا تفعل يا أمير المؤمنين: فإنها لا تصلح له, فقال معاوية: نعم ما رأيت, ثم وهب معاوية الجارية لعبد الله بن مسعدة الفزاري, مولى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسود, فقال له: بيض بها ولدك (4)
ويعلق ابن كثير على ذلك بقوله: وهذا من فقه معاوية وتحريه, حيث كان نظر إليها بشهوة, ولكن استعفف نفسه عنها, فتحرج أن يهبها لولده يزيد لقوله تعالى: ((وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)) (النساء، الآية: 22) وقد وافقه على ذلك ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي (5)
6 - بكاؤه من خشية الله:
روي في مجلس معاوية رضي الله عنه حديث أبي هريرة عن رسول الله, في أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من أمة محمد. القاري المرائي, والمنفق
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 436).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 152) الزهد ص172.
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 152) من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاويه ص 129.
(4) البداية والنهاية (11/ 396) ..
(5) البداية والنهاية المصدر نفسه.(1/197)
المرائي, والمجاهد المرائي, وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حيث قال: أن الله تبارك وتعالي إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية, فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله, ورجل كثير المال, فيقول الله للقاريء: ألم أعلمك ما أنزلت على رسلي؟ قال بلى يا رب, قال: فماذا علمت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار, فيقول الله له: كذبت, وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال إن فلاناً قاريء فقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال:
بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق, فيقول الله له: كذبت, وتقول له الملائكة: كذبت, ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك, ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله, فيقول الله له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله تعالى له: كذبت, وتقول له الملائكة: كذبت, ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك, ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة, أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة.
فعند ما سمع معاوية هذا الحديث قال: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظن من حوله أنه هالك, ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ? أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (1) " (سورة هود، الآيتان: 15و16) هذه أهم صفات معاوية التي خرجت لي عند البحث في سيرته.
ثالثاً: ثناء العلماء على معاوية ودخول دولة بني أميه في خير القرون:
1 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية (2) , وقال أبو محمد الأموي: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه, وراح إليه في موكب, فقال له عمر:
_________
(1) رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريره وصححه الألباني 1713.
(2) المعجم الكبير (5/ 330) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ص 83.(1/198)
يا معاوية, تروح في موكب وتغدو في مثله, وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات بباك: قال يا أمير المؤمنين إن العدو بها قريب منا, ولهم عيون وجواسيس, فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً، فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب, أوخدعة رجل أريب؛ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين, مرني بما شئت أصر إليه؛ قال: ويحك: ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك (1).
2 - علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: لا تكرهوا إمارة معاوية فوالله لئن فقد تموه لترون رؤوساً تندر عن كواهلها كأنها الحنظل (2). فهذا توجيه من أمير المؤمنين علي لأصحابه لعدم كراهيتهم إمارة معاوية.
3 - عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أسود من معاوية قال: قلت: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً منه وكان معاوية
أسود (3) منه وفي رواية: مارأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية. قيل ولا أبابكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيراً منه, وهو أسود منهم (4).
4 - عبد الله بن عباس رضي الله عنه: قال رضي الله عنه: ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية (5) , وفي صحيح البخاري أنه قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة قال: إنه فقيه (6) , وذكر بن عباس معاوية فقال: لله درَّ ابن هند ما أكرم حسبه وأكرم مقدرته, والله ما شتمنا على منبر قط, ولا بالأرض ضَّناً منه بأحسابنا وحسبه (7) وحين عزى معاوية عبد الله بن عباس في الحسن بن علي بقوله: لا يخزيك الله ولا يسوؤك في الحسن فقال: له ابن عباس: أما ما أبقى الله لي أمير المؤمنين, فلن يسؤني الله ولن يخزيني (8).
_________
(1) أنساب الأشراف (4/ 147) , الاستيعاب رقم الترجمة 2346 مرويا خلافة معاوية في تاريخ الطبري ص 84.
(2) البداية والنهاية (11/ 430).
(3) المصدر السابق (11/ 438).
(4) المصدر السابق (11/ 438).
(5) المصدر السابق (11/ 439).
(6) البخاري رقم 3765.
(7) تاريخ دمشق (62/ 129,128).
(8) مختصر تاريخ دمشق (25/ 68,67).(1/199)
5 - سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قال رضي الله عنه: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحب هذا الباب, يعني: معاوية (1).
6 - أبو هريرة رضي الله عنه: كان يمشي في سوق المدينه وهو يقول: ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية, اللهم لا تدركني إمارة الصبيان (2).
7 - أبو الدرداء رضي الله عنه: ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا- يعني معاوية (3) قال ابن تيميه: بعد أن أورد أثر ابن عباس السابق, وأثر أبي الدرداء هذا: فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشهاد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة (4).
8 - سعيد بن المسيب رحمه الله: قال ابن وهب عن مالك عن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيِّب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: اسمع يا زهري, من مات محباً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وشهد للعشرة بالجنة, وترحم على معاوية كان حقيقاً على الله أن لا يناقشه الحساب (5).
9 - عبد الله بن المبارك- رحمه الله -: قال: معاوية عندنا محنة, فمن رأيناه ينظر إليه شزراً, اتهمناه على القوم, يعني الصحابة (6) وسئل ابن المبارك عن معاوية فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده. فقال خلفه: ربَّنا ولك الحمد؟ فقيل أيُّما أفضل؟ هو أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز (7).
10 - عمر بن عبد العزيز رحمه الله: قال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية, فإنه ضرب أسواطا (8).
_________
(1) سير أعلام البنلاء (3/ 150).
(2) مختصر تاريخ دمشق (25/ 79) , أثر العلماء ص84.
(3) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/ 357) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير قيس بن الحرث المدحجي.
(4) منهاج السنة (6/ 235).
(5) البداية والنهاية (11/ 449).
(6) المصدر نفسه (11/ 449).
(7) المصدر نفسه (11/ 449).
(8) المصدر نفسه (11/ 451).(1/200)
11 - وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره: سئل المعافي بن عمران: أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين, معاوية صاحبه وصهره, وكاتبه, وأمينه على وحي الله (1).
12 - أحمد بن حنبل -رحمه الله-: سئل الإمام أحمد: ما تقول رحمك الله فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي, ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصباً؟ قال أبو عبد الله: هذا قول سوءٍ رديء, يجانبون هؤلاء القوم, ولا يجالسون, ونبين أمرهم للناس (2).
13 - الربيع بن نافع الحلبي - رحمه الله-: قال: معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, فإذا كشف الرجل الستر, اجترأ على ماوراء (3).
14 - قال ابن أبي العز الحنفي: وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين (4).
15 - القاضي بن العربي المالكي: رحمه الله: تحدث ابن العربيِّ عن الخصال التي اجتمعت في معاوية رضي الله عنه, فذكر منها: ... قيامه بحماية البيضة, وسدِّ الثغور, وإصلاح الجند, والظهور على العدوِّ, وسياسة الخلق (5) , وقال في موضع آخر من كتابه العواصم من القواصم: فعمر ولاه, وجمع له الشَّامات كلّها, وأقرَّه عثمان, بل إنَّما ولاه أبو بكر الصَّديق, لأنَّه ولي أخاه يزيد, واستخلفه يزيد, فأقرّه عمر, فتعلَّق عثمان بعمر وأقرَّه فانظر إلى هذه السِّلسلة ما أوثق عُراها (6). وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكتبه ... , ثمَّ صالحه وأقرَّ له بالخلافة الحسن بن عليِّ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم (7).
16 - يقول ابن تيمية - رحمه الله -: واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك, كان ملكه ملكا
_________
(1) المصدر نفسه (11/ 450).
(2) الخلاَّل: السنه (2/ 434) اسناده صحيح.
(3) البداية والنهاية (11/ 450).
(4) شرح العقيدة الطحاوية ص 722.
(5) العواصم من القواصم ص 210, 211.
(6) المصدر نفسه ص 82.
(7) عثمان بن عفان للصَّلاَّبي ص 300, المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 216).(1/201)
ورحمة (1) وقال: فلم يكن من ملوك المسلمين خيراً منهم في زمان معاوية (2) إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل, وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز فقال: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه, قال لا والله في عدله.
17 - وقال الذهبي - رحمه الله -: أمير المؤمنين, ملك الإسلام (3) وقال ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهَنَات, والله يعفو عنه (4) وحسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم - هو ثغر- فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه ... فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه وسعة نفسه وقوة دهائه ورأيه (5).
18 - وقال ابن كثير رحمه الله -: وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه السنة التي كانت فيها وفاته, والجهاد في بلاد العدو قائم, وكلمة الله عاليه, والغنائم تَرِد إليه
من أطراف الأرض, والمسلمون معه في راحة وعدل, وصفح وعفو (6) وقال: كان حليماً وقوراً, رئيساً, سيداً في الناس, كريماً, عادلا, شهماً (7). وقال عنه أيضاً: كان جيد السيرة, حسن التجاوز جميل العفو, كثير الستر رحمه الله تعالى (8).
19 - قال ابن خلدون رحمه الله: وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة .... والحق إن معاوية في عداد الخلفاء وإنَّما أَخَّره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين:
الأول: إن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدّمناه من العصبية التي حدثت لعصره, وأما قبل ذلك فكانت اختياراً واجتماعاً, فيمَّيزوا بين الحالتين. فكان معاوية أوّل خلفاء المغالبة والعصبَّية الذين يعبرّ عنهم أهل الأهواء بالملوك, ويشبِّهون بعضهم ببعض, وحاش لله أن يشبَّه معاوية بأحد ممَّن بعده. فهو من الخلفاء الراشدين ومن
_________
(1) الفتاوى (4/ 478).
(2) منهاج السنة (6/ 232) (3/ 185).
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 120).
(4) المصدر نفسه (3/ 159).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 132 - 133).
(6) البداية والنهاية (11/ 400).
(7) البداية والنهاية (11/ 397).
(8) المصدر نفسه (11/ 419)(1/202)
كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانيَّة ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس, ولا يقال: إن الملك أدون رتبة من الخلافة, فكيف يكون خليفة ملكاً, واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتّية المعبَّر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها, وأما الملك الذي هو الغلبه والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوَّة, فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيَّين ومَلِكيْن كانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربِّهما عز وجل. ومعاوية لم يطالب ولا أبَّهته للاستكثار في الدنيا, وإنما ساقه أمر العصبية بطابعها لمّا استولى المسلمون على الدولة كلّها, وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستفحل العصبية وتدعو لطبيعة الملك وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده, إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استفحال أحكامه ودواعيه والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار, لا بالواهي, فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين, ومن خرجت أفعاله من ذلك فهو من ملوك الدنيا, وإن سميّ خليفة بالمجاز.
الأمر الثاني: في ذكر معاوية مع خلفاء بني أميه دون الخلفاء الأربعه إنهم كانوا أهل نسب واحد, وعظيمهم معاوية فجعل مع أهل نسبه والخلفاء الأولون مختلفون الأنساب, فجعلوا في نمط واحد, وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريباً في الفضل (1). وكلام بن خلدون ليس على اطلاقه وفيه نوع من المبالغة
فهذه بعض أقوال علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن تلاهم على الثناء على معاوية رضي الله عنه ملوك المسلمين ومن خيارهم الذين غلب عدلهم وظلمهم وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه, وهو على دين كما قال عن نفسه: يقبل الله فيه العمل ويجزي فيه بالحسنات, ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء, ولقد تعّرض معاوية رضي الله عنه ودولته ودولة بني أميه عموماً لسهام بعض الكتاّب, وزعم بعضهم أنها دولة مدينه, وقال بعضهم: أنها كانت دولة عربية ولم تكن دولة إسلامية؛ بل قال بعضهم: إنها دولة علمانية لاصلة لها بالدين, ولا
_________
(1) تاريخ ابن خلدون ص 528 , 529.(1/203)
بالأخلاق, وهذه فرية تكذبها حقائق الدين وشواهد التاريخ, أما حقائق الدين, فقد بدأت دولة بني أمية 40 هـ من الهجرة, واستمرت إلى سنة 132 هـ. فقد شملت القرون الثلاثة التي هي خير قرون الأمة: قرن الصحابة, وقرن التابعبن, وقرن أتباع التابعين (1) وهي التي جاءت بها الأحاديث الصحاح المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل حديث ابن مسعود؛ خير القرون قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم (2) , ومثله حديث عمران بن حصين: خيركم قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم قال عمران: لا أدري: أذكر النبي بعد قرنين أو ثلاثة (3)
وكذلك حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: قال يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم, فيفتح. ثم يأتي زمان, فيقال: فيكم من صحب من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم فيفتح (4).
ومعنى قول "قرْني" أي أهل عصري. وهم الصحابة ثم قرن التابعين, ثم قرن الأتباع, وبعض الشرّاح حددوا القرن بزمن, فقال بعضهم: القرن أربعون سنة, وبعضهم قال: ثمانون سنة. وبعضهم جعله مائة سنة, وهو الذي اشتهر في الاستعمال الآن, وأمسى حقيقة عرفية. وتكون القرون المفضلة والموصوفة بالخيريه على هذا: ثلاثمائة سنة. وهذا غير منسجم مع منطق الواقع التاريخي, فالراجح تفسيره بِما ذكرنا, من عصر الصحابة, وعصر التابعين, وعصر الأتباع (5) ومن الأحاديث الصحيحة التي يستدل بها على منزلة الدولة الأموية من الإسلام. مارواه البخاري في صحيحه عن خالد بن مهران: أن عمير بن الأسود العنْسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت, وهو نازل في ساحة حمص, وهو في بناء له, ومعه أم حَرام (زوجه) قال عمر: حدثتنا أم حرام: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. (أى فعلوا فعلا وجبت لهم به الجنة) قالت أم حرام قلت: يا رسول الله,
أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول
_________
(1) تاريخنا المفترى عليه, يوسف القرضاوي ص 62.
(2) متفق عليه, اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان رقم 1645.
(3) المصدر نفسه رقم 1646 ..
(4) المصدر نفسه رقم 1647.
(5) تاريخنا المفترى عليه. يوسف القرضاوي ص 63.(1/204)
جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر: مغفور لهم: فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا (1) , ومدينة قيصر هي القسطنطينية, عاصمة الدولة البيزنطينية (2).
قال الشراح: في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر, وذلك في خلافه عثمان مازال معاوية يغريه بالغزو في البحر, حتى استجاب له, وبدأ الأسطول الإسلامي منذ عهد عثمان, ثم اتسع وازداد في عهد معاوية (3) , وفي هذه الغزوة مات أبو أيوب الأنصاري وكان في هذا الجيش رضي الله عنه, فأوصى أن يدفن عند باب القسطنطينية, والذي يهمنا هو أن هذا الجيش المغفور له بالجملة, كان في عهد بني أمية. إذ كانت هذه الغزوة سنه اثنين وخمسين من الهجرة النبويه , أى في عهد معاوية ومن نظر في سيرة معاوية بعد أن آلت إليه الخلافة, وبعد تنازل الحسن السبط رضي الله عنه له, وتأمل هذه السيرة بإنصاف: وجد الرجل حريصاً على إقامة الإسلام في شعائره وشرائعه, وعلى اتباع السنة النبوية في مجالات الحياة المختلفة.
_________
(1) البخاري رقم2924.
(2) تاريخنا المفترى عليه, يوسف القرضاوي ص 63.
(3) المصدر نفسه ص 63.(1/205)
المبحث الثاني: العلاقة بين الأمة ومعاوية كرئيس الدولة الإسلامية:
للخليفة كما للأمة حقوق, كما أن على كل منها واجبات مطالب بها محاسب عليها وإليك شيء من الإيضاح:
أولا: واجبات الخليفة:
بين الفقهاء الواجبات الملقاة على عاتق رئس الدولة, وحدودها التحديد الذي يوضح مدى ما هو موكول إليه من المهام ومهما اختلفت أساليب العلماء في التعبير عن هذه الواجبات وتعدادها, فإنه يمكن القول بأن هذه الواجبات في حقيقتها لاتتعدى المحافطة التامة على المصالح الدينية والدنيوية وإليك هذه الواجبات:
1 - العمل بشتى الوسائل على أن يكون الدين مصون عن كل ما يسيء إليه, سواء في هذا ما يتعلق بالعقيدة الإسلاميه, أو ما يتعلق بغيرها, وهذا الواجب ما عبر عنه الماوردي قائلا: حفظ الدين على أصوله المستقرة, وما أجمع عليه سلف الأمة فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة, وبين له الصواب, وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود, ليكن الدين محروساً من خلل والأمة ممنوعة من زلل (1).
2 - نصب القضاة ليحكموا بين الناس بشريعة الله, حتى لا يكون هناك معتدٍ لا يخاف جزاء, ولا مظلوم لا يستطيع وصولا إلى حق كفله الشارع له (2) , وسوف نتعرف على مؤسسة القضاء في عهد الدولة الأموية في هذا الكتاب.
3 - توفير الأمن لكل آحاد الأمة, حتى يستطيع كل فرد أن ينصرف إلى سبيل عيشه آمناً على نفسه وأهله وماله.
4 - إقامة الحدود التي بينها الله سبحانه على مقترفي كل جريمة تستأهل حداً, لا يفرق في ذلك بين شريف وحقير حتى تصان محارم الله من الانتهاك, وتحفظ حقوق عباده عن إتلاف واستهلاك كما هو تعبير الماوردي (3).
_________
(1) الأحكام السلطانية ص 15.
(2) رئاسة الدولة في الفقه الإسلامي ص 356.
(3) الأحكام السلطانية ص 16, رئاسة الدولة في الفقه الإسلامي ص 357.(1/206)
5 - إحاطة ثغور البلاد بسياج منيع من القوة, حتى لا يجد أعداء الإسلام ثغرة يتسللون منها إلى ضرب الأمة على حين غفلة, فيجب على رئيس الدولة أن يعمل على استكمال كل الوسائل التي تكلف الأمة الحماية التامة من شرور الأعداء.
6 - جهاد أعداء الإسلام الذين عاندوا دعوتهم إليه, حتى يدخلوا في الإسلام أو يدخوا في الذمة.
7 - جباية الأموال المستحقة, سواء أكانت هذه الأموال صدقات أم فيئاً وإخضاع ذلك إلى القواعد التي أوجبها الشارع نصاً واجتهاداً من غير زيادة أو نقصان في الجباية, إذ أن الزيادة تقضي إلى خسران من تجب عليهم الزكوات, والنقصان مفضٍ إلى تضييق مجال الصرف على الفقراء والمساكين والعاملين ونحوهم.
8 - تقدير الحقوق والرواتب المستحقة في بيت مال المسلمين, كالإعانات الاجتماعية للأسر المحتاجة, ورواتب الجند والموظفين, والعمل على إرساء قواعد تكون ضابطة لكل ما يتصل بهذا الواجب.
9 - اختيار الأكفاء الذين يثق في مقدرتهم ودينهم وصلاحهم للمناصب القيادية التي توكل إليهم, حتى يسير دولاب الأعمال بيد الأمناء الذين يخافون الله ولا يثبتون على حقوق الناس.
10 - الإشراف بنفسه على ما هو متصل بما يجب عليه نحو الأمة, ولا يترك الأمور تسير بدون إشراف مباشر منه, إذ إن كل تقصير من أي من عماله الذين وكل إليهم بعض الأمور, منسوب إليه متحمل خطئه, محاسب عليه أمام الله إن قصر في المتابعة, فإن الإمام راعٍ وهو مسؤل عن رعيته كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11 - الشورى, لأنها من سمات الحكم الإسلامي (1).
وسوف نرى بإذن الله تعالى كيف تعامل معاوية رضي الله عنه والخلفاء الأمويين من بعده مع هذه الواجبات, ولا نريد أن نستعجل الأحداث, وسنقف مع كل واجب من هذه الواجبات في موقفه ونرى قرب الخلفاء الأمويين وبعدهم من تطبيق هذه الواجبات.
_________
(1) رياسة الدولة في الفقه الإسلامي ص358.(1/207)
ثانياً: حقوق الخليفة
إن الخليفة له حقوقاً على الأمة من شأنها أن تعينه على القيام بما هو موكول إليه من المهام وقدبين علماء الإسلام هذه الحقوق وإهمها:
1 - طاعته والانقياد له في كل ما أمر به ونهى عنه ما دامت هذه الأوامر والنواهي في المعروف ولم تتعارض مع الأحكام التي بينتها شريعة الإسلام, فما دام الخليفة أو رئيس الدولة قد التزم في أوامره ونواهيه جانب الشرع فلم يحد في ذلك عن الحدود التي رسمتها. له الشريعة, فله حق ولاء المواطنين جميعاً, سواء في ذلك أهل الحل والعقد الذين بايعوه رئيساً للأمه, وسائر المواطنين الذين يلزمهم الانقياد له بمجرد تمام هذه البيعة.
2 - القيام بنصرتة إذا احتاج الأمر إلى ذلك, فما دام يسير في حكمه على طريق الحق فقد وجب على سائر الأمة نصرته على البغاة وكل من رفع عليه السلاح, ... لأن نصرة الإمام الحق في الواقع ما هي إلا نصرة للمسلمين وتأييد له في العمل على أن يكون الدين قائماً وكف للمعتدين عن كل ما يمكن أن يصدر عنهم من جرائم.
3 - جعل راتب له مع مخصصات له, تكفيه ومن يعوله, فإن رئيس الدولة سيشغل نفسه بواجبات الرياسة التي ستستحوذ على وقته, مما لا يترك له فرصة السعي في اكتساب رزقه, فيجب أن يجعل له راتب يغنيه ويليق بهذا المنصب بحيث لا يكون فيه تقتير ولا إسراف لأن رواتب الولاة والقضاة من أموال المسلمين التي يحتاط في وجوه صرفها.
4 - إخباره بأحوال من ولاهم المناصب العامة كالولاة والقضاة إذا انحرفوا عن الطريق الذين كلفوا بسلوكه, وذلك لأن الإمام مكلف شرعاً بمتابعة أعمال هؤلاء لإصلاح ما اعوج من أفعالهم وتنبيههم إلى ما غفلوا عنه من وجوه المصلحة, وهو محاسب أمام الله على ما ارتكبه هؤلاء من أخطاء في حق الله, والأمة إذا هو قصر في منع ذلك, ولا طاقة له على متابعة أعمالهم ومراقبة سيرهم إلا إذا عاونته الأمة في ذلك.(1/208)
5 - تقديم جميع المساعدات إليه إن احتاج إلى ذلك في أداء ماتحمله من أعباء مصالح
الأمه لقوله تعالى:"وتعاونوا على البر والتقوى" وولاة الأمور أحق من أعين على ذلك (1). والأمه في عمومها لم تبخل على أمير المؤمنين معاوية بحقوقه وعلى الخلفاء الذين جاءوا من بعده ولم يخل الأمر من ثورات ضد الخلفاء سنبينها في موضعها بإذن الله تعالى.
ثالثاً: عاصمة الدولة الأموية وأحاديث الرسول في فضائل الشام:
كانت الشام إحدى الولايات الهامة في الامبراطرية الرومانية الشرقية "البيزنطية", بل كانت لقربها من بيت المقدس, وتاريخها القديم, إحدى المراكز الحضارية في هذه الامبراطورية, وكان العرب قبل الإسلام ينظرون إليها نظرة كبيرة, لما تحتويه من حضارة, فضلاً عما بها من خيرات وخضرة وأسواق, وتعتبر مدينة دمشق المدينة الأولى في بلاد الشام, فهي قاعدتها ومدينتها العظمى, ولعبت دوراً كبيراً في تاريخ المنطقة, لذلك اتخذها الحاكم الروماني قاعدة حكمه, ولما دخل الإسلام الشام ودمشق خاصة, حافظ عليها, واحتفظ الولاة لها بميزاتها وظل معاوية الوالي يعتني بها طوال فترة ولايته عليها, وأقام علاقات وطيدة مع سكانها (2) , وعرف أهمية القبائل اليمنية في دمشق والشام, فتزوج من إحداها وهي بني كلب وأنجب من زوجته الكلبية ابنه يزيد, فضمن ولاءهم له ولأبنائه من بعده, لأن الخؤولة من أبرز ما تتحزب له القبائل العربية, هذا فضلا عن أن التصاهر عند العرب بمثابة التحالف السياسي (3) , وقد كان معاوية ذكيا في اعتماده على القبائل اليمنية بدمشق والشام (4) , ولما قامت الدولة الأموية, رأى معاوية أن الدولة الإسلامية توسعت وامتدت شرقاً وغرباً فلم يجد أفضل من دمشق عاصمة للخلافة الأمويه وذلك لأنها تقع بين جزئي العالم الإسلامي؛ الجزء الشرقي الذي يشمل العراق وفارس, والجزء الغربي الذي يشمل مصر والمغرب, فضلا عن أن القبائل التي ارتبطت به أيدته ودعمت موقفه وصارت يده الطولى في تدعيم حكمه, أي
_________
(1) رياسة الدولة في الفقه الإسلامي ص 370 إلى 374.
(2) رجال الإدارة في الدولة الإسلامية العربية ص 135 , 136.
(3) الدولة الإسلامية في العصر العباسي ص 42.
(4) المصدر نفسه ص 42.(1/209)
أنها كانت القوة العسكرية والسياسية التي استند عليها الحكم والدولة الأموية, كما قدم له سكان البلد ما يمكن أن يقدموه من خبرة وعمل إدراي (1)
, فقد وجد معاوية في دمشق تقاليد عريقة في الحكم والادارة, كما وجد جهازاً إدارياً متمرساً ساعده على تأسيس مهمته في فترة التأسيس هذه التي لا تحتاج الارادة الطيبة, فحسب, بل الخبرة والمران اللذين وفرهما له جهاز الموظفين الذين كانوا يعملون في ظل الادارة البيزنطية في الميدانين الإداري والمالي, كما أنه لابد لنا أن
نلاحظ حظ الشام من الحضارة كان أوفر من حظ الأمصار الأخرى, فالقبائل العربية التي هاجرت إليها واستقرت فيها قبل الفتح كانت قد اعتادت فكرة الحكم المركزي وفكرة الدولة عموماً, على عكس عرب العراق مثلاً الذين لم يتقبلوا هذه الفكرة بسهولة, وينطبق هذا على من سكن العراق منهم قبل الفتح وبعده, فالذين سكنوا العراق قبل الفتح كانوا في خصومة وصراع دائمين مع الحكم الفارسي (2) , وسكان بلاد الشام كانوا قد اعتادوا الخضوع والتعايش مع البيزنطيين, كما أن العرب الذين هاجروا إلى الشام بعد الفتح لم يعيشوا في معسكرات مستقلة, كما كانت الحال في العراق (البصرة والكوفة) , بل عاشوا جنباً إلى جنب مع السكان المحليين والقبائل التي كانت تقطن الشام قبلاً, وقد ساعد هذا الاختلاط على كسر حدة التمرد القبلي (3) وقد ساعد على تحقيق انتصارت معاوية في الخارج الجيش الشامي الذي جمعه ونظمه ودربه منذ أن كان والياً, والذي أغدق عليه العطاء, ولم يبخل عليه بكل مايوفر له سبل الرضا والاخلاص بعد أن غدا خليفة وتعددت لقاءاته في البر والبحر مع الامبراطورية البيزنطية, وقد ساعدت هذه اللقاءات المستمرة على اعطاء جيش الشام فرصاً كثيره للتدريب العملي وقدمت له الخبرة اللا زمة (4)
, كما كان لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرها في هجرت الناس للشام, واعتزاز أهلها بالإسلام وحرصهم على زعامة العالم الإسلامي, فالنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى آخر الدهر, وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر,
_________
(1) رجال الإدارة في الدولة الإسلامية العربية ص 136 ..
(2) تاريخ خلافة بني أمية, نبيه عاقل ص 62.
(3) المصدر نفسه ص 62, الجذور التاريخية للأسرة الأموية د. احسان صدقي العمد ص 94.
(4) رجال الادارة في الدولة الإسلامية العربية ص 136 ..(1/210)
فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة (1)، وقد كان معاوية يحتج لأهل الشام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله, لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم, حتى تقوم الساعة (2) ,فقام ملك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذاً يقول: وهم بالشام, فقال معاوية: وهذا مالك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذا يقول: وهم (3) بالشام ومارواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لايزال أهل الغرب ظاهرين (4) , قال الإمام أحمد: وأهل الغرب هم أهل الشام (5). وذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيماً بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه, وما يشرق عنها فهو شرقه (6) ... فقد أخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها ... وكان أهل المدينة يسومون أهل الشام, أهل المغرب, ويقولون عن الأوزاعي: إنه إمام أهل المغرب (7) , فإذا دلت النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف, ولا خذلان الخاذل هي بالشام, فهذا لا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: تقتل عماراً الفئة الباغية (8) , وقوله في الخوارج صلى الله عليه وسلم: تقتلهم أولى الطائفتين بالحق (9)
, ولا ريب أن هذه النصوص لابد من الجمع بينها, فيقال, أما قول صلى الله عليه وسلم: لا يزال أهل الغرب ظاهرين (10). ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم, فهذا وقع وهذا هو الأمر فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين (11) , وأما قوله: عليه السلام: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله (12) , والذي هو ظاهر, فلا يقتضي ألا يكون فيهم من فيه بغي ومن غيره أولى بالحق منهم, بل فيهم هذا وهذا (13) وأما قوله: تقتلهم أولى الطائفتين بالحق فهذا دليل على أن علياً ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى, وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحاً في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائماً بأمر الله, وأن يكون ظاهراً بالقيام بأمر الله عن طاعة الله ورسوله, وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه
_________
(1) الفتاوى (4/ 275).
(2) البخاري رقم 7311 مسلم رقم 1920 , 1921.
(3) الفتاوى (4/ 273) مالك بن يخامر ذكره ابن حيان في الثقات تهذيب التهذيب (1/ 25,23).
(4) مسلم في الإمارة.
(5) الفتاوى (4/ 273).
(6) المصدر نفسه (4/ 273).
(7) المصدر نفسه (4/ 273).
(8) البخاري رقم 447.
(9) مسلم في الزكاة ..
(10) مسلم في الإمارة.
(11) الفتاوى (4/ 274).
(12) البخاري رقم 7311.
(13) الفتاوى (4/ 274).(1/211)
وأما كون بعضهم باغياً في بعض الأوقات, مع كون بغيه خطأ مغفوراً له, أو ذنباً مغفوراً, فهذا -أيضاً- لا يمنع ما شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم, ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال (1) , وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق, حتى قدم الشام غير مرة وامتنع من الذهاب إلى العراق, واستشار فأشار عليه أنه لا يذهب إليها, وكذلك حين وفاته لما طغى أدخل عليه أهل المدينة أولا وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة, ثم أدخل عليه أهل الشام, ثم أدخل عليه أهل العراق, وكانوا آخر من دخل عليه (2) وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال: لَكَفرْ الشام أحب إلى من فتح مدينة العراق (3)
, والنصوص التي في كتاب الله وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام, وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق, أكثر من أن تذكر هنا, بل عن النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص الصحيحه في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ماليس
هذا موضعه, وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين علي, وذلك كان أمراً عارضاً ولهذا لما -مات- علي رضي الله عنه أظهر منهم من الفتن, والنفاق, والردة, والبدع, مايعلم به أن أولئك كان أرجح (4). وكذلك - أيضاً - لاريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام, كما كان علي وابن مسعود, وعمار وحذيفة ونحوهم, أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة, لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر راجح وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن علياً رضي الله عنه كان أولى بالحق ممن فارقه, ومع أن عماراً قتلته الفئه الباغية - كما جاءت به النصوص - فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله, ونقر بالحق كله, ولا يكون لنا هوى, ولانتكلم بغير علم, بل نسلك سبل العلم والعدل, وذلك هو اتباع الكتاب والسنة, فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض, فهذا منشأ الفرقة والإختلاف (5).
_________
(1) الفتاوى (4/ 274).
(2) المصدر نفسه (4/ 275).
(3) المصدر نفسه (4/ 275) ..
(4) المصدر نفسه (4/ 275).
(5) المصدر نفسه (4/ 275).(1/212)
رابعاً: أهل الحل والعقد في عهد معاوية رضي الله عنه:
كان المجتمع الإسلامي في عصر الراشدين يتطور تطوراً سريعاً وخطيراً بشكل يهدد المحافظة على السمات الأساسية لحكمهم والتي تظهر في ذلك الحب والانسجام والحرص المتبادل بين الخليفة والرعية وخوف الله في معاملة بعضهم للبعض، وقد تمثل ذلك التطور في تقلص دور أهل الحل والعقد المقيمين في المدينة بوفاة معظمهم أو بتفرقهم في الأمصار، وباكتساب تلك الأمصار مكانة ضخمة تفوق مكانة الحجاز مقر الخلافة نتيجة نمو دور القبائل العربية التي أسلمت متأخراً ولكنها حملت على أكتافها عبء الفتوحات الإسلامية الكبرى، التي أدت إلى إثراء المجتمع الإسلامي بصورة لم يعرفها من قبل، تغيرت معها بعض النفوس والأخلاق (1)، وبدأت تدريجياً تتغير بعض المفاهيم، كمفهوم أهل الحل والعقد، فلم يعودوا هم أهل بدر، أو جماعة السابقين إلى الإسلام في المدينة، التي تقلصت أعدادها بمضي الزمن، وبرز إلى ساحة التأثير والفاعلية زعماء الأمصار، وزعماء الشام من بينهم، فحين نحتكم إلى أحداث التاريخ نجدها تؤكد قدرة أهل الأمصار آنذاك على الحسم السياسي، وعجز أهل المدينة عن ذلك ثم تؤكد بعد ذلك تميز أهل الشام بقدر هائل من الطاعة والتوحد الإجتماعي والتعود على الخضوع لنظم الدولة،، وأساليب الإدارة وأنماط الحضارة، وقد مكنتها هذه المؤهلات من فرض اختيارها على العراق وسائر الأمصار الإسلامية حتى بايعت معاوية، ثم استطاعت الاحتفاظ بهذه القدرات أكثر من تسعين عاماً هي عمر الدولة الأموية .. مما يؤكد أن قادتها أصبحوا هم بحكم الواقع السياسي جل أهل الحل والعقد في المجتمع
الإسلامي والقادرين على اختيار الخليفة، وإقناع بقية الأمصار بذلك الاختيار ـ إن سلماً أو عنفاً ـ في ذلك المجتمع الذي أصبحت تحكمه عصبيات مختلفة الرغبات والأهواء والمطامع (2).
1 ـ رأي الفقهاء في معنى أهل الحل والعقد:
وحين نحتكم إلى أقوال علمائنا في معنى أهل الحل والعقد نجدهم يختلفون إلى عدة أقوال (3)، ويذكرون مصطلحات متعددة منها:
_________
(1) الدولة والمجتمع في العصر الأموي صـ 127.
(2) المصدر نفسه صـ 128.
(3) المصدر نفسه صـ 128.(1/213)
أـ أولو الأمر: وهو مصطلح شرعي جاء بنص القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: ((ي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)) (النساء، آية: 59) وقد اختلف في المراد بهم على أقوال من اشهرها:
ـ أنهم الأمراء، ورجحه الإمام الطبري (1)، وقال النووي: هو قول جمهور السلف والخلف (2).
ـ أنهم العلماء وبه قال بعض السلف منهم: جابر بن عبد الله والحسن البصري، والنخعي وغيرهم.
ـ أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ـ أنهم أبو بكر وعمر.
ـ أنها عامة في كل أولى الأمر والعلماء، ومال إليه الإمام ابن كثير (3)، وابن القيم (4)، والشوكاني (5) وغيرهم.
ـ أنهم العلماء والأمراء والزعماء وكل من كان متبوعاً وهو رأي ابن تيمية (6)، ومحمد عبده (7)، وقال: إنهم هم أهل الحل والعقد (8)، ولعل القولين الخامس والسادس هما الأقرب إلى الصواب، وليس بينهما فرق كبير (9).
ب ـ العلماء: والمراد بهم علماء الشريعة: وهو لفظ قراني: قال سبحانه ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) (فاطر، الآية: 28) وربما جاء بلفظ ((وَأُولُو الْعِلْمِ)) كما في قوله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)) آل عمران، الآية: 18). وفي السنة النبوية جاء هذا المصطلح في أحاديث لا تكاد تحصر ومن ذلك الحديث المشهور: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن بموت العلماء (10).
_________
(1) تفسير الطبري (8/ 502) تحقيق محمود شاكر.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 223).
(3) تفسير ابن كثير (1/ 530).
(4) الرسالة التبوكية صـ 41.
(5) فتح القدير للشوكاني (1/ 481).
(6) الحسبة صـ 185.
(7) تفسير المنار (5/ 181).
(8) أهل العقد والحل، عبد الله الطريقي صـ 12.
(9) أهل العقد والحل، عبد الله الطريقي صـ 12.
(10) مسلم رقم 13.(1/214)
ت ـ أهل الاختيار: وهم الذين يوكل إليهم اختيار الإمام ومبايعته، وهم أهل الحل والعقد (1)، وهو مصطلح اجتهادي اصطلح عليه بعض أهل العلم (2).
س ـ أهل الاجتهاد وهم: العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ويكونون مؤهلين للأعمال المهمة: كالإمامة الكبرى، والقضاء، والفتوى ونحو ذلك، وممن أطلق هذا المصطلح: البغدادي (3)، والقرطبي (4).
ر ـ أهل الشورى وهم: الذين يستشارون في أمر المسلمين وفق الآية الكريمة، ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)) (آل عمران، الآية: 159) وقوله: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى، الآية: 38).
ك ـ أهل الشوكة وهم: أصحاب القدرة والسلطان، لتوافر القدرة والبأس لديهم، وممن استعمل هذا المصطلح ابن تيمية (5).
ل ـ أهل الرأي والتدبير وهم: من يتسمون بالعقل والفكر الناضج مع القدرة على تصريف الأمور وتسييرها وممن استعمل هذا المصطلح ابن عابدين (6).
فأهل الحل والعقد هم الذين لهم القدرة على عقد نظام جماعة المسلمين في شؤونهم العامة، والسياسية، والإدارية، والتشريعية، والقضائية، ونحوها ثم حل هذا النظام لأسباب معينة ليعاد ترتيب هذا النظام وعقده من جديد (7)
والذي تحقق في عهد معاوية رضي الله عنه أن أهل الحل والعقد في دولته كانوا هم الولاة، وزعماء القبائل، وقادة الجيوش ونحوهم، وتركزت الشوكة والقوة الفعلية في أهل الشام، حيث كانوا قادرين على الاختيار وتحقيق إرادتهم، وإمضاء رغبتهم على مخالفيهم، وهذا ما تحقق في
ذلك الظرف التاريخي في أهل الشام وإذا أردنا أن نكون أكثر إنصافاً، قلنا إنه كان يجب أن تتسع دائرة أهل الحل والعقد هذه لتشمل بجانب زعماء الشام بقية زعماء الأمصار الإسلامية في العراق والحجاز، ومصر وغيرهم، وأن تضم بجوار أصحاب العصبيات القوية، أصحاب الرأي من
_________
(1) الموسوعة الفقهية، إصدار وزارة الأوقاف بالكويت (7/ 115).
(2) أهل الحل والعقد، عبد الله الطريقي: صـ13 وهذا الكتاب فريد في بابه.
(3) أهل الحل والعقد صـ13 أصول الدين 279.
(4) تفسير القرطبي (1/ 265).
(5) منهاج السنة (1/ 550).
(6) حاشية ابن عابدين (4/ 263).
(7) أهل الحل والعقد صـ15.(1/215)
علماء الأمة وأهل الديانة فيهم، وأن يؤكل إلى هذه الطائفة منهم اختيارالخليفة أو عزله، علاوة على الفصل في المسائل المهمة في حياة الأمة .. ولو حدث ذلك في مسيرة الدولة الأموية لتجنبت الأمة كثيراً من الاختلاف وإراقة الدماء .. ولكن الذي حدث فعلاً هو انفراد أهل الشام باختيار الخلفاء في العصر الأموي من الأسرة الأموية ذاتها، وكانت بداية ذلك هي البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد من أبيه، وبعد خطوب شتى أصبح تسلسل الخلفاء من البيت الأموي أمراً واقعاً، رضيت بذلك بقية الأمصار أم عارضت (1). وسيأتي الحديث عن ولاية العهد في حينه بإذن الله تعالى.
خامساً: الشورى في عهد معاوية رضي الله عنه:
عندما آلت الخلافة إلى بني أمية، لم يكن معاوية بن أبي سفيان ممن يجهل فوائد الشورى ويهمل الأخذ بها، وما كان يصد في المهمات إلا عن مشورة، فقد كان يشاور ذوي الرأي من الولاة ووجوه الناس وأشراف القوم وأهل العلم وكان ذلك سنة من جاء بعده من الخلفاء من بني أمية، وكان من كبار مستشاري معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وكان يستشير الوفود التي كانت تأتيه (2)، وكان الناس يتكلمون بحرية فيعرضون آراءهم، ويهتم الخليفة بها كل الاهتمام، ويناقشهم فيها ويحقق ما يمكن تحقيقه منها والحكم يعتمد على مستشارين أكفاء وكتّاب قادرين، أطلقت يدهم في العمل، ومنحهم الخليفة ثقته، وشدّهم بسلطانه، والحكم لم يكن متمركزاً في شخص الخليفة، فمملكته واسعة ولا يستطيع أن يضطلع بكل أمر، وهو يرسل ولاته على الأقطار ويطلق لهم اليد في شؤونها، وهو لا يولي إلا من يثق به، ولا يعطي السلطان إلا لمن لا يخشاه (3)، وولاته يستشيرهم في حدود معينة. وأما أمر الخلافة فحصر في بني أمية، وأصبح أمرها خاصاً بالبيت الأموي، يفتي فيها بالمجامع الأموية خاصة من دون الناس، وكان الخلفاء من بني أمية يرجعون في شورى استخلاف السلطان ورد الطامعين به إلى الجماعة الأموية
_________
(1) الدولة والمجتمع في العصر الأموي صـ128.
(2) في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية صـ 55.
(3) الدولة الأموية، يوسف العش صـ139.(1/216)
غالباً (1). ومن هنا يمكن القول بوجود نوعين من الشورى في عهد بني أمية أولهما شورى تتعلق بالأمور والمصالح العامة، وكان الخلفاء من بني أمية يرجعون فيها إلى ذوي الرأي من أشراف
القوم والولاة وغيرهم وثانيها شورى تتعلق بالسلطان خاصة، وكان الخلفاء من بني أمية يفزعون فيها إلى آل بيتهم ويقضون فيها بينهم (2).
وقيادة معاوية للدولة لم تكن فردية خالصة، فاللامركزية في الحكم والإدارة في الأغلب، ومشاركة الرجال من أهل الرأي والخبرة في حمل المسئولية والقيام بأعباء الدولة في السلم والحرب وفي المركز والولايات، ووجود الإسلام في حياة الفرد والمجتمع والدولة سلوكاً ونظام حكم منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، تقلل من مظهر القيادة الفردية ومساوئها، وتعزز مظهر الشورى وغلبة الاتجاه العام الثابت في السياسة والقيادة والإدارة وتصريف الأمور ورعاية المصالح (3)، كما أن تحول الخلافة الراشدة إلى ملك وراثي لم يكن يعني تحولاً كاملاً عن شورى الراشدين أو ارتداداً عن أوامر الإسلام ومنهجه في الحكم، وقد كان لذلك ما يبرره من تطور إجتماعي وسياسي ولقد بقيت ـ في عهد معاوية ـ والعصر الأموي ـ كما يقرر ابن خلدون ـ: معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه، والجري على مذاهب الحق، ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر، الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا إسمها (4). وما ذهب إليه ابن خلدون ليس على إطلاقه ففي عهد الدوة العثمانية في زمن محمد الفاتح انتعشت بعض معاني ومقاصد الخلافة، من الفتوحات، والدعوة، وإعزاز الإسلام، والعدل، ولم يذم الشرع العصبية أو الملك لما كان القصد منها إقامة الدين، وإظهار الحق، وقد سأل سليمان عليه السلام ربه فقال: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)) (ص، الآية: 35)، لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك (5)،
وعلى ذلك فإن ((الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هو الجبروتية (6)، التي يقصد بها قهر الناس بغير حق،
_________
(1) في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية صـ56.
(2) في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية صـ 57.
(3) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ102.
(4) مقدمة ابن خلدون، نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها صـ275.
(5) مقدمة ابن خلدون، نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها صـ275 ..
(6) المصدر نفسه.(1/217)
ولم يكن ذلك شأن معاوية في خلافته، وقد استرعى انتباه بعض فقهائنا ومؤرخينا ذلك القرب الشديد بين مقاصد خلافة معاوية ومقاصد خلافة الراشدين، لذلك فقد رأى ابن تيمية: .. فهذا يقتضي أن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا، وأن ذلك لا ينافي العادل، وإن كانت الخلافة المحضة أفضل (1)، ولن نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن معاوية وبعض خلفاء بني أمية كان يود لو سار سيرة الراشدين كاملة، ولكنهم كانوا قادرين على ذلك في تفاعلهم مع
أحوال رعيتهم وظروف عصرهم، وإن ذلك الأفق العالي والمثل الرفيع الذي قدمه الخلفاء الراشدون للسياسة الإسلامية والإنسانية كان يعمل تأثيره الجذاب عند بعض الخلفاء والرعية على السواء، ولكنه كان أيضاً يستعلي على قدراتهم، فيجهدون أنفسهم لتحقيقه، ثم يعودون إلى جذبة الواقع مقرين بصعوبة المحاولة والتجربة (2)، ولقد سأل معاوية يوماً ولده وولي عهده يزيد كيف سيعمل بعد استخلافه؟ فقال: أعمل فيهم عمل عمر بن الخطاب، فتبسم معاوية وقال: والله لقد جهدت أن أعمل فيها عمل عثمان فلم أقدر، أتعمل أنت فيهم بعمل عمر بن الخطاب (3)؟،
ولا يعني ذلك أن العودة إلى صفا الحياة في عصر الخلفاء الراشدين أمر مستحيل، ولكن لا يأتي به الحاكم وحده وإن صلحت نيته، وعظمت عزيمته، بل لا بد من تحقيق ذلك القدر من التوافق والانسجام بين الراعي والرعية حيث يتعاون الجميع على تحقيق ذلك المجتمع الطيب، وطريق ذلك طويل وشاق ويحتاج إلى أجيال من الدعاة والحكام الذين يبذلون جهدهم لتربية الرعية على كمال الإيمان، ويعطون القدوة في ذلك والمثل، ويستفرغون في ذلك وذاك وقتهم وجهدهم (4)، وقد كان ابن تيمية يعبر عن هذه الحقيقة حين يرى أنه إن ساء الحكم في مجتمع ما كان ذلك لنقص في الراعي والرعية (5) معاً. إن الشورى في عهد معاوية والدولة الأموية تقلصت عمّا كانت عليه في عهد الخلافة الراشدة وبقيت في عهد معاوية بعض جوانبها ولم تتقدم كلياً كما يطرح البعض.
_________
(1) الفتاوي (35/ 18).
(2) الدولة الأموية المفترى عليه صـ276.
(3) البداية والنهاية نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها صـ 276 ..
(4) الدولة الأموية المفترى عليها صـ277.
(5) مجموع الفتاوي (35/ 20) الدولة الأموية المفترى عليها صـ277.(1/218)
سادساً: حرية التعبير في عهد معاوية رضي الله عنه: المعارضة السلمية كان معاوية رضي الله عنه يفرق بين المعارضة السلمية والمسلحة فهو يطلق حرية الكلام والتعبير عن الرأي ما دام ذلك في حدود التعبير عن الرأي، أما إذا انقلب الأمر إلى حمل السلاح وسلَّ السيوف، فإنه لا يجد مفراً من مواجهة هذه الثورات كما فعل مع الخوارج ـ وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى، فقد روي عن معاوية أنه قال: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا (1). وقال عامله على العراق زياد بن أبيه في خطبته لأهل البصرة: إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلَّ من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم
أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره (2)، ويقول عن أحد معارضيه: لو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ما هجته حتى يخرج علي (3) وإليك الكثير من المواقف التي تدل على حرية التعبير، وحق المعارضة السلمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمعاوية وكيف كان يستقبل تلك الانتقادات.
1 ـ أبو مسلم الخولاني: فقد كان رحمه الله من العلماء الربانيين وكان ممن لا يجامل ولا يدهن، فقد قام أمام معاوية فوعظه وقال: إياك أن تميل على قبيلة من العرب فيذهب حيفك بعدلك (4) وكان يذكر معاوية بمسئولياته تجاه رعيته ويحثه على أداء حقوقه، فقد دخل ذات يوم على معاوية فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول. قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها
_________
(1) ذكر الدكتور خالد الغيث في كتابه القيم مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ 281، 282: أن في إسناده هذه الرواية اجتمعت فيه علتان، الأولى: أن عبد الله بن صالح الجهني لم يدرك عبد الملك بن عمير، وذلك أن مولد عبد الله بن صالح كان بعد وفاة عبد الملك بن عمير بسنة، والعلة الثانية: تشيع هشام بن سعد، وكراهية الشيعة لبني أمية أمر معلوم، لذا لا يؤخذ منه في هذا المقام لأنه يروي ما يوافق هواه.
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها صـ 303.
(3) المصدر نفسه صـ 303.
(4) سير أعلام النبلاء (4/ 13) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ 274.(1/219)
غضب عليه صاحب الأجر. فقال معاوية: ماشاء الله (1)، فانظر كيف حث أبو مسلم الخولاني معاوية رضي الله عنه على الاهتمام بأمر الرعية وحذره من التهاون أو التفريط في إصلاح شؤونهم وذلك عن طريق ضرب المثل تقريباً للصورة وتشبيهاً للحال (2)، وهناك موقف عملي آخر لأبي مسلم الخولاني مع معاوية أيضاً، وذلك عندما صعد معاوية المنبر ـ وكان قد حبس العطاء ـ فقام أبو مسلم وقال له: لم حبست العطاء يا معاوية؟ إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك، ولا كد أمك حتى تحبس العطاء، فغضب معاوية غضباً شديداً، ونزل عن المنبر، وقال للناس مكانكم، وغاب عن أعينهم ساعة ثم عاد إليهم فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل (3)
وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم: إنه ليس من كدي ولا كد أبي، فهلموا إلى أعطياتكم (4).
2 ـ الفرزدق يهجو معاوية:
هجا الفرزدق معاوية وافتخر عليه بنسبه وآبائه وذلك لغرض شخصي، حيث أعطى معاوية عم الفرزدق الحتات بن يزيد المجاشعي، وكان ضمن (وفد أتي معاوية) جائزة أقل من الآخرين، ولما مات الحتات بن يزيد المجاشعي، في الطريق أخذ معاوية تلك الجائزة وردها إلى بيت المال، فقال الفرزدق يخاطب معاوية:
فلو كان هذا الأمر في جاهلية ... علمت من المرء قليل جلائبه
ولو كان هذا الأمر في غير ملككم ... لأبديته أو غص بالماء شاربه
وكم من أب لي يا معاوي لم يكن ... أبوك الذي من عبد شمس يقاربه
فما زاد معاوية على أن بعث إلى أهل الحتات بجائزته (5)
وقد ظفر معاوية بتقدير زعماء المسلمين من أبناء الصحابة رغم نقد بعضهم المرير له، وكان كثيراً ما يقول: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي،
_________
(1) فضيلة العادلين من الولاة للأصفهاني صـ306.
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ306.
(3) سنن أبي داود (4/ 249) ..
(4) مقامات العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء صـ 307 أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ 307.
(5) الدولة الأموية المفترى عليها صـ304 تاريخ الطبري (6/ 159).(1/220)
وجهل أكثر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحساني (1)، وكان أحياناً يتمثل بهذه الأبيات:
تعفو الملوك عن الجليل من الأمور بفضلها
ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها
إلا ليعرف فضلها ويخاف شدة نكلها (2)
3 ـ أم سنان بنت خيثمة في مجلس معاوية:
كانت أم سنان بنت خيثمة المذحجية من أنصار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وفي عهد معاوية قدمت على دمشق واستأذنت عليه فأذن لها، فانتسبت له فعرفها، وأمرها بالجلوس، فلما جلست قال لها: مرحباً يا ابنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تبغضين قومي، وتحضّين عليَّ عدوى؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنّ لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة، وأعلاماً ظاهرة، وأحلاماً وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، وإنَّ أولى النَّاس باتباع سنن آبائه لأنْتَ. قال معاوية ـ رضي الله عنه ـ صدقتِ يا أم سنان، نحن كذلك ثم سادت فترة صَمْتٍ، قطعها بسؤال لأمّ سنان يذكرها فيها بشعرها وتحريضها عليه، فقال لها: كيف قولك:
عَزبَ الرقاد فمقلتي ما ترقد ... والليل يُصدر بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مُقام فشمّروا ... إن العدوَ لا أحمد يقصد
هذا عليُّ كالهلال تحفُّهُ ... وسْطَ السماء من الكواكب أسعد
ما زال مُذْ شهد الحروب مظفراً ... والنّصرُ فوق لوائه ما يُفقد
وكانت أمّ سنان ـ رحمها الله ـ تصغي لما ينشده معاوية من شعرها، ولما انتهى قالت له: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وإنَّا لنطمع أن تكون لنا خلفاً بعده، فمثلك جدير بذلك وقبل أن يتكلم معاوية بكلمة، قال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين، وأنا أحفظ من شعرها خلاف ما تقول لك الآن فهي القائلة:
إما هلكت أبا الحُسين فلم تزل ... بالحق تُعرف هادياً مهديا
فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت ... فوق الغُصون حمامة قمريا
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها صـ304 تاريخ الطبري.
(2) تاريخ الطبري (6/ 253).(1/221)
فاليوم لا خلف يؤمّل بعده ... هيهات نمدح بعده إنْسِيا (1)
عندئذ قالت أمُّ سنان وعلائم الحزم والصِّدقِ ترتسم على وجهها وهي تعّرضُ بجلسائه: يا أمير المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقّق فيك، ما ظننّا فحظُّك الأوفر، والله ما ورّثك الشَّناءة ـ البغض ـ في قلوب المسلمين إلا هؤلاء ـ وأشارت إلى بعض جلسائه، فادحض مقالتهم، وابعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك ازدت من الله عز وجل قرباً ومن المسلمين حباً. وتعجب معاوية مما تقول، فقطع عليها مقالتها قائلاً: وإنّك لتقولين ذلك يا أم سنان؟
قالت: سبحان الله يا أمير المؤمنين، والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله عليُّ ـ رضي الله عنه ـ أحب إلينا منك إذ كان حياً، وأنت أحبّ إلينا من غيره إذ أنت باق. فسألها معاوية: وممن أنا أحب إليكم ما دمت باقياً؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أحبّ إلينا من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققت بذلك عليهما؟. قالت بحسن حلمك، وكرم عفوك (2). وبعد حديث انتهى الحوار، سألها: ما حاجتك الآن يا أم سنان؟ فسألته حاجتها في حفيدها بالمدينة أن يفك أسره، فلبى معاوية طلبها، وأكرمها ووصلها وردّها إلى المدينة، وقد قضيت حاجتها، وكان لسانها يلهج بالدعاء لمعاوية (3). هذه أمُّ سنان المذحجيّة، إحدى نساء عصر التابعين وممن فُطرت نفسها على الصَّفاء والصَّراحة، وأوتيت شطراً من البلاغة والحكمة ما جعلها في سجل
ناصع يحكي خلودها وخلود أمثالها (4) ولم تكن أم سنان المذحجية وحدها التي كانت تعبر عن رأيها، وتتكلَّم بوضوح عن معتقداتها، بل كانت مثيلاتها كثير مثل، الزرقاء بنت عدي (5)، وأم الخير بنت الحريش (6)، لقد كان معاوية رضي الله عنه، يجرّيء الناس على الصدع بمعتقداتهم وآرائهم، ويشجعهم على حرية الرأي والتعبير وحق النقد والمعارضة السلمية.
_________
(1) العقد الفريد (2/ 108)، نساء من عصر التابعين صـ 275، 278.
(2) العقد الفريد (2/ 108)، تاريخ دمشق نقلاً عن نساء من عصر التابعين، أحمد جمعة صـ278، شاعرات العرب صـ176، 177.
(3) نساء من عصر التابعين صـ280، شاعرات العرب صـ176، 177.
(4) نساء من عصر التابعين صـ280.
(5) المصدر نفسه صـ 296.
(6) المصدر نفسه صـ148.(1/222)
الفصل الثالث
السياسة الداخلية لمعاوية رضي الله عنه
انعقد إجماع الأمة الإسلامية على خلافة معاوية سنة 41 هـ فأخذ يعمل بكل ما أوتي من ذكاء وفطنة ودهاء على توطيد دعائم الأمن والاستقرار في ربوع العالم الإسلامي، فانتهج سياسة داخلية، تقوم على عدة أمور:
المبحث الأول: الإحسان إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة وأبنائهم وبخاصة بنو هاشم فقد خطب مرة في أهل الحجاز بعد توليه الخلافة فاعتذر عن عدم سلوكه طريقة الخلفاء الراشدين قبله، فقال: وأين مثل هؤلاء؟ ومن يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد من بعدهم؟ رحمة الله ورضوان الله عليهم، غير أني سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكم فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة: فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني بعضه .. وإياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة، وتورث الاستئصال، استغفر الله لي ولكم (1)، وبمثل هذه السيرة صار خليفة المسلمين وانقاد له أبناء المهاجرين والأنصار، وكل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة، كان رضي الله عنه، يهتم بغزو القلوب والإحسان إليها، مع الوعي والحذر الشديدين أن لا تنتقض الأمة عليه، لقد كان يبذل المال بلا حساب لكبار الشخصيات القيادية في المجتمع ويعتبر أن عليها مسؤوليات ضخمة تجاه رعاياها من أبناء الأمة، فلا بد أن تكون مليئة لسد الخلّة وتلبي الحاجة، وتحلّ المعضلة، ولعل أشراف بني هاشم كانوا في هذا الصدد أكثر قيادات الأمة إغداقاً عليهم بالمال، ولا بدع فهم لايزالون
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 432).(1/223)
في عرف الناس القيادات الشعبية التي تمثل جماهير الأمة، وتلجأ الأمة إليهم أكثر مما تلجأ إلى الولاة والأمراء، وهذه القيادات لم تشارك في الحكم ولم تكن لها رغبة في ذلك (1).
أولاً: العلاقة بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما بعد الصلح:
كان الحسن بن علي يقدم على معاوية في خلافته، فقدم عليه ذات مرة فقال له معاوية: لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك، فأعطاه أربع مائة ألف فقبلها (2)، وجاء في رواية: ... أن الحسن بن علي كان يفد كل سنة إلى معاوية فيصله بمائة ألف درهم، فقعد سنة عنه ولم يبعث إليه معاوية بشيء فدعا بدواة ليكتب إليه فأغفى قبل أن يكتب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأنه يقول: يا حسن أتكتب لمخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟ قال: فما أصنع يا رسول الله وقد كثر ديني؟ قال: قل اللهم إني أسألك من كل أمر ضعفت عنه قوتي وحيلتي ولم تنته إليه رغبتي، ولم يخطر ببالي ولم يبلغه أملي، ولم يجر على لساني من اليقين الذي أعطيته أحداً من المخلوقين الأولين والمهاجرين والآخرين إلا أخصصتني يا أرحم الراحمين. قال الحسن: فانتبهت وقد حفظت الدعاء، فكنت أدعو به فلم يلبث معاوية أن ذكرني فقيل له: لم يقدم السنة، فأمر له بمائتين ألف درهم (3). وجاء في رواية: بأن الدعاء الذي علمه رسول الله للحسن في المنام هو: اللهم أقذف في قلبي رجاك، واقطع رجائي عمّن سواك لا أرجو أحداً غيرك اللهم وما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه عملي ولم تنته إليه رغبتي، ولم تبلغه مسألتي ولم يجر على لساني مما أعطيت أحداً من الأولين والآخرين من اليقين فخصّني به يا رب العالمين قال: فوالله ما ألححت به أسبوعاً حتى بعث إليّ معاوية بألف ألف وخمس مائة ألف، فقلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، ولا يخيّب من دعاه، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت: بخير يا رسول الله وحدثته حديثي فقال: يا بُني هكذا من رجا الخالق ولم يرج المخلوق (4). وروى الزهري: ...
لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
_________
(1) معاوية بن أبي سفيان للغضبان صـ314.
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 269).
(3) تاريخ دمشق (14/ 8).
(4) المصدر نفسه (14/ 8).(1/224)
وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية فقال له معاوية: لو لم يكن لك فضل على يزيد إلا أن أمك إمرأة من قريش وأمه إمرأة من كلب لكان لك عليه فضل، فكيف وأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
ثانياً: صلات معاوية للحسن وابن الزبير رضي الله عنهم:
عن جعفر بن محمد عن أبيه أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يقبلان جوائز معاوية رضي الله عنه (2)، وكان يرسل للحسن والحسين، فقد أمر معاوية مرّة للحسن بن علي بمائة ألف فذهب بها إليه فقال لمن حوله: من أخذ شيئاً فهو له، وأمر للحسين بن علي بمائة ألف فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، وأمر لعبد الله بمائة ألف (3)، وكان
معاوية رضي الله عنه إذا لقي الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: مرحباً بابن رسول الله وأهلاً، ويأمر له بثلاثمائة ألف، ويلقي ابن الزبير رضي الله عنه فيقول: مرحباً بابن عمة رسول الله وابن حواريه، ويأمر له بمائة ألف (4)، وقد أشاد ابن الزبير بذكر معاوية بعد وفاته، فقد حدث هشام بن عروة بن الزبير قال: صلى يوماً عبد الله بن الزبير، فوجم بعد الصلاة ساعة، فقال الناس: لقد حدث نفسه ثم التفت إلينا فقال: لا يبعدن ابن هند: إن كانت فيه لمخارج لا نجدها في أحد بعده أبداً، والله إن كنا لنفرقه ـ أي نخوفه ـ وما الليث الحرب على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا وإنا كنا لنخدعه، وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخاع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا حجر ـ وأشار إلى أبي قبيس (5). وقول ابن الزبير هذا قاله عندما حصر في عهد عبد الملك بن مروان (6).
ثالثاً: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مع معاوية:
وكان معاوية يحترمه ويقدره وكان يفد على معاوية، فأكرمه وقرّبه واحترمه وعظّمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعاً، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحداً أحضر جواباً منه. ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون
_________
(1) الشريعة للآجري (5/ 2470) إسناده حسن.
(2) الشريعة صـ 2470 إسناده حسن.
(3) تاريخ دمشق (62/ 133).
(4) المصدر نفسه (62/ 133).
(5) عيون الأخبار (1/ 11، 12).
(6) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ115.(1/225)
ابن عباس عند معاوية فعزّاه فيه بأحسن تعزية، وردّ عليه ابن عباس ردّاً حسناً (1)، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس وعزّاه بعبارة فصيحة وجيزة شكره عليها ابن عباس (2)، أما تعزية معاوية رضي الله عنه وإجازته لابن عباس. فكما رواها قتادة: ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين. قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضاً وأشياء وقال: خذها فاقسمها في أهلك (3). وكان ابن عباس رضي الله عنه من سادات المجتمع الإسلامي وقائد من قاداتها الكبار وكان معاوية رضي الله عنه يعرف مكانته الاجتماعية والعلمية، فابن عباس كان بمثابة المستشار للشئون العلمية للخليفة، وقد كان معاوية رضي الله عنه يعترف بفضل بني هاشم على بني أمية، فقد قيل له: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنا أكثر أشرافاً، وكانوا، وكانوا أشرف واحداً، لم يكن في عبد مناف مثل هاشم، فلم هلك كنا أكثر عدداً، وأكثر أشرافاً وكان فيهم عبد المطلب، ولم يكن فينا مثلهم، فصرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً ولم يكن فينا واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى جاء شيء لم يسمع الأوًّلون بمثله، ولا يسمع الآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم (4)،
وكان معاوية رضي الله عنه يحذر
بني أمية من الإساءة إلى آل علي بن أبي طالب قائلاً: إن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بلوى: وكان يطلب من خلصاء علي رضي الله عنه، وصفه وسرد روائع خصاله وأعماله (5).
رابعاً: هل عمّم معاوية سب أمير المؤمنين علي على منابر الدولة الأموية؟
تذكر كتب التاريخ أن الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون علي، وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحي، قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك، فقال كثير عزة الخزاعي:
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 642).
(2) المصدر نفسه (11/ 642).
(3) البداية والنهاية (11/ 446).
(4) البداية والنهاية (11/ 446) ..
(5) الدور السياسي للصفوة صـ172.(1/226)
وليت فلم تشتم علياً ولم تخف ... برياً ولم تتبع مقالة مجرم
تكلمت بالحق المبين وإنما ... تبين آيات الهدى بالتكلم
فصدَّقت معروف الذي قلت ... بالذي فعلت فأضحى راضياً كل مسلم (1)
فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحي، واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال الدارقطني: أخباري ضعيف ووصفه في الميزان: أخبار تالف لا يوثق به (2)، وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل (3)، وقد اتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها، ولم يثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء (4)،
من احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحاكيه لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث، ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيؤوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي، وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتَّاب الشيعة وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية
صحيحة صريحة، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 147).
(2) الميزان (3/ 419).
(3) دفاعاً عن السلفية صـ187.
(4) الحسن، والحسين، محمد رضا صـ18 كلام المحقق د. أحمد أبو الشباب ..(1/227)
التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير (1). وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية ـ رضي الله عنه في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية ـ رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال (2)، وقد فصلّنا في صفة الحلم في شخصية معاوية فيما مضى.
وأما ما استدل به الشيعة على تلك الفرية من صحيح مسلم فليس ما يدل على زعمهم، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاُ قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحب إليّ من حمر النعم (3)، قال النووي: قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب. كأنه يقول: هل امتنعت تورعاً أو خوفاً، أو غير ذلك، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، ولعل سعد رضي الله عنه وقد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار أن أنكر عليهم، فسأله هذا السؤال: قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ (4)، وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم معلقاً على وصف ضرار الصُّدائي لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك وتصديقه، لضرار فيما قال: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم حقه ومكانته، وعند ذلك يبعد عن معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس
_________
(1) الانتصار للصحب والآل صـ 367 للرحيلي.
(2) خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب صـ353.
(3) مسلم، ك: فضائل الصحابة (4/ 1871.
(4) شرح صحيح مسلم (15/ 175).(1/228)
بالتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية، سكن وأذعن، وعرف الحق لمستحقه (1)،
قال الدكتور الرحيلي في كتابه الصحب والآل: والذي يظهر لي في هذا والله أعلم: أن معاوية إنما قال
ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي ـ رضي الله عنه ـ فإن معاوية ـ رضي الله عنه ـ كان رجلاً فطناً ذكياً، يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي ـ رضي الله عنه ـ فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. وهذا مثل قوله ـ رضي الله عنه ـ لابن عباس: ـ أنت على ملة علي؟ فقال له ابن عباس ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). فظاهر أن قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب، وأما ما إدّعى الشيعة من الأمر السب فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك (3)، والمانع من هذا عدة أمور:
1 ـ أن معاوية رضي الله عنه ما كان يسب علياً ـ رضي الله عنه ـ كما تقدم حتى يأمر غيره بسبه، بل كان معظماً له، معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابته عنه، فقد قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني (4)، وعن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له إمرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال:": ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم (5)، فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا (6).
2 ـ أنه لا يعرف بنقل صحيح عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ تعرض لعلي رضي الله عنه ـ بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد
_________
(1) المفهم للقرطبي (6/ 278) ..
(2) الإبانة (1/ 355) شرح أصول اعتقاداللألكائي (1/ 94).
(3) الانتصار للصحب والآل صـ375.
(4) البداية والنهاية (8/ 133).
(5) المصد نفسه (8/ 133).
(6) الانتصار للصحب والآل صـ376.(1/229)
إنتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
3 ـ أن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً ذكياً مشهوراً بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي ـ حاشاه ذلك ـ أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من هو في الشجاعة والفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً، فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً، فكيف بمعاوية.
4 ـ أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة ودانت له الأمصار بالملك، فإي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية.
5 ـ إنه كان بين معاوية ـ رضي الله عنه ـ بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الألفة والتقارب، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ (1)، ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف. وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي فقال له الحسين رضي الله عنه: ولم تعط أحد أفضل منا (2)، ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بثلاثمائة ألف (3). وهذا مما يقطع الكذب مما يدَّعي في حق معاوية من حملة الناس على سب علي، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم، وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة (4)، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشرع حريصاً على تنفيذها، ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء (5)، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات المشركين فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً: لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا (6).
_________
(1) الانتصار للصحب والآل صـ376.
(2) البداية والنهاية (8/ 139).
(3) البداية والنهاية (8/ 140).
(4) الانتصار للصحب والآل صـ377.
(5) صحيح ابن حبان رقم 47، صححه الألباني في المصحيحة رقم 320.
(6) البخاري رقم 6516.(1/230)
خامساً: معاوية وسِمَّ الحسن بن علي؟
ذكرت بعض الروايات أن الحسن بن علي توفي متأثراً بالسم الذي وضع له، وقد اتجهت أصابع الاتهام نحو زوجة الحسن جعدة بنت الأشعث بن قيس أمير كندة فهذه أم موسى سرية علي تتهم جعدة بأنها دست السم للحسن، فاشتكى منه شكاة: فكان يوضع تحته طست (1)، وترفع أخرى نحواً من أربعين يوماً (2)، وهذه رواية إسنادها لا يصح وهي ضعيفة (3)، وحاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجد علاقة بين البيعة ليزيد ووفاة الحسن، وزعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن ُسمي حسناً فإني سأتزوجك، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء: فقال: إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا (4)؟، وفي سندها يزيد بن عياض بن جعدية، كذبه مالك وغيره (5)، وقد وردت هذه الروايات في كتب أهل السنة بدون تمحيص، مع العلم أن أسانيد تلك الروايات أسانيدها ضعيفة (6).
1 ـ قال ابن العربي: فإن قيل: دس على الحسن من تسمَّه، قلنا هذا محال من وجهين: أحدهما: أنه ما كان ليتقي من الحسن بأساً وقد سلَّم الأمر، الثاني: أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله، فكيف تحملونه بغير بيَّنة على أحد من خلقه في زمن متباعد ولم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم (7).
2 ـ وقال ابن تيمية: وأما قوله: معاوية سمّ الحسن، فهذا ممن ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية، أو إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم (8). وقد جاء عن ابن تيمية في رده عن اتهام معاوية بسمّ الحسن وأنه أمر الأشعث بن قيس بتنفيذ هذه الجريمة وكانت ابنته
_________
(1) طست: إناء معلوم.
(2) الطبقات، تحقيق السُّلمي (1/ 338) إسناده ضعيف.
(3) المصدر نفسه (1/ 338).
(4) تهذيب الكمال (6/ 453).
(5) تقريب التهذيب صـ604.
(6) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ393.
(7) العواصم من القواصم صـ220 ـ 221.
(8) منهاج السنة النبوية (4/ 469).(1/231)
تحت الحسن، حيث قال: وإذا قيل أن معاوية أمر أباها كان هذا ظناً محضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: أياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ثم أن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين وقيل سنة إحدى وأربعين ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، فلو كان شاهداً لكان يكون له ذكر في ذلك، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين فكيف يكون هو الذي أمر بنته (1). وهذا يدل على قدرة ابن تيمية للنقد العلمي القوي للروايات التاريخية.
3 ـ وقال الذهبي: قلت هذا شئ لا يصح فمن الذي أطلع عليه (2).
4 ـ وقال ابن كثير: روي بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمَّي الحسن وأنا أتزوجك بعده ففعلت، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا؟ وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى (3).
5 ـ وقال ابن خلدون: وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث، فهو من أحاديث الشيعة، حاشا لمعاوية من ذلك (4).
6 ـ د. جميل المصري: وقد علق على هذه القضية بقوله: ... ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد .. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعاً آنذاك، لأننا لا
نلمس (5) لها أثراً في قضية قيام الحسن، أو حتى عتاباً من الحسين لمعاوية. وبالنسبة لسم الحسن رضي الله عنه، فنحن لا ننكر هذا، فإذا ثبت أنه مات مسموماً فهذه شهادة له وكرامة في حقه (6)، وأما اتهام معاوية وابنه فهذا لا يثبت من حيث السند، كما مر معنا، ومن حيث المتن وهل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال ـ كما تذكر الروايات حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد، وبالتالي تكون زوجة له أليست جعدة ابنة أمير قبيلة
_________
(1) المنتقى من منهاج الاعتدال صـ266.
(2) تاريخ الإسلام، عهد معاوية صـ 40، اتهامات لا تثبت سليمان بن صالح الخراشي صـ174.
(3) البداية والنهاية (8/ 43).
(4) تاريخ ابن خلدون (2/ 527).
(5) أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية صـ482 مرويات خلافة معاوية صـ395.
(6) منهاج السنة (4/ 42).(1/232)
كندة كافة وهو الأشعث بن قيس، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفاً ورفعة بلا منازعة، إن أمه فاطمة رضي الله عنها، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، إذاً ما هو الشئ الذي تسعى إليه جعدة وتحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير (1)، إن هناك الكثير الذين هم أعداء للوحدة الإسلامية، وزادهم غيظاً وحنقاً ما قام به الحسن بن علي، كما أن قناعتهم قوية بأن وجوده حياً صمام أمان للأمة الإسلامية، فهو إمام ألفتها وزعيم وحدتها بدون منافس، وبالتالي حتى تضطرب الأحداث وتعود الفتن إلى ما كانت عليه فلا بد من تصفيته وإزالته، فالمتهم الأول في نظري هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل لمعاوية وجعل حداً للصراع، ثم الخوارج الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهم الذين طعنوه في فخذه، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها (2).
سادساً: موقف معاوية من قتلة عثمان رضي الله عنهما:
كان من ضمن شروط الحسن في صلحه مع معاوية ألا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشئ (3)، والذي يلاحظه المؤرخ أنه من ذلك الوقت ترك الطلب بدم عثمان (4)، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشئ كان في أيام علي وهي قاعدة بالغة الأهمية تحول دون الالتفاف إلى الماضي وتركز على فتح صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل (5)، وقد تمّ التوافق المبني على الالتزام والشرعية حيث تمّ الصلح على أساس العفو المطلق عن كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام الصلح، وبالفعل لم يعاقب معاوية أحداً
بذنب سابق، وتأس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، وقد تمّ بسط الأمن وحفظ الدماء في عهد معاوية إلى حد كبير (6) وجاء في عيون الأخبار لابن قتيبة: إن معاوية بن أبي سفيان
_________
(1) مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية صـ123.
(2) المصدر نفسه صـ124 ..
(3) التبيين في أنساب القرشيين صـ127.
(4) الخلفاء الراشدين للنجار صـ482.
(5) الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام صـ341.
(6) خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي صـ349.(1/233)
لما قدم بعد عام الجماعة ـ المدينة ـ دخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان بن عفان وبكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا إبنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة، وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا ذلاً تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، لأن تكوني إبنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس (1).
والذي يعتد به من كلام ابن قتيبة ما جاء عن العهود والمواثيق التي أبرمت بين معاوية والحسن وقضت بالصلح بين الناس، ووضع الحرب وحقن الدماء، وعدم تهييج النفوس، وإضافة إلى ذلك فإن السنوات الخمس التي احتضنت المعارك في الجمل وصفين والنهروان ومصر وغيرها ذهبت بأولئك الذين ترددت أسماؤهم بتهمة قتل عثمان، ومع ذلك فإن مسألة قتل عثمان ظلت حاضرة في ذهن الخلفاء من بني أمية ونوابهم في الأغلب وأما انتصار بني أمية لعثمان كان حقيقة لا شبهة فيها (2).
سابعاً: مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه:
تحدثت معظم المصادر في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه ومن هذه المصادر: ابن سعد (3)، وخليفة بن خياط (4)، باختصار شديد والبلاذري (5)، واليعقوبي (6)، والمسعودي (7)، وأبو الفرج الأصفهاني (8) مطولاً، وابن الجوزي (9)، وابن الأثير (10) مطولاً، والذهبي (11)، وابن كثير (12)، وقد اعتمد الطبري في خبر حجر بن عدي وأصحابه على أبي مخنف المؤرخ الشيعي المشهور والذي ليس بثقة ولا يعتمد عليه عند علماء المسلمين من أهل السنة، فقد نقل الطبري عنه ست عشرة رواية، وعموماً فإن خبر مقتل حجر بن عدي ورد في مصادر متعددة ولم تنفرد الروايات الشيعية
_________
(1) دراسة قي تاريخ الخلفاء الأمويين صـ69، السلطان لابن قتيبة صـ58.
(2) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ70.
(3) الطبقات (6/ 217) تحقيق إحسان عباس.
(4) التاريخ صـ213.
(5) أنساب الأشراف (4/ 242).
(6) تاريخ اليعقوبي (2/ 230).
(7) مروج الذهب (3/ 12).
(8) الأغاني (17/ 133).
(9) المنتظم (5/ 241).
(10) الكامل في التاريخ (2/ 488).
(11) سير أعلام النبلاء (3/ 462).
(12) البداية والنهاية (11/ 227).(1/234)
بسوق خبره ولكن رواية أبي مخنف الساقط الاعتبار عند علماء أهل الجرح والتعديل أشارت إلى أن معاوية أوصى المغيرة بن شعبة بشتم علي وذمه، لذلك كان المغيرة لا
يترك ذمّ علي في خطبته طوال فترة ولايته على الكوفة، ونص خطبته التي أغضبت حجر بن عدي كما أوردها أبو مخنف: اللهم أرحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك، واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمتنا وحقن دماءنا، وقُتل مظلوماً، اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه: ويدعو على قتلته (1)، وكما نلاحظ من نص الخطبة أنه لم يرد فيها ذمُّ علي ومع ذلك فإن الرواية تشير أنّ هذه الخطبة تضمنت ذلك إلا إذا تأولت لعنه لقتلة عثمان بأنه ذم لعلي (2)،
وبراءة علي من دم عثمان يعرفها القاصي والداني وقد اثبتها في كتبي عن عثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم جميعاً. ومهما يكن من أمر فإن الباحث في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه، يلاحظ أن موقف حجر من أمير المؤمنين معاوية قد مرّ بمرحلتين:
ـ المرحلة الأولى: مرحلة المعارضة القولية: (41 هـ - 50 هـ):
كان حجر بن عدي الكندي، أبو عبد الرحمن الشهيد، له صحبة ووفادة، وفد مع أخيه هانئ بن الأدبر، ولا رواية له عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من علي وعمار (3)، وكان شريفاً، أميراً مطاعاً، أمَّاراً بالمعروف، مقداماً على الإنكار من شيعة علي رضي الله عنهما، شهد صفين أميراً، وكان ذا صلاح وتعبد (4)، وكان رضي الله عنه من المعارضين للصلح الذي قام بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، غير أن هذه المعارضة لم يترتب عليه في هذه المرحلة أي فعل، بل اقتصرت على الأقوال فقط (5)، وفي ذلك يقول البلاذري: ... لم يزل حجر بن عدي منكراً على الحسن بن علي بن أبي طالب صلحه لمعاوية، فكان يعذله على ذلك ويقول: تركت القتال ومعك أربعون ألفاً ذوو نيات، وبصائر في قتال عدوك، ثم كان بعد ذلك يذكر معاوية فيعيبه، ويُظلِّمه (6)، فكان هذا هجيراه، وعادته (7).
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 168 إلى 169).
(2) أثر التشييع على الروايات ............ صـ368 إلى 370 ..
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 462).
(4) المصدر نفسه (3/ 463).
(5) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ422.
(6) أي: ينسبه للظلم.
(7) هجيراه: دأبه وشأنه القاموس المحيط صـ637.(1/235)
ـ المرحلة الثانية: مرحلة المعارضة الفعلية:
هذه المرحلة بدأت في سنة 51 هـ حيث حصل في هذه السنة تدهور مفاجئ في علاقة حجر بن عدي مع زياد بن أبيه والي العراق، وقد ذكرت المصادر سببين في سبب تدهور هذه العلاقة:
أـ ما ذكر من إقدام المغيرة بن شعبة على الثناء على عثمان والترحم عليه، وذم علي بن أبي طالب، وإقدام حجر بن عدي على مدح علي بن أبي طالب، وذم عثمان بن عفان، وسكوت المغيرة عن حجر بن عدي، فلما مات المغيرة بن شعبة وتولى زياد بن أبيه، قال زياد في عثمان
بن عفان وعلي بن أبي طالب مثلما كان يقول المغيرة، فقام حجر بن عدي وقال فيهما مثلما كان يقول المغيرة، فكان ذلك سبب ابتداء المواجهة بين حجر وزياد (1).
ب ـ ما ذُكر من إطالة زياد الخطبة، وتأخير الصلاة، وقيام حجر بإنكار ذلك على زياد، فكان هذا سبب ابتداء المواجهة بينهما (2) وهذان السببان يكدرهما ما يلي:
* ـ أن سياسة المغيرة رضي الله عنه مع أهل الكوفة اتسمت بالعفو والصفح، وليس بإثارة الأحقادوالإحن، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله وأثني عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن ثم قال: ((استغفروا لأميركم، فإنه كان يحب العفو (3). ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: النصح لكل مسلم. فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم (4)، ثم استغفر ونزل (5).
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 169).
(2) تاريخ الطبري (5/ 169).
(3) مرويات خلافة معاوية صـ424.
(4) إشارة إلى أنه وفي بما بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صدق في نصحه.
(5) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح (1/ 168).(1/236)
* ـ أن ضم الكوفة إلى زياد كان في سنة 49 هـ، وهو ما صرح به فيل مولى زياد حيث قال: ملك زياد العراق خمس سنين، ثم مات سنة ثلاث وخمسين وهذه الرواية التي تحدد تاريخ ضم الكوفة إلى زياد بن أبيه تعد أصح ما في الباب وحيث إن ولاية زياد على الكوفة كانت سنة 49 هـ، ولم يحدث الصدام بين حجر وأنصاره وزياد والي الكوفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنه لازال حياً ووجوده كان كفيلاً بردع تحركات المعارضين للصلح من أنصاره لأنه رضي الله عنه اشترط عليهم أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ولكن بعد وفاة الحسن رضي الله عنه عام 51 هـ (1)
تغير موقف بعض قيادات أهل العراق ومنهم حجر بن عدي من المعارضة القولية إلى الفعلية فقد روى البلاذري بإسناده إلى الشعبي، وغيره، قالوا: لما قدم زياد الكوفة ـ عام 49 هـ - بعث إلى حجر فقال: يا هذا، كنا على ما علمت، وقد جاء أمر غير ذلك، أمسك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك، فإياك أن تستنزلك السفلة أو تستفزك، إني لو استخففت بحقك هان علي أمرك، ولم أكلمك من كلامي هذا بحرف، فلما صار إلى منزله اجتمعت إليه الشيعة فقالوا: أنت شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا
الأمر (2)، فملا شخص زياد إلى البصرة استخلف عمرو بن حريث على الصلاة والحرب، ومهران مولاه على الخراج، وأمر العمال بمكاتبة عمرو .. فكتب عمرو إلى زياد: إن كانت لك بالكوفة حاجة فالعجل، فإني كتبت إليك وليس في يدي منها مع حجر إلا القصر، فأخذ السير حتى قدم الكوفةـ فبعث إلى عدي بن حاتم الطائي، وجرير بن عبد الله البجلي ... فقال: ائتوا هذا الشيخ المفتون، فإني خائف أن يحملنا من أمره على ما ليس من شأننا فأتوه ... وكلمه القوم، فلم يكلم منهم أحداً، فأتوا زياداً فقال: مهيم (3)؟ فقال عدي: أيها الأمير، استذمه (4)، فإن له سناً فقال: لست لأبي سفيان إذا، ثم أرسل إليه الشُّرَط فقوتلوا (5)، وجاء في رواية أخرى: لما
_________
(1) مرويات خلافة معاوية صـ425.
(2) مرويات خلافة معاوية صـ428، أنساب الأشراف (4/ 246).
(3) مهيم: كلمة استفهام، أي ما وراءك؟.
(4) استذمه: لا تخفر ذمته.
(5) أنساب الأشراف (4/ 246، 247).(1/237)
قدم زياد الكوفة أميراً (1) أكرم حجر بن الأدبر (2)، وأدناه، وشفَّعَه، فلما أراد الانحدار إلى البصرة (3)
دعاه فقال له: يا حجر إنك قد رأيت ما صنعت بك، وإني أريد البصرة، فأحب أن تشخص معي، فإني أكره أن تتخلف بعدي، فعسى أن أبلِّغ عنك شيئاً فيقع في نفسي، وإذا كنت معي لم يقع في نفسي منك شيء، فقد علمت رأيك في علي بن أبي طالب، وقد كان رأي فيه قبلك على مثل ذلك، فلما رأيت الله صرف الأمر إلى معاوية، لم إتهم قضاء الله ورضيت به، وقد رأيت إلى ما صار أمر علي وأصحابه، وإني أحذرك أن تركب أعجاز أمور هلك من ركب صدورها (4)، والمقصود من كلام زياد أنه كان من خواص علي رضي الله عنه ولما رأى تنازل الحسن لمعاوية وإجماع الأمة عليه دخل في الجماعة وحرص على وحدة الصف وحذر من الفتن، فقال له حجر: إني مريض ولا استطيع الشخوص. قال: صدقت، والله إنك لمريض الدين والقلب، مريض العقل، وأيم الله لئن بلغني عنك شيء أكرهه بأحرص على قتلك فانظر أو دع، فخرج زياد فلحق بالبصرة، واجتمع إلى حجر قُرّاء أهل الكوفة، فجعل لا ينفذ لعامل زياد معهم أمر، ولا يريد شيئاً إلا منعوه إياه، فكتب إلى زياد: إني والله ما أنا في شيء مع حجر وأصحابه، وأنت أعلم فركب زياد بغاله حتى اقتحم الكوفة، فلما قدمها تغيب حجر، فجعل يطلبه فلا يقدر عليه (5). أما تفاصيل
المواجهة بين شرطة زياد وحجر بن عدي وأنصاره، فقد انفرد أبو مخنف من بين المصادر التي وقفت عليها بإيراد تفاصيلها (6)، كذلك انفرد أبو مخنف بإيراد تفاصيل مهمة عن شهادة أهل الكوفة على حجر وأصحابه (7).
1 ـ قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه:
نظراً لخطورة قضية حجر بن عدي وحساسيتها، فقد وافق زياد بن أبيه على شرط حجر بن عدي عند استسلامه، وهذا الشرط هو إحالة قضية حجر ومن معه
_________
(1) وذلك سنة 49 هـ.
(2) الأدبر: لقب عدي والد حجر.
(3) وذلك سنة 51 هـ ..
(4) هذا تحذير من زياد لحجر يدل على رغبته على حسم مادة الفتنة ولذلك حرص على أصحابه معه إلى البصرة
(5) أنساب الأشراف (4/ 270، 271).
(6) تاريخ الطبري (6/ 177، 183).
(7) المصدر نفسه (6/ 184، 186).(1/238)
إلى معاوية ليحكم فيها (1)، وقبل الحديث عن حكم معاوية في حجر وأصحابه، ينبغي التذكير بالتهم الموجهة إليهم، وهذه التهم كما وردت عن أبي مخنف هي: ... إن حجراً جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، ووثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب (2)، والترحم عليه، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه وأمره (3)، أما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه، وأصحابه فإنه لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات (4)، بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم، واستشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم أن قتل بعضهم، واستحي بعضهم، والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل (5)، بإسناد حسن قال حدثني أبي (6)، قال حدثنا أبو المغيرة (7)، قال: حدثنا ابن عياش (8)، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم (9)،
قال: لما بُعث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت، فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي، فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي (10)، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال: ألا أنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية ألا وأنت أعلمنا بدائهم وأقدرنا على دوائهم وإنما علينا أن نقول ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 187، 188).
(2) المقصود به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهي كنيته.
(3) تاريخ الطبري (6/ 188).
(4) مرويات خلافة معاوية صـ430.
(5) قال عنه الذهبي صدوق ثقة السير (12/ 529).
(6) أحمد بن محمد بن حنبل، ثقة حافظ فقيه حجة.
(7) عبد القدوس بن الحجاج الخولاني، أمير المغيرة.
(8) إسماعيل بن عياش العنسي، الحمصي، صدوق.
(9) شراحبيل بن مسلم الخولاني، الشامي، من شيوخ الشام ..
(10) مخضرم، ثقة عابد، من كبار التابعين مات في خلافة معاوية.(1/239)
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) (البقرة، الآية: 285) فقال معاوية: أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم ورمى بها ما بين عيني معاوية. ثم قام المنادي فنادى: أين أبو المسلم الخولاني، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، على عواتقنا إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقناك نظرناك، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي (1)، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفو فقد أحسنت، فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين، رعيتك، ووليتك، وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا أنفسهم العقوبة، وإن تعفو فإن العفو أقرب للتقوى يا أمير المؤمنين ولا تطع فينا من كان غشوماً ظلوماً، بالليل نؤوماً، عن عمل الآخرة سؤوماً (2).
يا أمير المؤمنين، إن الدنيا قد انقشعت أوتادها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها، ثم جلس فقلت (3) لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضاً واستحي بعضاً وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر (4)، وكان حجر رضي الله عنه قبل قتله قال: يا قوم دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فتوضأ، وصلَّى ركعتين، فطوَّل، فقيل له: طوَّلت، أجزعت؟ فقال: ما صليت صلاة أخفّ منها، ولئن جزعت لقد رأيت سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً، وقبراً محفوراً، وكانت عشائرهم قد جاؤوهم بالأكفان، وحفروا لهم القبور.
ويقال: بل معاوية الذي فعل ذلك. وقال حجر: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل العراق شهدوا علينا وإن أهل الشام قتلونا. فقيل له: مُدَّ عنقك. فقال: إنَّ ذاك لدم ما كنت لأُعين عليه (5)، وجاء في رواية: لما أتي معاوية بحجر،
_________
(1) شامي مخضرم، يروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه
(2) مرويات خلافة معاوية صـ434، نقلاً عن تاريخ دمشق (4/ 271).
(3) القائل هو إسماعيل بن عياش.
(4) أحمد بن حنبل: المسائل رواية ابنه صالح (2/ 328، 331).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 465).(1/240)
قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين: قال: أو أمير المؤمنين أنا؟ اضربوا عنقه فصلَّى ركعتين، وقال لأهله: لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فإني ملاقٍ معاوية على الجادَّة (1). وقد علق ابن العربي على مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه فقال: .. وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض
فساداً (2)، وقد اعتمد معاوية رضي الله عنه في قضائه على قوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يَشُقَّ عصاكم (3)، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنه ستكون هنات (5)، وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان (6). ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجراً اقتصر في معارضته إلى الأقوال فقط ولم ينتقل على الأفعال ولنا في خبر المسور بن مخرمه وغيره مما مرّ معنا دلالة على ذلك (7)
2 ـ موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه:
بالغت الروايات في ذكر موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي، حيث ذهبت بعض الروايات إلى زعم بتهديد عائشة لمعاوية بالقتل حين زارها 51 هـ وكذلك التهديد بمحاربة معاوية (8) وهذه الروايات لم يصح منها شيء في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأما حقيقة موقفها فعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبت أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان (9)، قال: ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علي، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: أمتاه فيما وجدت عليَّ يرحمك الله؟ قالت: ... وجدت عليك في شأن حجر وأصحابه
_________
(1) المصدر نفسه (3/ 466).
(2) العواصم من القواصم صـ220.
(3) يشق عصاكم: يفرق جماعتكم.
(4) مسلم صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 242).
(5) هنات: جمع هَنَّة، والمراد بها هنا الفتن والأمور الحادثة شرح صحيح مسلم (12/ 241).
(6) مسلم، صحيح شرح النووي (12/ 241).
(7) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ435.
(8) المصدر نفسه صـ438 مثل ما ورد في تاريخ الطبري.
(9) أبو عمرو مولى عائشة ثقة توفي في المدينة سنة 63 هـ.(1/241)
أنك قتلتهم فقال لها: ... وأما حجر وأصحابه فإني تخوفت أمراً، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، تستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل ما يشاء قالت: تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله (1)، وجاء في رواية أخرى: لما قدم معاوية دخل على عائشة، فقالت: أقتلت حجراً؟ قال: يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس، خير من استحيائه في فسادهم (2).
3 ـ ندم معاوية على قتل حجر بن عدي:
جاء في رواية: .. أن عائشة أرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: غاب حين غاب عني مثلك من حلماء (3) قومي، قال الذهبي: يعني أنه ندم (4). ومع أن قتل حجر رضي الله عنه وأن ذكر له من الأعذار والمبررات ما ذكر، ففي الحقيقة كانت غلطة من معاوية، وكان ينبغي أن يتسع حلمه لصحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وقد ندم معاوية ندماً كبيراً على قتل حجر، وظل يذكر هذه الحادثة طوال حياته (5)، وقد روى أنه قال عند موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل: ثلاث مرات ـ يعني حجراً (6).
4 ـ موقف لمالك بن هبيرة السكوني رضي الله عنه:
لم يقبل معاوية رضي الله عنه شفاعة مالك بن هبيرة السكوني في حجر بن عدي، فجمع مالك قومه وسار ليخلصه وأصحابه، فلقي القتلة وسألهم، فقالوا: مات القوم. وسار إلى عَدِيّ فتيقن قتلهم فأرسل في أثر القتلة فلم يدركهم، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه (7)، وكان مالك بن هبيرة السكوني صحابي جليل وكان معاوية رضي الله عنه ولاّه حمص وكان يقول فيه: ما أصبح عندي من العرب أوثق في نفسي نصحا بجماعة المسلمين وعامتهم
_________
(1) تاريخ دمشق (4/ 273، 274) نقلا عن مرويات معاوية صـ440.
(2) المصدر نفسه (4/ 273) نقلا عن مرويات معاوية صـ440.
(3) تاريخ الطبري (6/ 195).
(4) سير أعلام النبلاء (3/ 465).
(5) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ116.
(6) تاريخ الطبري (6/ 196).0
(7) تاريخ بن خلدون (3/ 17).(1/242)
من مالك بن هبيرة (1).وقد كان يسعى معاوية غير القتل من العقوبات، كالسجن، أو تفريق حجر وجماعته، أويمن بهم على عشائرهم (2)
5 ـ ما قيل في حجر بن عدي من رثاء:
قالت هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية في رثاء حجر:
ترفع أيها القمر المنير ... تَبَصَّرْ هل ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كم زعم الأمير
تجبرت الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد بها محولا ... كأن لم يحيها مزن مطير
ألا يا حجر حجر بن عدي ... تلقاك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أدري عديا ... وشيخاً في دمشق له زئير
إلى أن قالت:
ألا ياليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير
فإن تهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هُلكٍ يصير (3).
وفيما عدا قضية حجر وأصحابه فقد حافظ معاوية على سياسته السلمية القائمة على الحلم وسعة الصدر مع رعيته والتي لخصها هو نفسه في جمل يسيره حين قال: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أصنع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت كانوا إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها (4)، وهي سياسة حكيمة تفسح المجال أمام القول إذا ما ظل في حدود لا يتعداها، فحيث يكفي المال عن اللسان يعتمده، ولا يضع السوط حيث يكفي اللسان، ولا يضع السيف حيث يكفي السوط (5)، وقد قيل: بأن سليم مولى زياد فخر بزياد عند معاوية فقال معاوية: اسكت ما أدرك صاحبك شيئاً قط بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني (6).
_________
(1) أثر الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ671، الطبقات الكبرى (7/ 420).
(2) القرّاء ودورهم في الحياة العامة صـ195.
(3) تاريخ الطبري (6/ 196).
(4) السلطان لابن قتيبه صـ51.
(5) السلطة والمعارضة في الإسلام، زهير هوّاري صـ262.
(6) السلطان لابن قتيبة صـ53.(1/243)
المبحث الثاني: مباشرة معاوية للأمور بنفسه وحرصه على توطين الأمن في خلافته:
أولاً: مباشرة معاوية للأمور بنفسه:
ومن القواعد التي قامت عليها سياسة معاوية الداخلية مباشرة الأمور بنفسه، وكان رضي الله عنه يحرص على معرفة كل صغيرة وكبيرة في دولة فرغم أنه استعان بأمهر رجال عصره، إلا أنه لم يكن يكتفي بذلك بل كرّس كل وقته وجهده للدولة ورعاية مصالح المسلمين (1).
1 ـ مجلس معاوية في يومه: كان معاوية رضي الله عنه، يظهر في اليوم والليلة خمس مرات، فكان إذا صلى الصبح جلس
للقصاص حتى يفرغ من قصصه ثم يدخل فيؤتي بمصحفه، فيقرأ جزأه ثم يدخل إلى منزله فيأمر وينهي ثم يصلي أربع ركعات، ويخرج إلى مجلسه، فينادي بخاصته، فيحدثهم ويحدثونه، ويدخل عليه وزراءه، فيكلمونه فيما يريدون من يومهم، ثم يؤتى بالغداء الأصغر، وهو فضل عشاء الليل، ... ثم يتحدث طويلاً، ثم يدخل منزله لما أراد ثم يخرج فيقول يا غلام أخرج الكرسي، ويسند ظهره إلى المقصورة، ويقوم الحراس، فيقدم إليه الضعيف والإعرابي والصبي والمرأة فيقول: ظلمت، فيقول: أعزّوه ويقول: عدي عليّ فيقول: ابعثوا معه، ويقول صنع بي فيقول: انظروا له، حتى لم يبق أحد دخل فجلس على السرير، ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم ولا يشغلني أحد عن رد السلام، فيقال: كيف أصبح أمير المؤمنين أطال الله عمره؟ فيقول: بنعمة من الله، فإذا استووا جلوساً قال: يا هؤلاء إنما سُميتم أشرافاً، لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا حاجة من لا يصل إلينا فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: افرضوا لولده، ويقول: غاب فلان عن أهله فيقول:
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ117.(1/244)
تعاهدوهم وأعطوهم، واقضوا حوائجهم واخدموهم. ويؤتى بالغداء ويحضر الكاتب، فيقوم عند رأسه ويقدم الرجل فيقال له: اجلس على المائدة فيجلس فيمد يده، فيأكل لقمتين أو ثلاثاً، والكاتب يقرأ كتابه، فيأمر فيه بأمره، فيقال: يا عبد الله أعقب، فيقوم ويتقدم آخر حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم، وربما قدم عليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء، ثم يرفع الغداء، وينصرف الناس، ويدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالظهر، فيخرج فيصليَّ (1) ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة، فإن كان الوقت شتاء أتاهم بزاد الحاج، من الأخبصة اليابسة والخشكبالج (2)،
والأقراص المعجونة، بالسكر والليّن من دقيق السميد، والكعك المسمن والفواكه اليابسة وإن كان الصيف أتاهم بالفواكه الرطبة ويدخل عليه وزراءه فيؤامرونه فيما احتاجوا إليه بقية يومهم، ويجلس إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر ثم يدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى إذا كان في آخر وقت العصر، خرج فجلس على سريره، ويؤذن للناس على منازلهم، فيؤتى بالعشاء فيفرغ منها مقدار ما ينادي بالمغرب فيصليها، ثم يصلي أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة خمسين آية، يجهر تارة ويخافت أخرى. ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادي بالعشاء الآخرة، فيخرج فيصلي ثم يؤذن للخاصة، وخاصة الخاصة، والوزراء والحاشية، فيؤامره الوزراء فيما أرادوا صدراً من ليلتهم، ويسمر ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياساتها وسير الأمم وحروبها، ومكائدها وسياساتها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرف الغريبة من عند نسائه: من الحلواء وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم
يقوم: فيحضر الدفاتر، فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكائد فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكّلوا بحفظها وقراءتها، فيمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار، فيخرج ثم يصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا كل يوم وليلة وقد تبعه في ذلك، عبد الملك بن مروان وغيره، فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه السياسة ولا التأني للأمور ولا مدارات الناس على منازلهم، ورفقه بهم على طبقاتهم (3).
_________
(1) الشهب اللمعة في السياسة النافعة صـ309.
(2) الخشكبالج: نوع من الحلوى ..
(3) الشهب اللامعة صـ310، 311، مروج الذهب (3/ 220، 222).(1/245)
2 ـ الدواوين المركزية التابعة لمعاوية:
أـ ديوان الرسائل:
هو الهيئة المشرفة على تحرير رسائل الخليفة وأوامره وعهوده، ووصاياه، ومواثيقه إلى موظفيه في الأقاليم الإسلامية إلى البلدان الخارجية التي لها علاقة بالدولة الإسلامية (1) ومن أشهر من أشرف على ديوان الرسائل وقام بمهمة الكتابة في هذا الديوان في عهد معاوية عبد الله بن اوس الغساني، وزمل بن عمرو العذري، واستمر هذان الكاتبان في خلافة يزيد الأول (2)، وكانت وسيلة الرسائل في الاتصال بالولاة وقادة الجند، والقضاة، وزعماء القبائل تابعة لمعاوية وتحت إشرافه المباشر.
ب ـ ديوان الخاتم:
أنشأ معاوية بن أبي سفيان رضي لله عنه ديوان الخاتم لتحقيق السرية والأمان لمراسلات الدولة فلا تطلع عليها عين جاسوس ولا تصل إليها يد خائن (3)، وكان من أغراض هذا الديوان تحاشي التزوير، ومنع حدوث التلاعب، في الكتب التي يصدرها الخليفة، ثم أصبح الديوان بمثابة سجل للكتب الصادرة، وصارت الدولة تعتمد عليه في تدقيق الأوامر، والمراسلات التي تتعلق بالصرف والحسابات، بين مقر الخلافة والأقاليم الإسلامية الأخرى (4)، كما أنه كان يقوم بالأشراف على تدقيق الدواوين الأخرى، وبيان الأخطاء التي تقع فيها، وهذا الديوان يختلف عن ختم الرسول صلى الله عليه وسلم، وختم الخلفاء الراشدين، فختم الرسول صلى الله عليه وسلم يعني التوقيع بالختم، بينما نره في عهد معاوية، وعصر الدولة الأموية ـ بمثابة ـ جهاز للفحص والتدقيق في الأعمال الصادرة عن الدواوين الأخرى، وقد تقلد الخاتم الكبير لمعاوية، عبد الله بن محصن الحميري وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بذلك إلى زياد بن أبيه وهو على العراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، فأخذ عمراً بردها
وحبسه، فأدها عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب (5)، ولم تكن
_________
(1) إدارة بلاد الشام في العهدين الراشدي والأموي صـ124.
(2) المصدر نفسه صـ156.
(3) الدولة الأموية المفترى عليها صـ433.
(4) إدارة بلاد الشام في العهدين الراشدي والأموي صـ170.
(5) تطوى ويلصق طرفها بالشمع والطين الأحمر ثم يوضع خاتم الخلافة.(1/246)
تخزم (1)، وفي الحقيقة فإن تأسيس ديوان الخاتم أملته ظروف اتساع الدولة الإسلامية في عهد معاوية رضي الله عنه، وحاجة الخليفة إلى نظام اتصال آمن وسري لمتابعة عماله وقواده ورجال دولته (2).
خـ ـ ديوان البريد: يذكر المؤرخون: أن معاوية بن أبي سفيان أول من ادخل نظام البريد في الدولة الإسلامية، وأصدر أوامره بوضع الخيول في عدة أماكن، وقام بتنظيمه (3)، وتشير بعض المصادر إلى أنه اقتبس من الروم (4)، وكانت أعماله في العصر الأموي، واسعة ومتشعبة، نظراً لسعة رقعة الدولة الإسلامية، وقد قام الخلفاء الأمويون بتحسين طرق المواصلات التي سير عليها صاحب البريد، وكانت تلك الطرق واضحة ومعلومة، والدليل على تحسين هذه الطرق هو سرعة وصول الأخبار إلى مقر الخلافة بالشام (5)، ولم تكن خدمات البريد قاصرة على ما يتعلق بالدولة، بل كان في بعض الأوقات يحمل رسائل الناس من بلد إلى آخر (6)، وكانت الدولة في عهد معاوية لا تستغني عن البريد في حالات السلم، وحالات الحرب، وكان موظف البريد من أهم أعوان الخليفة وقد ذكرت بعض المصادر أسماء بعض من اشتغل مع معاوية في ديوان البريد وهما: نصر ين ذبيان، والكميت، كانا على البريد في أيام معاوية واستخدامهما في نقل الأخبار بين الشام والحجاز (7)، وكانت أهم وسائل النقل: البغال (8)، والخيل (9)،
ويعتبر معاوية مؤسس نظام البريد في الإسلام، حيث كانت الرسائل ترسل قبل ذلك من قبل الخليفة إلى الجهة التي يراد إرسالها إليها، عن طريق رسول يحملها وينطلق بها وحده، حتى يوصلها إلى الجهة المقصودة، فكانت بذلك الرسائل تستغرق مدة طويلة حتى تصل إلى محلها وأم نظام البريد الذي استخدمه معاوية اقتباساً من البيزنطيين فقد كان يقتضي أن تقسم الطرق إلى مسافات، يوضع في نهاية كل
_________
(1) الإدارة في العصر الأموي صـ287، مرويات خلافة معاوية صـ75.
(2) مرويات خلافة معاوية صـ76.
(3) إدارة بلاد الشام في العهدين الراشدي والأموي صـ174.
(4) المصدر نفسه صـ174.
(5) المصدر نفسه صـ175.
(6) المصدر نفسه صـ175.
(7) المصدر نفسه صـ176.
(8) المصدر نفسه صـ176.
(9) العيون والحدائق (3/ 82)، إدارة بلاد الشام في العهدين صـ176 ..(1/247)
مسافة دواب (خيل) مهيأة لحمل رسائل الخليفة إلى الجهات المختلفة، تسلم الكتب والرسائل إلى صاحب البريد، وينطلق بها مسرعاً
حتى إذا بلغ نهاية المسافة سلمها لمن بعده، وتظل الرسالة تنطلق من مسافة إلى مسافة حتى تصل إلى الجهات المرسلة إليها في أقصر مدة، وأما مقدار المسافة الواحدة، فكان أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وبذلك يكون طول المسافة أثنى عشر ميلاً، أي عشرين كيلو متراً تقريباً، وهذه المسافة تسمى بريداً، وبهذه الطريقة تصل الرسالة بأكبر سرعة، دون إجهاد لصاحب البريد، حيث أن المسافة يمكن قطعها بسهولة، وتناوب أصحاب البريد إذا كان سيقطع المسافة وحده، وهكذا يوفر هذا النظام الراحة لأصحاب البريد، واختصار الوقت (1)، يقول أبو هلال العسكري: أول من وضع البريد في توصيلها يوفر الزمن الذي يستريحه صاحب البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وأحكم أمره عبد الملك (2).
س ـ نظام الكتبة: كان هناك كاتب لديوان الرسائل، وآخر لديوان الخراج، وثالث لديوان الجند، ورابع لديوان الشرطة وخامس لديوان القضاء، وكان في عهد الأمويين أكبر دواوين الدولة، ويقوم الموظفون فيه بنسخ أوامر الخليفة، وإيداعها ديوان الخاتم، بعد أن تحزم وتختم بالشمع، ثم تختم بخاتم صاحب الديوان (3)، وظل ديوان الخاتم من أكبر دواوين الدولة، منذ أنشأه معاوية، وحتى أواسط العهد العباسي (4)، وكانت هذه الدواوين تقوم بأعمال وزارة المالية (ديوان الخراج) ووزارة الدفاع (ديوان الجند) ووزارة الداخلية (ديوان الشرطة) ووزارة العدل (ديوان القضاء) كما كان ديوان الرسائل يقوم بأعمال السكرتيرية، وديوان الخاتم يقوم بأعمال السجلات والأرشيف وكان لكل ديوان موظفوه من الكتبة المتخصصين، وكان ديوان الخراج يكتب في العراق باللغة الفارسية، وفي الشام ومصر باللغة الرومية وظل كذلك حتى عرّبه عبد الملك بن مروان (5).
ثانياً: حرصه على توطين الأمن في خلافته:
ومن القواعد التي بنى عليها معاوية سياسته الداخلية توطيد الأمن في ربوع العالم الإسلامي وقد اتخذ معاوية عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف.
_________
(1) الأمويون بين الشرق والغرب (1/ 100).
(2) الأوائل صـ237.
(3) تاريخ الإسلام (1/ 458).
(4) المصدر نفسه (1/ 459).
(5) الأمويون بين الشرق والغرب (1/ 102).(1/248)
1 ـ الحاجب: كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحاجب في الإسلام، لكي يتجنب محاولات الاعتداء عليه (1)، وكان بعض المظاهر الملكية له ما يبرره في هذه الحقبة التاريخية فقد عبر ابن خلدون على احتجاب الخلفاء عن الناس، على النحو التالي: كان أول شيء بدأ به في الدولة شأن الباب وستره دون الجمهور، لما كان يخشون على أنفسهم من
اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمر بن العاص وغيرهم، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب (2)، ومما يعزز آراء ابن خلدون عن وجود العامل الأمني وراء اتخاذ معاوية من محاولة اغتياله التي دبرها الخوارج: أمر عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل، وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد (3)، وقد كان معاوية وبنو أمية يعيشون في الشام قريباً من أعدائهم الموتورين من الروم، فضلاً عن أعدائهم الموتورين من الشيعة والخوارج المتفرقين في البلاد، وكانوا يرون لابد لهم لاستقرار الدولة الإسلامية التي قتل ثلاثة من خلفائها من اتخاذ نمط من أنماط الحراسة والاحتراز (4)، وقد ذكر المؤرخون أسماء أربعة من مواليه شغلوا له وظيفة الحاجب، وهم سعد، وأبو أيوب، وصفوان (5)، وكان يشترط في الحاجب أن يعرف منازل الناس وأنسابهم وطبقاتهم، لكي يتمكن أن يعرف من يأذن لهم، ومن لا يأذن لهم، فقد رويت أخبار كثيرة تؤكد ذلك، فمعاوية بن أبي سفيان قال لحصين بن المنذر، وكان يدخل عليه في آخريات الناس:
يا أبا ساسان كأنه لا يحسن أذنك؟ فأنشأ يقول:
وكل خفيف الساق يسعى مشمراً ... إذا فتح البواب بابك أصبعاً
ونحن الجلوس الماكثون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا (6)
_________
(1) إدارة بلاد الشام في العهدين الراشدي والأموي صـ102.
(2) تاريخ ابن خلدون (2/ 49 ـ 150).
(3) تاريخ الطبري (6/ 65).
(4) الدولة الأموية المفترى عليها صـ271.
(5) إدارة بلاد الشام في العهدين صـ103، البداية والنهاية (11/ 465).
(6) البيان والتبيين (2/ 90) إدارة بلادة الشام صـ107.(1/249)
وعندما دخل شريك الحارثي على معاوية قال له: من أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين مارأيت لك هفوة قبل هذه مثلك ينكر مثلي من رعيته، فقال له معاوية: إن معرفتك متفرقة أعرف وجهك إذا حضرت الوجوه، وأعرف إسمك في الأسماء إذا ذكرت، ولا أعلم أن ذلك الاسم هو هذا الوجه ما ذكر لي اسمك تجتمع معرفتك (1)، فالحاجب يخبر الخليفة والخليفة هو الذي يأذن أو لا يأذن. وذات يوم وقف الأحنف بن قيس، ومحمد بن الأشعث بباب معاوية الأول، فإذن للأحنف، ثم إذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله، فلما رآه معاوية غمه ذلك، وأحنقه فالتفت إليه فقال: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وأنا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم ولا يزيد متزيد في خطوة إلا لنقص يجده في نفسه (2).
2 ـ الحرس: كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحرس في الدولة الإسلامية، خوفاً من الخوارج الذين كانوا يريدون قتله، فقد أمر بالمقصورات في الجوامع وكان لا يدخلها إلا ثقاة وحراسه (3)، وكما يبدو أن معاوية لم يكتف باتخاذ الحرس، بل اتخذ المقاصير زيادة في التشدد وذلك لحماية نفسه من أي اعتداء قد يقع عليه (4) وقد ذكرت كتب التاريخ أسماء رؤساء الحرس في عهد معاوية وهم: المحتار: أبو المخارق (5)، ويزيد بن الحارث العبسي (6).
3 ـ الشرطة: وظيفتها المحافظة على الأمن والنظام، والقبض على اللصوص والجناة والمفسدين، والدفاع عن الخليفة، وهي غير مسؤولة عن صد أي هجوم خارجي عن الدولة (7) وقد قام معاوية بتنظيمها وتطويرها في الشام وقد ذكر المؤرخون أربعة أسماء من الذين عينهم على رئاسة الشرطة وهم: قيس بن حمزة الهمذاني، زمل بن عمرو العذري، الضحاك بن قيس الفهري ويزيد بن الحر العنسي (8) والشرطة لا يقتصر وجودها على عاصمة الخلافة فقط بل في الولايات الإسلامية الأخرى وهم يتبعون الولاة فهم الذين يختارونهم ويعينونهم وكان
_________
(1) عيون الأخبار (1/ 90).
(2) العقد الفريد (1/ 68) إدارة بلاد الشام صـ108.
(3) إدارة بلاد الشام في العهدين صـ111.
(4) المصدر نفسه صـ111.
(5) البداية والنهاية (11/ 465).
(6) إدارة بلاد الشام في العهدين صـ117، العقد الفريد (4/ 362).
(7) المصدر نفسه صـ115.
(8) المصدر نفسه صـ117.(1/250)
وجودها مهم للدولة والمجتمع، فالدولة تعتمد عليها في قمع المتمردين، وفي القضاء على الثورات، والاضطرابات، وربما كانت تحل محل الجند في حالة عنايتهم واشتراكهم في الغزوات، وهي للمجتمع، لأنها تعمل على تحقيق الأمن والاستقرار، فهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن حماية أرواح الناس، وحفظ حقوقهم وأموالهم من اعتداء بعضهم على بعض وقد كلف الخلفاء الأمويون رؤساء الشرطة بأعمال شتى خارج بلاد الشام وداخلها: فالضحاك بن قيس كلفه معاوية، بإبلاغ وصيته لابنه يزيد، وأخذ البيعة له (1).
4 ـ حسن اختيار الرجال والأعوان: فقد وفق معاوية رضي الله عنه في اختيار أعوانه من الرجال الموثوق بولايتهم وخبرتهم الإدارية، مع حكمتهم ودهائهم. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: عمرو بن العاص السهمي، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وزياد بن أبيه الثقفي، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري، وعبد الله بن عامر بن كريز، وغيرهم من القادة المقاتلين أمثال المهلب بن أبي صفرة، وعقبة بن نافع الفهري، ومالك بن هبيرة، وجنادة بن أمية الأزدي وآخرين، وكان عمرو بن العاص يقول: أنا للبديهة، ومعاوية للأناة، والمغيرة
للمعضلات، وزياد لصغار الأمور وكبارها (2). وقد ساهم هؤلاء في إدارة الدولة وفتوحها والتصدي لأعدائها، فكان لهم دور كبير ومتميز في ترسيخ وتوطين وتثبيت الأمن ودعائم الخلافة الأموية (3).
5 ـ استخدام المال في تأكيد ولاء الأعوان وتأليف القلوب: فقد اعتبر معاوية من أجواد العرب لأنه استمال القلوب بالبذل والعطاء وجاد بالمال مع المداراة وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره أسكته بالمال (4).
6 ـ إتباع سياسة الشدة واللين: في الوقت نفسه حسب الظروف والأحوال: وظهرت هذه السياسة بشكل واضح بعد توطيد دعائم الخلافة الأموية، وكتب معاوية إلى زياد بن أبيه في ذلك وقال: إنه لا يصلح أن أسوس وتسوس الناس بسياسة
_________
(1) المصدر نفسه صـ123، الأخبار الطوال صـ205، 206.
(2) أنساب الأشراف (4/ 1/131).
(3) الجذور التاريخية للأسرة الأموية صـ100.
(4) المصدر نفسه صـ100.(1/251)
واحدة إنا إن نشتد جميعاً نهلك الناس ونحرجهم، وإن نلن جميعاً نبطرهم، ولكن تلين وأشتد وتشتد وألين (1)، ويمثل هذه السياسة وما نسب إلى معاوية رضي الله عنه من أقوال مثل: لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته، إي استعملته (2)، وقوله المشهور: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن جبذوها أرسلتها، وإن خلوها جبذتها (3).
7 ـ إتباع سياسة المنفعة المتبادلة بين بني أمية ورعيتهم:
لم يستطع معاوية رضي الله عنه إتباع سياسة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم الراشدة، ولا شك في أن كثرة الأموال بعد اتساع الدولة الإسلامية جعلت كثيراً من المسلمين يتطلعون إلى التمتع بالخيرات التي أخذت تتدفق عليهم وقد أعرب معاوية عن ذلك بشكل واضح وقال للمسلمين: .. غير أني سلكت طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة ما استقامت السيرة، وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم (4).
8 ـ اتخاذ سياسة إعلامية للإشادة به وبخلافته وجعل الناس يميلون إليهم: وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: أحب الناس إلي أشدهم تحبيباً لي إلى الناس (5)، وأتبعه بعد ذلك الخلفاء الأمويون باستمالة عشرات الشعراء وأغدقوا عليهم الأموال، فأشادوا بهم وبحقهم في الخلافة وصلاحهم لها ووجوب طاعتهم ونصرتهم نظراً لأن الشعر كان أهم وسيلة إعلامية في ذلك العصر (6)، ومن الأشعار التي قيلت في هذا الاتجاه ما قاله الأخطل:
تَمَّت جدودهم والله فضلهم
وجدُّ قوم سواهم خامل نكد
وأنتم أهل بيت لا يُوازنُهم
بيت إذا عُدّتِ الأحساب والعدد (7)
وقد إهتمّ معاوية بفن الدعاية والإعلام، وأوكله إلى عدد من الرجال يهمهم أمره ويؤيدونه، فكان يكثر أعطيات الشعراء وكذلك شيوخ القبائل، لكسبهم في
_________
(1) أنساب الأشراف (4/ 1/84).
(2) الجذور التاريخية للأسرة الأموية صـ101.
(3) أنساب الأشراف (4/ 1/21)
(4) سير أعلام النبلاء (3/ 148).
(5) الجذور التاريخية للأسرة الأموية صـ102.
(6) المصدر نفسه صـ102، تاريخ الطبري (6/ 255).
(7) التطور والتجديد في الشعر الأموي، شوقي ضيف صـ134.(1/252)
صفه، ويعطي مجالاً واسعاً لولاته لكي يحققوا بعض المكاسب السياسية والإعلامية والأمنية، فقد كتب زياد والي البصرة في عهد معاوية خمسمائة من مشايخها، وأعيانها في صحابته، ورزقهم ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة (1)، فقال فيه حارثة بن بدر الغُدانيّ:
ألا من مبلغ عني زياداً
فنعم أخو الخليفة والأمير
فأنت إمام معدلةٍ وقصد
وحزم حين تحضرك الأمور
أخوك خليفة الله بن حرب
وأنت وزيرة نعم الوزير (2)
وكان معاوية رضي الله عنه يحرص على امتصاص غضب الشعراء بحلمه وعفوه، فعندها هجا يزيد بن مفرِّغ الحميري بني زياد، عندما كان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيق في أعلاف دوابهم فقال ابن مفرغ:
ألا ليت اللحى عادت حشيشاً
فنعلفها خيول المسلمين
وكان عبّاد بن زياد عظيم اللحية، فأنهِيَ شعره إلى عبّاد وقيل: ما أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب منه، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما هجاه به قوله:
إذا أودى معاوية بن حرب
فسبِّر شعْبَ قعبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر
أبا سفيان واضعه القناع
ولكن أمراً فيه لبس
على وجل شديد وارتياعٍ
وقوله:
ألا أبلغ معاوية بن حرب
مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عَفُّ
وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان (3)
ولما هجا ابن المفرِّغ عبَّاداً فارقه مقبلاً إلى البصرة، وعبيد الله يومئذ وافد على معاوية،
فكتب عباد إلى عبيد الله ببعض ما هجاه به، فلما قرأ عبيد الله الشعر
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 139).
(2) المصدر نفسه (6/ 139).
(3) تاريخ الطبري (6/ 236).(1/253)
دخل على معاوية، فأنشده إياه، واستأذنه في قتل ابن مفرغ، فأبى عليه أن يقتله، وقال: أدِّبه ولا تبلغ به القتل (1) ... ووقع ابن مفرِّغ بين يدي عبيد الله .. فأمر به فسقي دواء، ثم حمل على حمار عليه إكاف فجعل يطاف به وهو يسلح في ثيابه (2).
وقال ابن مفرِّغ لعبيد الله:
يُغسِل الماء ما صنعت وقولي
راسخ منك في العظام البوالي
ثم حمله عبيد الله إلى عباد بسجستان، فكلمت اليمانية فيه بالشام معاوية، فأرسل رسولاً إلى عباد، فحمل، ابن مفرغ من عنده حتى قدم على معاوية فقال في طريقه:
عَدَس مالعبّاد عليك إمارة
نجوتِ وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوّة الرّدى
إمام وحبل للأنام وَثِيق
سأشكر ما أوتيت من حسن نعمة
ومثلي بشكر المنعمين حقيق
فلما دخل على معاوية بكى، وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم على غير حدث ولا جريرة ... وبعد حوار مع معاوية قال له معاوية اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء، فانطلق وفي أي أرض شئت فانزل. فانزل الموصل، ثم إنه ارتاح إلى البصرة، فقدمها، ودخل على عبيد الله فآمنه (3). فقد كان معاوية رضي الله عنه يحرص على كسب الشعراء لصفه، والتحبب إليهم وإكرامهم وعدم محاولة الإساءة إليهم، فقد كانوا أقرب الشبه بالفضائيات في الوقت الحاضر.
9 ـ جهاز المخابرات: كانت الأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية في عهد معاوية قوية جداً، وكانت قدرتها على جمع المعلومات فائقة، وكان معاوية رضي الله عنه يشرف على جهاز المخابرات بنفسه وكان له جهاز سري مربوط به لمراقبة الولاة والرعية، فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير
_________
(1) المصدر نفسه (6/ 236).
(2) المصدر نفسه (6/ 236).
(3) تاريخ الطبري (6/ 238).(1/254)
جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، بل وصلت عيونه حتى في البلاط البيزنطي وإليك ما يدل على ذلك:
أـ إطلاعه على المراسلات التي بين الحسين وأهل العراق:
لما توفي الحسن بن علي اجتمعت الشيعة في دار سليمان بن صرد وكتبوا إلى الحسين كتاباً بالتعزية في وفاة الحسن: وقالوا في كتابهم: إن الله قد جعل فيك أعظم الخلق ممن مضى ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، والمسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك، فرد الحسين على
كتابهم: إني لأرجو أن يكون رأي أخي في الموادعة، ورأي في جهاد الظلمة رشداً أو سداداً، فالصقوا بالأرض وأخفوا الشخص، اكتموا الهوى، واحترسوا في الاضناء ما دام ابن هند حياً، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله (1)، ولقد أشارت تلك الرسائل المتبادلة بين الحسين وأهل الكوفة مخاوف بني أمية في المدينة، فكتبوا إلى معاوية يستشيرونه بشأن الحسين: فكتب إليهم بأن لا يتعرضوا له مطلقاً (2)، وكان معاوية على معرفة بتلك الرسائل والعلاقات الوثيقة التي تربط بين الحسين وبين الكوفيين، ولهذا فقد طلب معاوية من الحسين: أن يتق الله عز وجل وأن لا يشق عصا المسلمين ويذكره بالله في أمر المسلمين (3)، ولقد كان موقف الحسين واضحاً وإعلانه صراحة بقوله: إنا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل إلى نقض بيعتنا (4)، وظل الحسين رضي الله عنه ملتزماً ببيعته وطاعته طوال عهد معاوية (5)، رضي الله عنه.
ب ـ قصة معاوية مع المسور بن مخرّمة فقد صارح معاوية المسور وقال له: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة (6)، ففيه، معرفة معاوية لما يقول كبار الشخصيات في المجتمع الإسلامي فيه.
جـ ـ قصة الأسير المسلم عند البيزنطيين، الذي لطم وجه بين يدي ملك الروم وقوله الأسير: وا إسلاماه أين أنت يا معاوية، فوصل ذلك الخبر إلى معاوية (7)، هذه بعض الشواهد التي تدل على قوة جهاز المخابرات التابع للدولة الأموية.
_________
(1) أنساب الأشراف (3/ 152) مواقف المعارضة صـ179.
(2) المصدر نفسه (3/ 152) المصدر نفسه صـ179.
(3) المصدر نفسه (3/ 152) المصدر نفسه صـ180.
(4) الأخبار الطوال صـ220.
(5) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ469.
(6) سير أعلام النبلاء (3/ 151) إسنادها صحيح.
(7) الشهب اللامعة في السياسة النافعة 489.(1/255)
س ـ وضع بعض أتباع علي رضي الله عنه بالكوفة تحت المراقبة:
لم يدخل زياد في طاعة معاوية بسهولة وامتنع في بداية أمره على طاعته وتحصن ببلاد فارس واستطاع معاوية بعد أخذ ورد إقناع زياد في دخوله طاعته وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله وسأل زياد معاوية أن يسمح له في نزول الكوفة، فأذن له، فشخص إلى الكوفة، فكان المغيرة يكرمه ويعظمه، فكتب معاوية إلى المغيرة: خذ زياداً وسليمان بن صرد، وحجر بن عدي، وشَبَت بن ربعي، وابن الكواء، وعمر بن الحمق بالصلاة في الجماعة، فكانوا يحضرون معه في الصلاة (1)، فقد كان هذا إجراء احتياطياً من معاوية حتى يكون هؤلاء القوم تحت ناظري والي الكوفة باستمرار، وذلك أن
صلح الحسن ومعاوية يوجد له معارضون، ولا يستبعد التفافهم حول بعض رجالات علي ـ رضي الله عنه ـ حسماً منه لمادة الفتنة (2).
10 ـ الاهتمام ببناء الجيش الإسلامي:
كان لمعاوية بعد نظر سياسي تمثل في بناء جيش قوي منذ أن كان والياً على الشام وتمحور دور هذا الجيش في استتباب الأمن داخل الولاية ومن ثم القيام بعمليات توسع خارجية قبل وبعد نيله الخلافة (3) تمثلت في حركة الفتوحات في عصره وهذا سيأتي تفصيلها في محله بإذن الله تعالى.
11 ـ سياسة الموازنات: على الرغم من نفوذ الكلبيين في الدولة الأموية، فإن المعادلة لم تكن قائمة على التحالف الأموي ـ الكلبي، ولكنها اتخذت في عهد معاوية رضي الله عنه منحىً توازنياً ما بين كلب وفهر بصورة خاصة، وقحطان وقيس بصورة عامة، فإذا كان الكلبيون قد حملوا عبء الدفاع المسلح عن الدولة، مؤثرين الإقامة في جنوب الشام (جند الأردن)، فإن الفهريين كان لهم الدور السياسي والإداري البارز فضلاً عن الدور العسكري، حيث شارك زعيمهم الضحاك بن قيس في صفين، وكان بالإضافة إلى ذلك في طليعة الذين اعتمد عليهم معاوية في حضِّ الناس على البيعة ليزيد (4)، وقد ارتفع الضحاك في السياسة الأموية، وفي أعقاب الدور الأمني الذي شغله في عهد معاوية كقائد
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 458).
(2) مرويات خلافة معاوية صـ175.
(3) الدولة الأموية، د. فرست مرعي الدهوكي صـ64.
(4) الطبقات (6/ 22).(1/256)
على شرطته (1)، والدور السياسي في عهد يزيد، كعامل له على دمشق، مما هيأه من خلال هذا الموقع الهام، لدور أكثر خطورة بعد وفاة معاوية الثاني الذي أوصى بأن: يصلي الضحاك بالناس بدمشق (2)، وهكذا نجح مؤسس الدولة الأموية في الإمساك بزمام الأمور من خلال الموازنة بين القبائل الشامية الكبرى، كون أن يدع لأي منها مجالاً بأن تتجاوز حدودها المرسومة لها في الدولة، بما في ذلك القبيلة الكلبية الأثيرة. وقد اتسعت دائرة هذه السياسة، لتصبح ظاهرة من ظواهر عهد معاوية رضي الله عنه، حيث نجح معاوية في تحقيق التوازن المنشود داخل قريش (المهاجرة، وغير المهاجرة، فضلاً عن التوازن داخل الأسرة الأموية (بنو حرب، وبنو العاص) واحتواء الثقفيين بعد منحهم إدارة العراق الذي ارتبط تاريخه أو كاد بهذه الأسرة، إلى آخر هذه التوازنات المتقنة التي ضبطها معاوية رضي الله عنه (3).
12 ـ سياسته مع الأسرة الأموية:
لم يأت معاوية رضي الله عنه للخلافة بدعم مادي أو معنوي من الأسرة الأموية، وإنما أتاه من جبهة شامية قبلية متماسكة وقفت وراءه لذلك لم يكن لهذه الأسرة دور بارز في إدارة الدولة في عهده من الناحية الإدارية أو من الناحية العسكرية، نلاحظ ذلك من خلال استعراض أسماء ولاة وقادة معاوية الذين استعان بهم (4)، إلا أن معاوية لم يجاف أسرته جفاءً تاماً، بل استعان بأفراد منها واضعاً نصب عينيه هدفين:
أـ الاستعانة بالأكفاء منهم.
ب ـ الحيلولة دون ازدياد سلطانهم ونفوذهم بشكل يهدد مخططاته السياسية (5)، وقد استطاع معاوية تحقيق وحدة الصف الأموي بما كان يملك من صفات ومؤهلات قيادية فذة (6).
هذه هي أهم الوسائل التي اتخذها معاوية لتوطيد الأمن في دولته رضي الله عنه.
_________
(1) مؤتمر الجابية، إراهيم بيضون، جمهرة النسب ابن الكلبي (1/ 471).
(2) الطبقات (6/ 39) مؤتمر الجابية صـ35.
(3) مؤتمر الجباية صـ36.
(4) سيأتي الحديث عن اسمائهم بإذن الله عند التحدث عن الولاة.
(5) الدولة الأموية، فرست مرعي صـ179.
(6) المصدر نفسه صـ180.(1/257)
المبحث الثالث: حياة معاوية في المجتمع وإهتماماته العلمية:
أولاً: حياة معاوية في المجتمع:
1 ـ بين معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما:
قال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين ألست أنصح الناس لك؟ قال: بذلك نلتَ ما نلت (1).
2 ـ مشاجرة في مجلس معاوية:
عن جويرية بن أسماء، أن بسر بن أبي أرطاة نال من علي عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلاه بعصاً فشجعه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ من قريش سيد أهل الشام فضربته وأقبل على بسر فقال: تشتم علياً وهو جده وابن الفاروق على رؤوس الناس، أو كنت ترى أنه يصبر على ذلك ثم أرضاهما جميعاً (2).
3 ـ أنا أحق بهذا منك:
قال معاوية: ما من شيء أحب إلي من عين خرارة في أرض خوّارة فقال عمرو بن
العاص: ما من شيء أحب إلي من أن أبيت عروساً بعقيلة من عقائل العرب، فقال وردان مولى عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إليّ من الإفضال على الأخوان فقال معاوية: أنا أحق بهذا منك، قال: ما تحب فافعل (3).
4 ـ نعي إلى نفسي:
كان عامل معاوية على المدينة إذا أراد أن يبرد بريداً إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة يكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب زِرّ بن حبيش ـ أو أيمن بن خُريَم ـ كتاباً لطيفاً ورمى به إلى الكتب وفيه:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعْضادُها
وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قد دنا حصادها
فلما وردت الكتب عليه فقرأ هذا الكتاب، قال: نعى إلي نفسي (4).
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 253).
(2) المصدر نفسه (6/ 253).
(3) المصدر نفسه (6/ 254).
(4) المصدر نفسه (6/ 254).(1/258)
5 ـ نصيحة معاوية لشاعر من بني أمية:
قال معاوية رضي الله عنه، لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص: يا ابن أخي، إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعُرّ الشريفة (1)، والهجاء فتعر كريماً، وتستثير لئيماً، والمدح، فإنه طعمه الوّقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك (2).
6 ـ لا تقل داري في البصرة، ولكن قل: البصرة في داري:
ذكر أن رجلاً سأل معاوية أن يساعده في بناء دار باثني عشر ألف جذع من الخشب. فقال له معاوية: اين دارك؟ قال بالبصرة. قال: وكم اتساعها؟ قال: فرسخان في فرسخين: قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري (3)
7 ـ علمت أن أكله سيُورِثه داءً:
ذكر أن رجلاً دخل بابن معه، فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلاً ذريعاً، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدُّخول، فقال له معاوية: أين ابنك التِّلقامة (4)؟ قال: اشتكى. قال: قد عملت أن أكله سيورثه داء (5).
8 ـ وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي:
روي أن معاوية قال للأعرابي: ارفع الشعرة من لقمتك فقال: وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي، والله لا أكلت معك طعاماً (6).
9 ـ إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من فيها:
نظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة، فجعل يزدريه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من فيها (7).
10 ـ يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك:
تزوج عبد الله بن عامر هند بنت معاوية، فلمّا أدخلت عليه بالخضراء، أرادها عن نفسه فتمنَّعت عليه وأبت أشد الإباء فضربها فصرخت، فلمّا سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهنّ،
_________
(1) عرّه: اساء إليه وساءه.
(2) تاريخ الطبري (6/ 254).
(3) البداية والنهاية (11/ 453).
(4) التلقام، والتلقامة: كبير اللُّقم.
(5) البداية والنهاية (11/ 453).
(6) المنتخب والمختار صـ559.
(7) المصدر نفسه (11/ 453).(1/259)
فسمع معاوية فنهض إليهنّ، فاستعلمهن ما الخبر، فقلن: سمعنا صوت سيدتنا فصِحنا. فدخل فإذا هي تبكي من ضربه، فقال لابن عامر: ويحك مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة؟ ثم قال له: اخرج من ههنا، فخرج وخلا بها معاوية فقال لها: يا بُنَّيةُ، إنه زوجك الذي أحله الله لك، أو ما سمعتِ قول الشاعر:
من الخَضِرات (1) البيض أمّا حرامها ... فصعب وأمّا حِلُّها فذلول
ثم خرج معاوية من عندها، وقال لزوجها: أدخل فقد مهدت لك خُلُقها ووطَّأته، فدخل ابن عامر، فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها (2) رحمهم الله تعالى.
11 ـ هل يصح قول معاوية: إن الكريم طروب:
عن محمد بن عامر، قال: لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء، فدخل يوماً على معاوية ومعه بُديح (3)، ومعاوية واضع رجلاً على رجل، فقال: عبد الله لبديح: أيها (4) يا بديح، فتغنى، فحرك معاوية رجله، فقال عبد الله: مه يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: إن الكريم طروب (5)، هذا الخبر أورده البلاذري (6) بنحوه، وأورده ابن عبد ربه (7)، مع بعض
الزيادات المنكرة (8) وهذه الرواية الضعيفة يردها ما أخرجه الطبراني بإسناد حسن، من طريق كيسان مولى معاوية قال: خطب معاوية الناس فقال: يا ايها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن، النوح، والشَّعر، والتبرُّج، والتصاوير، وجلود السباع، والغناء، والذهب، والحِرُّ والحرير (9)، وكان رضي الله عنه ـ ينهي عن الاستماع إلى الغناء وينكر ذلك على من يعرف به، وكان عامله على المدينة بن الحكم شديداً على أهل الدعارة والفسوق، فكانوا يهربون من المدينة أثناء ولايته (10).
_________
(1) الخضرات: جمع خَضِرة من الخضر وهو شدة الحياء.
(2) البداية والنهاية (11/ 464).
(3) بديح المليح، من موالي عبد الله بن جعفر.
(4) إيه: كلمة استزادة واستنطاف الفيروز أبادي القاموس 1604.
(5) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ82.
(6) أنساب الأشراف (4/ 27) مرويات خلافة معاوية صـ83.
(7) العقد الفريد (6/ 21، 22) مرويات خلافة معاوية صـ83.
(8) مرويات خلافة معاوية صـ83.
(9) المعجم الكبير (19/ 373) إسناده حسن.
(10) الدولة والمجتمع في العصر الأموي صـ94.(1/260)
12 ـ قضاء ديون السيدة عائشة رضي الله عنه:
كان معاوية رضي الله عنه يهتم بالسيدة عائشة ويقضي عنها ديونها، فعن سعيد بن عبد العزيز، قال: قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشرة ألف دينار (1). وقال عروة: بعث معاوية مرةً إلى عائشة بمائة ألف، فوالله ما أمْست حتى فرَّقتها (2)
13 ـ الاهتمام بحوائج الناس:
كان معاوية رضي الله عنه يشفق علىنفسه أن يكون احتجابه أحياناً عن المسلمين ذنباً يحاسب عليه، فلما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره، جعل معاوية على حوائج الناس رجلاً يبلغه بها، كي لا يغيب عنه شيء منها (3)، وكان عامله علىالمدينة إذا أراد أن يبرد بريداً إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة، يكتب إلى أمير المؤمنين (4).
14 ـ تأثر معاوية رضي الله عنه بموت الصالحين:
حين توفي ابن لعتبة بن أبي سفيان وجاء ناس إلى معاوية يعزونه فيه قال: إن موت غلام من آل أبي سفيان قبضه الله، ليس بمصيبة، إنما المصيبة كل المصيبة لموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري (5).
15 ـ اهتمام معاوية بالمساجد والعيون:
اهتم معاوية بن أبي سفيان بالمسجد الحرام وأمر بتوسعته وأجرى له القناديل والزيت من بيت المال وأضاء المصابيح فيه لأهل الطواف، واهتم بالمسجد الأقصى، وقام مسلمة بن مخلد أمير مصر من قبل معاوية بالزيادة في المسجد الجامع بالفُسطاط عام 53 هـ وطلا جدرانه بالجص وزخرف بنيانه وبنى له أربع منارات شامخة وفرشه بالحصير. وأخذ أهل مصر ببيان المنارات للمساجد، وأمر المؤذنين أن يكون أذانهم في الليل في وقت واحد (6)، ووسع المغيرة بن شعبة المسجد الجامع بالكوفة، ثم قام زياد بن أبيه فبناه وزاد فيه وأحكمه وفرشه بالحصى، وكان يقول: أنفقت على كل أسطوانة من أساطين مسجد الكوفة ثماني
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 154).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 154).
(3) الدولة الأموية حمدي شاهدين صـ273، نقلاً عن البداية والنهاية.
(4) تاريخ الطبري (6/ 254).
(5) تاريخ دمشق (1/ 227) نقلاً عن اثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ53.
(6) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ347.(1/261)
عشرة مئة درهم واتخذ فيه مقصورة جدّدها خالد بن عبد الله القسري في اثناء ولايته على العراق، ثم قام عبيد الله بن زياد وزاد في المسجد الجامع وفرشه بالحصى (1)، وزاد زياد بن أبيه في المسجد بالبصرة زيادة كبيرة، وبناه، بالآجر والجص واستعمل الأساطين في البناء، وسقفه بالساج وبنى منارته بالحجارة، وبنى في البصرة المساجد الكثيرة، ثم قام عبيد الله بن زياد فزاد في المسجد الجامع (2)، واهتم معاوية بالمرافق العامة في الدولة الإسلامية، وحرص على توفير مياه الشرب في المدينة، وأجرى في الحرم المكي عيوناً (3) وأنشأ آبار المياه على الطرقات، فربط بين أجزاء مملكته ربطاً محكماً (4).
16 ـ سباق الخيل في عهد معاوية رضي الله عنه:
ويعد معاوية رضي الله عنه من أوائل الخلفاء الذين أرسوا تقاليد سباقات الخيل في تاريخنا الإسلامي حيث كان يقيم سباق الخيل في دمشق، حيث يشترك فيه فرسان من جميع أطراف الدولة، وكان هؤلاء يدخلون الحلبة وهم يقولون الشعر في الفخر بأنفسهم وخيلهم، وعند انتهاء السابق كان الخليفة يقدم جوائز ثمينة للفائزين (5).
17 ـ اطعام الحجاج والصائمين:
جعل أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه دار المراجل بمكة، والتي كان يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام الصائمين من الفقراء في شهر رمضان المبارك (6) وقفاً في سبيل الله.
18 ـ الله أقدر عليك منك عليه:
رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاماً له فقال له: أعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك!! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع منك؟ والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الإحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر (7). فهذا توجيه سديد من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه لابنه
_________
(1) المصدر صـ347، فتوح البلدان صـ399 ـ 340.
(2) فتوح البلدان صـ426، 427، دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ348.
(3) أخبار مكة (2/ 227) الأزرفي، دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ341.
(4) الخلافة الأموية، عبد المنعم الهاشمي صـ25.
(5) التربية والثقافة العربية الإسلامية في الشام والجزيرة خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة بالاستناد إلى مخطوط تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر صـ94، الرفق بالحيوان د. سلامة الهرفي صـ49.
(6) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ26.
(7) البداية والنهاية (نقلاً عن التاريخ الإسلامي (17/ 23).(1/262)
يزيد نحو التخلق بهذا الخلق الكريم. العفو عند المقدرة، هذا الخلق الذي يعتبر من أهم عناصر السيادة وسياسة الأمة، ولقد ذكَّره بقدرة الله جل وعلا عليه ليحطَّ من تعاظمه بنفسه وليخشى الله سبحانه فيمن هم تحت يده (1)
ثانياً: اهتماماته العلمية:
كان معاوية رضي الله عنه يشجع الولاة والعلماء وأبناء الأمة على إيجاد نهضة ثقافية حضارية، وشهد عصره نهضة في التفسير وعلوم القرآن والفقه والعقيدة، وتأالق فيه نجم عديد من العلماء الذين ظل المسلمون بعد ذلك يأخذون من علومهم ويستشهدون بأقوالهم واجتهاداتهم، كابن عباس وأبي هريرة، وابن عمر، وغيرهم وكانت العلوم الرئيسية هي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه واللغة العربية واهتم معاوية رضي الله عنه بغيرها من العلوم أيضاً منها:
1 ـ اهتمام معاوية بالتاريخ: كان معاوية رضي الله عنه الراعي الذي عمل على أول تدوين باللغة العربية للتاريخ بمعناه العام لا على أنه المغازي النبوية وقصص الأنبياء، ولا على أنه الأنساب , وأيام العرب، ولكن على أنه تاريخ الأمم السالفة، وسير الملوك والحروب وأنواع السياسات مما هو جدير بالقراءة على الملوك (2)، فقد كان ينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد، فيقرأ ذلك غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جملة من الأخبار والآثار وأنواع السياسات (3)، وقد استدعى معاوية عبيدة بن شرية وهو أحد علماء التاريخ البارزين في بلاد اليمن إلى دمشق وسأله عن أخبار القدماء وملوك العرب والعجم وأمر معاوية كتّابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيد الله بن شربة كتاب الأمثال وكتاب الملوك وأخبار الماضين (4)، ولم يكن عبيدة هذا هو العالم الوحيد الذي استقدمه معاوية إلى دمشق فكتب عنه روايات
_________
(1) التاريخ الإسلامي (17/ 24).
(2) الدولة الأموية، حمدي شاهين صـ454، التاريخ العربي (1/ 95).
(3) مروج الذهب (2/ 41) الدولة الأموية حمدي صـ455.
(4) المصدر نفسه (2/ 85) المصدر نفسه صـ455، التعليم في العصر الأموي صـ117 انتصار السبتي.(1/263)
وصيرها كتباً، بل أن كثيراً من الأخباريين أهل الدراية
بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين وفدوا على معاوية أيضاً (1)، والدرس البالغ الأهمية يظهر في أهمية التاريخ للساسة والحكام والملوك والزعماء، فالسياسي المستوعب لحركة التاريخ وسننه ينجح في ميدان عمله أكثر من غيره، فهناك علاقة متينة بين التاريخ والسياسة.
2 ـ اهتمام معاوية بالشعر واللغة:
كان معاوية رضي الله عنه يدرك أهمية الشعر تواقاً له ولم يغب عن حسه أهميته في الدعاية السياسية للدولة، وكان يهتم بتربية أبنائه وأبناء أخيه على تعلم ومعرفة وتذوق الشعر، فقد كتب إلى زياد أن أوفد إلي ابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، فقال له: ما منعك من تعلم الشعر، فقال: يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان، فقال معاوية: اغرب؟ فوالله ما منعني في الفرار يوم صفين إلا ابن الاطنابة حيث قال:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مالي ... وإقدامي على البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي (2)
ثم كتب إلى أبيه أن روه الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه شيء منه (3)، وكان معاوية رضي الله عنه يتمثل بهذه الأبيات كثيراً:
فما قتل السفاهة مثل حلم ... يعود به على الجهل الحليم
فلا تسفه وإن مُلِّئت غيطاً ... على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم (4)
_________
(1) التاريخ العربي والمؤرخون (1/ 95)، الدولة الأموية، حمدي شاهين صـ455.
(2) البداية والنهاية (11/ 426).
(3) الدولة الأموية المفترى عليها صـ457.
(4) البداية والنهاية (11/ 442).(1/264)
ومن اهتمام معاوية بالشعر حفظه له، فقد دخل ذات يوم على معاوية في مجلسه ابن أبي محجن الثقفي فقال له معاوية: أبوك الذي يقول:
إذا مت فادفني إلى جنب كَرْمة ... تُرَوِّى عظامي بعد موتي عُرُوقُها
ولا تدفننَّي بالفلاة فإنَّني ... أخاف إذا مامت أن لا أَذُوقها
فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرتُ أحسن من هذا من شعره قال: وما ذاك؟ قال: قوله:
لا تسأل الناسَ: مالي وكثرته ... وسائل القوم ما حزمي وما خلقي
القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تَطِيش يد الرِّعديده الفَرِق
قد أركب الهوْل مسدولاً عساكره ... وأكتُم السرَّ فيه ضربةُ العُنُقِ
وهو القائل:
إن يكن ولىَّ الأمير فقد ... طاب منه النَّجْلُ والأثرُ
فيكم مستيقظ فَهِمٌ ... قُلْقُلانٌ حَيَّةٌ ذكرُ
أحمد الله إليك فما ... وصلة إلا ستنبترُ (1)
وكان الشاعر مسكين الدارمي من المقربين من معاوية وابنه، فقد سأل معاوية عنه عطارد بن حاجب، وقال له: ما فعل الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان ـ يعني مسكيناً؟ فقال: صالح يا أمير المؤمنين، قال: أعلمه أني قد فرضت له فله شرف بالعطاء وهو في بلاده، فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل، فإنّ عطاءه سيأتيه، وبشرّه بأن قد فرضت لأربعة آلاف من قومه من خِنْدِف (2)، وهذا الشاعر هو القائل في معاوية رضي الله عنه:
إليك أمير المؤمنين رحلتها ... تُثير القطا ليلاً وهن هُجُود
على الطائر الميمون والجدّ صاعد ... لكل أناس طائر وجدود
إذا المنبر الغربي خلّى مكانه ... فإن أمير المؤمنين يزيد (3)
_________
(1) الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 424).
(2) تاريخ دمشق (20/ 39، 40).
(3) الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 544).(1/265)
ويقال أن معاوية أمر مسكين الدارمي أن ينظم قصيدة في البيعة ليزيد وبعد أن أنشد قصيدته وكان بنو أمية واشراف الناس حاضرين لم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة ... ثم وصله يزيد ووصله معاوية فاجزلا صلته (1)، ويعتبر مسكين الدرامي من شعراء عهد معاوية وممن ترك أبيان جميلة منها قوله:
وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ... فهناكم وافق الشن الطبق
إنما الفُحُش ومن يعتاده ... كغراب السَّوءِ ما شاء نعق
أو حمار السوءِ إن أشبعته ... رمح الناس وإن جاع نهق
أو غلامِ السوءِ إن جوعته ... سرق الجار وإن يُشبع فسق
أو كَغَيْرى رَفَعَتْ من ذَيْلِها ... ثم أَرخَته ضِراراً فامَّزَق
أيها السائلُ عن منَّ قد مضى ... هل جديد مثل ملبوس خَلَقْ (2)
وهو القائل:
ناري ونارُ الجار واحدة ... وإليه قبلي تُنَزَل القِدْرُ
ما ضرَّ جاراً لي أُجاورُهُ ... أَلاَّ يكون لبابه سترُ
أعمى إذا ما جارتي برزت ... حتي يغيب جارتي الخدر (3)
وكان معاوية رضي الله عنه يستنكر اللحن فحين أرسل زياد بن أبيه والي العراق ابنه عبيد الله إلى معاوية بن أبي سفيان لحن في كلامه، فكتب إليه معاوية: إن ابنك كما وصفت ولكن قوِّم من لسانه (4)، ولما ارتفع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث، فقال: أنّ أبونا لما مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله. فأفأ زياد فقال: الذي أضعت من لسانك أضرُّ عليك مما أضعت من مالك (5)، وقد برز في البصرة في عهد معاوية كثير من النحويين فكان أبو الأسود الدؤلي أول من وضع أساس
_________
(1) الأغاني للأصفهاني نقلاً عن الحياة العلمية في العراق صـ110.
(2) الشعر والشعراء (1/ 544).
(3) المصدر نفسه (1/ 545).
(4) البيان والتبيين (2/ 210) الحياة العلمية في العراق.
(5) البيان والتبيين (2/ 222).(1/266)
النحو في البصرة وكان أول من استَنَّ العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، فكان سراة الناس يلحنون ووجوه الناس، فوضع باب الفاعل، والمفعول به، والمضاف، وحرف الجر والرفع والنصب والجزم (1)، وألف كتاباً في النحو (2) وكان شاعراً، ومن أشهر أبياته قوله:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
تصف الدواء لذي السقام ... وذي الظنا كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبداً وأنت من الرشاد عديم
إبدأ بنفسك فانهَها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه، فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويهتدي ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم (3)
وله في الزهد المبرأ من الكسل كقوله:
وإذا طلبت من الحوائج حاجة ... فادع الإله وأحسن الأعمال
فليعطينك ما أراد بقدرة ... فهو اللطيف لما أراد فعالا
ودع العباد وشأنهم وأمورهم ... بيد الإله يقلّب الأحوال (4)
3 ـ اهتمام معاوية بالعلوم التجريبية:
ورثت الدولة الأموية علوم الأعاجم من الفرس والروم بعد انهيار دولتهم، وكان لابد ـ للإفادة من ذلك التراث ـ من ترجمته ونقله إلى العربية بعد أن غدا: تراثاً تقليدياً تداولته أيدي الشارحين والمحترفين ممن أجادوا اليونانية أو السريانية (5)، وقد كان بعض هذه الترجمات حافزاً على الاهتمام بالعلوم التجريبية وربما العكس صحيحاً أحياناً .. ومعلوم أن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير تعجز عنه
_________
(1) طبقان النحويين صـ21 الزبيدي، الحياة العلمية في العراق صـ104.
(2) الشعر والشعراء (2/ 729).
(3) الأدب الإسلامي وتاريخه (2/ 17) عابد الهاشمي.
(4) المصدر نفسه (2/ 17)، ديوان أبي الأسود الدؤلي.
(5) تاريخ سوريا، فيليب حتى، (1/ 132) الدولة الأموية شاهين صـ459.(1/267)
إمكانات الأفراد العاديين، ولذا فقد وقف الأمويون يشجعون على ذلك حتى تحققت أعمال جيدة على نحو ما سنرى بإذن الله ـ كانت بدياتها من عهد معاوية فقد كان سباقاً إلى رعاية العلوم وأهلها فأنشأ بيتاً للحكمة: أي مركز للبحث ومكتبة، واستمر المروانيون يعنون بهذا البيت حتى في أسفارهم وحروبهم يسألون عنه ويهتمون به (1)، ويشير بعض المؤرخين إلى دور ابن أثال النصراني طبيب معاوية في نقل بعض معارف الطب إلى العربية (2)، على أن بداية الجهود الحقيقية في الترجمة بدأت مع خالد بن يزيد أول من عني بنقل الطب والكيمياء إلى العربية، فقد أمر بإحضار جماعة من اليونانيين ممن درسوا بمدرسة الأسكندرية في مصر وتفصحوا بالعربية كذلك، فطلب منهم نقل كثير من الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي، وكان هذا أول نقل في الإسلام (3)،
كما طلب منهم أن يترجموا كتب جالينوس في الطب، فوضع بذلك أساس العلوم الطبية وهو أول من أعطى الترجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء كل صنعة، وترجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء، والحروب والآلات والصناعات، وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة الإسلام، ففي دمشق إذن أنشئت أول دار للكتب في العالم الإسلامي (4). وقد ظهرت دلائل كثيرة تدل على تزايد عدد المشتغلين في الطب في عهد معاوية بحيث أصبحت النسبة طبيب لكل 534 خمسمائة وأربع وثلاثين فرداً وهذه النسبة تمّ أخذها مما أورده ابن كثير من أن زياد بن أبيه والي البصرة حينما طعن في يده جمع مائة وخمسين طبيباً ليداووه (5)، وكان عدد سكان البصرة ثمانين ألفاً تقريباً (6).
_________
(1) الدولة الأموية، يوسف العش صـ348.
(2) عيون الأبناء في طبقات الأطباء صـ1717 ابن أبي أصيبعة.
(3) الدولة الأموية، حمدي شاهين صـ460 ..
(4) خطط الشام (4/ 23 ـ 24)، الدولة الأموية حمدي شاهين صـ460.
(5) البداية والنهاية (11/ 261).
(6) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ255.(1/268)
المبحث الرابع: الخوارج في عهد معاوية:
عرف الخوارج بهذا الإسم بعد التحكيم في معركة صفين، وكانوا قبلها من أشد أنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحضروا مع موقعة الجمل وصفين، ولكنهم أنشقوا عليه بعدها، ورفضوا التحكيم، وحاول علي إقناعهم وردهم إلى الجماعة ولكنهم تشبثوا بموقفهم، وبالغوا في شقاقهم وتطرفوا، حتى عاثوا في الأرض فساداً، مما جعل علياً يقاتلهم ويقض على معظمهم في معركة النهروان، وهم لا يرضون عن تسميتهم خوارج، لأن هذه التسمية أطلقها عليهم خصومهم لخروجهم على الإمام، وعلى جماعة المسلمين، أما هم فيسمون أنفسهم الشراة، لأنهم باعوا أنفسهم لله تعالى، على أن لهم الجنة يبشرون بذلك إلى قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... )) (التوبة، الآية: 111). ويسمون المحكمة، لأنهم قالوا: لا حكم إلا لله، وكان يطلق عليهم أيضاً الحرورية، نسبة إلى قرية حروراء التي انحازوا إليها بظاهر الكوفة لأول خروجهم على علي (1)، ولما كان سبب خروجهم هو قبول علي التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، فقد صاغوا لأنفسهم نظرية في الخلافة تقوم على مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة (2)، المبدأ الأول أن الخلافة ليست وقفاً على قريش كما يذهب أهل السنة (3)،
بل تجوز لكل مسلم يكون أهلاً لها حتى ولو كان عبداً حبشياً، ويجب أن يكون الخليفة باختيار حر من المسلمين، وأنه إذا تم اختياره لا يصح له أن يتنازل عنها، أو يقبل التحكيم، وفي ضوء هذا المبدأ اعترفوا بخلافة أبي بكر وعمر، أما عثمان فقد اعترفوا بخلافته في شطرها الأول، ثم تبرؤوا منه وكفروه في بقية عهده، وأما علي فقد اعترفوا بخلافته من بدايتها إلى أن قبل التحكيم، وبعد قبوله التحكيم لم يعترفوا بخلافته بل كفروه (4)، وكذلك لم
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ454.
(2) النظريات السياسية الإسلامية، محمد ضياء صـ57.
(3) الدولة الأموية في المشرق، محمد النجار صـ87 ..
(4) مقالات الإسلاميين (1/ 156، 89).(1/269)
يعترفوا بخلافة معاوية وبني أمية (1)، وكفروهم، كما كفروا عائشة وطلحة والزبير وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري. وعلى الجملة كفروا كل من لم ير رأيهم ويذهب مذهبهم من المسلمين، واعتبروا دارهم دار كفر، وأباحوا أموالهم ودماءهم، حتى قتل أطفالهم (2).
المبدأ الثاني الذي قامت عليه نظرية الخوارج، هو وجوب الخروج على الإمام الجائر (3)، وهنا وجوه الخطورة في حركتهم كلها، فلو اقتصروا على الخلاف النظري في الرأي، أو الجدال بالحجة والبرهان، لكان الأمر أهون، ولكنهم شهروا السلاح في وجه مخالفيهم، بدءاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحاولوا فرض آرائهم ومذهبهم بالقوة، وكما تطرفوا إلى أبعد حد في الرأي والمذهب، فقد تطرفوا في اللجوء إلى القوة والعنف، وكبدوا الأمة وأنفسهم خسائر فادحة، وعكروا صفو الدولة الأموية، وكانوا من أشد مناوئيها (4)، وقد تحدثت عن الخوارج بنوع من التفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شخصيته وعصره (5)،
ذكرنا قبل قليل أن خطورة حركة الخوارج تكمن في لجوئهم إلى الثورة والعنف، ولشدة إيمانهم بمبادئهم فقد ضحوا في سبيلها بأرواحهم وأبدوا كثيراً من ضروب الشجاعة والإقدام في حروبهم مع الدولة الأموية، وكانوا أشبه بالفرق الانتحارية، فكثيراً ما كانت أعداد قليلة منهم تهزم جيوشاً جرارة للدولة، ولو أن هذه الشجاعة والإقدام والتضحية اتجهت اتجاهاً سليماً، ووحد الخوارج جهودهم مع جهود الدولة في محاربة أعداء الإسلام لربما تغير وجه التاريخ الإنساني كله بشكل جذري، والحقيقة أنهم لم يكونوا طلاب دنيا، ولم يجروا وراء المادة، وإنما أخلصوا للفكرة التي آمنوا بها وملكت عليهم جوانب حياتهم (6)، وأفنوا أنفسهم، وكلفوا الأمة الكثير من الجهد والوقت والمال والأرواح، وإذا كان الخوارج قد خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكفروه وحاربوه، فسيكون موقفهم من الدولة الأموية أعنف وبغضهم لها أشد، فقد شهروا السلاح في وجهها من أول لحظة فثاروا على معاوية رضي الله عنه قبل أن يغادر الكوفة عام 41 هـ (7)
_________
(1) الدولة الأموية في المشرق صـ87.
(2) مقالات الإسلاميين (1/ 159، 189).
(3) النظريات السياسية الإسلامية صـ57.
(4) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ455.
(5) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي صـ633 ..
(6) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ458.
(7) المصدر نفسه صـ458، تاريخ خليفة صـ203 ـ 204.(1/270)
أولاً: حركات الخوارج في الكوفة:
1 ـ حركة فروة بن نوفل الأشجعي:
قال الطبري في حادث عام 41 هـ: وفيها خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام علي عليه السلام بشهرزور (1) على معاوية (2)، وقال: حدثت عن زياد، عن عوانه، قال: قدم معاوية قبل أن
يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة، فقالت الحرورية (3)، الخمسمائة التي كانت اعتزلت بشهرزور مع فروة ابن نوفل الأشجعي: قد جاء الآن مالا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفة، فأرسل إليهم معاوية خيلاً من خيل أهل الشام، فكشفوا أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: لا أمان لكم والله عندي حتى تكفوا بوائقكم، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم، فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون منا، أليس معاوية عدونا وعدوكم، دعونا حتى نقاتله، وإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم كفيتمونا، قالوا: لا والله حتى نقاتلكم، فقالوا: رحم الله إخواننا من أهل النهر (4)، هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، وأخذت أشجع صاحبهم فروة بن نوفل ـ وكان سيد القوم ـ واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحر (5) ـ رجلاً من طيء ـ فقاتلوهم فقتلوا (6). وفروة بن نوفل الأشجعي هو القائل قبيل معركة النهروان: والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً، لا أرى إلا أن انصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو أتباعه، وانصرف في خمسمائة فارس (7).
وذكر ابن حجر رواية هامة تبين موقف معاوية رضي الله عنه من الخوارج بعد توليه الخلافة، وفيما يلي نص رواية ابن حجر: ... فرجع الناس فبايعوا معاوية ولم يكن
_________
(1) شهرزور: كورة واسعة تقع بين إربل وهمذان، أهلها أكراد، وهي في العراق اليوم: معجم أماكن الفتوح صـ741.
(2) تاريخ الطبري (6/ 81).
(3) الحرورية: هم الخوارج، وحروراء قرية بظاهر الكوفة نزل فيها الخوارج الذين خالفوا عليا رضي الله عنه، فنسبوا إليها معجم البلدان (2/ 245).
(4) تاريخ الطبري: (6/ 81).
(5) كان ممن اعتزل قتل علي يوم النهروان أنساب الأشراف (4/ 164).
(6) تاريخ (4/ 164).
(7) مرويات خلافة معاوية صـ182 نقلاً عن تاريخ الطبري.(1/271)
لمعاوية هَمُّ إلا الذين بالنهروان (1)، فجعلوا يتساقطون عليه فيبايعونه، حتى بقي منهم ثلاثمائة أو نيف (2)، وهم أصحاب النخيلة (3).
2 ـ حركة المستورد بن عُلَّفة التميمي: (4) تحدث الطبري في تاريخه عن حركة المستورد بن عُلَّفة التميمي بإسهاب وتفصيل بعكس أكثر المصادر التي تناولت هذا الحدث، حيث تحدث خليفة (5) بن خياط عن هذه الحركة باختصار شديد، وقد أطال الطبري الحديث عن حركة المستور بن عُلَّفة التيمي، ولعل ذلك
إشارة منه لأهميتها وأهمية هذه الحركة تعود إلى كون أصحابها بمثلون الامتداد الطبيعي لفكر خوارج النهروان الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، إذ أن معظم المنتسبين إلى هذه الحركة كانوا في خندق واحد في معركة النهروان، وهذا الأمر هو الذي دفع المغيرة بن شعبة والي الكوفة إلى اللجوء إلى أنصار علي رضي الله عنه، وخاصة الذين شاركوا في معركة النهروان من أمثال معقل بن قيس الرياحي الذي كان أحد قادة علي يوم النهروان (6)، وتكليفه قيادة الحملة المتوجهة لقتال الخوارج، لأن أنصار علي رضي الله عنه هم أخبر الناس بالخوارج وأشدهم عليهم وما جاء من مرويات في تاريخ الطبري قدمت لنا تفاصيل هامة عن الحدث: منها:
أـ موقف الخوارج من استشهاد علي رضي الله عنه، ويستفاد هذا من قول الخوارج: .. لا يقطع الله يميناً علت قذاله (7) بالسيف قال: فأخذ القوم يحمدون الله على قتله (8).
ب ـ أسباب خروجهم على جماعة المسلمين: ويستفاد هذا من قول الخوارج: فلنأت إخواننا فلندعهم إلى أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسُنَّة الهدى متروكة، وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا، ولنا بأسلافنا أسوة (9).
_________
(1) أي الخوارج.
(2) النيف: من واحد إلى ثلاثة، القاموس المحيط صـ111.
(3) سمو بذلك لأنهم قتلوا في النخيلة، معجم البلدان (2/ 185)
(4) تاريخ الطبري (6/ 87 إلى 92).
(5) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ189.
(6) المصدر نفسه صـ190.
(7) القذال: مؤخرة الرأس: القاموس المحيط 774.
(8) تاريخ الطبري (6/ 88).
(9) تاريخ الطبري (6/ 89).(1/272)
جـ ـ سياسة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مع الخوارج: ويستفاد هذا مما يلي: وأحسن في الناس السيرة، ولم يفتش أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يؤتي ويقال له: إن فلاناً يرى رأي الشيعة، وإن فلاناً يرى رأي الخوارج، وكان يقول: قضي الله ألا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون (1). وقال المغيرة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة علي، فأخرجهم مع معقل بن قيس، فإنه كان من رؤوس أصحابه، فإذا بعثت بشيعته الذي كانوا يعرفون فاجتمعوا جميعاً، استأنس بعضهم ببعض وتناصحوا، وهم أشد استحلالاً لدماء هذه المارقة، وأجرأ عليهم من غيرهم، وقد قاتلوا قبل هذه المرة (2). قال المغيرة: يا معقل بن قيس، إني قد بعثت معك فرسان أهل مصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخاباً، فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في
الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم، واستعن بالله عليهم (3).
س ـ حركة حيان بن ظبيان السلمي: كانت هذه الحركة عام 58 هـ وكانت في ولاية عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، ففي أثناء ولايته خرجت الطائفة الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم في السجن من الخوارج الذين كانوا بايعوا المستورد بن علفة، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات خرجوا من السجن (4)، وقام بحركة مضادة للخلافة وكان رئيسهم حيان بن ظبيان السُّلَمِّي، فبعث إليهم والي الكوفة جيشاً فقتلوا الخوارج جميعاً (5).
ثانياً: حركات الخوارج في البصرة:
1 ـ حركة يزيد الباهلي وسهم الهجيمي:
في عام 41 هـ خرج في ولاية عبد الله بن عامر لمعاوية، يزيد بن مالك الباهلي، وخرج معه سهم بن غالب الهجيمي، فأصبحوا عند الجسر، فوجدوا عبادة بن قرص الليثي أحد بني بجر ـ وكانت له
_________
(1) المصدر نفسه (6/ 89).
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن مرويات خلافات معاوية في تاريخ الطبري صـ192 (تاريخ الطبري (6/ 105).
(3) تاريخ الطبري (6/ 106).
(4) تاريخ الطبري (6/ 326).
(5) البداية والنهاية (11/ 313).(1/273)
صحبة ـ يصلي عند الجسر، فأنكروه فقتلوه ثم سألوا ابن عامر الآمن فآمنهم وكتب إلى معاوية قد جعلت لهم ذمتك، فكتب إليه معاوية: تلك ذمة لو أخفرتها لا سُئلت عنها، فلم يزالوا آمنين حتى عزل ابن عامر (1). وفي عام 46 هـ خرج سهم الهجيمي والخطيم وهو يزيد بن مالك الباهلي لما تولى زياد، فأما سهم فخرج إلى الأهوار فأحدث وحكَّم ثم رجع فاختفى وطلب الأمان، فلم يؤمنه زياد حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه وأما الخطيم فإن زياداً سيره إلى البحرين، ثم أذن له فتقدم، فقال له: الزم مصرك، وقال لمسلم بن عمرو الباهلي (2): أضمنه، فأبى وقال: إن بات عن بيته أعلمتك، ثم أتاه مسلم فقال: لم يبت الخطيم الليلة في بيته فأمر به فقتل، وألقي في باهلة (3)
2 ـ حركة قريب الأزدي وزحاف الطائي:
في عام 50 هـ خرج قريب الأزدي وزحّاف الطائي بالبصرة وهما ابنا خالة، وزياد بالكوفة وسمرة (4) على البصرة، فأتيا بني ضُبيعة، وهم سبعون رجلاً، وقتلوا منهم شيخاً، وخرج على قريب وزحّاف شباب من بني علي وبني راسب فرموهم بالنَّبل، وقتل عبد الله بن أوس الطاحيّ قريباً وجاء برأسه واشتد زياد على المنبر فقال: يا أهل البصرة والله لتكفُننّي هؤلاء أو لأبدأنّ
بكم، والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم (5).
3 ـ خبر عروة بن أُدية الخارجي:
في سنة 58 هـ اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم صبراً جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل، منهم صبراً عروة بن أديَّة أبي بلال مرداس بن أدية (6)، وكان سبب قتله أن ابن زياد قد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة، فأقبل على ابن زياد يعظه، وكان مما قال له: ((أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)) (الشعراء، الآيات: 128 ـ 130).
_________
(1) الكامل (2/ 454).
(2) عمرو الباهلي والد قتيبة الفاتح الكبير.
(3) الكامل (2/ 477).
(4) سمرة بن جندب الفراري صحابي مات بالبصرة سنة 58 هـ الاستيعاب (2/ 653).
(5) الكامل في التاريخ (2/ 482).
(6) تاريخ الطبري (6/ 230).(1/274)
فلمّا قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يقل ذلك إلا ومعه جماعة، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة: ليقتلنّك، فاختفى، فطلبه بن زياد فهرب وأتى الكوفة فأخذ وقدم به علىابن زياد فقطع يديه ورجليه (1) .. ثم دعا به فقال: كيف ترى؟ قال أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك، فقتله وأرسل إلى ابنته فقتلها (2)، بسبب اعتناقها مذهب والدها (3). وذكر المبرد في كتابه الكامل في اللغة سببين هامين كان لهما أثر كبير في مقتل عروة بن أدية، الأول: تكفير هذا الخارجي لعثمان وعلي رضي الله عنهما، والثاني: إقدامه على مساعدة أخيه مرداس بن أديه على الخروج (4).
4 ـ حركة مرداس بن أدية: وفي عام 58 هـ خرج مرداس بن أُديَّة، بالأهواز وكان ابن زياد قبل ذلك حبسه فيمن حبس من الخوارج، فكان السجان يرى عبادته، واجتهاده، وكان يأذن له في الليل، فينصرف، فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن، وكان صديق لمرداس يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج فعزم على قتلهم، إذا أصبح، فانطلق صديق مرداس إلى منزل مرداس فأخبرهم، وقال: أرسلوا إلى أبي بلال في السجن فليعهد فإنه مقتول، فسمع ذلك مرداس، وبلغ الخبر صاحب السجن، فبات بليلة سوء إشفاقاً من أن يعلم الخبر مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يرجع فيه إذا به قد طلع، فقال له السجان: هل بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال:
نعم، قال: ثم غدوت! قال: نعم، ولم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب بسببي، وأصبح عبيد الله فجعل يقتل الخوارج، ثم دعا مرداس، فلما حضر وثب السجان ـ وكان ظئراً (5) لعبيد الله، فأخذ بقدمه، ثم قال: هب هذا، وقص عليه قصته، فوهبه له وأطلقه (6). وقد أشار البلاذري إلى أن عزم عبيد الله بن زياد على قتل من في السجن من الخوارج كان بسبب إقدام بعضهم على قتل أحد الحرّاس (7). ثم أن مرداس خاف ابن زياد فخرج في أربعين
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 517).
(2) أنساب الأشراف (4/ 387، 388) تاريخ الطبري (6/ 230).
(3) مرويات خلافة معاوية صـ204.
(4) الكامل في اللغة (3/ 1098) نقلاً عن مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ205.
(5) أي زوج مرضعته، لسان العرب (4/ 515).
(6) تاريخ الطبري (6/ 231).
(7) أنساب الأشراف (4/ 181).(1/275)
رجلاً إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مال لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي، فلما سمع ابن زياد خبرهم بعث إليهم جيشاً عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين، وقيل أبو حصين التميمي، وكان الجيش ألفيْ رجل، فلمّا وصلوا إلى أبي بلال ناشدهم الله أن يقاتلوه فلم يفعلوا، ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا: أتردَّوننا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلاًمن أصحاب أبي بلال فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدؤوكم بالقتال.
فشدّ الخوارج علىأسلم وأصحابه شدّة رجل واحد فهزموهم فقدموا البصرة، فلام ابن زياد أسلم وقال: هزمك أربعون وأنت في ألفين، لا خيرَ فيك. فقال: لأن تلومني وأنا حي خير من تثني عليّ وأنا ميت، فكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: أما أبو بلال وراءك! فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم فانتهوا (1) فهذه أهم حركات الخوارج في عهد معاوية.
ثالثاً: أهم الدروس والعبر والفوائد:
أهم الدروس والعبر والفوائد في محاربة معاوية للخوارج:
1 ـ إن الناظر في سلوك الخوارج زمن معاوية يجد أن خروجهم في ذلك العهد كان يستهدف إزعاج نظام حكم بني أمية وإضعافه، دون أن يكون لهم أمل في القضاء عليه (2).
2 ـ كانت بعض هذه الحركات مقتصرة على المجموعات المنسحبة من النّهروان والتي ظلت مشتتة في الأرياف وعدم وجود ما يشير إلى مشاركة الخوارج المقيمين في الكوفة فيها، وهو ما يؤكد عدم حصول تحوّل في موقف هؤلاء رغم التغيير الذي طرأ على السلطة (3).
3 ـ ومن الملاحظات، ما يخصّ الكوفيين الذين أبدى العديد منهم حماساً في محاربة الخوارج، وإذا كنا نعتقد أن تهديدات معاوية وعداء بعض الكوفيين للخوارج بسبب موقفهم من علي قد لعبت دوراً في دفع هؤلاء إلى المشاركة في قمع الثائرين، فإننا لا نستبعد أن تكون الرغبة الملحّة في إنهاء الحروب والانقسامات
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 518).
(2) الخوارج في العصر الأموي، نايف معروف صـ130.
(3) حركة الخوارج، لطيفة البكّاي صـ60.(1/276)
والعودة إلى الوحدة قد ساهمت بدورها في دفع
الكوفيين إلى مساعدة معاوية في القضاء على هؤلاء المعارضين، رغم يقينهم أنَّهم سيفقدون مع الحكم الجديد امتيازاتهم وسيفقد مصرهم المكانة التي كان يتمتع بها في خلافةعلي (1)
4 ـ كان معاوية رضي الله عنه على وعي تام بحقيقة المعارضة الخارجيّة وموقفها من السلطة ومن شخصه بالذّات، ولذلك لم يعمل على جلب الخوارج إلى صفّه وقرّر منذ اللحظة الأولى التصدي لهم بالقوة (2)
5 ـ لم يتردد المغيرة بن شعبة في محاربة الخارجين على السلطة بالشرطة والجيش، ولم يقتصر استعمال القوة على الثائرين بل شمل حتى الذين بلغه أنهم ينوون الخروج مثل معين بن عبد الرحمن المحاربي وحيان بن ظبيان السّلمي وغيرهما وهو ما يدل على أن المغيرة كان يقوم بمراقبة تحركات الخوارج داخل المصر، ويتجسس عليهم وينزل عقوباته بهم تبعاً لما يصله عنهم من أخبار (3).
6 ـ أهم وأخطر ما قام به المغيرة رضي الله عنه هواستعماله أنصار علي رضي الله عنه ضد الخوارج مستفيداً من العداوة التي كانت بينهم وهو عمل استفادت منه الدولة الأموية على المدى القريب والبعيد، فعلى المدى القريب، حاصر المغيرة بأعماله الفكر الخارجي في الكوفة، وأسكت المعارضين الموجودين فيها دون أن يكلف الدولة خسارة تُذكر، .. فضلاً عن أنه شغل الكوفيين عن معارضة الدولة الأموية وأعطاها بذلك الفرصة لتدعيم نفوذها (4). أما عن المدى البعيد فقد عمَّق المغيرة الهوّة بين الخوارج والشيعة وأبعد إمكانية التقارب بين هاتين الحركتين لفترة طويلة، مجنباً بذلك الدولة الأموية خطر مواجهة معارضة موحدة وقوية، غير أن ما قام به المغيرة تجاه المعارضة في الكوفة لم يكن سوى تطبيق لأوامر الخليفة نفسه مع بعض الاجتهادات التي رأى أنّها تخدم الدولة أكثر (5) ... وأما أنصار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وخاصة الزعماء منهم، فقد عملت الدولة الأموية على تقريبهم وكسبهم ولذلك سلك المغيرة سياسة اللين معهم وهو ما ضمن الهدوء في الكوفة طيلة ولايته عليها (6).
_________
(1) المصدر نفسه ص 60.
(2) المصدر نفسه ص66.
(3) المصدر نفسه صـ 65.
(4) حركة الخوارج: لطيفة البكّاي صـ65.
(5) المصدر نفسه صـ66.
(6) المصدر نفسه صـ66.(1/277)
7 ـ مع تولي زياد البصرة: تصاعدت عمليات القمع ضد الخوارج فبالإضافة إلى القتل كان زياد يمثل بالمقتولين فيصلبهم في الأماكن العامة، أو في دُورهم، وقد شمل التمثيل الخارجين من الرجال والنساء، ورغم أن التمثيل يعد من الأعمال البشعة التى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيام بها حتى مع الكفّار، فإن زياداً استعمله مع المسلمين رجالاً ونساءً ليروِّع بقية السكان ويلزمهم الهدوء، ولم تكن العقوبات المسلطة على الخوارج مقتصرة على القتل والتمثيل
والتسيير والإقامة الجبرية، بل شملت كذلك العطاء، وقد تجاوز زياد في هذا المجال من سبقه من الحكّام، إذ قام بشطب أسماء الخوارج من سجلات الديوان (1).
8 ـ أقحم زياد بأعماله العنف في سياسة الدولة وجعله إحدى ركائزها، واعتبر أن مصلحتها تقتضي استعماله ضدّ كل الذين يرفضون الخضوع لسلطتها (2)
9 ـ أدّت سياسة زياد ـ العنيفة ـ إلى إخماد تحرّكات الخوارج، وفرضت هيبة الدولة على الجميع، وحوّلت القبائل إلى طرف له دور في سياستها ومنحتها مهمة توفير الأمن داخل المصر بعد أن كانت مهامها تقتصر على دفع الدّية والتأطير العسكري، إلا أنّها أضعفت التضامن القبلي وأفقدت القبيلة القدرة على حماية أبنائها الخارجين على السُّلطة وأجبرتها على القبض عليهم ومعاقبتهم أحياناً، ولئن نجح زياد في إخماد تحرّكات المعارضين وزرع الرّعب في نفوس بقية سكان العراق وتحويلهم من مقاتلة يتمتعون بقدر كبير من الحرية إلى رعية خاضعة كلياً لأجهزة الدّولة، فقد فشل في خنق إرادة الخروج لدى قسم كبير من الخوارج، وهو ما يفسر عودة الانتفاضات في ولاية ابنه عبيد الله (3)
10 ـ تجاوز عبيد الله بن زياد والده في قمع الخوارج بفرضه العقوبات على الجميع المعلن والمسر على حدّ السواء، وإذا كان القتل هو عقوبته المفضلة فقد كان يعمد أحياناً إلى سجن البعض منهم، كما كان يسمح أحياناً أخرى وتحت تأثير رجال القبائل بإطلاق سراح البعض الآخر مع فرض الإقامة الجبرية عليهم وتكليف من يقوم بعملية المراقبة التي كانت غالباً ما تنتهي بقتلهم لمخالفتهم الأوامر ... ولم يكن
_________
(1) صدر الإسلام والدولة الأموية، محمد عبد الحي شعبان صـ99، الخوارج، لطيفة البكّائي صـ70.
(2) حركة الخوارج لطيفة البكَّائي صـ71.
(3) حركة الخوارج صـ71، لكيفة البكائي.(1/278)
ابن زياد ينتظر خروج الحروريَّة عليه بل كان يبحث عنهم مستعملاً كل الوسائل بما في ذلك تشجيع السّكان بالمال لتتبّع تحرّكات أبناء قبائلهم ونقلها إليه أو إلى أعوانه، وقد أدّت هذه الطريقة إلى ألقاء القبض على العديد ممّن يحمل هذا الفكر أو يتعاطف معه أو يُشتبه فيه ذلك، ولكنها فسحت في الوقت نفسه المجال أمام الوشاية وتلفيق التّهم بالباطل (1)، فأججت بذلك الحزازات القبلية القديمة، وخلقت خلافات جديدة بين القبائل (2)
11 ـ السمات العامة لحركات الخوارج في خلافة معاوية رضي الله عنه كالتالي:
أـ اتسمت بالعشوائية والارتجال وقلة التنظيم.
ب ـ كانت أشبه ما تكون بعمليات انتحار جماعي، لأنهم يخرجون بفئات قليلة لا تلبث أن تستأصل.
جـ ـ افتقارهم إلى قيادة واعية ومحنكة تستطيع استثمار شجاعتهم وفروسيتهم لتحقيق أهدافهم.
ح ـ تكرارهم لأخطاء بعضهم وعدم استفادة كل حركة من تجربة سابقتها.
خ ـ استبعادهم لأسلوب الحوار والمناظرة في عودتهم، ومحاولة فرض فكرهم على المجتمع المسلم بالقوة.
س ـ اختلاط الدوافع الدينية التي دعتهم للخروج ـ بزعمهم ـ مع دوافع العصبية الجاهلية في حركاتهم، والمتمثلة بخروج بعضهم ثأراً لمن قتل من أصحابهم.
ع ـ شعورهم بالغربة داخل المجتمع المسلم، ونفورهم منه، واقتناعهم أن قتال أهل القبلة أولى من جهاد الكفار.
ل ـ عدم بحثهم عن أرض جديدة لنشر دعوتهم، واقتصارهم على بعض مدن العراق، وخاصة الكوفة والبصرة.
ك ـ سلوكهم طريقة منكرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي طريقة الاستعراض، ومرد ذلك إلى الجهل بالدين وقلة العلم، لأن كثرة العبادة ليست
_________
(1) المصدر نفسه صـ74.
(2) المصدر نفسه صـ74.(1/279)
دليلاً على فقه الرجل، وإلا لكان الخوارج أفقه أهل زمانهم (1)، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، بمروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية (2)
وـ وافتقارهم لطول النفس والصبر في مشروعهم التغييري.
12 ـ شفاعة أبي بكرة الثقفي لبعض الخوارج عند معاوية ونصيحته له:
في عام 41 هـ وثب حمران بن ابان على البصرة، فأخذها وتغلب عليها، فبعث معاوية إليه جيشاً ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية، فسأله في الصفح عنهم والعفو، فعفا عنهم وأطلقهم وولّى على البصرة بسر بن أبي أرطأة (3) .. وقد قال معاوية لأبي بكرة: هل من عهد تعهده إلينا؟ قال: نعم، أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيّتك وتعمل صالحاً، فإنك قد تقلَّدت عظيماً، خلافة الله في خلقه، فاتق الله، فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ورائك طالب حثيث، وأوشك أن تبلغ المدى، فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عمّا كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تُوثرن على رضا الله شيئاً (4)
13 ـ استخدام العواطف في حرب الخوارج:
خرج حوثرة بن وداع بن مسعود الأسدي على الدولة الأموية، فدعا معاوية أبا حوثرة فقال له: اخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك فخرج إليه وكلمه وناشده وقال: ألا أجيئك بابنك فلعلّك إذا رأيته كرهت فراقه؟ فقال: أنا إلى طعنة بيد كافر برمح أتقلّب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني. فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله، فسير معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز، فقال: يا أبة لك في غيري سعة. وقاتلهم ابن عوف وصبروا، وبارز حوثرة عبد الله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين رجلاً دخلوا الكوفة، وذلك في جمادي الأخرة سنة إحدى وأربعين، ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة، فندم على قتله، وقال:
_________
(1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ210.
(2) البخاري مع الفتح (12/ 203).
(3) البداية والنهاية (11/ 149).
(4) البداية والنهاية (11/ 150).(1/280)
قتلت أخا بني أسدٍ سفاهاً ... لعمرُ أبي فما لُقّيتُ رُشدي
قتلت مصلياً محِياءَ لَيْلٍ ... طويل الحزن ذابرٍ وقصد
قتلت أخا تُقىً لأنال دنيا ... وذاك لشِقوَتي وعِثارِ جَدّي
فهب لي توبة يا رب واغفر ... لما قارفت من خطاءٍ وعمد (1)
رابعاً: من قصائد الخوارج في عهد معاوية رضي الله عنه:
1 ـ ما قاله معاذ بن جوين بن الحصين في سجن المغيرة بن شعبة:
ألا أيها الشارون قد حان لأمريء ... شرى نفسه لله أن يترحلا
أقمتم بدار الخاطئين جهالة ... وكل امرىءٍ منكم يُصادُ لُيقَلاَ
فشدوا على القوم العُداة فإنما ... أقامتكم للذبح رأياً مضَلَّلا
ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي ... إذا ذكرت كانت أبرّ وأعدلا
فيا ياليتني فيكم على ظهر سابح ... شديد القصيرى دارعاً غير أعزلا
ويا ليتني فيكم أُعادي عدوّكم ... فيسقيني كأس المنية أوّلا
يعزّ عليّ أن تخافوا وتُطردوا ... ولما أُجرِّد في المُحِلِّين مُنصُلا
ولما يفرق جمعهم كلُّ ماجد ... إذا قلت ولىَّ وأدبر أقبَلا
مُشيحاً بنصل السيف في حمس الوغى ... يرى العبر في بعض المواطن أمثلا
وعّز عليّ أن تصابوا وتُنقصوا ... وأُصبح ذا بتٍّ أسيراً مكبلاً
ولو أنني فيكم وقصدوا لكم ... أثرت إذا بين الفريقين قَسْطَلا
فيا رُبّ جمعٍ قد فَللتُ وغارة ... شهدت وقرْنٍ قد تركت مُجدَّلا (2)
2ـ ما قال رجل من بني تيم الله بن ثعلبة عندما انتصر مرداس أبو بلال بن أدية من بني ربيعة وكان في اربعين رجلاً على جيش لعبيد الله بن زياد حيث قال:
أألفا مؤمن منكم زعمتم ... ويقتلهم بآسَكَ (3) أربعونا
_________
(1) الكامل في التاريخ (3/ 450).
(2) الكامل في التاريخ (2/ 450).
(3) آسك: بلد في نواحي الأهواز: معجم البلدان (1/ 53).(1/281)
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا
هي الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا (1)
وفي رواية أخرى نسبت قصيدة إلى عيس بن فاتك قال فيها:
فلما أصبحوا صلوا وقاموا ... إلى الجُرْد العِتاق مسوَّمينا (2)
فلما استجمعوا حملوا عليهم ... فظل ذوو الجعائل يقتلونا (3)
بقية يومهم حتى أتاهم ... سوادُ الليل فيه يراوغونا
يقول بصيرهم لما أتاهم ... بأن القوم ولوا هاربينا
أألفاً مؤمن فيما زعمتم ... ويهزمهم بآسك أربعونا (4)
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 232,231).
(2) الجرد العتاق: الخيل الجياد الكريمة: مسومين: معلمين.
(3) ذوو الجعائل: جنود بني أمية المأجورون.
(4) أدب السياسة في العصر الأموي ص 220 تفلا عن تهذيب الكامل (1/ 105).(1/282)
المبحث الخامس: النظام المالي في عهد معاوية رضي الله عنه:
أولا: مصادر دخل الدولة:
1ـ الزكاة: وهي أهم مكونات النظام المالي الإسلامي وذلك لكونها ثابتة بالكتابة والسنة, إذ يقول عنها سبحانه: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (البينة, اية 5) , كما أجمع المسلمون على وجوبها باعتبارها أحد أركان الإسلام الخمسة, ومن ذلك اتفاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال ما نعيها في عهد أبي بكر الصديق (1) , وقد أسند إلى السلطان مهمة تحصيلها وإنفاقها, فقد كان رسول الله يجمعها
ويقوم على تفريقها, وكذلك فعل أبو بكر وعمر أما في عهد عثمان لما كثرت الأموال فقد رأى أن يفوض الممولين فيما يتعلق بالأموال الباطنة كالوكلاء عن الإمام (2) , أما الأموال الظاهرة كالزروع والمواشي ونحوها، فقد استمرت الدولة في جبايتها وإنفاقها، وقد ورد عن أبي أبكر وعثمان بن عفان أنهما كانا يأخذان زكاة المال من عطاء الرجل (3). ثم اختلف بعد مقتل عثمان هل تدفع الزكاة إلى الولاة أم لا (4)، وهذا الخلاف بشأن الأموال الباطنة أما الأموال الظاهرة ظلت تحصلها الدولة، وهذا يدل على سبب نقص حصيلة الزكاة بشكل عام في العصر الأموي، لامتناع جماعة من الناس عن دفعها للولاة، وتفريقها بمعرفتهم، عدا عهد عمر بن عبد العزيز الذي ما إن سمع الناس بولايته حتى سارعوا إلى دفعها للدولة (5). كما أعاد كذلك أخذ الزكاة من العطاء (6)،
أي بالخصم عند المنبع، وهكذا يعكس تعاظم دور الزكاة كأحد المكونات الإيرادات العامة إبان عهد عمر بن عبد العزيز، ولا يعني
_________
(1) المغني والشرح الكبير (2/ 434) , التطور الاقتصادي في العصر الأموي ص 64.
(2) بدائع الضائع في ترتيب الشرائع للكساني, ك الذكاة (2/ 820).
(3) الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام صـ372، 373.
(4) المصدر نفسه صـ504 إلى 511.
(5) عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ104، التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ65، عصام الجفري.
(6) الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي صـ426 ..(1/283)
هذا إغفال دورها الهام طيلة العصر الأموي، فبالرغم من عدم توافر أرقام عنه إلا أن الدلائل تشير إلى كبر أهميتها وذلك لأنها كانت تحصل من قطاعين رئيسيين من قطاعات الاقتصاد الأموي، هما الزراعة وقطاع التجارة خاصة في ظل نظام العشور (1)، ومنها أيضاً وجود ديوان خاص يسمى ديوان الصدقات (2)، وهو الديوان الذي يتولى النظر في أمور الزكاة والصدقات التي تجبي من القادرين والمتمكنين مالياً ليتم توزيعها على مستحقيها في الوجوه الشرعية التي ذكرها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة (3)، وأشار إليه الجهشياري أول مرة في خلافة هشام بن عبد الملك، ويذكر أن: إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب كان يتقلد ديوان الصدقة للخليفة هشام بن عبد الملك، وقد يعود عدم وجود أرقام عن حصيلة الزكاة لعدم تسجيل مقادير تلك الصدقات، إذ كانت تدفع جميعها أو معظمها في الحال إلى مستحقيها (4)، وبصفة عامة يمكن القول إن نظام الزكاة كان مطبقاً في العهد الأموي وفقاً للأسس الشرعية الخاصة به، وأن قمة التطور بالنسبة لحصيلة الزكاة كان في عهد عمر بن عبد العزيز حيث وثق الشعب في الدولة نتيجة حرصها على
تطبيق الإسلام كواقع عملي ـ فسارع إلى دفع الزكاة إليها وكذلك أخذ الزكاة من العطاء فيه تخفيف لتكاليف جباية الزكاة فزيادة الموارد مع قلة التكاليف أحدثت نمواً ملحوظاً في حصيلة الزكاة (5).
2 ـ الجزية: ما يؤخذ من أهل الذمة، وهي ضريبة على الذمي المستوفي لشروطها مقابل الدفاع عنه، وكانت تمثل أحد الموارد الثابتة للدولة الأموية، عملاً بقوله تعالى: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة، الآية: 29). وهي ثابتة في السنة لما قاله المغيرة بن شعبة لترجمان عامل كسرى: .. فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو
_________
(1) الخراج صـ271، 272.
(2) النظم الإسلامية، أنور الرفاعي صـ82، 83.
(3) الدواوين في العصر الأموي، نجم المسعودي صـ61.
(4) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ66.
(5) المصدر نفسه صـ66.(1/284)
تؤتوا الجزية (1). وهي ثابتة أيضاً بالإجماع (2)، ولم يضف الأمويون شيئاً يذكر بالنسبة لتنظيم الجزية، ويمكن القول بأن جبايتها خضعت لما استقر عليه تنظيمها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن حيث ضوابطها تمثلت في أربعة هي: تحديد الشريحة التي تؤخذ منها الجزية متمثلة في الذكور العقلاء البالغين (3)، ثم تحديد الفئات المعفاة منها: وهم: الصبيان والنساء، المرضى المزمنون، العبيد، المجانين، العميان، الشيوخ، الرهبان الذين لا مورد لهم (4)، وكذلك مراعاة مستوى دخل الممول يساراً وإعساراً، حيث كانت تفرض على الفرد الغني (48) درهماً سنوياً، وعلى المتوسط (24) درهماً سنوياً وعلى ما دون ذلك (12) درهماً سنوياً بشرط أن يكون ذا حرفة (5)، وأما عن تصنيفها فيمكن تقسيم الجزية وفق المعيارين التاليين:
أـ معيار المسؤولية: وطبقاً له تنقسم الجزية إلى فردية وجماعية، فالجزية الفردية هي التي تفرض على كل ذمي مستوف لشروطها في صورة مبلغ محدد يسقط عنه حالة إسلامه، أما الجماعية أو المشتركة فكانت تتم بوضع مبلغ إجمالي معين على أهل القرية أو المدينة، ثم يتولون هم توزيعه بين أفرادهم، ومثالها من عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلحه صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح على مائة دينار في كل رجب (6)، وكان غالب الجزية في العصر الأموي من هذا النوع (7).
ب ـ معيار النقدية والعينية: وطبقاً له انقسمت الجزية إلى ثلاثة أقسام: جزية نقدية، جزية عينية، جزية مشتركة، وكانت جميع أصناف الجزية معمولاً بها في العصر الأموي، ولم يوجد
ما يشير إلى الخروج عن ذلك، وخاصة وأن الشريعة الإسلامية تقتضي بالالتزام بعقود الصلح، والوفاء بها، لكن هذا لم يمنع من خروج بعض الولاة أحياناً عن الضوابط الشرعية (8)، وبالنسبة لحجم غلة الجزية ونسبتها إلى إجمالي الإيراد الكلي للدولة فهذا مما يصعب تحديده، لكن هناك
_________
(1) فتح الباري (6/ 317).
(2) المغني، ك الجزية (10/ 567).
(3) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ66.
(4) الأحكام السلطانية صـ144.
(5) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ67.
(6) فتوح البلدان للبلاذري صـ71.
(7) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ67.
(8) المصدر نفسه صـ68 ومن أراد التوسع فلينظر: تاريخ بلاد الشام الاقتصادي في العصر الأموي صـ294.(1/285)
مؤثرات تدل على عظم حجم إيراد الجزية وما يتضح من الدور الكبير الذي قامت به الدولة الأموية في نشر الإسلام في بلدان كثيرة تم فتحها وفرض الجزية على من لم يسلم من أهلها (1).
3 ـ الخراج: كبقية المصادر المالية للدولة التي كان لعمر بن الخطاب الريادة في تنظيمها، فقد استفادت الدولة الأموية من تنظيم عمر له، إذ سارت في أغلب أقاليمها عليه، إلا ما طرأ من تعديلات سوف يتم التعرض لها (2)، وللخراج معنى خاص: وهو إيراد الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام (3)، والخراج كما قال ابن رجب الحنبلي: لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره (4)، وكان للخراج أهمية كبرى بالنسبة للدولة الأموية وكانت غلة الخراج في منطقة السواد على سبيل المثال في عهد ابنه عبيد الله سنة 54 هـ - 66 هـ بلغ 135 مليون درهماً (5)، وأما منطقة الجزيرة والشام: فقد استمر الخراج في هذه المنطقة وفقاً لما وضعه معاوية بن أبي سفيان، الذي فرض ضرائب على أهل المدن ذات شقين، شق منه جزية والآخر خراج وهو كما يلي:
أـ على أهل قنسرين حوالي مليون وخمسمائة ألف درهماً.
ب ـ على الأردن ستمائة ألف درهماً.
جـ ـ على فلسطين حوالي ستمائة ألف درهماً (6).
وقد حدثت بعض الانحرافات في تحصيل الخراج في عدة صور أهمها:
ـ فرض الخراج على أرض مستثناة منه بنص عقود الصلح (7)، فقد حدث ذلك في عهد يزيد بن معاوية (60 ـ 64) حيث فرض الخراج على أرض السامرة (8)، بالأردن وفلسطين.
_________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ71.
(2) المصدر نفسه صـ73.
(3) الخراج لأبي يوسف صـ24، 25 اقتصاديات الحرب صـ215.
(4) الاستخراج لأحكام الخراج صـ40، اقتصاديات الحرب صـ215.
(5) الأحكام السلطانية صـ175، التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ74.
(6) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ76.
(7) فتوح البلدان صـ162، 163.
(8) السامرة: قوم من اليهود وهم صنفان: الدستان والكوشان، التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ78.(1/286)
ـ استخدام العنف في تحصيل الخراج، في بعض الأقاليم ـ باستثناء عهد عمر بن عبد العزيز، حيث استخدمت الشدة في تحصيل الإيرادات بأنواعها (1).
ـ تحميل نفقات جباية الخراج على الممول، ومن تلك النفقات قيمة الورق الذي يكتب عليه مقادير الخراج، قيمة إيجار المستودعات التي يتم تخزين حصيلة الخراج العينية فيها، أجرة الجابي الذي يقوم بالجباية وبقية نفقات تحصيل الخراج (2)، وقد حدث ذلك خاصة في إقليم العراق وكان قبل عهد عمر بن عبد العزيز، فلما ولي الخلافة أبطلها ثم عادت بعد موته (3)، وكان للخراج في عهد الدولة الأموية ديوان خاص به، يسمى ديوان الخراج: وهو الذي يتولى النظر في جباية ضريبة الخراج، ويقوم بجمعها وتسجيلها، ووضع تقديرات لها، لأنها أعظم واردات الدولة (4)، وكان الأمويون قد فصلوا بين الولاية والجباية وعينوا مسؤولين عنها لكي يحصروا المسؤولية، وقد ذكرت المصادر قائمة بأسماء الذين أسندت إليهم مهمة الجباية والإشراف على أعمال الديوان، فمعاوية رضي الله عنه عين على خراج دمشق ـ سرجون بن منصور (5)، وعلى خراج فلسطين: سليمان المشجعي (6)، وعلى خراج حمص بن أثال النصراني (7)، وفي خلافة يزيد بن معاوية استمر على الديوان: سرجون بن منصور، كما بقي عليه طوال حكم معاوية الثاني، ومروان بن الحكم، وعبد الملك، حتى عزله (8)،
وقد أولى معاوية رضي الله عنه ولاته في الأقاليم الأرض ومن عليها عناية متزايدة فاستصلح البطائح وهي أرض واسعة مغمورة بالمياه، بقطع القصب وعلب الماء بالمسنيات مما أدّى إلى عمارة البلاد وزيادة الوارد العام بمقدار خمسة آلاف ألف درهم وراعى معاوية حالة السكان وسعى لتطمينهم والتخفيف عن كاهلهم بمجموعة من الإجراءات يتعلق بعضها بضريبة الخراج ذاتها، وبعضها
الآخر يتعلق بالقائمين على الضريبة (9). ومن ناحية أخرى، فقد عمل
_________
(1) الخراج لأبي يوسف صـ269، 270.
(2) المصدر نفسه صـ186، 187، التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ78.
(3) الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي صـ456.
(4) إدارة بلاد الشام في العهدين الراشدي والأموي صـ177.
(5) الجهشياري صـ24.
(6) الجهشياري صـ 26، إدارة بلاد الشام صـ178.
(7) تاريخ اليعقوبي (2/ 223).
(8) إدارة بلاد الشام في العهد الراشدي والأموي صـ178 ..
(9) الخراج د. غيداء خزانة كاتبي صـ239.(1/287)
معاوية على إنصاف دافعي الضريبة باختيار عماله ومتابعته لهم، وإن كانوا من المقربين، فقد عزل ابن أم الحكم وهو عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي ـ وهو ابن اخته ـ لأنه اشتد في أمر الخراج ولم يقبل من عامل خراجه جباية الخراج قبل موعده الموجود (1). وفي الفترة الأموية تكثر الإشارة إلى استعمال الأعاجم في الخراج، وصلاحهم لذلك لأسباب عبر عنها زياد بن أبيه بوضوح منها معرفتهم بأمور الخراج ودورهم في إعمار الأرض (2)، حيث يقول: وينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج (3)، ودعا زياد إلى مراعاة الدهاقين والإحسان إليهم: أحسنوا إلى الدهاقين (4)، فإنكم لن تزالوا سماناً ما سمنوا (5)
4 ـ العشور: هي الأموال التي يتم تحصيلها على التجارة التي تمر عبر حدود الدولة الإسلامية سواء داخلة أو خارجة من أرض الدولة وهي أشبه ما تكون بالرسوم الجمركية في العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظف يقال له العاشر أي الذي يأخذ العشور (6)، وأول من وضعها في الإسلام هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد فرضها على الحربي بنسبة العشر، وعلى الذمي نصف العشر، وعلى المسلم ربع العشر (7)، وقد استمر هذا النظام في العهد الأموي وفق القواعد التالية:
أـ إعفاء الحد الأدنى لرأس المال، والذي قدر بالنسبة للمسلم بمائتي درهماً (8)، أما بالنسبة للحربي والذمي فقد اختلف فيه (9).
ب ـ لا تحصل العشور إلا مرة واحدة في السنة.
جـ ـ يشترط لتحصيل العشر من النعم التي للمسلم أن تكون سائمة.
_________
(1) المصدر نفسه صـ239.
(2) المصدر نفسه صـ262.
(3) المصدر نفسه صـ262.
(4) الدهقان: شيخ القرية العالم بالزراعة، وما يصلح للأرض من شجر.
(5) الضرائب في السواد في العصر الأموي للدوري صـ48، الخراج صـ263.
(6) الخراج لأبي يوسف صـ271، اقتصاديات الحرب صـ223.
(7) الأموال لأبي عبيد صـ475، 476.
(8) الخراج لأبي يوسف صـ276.
(9) الأموال لأبي عبيد صـ477.(1/288)
ح ـ لا تؤخذ العشور من عبد ولا مكاتب ولا مضارب ولا بضاعة، وإنما من رب المال نفسه (1).
خ ـ أن يكتب للتاجر سند بالمبلغ الذي دفعه، وبمقتضاه لا تأخذ منه العشور إلا في السنة التالية (2).
س ـ أن لا يتم تفتيش التاجر ولا تعنيفه (3).
ش ـ أن من ادعى ديناً يستغرق ما معه من التجارة، صدق إن كان مسلماً، وإن ارتاب في أمره استحلفه (على خلاف ذلك) (4)، وأما الذمي فأقرب الأقوال فيه أن يشهد له شاهدان من المسلمين حتى يعفى (5).
ع ـ أن العشور التي تأخذ من المسلمين هي الزكاة فلا يجمع على المال زكاة وعشور (6).
غ ـ أن غير المسلم إذا مر بما يوصف بالمالية عندهم وليس بمال عند المسلمين كالخمر والخنزير ونحوها، يقومه أناس من غير المسلمين، ويضاف إلى قيمة ما معه من تجارة ويؤخذ منه العشور (7). وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن العشور كانت تشكل جزءاً مهماً في إيرادات الدولة، من ذلك ما لمسه ابن الزبير من نقص في مواد الدولة حينما منع تحصيل العشور لمدة عام واحد مما حمله على التراجع على ذلك القرار (8).
5 ـ الصوافي: هو ما اصطفاه الإمام لبيت المال من أرض الفيء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من البلاد المفتوحة عنوة بحق الخمس أو باستطابة نفوس الغانمين، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (9) .. ثم أقطعت أجزاء منها إلى بعض
_________
(1) الخراج لأبي يوسف صـ274.
(2) الأموال لأبي عبيد صـ475، التطور الاقتصادي صـ80.
(3) الخراج لأبي يوسف صـ275، التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ80.
(4) الأموال لأبي عبيد صـ480، 481.
(5) المرجع السابق صـ479، التطور الاقتصادي صـ80.
(6) الخراج لأبي يوسف صـ273.
(7) المصدر نفسه صـ273.
(8) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ80.
(9) الأحكام السلطانية صـ192.(1/289)
من كان يتولى إستثمارها، على أن يؤدي لبيت المال ما عليها، وأول من أقطع عثمان بن عفان رضي الله عنه (1)، وذلك بدافع زيادة
غلتها، وقد اشترط على من يقطعه إياها حق الفيء (2)، فبلغت غلتها آنذاك خمسين مليون درهماً (3)، وانتبه معاوية بن أبي سفيان للصوافي في وقت مبكر، وكتب إلى الخليفة عثمان سأله أن يقطعه إياها، ليقوى بها على ما وصف في كتابه يقول ابن عساكر: حتى كتب معاوية في إمرته على الشام إلى عثمان أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله ليس يقوم بمؤن من يقدم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم، ومن يقدم عليه من رسل الروم ووفودها. ووصف في كتابه هذه المزارع الصافية وسماها له، وسأله أن يقطعه إياها ليقوى بها على ما وصف له وأنها ليست من قرى أهل الذمة ولا الخراج، فكتب إليه عثمان بذلك كتاباً (4)، يضاف إلى تلك المزارع، مزارع وأراضي بني فوقا الذين لا وراث لهم، فأخذ معاوية ما يليهم (5). ولما أفضى الأمر إليه، جعل هذه الأراضي حبساً (6) على فقراء أهل بيته والمسلمين (7)، وأشار المؤرخ الشيعي اليعقوبي إلى أن معاوية جعل هذه الأراضي، وضياع الملوك في الشام والجزيرة واليمن والعراق خالصة لنفسه عندما أفضى الأمر إليه (8).
فاقطع منها فقراء أهل بيته وخاصته، واعتبر بذلك: أول من كانت له الصوافي في جميع أرجاء الدنيا (9)، وهذه الإشارة من اليعقوبي تلفت الإنتباه نظر إلى الالتباس الواضح في لغتها، فقد ذكرت صوافي في الجزيرة واليمن علماً بأن عمر بن الخطاب كان قد أصفى مجموعات خاصة في أراضي السواد وأراضي الشام لم يدخل فيها صوافي الجزيرة واليمن (10). كما أشار اليعقوبي إلى أن معاوية جعل هذه الأراضي خالصة لنفسه، فأقطع منها فقراء أهل بيته وخاصته، وبمقارنة هذا
_________
(1) فتوح البلدان صـ273.
(2) الأحكام السلطانية صـ193.
(3) المصدر نفسه صـ193.
(4) تهذيب تاريخ دمشق (1/ 184) الخراج د. غيداء صـ307.
(5) الخراج، د. غيداء صـ307.
(6) الحبس: الوقف.
(7) تهذيب تاريخ دمشق (1/ 84) الخراج، غيداء صـ307.
(8) تاريخ اليعقوبي (2/ 232 ـ 234).
(9) تاريخ اليعقوبي (2/ 234).
(10) المعرفة والتاريخ (1/ 434) الخراج، غيداء صـ307.(1/290)
النص، بنص ابن عساكر عن الموضوع نفسه، يظهر مدى المبالغة في تلك الرواية يقول ابن عساكر عن تلك الأراضي: فلم تزل بيد معاوية حتى قتل عثمان وأفضى إلى معاوية الأمر، فأقرّها على حالها ثم جعل من بعده حبساً على فقراء أهل بيته والمسلمين إي أن معاوية لم يتصرف فيها ابتداء بل تركها على حالها (1) ولكن يبدو أن هناك ضرورات سياسية نشأت في الشام دفعت الدولة إلى اتخاذ ضرب جديد من التنظيم والسعي لخدمة
مصالح الدولة، ومن هذه الضرورات محاولة إقامة توازن قبلي في بلاد الشام بين اليمانية وبين القيسية ولذلك أقطع معاوية اقطاعات واسعة في هذا المجال (2)، ولقد أسي فهم هذا الإجراء وفسر بعض المؤرخين كاليعقوبي، موضوع مصالح الدولة بأنه يعني مصالح الأسرة الأموية وبالتحديد معاوية (3)، ولا شك أن معاوية استخدم هذه الأموال في تثبيت دعائم الدولة، وحفظ وحدة الأمة، فكان يتصرف وفق ما يراه مناسباً للصالح العام (4)،
ولا يمنع ذلك الإحسان إلى أسرته والمقربين إليه بالمعروف، وقد أمر معاوية بإعادة مسح للصوافي في أمصار الدولة الأموية وأضاف أراضي واسعة بعد العثور على سجل الضياع الساسانية (5) أصبحت تحت تصرف معاوية المباشر فكان يسد منها بعض حالات العجز في النفقات العامة، فقد بلغ غلة صوافيه بالعراق وما يتبعه مائة مليون درهماً (6) وكذلك فعل بصوافي أرض الشام والجزيرة واليمن حتى فدك اصطفاها لنفسه ثم أقطعها لمروان بن الحكم (7)، وظلت كذلك طيلة العهد الأموي، باستثناء عصر عمر بن عبد العزيز الذي أعادها للملكية العامة وشجع القطاع الخاص على استثمارها (8)، كما رد فدك لبيت المال ووضع ما يأتي منها في أبناء السبيل، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده (9)، كما أمر باستثمار أراضي الصوافي حين كتب إلى واليه على العراق: انظر ما قبلكم من
_________
(1) الخراج، غيداء صـ308.
(2) المصدر نفسه صـ308.
(3) المصدر نفسه صـ309، دراسات في حضارات الإسلام صـ46.
(4) الخراج صـ311 غيداء خزنة كاتبي ..
(5) الخراج صـ311 غيداء خزنة كاتبي.
(6) الإدارة في العصر الأموي، نجدة خماش صـ197.
(7) فتوح البلدان صـ46.
(8) المصدر نفسه صـ46، التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ82.
(9) فتوح البلدان صـ24 ـ 48.(1/291)
أرض الصافية، فاعطوه حتى تبلغ العشر فإن لم يزرعها أحد فامنحها فإن لم تزرع فانفق عليها من بيت مال المسلمين، ولا تبتزن قبلك أرضاً (1)، ونلاحظ من هذا النص اهتمام عمر بن عبد العزيز بأمر الصوافي مما يدل على أهميته في موارد الدولة .. لكن أمر الصوافي عاد إلى ما كان عليه الأمر بعد عهد عمر بن عبد العزيز (2)،
6 ـ خمس الغنائم: تعرّف الغنيمة: ما غلب عليه المسلمون بالقتال حتى يأخذوه عنوة (3)، وقد نص عليها القرآن الكريم، وفي العصر الأموي ازدادت حركة الفتوحات وبالتالي زادت الغنائم كأحد موارد بيت المال، وقد اتبع الأمويون نفس النهج العمري بالنسبة للغنائم والأراضي المفتوحة، فكان تخميس الغنائم وتقسيمها بين الفاتحين وترك الأرض فيئاً لمجموع المسلمين
مع ضرب الخراج عليها (4)، هذه أهم المصادر المالية للدولة مع وجود مصادر أخرى كنظام خمس الركاز، ومال من لا ورث له إذ ظل في العصر الأموي على ما كان عليه عهد رسول الله والخلفاء الراشدين إضافة إلى أن نسبة هذين العنصرين بسيطة جداً بالنسبة لغيرها من المصادر (5).
ثانياً: النفقات العامة:
1 ـ النفقات العسكرية: حملت الدولة الأموية على عاتقها مهمة مواصلة نشر الإسلام في أرجاء المعمورة، ولذلك اتسعت الدولة الإسلامية في العصر الأموي اتساعاً كبيراً، وقد تم لها ذلك على الرغم مما كانت تعانيه من فتن وقلاقل داخلية تتطلب أموالاً طائلة لإخمادها، وتتضح معالم النفقات العسكرية في العصر الأموي من خلال نفقات الجند والصناعات الحربية (6).
أـ رواتب الجند: ويشرف عليها ديوان الجند، وتجمع المصادر على أن أول من وضعه ورتبه هو الخليفة عمر بن الخطاب سنة 20 هـ (7)، وقد بقي هذا الديوان على
_________
(1) واسط في العصر الأموي صـ406.
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ82.
(3) الخراج، يحي القرشي صـ58.
(4) الإدارة في العصر الأموي صـ21.
(5) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ86.
(6) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ97.
(7) طبقات ابن سعد (1/ 213) تاريخ اليعقوبي (2/ 143).(1/292)
الأساس نفسه من حيث تحفظ سجلات بأسماء المقاتلين وأوصافهم، وأنسابهم ومقدار أعطياتهم (1)، وقد عمل معاوية بن أبي سفيان على تحسين حالة الجند المعاشية فزاد في أعطياتهم، بسبب الظروف المستجدة وتحسن الأحوال الاقتصادية في الدولة، وكان أمير المؤمنين معاوية: يتفقد أحوال القبائل، كجزء من سياسته في حفظ التوازن بين قبائل اليمن والقبائل القيسية، وكان قد جعل على كل قبيلة من قبائل العرب بمصر رجلاً يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول هل ولد الليلة فيكم مولود وهل نزل بكم نازل فيقال ولد لفلان غلام ولفلان جارية، فيقال سموهم فيكتب ويقال نزل بنا رجل من أهل اليمن بعياله فيسمونه وعياله فإذا فرغ من القبائل كلها أتى الديوان (2)، وكان للجند ديوان مركزي في دمشق في حين وجدت دواوين فرعية في مراكز الولايات: كالكوفة والبصرة والفسطاط (3)، وكان سلم رواتب الجند في عهد معاوية كالآتي: على درجات: شرف العطاء والمرتب 2000 درهم، عطاء العرب فئة (أ) 300 درهم، فئة
(ب) 1000 درهم، فئة (جـ) 1500 درهم، وأدخل الموالي في العطاء (4)، وكانت نفقات رواتب الجند في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كالآتي:
ـ في منطقة مصر: كان عدد المسجلين في الديوان 40000 ألف جندي منهم أربعة آلاف مسجلين بشرف العطاء (5)، وبالتلي يكون مجمل عطاؤهم 8000000 درهماً، أما بقية المسجلين في الديوان فكان عددهم 36000 جندياً وعلى فرض أن عطاء الجندي سنوياً هو 300 درهماً يصبح إجمالي عطاؤهم 10800000 درهماً (6)
ـ في منطقة الشام: كان عدد الجند المسجلين في ديوان الشام ستون ألف جندي، كان الدخل السنوي لكل جندي ألف درهماً، أما إجمالي نفقات جند الشام فبلغ ستين مليون درهم (7).
_________
(1) التراتيب الإدارية للكتاني (1/ 225) الدواوين في العصر الأموي صـ37.
(2) حسن المحاضرة للسيوطي (1/ 65) الدواوين في العصر الأموي صـ37.
(3) الجيش والأسطول الإسلامي في العصر الأموي صـ535.
(4) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ98.
(5) ديوان الجند للسلومي صـ149 التطور الاقتصادي صـ99.
(6) الخطط للمقريزي (1/ 128).
(7) الخراج والنظم المالية للريس صـ94.(1/293)
ـ في العراق نأخذ مثالاً ديوان البصرة: حيث بلغ عدد المسجلين به ثمانين ألف مقاتل (1)، وبلغت مرتباتهم في عهد زياد 36000000 درهماً، فإذا أخرجنا منهم نسبة 10% مسجلين في شرف العطاء، (قياساً على ديوان مصر) يكون المتبقي20000000 درهماً، وعليه يكون متوسط الدخل للجندي في ديوان البصرة حوالي 278 درهماً ويمكن قياس بقية منطقة العراق على هذا (2).
وقامت الدولة الأموية بتطوير ديوان الجند، وهو الجهة المسؤولة عن نفقات ورواتب الجند وكان من أبرز صور هذا التطوير ما يلي:
* ـ فقد قام مندوب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه المكلف بتوزيع عطاء المدينة بدفع عطاء كل رجل في يده مباشرة وكان النظام السابق هو أن يدفع العطاء إلى العرفاء. لكن هؤلاء العرفاء لم يكونوا يغيبون غائباً ولا يميتون ميتاً (3).
* ـ وفي عهد معاوية قام واليه على العراق زياد بن أبيه، بتخفيض النفقات الإدارية لديوان الجند، حيث اختصر عدد العرافاء المسئولين عن توزيع العطاء ليصبح لكل قبيلة عريف واحد (4).
ب ـ نفقات الصناعات الحربية: على الرغم من عدم وجود أرقام محددة في نفقات الدولة على الصناعات الحربية، إلا أن هناك ما يدل على اتجاه هذه النفقة نحو التزايد، فقد كان اهتمام الدولة الأموية منصباً على تطوير سلاح البحرية، وقد بلغ عدد قطع الأسطول البحري الإسلامي في بداية تكوينه مائتي مركب (5)، ثم تطور على يد الدولة الأموية ليبلغ في عهد سليمان بن عبد الملك ألف وثمانمئة سفينة كبيرة (6).
2 ـ النفقات الإدارية:
تقسم هذه النفقات إلى قسمين، رواتب الموظفين ونفقات المستلزمات الإدارية، وكانت هذه الأخيرة ضئيلة للغاية، ومتمثلة في الشموع وأوراق الكتابة، وغيرها
_________
(1) الحياة الاقتصادية في صدر الإسلام، بطاينة نقلاً عن التطور الاقتصادي صـ99.
(2) المصدر نفسه صـ100.
(3) ديوان الجند للسلومي صـ169 التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ102.
(4) الإدارة في العصر الأموي صـ320.
(5) تاريخ الإسكندرية وحضارتها في العصر الإسلامي صـ115، 116.
(6) التكور الاقتصادي في العصر الأموي صـ106.(1/294)
من الأدوات البسيطة التي لا تشكل شيئاً يذكر بالنسبة لما هو عليه الأمر اليوم ومع ذلك فقد تميز عهد عمر بن عبد العزيز بالحساسية للمال العام، فكانت هذه النفقات في عهده أقل من غيره من العهود (1)، وسنركز الحديث عن رواتب الموظفين، ويبدو أن رواتب الموظفين كان متروكاً إلى والي الإقليم، يحدد لنفسه ولعماله رواتبهم حسب ما يرى، وقد ساعدت هذه اللامركزية على ظهور مرتبات كبيرة نسبياً ـ إذا ما قورنت بالمرتبات في عهد عمر بن الخطاب وبمتوسط مستوى المعيشة المتواضع نسبياً في الدولة الأموية ـ حيث بلغ مرتب والي العراق زياد بن أبيه خمسة وعشرين ألف درهماً شهرياً (2)، وظهرت أيضاً إلى جانب المرتبات الكبيرة مخصصات إضافية، فهذا زياد بن أبيه يجعل لأحد الولاة التابعين لإدارته مائة ألف درهم سنوياً عدا مرتبه (3) وهذه بعض النماذج من رواتب الموظفين خلال فترات من العصر الأموي، يمكن اعتبارها مؤثراً على مستوى رواتب ومكافآت موظفي الدولة، وذلك لعدم العثور على معلومات تفصيلية عنها.
أـ كان الحد الأقصى لرواتب الكتاب طوال العصر الأموي وطرفاً من العباسي حتى عهد المأمون هو 3600 درهماًَ سنوياً، وكان حدها الأدني 720 درهماً سنوياً (4).
ب ـ يرجح أن أكبر مرتب لصاحب الشرطة في العصر الأموي بلغت مائة ألف درهماً سنوياً (5).
جـ ـ مرتبات القضاة كانت عبارة عن رزق يجري عليهم من بيت المال ليتفرغوا للقضاء (6)،
وكان حده الأدنى ألف ومائتي درهماً سنوياً (7)، وأما الحد الأقصى فقد بلغ ثلاثة آلاف درهماً سنوياً (8).
_________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ106.
(2) الإدارة في العصر الأموي صـ310.
(3) المصدر نفسه صـ310.
(4) الإدارة في العصر الأموي صـ310.
(5) المصدر نفسه صـ318.
(6) المصدر نفسه صـ331.
(7) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ107.
(8) فتوح مصر وأخبارها صـ236.(1/295)
3 ـ مصارف الزكاة: حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) (التوبة، الآية:60).
4 ـ مصارف الفي: قال سبحانه وتعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... )) (الحشر، الآية: 7).
5 ـ معظم مصارف العشور: التي تأخذ من المسلمين هي نفقات تحويلية لأنها تعتبر في حقهم زكاة فتصرف في مصارف الزكاة.
6 ـ نفقات الضمان الاجتماعي: تطورت نفقات الضمان الاجتماعي في الدولة الأموية كانت في صورة عينية، وكمثال على ذلك ما ورد من أن الفقراء في إقليمي الحجاز والعراق خلال الفترة (45 هـ - 53 هـ) كانوا يحملون بطاقات محدد لهم فيها الكمية المخصصة لكل فرد منهم من المعونة العينية (1) ثم أصبحت في عهد عمر بن عبد العزيز (99 هـ - 101 هـ) مزيجاً من النفقات النقدية والعينية، وكمثال على المعونات النقدية قضاء دين من أدان في غير سفه، ولا سرف، وتزويج الرجل الذي ليس له مال وله رغبة في الزواج (2)، ومثال النفقات العينية، أنه أمر لكل أعمى بقائد، ولكل خمسة من اليتامى بخادم (3)، وشملت في عهده نفقات الضمان الاجتماعي إلى غير المسلمين (4)، ثم تطور الأمر حتى مثلت نفقات الضمان الاجتماعي بنداً محدداً من بنود النفقات العامة للدولة، ومثال ذلك يوجد ضمن بنود النفقات العامة السنوية
_________
(1) الإدارة في العصر الأموي صـ335.
(2) الأموال لأبي عبيد صـ234، 235.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ183.
(4) الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي صـ433.(1/296)
في إقليم العراق
خلال الفترة (120 ـ 126 هـ) مبلغ عشرة آلاف درهم (1)، مخصصاً لبيوت رعاية الأحداث (2)، والعواتق (3).
ثالثاً: اهتمام الدولة بالزراعة:
مع بداية الدولة الأموية ظهرت الملكيات الزراعية الكبيرة وذلك نتيجة لدخول الولاة والخلفاء في هذا الميدان، ولذلك اهتموا بإحياء الأرض الموات من أراضي الصوافي وغيرها، من الأراضي المفتوحة الخصبة، وبالذات إقليم العراق وما شابهه، وقد ساعدهم في ذلك حجم السيولة التي يملكونها، فقد أحيا والي معاوية رضي الله عنه على خراج العراق أرضين من البطائح لمعاوية، حيث قام بقطع الماء عنها وتجفيفها وزراعتها، وقد بلغت غلتها خمسة ملايين درهم (4)، وهذا مما يدل على عظم مساحتها، ولم يكن معاوية رضي الله عنه يجعل ريعها كله داخلاً في نفقاته الخاصة، وإنما كان يتدارك منها شيء من النقص في النفقات العامة (5)، ولم يدخل تلك الأرضين في ملكه يتوارثها من بعده، بدلالة أن الأرض التي أحياها الحجاج فيما بعد لعبد الملك هي نفس الأرض التي أحياها معاوية رضي الله عنه، إلا أنها عادت مواتاً لغلبة الماء عليها (6). ومن الناحية الشرعية فإن أحياء الأرض بصفة عامة مباح، بل هو سبب من أسباب الملك لها وذلك استناداً على الأحاديث الواردة في ذلك، وهي إباحة عامة يستوي فيها الحاكم، والمحكوم، إلا أنه في حق الحاكم ينبغي أن تكون هناك قيود إضافية لعل من أبرزها:
ـ عدم استغلال الحاكم لسلطته ومكانته، وإنما يدخل في عملية الاحياء كأي فرد من أفراد الشعب.
ـ عدم استخدام أموال المسلمين في عملية الاحياء، بل يقوم بإحيائها من ماله الخاص.
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي صـ175 ـ 176.
(2) حداثة السن: كناية عن الشباب وأول العمر لسان العرب مادة حدث (2/ 796).
(3) العواتق: جمع عاتق وقيل هي البكر التي لم تبن عن أهلها وقيل هي التي بين التي أدركت وبين التي عنست.
(4) فتوح البلدان صـ291، الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية صـ187.
(5) الحياة الاقتصادية والاجتماعية بطاينة صـ135.
(6) الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية للريس صـ214.(1/297)
ـ ألا يترتب على تملكه للأرض بطريق الإحياء ضرر على المسلمين، الأفراد أو جماعة المسلمين، وكذا من له ذمة (1)، وقد ساهم الاقطاع ـ أي الاقطاع يقصد الإحياء والإعمار ـ في تكوين الملكيات الزراعية الكبيرة، فقد أقطع معاوية رضي الله عنه بعض أخوته الجزيرة التي بين النهرين، فأرسل زياد بن أبيه الماء، فلما نظر إليها المقطوعة له ظن أنها بطيحة، فاشتراها منه
زياد بمائتي درهم، وقد أقطع زياد بعد ذلك من تلك الأرض غيره، مما يدل على عظم حجمها، حتى أنه أيضاً حفر لها أنهاراً وليس نهراً واحداً (2)، وأقطع زياد بن أبيه مرّة مائة جيب (3) على نهر الأبلة فحفر لها نهراً فسمي باسمه، كما أقطع أيضاً كل بنت من بناته ـ أي بنات زياد ـ ستين جريباً (4) واستمرت الملكيات الزراعية بالتوسع مع مجيء الخلفاء الأمويين بعد معاوية رضي الله عنه، ولم ينحصر الإقطاع للأراضي على الأسرة الأموية وبعض وجهاء قريش، وإن كان هو الغالب (5)، إذ كانت هناك إقطاعات لعامة الشعب، ومثال ذلك أن زياداً كان يقطع الرجل القطعية ويتركه سنتين فإن لم يعمرها أخذها منه (6)، وقد كانت تقدر مساحات تلك الاقطاعات بين (60 ـ 100) جريب (7)،
وقد كانت إقطاعات الدولة الأموية من الصوافي أو من الأراضي الموات ولكن بصفة عامة يؤخذ على القطاع في العصر الأموي عنصر المحاباة، إذ أن أصحاب الملكيات الكبيرة كانوا إما من الأسرة الأموية أو من أشراف قريش، وبحثت الدولة عن أصحاب السيولة النقدية القادرين على استثمار تلك الأراضي، لكن ترتب على ذلك السلوك تركز الثروة الكبيرة في أيدي قلة من أفراد المجتمع (8)، كانت الزراعة في العصر الأموي تعتمد بصفة رئيسية على مياه الأنهار، ولذا نجد أن مراكز الإنتاج الزراعي الرئيسية كانت هي العراق ومصر والشام، وبالذات حول
_________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي.
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ178.
(3) المقصود به هنا: وحدة المساحة.
(4) معجم البلدان (1/ 435) التطور الاقتصادي صـ180.
(5) أرض الصوافي للمصري صـ122.
(6) تطوير نظام ملكية الأراضي، محمد علي صـ 190، 191.
(7) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ188 ..
(8) تطوير نظام ملكية الأراضي، محمد على صـ190 ـ 191.(1/298)
الأنهار (1)، وكان للقطاع الخاص دوره في تطوير الزراعة في العهد الأموي، وقد قام القطاع الخاص باستصلاح أراضي زراعية جديدة بمساحات واسعة ومثال ذلك أراضي البطائح التي كانت منذ عهد الفرس وحتى عهد الدولة الأموية أراضي مغمورة بالمياه، فبدأت من بداية الدولة الأموية حركة استصلاحها بحجز المياه عنها وتجفيفها، وقد خرجت منها أراضي واسعة وخصبة وفيرة الإنتاج (2)، وقد توسعت الملكيات الزراعية الخاصة، وترتب عليها زيادة في الإنتاج الزراعي، مما أدى إلى وجود أراضي بعيدة عن مصدر الري وهو النهر الأساسي، فحدث تطور في تقنية الري حيث ظهرت حركة حفر الأنهار والقنوات الفرعية وفق طرق هندسية تسمح لتلك الأراضي بالاستفادة من
ماء النهر دون أن يؤدي ذلك إلى إغراقها، وقد توسع القطاع الخاص في حفر هذه الأنهار والقنوات، فحدثت تنمية زراعية نتيجة استفادة الأراضي التي كانت تمر بجوارها تلك الأنهار والقنوات الفرعية (3)،
وقد تمّ نقل التقنية الزراعية من البلاد المفتوحة حديثة إلى مراكز الإنتاج الزراعي الرئيسية في الدولة الأموية (4) إلا أن القطاع الزراعي تعرض للتدهور في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية بسبب عوامل متعددة منها:
1 ـ الاضطراب السياسي، وفقدان الأمن بالمنطقة، فانعكس ذلك على مستوى الإنتاجية الزراعية، ويبدأ هذا الاضطراب مع مجيئ يزيد بن معاوية، ومعاوية الثاني، ومروان بن الحكم .. الخ.
2 ـ تركز الثروة في يد قلة من سكان المنطقة، حيث كانت معظم التركيبة السكانية من الموالي (5)، مما ترتب عليه ضعف حركة النقود داخل المنطقة، فضعفت حركة تبادل السلع، أي حدوث كساد اقتصادي بالمنطقة.
3 ـ إعادة ضريبة النيروز والمهرجان التي روي أنها بدأت مع عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (6)، وكان السبب في إعادتها أن الناس اعتادوا دفعها على الرغم من منع الإسلام لها (7)، فأراد معاوية رضي الله عنه سحب مبالغها من غير
_________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ188.
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ190.
(3) االإدارة في العصر الأموي صـ151 ..
(4) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ191.
(5) المصدر نفسه صـ196.
(6) تاريخ اليعقوبي (2/ 218).
(7) مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي صـ31.(1/299)
المسلمين من الدهاقنة المسئولين عن الجباية، حتى لا يكونوا مراكز ثروة يتقوون بها ضد الدولة الإسلامية، وكان ينفقها رضي الله عنه في مصالح الأمة الإسلامية، لكن الدهاقنة والأمراء المحليين أخذوا فيما بعد في إبتكار ضرائب إضافية عديدة (1)، أرهقت كاهل المزارعين، بالإضافة إلى ما صاحب تلك الضرائب من عنف في الجباية (2).
4 ـ إخضاع المشاريع الزراعية للضغوط السياسية، فقد أدت محاربة الدولة لخصومها السياسيين إلى تخرب أو تحجيم مشاريعهم الزراعية، فانعكس ذلك بنتائج سلبية على اقتصاد الدولة ككل، ومن صور ذلك ما حدث في عهد الحجاج من أن بثوق انبثقت على الأرض المحيا من أرض البطائح فلم يعمل الحجاج ـ بوصفه والي المنطقة ـ على سد تلك البثوق مضارة لأهلها (لاتهامهم بمساعدة ابن الأشعث في الخروج عليه). فغرقت أراضيهم الزراعية وتحولت إلى موات (3).
5 ـ معاناة الدولة الأموية في بداية نشأتها من مجموعة من المهاجرين الذين قدموا إلى
إقليم العراق، وكانوا يعانون من البطالة، حيث لم يكونوا مسجلين بالعطاء، وليس لديهم أراضي يقومون بزراعتها، فبدلاً من أن يقوموا بالعمل في مجال من المجالات الأخرى قامت فئة منهم بإحداث بثوق في نظام الري، فأدى ذلك إلى تخريب المزارع وإغراقها، فلما ولي زياد العراق قام بالقضاء على مثل تلك الأعمال (4).
6 ـ حدوث مواجهة عسكرية بين المزارعين المهاجرين من الأرياف إلى المدن من الموالي والدولة الأموية، وذلك حينما حاول والي العراق ـ الحجاج بن يوسف ـ إعادتهم إلى أراضيهم بالقوة وإعادة فرض الجزيرة عليهم، وقد وافق ذلك خروج ابن الأشعث على الدولة الأموية، فانضموا تحت لوائه (5). ونتيجة لتلك العوامل وغيرها، فقد بدت علامات تدهور القطاع الزراعي العام في المنطقة الشرقية من
_________
(1) الخراج لأبي يوسف صـ186، 187.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي صـ175.
(3) إدارة العراق في صدر الإسلام، رمزية خيرو صـ86.
(4) إدارة العراق في صدر الإسلام، رمزية خيرو صـ86.
(5) الخراج والنظم للريس صـ219، الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية في الدولة الأموية صـ71.(1/300)
الدولة الأموية (1). ومع ذلك فقد كانت خلال تلك الفترة مجموعة من الإجراءات والمشاريع التي خففت من حدة التدهور الزراعي بالمنطقة خلال هذه الفترة، وكان من أبرزها ما يلي:
أـ إنشاء زياد بن أبيه جسراً يمنع طغيان الماء على الكوفة (2) مما وفر الفرصة لاستغلال أراضي كانت تعطل فترة من السنة نتيجة فيضان الماء عليها، وينتظر حتى تنتهي فترة الفيضان، وتجف الأرض حتى يمكن إعادة زراعتها مرة أخرى، كما أعطى هذا المشروع فرصة إدخال زراعة النباتات المعمرة إلى تلك الأراضي بدلاً من افتقار الزراعة فيها على المحاصيل الموسمية، وبلغ من أهمية هذا الجسر أن الولاة ظلوا يتعاهدونه طيلة فترة العصر الأموي (3).
ب ـ عملية نقل الأيدي العاملة الزراعية من منطقة إلى منطقة أخرى، بهدف إحداث تنمية زراعية في الجهة المنقول إليها ومن أمثلة ذلك ما يلي:
ـ نقل زياد خمسين ألف أسرة من البصرة والكوفة من ذوي الخبرة الزراعية المشهورة إلى خراسان لتعميرها (4).
هذا وقد كانت الدولة الأموية تتولى مسؤولية إقامة منشآت الري الكبرى والعمل على صيانتها وتطهيرها، كحفر الآبار ومجاري الأنهار، وسد البثوق (التصدع)، وفتح البريدات (مفاتيح الماء)، وإقامة المسنيات (السدود)، أما أصحاب الأراضي فكانوا يشاركون أحياناً
في نقطة تطهير الأقنية الكبيرة، وكذلك الأمر فإنه كان يقع على عاتقهم، بطبيعة الحال مسؤولية إقامة الأقنية ووسائل الري داخل ممتلكاتهم الخاصة (5)، وقد حاول الحكام الأمويون استغلال ما أمكنهم من الأراضي، فعملوا على توسيع نطاق الأراضي الزراعية، وبخاصة تجاه بداية الشام، عن طريق استصلاحها وتأمين المياه، ووسائل الري لها (6)، حتى أن قصور الأمويين في
_________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ198.
(2) الإدارة في العصر الأموي صـ247.
(3) المصدر نفسه صـ247.
(4) مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي للدوري صـ27.
(5) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي، عاطف رجال صـ135.
(6) التنظيم الاقتصادي في صدر الإسلام صـ82.(1/301)
الصحراء كانت مراكز مهمة للاستثمار الزراعي حيث أقيمت حولها منشآت الري، من قنوات وصهاريج، ومجاري وتوسعوا بذلك في استصلاح الأراضي بواسطة توفير الري لها (1)، وكان الخليفة معاوية بن أبي سفيان يبدي اهتماماً كبيراً بتنمية الزراعة ورفع مستوى إنتاجها، فكان يولي عنايته لتطوير وسائل الري، وإخصاب الأراضي عن طريق الاستعانة بأصحاب الخبرة والاختصاص من السكان المحليين (2)، كما أن يزيد بن معاوية كان يلقب بالمهندس نظراً لخبرته الهامة في الشؤون الزراعية، وإبداء اهتمامه بإصلاح أنظمة الري والعناية بها، فقد أمر بحفر قناة سميت باسمه بنهر يزيد، وكانت هذه القناة في الأساس رافداً صغيراً بالكاد يروي ضيعتين بالغوطة، فقام يزيد بتوسيعها وتعميقها حتى أصبحت بعرض ستة أشبار، وبعمق ستة أشبار كذلك، الأمر الذي أدى إلى زيادة تدفق المياه وغزارتها، بحيث أصبحت تكفي لري أراضي واسعة في الغوطة (3)،
وبذلك أتيح المجال أمام المزارعين للقيام باستصلاح بعض أراضيهم المتروكة والعمل على استغلالها (4)، وكانت غالبية الأراضي في بلاد الشام تعتمد في ريها على مياه الأمطار التي تتساقط عليها خلال الفترة الممتدة بين تشرين الأول ونيسان، إلا أن أراضي واسعة (5) كانت تروي سيحاً، أي من المياه الجارية على سطح الأرض حيث تأتي من مياه بعض الأنهار ومن مياه العيون في الجداول والقنوات وكذلك فإن قسماً آخر من الأراضي كانت تروى بواسطة الآلات التي ترفع المياه من منخفضات بعض الأنهر إلى سواقي أعلى لري الأراضي التي يعلو مستواها عن مجاري الأنهر، أو التي ترفع المياه من الآبار والخزانات (6)، وتعتبر مياه العيون مهمة في ري المزروعات، حيث كانت
تروي قسماً كبيراً من الأراضي في أنحاء الشام (7) وكانت الغلات والمزروعات
_________
(1) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي في العصر الأموي صـ136.
(2) النزعات المادية، حسين مروة (1/ 476) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي.
(3) تهذيب تاريخ دمشق (1/ 245 ـ 246) ..
(4) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي في العصر الأموي صـ141.
(5) مفاتيح العلوم للخوارزمي صـ46 تاريخ بلاد الشام الاقتصادي صـ141.
(6) تاريخ بلاد الشام في العصر الأموي صـ141.
(7) المصدر نفسه صـ143.(1/302)
المتوفرة، القمح والشعير والرز والزيتون، والنخيل والعنب والتين والفواكه والقطن، وقصب السكر، والبقول، والسمسم، والرياحين، وغير ذلك (1).
رابعاً: اهتمام الدولة بالتجارة الداخلية والخارجية:
يتوسط موقع الدولة الأموية بين دول الشرق الأقصى من ناحية مثل الصين والهند ونحوهما وبين الدولة البيزنطية من ناحية أخرى، ومعنى ذلك بالضرورة وطبقاً لمعايير ذلك العصر ـ أن أهم علاقاتها التجارية ارتبطت بهاتين الدولتين (2)، وبعد تولي معاوية الخلافة استقرت الأمور وبدأت حركة التجارة الداخلية تزدهر كما كانت عليه قبل ذلك، واهتم معاوية بمصالح التجار وعمل على توسيع نطاق التجارة، وتميز أهل الشام في حرفة التجارة وفتحوا علاقات تجارية مع غربي أوربا واستفادوا من الأسطول الإسلامي ومن بين العوامل التي ساعدت على نشاط حركة التجارة الثراء العريض الذي نعمت به طبقة الحكم وحاشيتهم، حيث نمّا في نفوسهم حب البذخ والرفاهية، وبالتالي توفر عندهم الميل والحاجة إلى اقتناء المنتوجات الكمالية، فأقبلوا على شراء السلع التجارية الباهظة الثمن، مما زاد في فعالية التجار وازدهار التجارة (3)، وكان الأمويون يقومون بدور كبير في عالم التجارة وخصوصاً أن الخليفة معاوية رضي الله عنه والده كان من كبار تجار قريش، كما أن معاوية نفسه لما كان والياً في عهد عثمان بن عفان على بلاد الشام كان يرسل بقوافله التجارية من الشام إلى حاضرة الجزيرة العربية (4)، وكان التجار يحتلون مكانة اجتماعية عالية في العصر الأموي وكانوا يقومون بتأسيس الشركات في سبيل زيادة فعالية التجارة، حيث كانوا يساهمون في الشركة بتقديم المال وممارسة العمل كذلك، أو بواحد منهما، فإذا أقدم صاحب المال على تقديم ماله لآخر ليتاجر به لقاء حصة من الربح يتفق عليها، فيسمى ذلك الاتفاق بالمضاربة (5). وقد ازدهرت شركات المضاربة وأصبحت وسيلة مهمة في مجال العمل التجاري (6)،
وكانت تجارة الأسواق المحلية مليئة بالحركة والنشاط، وقد
_________
(1) تاريخ بلاد الشام في العصر الأموي صـ147 إلى 156.
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ205.
(3) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي في العصر الأموي صـ168.
(4) المصدر نفسه صـ172.
(5) المصدر نفسه صـ174.
(6) المصدر نفسه صـ174 ..(1/303)
أصبحت عاصمة الدولة دمشق مركزاً تجارياً مهماً يعود إلى الظروف السياسية الجديدة التي نشأت، فغيرت من سبل واتجاهات حركة التجارة عما كانت عليه سابقاً
في العصر البيزنطي، حيث أصبحت دمشق عاصمة للخلافة الأموية، ومحط للتجارة الشرقية (1)، وبالتالي مركزاً لتوزيع البضائع إلى الجهات المختلفة، بعد أن كانت القوافل المحملة بالبضائع الشرقية تتجه مباشرة إلى إنطاكية على ساحل الشام الشمالي، وهكذا كان لأهمية تجارة دمشق التي تتكدّس في أسواقها البضائع المتنوعة، المنتجة محلياً والمستوردة أن قال ياقوت بأنه يستحيل أن يطلب شيء في الأسواق دمشق غير موجود، حتى إن السلع الغالية الثمن التي تستورد من جميع أنحاء العالم المتمدن موجودة فيها (2). ثم إن دمشق كانت بحكم موقعها الجغرافي المتاخم للبادية المركز التجاري الهام الذي يقصده البدو والمقيمين في الصحراء (3)، وقد اشتهرت مدن الشام كحلب والرصافة، وحمص، والرملة والقدس وإنطاكية بأهميتها التجارية، ونشاط أسواقها (4) وكانت عاصمة الشام، محط رحال القوافل التجارية الآتية من الشرق، ولا شك أن الكوفة والبصرة والموصل، ومدن الحجاز، ونجد وغيرها قد ازدهرت حركة التجارة فيها أيضاً إلا أن مدن الشام كانت تزدهر فيها التجارة أكثر من غيرها، حيث أنها تعتبر مراكز تجارية كبرى وأسواقاً هامة، كما أن الأسواق الموسمية التي كانت تقام في بعض المدن، تعرض فيها البضائع المتنوعة بكثرة، كانت توفر مجالاً أوسع لتأمين كافة متطلبات واحتياجات سكان المدن والقرى كذلك، بالإضافة إلى أن هذه الأسواق كانت مناسبة هامة للتجار الذين يأتون إليها من أماكن مختلفة تستفيد من كل ذلك.
وقد كان من هذه الأسواق التي كانت قائمة في العصر البيزنطي واستمر قيامها في العصر الأموي سوق بصري الذي كانت تطول مدة إقامته، حيث كان يستمر من ثلاثين إلى أربعين يوماً وكذلك فقد كان هناك سوق أذرعات الذي استمر قيامه حتى ما بعد العصر الأموي (5).
_________
(1) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي صـ183.
(2) معجم البلدان (2/ 465).
(3) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي صـ183.
(4) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي صـ183.
(5) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي في العصر الأموي صـ187.(1/304)
وأما بالنسبة للتجارة الخارجية في عهد معاوية رضي الله عنه وابنه، فقد ازدهرت التجارة مع الدولة البيزنطية، وازدادت نمواً وقوة، وقد ساهمت عدة عوامل في هذا الازدهار منها:
1 ـ كثرة الاضطرابات والحروب في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية، مما خفض من حجم المبادلات التجارية بينها وبين دول المشرق ولو بشكل جزئي، وبالتالي زيادة حجم المبادلات التجارية مع دولة بيزنطة بالغرب.
2 ـ الاستقرار الأمني من الدولة الأموية، دفع بكثير من رؤوس الأموال للهجرة من مناطق التوتر في الشرق إلى إقليم الشام، بحثاً عن فرص استثمار تجارية آمنة.
3 ـ الاعتماد الكلي لكل من الدولتين على الأخرى في مجال هام وحيوي بالنسبة لها،
فكما كانت الدولة البيزنطية تعتمد كلياً على أوراق البردي، كانت الدولة الأموية تعتمد كلياً في حجم النقد الذهبي داخلها على ما يردها من الدولة البيزنطية. ومن العلامات التي تدل على ازدهار التجارة بين الطرفين في عهد معاوية ومن بعده ما يلي:
أـ كمية الدنانير الذهبية البيزنطية التي كانت موجودة في داخل الدولة الأموية تتم بها عمليات التداول الداخلية.
ب ـ استمرار مصانع إنتاج البردي في مصر في إنتاجه على النهج البيزنطي للتصدير حتى عهد عبد الملك بن مروان (1).
خامساً: الحرف والصناعات:
تأثرت الحرف والصناعات في العصر الأموي بالبيئة الاقتصادية المحيطة بها، كما تأثرت الصناعات والحرف بطبيعة الاقتصادي الأموي، حيث كان النشاط الزراعي هو النشاط الرئيسي فيه، فظهرت وتطورت صناعات تعتمد في موادها الخام على القطاع الزراعي، مثل صناعة النسيج وصناعة المعاصر والمطاحن، كما واكبت الصناعة حركة التطور العمراني بالدولة الأموية، فظهرت وتطورت صناعة مستلزمات البناء، إضافة
_________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ209.(1/305)
إلى تأثر الصناعة بالجو العسكري السائد في معظم فترات العصر الأموي، حيث تطورت صناعة السفن التجارية (1)، وقد اهتمت الدولة الأموية ببناء أسطول حربي، ليقف في وجه الأسطول الحربي البحري البيزنطي، والذي كان يهدد سلامة الشواطئ الغربية للدولة الإسلامية، فتطورت صناعة السفن الحربية في العصر الأموي بشكل كبير ومتلاحق، فقد كان الإنتاج في بداية العصر الأموي مقتصراً على السفن، التي كانت تنفرد مصر بصنعها حتى عام 49 هـ، حيث أمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، بإنشاء دار لصناعة السفن بالشام بمدينة عكا، وقد استقدم من مصر الخبراء للاستفادة منهم في دار الصناعة الجديدة، والتي تميزت بسهولة حصولها على الأخشاب من جبال لبنان (2). ثم تطورت هذه الصناعة، فأنشأت في مصر منطقة صناعية جديدة، خاصة بصناعة السفن الحربية، وذلك عام (54 هـ) (3)
واستمرت الدولة الأموية في تطوير صناعة السفن فيما بعد عهد معاوية رضي الله عنه وقد أصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني، كما أصبحت مناطق جذب وتوطن صناعي، فأصبحت أماكن استثمار خصبة، حيث أنشأت فيها
الفنادق، والمطاحن، ونحوها من الأنشطة الأخرى وساعد على نمو وتطور هذه الصناعة، ما اتسمت به منذ بداية نشأتها، من دقة التنظيم، ومن صورة هذه الدقة ابتكار وظيفة المشرف العام على دار الصناعة ويسمى متولي الصناعة، ومن أبرز مهامه جمع الطاقات البشرية الفنية العاملة في هذا المجال من نجارين وحدادين وعمال ونحوهما، سواء من الأقاليم المجاورة للصناعة، أو من مختلف أقاليم الدولة، ومن مهامه أيضاً توفير الأدوات الخام، مثل الأخشاب والمسامير وغيره من مستلزمات دار الصناعة، وعليه يمكن القول أن التنظيم كعنصر من عناصر الإنتاج في العصر الحديث ترجع جذوره إلى القطاع العام الصناعي في العصر الأموي، أو ((متولي الصناعة))، ومن صور دقة تنظيم هذه الصناعة، الاهتمام بتحديد أجور العمال، وتوفير الكميات الغذائية اللازمة
_________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ235.
(2) خطط الشام (5/ 37)، النظم الإسلامية، إبراهيم العدوي صـ355، التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ239.
(3) تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي صـ166 ..(1/306)
لهم، كما حرصت الدولة على توفير سبل الراحة للعاملين في هذه الصناعة، وكان من بين ذلك رفعها كل ظلم يقع على العامل، وتوفير وحدات سكنية للعمال، والمشرفين على هذه الصناعة بداخل دور الصناعة، وكذا وحدات لتموين السفن الحربية بالسرعة والدقة المطلوبة (1)، ونتج عن ذلك كله تطور هائل في حجم الأسطول البحري إبان العهد الأموي (2):
لقد كانت الدولة البيزنطية متفوقة على الدولة الإسلامية الأموية في ميادين البحر، فاتخذ معاوية الوسائل المناسبة لإضعافها ثم القضاء عليها فيما بعد وفي هذا الفقه درس عظيم لقادة الأمة في معرفة عوامل قوة العدو، وجوانب تفوقه ثم السعي للوصول لنقطة تساوي ثم تفوق على الخصوم، سواء في الميادين العسكرية، أو السياسية، أو الاقتصادية أو الإعلامية، ومما نلاحظه الآن القوى العسكرية الهائلة التي تميز بها عدونا سواء على مستوى السلاح الجوي أو النووي والذري، فواجب على الأمة أن تسعى لإيجاد حلول حتى تستطيع أن تقاوم أعداءها وعلى علماء الأمة ومفكريها ألا يخضعوا للضغوط النفسية والسياسية والإعلامية التي يمارسها الأعداء علينا، وعليهم أن يبينوا أحكام الله في امتلاك لما يسمى بأسلحة الدمار الشامل. إن استمرار الأعداء في امتلاك الأسلحة الرادعة والتي لها قدرة بإذن الله على حسم المعارك العسكرية، جعلهم يتجبرون ويتغطرسون ويعملون على إفساد عقائدنا وثقافتنا وديننا، ويستولون على خيراتنا وثرواتنا وديننا يوجب علينا أن نعد لأعدائنا ما استطعنا من قوة، فلذلك وجب علينا أن نسعى لامتلاك الأسلحة الرادعة لكي نحمي بها أمننا وديننا ونقيم العدل وندفع الظلم عن البشرية.
ومن الصناعات التي اشتهرت في العهد الأموي، صناعة السفن التجارية، ولم تكن السفن الحربية تختلف كثيراً عن السفن التجارية، ومع ذلك كانت مناطق تصنيعها مختلفة، فقد
اختصت منطقة البحرين أكثر من غيرها بإنتاج السفن التجارية، في حين كانت مصر، وعكا، وتونس مواطن تصنيع السفن الحربية، وساعد البحرين على ذلك وقوعها على الخليج العربي، والذي كان يعد من أهم
_________
(1) النظم الإسلامية للعدوى صـ354، 355.
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ241.(1/307)
طرق المواصلات التجارية البحرية بين الشرق والغرب وكذا ما اكتسبه أهلها من خبرة ملاحية نتيجة احتكاكهم بشعوب لديها خبرات ملاحية كشعوب الهند، والصين (1). ولم تقتصر صناعة السفن على البحرين، بل امتدت إلى مدينة واسط بالعراق وقد تطورت هذه الصناعة في عهد ولاية الحجاج بصفة خاصة (2)، فقد أدخل تحسينات على صناعة السفن التجارية لتستطيع السير في عرض البحر، فأمر بتكبير حجمها، واستخدام المسامير لتقويتها، والاهتمام بهيكلها العظمي (3)، وكانت السفن التي تصنع في واسط تسمى الواسطية، وكانت تنتج مدينة واسط القوارب الصغيرة، والتي كانت تستخدم للنزهة والسفر ونقل السلع التجارية بين واسط والبصرة لضحالة الطريق النهري بينهما وعدم قدرة السفن على السير فيه (4)، ولم تكن مراكز إنتاج السفن الشرقية بالدولة الأموية متخصصة في إنتاج السفن التجارية فقط وإن كان هو الغالب عليها، بل كان لديها القدرة المزدوجة، فقد قام الحجاج أيضاً ببناء قوة عسكرية بحرية بالخليج العربي وبحر الهند (5).
سادسا: شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية:
أثار بعض المؤرخين شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية رضي الله عنه، وذكروا عدة مصارف وسموها بأنها جائرة وغير شرعية منها:
1 ـ التفريط في خراج بعض الأقاليم والتفرقة في العطاء:
أـ إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص:
تتعدد الروايات التي تنص على أن معاوية أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص لقاء تأييد الأخير له في حربه ضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجل هذه الأخبار تحوي روحاً عدائية لعمرو ومعاوية وتصور اتفاقهما على حرب علي كما لو كانت مؤامرة دَنيئة أو صفقة مريبة، خان فيها الرجلان ربهما ودينهما، وتاريخهما مقابل عرض زائل أو نصر
_________
(1) البحرين في صدر الإسلام، عبد الرحمن نجم صـ84.
(2) العلاقات التجارية بين دول الخليج وبلدان الشرق الأقصى صـ101.
(3) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ242.
(4) الحجاج بن يوسف الثقفي صـ59 هزاع الشمري.
(5) واسط في العصر الأموي صـ243.(1/308)
سريع، وكأنه من المستحيل أن يبذل ابن العاص نصره لقضية اجتمع حولها آلاف الرجال في الشام وغيرها ـ وهي الطلب بدم عثمان ـ إلا إذ نال ولاية مصر وخراجها لنفسه، وبعض هذه الروايات تحوي سباباً لهذين الصحابيين، كأن تزعم أن عمرو فضل ولاية مصر على
حسنى الآخرة وصرح بذلك فقال: إنما أردنا هذه الدنيا (1)، أو أنه قال لمعاوية: لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك (2)، أو قوله: إنما أبايعك بها ديني ((أي بمصر (3)، أو قوله لمعاوية: ولولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها، فإني أُعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده (4)، إلى غير ذلك من الروايات (5)، وهكذا روايات باطلة وموضوعة عند المسعودي وكتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة وغيرها تمسخ عمرو بن العاص إلى رجل مصالح، وصاحب مطامع وراغب دنيا، وقد تأثر بالروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة مجموعة من الكتّاب والمؤرَّخين، فأهووا بعمرو إلى الحضيض، كالذي كتبه محمود شيت خطاب (6) وعبد الخالق سيِّد أبو رابية (7)،
وعباس محمود العقَّاد الذي يتعالى عن النَّظر في الإسناد، ويستخفُّ بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنَّهما: انتهازيَّان، صاحبا مصالح، ولو أجمع الناَّقدون التاريخيون على بطلان الرِّوايات التي استند إليها في تحليله فهذا لا يعني للعقَّاد شيئاً، فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة، واهية، لا تقوم بها حجة: ... وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحَّة هذه الكلمات، وما ثبت نقلة، ولم يثبت منه سنده، ولا نصُّه فالذي لا ريب فيه، ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه: أن الاتفاق بين الرجلين، كان اتفاق مساومة، ومعاونة على الملك، والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصَّيب الذي آل على كلِّ منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق (8).
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها نقلاً عن الكامل في التاريخ.
(2) الإمامة والسياسة (1/ 98).
(3) العقد الفريد (4/ 345).
(4) مروج الذهب (3/ 29).
(5) وقعة صفين صـ237 سلسلة هذه الروايات كلهم من الشيعة الروافض.
(6) سفراء النبي صلى الله عليه وسلم صـ508.
(7) عمرو بن العاص، لعبد الخالق سيد أو رابية صـ316 ..
(8) عمرو بن العاص للعقاد صـ231 ـ 232.(1/309)
وهناك عدة دلائل ترد على الروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة التي لاقت رواجاً واستقرار في تشويه عمرو بن العاص ومعاوية بالظلم والبهتان منها ما عرف من صحة إسلام وتقوى معاوية وعمرو، وتاريخهما المضيء في خدمة دين الله منذ أسلما (1)، ففي معاوية يكفي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهد به (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم اللهمّ
علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب (3)، وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان حيث قال: أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص (4) وفي حديث آخر قال: ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام (5)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: .. وصدق عمرو، إن لعمرو عند الله لخيراً كثيراً (6).
ـ كانت بيعة عمرو لمعاوية في عهد علي على الطلب بدم عثمان، فقد كان تأثر عمرو بمقتل عثمان عظيماً، فعندما سمع خبر مقتل عثمان ... ارتحل راجلاً يبكي، ويقول: يا عثماناه: أنعي الحياء والدين ... حتَّى قدم دمشق (7)، فقد كان من أقرب أصحابه، وخلانه، ومستشاريه، وكان يدخل في الشُّورى ـ في عهد عثمان ـ من غير ولاية، ومضى إلى معاوية رضي الله عنهما ليتعاونا معاً على الاقتصاص من قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد (8)، لقد كان مقتل عثمان كافياً لأن يحرِّك كلَّ غضبه على أولئك المجرمين السَّفَّاكين، وكان لابدَّ من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرَّؤوا على حرم رسول الله، وقتلوا خليفته على أعين النَّاس، وأيُّ غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟ وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع، فمداره على الرِّوايات المكذوبة التي تصوِّر عمراً: كلُّ همه السُّلطة والحكم (9).
_________
(1) الدولة الأموية حمدي شاهين صـ416.
(2) صحيح سنن الترمذي للألباني (3/ 236).
(3) موارد الظمآن (7/ 249) إسناده حسن.
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 238) رقم 155.
(5) الطبقات (4/ 191)، السلسلة الصحيحة (1/ 240) رقم 156.
(6) المستدرك (3/ 455) صححه الحاكم وقال الذهبي: صحيح إسناده حسن.
(7) تاريخ الطبري، نقلاً عن عمرو بن العاص، للغضبان صـ481.
(8) عمرو بن العاص، للغضبان صـ (489، 490).
(9) المصدر السابق صـ492.(1/310)
ـ ومن الدلائل على بطلان فرية إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص، ما ذكره أبو مخنف أحد رواة الفرية السابقة، أن دفع معاوية جيشه إلى فتح مصر وأخذها من يد أنصار علي بن أبي طالب سنة 38 هـ - وكان عمرو قائده في هذه الحملة ـ أنه كان: يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها (1) ... فكيف يهب معاوية ذلك الخراج كله لعمرو وهو في مسيس الحاجة إليه؟
ـ ومن الدلائل أيضاً: أن معاوية كتب بعد استخلافه إلى عامله على خراج مصر ـ وردان ـ أن زد على كل امرئ من القبط قيراطاً، فرد عليه: كيف وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم (2)؟ ولم يل وردان خراج مصر لمعاوية إلا في ولاية عمرو بن العاص لأن من ولوا مصر بعد موت عمرو ـ
وهم عتبة بن أبي سفيان وعقبة بن عامر ومسلمة بن خالد ـ كانوا يتولون صلاتها وخراجها، وهذه الرواية صريحة قاطعة في الدلالة على اهتمام معاوية بزيادة حصيلة الخراج في مصر، وفي ولاية عمرو بن العاص عليها، وهذا الاهتمام لا معنى له إلا إذا كان فائض الخراج في مصر يحمل إلى معاوية في دمشق ليواجه به وجوه الإنفاق المتنوعة (3). كما أن معاوية لم يكن يستحل أن يتنازل عن خراج مصر ـ وهي من أغنى أقاليم الدولة الإسلامية آنذاك ـ لفرد واحد وهو يعلم أنه حق الأمة كلها، وأنه لا يملك التنازل عنه، وقد روى ابن تيمية عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاماً قابلاً قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة علي، فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاءه عليكم (4)،
وإذا أضفنا إلى ذلك ما نعرفه من تنافس الأمصار الإسلامية مع بعضها، ووجود معارضة للأمويين في مصر كانت حديثة العهد منذ تبعية مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى ـ دخلها ـ عمرو بن العاص سنة 38 هـ، لازددنا يقيناً أن أهلها لم يكونوا يقبلون ما يزعمه الرواة حول إعطائها طعمة لابن العاص
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 9).
(2) فتوح البلدان صـ219.
(3) الأميون والفيء صـ 67، 68، فهمي عبد الجليل.
(4) منهاج السنة النبوية (3/ 185) ..(1/311)
وعلى ذات السبيل نذكر أن من رجال مصر من بذل في سبيل نصرة معاوية مثلما بذل عمرو بن العاص، إن لم يفقه، كمعاوية بن حديج وأصحابه من العثمانية، وهؤلاء لا يقبلون بحال أن يمتاز عمرو عليهم كل هذا الامتياز، قد مر بنا فيما مضى أن معاوية بن حديج هذا قد أرجع ابن أخت معاوية ـ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ الذي ولاه معاوية مصر، من قبل أن يدخلها، ورفض أن يتولى إمارتهم ورده إلى الشام على نحو غير كريم، فما استطاع معاوية أن يغضب بن حديج (1).
ب ـ التنازل عن خراج ((دارابجرد)) للحسن بن علي:
زعم بعض المؤرخون أن معاوية تنازل للحسن بن علي رضي الله عنهما عن خراج ((دارابجرد)) وأن يعطيه مما في بيت مال الكوفة مبلغ خمسة آلاف ألف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، وأن الحسن قد أخذ ما في بيت مال الكوفة ولكنه لم يستطع الحصول على خراج ((دارابجرد)) إذ إن أهل البصرة قد منعوه منه، ويزعمون أن ذلك كان بتحريض معاوية أو بمبادرة من البصريين على أن هذه الرواية تغض من شأن الحسن ومعاوية معاً وتجعلهما في موقف التواطؤ على أكل أموال المسلمين بالباطل (2) وهذا باطل ولا يصح والصحيح مثبت في البخاري بأن الحسن قال لوفد معاوية عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال .. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به (3)، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد
المطلب، يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه قادم (4)، وذكر ابن أعثم أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لي فيء المسلمين (5)، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة في هذا الجانب، ولكن الرواية أشارت إلى أن خراج دار بجرد لم يكن في الأموال التي صيرت إلى الحسن (6)، ورُوي أن الحسن قال لمعاوية: إن عليَّ عِدَّات ودُيوناً، فأطلق له من بيت المال نحو أربعمائة ألف أو أكثر (7)، وذكر
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها صـ417.
(2) المصدر نفسه صـ417، تاريخ الطبري (6/ 165).
(3) البخاري، ك: الصلح رقم 2704.
(4) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ64.
(5) الفتوح (3/ 293).
(6) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ64.
(7) تاريخ الإسلام، عهد معاوية صـ7.(1/312)
ابن عساكر: يُسلَّم له بيت المال فيقضي منه ديونه ومواعيده التي عليه، ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده وأهل بيته (1)،
وذهب بعض المؤرخين إلى أن إبقاءه ما في بيت المال معه (خمسة ملايين درهم)، استبقاه لأولئك المحاربين الذين كانوا معه، يوزِّعه بينهم، ويبقى لمعيشته له ولأهل بيته ولأصحابه (2). ولا شك أن توزيع الأموال على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر.
إن الذي جاء في رواية البخاري هو الذي أميل إليه فالأمر لا يكون تجاوز طلب العفو عن الأموال التي أصابها الحسن وآله في الأيام الخالية. وأما الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس (3)، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة (4). وأما حقه في العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشرة معشار ما ذكرته الروايات (5).
جـ ـ التفرقة في العطاء:
أول من سن ديوان العطاء في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أما قبل ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت غنائم الحرب توزع على المسلمين فور إنتهاء المعارك (6)، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين، وكان شيئاً كثيراً (7)، فتقرر بذلك أن تفضيل بعض الناس في توزيع الغنائم أمر مباح وقد يكون مستحباً إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك (8)، وإن كان ذلك يزيد في غنائمهم عن بقية المسلمين، ثم كثرت بعد
ذلك الغنائم المجلوبة إلى حاضرة المسلمين نتيجة اتساع نطاق الغزو زمن عمر بن الخطاب فاستشار أصحابه وانتهى أمره إلى تدوين ديوان العطاء ليكفل توزيعه على نحو معروف، وفضل أصحاب السابقة والقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم على من عداهم (9)، .. ولما جاء
_________
(1) تاريخ دمشق (14/ 90) ..
(2) في التاريخ الإسلامي، شوقي أبو خليل صـ268.
(3) الأخبار الطوال صـ218.
(4) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ63.
(5) المصدر نفسه.
(6) الدولة الأموية المفترى عليها صـ418.
(7) الاستخراج لأحكام الخراج صـ26 ابن رجب الحنبلي.
(8) الدولة الأموية المفترى عليها صـ418.
(9) المصدر نفسه صـ418.(1/313)
الأمويون فضلوا أهل الشام على من عداهم، فقد كانوا أنصارهم المخلصين، وهم عماد الجيوش المجاهدة سواء في الشمال في جهاد الروم أو في الغرب في فتوح إفريقية والأندلس، وهم المحافظون على سلامة الدولة وقمع مخالفيها، وكم استنجد بهم ولاة الأمصار حين خرج عليهم خارجون وعجز جند المصر في الدفاع عن أنفسهم ونظامهم كما حدث في قتال ابن الأشعث (1)، ومواجهة ثورة يزيد بن المهلب زمن يزيد بن عبد الملك (2)، وكما حدث في انتقاض البربر الخوارج بإفريقية في عهد هشام (3).
2 ـ التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار:
أنفق معاوية رضي الله عنه أموال كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن، فقد رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين .. فأعطى هؤلاء الرجال المال يستميل به قلوبهم، قلوب أتباعهم وأنصارهم، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من وراءهم، ولعله قد فهم من إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين ويسيل سخائم نفوسهم، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم، والولاء للدين والدولة يختلطان في فهم معاوية وبني أمية حيث قامت دولتهم فيما اعتقدوا لنصرة الدين وجمع شمل أهله (4)، وأخيراً فإن كان معاوية مخطئاً في ذلك فما القول في هؤلاء السادة الذين قبلوا عطاياه وجوائزه وفيهم من اشتهر بالتقوى والورع والخوف من الله تعالى؟ إن من الحق أن نقول إن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد كان يشهد تغيراً كبيراً عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حتى صارت بعض فعالياته السياسية ترى أن من حقها التميز في العطاء (5).
_________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها صـ420.
(2) المصدر السابق صـ420.
(3) الدولة الأموية المفترى عليها صـ420.
(4) الأمويون والفيء صـ72 ـ 73 فضلاً عن الدولة الأموية شاهين صـ422.
(5) الدولة الأموية المفترى عليها صـ422.(1/314)
3 ـ مظاهر النزف عند الأمويين:
هذا ويحتل الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم مكانة واسعة عند مؤرخينا، والحق أنه كان
عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم، وقد لفت معاوية نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إليه وهو بعد أحد ولاة الشام، يغدو في موكب ويروح في آخر، ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي آنذاك، فهي جزء منه، تتأثر به، كما تؤثر فيه، وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق، ومظاهر الغنى وانثيال الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة آنذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع .. وأن هذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه (1)، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع (2)، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعم حراماً (3)، وهكذا إذا نظرنا نظرة شاملة في وجوه الإنفاق المالي في ذلك العصر لا نجد مظاهر الترف والبذخ قصراً على بني أمية، خلفائهم وولاتهم، فبعض بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من معارضي الأمويين لم يكونوا أقل سماحة بالمال من بني أمية ولا أكثر حرصاً عليه (4)، وإذا كان بنو أمية قد ابتنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب قصوراً كان لها ذكر وبهاء وكان العرب يعدون ذلك كرماً، ويتفاخرون به، ويتوقعون مثله من كل شريف من أشرافهم وإن لم يكن حاكماً (5)،
والترف في المجتمعات الإسلامية ظاهرة سلبية لها ما بعدها، إن بحبحة الأمويين في الإنفاقات المالية أدت إلى ظهور الترف ثم تعمق وتجذر في الأمة حتى أصبح ترفاً مدمراً، ظهرت معالمه وآثاره في سقوط بلاد الشام في الصليبيين ثم سقوط بغداد في يد المغول وزوال الدولة العباسية، لذلك يكره الإسلام الترف ويحذر منه أشد التحذير: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) (الإسراء، الآية: 16). إنه كالحمض الأكال الذي ينخر في جسم المادة فيذهب
_________
(1) العواصم من القواسم صـ217 تعليق محب الدين الخطيب.
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها صـ424.
(3) الدولة الأموية المفترى عليها صـ424.
(4) المصدر نفسه صـ424.
(5) المصدر نفسه صـ425 ..(1/315)
بصلابتها، فتصبح هشة سهلة القصف، أو تصبح لينة لا قوام لها في الصدام، وقد كانت وفرة المال في أيدي الناس هي الباب المؤدي إلى الترف بطبيعة الحال ـ ولكن هذا ـ يفسر ولا يبرر، فإنه لا يوجد تبرير لمعصية الله، وقد جاء المال بوفرة نسبية على أيام عمر رضي الله عنه ولكنه تصرف بشأنه بمنع الفساد، فمنع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ من الخروج من المدينة ـ للضياع والتجارة ـ حتى لا تتكون منهم طبقة تملك المال في أيديها وتملك السلطان ((الأدبي)) على الناس، فيحدث التميز وتفسد الأحوال، فضلاً عن احتمال إصابتهم
هم أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب الخليفة، فتفسد مشورتهم حين تترهل نفوسهم ـ وإلى جانب ذلك ـ وقبل ذلك، أخذ عمر رضي الله عنه نفسه وأهل بيته بالشدة الحازمة، حتى لا يكونوا قدوة سيئة أمام الناس، فيفسد الناس، أما حين يترك المال بدون تصرف معين من ولي الأمر، يسمح بالنفع ويمنع الضرر، فإنه لا بد أن يؤدي إلى نتائجه المحتومة حسب السنة الإلهية، لا لأن المال في ذاته هكذا يضع، ولكن لأن الجهد البشري المطلوب لإصلاح الآفة لم يبذل فتنفرد الآفة وحدها بالسلطان، وآفة المال الترف، وعلاجها في يد ولي الأمر ... بنشر روح الجد في المجتمع وبإعطاء القدوة من نفسه لبقية الناس.
أما حين يترك في أيدي الناس بلا ضابط ـ مع وجود فئة تعمل جاهدة في إفساد أخلاق المجتمع وروحه كما فعل الفرس، فالنتيجة هي ما قررته السنة الربانية التي جاء بيانها في كتاب الله: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الروم، الآية: 41). والترف مُعْد ككل آفة .. فحين لا يعالج، ولا يوقف فإنه ينتشر ولا بد .. وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمهر أسوأ، لأن الحكام دائماً قدوة، وقد كان الأمويون ـ برغم وجود الترف بينهم ـ أقل فساداً بالمال من العباسيين، لأنهم كانوا أكثر انشغالاً بتثبيت دولتهم من ناحية، وبالجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى، فأما العباسيون فبعد أن استتب لهم الملك أخذ الترف يسري بينهم سريعاً، خاصة بفعل الحاشية الفارسية المفسدة المتعمدة للفساد ومن قصور الخلافة انتقل الترف بالعدوى إلى قصور الأمراء والوزراء، ثم قصور التجار الذين وصل دخلهم في التجارة العالمية إلى ملايين الدنانير، وشيئاً فشيئاً غلب الفساد على عاصمة الخلافة بغداد ثم العواصم الإسلامية الأخرى (1).
_________
(1) كيف نكتب التاريخ الإسلامي، محمد قطب صـ126، 127.(1/316)
المبحث السادس: القضاء في عهد معاوية رضي الله عنه والدولة الأموية:
يعتبر القضاء في العهد الأموي من الدرجة الثالثة بعد القضاء في العهد النبوي والقضاء في العهد الراشدي، لأن العصر الأموي كان زاهياً وفيه كثير من آثار العهد الراشدي، وكانت كثير من الأعمال امتداداً للعهد الراشدي، وخاصة في جانب الفتوحات الإسلامية، وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وازدهار الحضارة الإسلامية (1).
أولاً: صلة العهد الأموي بالعهد الراشدي:
كان العهد الأموي وخصوصاًَ عهد معاوية امتداداً للعهد الراشدي في عدة جوانب، فبقي
كثير من الصحابة إلى العهد الأموي، وشاركهم في العلم والفقه والقضاء وغيرها كبار التابعين، ثم صغار التابعين، كما بقي بعض قضاة العهد الراشدي يمارسون القضاء في العهد الأموي، وبعدهم طال قضاؤهم كشريح بن الحارث رحمه الله، وبقيت في العهد الأموي آثار التربية الدينية وسمو العقيدة، وآثار الإيمان، والالتزام بأهداب الدين، والتقيد بالأحكام الشرعية، وظهر في العهد الأموي عدد كبير من المجتهدين الذين كانوا صلة الوصل بين الصحابة والمذاهب الفقهية، وكان العلماء والمجتهدون في العهد الأموي أساتذة لأئمة المذاهب التي ظهرت في العهد العباسي، وكان لهذه الصورة الفقهية الزاهية أثرها الكبير والمحمود على حسن سير القضاء والعدالة في العهد الأموي، وزهر التوسع بالاجتهاد، كما بدأت حركة تدوين العلوم الإسلامية، والانفتاح على الحضارات الأخرى، وترجمة الثقافات والعلوم من الأمم المجاورة (2).
ثانياً: تخلي الخلفاء عن ممارسة القضاء، وفصل السلطات:
كان الخلفاء الراشدون يتولون القضاء بأنفسهم، ويفصلون في القضايا والدعاوى والمنازعات، وصدرت عنهم أقضية كثيرة، وكان الولاة في الأمصار يتمتعون بنفس
_________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام صـ165.
(2) المصدر نفسه صـ165.(1/317)
السلطات والصلاحيات الممنوحة للخليفة لأنهم نواب عنه، إلا إذا قيدت سلطتهم ومنعوا من القضاء، وعين معهم القضاة للفضل بين الناس، ومن هؤلاء الولاة معاوية بن أبي سفيان الذي بقي والياً على الشام عشرين سنة، وكان يتولى القضاء والحكم بنفسه (1)، ولما تولى معاوية الخلافة تخلى عن ممارسة القضاء، وعين القضاة في حاضرة الدولة الإسلامية بدمشق وفوَّض إليهم السلطة القضائية، وخولهم الصلاحيات الكاملة في الدعاوى، وسار ولاته في الأمصار على هذا النهج، وابتعد الولاة عن أعمال القضاء، وسار خلفاء بني أمية على هذه الخطة طوال العهد الأموي، سواء في عاصمة الدولة الأموية، أم في سائر الأمصار والمدن والولايات وانقطعت صلة خلفاء بني أمية عن القضاء الإسلامي إلا في ثلاثة أمور:
1 ـ تعيين القضاة مباشرة بالعاصمة دمشق.
2 ـ الإشراف على أعمال القضاة وأحكامهم، ومتابعة شؤونهم الخاصة في التعيين والعزل، والرزق، وحسن السيرة، ومراقبة الأحكام القضائية التي تصدر عنهم، للتأكد من مطابقتها للحق والعدل، والشرع والدين، والالتزام بالسلوك القضائي القويم.
3 ـ ممارسة قضاء المظالم، وقضاء الحسبة. وقد أولى خلفاء بني أمية أهمية خاصة ورعاية كاملة لقضاء المظالم حتى وقف على قدميه، وأصبح له جهاز كامل مستقل. ومن ذلك
نرى أن القضاء في العهد الأموي كان مستقلاً عن أي سلطة أخرى حتى سلطة الخليفة أو الوالي الذي كانت سلطته تنتهي عند تولية القاضي أو عزله، دون أن يكون لهم تدخل في أعمال القاضي واجتهاده وحكمه، وما على الخلفاء والولاة إلا تنفيذ الأحكام التي يصدرها القضاة (2). قال النُباهي: ولما أفضى الأمر إلى معاوية بن صخر جرى بجهده على سنن من تقدّمه من ملاحظة القضاة، وبقي الرسم على حذو ترتُّبه زماناً (3). فقد كان معاوية رضي الله عنه أول خليفة امتنع من القضاء تماماً، ودفعه إلى غيره، فكان له قضاة في قاعدة ملكه، فضلاً عن قضاته في الأمصار (4).
_________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام صـ166.
(2) المصدر نفسه صـ167.
(3) تاريخ قضاة الأندلس صـ24.
(4) عبقرية الإسلام في أصول الحكم صـ342.(1/318)
ثالثاً: رزق القضاة: من المعلوم أن عمر بن الخطاب هو الذي فصل القضاء عن الولاية، وهو أول من رتب أرزاق القضاة، وأمَّا أمير المؤمنين علي وهو المعروف بالزهد والقناعة فقد قال لعامله على مصر في شأن القضاة: ... وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس (1)، واستمر الحال على ذلك في العهد الأموي، فكانت تجري على القضاة أرزاقهم من بيت المال (2)، مع التوسع عليهم، واختلاف المقدار بحسب البلدان والظروف (3)، وروى الشعبي عن شريح أنه كان يأخذ على القضاء خمسمائة درهم كل شهر ويقول: استوفي لهم، وأوفيهم ويقول أيضاً: أجلس لهم على القضاء وأحبس نفسي ولا أرزق؟؟ ولما قدم عبد الملك بن مروان النخيلة سنة 72 هـ، وسأل عن شريح، فعلم أنه امتنع عن القضاء في ـ عهده ـ ابن الزبير، فاستدعاه وقال له: وفقك الله، عُدْ إلى قضائك، فقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، وثلاثمائة جريب، فأخذهما وقضى إلى سنة ثمان وسبعين (4)، وكان بعض القضاة لا يأخذون على القضاء أجراً ويحتسبون أجرهم عند الله تعالى في إقامة شرعه، منهم مسروق بن الأجدع القاضي والمفتي ت 63 هـ وكان أعلم بالفتيا من شريح، وشريح أبصر منه في القضاء، وقالت امرأة مسروق: كان مسروق لا يأخذ على القضاء رزقاً، وقال القاسم: كان مسروق يقول: لأن أقضي يوماً فأقول فيه الحق أحب إلي من أن أرابط سنة في سبيل الله (5).
رابعاً: تسجيل الأحكام والإشهاد عليها:
ظهر في العهد الأموي لأول مرة تسجيل الأحكام القضائية التي يصدرها القاضي في
سجله، وديوان المحكمة ليرجع إليه القاضي عند الحاجة، وأول من سجل الأحكام سُليَم بن عنز التجيبي قاضي مصر في عهد معاوية، لما تخاصم إليه أشخاص في توزيع ميراث، فحكم بينهم، فغابوا مدة، واختلفوا وتناكروا
_________
(1) القضاء ونظامه في الكتاب والسنة صـ267.
(2) تاريخ القضاء في الإسلام صـ167.
(3) المصدر نفسه، 176، 177.
(4) أخبار القضاة (2/ 227، 397).
(5) طبقات ابن سعد (6/ 82) تاريخ القضاء في الإسلام صـ178.(1/319)
وتجاحدوا الحكم، وعادوا يطلبون فصل الخلاف ثانية، فتذكر القاضي قصتهم، وكاشفهم بها، فاعترفوا، فأعادوا الحكم بينهم، وطلب من كاتبه أن يُسجل الأحكام القضائية وكتب لهم كتاباً بقضائه، وأشهد عليه (1). وقال الكندي: فكان سليم أول القضاة بمصر سجّل سجلاً بقضائه (2) وكان سُليم ـ فيما وصل إلينا ـ أول من أشهد على الأحكام القضائية لتوثيقها، ومنع جحودها أو إنكارها، ثم توسع الأمر في العهد العباسي (3).
خامساً: أعوان القضاة: يحتاج القضاة عادة إلى أعوان يساعدونهم في حسن التقاضي وسير القضاء، منهم كاتب القاضي أو كاتب المحكمة، أو كاتب الضبط، وأول ما ظهر في العهد الراشدي (4) ثم شاع استعماله فيما بعد، وظهر أعوان جدد في العهد الأموي بحسب الحاجة، وتطور الحياة، واتساع أعمال القاضي، وكثرة الدعاوي، ونذكر أهمهم:
1 ـ المنادي: وهو الذي يجلس عند القاضي، لبيان مكانة القاضي، ومعرفته، والمناداة على الخصوم، وكان يطلق عليه ((الذي على رأس القاضي)) أو ((صاحب المجلس)) وأول ما ظهر ذلك في عهد شريح، قال وكيع: عن عمرو بن قيس الماضي، قال: رأيت رجلاً كان يقوم على رأس شريح، وكان إذا تقدم إليه خصمان، فيقول: أيكما المدعي فليتكلم))، وروى وكيع أيضاً ((كان شريح إذا جلس للقضاء لم يقم حتى: يُنادي: هل من خصم أو مستثبت؟ أو مستفت (5)؟
2 ـ الحاجب: وهو الذي يقف على باب القاضي، ليحجب عنه الناس أثناء النظر في الدعاوي، ويرتب دخول المتداعين عليه عند تزاحمهم وتعددهم، وقد يكون الحاجب هو المنادي الذي يقف على رأس القاضي، ويقوم بالعملين معاً، وقد يكون هو نفسه الجلواز ((التابع للشرطي، أو أحد الشرطة القضائية))، وقد يكلفه القاضي القيام ببعض الأعمال في
المحكمة، أو أداء بعض المهمات
_________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام صـ180.
(2) تاريخ القضاء في الإسلام صـ180.
(3) المصدر نفسه صـ180.
(4) نظام الحكم في الشريعة صـ259، تاريخ القضاء صـ180
(5) تاريخ القضاء عرنوس صـ128، تاريخ القضاء صـ181.(1/320)
خارجها (1)، وذكر وكيع أن إبراهيم النخعي كان جلواذاً للقاضي شريح (2)، وكان على رأس شريح شرطي بيده سوط (3).
3 ـ الترجمان أو المترجم: اتخذ القضاة الترجمان لكثرة الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وتعارفت هذه الشعوب واختلطت مع بعضها، تحقيقاً لقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)) (الحجرات، الآية:) فإذا حصل نزاع أو اختلاف، أو دعوى، استعان القاضي بالترجمان الثقة المقبول لينقل أقوال الخصوم له (4).
سادساً: المراقبة والمتابعة: إن تخلي الخلفاء والولاة عن ممارسة القضاء، والاقتصار على التعيين والعزل لم يمنع الخلفاء من مراقبة أعمال القضاة ومراجعة أحكامهم ومتابعة الدعاوة والأقضية التي تصدر عنهم، لأن الخليفة هو المسؤول عن القضاء، وجميع ما يخص الأمة والأفراد في سياسة الدين والدنيا، وتفويض القضاء للقضاة لا ينجي الخليفة من المسؤولية في الدنيا والآخرة، لذلك كان الخلفاء يراقبون أعمال القضاة، ويتابعون ما يصدر عنهم، فإن وجدوا فيه خللاً أو انحرافاً، أو تقصيراً، تصدوا للتقويم والتصحيح (5)، وهذا ما نقلناه سابقاً عن النباهي قال: ((ولما أفضى الأمر إلى معاوية بن صخر جرى بجهده على سنن من تقدَّمه من ملاحظة القضاة، وبقي الرسم حذو ترتبه زماناً (6).
سابعاً: مصادر الأحكام القضائية في العهد الأموي:
اعتمد القضاة على المصادر نفسها التي جرى عليها القضاة في العهد الراشدي، وذلك بالالتزام بالكتاب والسنة، والإجماع، والسوابق القضائية والاجتهاد مع الاستشارة، وكان الالتزام بالقرآن والسنة هو الأساس، وهو ما تلتزم به الخلافة، وتتم عليه البيعة، وتطور الأمر في السوابق القضائية على الإشادة بقول الصحابة رضوان الله عليهم والتقيد غالباً بما صدر عنهم، لأنهم أقرب عهداً وصلة بمدرسة
_________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام صـ181.
(2) المصدر نفسه صـ181، أخبار القضاة (2/ 215).
(3) تاريخ القضاء في الإسلام صـ181.
(4) تاريخ القضاء في الإسلام صـ423.
(5) المصدر نفسه صـ186.
(6) المصدر نفسه صـ186.(1/321)
النبوة، ونزول الوحي، وخصوصاً أقضية الخلفاء الراشدين، كما بدأ يظهر في هذا العهد أثر العرف والعادة على أقضية الحكام، نظراً لاختلاف الأعراف والعادات في أصقاع الخلافة الأموية المترامية الأطراف، فكان القضاة ينظرون في الأقوال والدعاوى والأيمان والتهم بحسب الأعراق التي تظلهم وتحدد المراد من الألفاظ والمصطلحات (1)، وكان الفقهاء والقضاة والخلفاء يحرصون على التثبت من نقل النصوص،
وصحة الأحاديث للاعتماد عليها، وحذر معاوية رضي الله عنه من الاعتماد على الأحاديث المكذوبة، فخطب في وفد من قريش، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فإنه قد بلغني أن رجالاً فيكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله، ولا تُؤْثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئكم جهالكم (2)، وكان القضاة يعينون من الخلفاء والولاة، وتطلق يد القضاة يتقيدون برأي اجتهادي معين من أحكامهم، إلا ما ورد في النصوص والإجماع، وإلى حد ما إلى السوابق القضائية وقول الصحابة، ولم تكن المذاهب الفقهية قد ظهرت، ولم تدن الأحكام، فكان الأمر راجعاً إلى القضاة أنفسهم، وبما يصلون إليه مع استشارة الفقهاء والعلماء والمجتهدين في كل مصر على حده (3).
ثامناً: اختصاص القضاة، وتخصيص القضاء:
كان لاتساع الدولة الإسلامية في العهد الأموي، وكثرة الناس، وانشغال الخلفاء بالفتوحات، وإدارة الدولة، وإخماد الفتن الداخلية أن انصرفوا عن القضاء، وفوضوا جميع اختصاصاته إلى القضاة، وتنازلوا عن النظر في الجنيات والحدود، وكلفوا القضاة النظر فيها، وكان معاوية بن أبي سفيان أول من تنازل عن النظر في الجراح والقتل والقصاص إلى القضاة، فكتب إلى القاضي سُلَيم بن عِتر ((قاضية على مصر)) يأمره بالنظر في الجراح، وأن يرفع ذلك إلى صاحب الديوان، وكان سُليم أول قاض نظر في الجراح، وحكم بها، فكان الرجل إذا أصيب فجرح أتى إلى القاضي، وأحضر بينته على الذي جرحه، فيكتب القاضي بذلك الجُرح قصته علىعاقلة الجارح ويرفعها إلى صاحب الديوان، فإذا حضر العطاء اقتص من
_________
(1) المدخل الفقهي (1/ 150).
(2) أعلام الموقعين (1/ 63).
(3) تاريخ القضاء في الإسلام صـ190.(1/322)
أعطيات عشيرة الجارح ما وجب للمجروح، وينجَّم ((يقسَّط)) ذلك في ثلاث سنين، فكان الأمر على ذلك (1)، وكان القاضي في العهد الأموي عام النظر في الحقوق والأموال، وأحكام الأسرة، والمواريث والقصاص والحدود، ويظهر ذلك جلياً في من سيرة القضاة وأقضيتهم التي ذكرها وكيع في كتابه، أخبار القضاة، والكندي في كتابةه ((الولاة والقضاة)) (2) وفي العهد الأموي ضُم إلى القاضي أعمال أخرى بعضها شبه قضائية، وبعضها إدارية، فمن أهم هذه الأعمال في ذلك العصر، النظر في أموال الأيتام، الإشراف على الأوقاف، الإفتاء (3).
تاسعاً: القضاة والأعمال المختلفة: نظراً لما يتمتع به القضاة من الثقة، وما يتصفون به من العدل والنزاهة، والورع والتقوى، فقد أسند لهم الخلفاء في العهد الأموي عدة أعمال هي:
1 ـ الشرطة: تولى القضاة رئاسة الشرطة بالإضافة إلى أعمالهم القضائية، فجمعوا بين ولاية القضاء وولاية الشرطة وذلك في عدة مدن إسلامية، فقد روى وكيع أن معاوية عزل سعيد بن العاص عن المدينة سنة ثلاث وخمسين، ويقال سنة أربع وخمسين في شهر ربيع، وأعاده مروان بن الحكم، فعزل مروان أبا سلمة، واستقضى أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وضم إليه الشُرَط مع القضاء أخذ الناس بالشدة (4)، وقال الكندي عن مسلمة بن الحكم، فعزل مروان أبا سلمة، واستقضى أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وضم إليه الشُرَط مع القضاء، وكان شديداً صلباً في ولايته، ولما ولي الشُرَط أخذ الناس بالشدة (5)، قال الكندي عن مسلمة بن مخلَّدَ أنه: قدم مسلمة الفُسطاط، فعزل السائب بن هشام بن كنانة العامري عن شُرطَه، وولّى عليها عابس بن سعيد، وعزل سُليمان بن عنز عن القضاء وجعله إلى عابس، فجمع له القضاء والشّرط، وهو أول من جمع له سنة ستين (6)، ولما تولى مسلمة سنة 62 هـ، بعد أن مكث والياً على مصر أكثر من
_________
(1) نظام الحكم في الشريعة صـ256، تاريخ القضاء في الإسلام صـ192.
(2) تاريخ القضاء في الإسلام صـ193.
(3) المصدر نفسه صـ193، 194، 195.
(4) أخبار القضاة (1/ 118).
(5) أخبار القضاة (1/ 118).
(6) تاريخ القضاء عرنوس صـ26، الولاء والقضاء صـ311ـ 313.(1/323)
15 سنة وليها سعيد بن يزيد الأزدي في رمضان سنة 62 هـ، فاقر عابس بن سعيد على القضاء والشُرط جميعاً، ولما جاء عبد الرحمن بن عتبة بن جَحْدم الفهري أميراً على مصر أقر عابساً على الشُرط والقضاء وذكر الكندي أن مسلمة بن مخلِّد والي مصر عين عابس بن سعيد على شُرطته، ثم جمع له الشُرط والقضاء (1)، وذلك في أول سنة إحدى وستين (2).
2 ـ الإمارة: استعمل بعض القضاة ولاة في بعض الأحيان، كما كان الخليفة أحياناً ينيب القاضي مكانه في الإمارة إذا خرج عن دمشق، وكان كثير من الولاة يستخلفون القاضي على إدارة الأمور، وتصريف شؤون المصر أثناء غيابهم، أو خروجهم لمهمة، قال أبو زرعة: لما خرج معاوية إلى صفين استخلف القاضي فضالة بن عُبيد على دمشق (3).
عاشراً: أسماء القضاة في عهد معاوية:
1 ـ أشهر قضاة دمشق:
أـ فضالة بن عُبيد الذي ولاه معاوية القضاء في الشام بترشيح أبي الدرداء رضي اله عنه، وبقي
فضالة على القضاء حتى مات في خلافة معاوية سنة 53 هـ وحضر معاوية جنازته وحمل بجانب السرير، وكان معاوية يستخلفه على دمشق عندما يخرج منها (4)، وقضى فضالة بدر الحد عندما أتاه رجل بسارق يحمل سرقته، فقال له فضالة: لعلك وجدتها، لعلك التقطتها، فقال له الرجل: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إنه ليلقنه، قال: إي والله، أصلحك الله، وجدتها، فخلا سبيله، وأجاز الفقهاء تلقين المتهم في الحدود، كما فعل رسول الله صلى اله عليه وسلم مع ماعز (5).
ب ـ النعمان بن بشير بن سعد، أبو إدريس الأنصاري الخزرجي، الصحابي الذي ولي القضاء بالشام بعد فضالة وتوفي سنة 64 هـ قتلاً بقرب حمص (6).
_________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام صـ196.
(2) تاريخ القضاء في الإسلام صـ196.
(3) قضاة دمشق لابن طولون صـ413.
(4) أخبار القضاة (3/ 199، 201) تاريخ القضاء في الإسلام صـ198.
(5) تاريخ القضاء في الإسلام صـ199.
(6) المصدر نفسه صـ199.(1/324)
2 ـ قضاة المدينة:
أـ أبو هريرة الصحابي المشهور رضي الله عنه: قضى بالمدينة، لما رواه وكيع عن نعيم قال: شهدت أبا هريرة يقضي .. وأمر بالتسوية بين الخصوم، ورفض حبس مدين معسر، وحكم على قاذف بثمانين جلدة، وكان أبو هريرة يسكن المدينة حتى توفي فيها سنة 59 هـ (1)، ولعله استقضى قبل عبد الله بن الحارث
ب ـ عبد الله بن الحارث بن نوفل، أبو عبد الله بن نوفل بن الحارث: وهو أول قاض في المدينة لواليها مروان بن الحكم في خلافة معاوية، وكان أول ما قضى حقاً على آل مروان، فزاده ذلك عند مروان بن الحكم خيراً، وكان يقضي باليمين مع الشاهد، وتوفي سنة 84 هـ، وكان من صلحاء المسلمين وفقهائهم (2).
جـ ـ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (94 هـ ت) وهو من كبار التابعين، وكان يزعم عن نفسه أنه أفقه الناس، واستعمله سعيد بن العاص والي معاوية على قضاء المدينة، وكان يستحلف صاحب الحق مع الشاهد الواحد (3).
س ـ مصعب بن عبد الرحمن بن عوف (64 هـ) توفي استقضاه مروان بن الحكم سنة 53 هـ أو 54 هـ وضمَّ إليه الشُرط مع القضاء، وكان شديداً صلباً في ولايته، ولما ولي الشُرط أخذ الناس بالشدة في جرائم القتل التي انتشرت في المدينة (4)، ولما مات معاوية واستخلف يزيد استعمل
على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فاستقضى طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو أحد الأجواد، ويقال له طلحة الجواد (5).
3 ـ قضاة البصرة: تولى القضاة في البصرة كثيرون، نذكر منهم: عُميرة بن يثربي الضِّبي الذي استقضاه عبد الله بن عامر بن كُريز عامل معاوية على البصرة، وكان عميرة يحكم بضمان العارية، وبقي في القضاء حتى سنة 45 هـ، فعزله زياد
_________
(1) المصدر نفسه صـ200، أخبار القضاة (1/ 110) (1/ 114).
(2) تاريخ القضاء في الإسلام صـ201.
(3) أخبار القضاء (1/ 116)، تاريخ القضاء في الإسلام صـ201.
(4) أخبار القضاء (1/ 118)، تاريخ القضاء في الإسلام صـ201.
(5) تاريخ القضاء في الإسلام صـ201.(1/325)
الذي ولي إمارة البصرة، وولي القضاء عمران بن حصين فاستعفاه بطلبه، وولي عبد الله بن فضالة ثم أخاه عاصم بن فضالة، ثم زرارة بن أوفى (1).
4 ـ قضاة الكوفة: كانت الكوفة من أنشط المدن العلمية وكانت مركز النشاط والحركة والعلم منذ أسست في عهد عمر رضي الله عنه واتخذها علي رضي الله عنه عاصمة وكان من أشهر قضاة الكوفة شريح القاضي فقد كان من عهد عمر واستمر في القضاء طوال العهد الراشدي، ومدة طويلة في العهد الأموي تزيد عن خمس وثلاثين سنة وتوقف (في عهد بن الزبير) ثم عاد إلى القضاء حتى استعفى من الحجاج فأعفاه سنة 78 هـ (2)، ومن قضاة الكوفة في عهد معاوية رضي الله عنه، مسروق بن الأجدع الهمداني، ولي لمعاوية في إمرة زياد القضاء، وكان من الفضلاء (3).
5 ـ قضاة مصر: ومن اشهر قضاة مصر في عهد معاوية سُلَيْم بن عنز التجيبي وهو أول من ولي القضاء بمصر في أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سنة أربعين هـ (4)، وعابس بن سعيد المرادي الذي عينه مسلمة بن مخلد على الشرطة، ثم عزل سُليم بن عنز عن القضاء، وجعله إلى عابس فجمع له القضاء والشُّرط (5)، هؤلاء هم أشهر القضاة في عهد معاوية رضي الله عنه.
الحادي عشر: ميزات القضاء في عهد معاوية والأموي عموماً:
من أهم ميزات وخصائص القضاء في العهد الأموي الآتي:
1 ـ بقي القضاء في العهد الأموي، كما كان في العهد النبوي والعهد الراشدي، في معالمه
الأساسية، وتنظيمه الجوهري، ووسائله وأهدافه، وكان استمراراً لما سبق في إقامة الحق والعدل، والنزاهة والموضوعية، مع مراعاة التطور والتوسع في الخلافة الأموية.
_________
(1) أخبار القضاة (2/ 3) تاريخ القضاء في الإسلام صـ204.
(2) أخبار القضاة (2/ 184)، تاريخ القضاء في الإسلام صـ207.
(3) تاريخ القضاة في الإسلام صـ207.
(4) المصدر نفسه صـ209.
(5) المصدر نفسه صـ209.(1/326)
2 ـ استعمل القضاة في العهد الأموي وسائل الإثبات الشرعية نفسها المعمول بها في العهد الراشدي، مع التوسع في الفراسة، واستعمال الحيل على المتهم، لكشف الحق، والوصول إلى الصواب والعدل (1).
3 ـ ظهرت في العهد الأموي مصادر جديدة للأحكام القضائية وهي العرف، وقول الصحابي، وإجماع أهل المدينة إحياناً بالإضافة إلى المصادر الأصلية في العهد النبوي وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة، والمصادر الاجتهادية في العهد الراشدي وهي: الإجماع، والقياس، والسوابق القضائية، والرأي (2).
4 ـ كان الخلفاء يعينون القضاة في الشام، وقد يرشحون بعض القضاة للأقاليم، وكان الولاة في الأمصار يعينون القضاة، ويعزلونهم.
5 ـ حرص الخلفاء والولاة على إختبار أحسن الناس لولاية القضاء، من العلماء والفقهاء والشرفاء وخيرة القوم، الذين تتوفر فيهم صفات القاضي الشرعية، ويخشون الله تعالى، ويلتزمون بالحق والشرع، ويقيمون العدل بين الناس.
6 ـ طرأت تغييرات بارزة على القضاء في العهد الأموي، وأضيفت لأول مرة، وهي:
أـ تسجيل الأحكام خوفاً من النسيان، ومنعاً للتجاحد، ووضعها في ديوان خاص.
ب ـ الإشراف على الأوقاف من أجل حسن تطبيقها.
جـ ـ النظر في أموال اليتامى ومراقبة الأوصياء.
د ـ ترتيب الدعاوي، واستعمال الرقعة لادخال الخصوم والمناداة على الناس بالترتيب.
هـ - وجود المساعدين للقضاة، وهم الأعوان، والحاجب والشرطي في مجلس القضاة.
وـ الاستعانة بالشرطة لتنفيذ الأحكام القضائية، وإجراءات الخصومة.
7 ـ كان القضاة مجتهدين في إصدار الأحكام القضائية، ولهم الحرية المطلقة في استنباط الأحكام من القرآن والسنة ومقاصد الشريعة، وبقية المصادر، ولم يتقيدوا
_________
(1) المصدر نفسه صـ213.
(2) المصدر نفسه صـ214.(1/327)
برأي الخلفاء، ولم يلتزموا بمذهب فقهي، ولكن هذا لم يمنعهم من مشاورة العلماء والفقهاء، ومشاركتهم في المجالس القضائية (1).
8 ـ لم يتأثر القضاة بسياسة الحكام والخلفاء، وكان القضاة مستقلين في عملهم، ولم تؤثر عليهم الميول السياسية، والحركات الثورية، والخلافات الفكرية، والفتن الداخلية (2). هذا هي أهم ميزات القضاء في العهد الأموي.
الثاني عشر: خطاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية في القضاء: كتب عمر إلى معاوية رضي الله عنهما: أما بعد فإنني كتبت في القضاء كتاباً لم آلك. ونفسي. فيه خيراً، .. ثم إن عمر قال:
1 ـ الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك، إذا تقدم إليك الخصمان، فعليك بالبينة العادلة، واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضي الذي لا يعلم الغيب. فمن تمسك به سلم له دينه، ونال أفضل الحظ والثواب في الآخرة (3). فمعنى اليمين. القاطعة للخصومة والمنازعة (4).
2 ـ وأدنِ الضعيف حتى يشتد قلبه، وينبسط لسانه (5)، ولم يرد بهذا الأمر تقديم الضعيف على القوي، وإنما أراد الأمر بالمساواة، لأن القوي يدنو بنفسه لقوته، والضعيف لا يتجاسر على ذلك، والقوي يتكلم بحجته، وربما يعجز الضعيف عن ذلك. فعلى القاضي أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوى قلبه، وينبسط لسانه، فيتكلم بحجته (6).
3 ـ وتعاهد الغريب، فإنك إن لم تعاهده ترك حقه، ورجع إلى أهله، فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه (7). قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في
_________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام صـ213 إلى 215.
(2) المصدر نفسه صـ215.
(3) المبسوط للسرخسي (16/ 66): تهذيب ابن عساكر (6/ 306).
(4) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (2/ 465).
(5) المبسوط للسرخسي (16/ 66).
(6) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (2/ 465).
(7) المصدر نفسه (2/ 465).(1/328)
مجلس القضاء، فإن الغريب قلبه مع أهله، فينبغي للقاضي أن يقدمه في سماع الخصومة، ليرجع إلى أهله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد الغرباء. وقيل: مراده أن الغريب منكسر القلب، فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن أظهار حجته، فيترك حقه، ويرجع إلى أهله، والقاضي هو السبب، لتضييع حقه، حين لم يرفع به رأسه ثم قال:
4 ـ وعليك بالصلح بين الناس، ما لم يستبين لك فصل القضاء (1). وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصم إلى الصلح، خصوصاً في موضع اشتباه الأمر (2).
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 465).
(2) المصدر نفسه (2/ 465).(1/329)
المبحث السابع: الشرطة في عهد معاوية:
شهد عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تطوراً كبيراً في نظام الشرطة من جهة نموها وترسخها كمؤسسة رسمية على مستوى الدولة وبصورة لم تُعرف من قبل، لقد أصبحت مؤسسة الشرطة مسئولة مسئولية كاملة ومباشرة عن توفير الأمن وإقرار النظام في جميع الأمصار الإسلامية، لقد أصبحت أهم قوة أمن يعتمد عليها معاوية وولاته لتحقيق الأمن الشخصي من جهة، وحفظ الأمن والنظام في الداخل من جهة أخرى، يضاف إلى هذا كله، أن أصبحت الشرطة المدافع الأول عن نظام الأمن الأموي وحمايته من اعتداءات الفرق الأخرى المعارضة له كالخوارج والشيعة وغيرهما التي كانت تعمل على إسقاطه بشتى السبل، وقد استعمل معاوية رضي الله عنه الشرطة كحرس خاص لحمايته شخصياً ودونما شك أن المحاولة الفاشلة التي قام بها الخوارج لاغتيال معاوية كان لها دور كبير في دفع معاوية لاتخاذ قراره بالاعتماد على الشرطة كحرس خاص لضمان عدم تكرار المحاولة، وخصوصاً أن علياً وعمرو بن العاص قد تعرضا للمحاولة نفسها، قُتل على أثرها أمير المؤمنين عليّ، وكان ذلك عام 40 هـ، ومنذ ذلك ومعاوية لا يخرج بدون حماية خاصة، وحتى أوقات الصلوات، كان يأمر حراسه بالوقوف عند رأسه حماية له من الاعتداءات المحتملة من مناوئيه (1).
أولاً: الشرطة في العراق: يعتبر المغيرة أول والٍ يعينه معاوية في الكوفة وقد استعان برجال الشرطة لغرض بسط الأمن، وعين صاحب الشرطة عُرف بشراسته وقسوته وكان يُدعى قبيصة بن دمّون (2)، ومن الحوادث التي تبين مدى فعالية الشرطة في حفظ الأمن والنظام ما أورده الطبري حول صراع المغيرة مع الخوارج، وذلك حين أخبره
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 65)، الشرطة في العصر الأموي صـ36.
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الشرطة في العصر الأموي صـ37.(1/330)
صاحب الشرطة باجتماعهم في الكوفة لإثارة القلاقل والاضطرابات، فأصدر المغيرة أوامره إلى صاحب الشرطة لمحاصرة مكان الاجتماع، وبعد أن ألقى القبض عليهم أودعهم السجن. وفي البصرة، عين معاوية عبد الله بن عامر والياً عليها ثم عزله في عام 45 هـ وعين زياد بن أبيه والياً على البصرة. وقد تبين لزياد عند وصوله البصرة مدى التدهور الحاصل في الأمن، فذكره وشدّد عليه في خطبه التي افتتح بها ولايته، جرياً على العادة في ذلك الوقت فألقى خطبة طويلة سيأتي الحديث عنها بإذن الله، بين فيها أسلوبه الذي سوف يتبعه في معالجة التدهور الأمني، ومن قراءة تلك الخطبة تبين أن زياد كان مصمماً على
إقامة الأمن والنظام بغض النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك الهدف (1)، ولو كانت بالعسف وخصوصاً حين يقول: وإني أقسم بالله لأخذنّ الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج يا سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم (2)، ويروي البلاذري كيف استتب الأمن في البصرة في عهد زياد، وذلك في حادثة مفادها أن زياداً سمع جلباً وأصواتاً بين العامة، فسأل عن السبب فقيل له إنّ قد استأجر من يحمي له بيته، وذلك نظراً لعدم وجود الشرطة، وانتشار السَّراق (3)،
وفي اليوم التالي أمر زياد صاحب الشرطة بأن يقوم الشرطة بحراسة الطرقات بعد صلاة العشاء (4)، ويضيف البلاذري أنّ الشرطة قد قتلت ما يقارب الخمسمائة نفر من لص ومنتهب للبيوت (5)، ويعتبر زياد أول من منع التجول وذلك بمنع العامة من الخروج من منزلهم ليلاً (6)، وكان يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج ولا يرى إنساناً إلا قتله. فأخذ ليلة أعرابياً، فأتى به زياداً فقال: هل سمعت النداء؟ ـ يقصد نداء منع التجاول ليلاً ـ قال: لا والله، قدمت بحلوبة (7) لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير: قال: أظنك والله صادقاً، ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة، ثم أمر به فضربت عنقه (8). ومثل هذا الفعل الظالم
_________
(1) الشرطة في العصر الأموي صـ38.
(2) تاريخ الطبري (6/ 135).
(3) أنساب الأشراف (4/ 171) ..
(4) المصدر نفسه (4/ 171).
(5) المصدر نفسه (4/ 171).
(6) الشرطة في العصر الأموي صـ39.
(7) الحلوب: ذات الحليب.
(8) تاريخ الطبري (6/ 138).(1/331)
لا تقرّه الشريعة مهما كانت التبريرات (1). وعلى ما يبدو أن قتل البدو لم يكن لمجرد الرغبة في القتل ذاته، بل تمّ لإقناع أهل البصرة بجدية الوالي في تنفيذ أوامره، وأن لا أحد منجى من العقوبة إذا خرق القانون، حتى لو كان بريئاً لا ذنب له، كما سبق وهدّد في خطبته البتراء، لقد كان الهدف النهائي عند زياد، إقرار هيبة الدولة والحصول على طاعة العامة، ولو عن طريق الإرهاب، وبذلك تستقيم الأمور في البصرة حيث ترى العامة أن الأمر لا هزل فيه ولا هوان في تطبيق العقاب (2)، ولم يكن خافياً على زياد بن أبيه ضرورة إعادة تنظيم جهاز الشرطة حتى يتمكن من تحقيق سيطرة فعالة على الأوضاع الأمنية، لذلك عمل زياد على اتخاذ بعض الإجراءات التي تسمح له بفرض هيمنته، منها زيادة عدد الأفراد العاملين في الشرطة فصعّد عددهم (3)
حتى وصل أربعة آلاف فرد، وعين اثنين في منصب صاحب الشرطة بدلاً من واحد (4) إن ارتفاع
عدد رجال الشرطة إلى أربعة آلاف يدل على أمرين: أولهما: ـ شدة الاضطراب الداخلي. الثاني: ـ أن الشرطة كانت ترفد الجيش في كثير من الأحيان (5). وبلغ من دقته في عهده أنه قال: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه (6)، وترتب على ذلك ما قاله الطبري: ... وكان زياد أول من شد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس الطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرد السيف، وأخذ بالظنَّة، وعاقب على الشبهة وخافه الناس في سلطانه، خوفاً شديداً، حتى أمن الناس بعضهم بعضاً، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسة لم ير مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحداً قبله، وأدرّ العطاء، وبنى مدينة الرزق (7)، وعندها ضمّ معاوية الكوفة إلى ولاية زياد واستطاع أن يفرض النظام الأمني حيث حقق للأمويين رغبتهم في استقرار النظام والأمن في كل من البصرة والكوفة، وحيث أصبحت الشرطة أهم قوة داخلية وأكثرها فاعلية (8).
_________
(1) ولاية الشرطة في الإسلام صـ123 نمر بن محمد الحميداني.
(2) الشرطة في العصر الأموي صـ40.
(3) المصدرنفسه صـ40 ..
(4) تاريخ الطبري (6/ 138).
(5) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ والإسلام (2/ 636).
(6) المصدر نفسه (6/ 139).
(7) المصدر نفسه (6/ 138).
(8) الشرطة في العصر الأموي صـ41.(1/332)
ثانياً: الشرطة في الأقاليم الأخرى: عند مقارنة مثلاً مصر بغيرها من الأمصار الإسلامية كالبصرة مثلاً، نجد أن الشرطة لم تلعب الدور نفسه وذلك لبعد مصر عن الاضطرابات التي يحدثها عادة الخوارج وكذلك تذكر المصادر في العادة حرص الولاة عند اختيار صاحب الشرطة، وقد عين مروان بن الحكم والي المدينة مصعب بن عبد الرحمن بن عوف في منصبي صاحب الشرطة والقضاء في آن واحد ـ كما مرّ معنا وكان ذلك في عهد معاوية (1). ويروي ابن سعد أن مصعباً كان شديداً على المذنبين والخارجين على القانون (2)، وقد طلب مصعب من الوالي مروان بن الحكم أن يزوده بعدد كبير من أفراد الشرطة، إذا كان يريد الحفاظ على الأمن في المدينة، حيث لم يكن عدد الشرطة المتوفر كافياً لهذه المهمة (3)، وأجابه مروان إلى طبه وأرسل إليه مائتي شرطي، وظل مصعب في منصب صاحب الشرطة حتى وفاة معاوية (4).
ثالثاً: واجبات الشرطة: كان للشرطة في الدولة الأموية مكانة مميزة بسبب الواجبات المهمة التي كانت تقوم بها هذه المؤسسة تجاه السلطة والمجتمع ومن هذه الواجبات:
1 ـ حماية الخليفة وولاة الأمصار ضد مناوئيهم في الداخل:
أول من استخدم الشرطة لحمايته الشخصية من الاغتيال، الخليفة معاوية مؤسس الدولة الأموية، الذي خاض صراعاً سياسياً ـ عسكرياً عنيفاً مع معارضيه من الخوارج وغيرهم وكان الشرطة يحرسون معاوية بشكل دائم في حله وترحاله، بل حتى وقت الصلاة كان هناك حارس يقف عند رأسه وهو يصلى في المحراب، وعلى ما يبدو أن الخليفة كان يسير بين يديه صاحب الشرطة متقلداً كامل سلاحه، وكذلك تقوم الشرطة بتوفير الحماة للولاة في الأمصار المختلفة، بالطريقة السابقة نفسها، وكما ذُكر سابقاً أن زياد بن أبيه كان يستخدم الشرطة لأمنه الشخصي وكان صاحب الشرطة هو المسئول الأول عن سلامة الوالي (5). إن ظهور صاحب الشرطة في
_________
(1) الشرطة في العصر الأموي صـ43، الطبقات (5/ 158).
(2) الطبقات لابن سعد (5/ 158).
(3) الشرطة في العصر الأموي صـ43، الأغاني (5/ 74).
(4) المصدر نفسه صـ43.
(5) تاريخ الطبري (6/ 138) الدولة الأموية في العصر الأموي صـ79.(1/333)
مقدمة موكب الخليفة أو الوالي في الأماكن العامة ليس دليلاً فقط على الحماية، بل لإشعار العامة أيضاً بالهيمنة والسلطة، إلى جانب ذلك كانت الشرطة أداة بيد الخليفة والولاة لفرض سلطة الدولة على الذين يحاولون التمرد عليها أو معارضتها (1)، وكانت تعين الخليفة على جمع المعلومات، فقد كان معاوية رضي الله عنه قد بلغ من اهتمامه في الحصول على أخبار عماله ورعيته أن بثَّ عيونه في كل قطر وكل ناحية، فكانت تصله الأخبار أولاً بأول فأنتظم له أمره، وطالت في الملك مدته (2)، وحذا زياد بن أبيه حذو معاوية، ومما يحكي عنه: أن رجلاً كلمه في حاجه له فتعرف عليه وهو يظنّ أنّه لا يعرفه فقال: أصلح الله الأمير أنا فلان بن فلان. فتبسم زياد وقال: أتتعرّف إليّ وأنا أعرف منك بنفسك، والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأمك وجدك وجدتك، وأعرف هذا البُرد (3) الذي عليك وهو لفلان .. فبُهت الرجل وأرعد حتى كاد يغشى عليه (4).
2 ـ معاقبة المذنبين والخارجين عن القانون:
الشرطة بحكم كونها القوة الرئيسية المسئولة عن حفظ الأمن، والنظام داخل المدن، إضافة إلى واجبها فرض القانون ولكن الأحوال الاجتماعية في المدن الكبرى كانت تدفع الشرطة إلى اتخاذ إجراءات مشددة تجاه العامة وقد بين زياد بن أبيه في خطبته البتراء خطورة التجاوزات التي حدثت من الناس فقال: ... من بُيّت منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل،
فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، ... وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرّق قوماً، غرقناه، ومن حرّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً (5) ... من هذه الخطبة يتبين مدى التدهور الحاصل في البصرة، من خلال طبيعة الجرائم التي كان يرتكبها بعض المنحرفين من أهلها قبل قدوم زياد، وحين انتهى من خطبته أمر صاحب الشرطة بحراسة الطرقات وقتل كل من يوجد خارج منزله ليلاً (6) ويروي البلاذري أن زياداً لم يتردد في تنفيذ ما توعّد به (7) حرفياً.
_________
(1) الشرطة في العصر الأموي صـ79.
(2) المحاسن والمساوي صـ143ـ 144 للبيهقي.
(3) البرد: كساء مخطط يلتحف به.
(4) المحاسن والمساوي صـ144.
(5) تاريخ الطبري (6/ 136).
(6) الشرطة في العصر الأموي صـ83، أنساب الأشراف (4/ 172).
(7) الشرطة في العصر الأموي صـ83.(1/334)
3 ـ تنفيذ العقوبات الشرعية:
من الواجبات التي كانت الشرطة تقوم بها، تنفيذ الحدود الشرعية، التي يأمر بها القضاة، ضد كل من يظهر منه فساد في المجتمع الإسلامي، والحدود الشرعية كما هو معروف، مذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية بينت ذلك وكان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لديهم غيرة وحرص على أوامر الدين وتنفيذها، ومن ذلك ما رواه الإمام مالك أنّ عبداً سرق وديّا (1) فوجدوه، فاستعدى على العبد مروان بن الحكم (2)، فسجن مروان العبد، وأراد قطع يده، فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج رضي الله عنه، فسأله عن ذلك، فأخبره: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر (3)، فقال الرجل: فإنَّ مروان بن الحكم أخذ غلاماً لي وهو يريد قطع يده، وأنا أحبّ أن تمشي معي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله، فمشى معه رافع إلى مروان بن الحكم، فقال: أخذت غلاماً لهذا، فقال: نعم، فقال: ماأنت صانع به؟ قال: أردت قطع يده، فقال له رافع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر، فأمر مروان بالعبد فأرسل (4)، ويستفاد من هذه اللمحة كذلك، احترام الولاة والعمال للصحابة الكرام، وعدم التعرّض لتصرّفاتهم ما دامت منبثقة من الحرص على تنفيذ أمر الله ورسوله حتى وإن كانت داخلة ضمن مهام الوالي (5)،
ومن مظاهر الغيرة على أوامر الدين وتغليب أمر الله على ما سواه، امتناع والي شرطة المدينة مصعب بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من هدم دور بني هاشم، ومن كان في حيّزهم، ودور بني أسد بن العزّي، والشدّة
عليهم، وذلك لموالاتهم الحسين بن علي وابن الزبير، وامتناعهم عن بيعة يزيد، إذ قال مصعب لأمير المدينة عمرو سعيد (6): أيها الأمير إنّه لا ذنب لهؤلاء ولست أفعل، فقال له الأمير: انتفخ سحرك يا ابن أم حريث، إليّ سيفنا، فرمى إليه بالسيف وخرج عنه (7). وهذا الفعل يدل على قوة
_________
(1) الودي: الواحدة وديّة، وهي صغار النخل، الفائق في غريب الحديث (4/ 51).
(2) ولاية الشرطة في الإسلام 120.
(3) الكثر: بفتح الكاف والمثلثة هو جمّار النخل أي وعاء الطلع.
(4) في جوفة وهو يؤكل: انظر:: الفائق في غريب الحديث (3/ 247).
(5) ولاية الشرطة قي الإسلام صـ121 ..
(6) نسب قريش صـ268، ولاية الشرطة في الإسلام صـ122.
(7) نسب قريش صـ268، ولاية الشرطة في الإسلام صـ122.(1/335)
إيمان مصعب، وأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1)، ومن واجبات الشرطة، مساعدة الجيش ضد أعداء الدولة (2)، وتنفيذ أحكام الإعدام والتعذيب للمناوئين السياسيين وكل ما يتصل بالسجناء عند صاحب السجن (3)، وإن كانت الواجبات الأخيرة تتضح ملامحها في عهد الخلفاء الذين بعد معاوية أكثر.
رابعاً: قوات ومؤسسات أخرى وعلاقتها بالشرطة:
تعتبر الشرطة العمود الفقري للجهاز الأمني في الدولة الأموية، وكانت المهمة الرئيسية لهم حفظ الأمن الداخلي بالدرجة الأولى، ومع ذلك عرف العصر الأموي مؤسسات أخرى لعبت دوراً مشابهاً ومكملاً نفسه للشرطة وهذه المؤسسات هي:
1 ـ الحرس: استخدمت كلمة حرس في بدايات العصر الأموي لوصف كل من يقوم بمهمة الحراسة بغض النظر عن المكان أو الشخص الذي يحرسه، وفي العصر الأموي كان الحرس يمثلون تلك الفئة التي تقوم بمهمة حماية الخلفاء والولاة وعلى ما يظهر أن معاوية كان أول خلفاء بني أمية يتخذ الحرس لحمايته الشخصية من احتمال الاعتداء عليه من قبل الخوارج وغيرهم، وفي خلافة معاوية استخدم الولاة الحرس، كقوة أمنية داخلية إلى جانب الشرطة،، وقد استخدم زياد بن أبيه، خمسمائة رجل في قوات الحرس الخاصة به، وعين عليهم رجلاً من بني سعد أطلق عليه صاحب الحرس (4)، ومنذ ذلك الحين وخلفاء بني أمية يعينون من يثقون به (5)، وخلاصة القول: أن مفهوم الشرطة يتسع إلى الدرجة التي يضم فيها نشاط الحرس تحت سلطته، في حين أن الحرس لا يدخلون ضمن الشرطة (6)، ويورد الجاحظ شطر بيت من الشعر: كأنه شرطي بات في حرس. للدلالة على التفرقة بين المؤسستين (7).
2 ـ الحرس من غير العرب: عرف العرب، قبل قيام الدولة الأموية، بعض الألفاظ الأجنبية التي تطلق على الحرس الذين كانوا يحرسون بيت المال في
_________
(1) الشرطة في العصر الأموي صـ122.
(2) المصدر نفسه صـ97.
(3) لمصدر نفسه صـ97 إلى 109.
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن الشرطة في العصر الأموي صـ128.
(5) الشرطة في العصر الأموي صـ128.
(6) المصدر نفسه صـ130.
(7) الحيوان (3/ 158) الشرطة في العصر الأموي صـ130.(1/336)
البصرة (1). وهذه الألفاظ هي الأساورة والسيابجة والزطّ، ويشرح البلاذري هذه الألفاظ فيقول إنّ الأساورة من الفرس، أما السيابجة والزطّ فينحدرون على ما يظهر من الهند (2)، ويتضح من تاريخ الخلافة الأموية أن الولاة كانوا يستخدمون لضرب الثورات التي تقوم بها المعارضة، بين حين وآخر، وكان يُطلق على هذه العناصر لفظ البخارية تبعاً لرواية البلاذري أيضاً، أن والي خراسان عبيد الله بن زياد، اسر في احدي المعارك عدداً كبيراً من أهل بخاري وجعل من البصرة مستقراً لهم، وأجرى لهم من الأعطيات ما كان يدفعه نفسه للقبائل العربية، وذلك حين أصبح والياً على العراق (3)، وقد استخدم عبيد الله هذه القوة الجديدة لمساندة قوة الشرطة للقضاء على ثورة الخوارج في العراق (4)، وأما ابن سعد، فيذكر أن البخارية قد استعملوا أول الأمر كقوة أمنية، على يد والد عبيد الله حين كان والياً على العراق، ويضيف ابن سعد أن زياداً استخدم البخارية لمساعدة الشرطة في محاولتهم للقبض على حجر بن عدي (5) رضي الله عنه. ويشيد البلاذري بمهارة البخارية في الرمي يالقوس (6)، ويظهر من مراجعة المصادر التاريخية أن استعمال هذه الفرقة كقوة بشرية لم يكن مقتصراً على الولاة، بل وجد أنهم كانوا يقومون بخدمة الأشراف، ففي مدينة البصرة مثلاً، كان أبناء عبد الله بن عامر والي العراق في السابق، يستخدمون البخارية كحرس خاص لحمايتهم الشخصية (7).
3 ـ العرفاء: ونظراً لما يتمتع به العرفاء من مكانة لدى الولاة فإن بعضهم يستطيع من الأمور ما لا يقدر عليه غيره، ونظراً لكون العريف مسئولاً عن مراقبة العامة وتبليغ السلطات عن الحركات المشبوهة أو عن الأفراد الذين يُشك في ولائهم للسلطة ... ولذلك لم يكك لهذا المنصب شعبية، إلاّ أن ذلك لم يمنع كبار القوم من توليه، إذ يورد ابن سعد في طبقاته أسماء كثيرة تولت مهام هذا المنصب (8).
_________
(1) الشرطة في العصر الأموي صـ130.
(2) المصدر نفسه صـ130.
(3) المصدر نفسه صـ130.
(4) طبقات ابن سعد (6/ 219) الشرطة في العصر الأموي صـ131.
(5) طبقات ابن سعد نقلاً عن الشرطة في العصر الأموي صـ131.
(6) البلاذري الأنساب نقلاً عن الشرطة في العصر الأموي صـ131.
(7) المصدر نفسه صـ131.
(8) المصدر نفسه صـ133.(1/337)
4 ـ صاحب الاستخراج أو العذاب:
شهد العهد الأموي قيام جهة خاصة مهمتها استخراج الأموال من الذين يختلسونها بحكم مناصبهم الرسمية، وكان يطلق على الشخص المكلف بمهمة تعذيب المختلسين لكي يقروا بمكان وجودها، لقب ((صاحب الاستخراج)) ويروي ابن قتيبة أن هذه المهنة ظهرت في عهد زياد بن أبيه، الذي كان دائم التحذير لمن يعينهم لمساعدته في الإدارة، وكان لا يتردد في إعفائهم من مناصبهم إذا ظهرت منهم خيانة، ويكون العزل بعد إيقاع العقوبة بهم (1)، ويورد كثير من المؤرخين حوادث تتصل بالولاة الذين استخدموا صاحب الاستخراج لاسترداد الأموال المختلسة من المختلسين أو ممن ظهرت عليهم إمارات الخيانة أو ما شابه ذلك من أمور. من ذلك أن والي العراق عبيد الله بن زياد عزل من مساعديه رجلاً يدعى عبد الرحمن واستخلص منه مائتي ألف درهم (2)، كما استخلص مبلغ مئة ألف درهم اختلسها أحد العاملين في إدارته (3).
5 ـ جهاز الحسبة: والمقصود هنا بالحسبة: المعنى الضيق، أي عملية الأشراف على تنظيم الأسواق والعمليات التجارية فيها، وقد كان من مهام المحتسب في الدولة الأموية جباية ضرائب المبيعات وتحصيل أجرة الدكاكين التابعة للدولة (4)، إضافة إلى مسؤليات السوق والتي من أبرزها (5).
أـ التأكد من دقة الأوزان، والمكاييل، والمقاييس المستعملة في عمليات السوق، منعاً لحدوث غبن في التعامل.
ب ـ التفقد المفاجئ لعيار الحبات، والمثاقيل لضمان عدم الإخلال بها.
جـ ـ منع الارتفاع الفاحش لأسعار السلع الأساسية.
د ـ منع حالات الاحتكار إن وجدت وإجبار المحتكر على بيع ما احتكره. ووفق هذا المفهوم نجد أن الحياة الاقتصادية في بداية الدولة الأموية كانت بسيطة، وعليه فقد سار ولاة الأقاليم على نهج الخلافة الراشدة فكان الولاة ـ كل في إقليمه ـ يباشر الحسبة بنفسه (6). لكن
هذا لم يمنع من ظهور وظيفة العامل على السوق في مدينة البصرة في عهد ولاية زياد بن أبيه (45 ـ 53 هـ) (7) ويمكن
_________
(1) عيون الأخبار (1/ 55) الشرطة في العصر الأموي صـ134.
(2) الشرطة في العصر الأموي صـ134.
(3) المصدر نفسه صـ134 نقلاً عن الأنساب للبلاذري.
(4) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ223.
(5) الإدارة في العصر الأموي صـ223.
(6) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ223.
(7) المصدر نفسه صـ224.(1/338)
القول ـ من خلال التتبع ـ بأن نظام الحسبة كان موجوداً منذ بداية العصر الأموي، وإن لم يكن يحمل لفظ الحسبة، إنما دور المحتسب في تنظيم السوق كان متواجداً طوال العصر الأموي، وقد نما النظام وتطور بما يوافق تطور قطاع التجارة، والأسواق، فيلاحظ أنه في بداية الأمر كان الوالي يتولى بنفسه أعمال الحسبة ثم تطور الأمر لأن يكون هناك شخص معين وظيفته الأشراف على السوق، ثم تطور الأمر ليكون لهذا المعين أعوان يعينونه في عمله (1).
6 ـ نظام المراقبة: ظهر هذا النظام في دمشق في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، في عدة صور.
أـ إلزام بعض مناوئيه السياسيين بأداء الصلاة في الجماعة في مساجد معينة (2). ويشبه هذا الإجراء ما هو معمول به في بعض الدول المعاصرة من إلزام المشبوهين بالتردد على مراكز الشرطة في أوقات محددة (3).
ب ـ إسكان بعض مناوئيه في مساكن خاصة أعدّها لهم في دمشق ـ وغيرها لتسهل عليه مراقبتهم.
جـ ـ إحكام المراقبة الشخصية على الأجانب الذين يدخلون دار الإسلام (4)
7 ـ مؤسسة الدرك: والدرك في الإصطلاح: مؤسسة تضم قوى الدولة العاملة في سبيل الأمن خارج حدود المدن الكبير (5)، وفي الطبري نص يفيد اهتمام زياد عام 45، أي أيام معاوية بالسُّبلُ ـ أي الطرق ـ جاء فيه: قيل لزياد: إن السبل مخوفة. فقال: لا أعاني شيئاً سوى المصر، حتى أغلب على المصر وأصلحه، فإن غلبني المصر، فغيره أشد غلبة، فلما ضبط المصر تكفل ما سوى ذلك، فأحكمه (6). وكان يقول: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه (7). وهذا لا يكون إلا إذا كان رجاله متمكنين من الطرق والسبل (8). وقد طرح زياد نظرية أمنية مفادها التمكن أولاً من داخل الأمصار ثم التوسع لما حولها من طرق وسبل. هذه بعض الملامح والمعالم الكبيرة عن نظام الشرطة في عهد معاوية رضي الله عنه.
_________
(1) المصدر نفسه صـ224.
(2) ولاية الشرطة في الإسلام صـ125.
(3) المصدر نفسه صـ125.
(4) المصدر نفسه صـ125.
(5) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (2/ 643).
(6) تاريخ الطبري (6/ 139).
(7) المصدر نفسه (6/ 139).
(8) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ (2/ 644).(1/339)
المبحث الثامن: الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه:
حاول معاوية رضي الله عنه طيلة فترة خلافته أن يجعل أسلوب حكمه في وضع بين المركزية واللامركزية. فقد اتخذ من دمشق عاصمة للدولة، وغدت المركز الرئيسي الذي تصدر منه الأوامر السياسية والاقتصادية والإدارية للدولة، أما ترتيب أمور الولايات داخلياً فقد ترك معاوية رضي الله عنه للولاة ليقوموا به كل حسب خبرته وجدارته على أن يكونوا جميعاً مسئولين أمام معاوية رضي الله عنه مسئولية مباشرة ومحاسبين على كل عمل يقوموا به، ولعل من ضمن الأسباب التي حدت بمعاوية لأن يتخذ من دمشق عاصمة للدولة الأموية هو معرفته الجيدة بأهل الشام وثقته التامة فيهم وفي ولائهم له، فقد أمضى معاوية رضي الله عنه هناك قرابة عشرين عاماً أميراً على بلاد الشام، كان خلالها يتمتع خلالها بشعبية كبيرة بينهم، ولعلّ معاوية رضي الله عنه كذلك كان يشعر أن استمرار دولة الأمويين يعتمد في درجة كبيرة على مدى المساعدة التي يقدمها إليه أهل الشام خاصة، كان معاوية رضي الله عنه يعي هذه المسائل جيداً ويعيرها جلّ انتباهه، لذلك حاول جهده منذ البداية أن يعمل على حفظ التوازن بين رجالات القبائل العربية المختلفة في بلاد الشام وعلى درجة الخصوص القبائل اليمانية والقبائل القيسية (1)، وقد عمل معاوية رضي الله عنه كل ما في استطاعته لإبعاد التوازن بين مصالح الطرفين في بلاد الشام، فقد كان في خدمة معاوية رضي الله عنه رجالات من القيسية أمثال الضحاك بين قيس الفهري وحبيب بن مسلمة الفهري، مثلما كان هناك رجالات من اليمانية أمثال مالك بن هبيرة السكوني، وشرحبيل بن سمط الكندي وحسان بن بحدل الكلبي وغيرهم، كما أن معاوية رضي الله عنه حصل على مساعدات من كلا الطرفين إبان فترتي ولايته وخلافته وكانوا يحاربون إلى جانبه في جيش واحد وتحت إمرة واحدة (2)،
وكانت سياسة معاوية تقوم على الاستعانة بأفراد من أقاربه أبناء البيت الأموي مثل: عنبسة بن أبي سفيان، وعتبة
_________
(1) خلافة معاوية بن أبي سفيان، العقيلي صـ70.
(2) المصدر نفسه صـ73 ..(1/340)
بن أبي سفيان، والواليد بن عتبة بن أبي سفيان وسعيد بن العاص بن أمية، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك (1)، وعمرو بن سعيد بن العاص (2)، وغيرهم. كما حرص معاوية رضي الله عنه على اختيار أعوانه وولاته من ذوي التجارب الواسعة من المسلمين، كعبد الله بن عامر بن كريز، والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير الأنصاري،
ومسلمة بن مخلد الأنصاري (3)، وغيرهم. ولم تكن المحاباة هي الأساس الأهم والأوحد في انتقاء معاوية لهؤلاء الرجال دون غيرهم وإنما كان كثير منهم ممن خدم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ورأى أن يستفيد بجهودهم ومواهبهم ولاسيما أولئك الذين أظهرتهم أحداث الفتوحات الإسلامية بالشام (4). ونلاحظ أن معاوية استعان بأهل الصحبة والكفاية والولاء ولاة على الأمصار، ومع أن معاوية رضي الله عنه اختار بعض أعوانه من أهل بيته، يوليّهم الولايات إلاّ أنه كان يعاملهم بحذر شديد إلى أن يطمئن لهم، ويقتنع بمقدرتهم الإدارية فقد كان يختارهم أول الأمر لولاية مدن صغيرة كالطائف (5) مثلاً، فإذا ما أظهر أحدهم مقدرة، إدارية، فإن معاوية ((رضي الله عنه)) يضم إليه مكة لتكون تحت إشرافه ثم يتبعها بالمدينة وعند ذلك يقال: هو قد حذق (6). وغني عن البيان أن الطائف كانت مدينة مهمة في ذلك الوقت حيث تتمركز فيها قبيلة ثقيف (7)، القوية وأن من يستطيع من الولاة أن يسيطر على الطائف ـ سياسياً واقتصادياً ـ فإن بقية المدن تسهل السيطرة عليها بعد ذلك.
وتشير نجدة خمَّاش إلى أن معاوية رضي الله عنه جعل من مدن الحجاز مدرسة يدّرب فيها أبناء البيت الأموي على إدارة تلك الولاية والسماح لهم بالتدرّج في تلك الإدارة وفق خطوات مقررة (8). وقد اتبع معاوية رضي الله عنه أسلوباً مميزاً في معاملته لبني أهله ممن يستعين بهم. فقد كان يحاول أن يجعلهم متفرقين عن بعضهم البعض وذلك كي يتجنب أي تحالف ضده (9).
_________
(1) البلاذري أنساب الأشراف نقلاً عن خلافة معاوية للعقيلي صـ73.
(2) خلافة معاوية صـ73 نقلاً عن أنساب الأشراف (4/ 160).
(3) خلافة معاوية، العقيلي صـ74.
(4) الأمويون والبيزنطيون، إبراهيم العدوي صـ74.
(5) خلافة معاوية للعقيلي صـ74.
(6) تاريخ الطبري، خلافة معاوية للعقيلي صـ75.
(7) خلافة معاوية للعقيلي صـ75.
(8) الإدارة في العصر الأموي صـ108 ـ 109.
(9) أنساب الأشراف (4/ 65، 67)، خلافة معاوية صـ75.(1/341)
وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تمتع رعايا الدولة من غير المسلمين بمنتهى التسامح والرفق، وحصلوا على امتيازاتهم بسهولة ويسر. فقد كانوا يعملون في مختلف الوظائف الحكومية، ذلك أن معاوية رضي الله عنه أبقى على النظم البيزنطية والقبطية التي كان معمولاً بها في الشام ومصر والمغرب. كما أبقى على النظم الفارسية في العراق وخراسان. وكان ترك معاوية رضي الله عنه هذه النظم على حالتها بسبب نقص من كانوا يعرفون لغات ونظم إدارة البلاد المفتوحة من المسلمين في أوائل العهد الأموي، وعلاوة على ذلك فقد كان طبيب معاوية رضي الله عنه الخاص، ويدعى ابن أُثال (1)، غير مسلم، وكذلك سريج (سرجون) بن منصور الرومي مستشاره المالي (2)، وابن مينا (3)، وابن النضير (4)، مولاه من عماله على الصوافي، كانوا أيضاً من سلالة غير المسلمين وأسلم بعضهم فيما بعد. وفضلاً عن ذلك ترك معاوية
لرعايا الدولة من غير المسلمين أيضاً حرية تامة هي ممارسة طقوسهم الدينية: فاستجاب لطلب نصارى دمشق بعدم زيادة كنيسة يوحنا في مسجد دمشق (5). كما: رممّ لهم كنيسة الرَّها (أُديسَّا) والتي كانت قد تهدمت من جراء الزلازل (6).
كما بنيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم في ولاية مسلمة بن مخلد الأنصاري على مصر ما بين عامي47 هـ، 68 هـ (7). كما استعان معاوية رضي الله عنه بمهندسين وفنّيين من غير المسلمين في بناء قصر الخضراء بدمشق الذي اتخذه معاوية مقراً لإقامته في فترة إمارته على بلاد الشام ثم في فترة خلافته بعد ذلك ويروي البلاذري أنهم بنوه لمعاوية رضي الله عنه من الحجارة بعد أن كان قبل مبنياً باللِّبن والطين (8). وكما كانت سياسة التسامح مع الرعايا غير المسلمين هي الطابع المميز لفترة خلافة معاوية رضي الله عنه كذلك نرى سياسة التعاطف والإهتمام المتزايد وحسن المعاملة تجاه الموالي من المميزات الأخرى في عصر معاوية. فنجد معاوية رضي الله
_________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/ 223).
(2) تاريخ خليفه صلى صـ228.
(3) تاريخ اليعقوبي (2/ 297) المحن صـ171 الأبي العرب.
(4) أنساب الأشراف (4/ 123).
(5) خلافة معاوية للعقيلي صـ80.
(6) الأمويون والبيزنطيون صـ291.
(7) فتوح مصر صـ132، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي للقرضاوي صـ20ـ21.
(8) أنساب الأشراف (4/ 147).(1/342)
عنه استعان بكثير من الموالي في إدارة بعض شؤون الدولة: فعين مولاه عبد الله بن درّاج على خراج الكوفة ومعونتها في ولاية المغيرة بن شعبة (1). وكان وردْان مولاه على خراج مصر في ولاية عتبة بن أبي سفيان (2)، وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له المختار وقيل رجل يقال له مالك ويكن أبا المخارق مولى لحمير وكان على حجابه سعد مولاه (3). وكان يلي أمواله بالحجاز أيضاً. وهو الذي قال فيه: معاوية: أغبط الناس عيشاً مولاي سعد، كان يتربع جدَّة، ويتقيَّظ الطائف، ويشتو بمكة (4). واتخذ زياد بن أبي سفيان من مهران مولاه، حاجباً له وكاتبه على الخراج في العراق (5). وكان أبو المهاجر دينار مولى لمسلمة بن مخلد الأنصاري فتولى له إدارة شؤون المغرب (6)
في سنة 55 هـ وبالرغم من هذه الأمثلة نجد أن عباس محمود العقاد يشير إلى أن معاوية كان لا يلتفت إلى الموالي، وردّد ما سبقه إليه المستشرقون في طعنهم في تسامح معاوية رضي الله عنه مع الموالي، رغم ما تزخر به المؤلفات العربية القديمة من أمثلة على هذا التسامح (7)، ومن ناحية
أخرى، فقد ترك معاوية رضي الله عنه الإصلاحات الضرورية لعماله على الأقاليم ليقوم كل واحد منهم بواجبه تجاه الإقليم الذي يرى شؤونه (8)، وقد أصبح التقسيم الإداري للدولة في عهده كالآتي: دمشق عاصمة للدولة، وقسم البلاد إلى ولايات يحكم كل ولاية منها وال من قبل الخليفة، وكان لكلِّ سلطة غير محدودة في الولاية التي يحكمها، وفي بعض الأحيان أطلقت الدولة للوالي سلطة التصرف كما يشاء، حتى كان بعضهم يقتل وينفي، ويسجن، ويشرد، ... وقد لاحظنا أن هذا الحكم المطلق لم يتكرر، بل كان دائماً محصوراً في ولاية العراق، وذلك لما كان يحدث فيها من اضطرابات وفتن أكثر من غيرها، وكان الخليفة يختار لهذه الولاية ولاة مشهورين بالحزم والشدة، فكان زياد بن أبيه من أشهر ولاة معاوية، أما بقية الولايات فكانت تحكم بطابع الدولة المألوف، فالوالي
_________
(1) خلافة معاوية للعقيلي صـ81.
(2) الإدارة في العصر الأموي، خماش صـ347.
(3) أنساب الأشراف (4/ 54، 63) خلافة معاوية صـ 82.
(4) معجم البلدان (4/ 12) خلافة معاوية صـ82.
(5) تاريخ خليفة صـ 212.
(6) خلافة معاوية للعقليل صـ82 ..
(7) خلافة معاوية صـ82.
(8) المصدر نفسه صـ 83.(1/343)
مقيد بأوامر الخليفة، لا يقضي إلا بعد رأيه، ولا يفصل إلا بعد مشاورته، وكان الوالي يرجع إلى الخليفة في كل ما يتصل بالمصالح العامة، فإذا كان الأمر خاصاً بولايته له أن يتصرف فيه بحسب ما يحقق المصلحة العامة، وإلا فهو مسؤول أمام الخليفة عن كل تصرفاته وكان ولايات الدولة الكبرى في عهد معاوية (1)، دمشق العاصمة، والبصرة، والكوفة، والمدينة ومكة، ومصر وغيرها وأما ولاة الأمصار في عهد معاوية فسوف نتحدث عنهم في حديثنا عن كل إقليم بإذن الله تعالى:
أولاً: البصرة: ومن أشهر ولاتها في عهد معاوية فهم:
1 ـ بسر بن أرطأة رضي الله عنه تولى الولاية عام 41 هـ وجاءت روايات لم تصل إلى درجة الصحة تشير إلى تعرض بسر لأبنا زياد بن أبيه (2) ثم عزل وعين بدله عبد الله بن عامر:
2 ـ عبد الله بن عامر رضي الله عنه: 41 ـ 44 هـ: ففي هذه السنة أي 41 هـ ولى معاوية عبد الله بن عامر البصرة، وحرب سجستان (3)، وخراسان (4). ولم يكن تعيين عبد الله بن عامر على البصرة لأسباب شخصية، لأنه لم ترد رواية صحيحة تؤكد ذلك ولكن اختيار معاوية رضي الله عنه له كان نتيجة خبرته السابقة في ولاية البصرة وحرب سجستان وخراسان أيام عثمان، فما كان من معاوية إلا أن أسند الأمن إلى أهله، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب (5)، وبعد أن مضى ابن عامر ثلاث سنوات
تمكن فيها من تثبيت الفتح في سجستان وخراسان واستفاد المسلمون من خبرته العسكرية، ثم دعت الحاجة إلى تغييره، فعزله معاوية وولى الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أول سنة خمس وأربعين، فأقام بالبصرة أربعة أشهر، ثم عزله وولاها زياداً (6).
_________
(1) الدولة الأموية (1/ 97) محمد سيد الوكيل.
(2) تاريخ الطبري (6/ 82).
(3) سجستان: تقع حالياً جنوب غرب أفغانستان.
(4) تشمل حالياً: شمال شرق إيران، وشمال غرب أفغانستان.
(5) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ 234.
(6) تاريخ الطبري (6/ 133).(1/344)
3 ـ زياد بن أبيه 45 هـ إلى 53 هـ:
أـ نسبه: يعتبر نسب زياد المكنى بأبي المغيرة، من أكثر القضايا غموضاً في حياته، فقد كانت أمه أمة اسمها سمية (1)، ولم يتفق المؤرخون من هو أبوه وبالتالي هم مختلفون في ذكر نسبه فقد ذُكر اسمه في المصادر، تارة زيادة بن سمية (2)، وتارة زياد بن عبيد (3)، ومرة زياد الأمير (4)، وأخرى زياد بن أبي سفيان (5)، وفي أغلب الأحيان عرف بابن أبيه (6)، وذلك لما وقع فيه أبيه من الشك (7).
ب ـ صلح زياد مع معاوية:
كان زياد بن أبيه والياً على خراسان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكان مخلصاً له غاية الإخلاص وحاول معاوية أن يكسب زياد ويضمه إلى صفه في عهد علي رضي الله عنه إلا أنه فشل في ذلك وبعد مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وجد معاوية فرصة طيبة لإعادة النظر في مساعيه الهادفة إلى استمالة زياد بأقل التكاليف، واستخدم معاوية لغة التهديد والترغيب مع زياد بقلعة عرفت باسمه فخافه معاوية وهو من أكثر الناس معرفة بصلابته، ولا شك أن اعتصام زياد بفارس مع علمه بأنه الوحيد الذي لم ينزل على حكم معاوية، ويدخل فيما دخل فيه الناس، إنما يدل على ثقته بنفسه أولاً وبإمكانيات إقليم فارس الاقتصادية والبشرية ثانياً، إلا أن هذه الأمور وحدها ليس كافية لمواجهة معاوية إذا ما لجأ إلى استخدام القوة، الأمر الذي دفع زياد في المرحلة التالية في علاقته بمعاوية إلى تبديل موقفه الرافض بموقف أكثر إيجابية، وبعد صلح الحسن حاول معاوية الاتصال بزياد وسمح للمغيرة بن شعبة أن يتدخل لحل هذا المشكل واستطاع المغيرة بن شعبة أن ينجح في إقناع زياد ببيعة معاوية والدخول في طاعته وكان هذا النجاح من المغيرة من أعظم ما قدمه لمعاوية من خدمات، فقد كان من الصعب على معاوية أن يصل إلى زياد أو يوفق في إخضاعه
_________
(1) زياد بن أبيه ودوره في الحياة العامة للرواضية صـ31.
(2) تاريخ الطبري (6/ 131).
(3) العواصم من القواصم صـ31.
(4) الطبقات (7/ 99) زياد بن أبيه ودوره في الحياة العامة صـ31.
(5) طبقات خليفة بن خياط صـ191.
(6) زياد بن أبيه ودوره في الحياة العامة صـ32.
(7) المصدر نفسه صـ32، الوافي بالوفيات (15/ 32).(1/345)
إلا بعد قتال
عنيف، لا يدري أحد من سيكون الرابح في مثل ذلك الموقف الخطير (1)، وقد تمّ لمعاوية احتواء حركة اعتصام زياد بفارس، ولم يستعجل في الأمر، وابتعد عن استخدام القوة، وأعطى للزمن فرصته، واستعان بداهية من دهاة العرب في اقناع زياد وهذا من حكمته (2) رضي الله عنه.
جـ ـ حول استلحاق معاوية زياد بن أبيه:
قال الطبري في عام 44 هـ: في هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد بن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل (3)، وقال الطبري: ... زعموا أن رجلاً من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه، قال: نعم، فإذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه أو ابن سمية يقبح آثاري، ويعرض بعمالي، لقد هممت أن آتي بقسامه (4) من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية، قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره فأخبر ذلك زياد معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب، ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيداً، فشكا إليه ذلك، فقال له: هل ذكرت زياداً؟ قال: نعم، فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: أجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه فلما أطال خرج معاوية، وفي يده قضيب يضرب به الأبواب، ويتمثل:
لنا سياق (5) ولكم سياق
قد علمت ذلكم الرفاق (6)
ثم قعد فقال: يا ابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت: أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وإن الإسلام لم يزدني إلا عزاً، وإني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه (7)، وقد اتهم معاوية رضي الله عنه عندما استلحق زياد بن أبيه إلى أبيه بأنه خالف أحكام الإسلام لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد
_________
(1) زياد بن أبيه ودوره في الحياة العامة صـ 75 إلى 81.
(2) مرويات خلافة معاوية صـ173، تاريخ الطبري (6/ 94، 95).
(3) تاريخ الطبري (6/ 131).
(4) تاريخ الطبري (6/ 131) القسامة: هم القوم الذين يحلفون.
(5) السياق: المهر، القاموس المحيط 1156.
(6) تاريخ الطبري (6/ 132).
(7) المصدر نفسه (6/ 132).(1/346)
للفراش (1)، وللعاهر الحجر (2). وقد ردّ على هذا
الاتهام الدكتور خالد الغيث في رسالته مرويات خلافة معاوية بقوله: .. أما اتهام معاوية رضي الله عنه باستلحاق نسب زياد، فإني لم أقف على رواية صحيحة صريحة العبارة تؤكد ذلك، هذا فضلاً عن أن صحبة معاوية رضي الله عنه، وعدالته ودينه وفقهه تمنعه من أن يرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما وأن معاوية أحد رواة حديث: الولد للفراش وللعاهر الحجر (3). ووجه التهمة إلى زياد بن أبيه بأنه هو الذي ألحق نسبه بنسب أبي سفيان واستدل برواية أخرجها مسلم في صحيحه من طريق أبي عثمان (4) قال: لما إدعى زياد لقيت أبا بكر فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام.
فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (5). قال النووي رحمه الله معلقاً على هذا الخبر: ... فمعنى هذا الكلام الإنكار على أبي بكرة، وذلك أن زياداً هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان، ويقال فيه: زياد بن أبيه، ويقال: زياد بن أمه، وهو أخو أبي بكرة لأمه ... فلهذا قال ابو عثمان لأبي بكرة: ما هذا الذي صنعتم؟ وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زياداً وحلف أن لا يكلمه أبداً، ولعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة حيث قال هذا الكلام، أو يكون مراده بقوله ما هذا الذي صنعتم؟ أي هذا الذي جرى من أخيك ما أقبحه وأعظم عقوبته فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على فاعله الجنة (6). وبذلك يكون زيادا هو المدِّعي، وفي حقيقة الأمر فإن مسألة استلحاق معاوية زياد هي مسألة اجتهادية ويذهب الكثير من المؤرخين بأن هناك دلائل عديدة تثبت أن أبا سفيان قد باشر سمية ـ جارية الحارث بن كلدة الثقفي
_________
(1) الفراش: لقطة يعبر بها عن المرأة غالباً وقد يعبر بها عن حالة الافتراش والمراد لحوق حالة نسب الولد بمن له الاختصاص بالوطء كالزوج والسيد فتح الباري (12/ 36).
(2) صحيح سنن أبي داود (2/ 430) للعاهر الحجر: أي للزاني الخيبة وحرمان الولد الذي يدعيه، وقد جرت عادة العرب أن تقول لمن خاب: له الحجر وبقية الحجر والتراب فتح الباري (12/ 37).
(3) فتح الباري (12/ 39).
(4) أبو عثمان النهدي، معروف بكنيته، مخضرم من كبار الطبقة الثانية 95 مـ ت.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 51، 52).
(6) شرح صحيح مسلم (2/ 52، 53).(1/347)
ـ وكانت من البغايا ذوات الرايات ـ في الجاهلية، فعلقت منه بزياد، وذكروا بأن أبا سفيان اعترف بنفسه بذلك أمام علي بن طالب رضي الله عنه وآخرين بعدما شب ونبغ في عهد عمر بن الخطاب (1)، وقال ابن تيمية بأن أبا سفيان كان يقول زياد من نطفته (2)، فلما كانت خلافة معاوية شهد لزياد بذلك النسب أبو مريم السلولي وهو صحابي كان يعمل في الجاهلية خماراً بالطائف، وهو الذي جمع بين أبي سفيان وسمية، وكان ذلك أمراً مألوفاً آنذاك (3)، ويبدو أن هذا النسب قد
شاع أمره حتى لقد شهد بذلك أحد رجال البصرة لزياد قبل استلحاق معاوية أياه (4)،
فهي دعوة قديمة إذن ولم تكن كما يزعم الرواة نتيجة مشورة المغيرة بن شعبة على معاوية كجزء من صفقة متبادلة بين معاوية وزياد أو غير ذلك من التفاصيل التي اخترعها الرواة (5). وبعد عقود من السنين نجد الإمام مالك بن أنس ـ إمام أهل المدينة ـ يذكر زياداً في كتابه الموطأ بأنه زياد بن أبي سفيان، ولم يقل زياد بن أبيه، وذلك في عصر بني العباس (6)، والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه، ولا أنكروا ذلك منه، لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد قد اختلف الناس فيها، فمنهم من جوزها، ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم عليها سبيل (7)، وفي نسبة الإمام مالك لزياد إلى أبي سفيان فقه بديع لم يفطن له أحد، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف ونقد الحكم فيها بأحد الوجهين لم يكن لها رجوع فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها والله أعلم (8). وأما تعارض هذا الاستلحاق مع نص الحديث الشريف، فمن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحت الجاهلية كانت أنواعاً، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلمّا جاء الإسلام حرّم هذا النكاح، إلا أنّه أقر كل ولد كان يُنسب إلى
_________
(1) مروج الذهب (3/ 14 ـ 15) الدولة الأموية المفترى عليها صـ 195.
(2) الفتاوي (20/ 148).
(3) الكامل في التاريخ (2/ 470).
(4) تاريخ الطبري (6/ 131، 132) ..
(5) الدولة الأموية المفترى عليها صـ196.
(6) المصدر نفسه صـ196.
(7) العواصم من القواصم صـ 254.
(8) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب صـ141 نقلاً عن العواصم صـ242.(1/348)
أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرّق بين شيء منها، فتوهم معاوية أنّ ذلك جائز له ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية، والإسلام (1) وأجاز الإمام مالك أن يستلحق الأخ أخا له ويقول: هو ابن أبي، ما دام ليس له منازع في ذلك النسب.
فالحارث بن كلدة (الذي كانت سمية جارية له) لم ينازع زياداً، ولا كان إليه منسوباً، وإنما كان ابن أمة بغي ولد على فراشه ـ أي في داره ـ فكل من ادعاه فهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل فعل الحق على مذهب مالك، فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة؟ قلنا: لأنها مسألة اجتهاد (2) ....................... والحوادث تثبت أن معاوية كان مقتنعاً بحق زياد في ذلك، ولابد أنه كان قد سمع من أبيه ولهذا فإن معاوية كان مؤمناً بأن عمله لم يكن عملاً موضوعياً وواجباً ضرورياً من باب وضع الشيء في محله، ولا ريب أن هذا كان معروفاً عند الناس غير أن معاوية أراد أن يثبته (3).
س ـ خطبة زياد المعروفة بالبتراء بالبصرة:
لما تولى زياد ولاية البصرة، عام 45 هـ، خطب خطبة بتراء (4)، لم يحمد الله فيها وقيل: بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم كما رزقتنا نعماً، فألهمنا شكراً على نعمتك علينا. أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفَجر (5) الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا ينحاش منها الكبير، كأن لم تسمعوا بأي الله، ولم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد (6) الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت (7) عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكروا أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به، من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهار المبصر، والعدد غير قليل: ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج (8) الليل وغاره
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 471).
(2) العواصم من القواصم صـ253.
(3) إدارة العراق في صدر الإسلام رمزية عبد الوهاب صـ61.
(4) تاريخ الطبري (6/ 134).
(5) الفَجر: الانبعاث في المعاصي والزنى القاموس المحيط صـ584.
(6) السرمد: الدائم. القاموس المحيط صـ367.
(7) الطَّرفة: نقطة حمراء من الدم تحدث في العين من ضربة وغيرها.
(8) الدَّلج: السير من أول الليل، القاموس المحيط صـ342.(1/349)
النهار اقربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغطون على المختلس (1) كل امرى منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عقاباً، ولا يرجو معاداً، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب (2)،
حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي (3)، والمقيم بالظاعن (4)، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد (5)، أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي (6) من بُيِّت (7) منكم، فأنا
ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إلي، وإياي ودعوى الجاهلية (8)، فإني لا أجد أحد دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غُرَّق قوماً غرقته، ومن حرَّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته (9)، حياً، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضرب عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن (10)، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له
_________
(1) الخلس: الأخذ في تُهزةٍ ومخاتلة: لسان العرب (6/ 65).
(2) كنوساً في مكانس الريب: استتروا في موضع الريبة لسان العرب (6/ 198) ..
(3) بمعنى واحد وهو: الصاحب والقريب والجار والحليف والشريك.
(4) الظاعن: المسافر لسان العرب (13/ 270، 271).
(5) لمثل يرضب في الاستخبار عن الأمرين الخير والشر ايهما وقع.
(6) مرويات خلافة معاوية صـ240.
(7) بُيِّت: أُوقع به ليلاً: لسان العرب (2/ 16).
(8) دعوى الجاهلية: المفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر.
(9) عند الجاحظ: دفناه فيه حياً: البيان والتبيين (2/ 230).
(10) الإحن: الأحقاد.(1/350)
ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس (1).
ايها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة (2)، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء (3) الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا (4) بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت ولو أتاني طارقاً بليل، وحابساً رزقاً ولا عطاءً عن إبانة (5)، ولا مُجمَّراً (6) لكم بعثاً، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنها ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم، أسأل الله أن يعين كلاً على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي: فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد ايها الأمير أنك قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال كذبت، ذاك نبي الله داود عليه السلام (7). قال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء وإنا لن نُثني حتى نُبتلي، فقال زياد:
صدقت (8). وهذه الخطبة تعتبر من الخطب المشهورة في التاريخ ومع الرغم من كثرتها وكثرة المصادر التي أوردتها إلا أنها لم تأت بإسناد صحيح يجعل القاريء يطمئن إلى صحة ما ورد فيها، لاسيما أنها تحتوي على مآخذ عديدة، وتناقضات واضحة تقلل من صحة نسبة جميع ما جاء فيها إلى زياد وقد نبه إلى هذه المآخذ والتناقضات الدكتور (9) خالد الغيث حفظه الله منها.
ـ تحدثت الخطبة عن انتشار الفجور في البصرة وكثرة بيوت الدعارة فيها، ويستفاد ذلك من قول زياد: .. من ترككم هذه المواخير المنصوبة، قوله: ... حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً (10). وهذا الكلام المنكر عن حال
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 136) ..
(2) ذادة: حماة ومدافعون.
(3) الفيء: الغنيمة.
(4) فيئنا: عطفنا وبرنا لسان العرب (1/ 126).
(5) إبَّانة: حينه، القاموس المحيط 1515.
(6) تجمير الجيش: هو حبس الأمير للجيش في الثغر وعدم السماح بالعودة.
(7) تاريخ الطبري (6/ 137).
(8) المصدر نفسه (6/ 137).
(9) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ244.
(10) تاريخ الطبري (6/ 135).(1/351)
البصرة عند قدوم زياد، يرده حقيقة ما كانت عليه البصرة منذ تأسيسها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث بنيت لتكون قاعدة تنطلق منها الجيوش الإسلامية لمواصلة الفتح ونشر الإسلام في ربوع البلاد المفتوحة، ومن أجل هذه الغاية استوطن البصرة أكثر من خمسين ومائة صحابي، حملوا على عواتقهم مهمة الدعوة إلى الله وتعليم الناس أمور دينهم، فأنَّى لهذه المنكرات أن تنبت وتنتشر في مجتمع عماده الصحابة والتابعون دون أن ينكروه ويلزموه، كذلك فإن وجود الخوارج في البصرة وما عرف عنهم من الاستعجال والاندفاع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل آخر على انتفاء وجود هذه المنكرات في مجتمع البصرة وبالحجم الذي ورد في خطبة زياد (1).
ـ ومن التناقضات الواردة في الخطبة: ورد قول زياد: وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه (2) مع أنه ذكر في موضع آخر من الخطبة نقيض ذلك وهو قوله: وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم (3). وورد في الخطبة قول زياد: إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه (4). لكنه عاد في موضع آخر من الخطبة لينقض ما ذكره آنفاً فقال: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل (5). وهذه التناقضات الواردة في الخطبة يستغرب صدورها من زياد مع ما عرف عنه من البلاغة والفصاحة، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى وهي احتمال كون النص الذي بين أيدينا عن خطبة زياد عند مجيئة إلى البصرة عبارة عن أكثر من خطبة تم دمجها في سياق واحد ويؤيد ذلك ثناء عبد الله بن الأهتم والأحنف بن قيس على زياد بعد انتهاء الخطبة من أن الخطبة تستوجب النقد وليس الثناء، لما فيها من تقديم حكم الجاهلية على حكم الله (6). وعن الشعبي، قال: ما سمعت متكلماً قد تكلم فأحسن إلا أحببت
أن يسكت خوفاً أن يسيء إلا زياداً، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاماً (7). وهذا الثناء من الشعبي على زياد يقوي الشك حول خطبة زياد البتراء التي سبق الحديث عنها في الرواية السابقة (8).
_________
(1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ244.
(2) تاريخ الطبري (6/ 135).
(3) المصدر نفسه (6/ 135).
(4) المصدر نفسه (6/ 135).
(5) المصدر نفسه (6/ 136).
(6) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ246.
(7) المنتظم لابن الجوزي (5/ 212).
(8) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ247.(1/352)
ش ـ استعانة زياد بصحابة رسول الله:
استعان زياد بعدةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمران بن الحصين الخزاعي (1)، ولاه قضاء البصرة، والحكم بن عمرو الغفاري (2)، ولاه خراسان، وسمرة بن جندب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، فاستعفاه عمران فأعفاه، واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي (3) ثم أخاه عاصم بن فضالة (4)، ثم زرارة بن أوفى الحرشي (5)، وكانت أخته لبابة عند زياد (6).
ل ـ من سياسة زياد في العراق:
يعتبر زياد بن أبي سفيان عامل معاوية على البصرة والكوفة بعد عبد الله بن عامر والمغيرة بن شعبة، هو الذي قام بمعظم الإصلاحات الضرورية في ذلك الجناح الشرقي من الدولة الأموية وكان هذا الرجل يتمتع بقدرة إدارية فائقة (7). وقد استن زياد عدة قوانين وتنظيمات وقام بكثير من الإصلاحات في البصرة أولاً (45 ـ 50 هـ) ثم في الكوفة بعد أن جُمعت المدينتان تحت إمرته في ولاية واحدة وذلك منذ سنة 50 هـ، وحتى سنة 53 هـ. فبنى دار الرزق في البصرة (8)، وهي شبيهة بمخزن المؤن في أيامنا هذه، فكان الأهالي يتمونون منها وعين أشخاصاً يشرفون عليها منهم، عبد الله بن الحارث بن نوفل، وروَّاد بن أبي بكرة. كما عين الجَعْد بن قيس النّمري مشرفاً على السوق ومراقباً على أسعار المواد الغذائية فيه (9). وكان يعطي قروضاً للتجار إذا ما ارتفعت الأسعار كي يحثهم على المحافظة على سعر السلعة أو بزيادة بسيطة. وإذا ما تحقق ذلك وتوفرت الحاجات: ارتجع ماله (10). وترك
زياد الناس في البصرة أخماساً أما الكوفة فقد قسمهم إلى أرباع (11)، بدل الأسباع. واختار عريفاً لكل قسم يقوم بمهمة توزيع الإعطيات عل أفراد عشيرته، كما أنه كان مسئولاً أمام زياد عما يحدث في ناحيته، فيقوم بإرسال
_________
(1) مات بالبصرة عام سنة 52 هـ بالبصرة أخرج له الستة التقريب 429.
(2) مات بمرو عام 50 هـ أخرج له البخاري والأربعة ابن حجر التقريب 175.
(3) ابن حجر التقريب 317.
(4) الإصابة (3/ 574).
(5) توفي وهو يصلي سنة 93 هـ التقريب لابن حجر 215.
(6) أنساب الأشراف (4/ 370).
(7) خلافة معاوية بن أبي سفيان للعقيلي صـ86.
(8) أنساب الأشراف (4/ 314) خلافة معاوية صـ 87.
(9) خلافة معاوية صـ87 نقلاً عن أنساب الأشراف (4/ 212، 217).
(10) أنساب الأشراف (4/ 237).
(11) تقسيم يتعلف بالقبائل.(1/353)
التقارير بما حصل فيها أولاً بأول إلى زياد واستطاع أن يضبط الأمور في المدينتين برجال من أهلها، وأصدر زياد أوامره بألاَّ يدخل أو يخرج أحد من الكوفة أو البصرة بعد صلاة العشاء وأوقع القصاص بالسارق وقاطع الطريق فعمَّ الأمن والطمأنينة بحيث أن المرأة كانت تنام وباب بيتها مفتوحاً، وأن الشيء ليسقط على الأرض فيظل ملقى دون أن يحركه أحد (1).
ونظم العطاء من الديوان فحذف منه أسماء الذين توفوا ومن كان غائباً عن قطره ومن كان عابثاً بالأمن، فكان: إذا جاء شعبان أخرج أعطية المقاتلة فملأوا بيوتهم من كل حُلْو وحامض واستقبلوا رمضان بذلك، وإذا كان ذو الحجة أخرج أعطية الذرية (2)،ويشير البلاذري إلى أنه: كان لكل عيِّل جريبان ومائة درهم، ومعونة الفطر خمسين، ومعونة الأضحى خمسين (3)، واختار زياد حوالي خمسمائة رجل من أهل البصرة ليعملوا كحرس خاص له وكذلك حماية الأماكن الهامة وأعطى لكل واحد منهم ما بين ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، وأسند قيادتهم إلى شيبان بن عبد الله السعدي فكانوا يبرحون المسجد (4)، وبنى زياد مساجد عديدة، منها: مسجد بني عدي، ومسجد بني مجاشع، ومسجد الأساورة. وكان لا يدع أحداً يبني بقرب مسجد الجماعة مسجداً، فكان مسجد بني عدي أقربها منه (5). ويذكر ابن الفقيه: إن زياداً بنى سبعة مساجد فلم يُنسب إليه شيء منها، وأن كل مسجد بالبصرة كانت رحبته مستديرة فإنه من بناء زياد (6).وزاد زياد في مسجد البصرة زيادة كثيرة، وبناه بالآجر والجص، وسقفه بالساج، وبنى منارته بالحجارة (7). وكان يهتم بنظافة المدينة ويعتبر الأفراد مسئولين على نظافة بيوتهم ويعاقب من يهمل ذلك، فقد كان يأخذ صاحب كل دار بعد المطر إذا أضحت برفع ما بين يدي فنائه من الطين، فمن لم يفعل أمر ذلك الطين فألقي في مجلسه، وكان يأخذ الناس بتنظيف طرقهم من القذر والكناسات، ثم أنه اشترى عبيداً ووكلهم فكانوا يلمونه (8)
فهذه الرواية تشير إلى وجود
موظفين مهمتهم
_________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن خلافة معاوية للعقيلي صـ88 ..
(2) أنساب الأشراف (4/ 219).
(3) خلافة معاوية صـ88 نقلاً عن أنساب الأشراف (4/ 221).
(4) المصدر نفسه صـ89، أنساب الأشراف (4/ 221).
(5) مختصر كتاب البلدان صـ191.
(6) الإدارة في العصر الأموي صـ160.
(7) فتوح البلدان صـ346 ـ 347، خلافة معاوية صـ89.
(8) أنساب الأشراف (4/ 206) الإدارة في العصر الأموي صـ214 ..(1/354)
مراقبة النظافة من ناحية، كما تشير إلى أن زياداً تنبه إلى أن نظافة الطرق أمر يجب أن يتولاه أشخاص معينون فاشترى عبيداً وكل إليهم تنظيف الطرق من القذر والكناسات (1) واهتم زياد بتقدم الزراعة وتنظيم طرق الري: فبنى السدود (2)، وحفر القنوات (3)، كما أنه كان يمنح المزارع قطعة من الأرض الزراعية، مساحتها 60 جريباً ثم يدعه عامين فإن عمّرها أصبحت له، وإلا استردها منه، وأعطاها آخرين ينتظرونها (4)، ولكي يسهل الاتصال بين ضفتي نهر الفرات، فقد أصلح زياد قنطرة الكوفة وأعاد بناءها باللبِّن والطوب المقوّى، بعد أن كانت من أخشاب القوارب المتهالكة. وأصبحت تعرف بعد ذلك بجسر الكوفة (5). وأما عن كيفية تصرف زياد في موارد بيت مال الولاية فيشير البلاذري إلى: أن زياداً كان يجبي من كُوَر البصرة ستين ألف ألف، فيعطي المقاتلة من ذلك ستة وثلاثين ألف ألف، ويعطي الذرية ستة عشرة ألف ألف درهم، وينفق من نفقات السلطان ألفي ألف، ويجعل في بيت المال للبوائق والنوائب ألفي ألف درهم، ويحمل إلى معاوية أربع آلاف (ألف) درهم، وكان يجبي من الكوفة أربعين ألف ألف، ويحمل إلى معاوية ثُلثي الأربعة الآلاف ألف لأن جباية الكوفة ثلثا جباية البصرة. كما أن عبيد الله زياد، والذي خلف أباه على ولاية العراق حمل إلى معاوية ستة آلاف درهم فقال معاوية: اللهم أرض عن ابن أخي (6).
4 ـ ولاية سمرة بن جندب رضي الله عنه:
عن جعفر بن سليمان الضبعي، قال: أقر معاوية سمرة بعد زياد ستة اشهر، ثم عزله فكذبوا على سمرة وزعموا أنه قال: لعن الله معاوية: والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبداً (7). هذا الخبر المنسوب إلى سمرة بأنه شتم معاوية خبر مكذوب على هذه الصحابي الكريم، وفي ذلك يقول ابن كثير وهذا لا يصح عنه (8)، كما أن معرفة ميول
_________
(1) الإدارة في العصر الأموي صـ214.
(2) خلافة معاوية للعقيلي صـ89.
(3) فتوح البلدان ص/356، 362، 363، 369.
(4) خلافة معاوية صـ90.
(5) فتوح البلدان صـ285 ـ 286.
(6) أنساب الأشراف (4/ 218 ـ 219).
(7) مرويات معاوية في تاريخ الطبري صـ261.
(8) البداية والنهاية نقلاً عن مرويات معاوية في تاريخ الطبري صـ262.(1/355)
مصدر الخبر جعفر بن السليمان الضبعي، والذي قال عنه ابن حجر: صدوق زاهد لكنه يتشيع (1)، تبين أثر التشيع في تشويه التاريخ الإسلامي (2).
5 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي:
قال الطبري وفي هذه السنة ـ 54 هـ كان عزل معاوية بن أبي سفيان لسمرة بن جندب عن البصرة، واستعمل عبد الله بن غيلان (3).
6 ـ ولاية عبيد الله بن زياد خراسان ثم البصرة:
قال الطبري: وفي هذه السنة ولى معاوية عبد الله بن زياد خراسان (4)، وفي عام 55 هـ عزل معاوية بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبد الله بن زياد (5) وأوصى معاوية عبد الله بن زياد بهذه الوصية: إني قد عهدت إليك مثل عهدي إلى عمالي، ثم أوصيك وصية القرابة لخاصتك عندي، لا تبيعن كثيراً بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخفّ عليك المؤونة وعلينا منك، وافتح بابك للناس تكن في العلم منهم أنت وهم سواء، وإذا عزمت على أمر فأخرجه إلى الناس، ولا يكن لأحد فيه مطمع، ولا يرجعن عليك وأنت تستطيع، وإذا لقيت عدوك فغلبوك على ظهر الأرض فلا يغلبونك على بطنها، وإن أحتاج أصحابك إلى أن تواسيهم بنفسك فآسيهم (6). وفي رواية قال له: اتق الله ولا تؤثرن علىتقوى الله شيء، فإن في تقواه عوضاً، وقِ عرضك من أن تندسه، وإذا أعطيت عهداً فوف به، ولا تبيعنَّ كثيراً بقليل، ولا تخرجن منك أمراً حتى تُبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فكن أكثر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعن أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق له. ثم ودعه (7).
ثانياً: الكوفة: 41 هـ:
1 ـ ولاية المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: الأمير أبو عيسى، ويقال أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد. من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة. شهد بيعة
_________
(1) تقريب التهذيب صـ140.
(2) مرويات خلافة معاوية صـ262.
(3) تاريخ الطبري (6/ 212).
(4) المصدر نفسه (6/ 212).
(5) المصدر نفسه (6/ 217).
(6) المصدر نفسه (6/ 213).
(7) المصدر نفسه (6/ 214).(1/356)
الرضوان، كان رجلاً طوالاً مهيباً، ذهبت عينه يوم اليرموك وقيل يوم القادسية (1). وكان يقول أنا آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، فألقيت خاتمي، فقلت يا أبا الحسن، خاتمي قال: انزل فخذه، قال: فمسحت يدي على الكفن ثم خرجت (2). وله مواقف في الدهاء والمكر والكيد منهما، عن زيد بن أسلم، عن أبيه،، أن عمر استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين، فكرهوه، فعزله عمر، فخافوا أن يردّه، فقال دهقانهم (3): إن فعلتم ما آمركم لم يردَّه علينا. قالوا: مُرْنا. قال: تجمعون مائة ألف حتى أذهب بها إلى عمر، وأقول: إن المغيرة اختان هذا، فدفعه إليَّ. قال: فجمعوا له مائة ألف، وأتى عمر، فقال ذلك، فدعا المغيرة، فسأله، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، قال: ما حملك على هذا؟ قال: العيال والحاجة. فقال عمر للعِلْج: ما
تقول؟ قال: لا والله لأصَدُقنَّك ما دفع إليَّ قليلاً ولا كثيراً فقال عمر للمغيرة: ما أردت إلى هذا؟ قال: الخبيث كذب عليَّ، فأحببت أن أخزيه (4).
وعن الشعبي: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب إلا بمكر، لخرج من أبوابها كلها (5)، وقال الشعبي: .. والدهاة أربعة: معاوية وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد (6). وكان المغيرة بن شعبة من أنصار التعدد فكان يقول: صاحب المرأة الواحدة يحيض معها ويمرض معها، وصاحب المرأتين بين نارين تشتعلان (7). فهو يدعو للزواج من ثلاث أو أربع.
وقد استعمل معاوية المغيرة على الكوفة عام 41 هـ (8)، وقام بجهود عظيمة في قتال الخوارج ووجد وقتاً كافياً قام فيه بتوسيع مسجد الكوفة فجعله يتسع لأربعين ألفاً من المصلين (9). وبقى في الولاية إلى عام 49 هـ وقيل 50 هـ، وهو الراجح وعندما مات ضم معاوية الكوفة إلىزياد، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة (10).
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 21).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 26).
(3) الدِّهقان: القوي على التصرف، رئيس الإقليم.
(4) سير أعلام النبلاء (3/ 26).
(5) المصدر نفسه (3/ 30).
(6) البداية والنهاية (11/ 22).
(7) سير أعلام النبلاء (3/ 31).
(8) تاريخ الطبري (6/ 82).
(9) خلافة معاوية للعقيلي صـ85.
(10) تاريخ الطبري (6/ 150).(1/357)
2 ـ ولاية زياد بن أبيه على الكوفة:
كان زياد على البصرة وأعمالها إلى سنة خمسين، فمات المغيرة بن شعبة بالكوفة وهو أميرها، فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة، فاستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة (1). وقد تحدثنا عن سياسة زياد فيما سبق بالعراق وقد وصفه الذهبي فقال فيه: .. كان من نُبلاء الرجال، رأيا، وعقلاً وحزماً ودهاءً، وفطنة وكان يضرب به المثل في النُّبل والسؤدد وكان كاتبا بليغاً كتب للمغيرة، ولابن عباس وناب عنه بالبصرة (2). وقال الشعبي: ما رأيت أحداً أخطب من زياد (3). وقال فيه ابن حزم: لقد امتنع زياد وهو فِقَعَةُ القاع (4)، لا نسب له ولا سابقة، فما أطاقة معاوية إلا بالمداراة، ثم استرضاه وولاّه (5) وقال أبو الشعشاء: كان زياد أفتك من الحجَّاج لمن يخاف هواه (6) وعندما استقر أمره بالعراق وتمكن منها، كتب زياد إلى معاوية: قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني فارغة، فاشغلها بالحجاز ... فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أتى نفر منهم عبد الله بن عمر بن
الخطاب، فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه فيكفيكموه، فاستقبل القبلة، واستقبلوها فدعوا ودعا، فخرجت طاعونة (7) على أصبعيه، فأرسل إلى شريح (8) ـ وكان قاضيه ـ فقال: حدث بي ما ترى، وقد أمرت بقطعها، فأشر علي، فقال له شريح: إني أخشى أن يكون الجراح على يدك، والألم على قلبك، وأن يكون الأجل قد دنا، فتلقى الله عز وجل أجذم (9)
وقد قطعت يدك كراهية للقائه، أو أن يكون في الأجل تأخير، وقد قطعت يدك فتعيش أجذم وتعير ولدك، فتتركها وخرج شريح فسألوه، فأخبرهم بما أشار به، فلاموه وقالوا: هل أشرت عليه بقطعها، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن (10). وقد مات زياد سنة ثلاث وخمسين (11).
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 150).
(2) تاريخ الطبري (6/ 150).
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 495).
(4) المصدر نفسه (3/ 496).
(5) المصدر نفسه (3/ 496).
(6) المصدر نفسه (3/ 496).
(7) الطاعون: الوباء.
(8) شريح الكندي: مختلف في صحبته ولي القضاء من عهد عمر حتى عصر عبد الملك توفي سنة 78 هـ.
(9) الأجذم: المقطوع اليد، أو الذاهب الأنامل ..
(10) صحيح الأدب المفرد للألباني 113.
(11) تاريخ الطبري (6/ 206).(1/358)
3 ـ ولاية عبد الله بن خالد بن أسيد:
عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص، ولي فارس لزياد، ثم (1) استخلفه زياد على الكوفة عند مماته، وهو الذي صلى على زياد.
4 ـ ولاية الضحاك بن قيس الفهري:
وفي سنة 55 هـ عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة، وولاها الضحاك بن قيس الفهري (2).
5 ـ ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي: 58 هـ:
وفي سنة 58 هـ ولي معاوية الكوفة عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وعزل عنها الضحاك بن قيس (3).
هذا وقد قام معاوية رضي الله عنه بعزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة بسبب إقدامه على قتل أحد أهل الذمة، ودليل ذلك ما أخرجه أحمد بن حنبل، بإسناد صحيح، قال: حدثني هارون بن معروف قال: حدثنا سفيان، عن مطرف، قال: أخبرني بن سعيد قال: .. ثم إن ابن الحكم عزل حين قتل ابن صلوبا (4).
6 ـ ولاية النعمان بن بشير رضي الله عنه: 59 ـ 60 هـ:
وفي سنة 59 هـ عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة، واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري (5).
فهولاء هم ولاة الكوفة في عهد معاوية رضي الله عنه.
ثالثاً: المدينة النبوية:
تعتبر المدينة من أهم الولايات للنفوذ الروحي والديني على الدولة الأموية بسبب وجود الصحابة وأبناؤهم من المهاجرين والأنصار، ولا تكاد تنعقد البيعة إن لم يبايع أهل المدينة إذ فيها عدد من أهل الحل والعقد، ومن يطيعه الناس ويسيرون برأيهم (6)، وقد دخلت المدينة في سلطان معاوية رضي الله عنه بعد عام الجماعة سنة 41 هـ وقد حرص معاوية على زيارتها منذ بيعته فقدم المدينة وتلقته رجال من
_________
(1) نسب قريش للزبيري صـ187.
(2) تاريخ الطبري (6/ 218).
(3) المصدر نفسه (6/ 226).
(4) التاريخ الكبير للبخاري (6/ 533)، العلل ومعرفة الرجال (2/ 24، 25)، مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ227.
(5) تاريخ الطبري (6/ 223).
(6) التاريخ الإسلامي، العهد الأموي، محمود شاكر صـ90.(1/359)
وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعزّ نصرك وأعلى أمرك، فما رَدَّ عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فقصد المسجد، وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه فقال: ... ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي فخافه فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشد نفوراً وأعظم هرباً من ذلك، وحاولتها على مثل سنيّان عثمان، فأبت علي، وأين مثل هؤلاء ومن يقدر علىأعمالهم، هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم .. غير أني سلكت بها طريقاً لي منفعة ولكم فيه مثل ذلك، ولكم فيه مؤاكلة حسنة ومشاربه جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه ومهما تقدم مما قد علمتموه قد جعلته دُبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله، فارضوا مني ببعضه، وإياكم والفتنة، فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة (1)، ونلاحظ في هذه الخطبة حرص معاوية رضي الله عنه على أن يكسب ودهم ويحافظ على عهده لهم، ما حافظوا على بيعتهم له (2).
وقد هدأت المدينة بعد بيعة معاوية وأخلدت إلى السكينة، وانصرف أهلها إلى أعمالهم وانقطع أهل العلم إلى رواية ما حفظوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغدق معاوية الأموال على سراة الناس لاستمالتهم وكان كرم هؤلاء يسع الكثير من أجل المدينة (3) وكان معاوية عند عهده لأهل المدينة وفياً بالسياسة التي رسمها في خطبته عند زيارة المدينة، وكان يقدم من الترغيب أكثر مما يعلن من
الترهيب وكان أكرامه لرجالات المدينة إكراماً يفوق كل وصف، وما قصده أحد في طلب إلا أعطاه. لقد كان يخص وجهاء القوم، ولكن هؤلاء كانوا موزعين لعطايا معاوية، كلما كثرت عطايا معاوية كثر إنفاقهم على أهل المدينة (4)، فقد روي أن معاوية قضى عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدَّين الذي كانت تعطيه الناس (5)، وبعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف، ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم، فقالت لها خادمتها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحماً؟ فقالت ألا ذكّرتني (6)
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 432).
(2) المدينة في العصر الأموي محمد شرّاب صـ70.
(3) المصدر نفسه صـ71.
(4) المدينة في العصر الأموي صـ73.
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 154).
(6) تذكرة الحفاظ ترجمة 13، سير أعلام النبلاء (3/ 154).(1/360)
وأما ولاة المدينة فهم:
1 ـ مروان بن الحكم 42 ـ 49 هـ:
في عام 42 هـ ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل (1).
2 ـ ولاية سعيد بن العاص رضي الله عنه 49 ـ 54 هـ:
في سنة 49 هـ عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في شهر ربيع الأول، وأمَّر فيها سعيد بن العاص على المدينة في شهر ربيع الآخر وقيل في شهر ربيع الأول (2).
3 ـ ولاية مروان بن الحكم الثانية: 54 ـ 57 هـ:
في عام 54 هـ عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل عليها مروان بن الحكم (3).
4 ـ ولاية الوليد بن عتبة بن أبي سفيان:
استعمل معاوية على المدينة حين صرف عنها مروان، الوليد بن عتيبة بن أبي سفيان (4) وكان ذلك عام 57 هـ (5)
- وفاة أبي هريرة رضي الله عنه بالمدينة 58 هـ وقيل 59 هـ:
توفي أبو هريرة رضي الله عنه في عهد معاوية وقد تعرّض للهجوم الشرس من قبل أعداء السنة النبوية بسبب خدمته لها، فرأيت من المناسب أن أترجم لأبي هريرة وأتعرض للشبهات المثارة حوله وبيان بطلانها وزيفها.
أـ التعريف به: هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، كان اسمه في الجاهلية عبد
شمس، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن واشتهر أبو هريرة بكنيته، حتى غلبت على اسمه فكاد ينسى، وسئل أبو هريرة: لم كنيت بذلك؟ قال كنيت أبا هريرة لأني وجدت هرة فحملتها في كمي، فقيل لي: أبو هريرة: وكان يرعى غنم أهله في صغره، ويداعب هرته وكان يقول: لا تكنوني أبا هريرة، فإن النبي الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا هر، والذكر خير من الأنثى (6).
ب ـ إسلامه: هاجر أبو هريرة من اليمن إلى المدينة ليالي فتح خيبر، وكان ذلك سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو في اليمن، ووصل المدينة وصلى الصبح خلف سباع بن عرفظة الذي كان قد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 87).
(2) المصدر نفسه (6/ 148).
(3) المصدر نفسه (6/ 210).
(4) المصدر نفسه (6/ 225).
(5) المصدر نفسه (6/ 225).
(6) سير أعلام النبلاء (2/ 424).(1/361)
على المدينة أثناء غزوة خيبر (1). وقد لازم أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر حياته، وقصر نفسه على خدمته، وتلقى العلم الشريف منه، فكان يدور معه ويدخل بيته، ويصاحبه في حجه وغزوه، ويرافقه في حله وترحاله، في ليله ونهاره، حتى حمل عنه العلم الغزير الطيب، فكانت صحبته أربع سنوات، وقد اتخذ الصُّفة مقاماً له، وخدم الرسول صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، وجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عريف أهل الصفة، فقد كان أعرف الناس بهم وبمراتبهم (2).
ت ـ دعوته لأمه للإسلام: قال أبو هريرة رضي الله عنه كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم أهد أم أبي هريرة، فخرجت مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: أبا هريرة أشهد أن لا إليه إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة: فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً. قالت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم حبب عُّبيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين. فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني (3).
ت ـ عبادة أبي هريرة رضي الله عنه وأسرته:
كان أبو هريرة رضي الله عنه ورعاً، ملتزماً سنة الرسول صلى الله عليه وسلم،
يحذر الناس في الانغماس في ملذات الدنيا، وشهواتها،
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 425).
(2) حلية الأولياء (1/ 376) السنة قبل التدوين محمد عجاج الخطيب صـ412.
(3) مسلم رقم 2491، بر الوالدين، أم حفص الشويحي صـ35.(1/362)
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يفرق في ذلك بين غني ولا فقير، أو بين أمير وحقير وأخباره في هذا الصدد كثيرة، وكان يخشى الله كثيراً في السر والعلن، ويذكر الناس به، ويحثهم على طاعته (1)، وكان عابداً، يصوم النهار ويقوم الليل، ويتناوب قيامه هو وزوجته، وابنته (2)، وكان يهتم بعمران بيته بعبادة الله تعالى فعن أبي عثمان النهدي قال: تضيَّفت ابا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً: يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا (3) فبيت أبي هريرة أشراقة مضيئة تبين لنا بيوت المسلمين في ذلك العهد، فهو بيت عامر بالصلاة طوال الليل، فأين تجد الشياطين لها مكاناً في هذا البيت؟ إنها تربية عالية على التقوى والعمل الصالح من الحافظ الكبير والعالم الرباني أبي هريرة رضي الله عنه، واستجابة كريمة من امرأة طاهرة زكية وخادم صالح مطيع. إن أبناء الدنيا حينما يكلفون خدمهم، بعمل كبير، فإنما يكلفونهم بأعمال الدنيا، ويرون أنه لا مصلحة لهم بتكليفهم بعمل الآخرة، أما أبناء الآخرة فإنه من كمال سرورهم أن يروا خدمهم يجتهدون في أعمال الآخرة، لأنهم يكسبون بذلك أجراً على حسن توجيههم (4).
ث ـ فقره وعفافه:
كان أبو هريرة أحد أعلام الفقراء والمساكين، صبر على الفقر الشديد حتى أنه كان يلصق بطنه بالحصى من الجوع، يطوي نهاره وليله من غير أن يجد ما يقيم صلبه (5)، قال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق، ثم يأتي أهله فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قالوا: لا قال: فإني صائم (6)، وكان قنوعاً راضياً بنعم الله، فإذا أصبح لديه خمس عشرة تمرة أفطر على خمس، وتسحر على خمس، وأبقى خمس لفطره (7)، وكان كثير الشكر لله، كثير الحمد والتسبيح والتكبيرعلى ما أتاه الله من فضل وخير (8).
_________
(1) سير أعلام النبلاء (2/ 438).
(2) البداية والنهاية (11/ 378).
(3) سير أعلام النبلاء (2/ 609).
(4) التاريخ الإسلامي (19/ 215) للحميدي.
(5) السنة قبل التدوين صـ413.
(6) حلية الأولياء (3/ 3381).
(7) البداية والنهاية (11/ 385).
(8) تاريخ الإسلام (2/ 335)، سير أعلام النبلاء (2/ 439، 440).(1/363)
جـ ـ حلمه وعفوه:
كانت عند أبي هريرة زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع يوماً السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه، أذهبي فأنت حرة لله عز وجل (1)، وهكذا يوازن أبو هريرة رضي الله عنه بين قدرته على تلك الخادمة وقدرة الله تعالى عليه، فيفضل اتقاء سخط الله سبحانه وتعالي وعذابه على تنفيذ مقتضى سخطه هو، فيتورع عن عقوبة تلك الخادمة ويحسن إليها بدلاً من إساءتها بإعتاقها لوجه الله عز وجل، وبهذا
يكون قد جمع بين عدد من الأعمال الصالحة، .. خشية الله تعالى، والعفو عن المسيء، والإحسان إليه، وهذا يبين لنا عمق تصور الصحابة رضي الله عنهم للحياة الآخرة واستحضارهم رقابة الله تعالى وسعيهم الحثيث لبلوغ رضاه (2).
ح ـ ولايته على البحرين في عهد عمر رضي الله عنه:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل أبا هريرة مع العلاء الحضرمي إلى البحرين، لينشر الإسلام، ويفقه المسلمين، ويعلمهم أمور دينهم، فحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتى الناس، وفي عهد عمر رضي الله عنه استعمله على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت عليّ. فنظروا فوجدوا كما قال (3)، وقد قاسمه عمر رضي الله عنه مع جملة من قاسمهم من العمال، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين (4)، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه، فأبى، فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خير منك، يوسف عليه السلام، فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة وأخشى عملكم ثلاثاً واثنتين، فقال: فهل قلت خمساً، قال: لا. أخاف أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي (5).
خ ـ اعتزاله الفتن:
كان أبو هريرة يوم حصار عثمان رضي الله عنه عنده في الدار مع بعض الصحابة وأبناءهم، الذين جاءوا ليدفعوا الغوغاء عنه، وقد حفظ ولد
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 385).
(2) التاريخ الإسلامي (17/ 23) للحميدي.
(3) البداية والنهاية (11/ 387).
(4) طبقات بن سعد (4/ 60)، السنة قبل التدوين صـ416.
(5) سير أعلام النبلاء (2/ 441)، السنة قبل التدوين صـ416.(1/364)
عثمان له يده واحترموه حتى أنه لما مات أبو هريرة كان يحملون سريره حتى بلغوا البقيع (1)، وقد اعتزل أبو هريرة رضي الله عنه الفتن بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه (2).
ر ـ مرحه ومزاحه:
كان أبو هريرة رضي الله عنه حسن المعشر، طيب النفس، صافي السريرة، كان يحب الفكاهة والمزاح ومع هذا كان يعطي كل شيء حقه، فقد نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها، فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء، بل أظهرت تواضعه، وحسن خلقه، فربما استخلفه مروان على المدينة، فيركب حماراً قد شدَّ عليه بَرْذعه وفي رأسه خلبة من ليف، يسير فيلقى الرجل، فيقول: الطريق قد جاء الأمير (3). ويمر أبو هريرة في السوق، يحمل الحطب على
ظهره ـ وهو يومئذ أمير لمروان ـ فيقول لثعلبة بن أبي مالك القرظي: أوسع الطريق للأمير يا ابن مالك، فيقول: يرحمك الله يكفي هذا!! فيقول أبو هريرة: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه (4). وكان يحب إدخال السرور إلى نفوس الأطفال، فقد يراهم يلعبون بالليل لعبة الإعراب، فلا يشعرون به حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه كأنه مجنون فيفزع الصبيان منه ويفرون (5)، هاهنا وهاهنا يتضاحكون (6). قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه في الليل، فيقول: دع العُراق للأمير ـ يعني قطع اللحم ـ فانظروا فإذا ثريد بزيت (7).
ز ـ حياته العلمية:
صحب أبو هريرة رسول اله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وسمع منه كثيراً، وشاهد دقائق السنة، ووعى تطبيق الشريعة، وكان همه طلب العلم وأمله التفقه في الدين (8)، وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة (9)، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا تسألني من الغنائم التي يسألني أصحابك؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 523).
(2) السنة قبل التدوين صـ 417.
(3) طبقات ابن سعد نقلاً عن السنة قبل التدوين صـ418.
(4) البداية والنهاية (11/ 386).
(5) البداية والنهاية (11/ 388).
(6) البداية والنهاية (11/ 388) في الحاشية.
(7) البداية والنهاية (11/ 388).
(8) السنة قبل التدوين صـ420.
(9) سير أعلام النبلاء (2/ 594).(1/365)
وبينه، حتى كأني انظر إلى النمل يدب عليها، فحدَّثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: اجمعها فصُرْها إليك. فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدّثني (1)، وكان يقول رضي الله عنه: إنّكم تقولون: إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يُحدِّثون مثله وإن إخواني من المهاجرين يشغلهم الصَّفق في الأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت أمرأ مسكيناً من مساكين الصفة، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه يوماً: إنَّه إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي، ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقول. فبسطت نمرة عليَّ، حتى إذا قضي مقالته، جمعتها إلى صدري. فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك شيئاً (2)، وفي رواية: إنه حدثنا يوماً فقال: من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي، ثم قبضه إليه، لم ينس شيئاً سمع مني أبداً. ففعلت فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئاً سمعته منه (3).
وعن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من نفسه (4). وكان أبو هريرة حافظاً متقناً، ضابطاً لما
يروي، دقيقاً في أخباره، فقد اجتمعت فيه صفتان عظيمتان تتم إحداهما الأخرى، الأولى: سعة علمه وكثرة مروياته، والثانية: قوة ذاكرته وحسن ضبطه وهذا غاية ما يتمناه أولو العلم (5)، ويذكر لنا أبو الزعيزعة كاتب مروان ما يثبت اتقانه وحفظه فيقول: دعا مروان أبا هريرة فجعل يسأله، واجلسني خلف السرير، وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان رأس الحول، دعابه، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر (6). ولم يكن أبو هريرة راوية للحديث فقط، بل كان من رؤوس العلم في زمانه، في القرآن والسنة والاجتهاد، فإن صحبته وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتاحت له أن يتفقه في الدين، ويشاهد السنة العملية، عظيمها
_________
(1) سير أعلام النبلاء (2/ 594) رجاله ثقات.
(2) مسلم رقم 2492.
(3) سير أعلام النبلاء (2/ 595) مسلم رقم 2294.
(4) سير أعلام النبلاء (2/ 596) إسناده صحيح.
(5) السنة قبل التدوين صـ427.
(6) سير أعلام النبلاء (2/ 598).(1/366)
ودقيقها فتكونت عنده حصيلة كثيرة من الحديث الشريف كل ذلك هيأ أبو هريرة لأن يفتي المسلمين في دينهم نيفاً وعشرين سنة والصحابة كثيرون آنذاك (1).
ص ـ أصح الطرق عن أبي هريرة في الحديث عن رسول الله:
حكى عن ابن المديني أن من أصح الأسانيد إطلاقاً حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة (2)، وأصح ما روي من الحديث عن أبي هريرة ما جاء عن:
ـ الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
ـ أبو الزناد عن الأعرج ـ عبد الرحمن بن هرمز ـ عن أبي هريرة.
ـ مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة (3).
* الرد على الشبه التي أثيرت حول أبي هريرة رضي الله عنه:
كتب بعض أهل الأهواء قديماً في الطعن في أبي هريرة وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال (جولد تسهير) وشبرنجر) في الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه بالظلم والبهتان، وكتب عبد الحسين شرف الدين العاملي الشيعي كتاب تحت عنوان (أبو هريرة) وافترى فيه على أبي هريرة افتراءات يندي لها جبين العلم وتخز ضمير العلماء، وتجرح الحق، ولا تلتقي معه، حتى انتهى إلى تكفير أبي هريرة (4)، وقد استقى من هذا الكتاب أبو رية صاحب
كتاب أضواء على السنة المحمدية. فكان أشد على أبي هريرة من أستاذه وأكثر ضلالاً وزيفاً، وأهم هذه الشبهات التي ألصقت بأبي هريرة رضي الله عنه:
أـ عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما:
اتهم عبد الحسين شرف الدين وأبو رية (5) أبا هريرة بأنه سرق عشرة آلاف دينار حينما ولي البحرين لعمر، فعزله وضربه
_________
(1) السنة قبل التدوين صـ428.
(2) السنة قبل التدوين صـ434.
(3) السنة قبل التدوين صـ435.
(4) السنة قبل التدوين صـ437.
(5) أبو هريرة لعبد الحسين صـ14 ـ 15، اضواء السنة المحمدية صـ192.(1/367)
بالدرة حتى أدماه، لقد ذكرت جميع الروايات المعتمدة أن عمر رضي الله عنه قاسمه ماله، كما قاسم غيره من الولاة (1)، وليس فيها أنه ضربه حتى أدماه، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين فلم يحقد على عمر رضي الله عنه مع أنه يعلم أن ما قاسمه إياه إنما هو عطاياه وأسهمه وغلة رقيقة ولو أن عمر شك في أمانة أبي هريرة بعض الشك لحاكمه وعاقبه العقوبة الشرعية، ولكنه عرف فيه الأمانة والإخلاص فعاد إليه بعد حين يطلبه للولاية فأبى أبو هريرة قبولها كما أسلفنا. هذا وجه الحق الذي أخفاه عبد الحسين وأبو ريه، فعبد الحسين نقل رواية واحدة عن العقد الفريد لابن عبد ربه (2)، حيث وجد فيها ما يوافق هواه واكتفى أبو رية بالنقل عن عبد الحسين من غير أن يشير إلى المصدر ومن غير بحث أو مقارنة وتمحيص (3). وهذا يدل على حرصهم على التزوير والإخلال بالأمانة العلمية.
ب ـ هل تشيع أبو هريرة للأمويين؟ ووضع أحاديث في ذم علي وأبنائه؟
وقد اتهمه عبد الحسين بأنه دعاية الأمويين في سياستهم فتارة يفتئت الأحاديث في فضائلهم .. وتارة يلفق أحاديث في فضائل الخليفتين نزولاً على رغائب معاوية وفئته الباغية (4) وجمع أبو رية في هذا الموضوع كل شتائم كتب الشيعة في أبي هريرة ونبش الأكاذيب والافتراءات على صحابة رسول الله واعتمد الكتب التي لم يعرف مؤلفوها بالصدق ولا بالتمحيص في الرواية أو التي عرف مؤلفوها بالبغض القاتل لأبي هريرة، والعقيدة التي ندين بها أن أبا هريرة رضي الله عنه كان محباً لآل بيت رسول الله صلى عليه وسلم روى في فضائل الحسن والحسين أكثر من حديث (5) ولم يناصب أهل البيت العداء قط ومشهور عنه أنه تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحب من أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب أن يدعي إنسان نهل عن العلم بعضه أن أبا هريرة يكره علياً وأهله رضي الله عنهم (6)، وقد كتب الأستاذ عبد المنعم صالح العزي كتابه القيم في الدفاع عن أبي
هريرة، وبين حبه لعلي
_________
(1) تاريخ الإسلام (2/ 338)، حلية الأولياء (1/ 380) البداية والنهاية (11/ 387).
(2) السنة قبل التدوين صـ438.
(3) المصدر نفسه صـ439.
(4) أبو هريرة لعبد الحسين صـ35.
(5) الستة ومكانتها في التشريع الإسلامي صـ353، 354.
(6) البرهان في تبرئة أبي هريرة من البهتان صـ127.(1/368)
وفاطمة رضي اله عنهما وبين بأنه يروي منقبة علي يوم خيبر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ـ ثم روى إعطاءه إياها (1)، أفهذه رواية كاره لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه (2) وفي مناقب فاطمة رضي الله عنها يروي أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن فاطمة سيدة نساء أمتي (3)، وروى أبو هريرة أحاديث في حب الحسن بن علي وله معه وقائع وأخبار تدل على حب عظيم كان يكنه للحسن (4).
ويروي لنا أبو هريرة صورة لحبه للحسن رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: لا أزال أحب هذا الرجل بعد ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدخل أصابعه في لحية النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي يدخل لسانه في فمه، ثم قال: اللهم إني أحبه فأحبه (5). فلا غرابة بعد هذا الحب أن رأينا أبا هريرة يبكي يوم يموت الحسن ويدعو الناس إلى البكاء (6)، يقول من حضر ذاك اليوم: رأيت أبا هريرة قائماً على المسجد يوم مات الحسن يبكي وينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس: مات اليوم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فابكوا (7)، ولم يكن حب الحسين بن علي أقل ظهوراً عند أبي هريرة من حب الحسن، إذ ينقل لنا حادثة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ما رأيت الحسين بن علي إلا فاضت عيني دموعاً، وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد، فأخذ بيدي واتكأ علي، فانطلقت معه حتى جاء سوق بني قينقاع، قال: وما كلمني فطاف ونظر، ثم رجع ورجعت معه فجلس في المسجد واحتبى، وقال لي: ادع لي لكاع، فأتى حسين يشتد حتى وقع في حجره ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه فيه ويقول: اللَّهم إني أحبه فأحبه (8). والقصة هذه رواها البخاري وفيها أن الحسن لا الحسين، لكن الحاكم أشار إلى أن كلاً الروايتين محفوظة واردة، وذلك محتمل، لأن فيها ذكر الرجوع إلى المسجد (9)،
ولقد أثبت عبد المنعم العزي في كتابه أقباس
_________
(1) مسلم.
(2) الأدلة الباهرة على نفي البغضاء بين الصحابة والعترة الطاهرة صـ133.
(3) التاريخ الكبير للبخاري (1/ 232) بسند موصول.
(4) الأدلة الباهرة صـ134.
(5) المستدرك (3/ 169) بسند صحيح.
(6) الأدلة الباهرة صـ135.
(7) التهذيب (2/ 301).
(8) المستدرك (3/ 178).
(9) الأدلة الباهرة علي نفي البغضاء بين الصحابة والعترة الطاهرة صـ135 ..(1/369)
من مناقب أبي هريرة بالدلائل القطعية الكافية اعتداد أبناء علي رضي الله عنهم بحديث أبي هريرة، وروايتهم عنه، ورواية كبار فرسان علي وأمراء جنده، الذين قاتلوا معه في معارك الجمل وصفين والنهروان
عن أبي هريرة، ورواية جمهرة من التابعين عنه ممن لاقوا علياً رضي الله عنه ورووا عنه، ورواية عدد كبير آخر من جماهير الشيعة والكوفيين ومحبي ذرية علي من طبقة أتباع التابعين والطبقة التي تليهم لحديث أبي هريرة، واستعماله له، واستدلالهم به، وتدوينه في كتبهم (1).
إن الحقيقة العلمية التاريخية تقول لا يوجد أي دليل يعتمد عليه في تشيع أبي هريرة للأمويين، أو محاربته وعداوته لعلي وأبنائه وإنما ظلم وافتراء واختلاق على الحقيقة، وإنما ما نسب إليه من أحاديث في مدح الأمويين، إنما هي ضعيفة وموضوعة عليه وأهل الخبرة في هذا الشأن بينوا الكذابين والواضعين لها (2).
وأما دعوى كون الدولة الأموية وضعت أحاديث لتعمم بها رأياً من آرائها، فهذه دعوى لا وجود لها إلا في خيال الكذّابين، فما روى لنا التاريخ أن الحكومة الأموية وضعت أحاديث، ونحن نسأل من زعم ذلك أين هي تلك الأحاديث التي وضعتها الحكومة؟ إن علماءنا اعتادوا ألا ينقلوا حديثاً إلا بسنده، وها هي أسانيد الأحاديث الصحيحة محفوظة في كتب السنة، ولا نجد حديثاً واحداً من آلافها الكثيرة في سنده عبد الملك أو يزيد أو الوليد أو أحد عمالهم كالحجاج وخالد القسري وأمثالهم، فأين ضاع ذلك في زوايا التاريخ لو كان له وجود؟ وإذا كانت الحكومة الأموية لم تضع بل دعت إلى الوضع، فما الدليل على ذلك (3)؟ وأما ما زعمه عبد الحسين وأبو رية بأن أبا هريرة كذب على رسول الله إرضاء للأمويين ونكاية بالعلويين (4)، فأبو هريرة من كل هذا براء ولكنهما أوردا أخباراً ضعيفة وموضوعة لا أصل لها (5)، وكل ما كان في هذا الشأن وما جاءنا من هذه الأخبار الباطلة إنما كان عن طريق أهل الأهواء الداعين إلى أهوائهم، المتعصبين لمذاهبهم،
_________
(1) أقباس من مناقب أبي هريرة، عبد المنعم العزي صـ127 إلى 149.
(2) البرهان في تبرئة أبي هريرة من البهتان صـ 128.
(3) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي صـ203.
(4) أبو هريرة عبد الحسين صـ35، أضواء على السنة صـ190.
(5) السنة قبل التدوين صـ441.(1/370)
فتجرؤوا على الحق، ولم يعرفوا للصحبة حرمتها، فتكلموا في خيار الصحابة واتهموا بعضهم بالضلال والفسق، وقذفوا بعضهم بالكفر وافتروا على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم (1).
ولقد كشف أهل الحديث عن هؤلاء الكذبة، وكشف الله بهم أمر هذه الفرق وأماط اللثام عن وجوه المتسترين وراءها فكان أصحاب الحديث هم جنود الله عز وجل، بينوا حقيقة هؤلاء، وأظهروا نواياهم وميولهم، فما من حديث أو خبر يطعن في صحابي أو يشكك في عقيدة، أو يخالف مبادئ الدين الحنيف إلا بين جهابذة هذا الفن يد صانعه، وكشفوا عن علته، فادعاء هؤلاء مردود حتى يثبت زعمهم بحجة صحيحة مقبولة،
وكيف نتصور معاوية يحرض الصحابة على وضع الحديث كذباً وبهتاناً وزوراً، ليطعنوا في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (2)، وقد شهد علماء الأمة من الصحابة والتابعين على عدالة معاوية، وقد بين مواقفه من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ولم يذكر في مصدر موثوق به ما يدل على أن علياً رضي الله عنه كذّب أبا هريرة أو نهاه عن الحديث، ولكن بعض أعداء أبو هريرة يستشهدون برواية مكذوبة عن أبي جعفر الاسكافي، وهي أن علياً لما بلغه أبي هريرة قال: ألا إن أكذب الناس ـ أو قال أكذب الأحياء على رسول الله ـ أبو هريرة الدوسي (3). فهذه رواية مردودة لا نقبلها عن الإسكافي، لأنه شيعي محترف، ومعتزلي ناصب أهل الحديث العداء (4)، وقد رد ابن قتيبة على جميع ما ألصقوه بالإمام علي طعناً في أبي هريرة (5).
جـ ـ كثرة حديثه:
أخذ النظام المعتزلي على أبي هريرة كثرة حديثه وتابعه بعض المعتزلة قديماً ومنهم بشر المريسي، وأبو القاسم البلخي، وقد ردّ ابن قتيبة على النظام في كتابه (تأويل مختلف الحديث) ولقيت هذه الشبهة صدى في نفوس بعض المتأخرين كعبد الحسين شرف الدين الشيعي الذي سود صفحات كثيرة من كتابه (أبو هريرة) (6)، يشك في مروياته ويستكثرها، ويوهم القاريء أن ما رواه أبو هريرة مما رواه الصحابة الذين اشتغلوا بأمور الدولة وسياستها، ويثير هذه
_________
(1) العواصم من القواصم صـ 182 ـ 183، السنة قبل التدوين صـ 443.
(2) السنة قبل التدوين صـ 444.
(3) شرح نهج البلاغة (1/ 468).
(4) السنة قبل التدوين صـ 443.
(5) تأويل مختلف الحديث صـ 27،51 وما بعدها السنة قبل التدوين صـ 460.
(6) أبو هريرة صـ45 وما بعدها، السنة قبل التدوين صـ446.(1/371)
الشبهة نفسها أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية (1)، ويستشهد هؤلاء جميعاً بأخبار ضعيفة أو موضوعة أحياناً، وبتأويلات وموازنات باطلة أحياناً أخرى، وتلتقي أهواء هؤلاء بأهواء بعض المستشرقين أمثال ((جولد تسيهر)) الذي استكثر أيضاً مرويات أبي هريرة (2)، وخلاصة أقوالهم، أن أبا هريرة تأخر إسلامه، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5374) حديثاً، وهي أكثر كثيراً مما رواه الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام (3)، ومن الخطأ الفاحش أن يقارن الخلفاء الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية لأسباب عديدة منها:
ـ صحيح أن الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم سبقوا أبا هريرة في صحبتهم وإسلامهم، ولم يرو عنهم مثل ما روي عنه، إلا أن هؤلاء اهتموا بأمور الدولة، وسياسة الحكم، وأنفذوا
العلماء والقراء والقضاة إلى البلدان فأدوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شئون الأمة فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قلة حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بالفتوحات، لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم (4)
ـ انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم،
واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل هي خطأ كبير (5)، وكون أبي هريرة رضي الله عنه أكثر رواية من السيدة عائشة رضي الله عنها لأنها كانت تفتي الناس في دارها، وأما أبو هريرة، فقد اتخذ حلقة له في المسجد النبوي، كما كان أكثر احتكاكاً بالناس من السيدة أم المؤمنين عائشة بصفته رجلاً، كثير الغدو والرواح، وأضيف إلى هذا أن السيدة عائشة كان جل همها موجهاً نحو نساء المؤمنين، وكان يتعذر دخول كل إنسان عليها (6). إن نظرة مجردة عن الهوى تدرك أن ما روي عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه
_________
(1) أضواء على السنة المحمدية صـ160 وما بعدها.
(2) دائر المعارف الإسلامية ـ مادة حديث نقلاً عن السنة قبل التدوين صـ447.
(3) السنة قبل التدوين صـ447.
(4) المصدر نفسه صـ450.
(5) المصدر نفسه صـ451.
(6) السنة قبل التدوين صـ451.(1/372)
أهل الأهواء وأعداء السنن، وإن ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء أسمعه منه أم من الصحابة لا يشك فيه لقصر صحبته، بل إن صحبته تحتمل أكثر من هذا، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطاً، وتعليماً وتوجيهاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
ـ كثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم فقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، فعن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله، ما حدثت حديث ثم يتلوا: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) (البقرة، آية: 159). إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن أخواننا الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون (2).
ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له في الحفظ: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه، قال: أبسط رداءك. فبسطه، قال: فغرف بيديه ثم قال: ضمه. فضممته فما نسيت شيئاً بعده (3)
ـ كثرة تلامذته والناقلين عنه، فكان عدد تلامذته قريباً من ثمانمائة (4)
ـ تأخر وفاته، فقد قيل 58 هـ وقيل 59 هـ. ثم إن هذه الأحاديث المنقولة عنه تنقسم إلى ما يلي
*ـ ما كان ضعيف السند لا يصح عن أبي هريرة
*ـ ما كان مكرراً
*ـ ما كان له أكثر من اسناد
*ـ ما رواه عن أكابر الصحابة كالعشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم
_________
(1) المصدر نفسه صـ452.
(2) البخاري رقم 118 مسلم رقم 159.
(3) البخاري رقم 119 مسلم رقم 160.
(4) حقبة من التاريخ صـ223، سير أعلام النبلاء (2/ 579).(1/373)
*ـ ما كان موقوفاً عليه من كلامه (1). وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين، وانفرد مسلم بثمانية وتسعين، ثم إن جُلَّ الأحاديث التي رواها أبي هريرة لم ينفد بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شاركه في روايتها غيره من الصحابة (2)، وأما اعتراض الشيعة على مروياته، فإن جابر بن يزيد الجعفي روى عن محمد الباقر رضي الله عنه سبعين ألف حديث وعن باقي مائة وأربعين ألف حديث (3)، وروى أبان بن تغلب عن جعفر الصادق رضي الله عنه ثلاثين ألف حديث (4)، وروى محمد بن مسلم عن الباقر ثلاثين ألف حديث، وعن الصادق ستة عشرة ألف حديث (5). وهذا يبين تناقضهم.
وقد شهد لأبي هريرة. الصحابة والتابعون وجهابذة العلم بقوة الحفظ وحضور الذاكرة (6). فقد قال ابن عمر: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه (7)، وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره (8). وقال الذهبي: .. سيد الحفاط الأثبات (9)، وقال أيضاً: وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدائه بحروفه (10).
وقد دافع الكثير من العلماء عن أبي هريرة وردوا الشبهات التي ألصقت به ومن الكتب
المعاصرة التي نسفت الأباطيل التي اتهم به ابو هريرة، العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (11)، وموقف المدرسة العقلية من السنة النبوية (12).
ك ـ بكاء أبي هريرة في مرض موته ووصية معاوية بورثته:
لما حضر أبو هريرة الموت بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد
_________
(1) حقبة من التاريخ صـ223.
(2) المصدر نفسه سـ223.
(3) خاتمة وسائل الشيعة صـ151.
(4) رجال النجاشي صـ9.
(5) مشيخة الصدوق صـ6.
(6) موقف المدرسة العقلية من السيرة النبوية الأمين الصادق (2/ 74).
(7) سير أعلام النبلاء (2/ 603 ـ 604) رجاله ثقات إسناده صحيح.
(8) المصدر نفسه (2/ 599).
(9) المصدر نفسه (2/ 578).
(10) المصدر نفسه (2/ 619).
(11) العصرانيون، محمد حامد الناّاصر صـ115.
(12) موقف المدرسة العقلية (2/ 74) الأمين الصادق الأمين.(1/374)
سفري وقلَّة زادي، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيُّهما يُؤخذ بي (1). وجاء في رواية: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد الخدري وخلق، وكانت وفاته في داره بالعقيق، فٌحمل إلى المدينة، فصُلِّيَ عليه ثم دفن بالبقيع ـ رحمه الله ورضي الله عنه ـ وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، وكتب إليه معاوية أن أنظر ورثته فأحسن إليهم، وأصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، وأعمل إليهم معروفاً، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار (2).
- هل أراد معاوية أن ينقل منبر رسول الله من المدينة إلى الشام؟
ذكر الطبري في تاريخه في أحاديث عام 50 هـ بأن معاوية أمر بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحمل إلى الشام فحُرِّك فكسفت الشمس حتى رُئيت النجوم بادية يومئذ فأعظم الناس ذلك، فقال: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قد أرِضْ (3)، فنظرت إليه، ثم كساه يومئذٍ (4)، وجاء في رواية أخرى: قال معاوية: أني رأيت أن منبر رسول الله وعصاه (5)، لا يتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصاه وهي عند سعد القرظ، فجاء أبو هريرة وجابر بن عبد الله، فقالا: يا أمير المؤمنين، نذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصح، تُخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه، وتخرج عصاه من المدينة. فترك، ذلك معاوية، ولكن زاد في المنبر ستَّ درجات، واعتذر إلى الناس (6)، تحدثت الروايات السابقة عن القضايا التالية:
1 ـ عزم معاوية رضي الله عنه على نقل منبر رسول الله، وعصاه إلى الشام، فقد ذكره الزبير بن بكار (7)، واليعقوبي وابن الجوزي (8)، دون أن يشيروا إلى خبر
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 384).
(2) المصدر نفسه (11/ 389).
(3) أي: أصابته الأرضة وهي دويبة تأكل الخشب القاموس المحيط صـ820.
(4) تاريخ الطبري (6/ 155).
(5) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخطب توكأ على عصا.
(6) البداية والنهاية (11/ 214) تاريخ الطبري (6/ 155).
(7) فتح الباري (2/ 463) مرويات خلافة معاوية صـ388.
(8) المنتظم (5/ 227).(1/375)
العصا، أما ابن الأثير (1)، وابن كثير (2)، فقد أورد خبر المنبر والعصا، هذا وقال الدكتور خالد الغيث: ولم أقف على رواية صحيحة تؤكد مزاعم الواقدي هذا فضلاً عن أن دين معاوية، وعدالته، وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمنعه من حمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة (3). هذا وقد أورد عبد الرزاق (4)، خبر قدوم معاوية رضي الله عنه المدينة وزيادته درجات المنبر دون الإشارة إلى إرادة معاوية نقل المنبر إلى الشام، أو أخذ العصا، وزيادة معاوية رضي الله عنه للمنبر وكسوته تعد من مناقب معاوية التي حاول بعض الأخباريين طمسها وتشويهها (5)
2ـ خبر ربط كسوف الشمس بتحريك المنبر فقد ذكره عبد الرزاق والزبير بن بكار (6)، وابن الجوزي (7)، وابن الأثير (8)، وابن كثير (9)، بينما ذهب اليعقوبي (10)، الشيعي إلى حدوث زلزلة عن تحريك المنبر، وهذا الخبر لم يرد بإسناد صحيح، هذا فضلاً عن أن كسوف الشمس على افتراض حدوثه. فإنه لم يكن نتيجة لتحريك المنبر ليس إلا، وقد حصل ما يشبه ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أخرج البخاري من طريق المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رايتم فصلوا، وادعوا الله، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده (11)
3 ـ اتهام معاوية رضي الله عنه ببغض أهل المدينة (الأنصار) لكونهم قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، هذا الخبر أورده ابن الأثير (12)، وهو خبر ضعيف
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 482).
(2) البداية والنهاية (11/ 214).
(3) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح (4/ 119).
(4) المصنف (3/ 183).
(5) مرويات خلافات معاوية في تاريخ الطبري صـ389.
(6) فتح الباري (2/ 464).
(7) المنتظم (5/ 228).
(8) الكامل (2/ 482).
(9) البداية والنهاية (11/ 214).
(10) البخاري: صحيح البخاري مع الفتح (2/ 612).
(11) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح (2/ 612).
(12) الكامل (2/ 482).(1/376)
الإسناد (1). وقد بينت موقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وكيف أن كعب بن مالك الانصاري حث الأنصار على نصرة عثمان رضي الله عنه، وقال لهم يا معشر الأنصار: كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان، ووقفوا ببابه
ودخل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئت كنّا أنصار الله مرتين (2). فرفض القتال، وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفُّوا (3). وأما زعمهم أن معاوية يبغض الأنصار رضي الله عنهم لكونهم قتلة عثمان رضي الله عنه، فمردود بما ورد من حقيقة موقف الأنصار من عثمان رضي الله عنه، كما أن تقريب معاوية للأنصار وتوليته إياهم في مناصب هامة وحساسة يرد هذه الفرية، ومن الشواهد على ذلك:
1ـ توليته فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قضاء دمشق (4)، وتوليته إياه منصب أمير البحرية الإسلامية في مصر (5)
2ـ تعيينه النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أميراً على الكوفة (6)
3ـ تعيينه مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه أميراً على مصر والمغرب معا (7)
4ـ تعيينه رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أميراً على طرابلس (8)
رابعاً: مكة
1ـ ولاية خالد بن العاص بن هشام رضي الله عنه:
ولى معاوية في سنة 42 هـ .. مكة خالد بن العاص بن هشام (9)، وبعد أن سمى الطبري من ولى مكة في سنة 42 هـ وسنة 43 هـ نجده بعد ذلك يسكت عن تسمية عمال مكة (10)، ويكتفي
_________
(1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ390.
(2) فتنة مقتل عثمان للغبان الملحق صـ200 اسناده حسن لغيره.
(3) مرويات خلافة معاوية صـ391 فتنة مقتل عثمان (1/ 162).
(4) الاستيعاب (3/ 1262)، الإصابة (5/ 371).
(5) رياض النفوس للمالكي (1/ 80).
(6) مرويات خلافة معاوية صـ391 نقلا عن تاريخ الطبري.
(7) المصدر نفسه صـ392.
(8) الاستيعاب (2/ 504).
(9) تاريخ الطبري (6/ 87).
(10) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ 278.(1/377)
بعبارة وكانت الولاة والعمال على الأمصار في هذه السنة من تقدم ذكره قبل (1)، أو عبارة نحوها وقد تابعه كل من ابن الجوزي (2)، وابن الأثير (3).
خامساً: ولاة الطائف:
لم يذكر الطبري أسماء ولاة الطائف، لكن وردت عنده رواية تفيد تولي بعض بني حرب الطائف، وفيما يلي نص هذه الرواية: وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلاً من بني حرب ولاه الطائف فإن رأى منه خيراً وما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية وقام بما ولى قياماً حسناً جمع له معهما المدينة، فكان إذا ولى الطائف رجلاً قيل: هو أبي جاد (4)، فإذا ولاه مكة قيل: هو في القرآن، فإذا أولاه المدينة قيل: هو قد حذق (5). أما بالنسبة لمن ولى الطائف من بني حرب فإن رواية الطبري تسكت عن تسميتهم، لكن ورد عند البلاذري ما يفيد تولية عنبسة بن أبي سفيان بن حرب وعتبة بن أبي سفيان بن حرب على الطائف (6).
سادساً: ولاة مصر:
1ـ ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه:
ولى معاوية عمرو بن العاص على مصر عام 41 هـ (7).وهذا من باب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فعمرو فاتح مصر وواليها على عهد عمر وعثمان رضوان الله عليهم، وهو أقرب الناس لتولي هذه الولاية الهامة (8) وقد تكاثرت الروايات الموضوعة والضعيفة في العلاقة بين عمرو ومعاوية رضي الله عنهما واشتمل على مغامز خفية ومعلنة على الرجلين، وتشير بعضها إلى أن معاوية قد أعطى ولاية مصر لعمرو بن العاص مكافأة له نظير وقوفه إلى جانبه أثناء الفتنة التي أعقبت استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه وهذا الأمر قد بينته في كتابي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
_________
(1) مرويات خلافة معاوية صـ278 نقلا عن تاريخ الطبري.
(2) المنتظم (5/ 193ـ206).
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن مرويات خلافة معاوية صـ278.
(4) في أبي جاد: في أول الأمر.
(5) تاريخ الطبري، مرويات خلافات معاوية صـ279.
(6) أنساب الأشراف (4/ 39) مرويات خلافة معاوية صـ279.
(7) مرويات خلافة معاوية 281، 282.
(8) مرويات خلافة معاوية صـ282.(1/378)
إن وقوف عمرو بن العاص مع معاوية في المطالبة بالتعجيل بتطبيق القصاص على قتلة عثمان لم يكن تضامناً من عمرو على شخص معاوية بل كان نابعاً من اجتهاد عمرو الشخصي في هذه المسألة، حيث رأى رضي الله عنه الأخذ بالقَودَ من قتلة عثمان على الفور، فكان هذا الاجتهاد من عمرو بن العاص متطابقاً مع اجتهاد معاوية في القضية نفسها (1). وقد كانت ولاية عمرو بن العاص على مصر ذات صلاحيات واسعة بسبب ما كان يتمتع به من مقدرة إدارية فائقة، وقابليات سياسية وعسكرية متميزة، فقد واصل فتوحات الشمال الأفريقي ونظم أمر العطاء والأعمار والبناء والزراعة والري بمصر (2) وقد بقي عمرو في ولاية مصر حتى وفاته عام43 هـ.
* وصيته عند موته:
يروي ابن شماسة المهري وصية عمرو بن العاص لحظة احتضاره فيقول: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت (3)، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني كنت على أطباق ثلاث (4). لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، لو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو؟ قال قلت: أردت أن اشترط، قال تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله (5)، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه، ما
_________
(1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ282.
(2) مصر في العصر الأموي، عدنان أحمد الجنالبي صـ50،49.
(3) في سياقة الموت: أي: حال حضوره.
(4) أي: على ثلاث أحوال.
(5) أي يسقطه ويمحو أثر، وصايا وعظات قيلت آخر الحياة للحموي صـ70.(1/379)
أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة (1). وجاء في رواية: ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري عليّ أم لي، فإذا مت فلا تبكينَّ عليّ باكية، ولا تتبعني مادحاً ولا ناراً وشُدُّوا عليّ إزاري فإني مخاصم وشُنُّوا عليّ التراب شَنَّا فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلُنَّ في قبري خشبة ولا حجراً، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جذور وتقطيعها، أستأنس بكم (2).
وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه: كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع به رسل ربي عز وجلّ (3)، وفي رواية: أنه بعد هذا حوّل وجهه إلى الجدار وجعل يقول: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغُلِّ من عنقه، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم لا قويُّ فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا اله إلا أنت، فلم يزل يُردّدها حتى مات رضي الله عنه (4).
2 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:
كانت وفاة عمرو ليلة الفطر سنة ثلاث وأربعين، واستخلف ابنه عبد الله على صلاتها وخراجها (5) وبعد وصول خبر وفاة عمرو بن العاص إلى معاوية قام بتعيين أخيه عتبة على مصر
وذلك في شهر ذي القعدة من سنة ثلاث وأربعين (6). أي أن ولاية عبد الله بن عمرو على مصر لم تزد على شهرين وهي الفترة التي استغرقها وصول خبر وفاة عمرو إلى معاوية، واتخاذه لقرار تعيين الوالي الجديد (7). وقد وصف الذهبي عبد الله بن عمرو بقوله: الإمام الحبر العابد، صاحب رسول الله وابن صاحبه أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن ... وليس أبوه أكبر منه إلا بإحدى عشرة سنة أو نحوها، وقد أسلم قبل أبيه فيما بلغنا ويقال: كان اسمه العاص، فلما أسلم، غيره النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله (8)، وقد ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب فكان من ملوك الصحابة (9).
_________
(1) مسلم رقم 121.
(2) البداية والنهاية (11/ 161).
(3) مسلم 121.
(4) البداية والنهاية (11/ 161).
(5) ولاة مصر للكندي صـ57.
(6) المصدر نفسه صـ57.
(7) مرويات خلافة معاوية صـ286.
(8) سير أعلام النبلاء (3/ 80).
(9) المصدر نفسه (3/ 91).(1/380)
3 ـ ولاية عتبة بن أبي سفيان:
ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطائف وصدقاتها ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص، وكان فصيحاً خطيباً، يقال: إنه لم يكن في بني أمية أخطب منه. خطب أهل مصر يوماً وهو والٍ عليها فقال: يا أهل مصر خفّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه، كالحمار يحمل أسفاراً يثقُله حملها، ولا ينفعه علمها وإني لا أُداوي داءكم إلاّ بالسيف، ولا أُبلغ السيف ما كفاني السوط، وأبلغ السوط ما صلحتم بالدّرة، وأبطيء عن الأولى إن لم تسرعوا إلى الآخرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا. وهذا يوم ليس فيه عقاب، ولا بعده عتاب (1) وجاء في رواية: ... لنا عليكم السمع ولكم علينا العدل واتينا عذر فلا ذمة له عند صاحبه، فناداه المصريون من حنيات المسجد سمعاً، سمعاً، فناداهم عدلا عدلا (2)، وقد قام عقبة ببناء دار الإمارة بعد أن خرج مرابطاً في الاسكندرية (3)، وكان عتبة قد اتخذ لأولاده مؤدباً، يعلمهم ويربيهم، فقد عهد لعبد الصمد بن عبد الأعلى ليكون مؤدباً لولده (4)، ووجه مؤدب أولاده بتتبع أساليب التشويق وتحبيب دراسة كتاب إلى نفوسهم فقال له: علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه (5)،
وجاء في رواية: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة
بعينيك فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر اعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء وجنبهم محادثة النساء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتكل على عذري، فإني قد اتكلت على كفايتك، وزد في تأديبهم ازدك في بري أن شاء الله (6)،
_________
(1) الاستيعاب رقم 1923.
(2) النجوم الزاهرة (1/ 124)، مصر في العصر الأموي 82.
(3) مصر في العصر الأموي صـ82، النجوم الزاهرة (1/ 34).
(4) مكانة المعلم في التراث العربي للزبيدي صـ106.
(5) البيان والتبيين للجاحظ (2/ 73) ..
(6) عيون الأخبار (2/ 5) (2/ 66). التبيان والتبيين (2/ 73، 74).(1/381)
يتضح من هذه الوصية حرص الولاة الأمويين على تعليم أبناءهم القرآن الكريم والحديث والشعر وغيرها إضافة إلى التأكيد على الجانب التربوي وتزويدهم بالآداب والأخلاق الحسنة، كما أنهم يمنحونهم المؤدبين صلاحيات واسعة، ويكرمونهم (1).
4 ـ ولاية عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: 45 هـ - 47 هـ
أغفل الطبري ذكر ولاية عقبة بن عامر الجهني على مصر، وتابعه ابن الجوزي، وأبن الأثير وأبن كثير، مع أن ولايته على مصر قد أثبتتها المصادر التاريخية المختصة بالديار المصرية (2)، وهي مقدمة على غيرها في هذا المقام (3)، كما أثبتها له أبن عبد البر (4)، وأبن حجر (5)، وكان عالماً مقرئاً، فصيحاً فقيهاً فرضياً، شاعراً كبير الشأن، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن فقال له عمر بن الخطاب: اعرض عليّ فقرأ. فبكى عمر وكانت له صحبة وبايع رسول الله على الهجرة وأقام معه وكان من أهل الصفة وكان من الرماة المذكورين، مات سنة 58 هـ (6)
5 ـ ولاية مسلمة بن مُخلدّ الأنصاري 47 هـ - 62 هـ:
هو مسلمة بن مُخلدّ الأنصاري الخزرجي، الأمير، نائب مصر لمعاوية يكنى أبا معن وقيل أبو سعيد، وقيل أبو معاوية له صحبة ولا صحبة لأبيه (7). قال مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مُخلدّ، فقرأ سورة البقرة، فما ترك واواً ولا ألفاً (8). قال الليث: عزل عقبة بن عامر عن مصر في سنة سبع وأربعين فوليها مسلمة حتى مات زمن يزيد (9) وقد توفي سنة 62 هـ
في ذي القعدة بالأسكندرية (10)، وكانت له جهود في الفتوحات بالشمال الأفريقي يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وكان المغرب كله تابعاً له (11). هذه هي أهم الولايات والولاة في عهد معاوية رضي الله عنه، ويمكن تلخيص صلاحيات الولاة بالولايات على الإجمال، كتعيين الموظفين، وتشكيل مجالس شورى، إنشاء الجيوش وتجهيزها بالنسبة للولايات التي قريبة من حركة الفتح الإسلامي، كمصر والبصرة، والحفاظ على الأمن الداخلي، والإشراف على الجهاز القضائي بالولاية، والنفقات المالية، ومراقبة الأوضاع بالولاية وغير ذلك من الصلاحيات.
_________
(1) التعليم في العصر الأموي صـ66 السبتي.
(2) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ287.
(3) مرويات خلافة معاوية صـ287 كولاة مصر، والنجوم الزاهرة.
(4) الاستيعاب رقم الترجمة 1898.
(5) الإصابة (4/ 521).
(6) سير أعلام النبلاء (2/ 468).
(7) سير أعلام النبلاء (3/ 424).
(8) المصدر نفسه (3/ 425).
(9) المصدر نفسه (3/ 425).
(10) المصدر نفسه (3/ 426).
(11) مصر في العصر الأموي صـ83.(1/382)
الفصل الرابع
الفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه
نريد أن نسجل حركة الانسياح الإسلامي في الأرض، التي تمت في عهد بني أمية منذ عهد معاوية رضي الله عنه، لندحض كل وهم بأن الإسلام قد انتهى بعد عهد الخلفاء الراشدين، فحركة الفتح الإسلامي التي قامت في عهد الخلافة الراشدة وبني أمية ليست مجرد توسع في الأرض، ولا يجوز النظر إليها بهذا الاعتبار، إنما هي حركة أكبر حركة ((هداية)) للناس في التاريخ وأكبر حركة إخراج للناس من الظلمات إلى النور، وقد يبدو هذا الكلام في حس المثقفين لأول وهلة مجرد تشابه مع دعوى كل ((دولة عظمى)) أنها نشرت الحضارة في الأرض، وأن حركتها التوسعية كانت من أجل نشر تلك الحضارة، فلننظر إذن في تاريخ ((الإمبراطوريات)) في القديم والحديث: الإمبراطورية الفرعونية، والإمبراطورية الأشورية، الإمبراطورية الفينيقية، والرومانية، والفارسية، والهندية، والصينية، والبريطانية، والفرنسية، والأمريكية، والروسية، ... إلى آخر تلك الإمبراطوريات الجاهلية التي يعج بها تاريخ الأرض، كيف قامت أولاً؟ وما نشرت في الأرض؟، فأما قيامها على التسلط بالقوة، وقهر الآخرين وإذلالهم، وإخضاعهم لسيطرة الدولة الأم، وتحويلهم خدماً لتلك الدولة الأم، يمدونهم بالرجال المقاتلين، ويمدونهم بمختلف الخيرات، لتنتفش هي وتشبع وتتخم على حساب الجائعين المقهورين الأذلاء، فهذا أمر لا يحتمل المراء (1)،
وأما الذي نشرته في الأرض فلا شك أنها نشرت بعض الخير، إلى جانبه كثيراً من الفساد، لأن حياتها هي ذاتها وهي لا تهتدي بمنهج رباني ـ لا تشتمل إلا على بعض الخير والكثير من الفساد، وكل إناء ينضح بما فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، وأما الحضارة الغربية اليوم، ففظائع الاستعمار الذي صاحب تلك الحضارة من احتلال أراضي الشعوب ونهب خيراتها وإذلال أهلها خير شاهد على فسادها، كما أن آخر إفرازات هذه الحضارة الذي يسمى النظام العالمي الجديد، إن هو إلا نوع جديد من الطغيان تمارسه الدول القوية على الدول الضعيفة، ومن أبرز مآثره التخطيط للتحكم في الدول المنتجة
_________
(1) كيف نكتب التاريخ الإسلامي صـ118، 119 ..(1/383)
للبترول لحساب الدول الغربية القوية المتحكمة، وذلك باستنزاف هذا البترول في مدة أقصر، وطرحه
في الأسواق بسعر أقل، لكي تزداد الدول الطاغية غنى ويزداد الفقراء فقراً وذلاً وضياعاً باسم ((النظام العالمي الجديد)). ومآثره كذلك إمداد إسرائيل بكل وسائل العدوان وحرمان الدول العربية من إمكانية صد العدوان، وأما أصحاب الرسالات السماوية السابقة من اليهود والنصارى فماذا نشروا في الأرض؟ فأما اليهود فقد حولوا دينهم إلى عصبية خاصة ببني إسرائيل، لا يحبون نشره في الأرض لكي يبقى الإله خالصاً لهم لا يشاركهم فيه أحد من الناس، وأما النصارى فمنذ بولس وهم يسعون إلى نشر دينهم على نطاق واسع فأي شيء نشروه؟، لقد نشروا باديء ذي بدء ديناً وثنياً بدلاً من الدين الرباني الذي أنزله الله على عيسى بن مريم. ديناً يعبد فيه عيسى وروح القدس جبريل عليه السلام مع الله: قال تعالى ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)) (المائدة، الآية: 72). وقال تعالى: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)) (المائدة، الآية: 73).
وقال تعالى: ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)) (آل عمران، الآيتان: 79، 80). ونشروا ديناً يدعو إلى الرهبانية، وإهمال الحياة الدنيا واحتقار الجسد ودوافعه فنشأ عنه تعطيل دفعة الحياة وإهمال عمارة الأرض، ثم نشأ عنه رد فعل أسوأ: إنكباب على لذائذ الجسد وماديات الحياة (1)، قال تعالى: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)) (الحديد، الآية: 27)، ونشأ مع ذلك الدين نظام كهنوتي يتمثل في الكنسية ورجالها على رأسهم البابا يمارس ألواناً من الطغيان البشع في جميع نواحي الحياة، ويعادي الفكر ويحجر على العقل، ويضطهد العلماء ويمنعهم من البحث العلمي التجريبي أو النظري، فتأخرت الحياة في كل جانب، ثم حدث رد فعلٍ أسوأ، تمثل في الإلحاد وإقامة الحياة على مبعدة من الدين، بل في عداء مع الدين، وهكذا تحولت رسالة السماء على يد الكنيسة إلي غير ما نزلت من أجله، ونشرت الفساد بدلاً من الإصلاح، سواء في الفترة التي كانت تمارس سلطانها على
_________
(1) كيف نكتب التاريخ الإسلامي صـ119.(1/384)
الناس، أو في الفترة انقلب فيها الناس على سلطانهم ورفضوا الخضوع للدين (1)،
وفي مقابل ذلك كان الإنسياح الإسلامي في الأرض فريداً في التاريخ، شيئاً غير التوسع ((الإمبراطوري)) الذي مارسته الجاهليات القديمة والحديثة، وغير الطغيان المفسد الذي مارسته النصرانية المحرفة وهي تتوسع في الأرض، في تلك الحركة الفريدة في التاريخ كان المسلمون ينشرون الهدى في مكان الضلال، والنور في مكان الظلام، والعبودية الصحيحة في مكان العبوديات الزائفة للحكام والكهنة والأوثان، ويحررون المستعبدين في الأرض،
ويردون إليهم إنسانيتهم الضائعة، ويرفعونهم إلى المكان اللائق بالإنسان وكانوا ينشرون قيماً من العدل والأخوة والتسامح والتكافل لا عهد للبشرية بها من قبل ولا رأتها من بعد في غير الإسلام، وينشرون حضارة حقيقة شاملة شامخة، لا يستأثرون بها لأنفسهم، بل يفتحون أبوابها لكل مسلم في الأرض، بل يستظل بظلها النصارى في الأندلس وشرق أوربا، واليهود في مختلف بلاد العالم الإسلامي، والوثنيون عباد البقر في الهند، وكل من أراد أن يتعلم أو يمارس الحياة دون عدوان (2). لم ينهب المسلمون خيرات البلاد المفتوحة، ولم يستذلوها ليتمتعوا بالسلطان، ولم يحافظوا عليها متأخرة متدينة ليبرروا استمرار سيادتهم عليها واستعلاءهم على أهلها ... إنما دعوهم أولاً إلى الخير وهو الإسلام ـ فإن استجابوا فهم إخوة في الدين .. وإن أبوا طلبوا منهم جزية تدل على عدم مقاومتهم للخير المنزل من السماء أن يصل إلى قلوب الناس صافياً بلا غش، فإن أبوا هذا وذاك فعندئذ يقع القتال، لا لإكراه أحد على اعتناق الإسلام، إنما لإزالة مراكز القوى التي تمنع الحق أن يصل إلى الناس على حقيقته .. فإذا أزيلت مراكز الطغيان، وزال تأثيرها على النفوس، ترك الناس أحراراً في ظل الإسلام، يعتنقون ما يشاءون (3).
أن حركة الفتح الإسلامي: دوافعها وخصائصها، وآثاره الواقعة لهي فصل أساسي في كتابة التاريخ الإسلامي، لابد أن يعالج باستفاضة لدحض مزاعم المستشرقين ومن يتتلمذ عليهم من بعض المؤرخين العرب وغيرهم .. وإن كنا نورده هنا من زاوية معينة: هي دلالتها على مدى عمق الوجود الإسلامي في نفوس الأمة التي تتحرك به، ولن تتحرك به أمة هذه الحركة الواسعة السريعة الفعالة المؤثرة
_________
(1) المصدر نفسه صـ120 ..
(2) كيف نكتب التاريخ الإسلامي صـ120.
(3) المصدر نفسه صـ121.(1/385)
وهي نفسها خاوية منه أو غير ممتلئة به حتى أعماقها (1). وأول ما يسقط من دعاوي المغرضين في هذا الشأن ـ لفرط هشاشته ـ قول من قال إن الدوافع الاقتصادية هي التي دفعت حركة الفتح الإسلامي! إن الذي تحركة الدوافع الاقتصادية لا يخرج ليدعوا الناس ـ أول ما يدعوهم ـ إلى الإسلام، فإن أسلموا ألقى سلاحه وعانقهم كما يعانق الأخ أخاه، وأخذ يعلمهم تعاليم الإسلام ليشاركوه في الخير الرباني الذي هداه الله إليه، فأصحاب هؤلاء الفرية يفترون الكذب على التاريخ (2)، وتسقط الدعاوى الأخرى تباعاً وتبقى حقيقة مهمة هي أن هذه الحركة لا يمكن أن تأخذ صورتها التي أخذتها بالفعل، إلا أن تكون صادرة عن أمة ممتلئة بهذا الدين حتى أعماقها، حريصة عليه، مؤمنة به، راغبة فيه، راغبة في نشره في آفاق الأرض، فالقوة وحدها لا تفسر ما حدث في هذه الحركة من العجائب، فكم استخدمت القوى الطاغية في الأرض قوتها للتوسع في الأرض، فلم تصنع ما صنعته الحركة الإسلامية.
إن السيف، يمكن أن يفتح الأرض، ولكنه لا يفتح القلوب، والذي حدث في حركة الفتح الإسلامي لم يكن مجرد التوسع في الأرض، إنما كان فتح القلوب لتعتنق الإسلام، وكان ـ في كثير من الأقطار اتخاذ لغة الدين لغة رسمية، ونسيان الشعوب المفتوحة ما كانت تستعمله من قبل من اللغات، حتى الذين بقوا على دينهم بغير إكراه لو لم يكن الفاتحون مسلمين حقاً، بمعنى الإيمان بهذا، وممارسته في عالم الواقع والتمكن منه عقيدة وسلكاً وحركة، ما حدثت هذه العجائب في الفتح الإسلامي وأمر آخر يتعلق بهذه القوة ذاتها إنها في غالب الأحيان لم تكن هي الأكبر عدداً وعدة وخبرة حربية ... ، إنما كان العدد والعدة والخبرة في الجانب الآخر، جانب الذين انهزموا أمام قوة المسلمين، فلو لم يكن هناك عنصر آخر غير مادي ـ في جانب الفاتحين ما تمكنوا من التغلب على أعدائهم الذين يفوقونهم في فنون الحرب، كما يفوقونهم في العدد والعدة سواء، ذلك العنصر هو العقيدة الحية التي تملأ القلوب وهذه هي الدلالة التي نركز عليها هنا في وجه الدعاوي التي تقول إن انحرافات بني أمية قضت على هذا الدين وهو بعد في المهد وتلك نقطة ينبغي أن نقف عندها طويلاً حتى نقومها في نفوس الدارسين، ينبغي أن نلغي من حسهم ذلك الإيحاء الخبيث بأن الإسلام قد انتهى بعد الخلافة الراشدة ولم يعد له وجود،
_________
(1) المصدر نفسه صـ121.
(2) كيف نكتب التاريخ الإسلامي صـ121.(1/386)
ويكون ذلك بعرض الواقع الإسلامي بأمانة كاملة ودقة كذلك .. وسيتبين لنا بالحساب، حساب مجموع الانحرافات ومجموع الاستقامات أن الحصيلة المتبقية ضخمة جداً رغم وجود الانحراف. ويكون هذا بالتالي فرصة سانحة لتقدير عظمة هذا الدين وضخامته، وأصالة جذوره في التربة وتعمقها، بحيث تبقى هذه الحصيلة الضخمة وتبقى تلك الحيوية، التي تسعى لنشر الدين في الأرض بكل الإصرار والتدفق والحماسة التي قام بها المسلمون في العهد الأموي بالذات (1).
وأما ما حدث من الهبوط عن مستوى الذروة فقد حدث ولا شك على درجات متفاوتة في بعض أفراد المجتمع، أو قل إن شئت في كثير منهم، وهذا لا يعتبر في ذاته انحرافاً إنما هو الأمر المتوقع بعد غياب شخص الرسول، صلى الله عليه وسلم عن ذلك المجتمع، وبعد زوال أثر النشأة الجديدة من نفوس الناس، فنحن الآن لسنا في العهد الذي شهد التحول العظيم من الجاهلية إلى الإسلام، إنما العصر الذي يليه، ولكن فلنذكر جيداً تزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الجيل من الناس: خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (2). فنحن إذن ما زلنا مع القرون المفضلة، وليس بعد شهادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم شهادة بشر (3)، صحيح أننا الآن مع المستوى العادي للإسلام، ولكنا ـ ذلك المستوى رفيع في ذاته، وإن لم يكن على مستوى الذروة التي وصل إليها الجيل الفريد، وأنه يحقق للناس من
الخير حين يلتزمون به ما لا يحققه نظام آخر (4)، والحق أنه قد بقي في مجتمع بني أمية أفراد على المستوى الرائع، بل لم يخل جيل من أجيال المسلمين كلها ـ حتى في عصور الانحطاط ـ من نماذج متفرقة على ذلك المستوى الرفيع، إنما الملحوظة أن كثافة تلك النماذج في مجتمع الذروة كانت فذة بصورة غير عادية، ثم ظلت تخف تدريجياً مع مرور الزمان (5).
إن استئناف حركة الجهاد في عهد معاوية لم يكن بدعة على سياسته فقد استمد كثيراً من الشهرة العريضة والمكانة العريضة من كفايته كوال على بلاد الشام وهي جبهة واسعة من جبهات الجهاد، ومن شهرته كمجاهد موفق في البر والبحر منذ عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وكان له فتوحاته الكبرى في الساحل الشمالي للشام، كما أن له الفضل ـ بعد الله ـ في تأسيس البحرية الإسلامية وهزيمة الروم في البحر وانتزاع السيادة منهم لأول مرة في تاريخ
_________
(1) كيف نكتب التاريخ الإسلامي صـ122.
(2) البخاري.
(3) كيف نكتب التاريخ الإسلامي صـ123.
(4) المصدر نفسه صـ123.
(5) المصدر نفسه صـ123.(1/387)
المسلمين (1)، فالجهاد في سبيل الله أصل في حياة المسلمين في عهد الدولة الأموية، ولم تكن الغنائم هي الدافع للقيادة الإسلامية الرئيسي نحو الفتح والجهاد، وإن وجد لدى بعض الأفراد وهؤلاء لا يخلو منهم جيش حتى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ((منكم من يريد الدنيا ... )) وغيرها ولكن هذا بالطبع لا يمثل وجهة نظر المسلمين في فتوحاتهم، ولا يمثل القيادة الفكرية التي كان يتبناها الخليفة والقادة وينفذها الجند، كما أنه لا يمثل وجهة نظر الأمة ورأيها العام (2)، ومما يدل على ذلك مشاركة كبار الصحابة في ذلك الوقت فيها وحثهم المسلمين على الجهاد في سبيل الله، وحوادث الجهاد وجهود الأمويين على جبهات القتال توضح ذلك: فجبهة الروم مثلاً وهي التي كانت مثار الشجاعة ومرتع البطولة ما كانت تدر الربح الكثير بل كان بيت المال يئن منها، لأن حملاتها ما كانت تنتهي إلى تقدم (3)، خاصة إذا ذكرنا الحملات الثلاثة الكبرى التي توجهت إلى القسطنطينية وتكلفت نفقات باهظة (4).
لقد أعطى المجاهدون المسلمون في العهد الأموي صوراً رائعة للتضحية والبطولة والتجرد وإخلاص النية لله في جهادهم، سواء كانوا من القادة أو الأمراء أو من عامة الجند، أو من جماعات العلماء والزاهدين والربانيين الذين فهموا عبادة الجهاد، ومارسوا ذلك على نحو مثير للإعجاب ودافع إلى التأسي، وقد توزعت صور الإخلاص والتضحية هذه على جميع جبهات القتال، وفي جميع مراحل الجهاد، مما يدل دلالة واضحة على عمق التوجه الإسلامي للفتوحات في العهد الأموي، وينفي الغبش الذي يثيره المنحرفون عن بني أمية على
أنصع منجزاتهم وأحراها بالفخر والإعزاز، ومما شك فيه إسلامية الفتوح في العهد الأموي (5)، وقد كانت الحصيلة النهائية والحصيلة التاريخية لحركة الفتوح لذلك العصر، امتداد عالم الإسلام إلى آفاق بعيدة وكسب ـ عبر امتداده هذا ـ الأرض والإنسان، كما أنه حمى وعزّز في الوقت نفسه منجزات الموجة الأولى في حركة الفتح التي قادها وخطط لها الخلفاء الراشدون، فالموجة الثانية لحركة الفتوح هي التي بدأت في عهد معاوية نفسه واستمرت فيما بعد لكي تبلغ أقصى اتساعها في عهد الوليد (6).
_________
(1) الدولة الأموية حمدي شاهين صـ239.
(2) الفتوحات بين دوافعها الإسلامية ودعاوي المستشرقين صـ78.
(3) الدولة الأموية، يوسف العشي صـ346.
(4) المصدر نفسه.
(5) الدولة الأموية المفترى عليها صـ
(6) في التأصيل الإسلامي للتاريخ صـ92،93 عماد الدين خليل.(1/388)
المبحث الأول: حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية:
كان معاوية رضي الله عنه يرى أن الخطر الأكبر من وجهة نظره الدولة البيزنطية، وإن كانت قد خسرت أهم أقاليمها في الشرق ـ الشام ومصر ـ إلا أن جسم الدولة لا زال سليماً لم يمس، فعاصمتها باقية، وممتلكاتها في آسيا الصغرى وأوربا وشمال إفريقيا لا زالت شاسعة وإمكانياتها كبيرة، وقدرتها على المقاومة هائلة، وهي لم تكف بعد عن مناوأة المسلمين، وباختصار فهي العدو الرئيسي والخطر الأكبر الماثل أمام المسلمين، وكان معاوية رجل المرحلة وقادراً على فهم وتقدير هذا الخطر، وعلى مواجهته، أيضا، فقد كان موجوداً بالشام منذ مطلع الفتوحات في عهد أبي بكر الصديق، وأصبح والياً عليه ولمدة عشرين سنة تقريباً، وهو يشكل مع مصر خط المواجهة الرئيسي مع الدولة البيزنطية، فطول إقامة معاوية رضي الله عنه بالشام، أكسبته خبرة واسعة بأحوال البيزنطيين وسياستهم وأهدافهم مما أعانه على أن يعرف كيف يتعامل معهم، لكل ذلك فليس غريباً أن نرى معاوية يولي حدوده مع الدولة البيزنطية وعلاقاته معها جل اهتمامه ويرسم لنفسه نحوها سياسة واضحة ثابتة سار عليها هو وخلفاؤه من الأمويين إلى نهاية دولتهم، وقد كان من أهدافه الرئيسة الاستيلاء على عاصمتهم القسطنطينية (1).
أولاً: معاوية والقسطنطينية:
بعد أن أستقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان سنة 41 هـ خليفة للمسلمين باشر في تطوير الأسطول البحري ليكون قادراً على دك معاقل القسطنطينية عاصمة الروم ومبعث العدوان والخطر الدائم ضد المسلمين، فبعد أن قضى معاوية على حركات المردة أو الجراجمة الذين
أستخدمهم الروم وسيلة لرصد حركات الدولة الإسلامية ونقاط ضعفها وإبلاغ الروم عنها متخذين من مرتفعات طوروس وجبل اللكام مقراً لهم (2)، بدأ الخليفة نشاطه البحري بإرسال حملات بحرية استطلاعية منها
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ241.
(2) العلاقات العربية البيزنطية في العصر الأموي صـ51.(1/389)
حملة فضالة بن عبيد الأنصاري (1)، للوقوف على تحركات الروم وجلب المعلومات الدقيقة عنهم لمنعهم من استخدام جزر قبرص، وأرواد (2)، ورودس ذوات الخدمة التعبوية والعسكرية في عملياتهم ضد الأسطول الإسلامي وقد باشر أعماله الاستطلاعية بإحدى الشواتي وهي شاتية بسر بن أبي أرطأة في البحر عام 43 هـ (3) وأعقبها بشاتية مالك بن عبد الله بأرض الروم سنة 46 هـ وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري بحراً وحملة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر في البحر سنة 48 هـ، وصائفة بن عبد الله بن كرز البجلي، وحملة بن عبد الله بن يزيد بن شجر الرهاوي، وشاتيته بأهل الشام في سنة 49 هـ (4)، وكان نظام الشواتي والصوائف مستمراً.
فقد وضع معاوية أمامه هدفاً واضحاً وهو محاولة الضغط على الدولة البيزنطية من خلال الضغط على عاصمتها القسطنطينية تمهيداً للاستيلاء عليها، ولعل معاوية رضي الله عنه كان يرمي إلى إسقاط الدولة البيزنطية ذاتها بالاستيلاء على عاصمتها فهو يعلم أن هذه العاصمة العتيدة هي مركز أعصاب الدولة ومستقر الأموال والرجال، وفيها العقول المفكرة، فإذا سقطت في يده فإن هذا سيؤدي إلى شلل كامل في الدولة كلها، وأمامه تجربة المسلمين مع الفرس، فبعد سقوط المدائن عاصمتهم في أيديهم أصابهم الارتباك ولاحقهم الفشل، ولم تقم لهم قائمة وزالت دولتهم، فإذا استطاع إسقاط عاصمة البيزنطيين فسيكون ذلك نذيراً بإسقاط الدولة، ويستريح من خصم عنيد وعدو رئيسي، لذلك واصل ضغطه ومحاولاته لتحقيق هدفه، وليس من المبالغة القول إن الدولة البيزنطية ظلت على قيد الحياة مدة تقرب من ثمانية قرون، وهي مدينة ببقائها لعاصمتها القسطنطينية، فمناعة المدينة وصمودها أمام محولات الأمويين المستمرة لفتحها، حال دون ذلك وبالتالي حال دون سقوط الدولة والدليل على هذا أنه عندما استطاع السلطان العثماني محمد الفاتح فتح القسطنطينية والاستيلاء عليها في سنة 857 هـ التاسع والعشرين من مايو سنة 1453م كان إيذاناً بسقوط الدولة البيزنطية وزوالها من الوجود (5).
_________
(1) المصدر نفسه صـ51 نقلاً عن الأمويين والبيزنطيين.
(2) أرواد: كان يكون: جزيرة قرب القسطنطينية، ياقوت الحموي، معجم البلدان (1/ 207).
(3) مواقف حاسمة صـ31، محمد عبد الله عنان.
(4) النجوم الزاهرة (1/ 134) العلاقات العربية البيزنطية في العصر الأموي صـ51.
(5) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ244.(1/390)
ثانياً: التخطيط الاستراتيجي عند معاوية للاستيلاء على القسطنطينية:
حرص معاوية رضي الله عنه أن يكون زمام المبادرة دائماً في يده، لأنها هي التي تمد جزر شرق البحر المتوسط بالقوات والعتاد وتشجع أهلها على شن الغارات على ساحل مصر والشام، وقد سار في تحقيق هذا الهدف في عدة اتجاهات:
1 ـ الاهتمام بدور صناعة السفن في مصر والشام، واختيار أمهر الصناع للعمل فيها والإغداق عليهم بالأجور والهبات حتى يبذلوا قصارى جهدهم بالعمل (1)، فقد أدرك معاوية ـ رضي الله عنه ـ بحسه العسكري وفكره العبقري أن معارك المسلمين مع الروم، ستعتمد أساساً على الأسطول البحري، وزاد هذا الإحساس عمقاً في قلب معاوية ونفسه تكتل الروم وإعدادهم أكثر من خمسمائة سفينة في معركة ذات الصواري لقهر الأسطول الإسلامي، ومع أن الروم باءوا بفشل ذريع في هذه المعركة، إلا أنهم لم يكفوا عن الإعداد ولم ينتهوا عن تجميع قواتهم لمواجهة قوة المسلمين في البحر، لقد كانوا يظنون أن قوة المسلمين البحرية يمكن القضاء عليها لأنها لا زالت في دور التكوين، ولكنهم فوجئوا بهزيمتهم المنكرة في ذات الصواري، فتوقعوا بعد ذلك أن تكون المعركة القادمة على أسوار العاصمة القسطنطينية فراحوا يستعدون لذلك (2)، وقد أدى التعاون بين مصر والشام في صناعات السفن إلى الوصول إلى نتائج ممتازة، ففي الشام كانت تتوفر أخشاب الصنوبر القوي والبلوط والعرعر التي تصلح لبناء السفن وفي مصر كانت توجد الأخشاب التي تصلح لعمل الصواري، وضلوع جوانب السفن، وخشب الجميز واللبخ والدوم التي تصلح لصناعة المجاديف (3)، وكذلك استغل معاوية معدن الحديد الذي كان متوافراً في مصر والشام واليمن لعمل المسامير والمراسي والخطاطيف والفؤوس، كما كان يتوافر في مصر مادة القطران اللازمة لقلفطة السفن، ونبات الدقس الذي كانت تصنع منه الحبال، وباختصار فقد أدى التعاون المصري الشامي إلى ازدهار البحرية الإسلامية التي ازدادت أهميتها بعد أن أمر معاوية عامله على مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري ببناء دار لصناعة السفن
_________
(1) العالم الإسلامي في الأموي صـ245.
(2) الأمويون، محمد سيد الوكيل (1/ 154).
(3) تاريخ الدولة العربية صـ312.(1/391)
في جزيرة الروضة عام 54 هـ (1).
وذلك على أثر غارة شنها البيزنطيون على مصر (2).
2ـ تقوية الثغور البحرية في مصر والشام، فقد آثر أن يحصن المدن الساحلية ويزودها بالقوات المجاهدة بما يجعلها قواعد تنقل منها الجنود بحراً إلى أي مكان يشاء ووضع لهذه المدن نظاماً عرف بالرباط، وهو ما يقصد به الأماكن التي تتجمع بها الجند والركبان استعداداً للقيام بحملة على أرض العدو، واعتني بهذا النظام حتى أصبح جزءاً مرتبطاً اشد الارتباط
بالجهاد، إذ اجتذب الرباط إليه كل الأتقياء المتحمسين العاملين على إعزاز الإسلام ونصرته (3)، وتدرج معاوية رضي الله عنه في تدعيم هذا النظام على نحو ما اتبعه في كل أعماله التي اتسمت بالدقة والابتعاد عن الارتجال والاندفاع، فأعد الرباط لتكون حصوناً يتجمع فيها الجند للدفاع عن المناطق المعرضة لإغارات الأساطيل البيزنطية، ولتكون ملجأً يحتمي بها الأهالي في المناطق الساحلية بأن يأخذوا حذرهم إذا ما لاح خطر السفن البيزنطية في المياه الإقليمية، فكان الحصن في الرباط يضم حجرات للجند ومساكن لهم، ومخازن للأسلحة والمؤن، وبرج للمراقبة، ثم لم يلبث أن أتسع وازدادت أهميته حتى أصبح قاعدة للهجوم وشن الغارات (4)، وتعتبر سياسة منح الإقطاعات بالسواحل الخطوة الأخيرة في سلم السياسة البحرية الدفاعية التي رسمها معاوية قبل أن يستطيع ركوب البحر في عهد عثمان، إذ أتم بفضل هذه الامتيازات إعداد القواعد البحرية التي أخذ ينشىء فيها أساطيله، وكانت آية ازدهار المدن الساحلية نقل جماعات من أهالي بعلبك وحمص وأنطاكية عام 42 هـ إلى صور وعكا وغيرهما من المدن بسواحل الأردن، كذلك أصلح معاوية رضي الله عنه حصون هاتين المدينتين ولاسيما عكا التي خرج منها بأولى حملاته البحرية ضد قبرص، وبسط معاوية رضي الله عنه اهتمامه إلى سائر المدن الساحلية (5).
3 ـ الاستيلاء على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط، وقد بدأ ذلك بالاستيلاء على جزيرة قبرص ـ كما سبق ذكره ـ ثم استولى جزيرة أخرى هامة وهي
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ246.
(2) كتاب الولاة والقضاة للكندي صـ38.
(3) الأمويون والبيزنطيون صـ68.
(4) المصدر نفسه صـ69.
(5) المصدر نفسه صـ70.(1/392)
رودس وأمر ببناء حصن بها وبعث إليها جماعة من المسلمين يتلون الدفاع عنها، وجعلها رباطاً يدفعون منه عن الشام، وآثر معاوية أن يحيط المسلمين في رودس بالجو الإسلامي الديني ويعلي راية الإسلام بين أهاليها، فأرسل إليها فقيهاً يدعى مجاهد بن جبر يقرئ الناس القرآن (1) وأراد معاوية أن يتوج حملاته البحرية بغلق بحر إيجة وسد منافذه الرئيسية في وجه السفن البيزنطية، ومنعها من الوصول إلى بلاد المسلمين وعمل على تحقيق ذلك في الاستيلاء على جزيرة ((كريت)) إذ تسيطر هذه الجزيرة تماماً على بحر إيجة، الذي يشبه طرفه الجنوبي فوهة قربة تمتد جزيرة ((كريت)) عبرها، بامتدادها البالغ 160 ميلاً وتقسم الجزيرة هذه فتحة إلى مدخلين يتحكم في كل منهما، وأرسل معاوية جنده الذي استولى على رودس لفتح هذه الجزيرة الهامة ومنع الأساطيل البيزنطية من التسلل عبر الفتحات البحرية المتاخمة لها لمهاجمة الشام على أن جنادة بن أمية الأزدي لم يستطع الاستيلاء على هذه الجزيرة لضخامتها، واكتفى بالإغارة عليها والبطش بالبيزنطيين وأساطيلهم بها، وهكذا وجه معاوية رضي الله عنه أنظار المسلمين شطر البحر الأبيض المتوسط، وأوقفهم على أهمية جزره، فاستولى على ما استطاعت أساطيله أن تفتحه منها، وطرق باب غيرها ومهد الطريق لمن يأتي بعده من الخلفاء الأمويين، وكفل
معاوية للمسلمين قوة بحرية نافست البيزنطيين أنفسهم سيادتهم القديمة على البحر الأبيض المتوسط ثم أخذ يعبئها لأهم عمل في تاريخها، وهو ضرب عاصمة البيزنطيين أنفسهم والاستيلاء عليها، ولكن تريث معاوية في تحقيق الهدف الأخير حتى يمكن لنفسه من التفوق البحري على البيزنطية (2).
4 ـ كان من الضروري لكي تؤتي هذه الاستعدادات البحرية، ثمارها وتحقق أهدافها أن يصاحبها تحصين أطراف الشام الشمالية، التي تشكل مناطق الحدود بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية، ضد غارات البيزنطيين من ناحية ولتكون سنداً للقوات الزاحفة على القسطنطينية من ناحية ثانية ذلك لأن المسلمين في فتوحاتهم الأولى في عهد الخلفاء الراشدين، وصلوا إلى أطراف الشام الشمالية، ثم وقفت أمامهم سلسلة جبال طوروس تحول دون وصولهم إلى آسيا الصغرى البيزنطية، وكان
_________
(1) المصدر نفسه صـ81.
(2) الأمويون والبيزنطيون صـ82.(1/393)
البيزنطيون عند انسحابهم وتقهقرهم أمام المسلمين قد قاموا بتخريب المناطق الواقعة شمال حلب وإنطاكيا لئلا يستفيد منها المسلمون، كما خربوا معظم الحصون فيما بين الأسكندرونة وطورسوس (1)، فرأى معاوية ضرورة الاهتمام بهذه المناطق وتعميرها وتحصينها، فاهتم أولاً بمدينة أنطاكيا التي كانت معرضة دائماً للإغارات البيزنطية المفاجئة، واتبع في تعميرها السياسة التي سار عليها إزاء المدن الساحلية للشام، وأغرى الناس على الإقامة بأنطاكيا، بأن منحهم اقطاعات من الأرض، وقوى الرباط المخصص للدفاع عنهم وأخذ معاوية يوالي تدريجياً تعمير المدن الواقعة بين الأسكندرونة وطرسوس أثناء غاراته على أراضي البيزنطيين حتى أصبحت حدود الشام تتاخم مباشرة جبال طوروس الحد الفاصل بين الشام وآسيا الصغرى ولإحكام سيطرته على المعاقل الهامة الواقعة في مناطق التخوم الإسلامية البيزنطية، استولى على سميساط وملطية، كما جدد حصوناً أخرى مثل مرعش والحدث، ثم استولى على حصن زبطرة البيزنطي الهام وأعاد تحصينه (2)،
ولكي تكون الحركة مستمرة وتكون مناطق الحدود ميداناً عملياً لتدريب جند المسلمين، وتعويدهم على الدروب والطرق والممرات الجبلية الوعرة دأب معاوية على الغزو المستمر، وأصبح هذا النشاط العسكري يعرف بغزوات الصوائف والشواتي (3) فلا تكاد تمر سنة وإلا ونجد ذكراً عند الطبري وغيره لغزو في البر أو البحر كأن يقول: وفيها شتى فلان بأرض الروم أو كانت صائفة فلان إلى أرض الروم (4)، وكانت هذه الغزوات تنطلق إلى بلاد الأعداء وتخرب تحصيناتهم
وتغنم وتعود، وكان تكرار هذه الغزوات يشكل ضغطاً على الدولة البيزنطية ويرهق أعصابها وينهك قواها (5)، وقد برز في هذه الحملات المستمرة عدد من كبار القادة المسلمين الذين تلقوا تدريباتهم في ميدانها وأتقنوا فن الحرب،، مثل عبد الله بن كرز البجلي، ويزيد بن شجرة الرهاوي، ومالك بن هبيرة السكوني، وجنادة بن أمية الأزدي، وسفيان بن عوف، وفضالة بن عبيد (6)، ومالك بن عبد الله الخثعمي، الذين
_________
(1) فتوح البلدان صـ194 البلاذري، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ247.
(2) الأمويون والبيزنطيون صـ110، نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ247 ..
(3) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ248.
(4) تاريخ الطبري (6/ 225).
(5) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ248.
(6) تاريخ الطبري، نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ248.(1/394)
أطلقوا عليه مالك الصوائف لعلو كعبه في الميدان الحربي في آسيا الصغرى (1)، وهؤلاء القادة ابلوا بلاءً حسناً في الجهاد ضد البيزنطيين لإعلاء كلمة الله (2).
ثالثاً: الحصار الأول للقسطنطينية:
بعث معاوية رضي الله عنه سنتي 47 ـ 48 هـ سرايا من قواته لتغيرعلى الأراضي البيزنطية لتمهد الطريق في سبيل الوصول إلى القسطنطينية فتمكن مالك بن هبيرة السكوني من قضاء الشتاء في الأراضي البيزنطية (3)، ولقد شهدت سنة 49 هـ /669م أول حصار إسلامي لمدينة القسطنطينية ذلك أن نجاح قوات المسلمين في توغلهم في الأراضي البيزنطية بالإضافة إلى الصراعات الداخلية التي واجهها الإمبراطور قُسطانز الثاني نتيجة تمرد اثنين من قادته هما سيليوس وميزيريوس (4)، كل ذلك ساعد معاوية رضي الله عنه على أن يبعث قواته في البر والبحر بقيادة كل من فضالة بن عبيد الليثي وسفيان بن عوف العامري يساعدهم يزيد بن شجرة الرهاوي، تجاه القسطنطينية (5)، ووصل الأسطول الإسلامي إلى خلقيدونيةـ ضاحية من ضواحي القسطنطينية على البر الآسيوي ـ وحاصرها توطئة لاقتحامها في محاولة لاختراق المدينة من تلك الناحية، ولكن انتشار مرض الجدري وفتكه بكثير من جند المسلمين علاوة على حلول الشتاء القارص جعل ظروف الجيش المحاصر صعبة للغاية، فما كان من فضالة بن عبيد الليثي، قائد الجيش البري إلا أن استنجد بمعاوية طالباً منه أن يمده بقوات إضافية، فأرسل معاوية رضي الله عنه مدداً من الجيش يضم بين أفراده مجموعة من الصحابة، أمثال: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد اله بن عمرو بن العاص، وأبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري، رضي الله عنهم (6)،
وكان القائد
العام لهذه الفرقة هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وعندما وصل يزيد بقواته إلى خلقيدونية انضم إلى الجيش المرابط هناك، وزحفوا جميعهم نحو القسطنطينية وعسكروا خلف أسوارها ضاربين عليها
_________
(1) الأمويون والبيزنطيون نقلاً عن العالم الإسلامي صـ248.
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ248.
(3) تاريخ الطبري (6/ 145) خلافة معاوية للعقيلي صـ108.
(4) يشير إبراهيم العدوي إلى أن الإمبراطور قتل وجيء بإبنه قسطنطين الرابع
(5) تاريخ الطبري (6/ 148).
(6) تاريخ الطبري (6/ 148) ..(1/395)
الحصار حوالي ستة أشهر ((من الربيع إلى الصيف)) وكان يتخلل هذا الحصار اشتباكات بين قوات القوتين، وأبلى يزيد في هذا الحصار بلاءً حسناً وأظهر من دروب الشجاعة والنخوة والإقدام ما حمل المؤرخين على أن يلقبوه بـ ((فتى العرب)) (1). وكادت القوات الإسلامية أن تحرز انتصاراً لولا أنه واجهوا صعوبات جمة منها: الشتاء الغزير المطر والبرد القارص مما أدى إلى نقص الطعام والأغذية، وتفشي الأمراض بينهم، كما كان لمناعة أسوار القسطنطينية أثرها في تراجع المسلمين وإجبارهم مرة أخرى على العودة إلى بلاد الشام (2)، كما كانت النار التي فتحها المتحصنون بها على جيش المسلمين من أهم الأسباب التي عوقت قدرتهم على فتحها، فقد أحرقت النار كثيراً من سقى المسلمين (3)، ويعد غزو القسطنطينية من دلائل النبوة حيث أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: ... أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم (4)، وقد اشترك في غزو القسطنطينية عدد من كبراء الصحابة رضوان اله عليهم، طلباً للمغفرة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).
رابعاً: وفاة أبي أيوب الأنصاري في حصار القسطنطينية:
هو خالد بن زيد بن كليب، أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً والعقبة والمشاهد كلها، وشهد مع علي رضي الله عنه قتال الخوارج وفي داره كان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدم المدينة مهاجراً من مكة فأقام عنده شهراً حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحوَّل إليها (6)، وقدوفد أبو أيوب على عبد الله بن عباس لما كان والياً على البصرة في عهد علي، فبالغ في إكرامه، وقال لأجزينَّك على إنزالك النبي صلى الله عليه وسلم عندك، فوصله بكل ما في المنزل فبلغ ذلك أربعين ألفاً (7)، وجاء في رواية لما أراد الانصراف خرج له عن كل شئ بها، وزاده تحفاً وخدماً كثيراً وأعطاه أربعين ألفاً وأربعين عبداً، إكراماً له لما كان أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) الأمويون والبيزنطيون صـ164، خلافة معاوية صـ109.
(2) الكامل في التاريخ (6/ 480)، خلافة معاوية للعقيلي صـ110.
(3) الأمويون، محمد سيد الوكيل (1/ 59).
(4) البخاري، صحيح البخاري مع فتح البري (6/ 120).
(5) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ320.
(6) البداية والنهاية (11/ 251).
(7) سير أعلام النبلاء (2/ 404).(1/396)
في داره، وقد كان من أكبر الشرف له (1). وهو القائل لزوجته أم أيوب حين قالت له: أما تسمع ما يقول
الناس في عائشة؟ ـ أي في حديث الافك ـ فقال لها: أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ فقالت: لا والله. فقال: والله لهي خير منك فأنزل الله (2) ((لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)) (النور، الآية: 12). وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي أيوب ومصعب بن عمير (3) رضي الله عنهما صاحب الفتح السلمي الكبير بالمدينة المنورة. وكانت وفاته ببلاد الروم قريباً من سور قسطنطينية، وكان في جيش يزيد بن معاوية وإليه أوصى وهو الذي صلى عليه (4). وقد جاء في رواية: أغزى أبو أيوب، فمرض، فقال: إذا متُّ فاحملوني، فإذا صافقتم العدوَّ، فارموني تحت أقدامكم.
أما إني سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة (5)، ودفن أبو أيوب عند سور القسطنطينية، وقالت الروم لمن دفنه: يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن. قالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا، والله لئن نُبش، لاضُرِبَ بناقوس في بلاد العرب (6)، وبعد مجيء الدولة العثمانية وفتح القسطنطينية أصبحت مكانة أبي أيوب الأنصاري عظيمة في الثقافة العثمانية، فقد درج السلاطين العثمانيون يوم يتربعون على الملك أن يقيموا حفلاً دينياً في مسجد أبي أيوب، حيث يتقلدون سيفاً للرمز إلى السلطة، التي أفضت إليهم وكان لأبي أيوب رضي الله عنه عند الترك خواصهم وعوامهم رتبة ولي الله الذي تهوي إليه القلوب المؤمنة وينظرون إليه كونه مضيف رسول الله، فقد أكرمه وأعانه وقت العسرة كما أنه له مكانة مرموقة بين المجاهدين واعتبروها ضيافته لرسول الله وجهاده في سبيل الله أعظم مناقبه وأظهر مآثره (7). وقد ترك أبو أيوب رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى نقطة من أرض العدو صورة رائعة تدل علىتعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم وأراد أن يتوغل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 252).
(2) سيرة ابن هشام (2/ 302)، البداية والنهاية (11/ 252).
(3) سير أعلام النبلاء (2/ 405).
(4) البداية والنهاية (11/ 252).
(5) سير أعلام النبلاء (2/ 412) إسناده قوي.
(6) المصدر نفسه (2/ 412).
(7) الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، حسين المصري صـ12.(1/397)
ما حقق في حياته فتمنى مزيد عليه بعد مماته، وهذا ما لا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق (1). ومن الغريب ما نراه في حياتنا من حرص بعض المسلمين إذا مات خارج بلده أن يوصي أهله بأرجاعه ودفنه في أرضه والأرض الأرض الله والبلاد بلاد الله. وقد مدحه شعراء الأتراك في أشعارهم وهذا شيخ الإسلام، أسعد أفندي يشير أشارة لامحة إلى موقعه بقوله:
شهد المشاهد جاهداً ومجاهداً ... ومكابداً بحروبه ما كابدا
حتى أتى بصلابة ومهابة ... في آخر الغزوات هذا المشهدا
قد مات مبطوناً غريباً غازيا ... فغدا شهيداً قبل أن يستشهدا
كان أبو أيوب رضي الله عنه عندما خرج في غزوة الفسطنطينية قد تقدمت به السن وأصبح شيخاً كبير وكان يقول: قال الله تعالى: ((انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ... )) (التوبة، الآية:41) لأجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً (2)، وكان أبو أيوب رضي الله عنه يعلم الناس الفهم الصحيح لآيات الله ومفاهيم الإسلام فعن أبي عمران التجيبي قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ يعني الجماعة الذين غزو من المدينة ـ والروم ملصقوا ظهورهم بحائط القسطنطينية، فحمل رجل على العدو فقال الناس مه، مه لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة: فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام قلنا: هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: ((وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) (البقرة، الآية: 195) فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد قال أبو عمران، فلم يزال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية (3) فهذا الحديث يبين لنا خطورة الاشتغال بالأموال عن الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الهلاك الحقيقي هو هلاك الآخرة بسبب التهاون في واجبات الإسلام (4).
_________
(1) المصدر نفسه صـ68.
(2) سكب العبرات للموت والقبر والسكرات (1/ 175).
(3) سنن أبي أيوب رقم 2512، سنن الترمذي رقم 2972.
(4) التاريخ الإسلامي (13/ 15).(1/398)
خامساً: الحصار الثاني للقسطنطينية:
استطاع معاوية رضي الله عنه أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة والاستيلاء على جزر رودس وأرواد اللتين سبقت الإشارة إليهما، وقد كان لجزيرة أرواد والتي تسميها المصادر الأوربية كزيكوس أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية، حيث اتخذ منها الأسطول الإسلامي في حصاره الثاني للمدينة أو حرب السنين السبع 54 ـ 60 هـ قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أن معاوية أعد أسطولاً ضخماً، وأرسله ثانية لحصار القسطنطينية، وظل مرابطاً أمام أسوارها من سنة 54 هـ إلى سنة 60 هـ (1)، فكانت الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة أسوار القسطنطينية على حين يكمل الأسطول الحصار، واستمر الحصار البري والبحري للقسطنطينية من شهر أبريل إلى سبتمبر، تتخلله مناوشات بين أساطيل المسلمين وجنود البيزنطيين من الصباح إلى المساء، على حين تتراشق القوات البرية الإسلامية مع الجند البيزنطي المرابط على أسوار القسطنطينية بالقذائف والسهام، استمر هذا الوضع
طيلة سبع سنوات (2)، حتى أرهقت البيزنطيين، وأذاقتهم ألوان الضنك والخوف وأنزلت بهم خسائر فادحة، وبالرغم من كل ذلك لم تستطع اقتحام المدينة أو التغلب على حراسها المدافعين عن أسوارها (3)، وكانت العوامل التي ساعدت القسطنطينية على الصمود عديدة منها:
1 ـ استعمال البيزنطيين في هذه المعارك ناراً سموها النار البحرية أو النار الأغريقية وهو عبارة عن مركب كيمائي مكون من النفط والكبريت، القار، وكان هذا المركب يشعل بالنار وتقذف به المراكب فيشعل فيه النار والعجيب أنه كان يزداد اشتعالاً إذا لامس الماء ومخترع هذا المركب الكيميائي الفتاك، الذي فتك بالعديد من سفن المسلمين وجنودهم هو مهندس سوري الأصل اسمه كالينكوس، كان في أوائل الأمر في خدمة المسلمين ثم هرب إلى القسطنطينية، ووضع خبرته في خدمة البيزنطيين (4). وكان هذا السلاح الجديد من أهم العوامل التي ساعدت البيزنطيين على الصمود والاستمرار في الدفاع عن العاصمة وظل هذا السلاح
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 210 إلى 240).
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ351، 252.
(3) الأمويون والبيزنطيون صـ176، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ252.
(4) الأمويون والبيزنطيون صـ176، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ252.(1/399)
سراً خفياً، لا يعرفه إلا المتخصصون في صناعته، وكان الأباطرة يمدون حلفاءهم بهذا السلاح دون أن يطلعوهم على سره،، ومرت أربعة قرون، وهو سلاح غامض لم يعرف كنهه سوى مخترعه، وفي القرن العاشر المسيحي، الرابع الهجري، عرف الباحثون سر هذه النار، وبينوا العناصر التي تكونت منها، والوسائل التي يمكن إخمادها بها، وتطور هذا السلاح حتى كان منه ما يشبه المفرقعات، وكانت تلقى على الأعداء بواسطة المجانيق، أو أنابيب نحاسية تقذف من السفن، وكان لها صوت مدو يصحبه دخان كثيف مسبوق بلهب خاطف، وشغل هذا الاختراع عقول العلماء المسلمين، فراحوا يبحثون ويفكرون، حتى عرفوا سره في مطلع القرن الحادي عشر المسيحي، الخامس الهجري، وأدخلوا عليه تعديلات جعلته أشد فتكاً، وأقوى أشراً من النار الأغريقية واستخدم المسلمون هذا السلاح الفتاك في حروبهم مع الصليبيين بأرض الشام، وكان وقعه شديداً على الصليبيين، ونشر فيهم الرعب والفزع، ومن ذلك الحين عرفت هذه النار ((بالنار (1)
الإسلامية))، يقول الدكتور إبراهيم العدوي: لأن الأعداء عجزوا عن معرفة هذا السلاح الجديد الذي احتضنه المسلمون، وظل استخدام النار الإسلامية سائد حتى القرن الرابع عشر المسيحي، الثامن الهجري حيث دخلت عليها تطورات وتعديلات كثيرة، أدت أخيراً إلى صناعة البارود. ومن ثم تعتبر النار الإسلامية أساس هذا الانقلاب الخطير في أساليب الحرب التي عرفها العالم الحديث وبرهن المسلمون على أنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام أي سلاح جديد يفاجئهم به الأعداء،
وأنهم قادرون على استغلاله فيما بعد لما فيه صالحهم ونفعهم (2). ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لا يجاد حل للتفوق العسكري الأمريكي والغربي عليهم.
2 ـ السلسلة الحديدية الضخمة، الحاجزة ما بين القرن الذهبي ميناء القسطنطينية وبين الشاطئ الآسيوي، حيث كان يتم إقفالها في حالات الحرب أو التهديد بالحصار (3).
3 ـ الموقع الجغرافي في الفريد الذي وصفه المؤرخ بينز بأنه ((استقر على شبه الجزيرة البارز من أوروبة، والذي يكاد يلاقي الشاطئ الآسيوي وفي وسط الطريق بين الحدود الشمالية والشرقية في بقعة يحميها مدّ مرمرة العنيف من الهجمات البحرية.
_________
(1) الأمويون (1/ 65) محمد سيد الوكيل ..
(2) الأمويون والبيزنطيون صـ178.
(3) من دولة عمر إلى دولة عبد الملك صـ167.(1/400)
4 ـ الأسوار الداخلية والخارجية الضخمة والمزوّدة بعدد كبير من أبراج المراقبة التي كان لها دور في كشف التحركات المعادية وإبطال عنصر المفاجأة فيها.
5 ـ ضعف التجربة الأموية في حرب الحصار للمدن المتداخلة مع مياه البحر، مثل القسطنطينية، حيث تطلب ذلك أسلحة متطورة بأساليب جديدة في القتال، لم تكن في متناول القوات الأموية حتى ذلك الحين (1).
6 ـ دبلوماسية الدولة البيزنطية والإسلامية: لقد تظاهرت عدة عوامل ساهمت في منع سقوط القسطنطينية منها، مناعة المدينة الطبيعية وقوة تحصيناتها، والنار الإغريقية، ورداءة الطقس وقسوته، والتيارات المائية الشديدة الانحدار الآتية من البحر الأسود لتحول دون استيلاء المسلمين على المدينة، رغم صبرهم وبسالتهم وتحملهم المشاق وفي النهاية دعت الظروف الداخلية في كل من الدولتين إلى إنهاء الحصار، فدخلوا في مفاوضات انتهت بعقد صلح بينهما، عاد بمقتضاه الجيش الإسلامي والأسطول إلى الشام .. ففيما يتعلق بالدولة الأموية أدرك معاوية أن مدة الحصار قد طالت دون أن يتحقق الهدف، ولما كانت سنّه قد كبرت، وأحس بدنو أجله، رأى من المصلحة أن يعود هذا الجيش الكبير المرابط حول المدينة تحسباً لأي مشاكل قد تواجه ابنه وخليفته يزيد بعد موته، فيكون وجود هذا الجيش عنده ضرورياً لضبط الأمور داخلياً، كذلك كانت الدولة البيزنطية تواقة إلى إنهاء هذا الحصار عن عاصمتها، فقد أرهقها وأنهك قواها، ولذلك يقال: إنها أرسلت إلى دمشق رجلاً يدعى يوحنا من أشهر رجالها الدبلوماسيين، وأكثرهم ذكاء وفطنة وحضر هذا الرجل جلسات كثيرة تضم خيرة أبناء البيت الأموي وأبدى فيها من الإجلال للدولة الإسلامية، ما أكسبه تقدير معاوية واحترامه ونجحت مفاوضاته في عقد صلح بين الطرفين، وبعد إبرام المعاهدة أخذت
القوات الإسلامية المرابطة براً وبحراً أمام القسطنطينية طريق العودة إلى الشام، وتركت عاصمة البيزنطيين تئن من جراحها المثخنة (2).
سادساً: العلاقات السلمية بين الدولتين:
رغم أن الطابع العام الذي ميز العلاقات بين الدولة الإسلامية والبيزنطية في عصر الخلافة الراشدة والعصر الأموي كان عسكرياً نتيجة لحركة الجهاد واستمرارها في العهد
_________
(1) المصدر نفسه صـ168.
(2) الأمويون والبيزنطيون صـ175، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ253.(1/401)
الأموي من حملات الصوائف والشواتي طوال السنة تقريباً، وكذلك الدور الجهادي الذي كانت تؤديه مدن الثغور، إلا أن هذا لا يعني أن الطابع السلمي المتمثل فيما جرى من مفاوضات ومداولات كان مفقوداً فقد اتخذت العلاقات السلمية بين الدولتين، الإسلامية والبيزنطية في العهد الأموي أشكالاً مختلفة منها المراسلات، وتبادل الخبرات، والمناظرات في المجالات الثقافية، وتبادل الأسرى والسفراء (1).
1ـ المراسلات:
فقد تم مراسلة قيصر الروم من قبل معاوية في فترة الفتنة وتوصل معه إلى عقد صلح على أن يؤدي معاوية له مالاً وأن يأخذ كل طرف رهناً من الطرف الآخر (2)، وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم، وخلوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر (3)،والمهم أن مثل هذه الحوادث يجب أن تُقدَّر بقدرها فلا يجوز للدولة الإسلامية ـفي الأصل ـ أن تتهاون وتتكاسل عن الأخذ بأسباب القوة حتى تصل إلى مرحلة من الضعف تمكّن الأعداء منها أو يطمع فيها الطامعون، بل الأصل في دولة الإسلام أن تكون دولة قوية يهابها الأعداء، فإذا مرت بها فترة ضعف أو احتاجت إلى دفع ضرر عليها بمال أو نحوه فذلك يدخل من باب ((الضرورات)) وليس حكماً عاماً وما ((أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها، كما قرر الفقهاء (4)، فلا ينبغي عقد صلح دائم مع العدو بدفع المال إليه، بل يجب أن يكون الصلح والدفع لفترة ضعف المسلمين أو حالة الضرورة، مع العمل الجاد على رفع حالة الضعف وبناء قوة الأمة وقدراتها المطلوبة بكل جدية وعزم، فإذا زالت يجب على المسلمين أن يمتنعوا من عقد أي معاهدة فيها ذلة أو مفسدة لهم، والخلاصة: إنه يجوز للدولة الإسلامية عقد معاهدة اضطرارية تُقدّر بقدرها وتنتهي بانتهاء حالة
الضرورة التي عُقدت من أجلها (5).
لم تقتصر المراسلات على الجانب العسكري فقط، ولكن رويت بعض المراسلات التي تتناول المناظرة في الجوانب العلمية والأمور العامة، فقد كتب قيصر الروم إلى
_________
(1) العلاقات العربية البيزنطية في العصر الأموي صـ122،123.
(2) المصدر نفسه صـ123.
(3) فتوح البلدان صـ163 للبلاذري، العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية صـ239.
(4) الأشباه والنظائر ابن نجيم صـ86.
(5) العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية صـ240.(1/402)
معاوية سلام عليك أما بعد: فانبئني بأحب كلمة إلي الله وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وعن أربعة أشياء، فيهن روح ولم يرتكضن في رحم، وعن قبر يسير صاحبه، ومكان في الأرض لن تصبه الشمس إلا مرة واحدة وغير ذلك من الأسئلة، فكتب إليه معاوية: أما أحب كلمة إلى الله، فلا إله إلا الله لا يقبل عملاً إلآ بها، وهي المنجية، والثانية سبحان الله صلاة الخلق، والثالثة الحمد لله كلمة الشكر والرابعة الله أكبر، فواتح الصلوات والركوع والسجود، والخامسة لا حول ولا قوة إلا بالله. والأربعة فيهن روح ولم يرتكضن في رحم فآدم، وحواء وعصا موسى والكبش، والموضع الذي لم تصله شمس إلا مرة واحدة، فالبحر حين انفلق لموسى وبني إسرائيل والقبر الذي سار بصاحبه، فبطن الحوت الذي كان فيه يونس (1).
2 ـ تبادل الخبرات: وهي مجال تبادل الخبرات حاول كل من العرب والروم الاستفادة من خبرات الطرف الثاني في مجالات الحياة كافة، معتمدين على الاقتباس تارة، والإبداع تارة أخرى، على أن ما أخذه المسلمين من الروم في هذا المجال لم يكن مجرد اقتباس، بل طور كثيراً بأن أضيف إليه أحياناً وشذب في أحيان أخرى، حتى أصبح يتماشى مع روح الدين الإسلامي، ويتمثل ذلك في معالم النهضة العمرانية المتمثلة في اهتمام الأمويين بالمساجد والتوسع في إقامتها (2)، وقد استخدم معاوية عدداً من الروم ممن كانوا في الإدارة البيزنطية في بلاد الشام قبل فتحها، كتّاباً في الأمور الإدارية، حيث عين سرجون بن منصور الرومي كاتباً له، كما استخدم بن اثال النصراني طبيباً له (3)، وكان معاوية رضي الله عنه متسامحاً مع النصارى حتى شهد له بروكلمان بهذا التسامح: واختلطوا بالمسيحية اختلاطاً بعيداً ... وفي بلاط معاوية لعب سرجون بن منصور النصراني دور المستشار المالي المتنفذ وحفظ النصارى للخليفة معاوية هذا التسامح واخلصوا له، وأعظموه إعظاماً، لاتزال تقع عليه في الروايات النصرانية، وحتى في كتب التاريخ الأسبانية (4).
_________
(1) عيون الأخبار (1/ 198، 199)، الحدود العربية ـ البيزنطية (2/ 387) العلاقات العربية ـ البيزنطية في العصر الأموي صـ126.
(2) التاريخ الإسلامي آفاقه السياسية وأبعاده الحضارية صـ132.
(3) العلاقات العربية البيزنطية في العصر الأموي صـ132.
(4) تاريخ الشعوب الإسلامية نقلاً عن العلاقات العربية ـ البيزنطية 140.(1/403)
3 ـ تأثر الدولة البيزنطية بالتسامح الإسلامي:
يذكر العدوي: إن انعكاس التسامح الديني مع النصارى ظهر تأثيره على الدولة البيزنطية، إذ من المعروف، إنها كانت تضظهد رعاياها من أصحاب المذاهب الأخرى وتعاملهم معاملة قاسية وتعتبرهم هراطقة، وبظهور دولة الإسلام ودخول كثير من المسيحيين في التبعية لها، اتجهت الإمبراطورية البيزنطية إلى تجديد أساليبها وسياستها، وجعلت من نفسها صاحبة الحق في رعاية المسيحيين في بلاد الشام (1)، وكان معاوية رضي الله عنه يجلس إلى جماعات المسيحيين من المذاهب المختلفة ويستمع إلى جدلهم الديني ومناقشاتهم المختلفة (2)، وبهذا ضربت الدولة الإسلامية الأموية مثلاً سامياً، يدل على عظمة الرسالة الإسلامية ومدى التسامح الديني تجاه رعاياها من غير المسلمين وابتعادها عن التعنت والتعصب الديني الذي يتهمهم به قسم من المستشرقين (3).
4 ـ آداب السفراء: لم يكن نظام الموفدين والسفراء مقتصراً على العهد الأموي بل له امتداداته من عهد (رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فكان السفير يختار وفق مواصفات خاصة تتمثل في قوة شخصيته ونباهته ورجاحة عقله، وكان السفير من كلتا الدولتين، يزود بخطاب يحمل تعريفاً بشخصية الرسول والغرض من رسالته وتخويله حق التحدث رسمياً باسم دولته (4). ولم يكن الموفدون والسفراء مدار اهتمام الدولة الإسلامية الأموية فقط، بل اهتم الروم كذلك بسفرائهم أيضاً، فكانوا يختارونهم من رجال الدين الدهاة العارفين بأمور دينهم وأصحاب قدرة على النقاش والجدال، فصيحي اللسان، عارفين بالعربية إضافة إلى لغتهم الأصلية (5)، وكان الخلفاء والملوك يهتمون بالسفراء والمبعوثين، ويستقبلون في قصور الخلفاء وتسمع آراؤهم فيها، فحين سأل معاوية رسول البيزنطيين، بعد أن فرغ من بناء قصره المعروف بالخضراء، أبدى عليه ملاحظاته قائلاً: أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللفار وعندما أدرك معاوية صحة انتقاد السفير وصواب رأيه جعله يعيد بناء قصره بالحجارة (6)،
_________
(1) العلاقات العربية ـ البيزنطية في العصر الأموي صـ142.
(2) المصدر نفسه صـ142 نقلا عن الأمويين والبيزظيين.
(3) المصدر نفسه صـ142.
(4) العلاقات العربية ـ البيزنطية في العصر الأموي صـ147.
(5) الأمويوين والبيزنطيون صـ215 إلى 212.
(6) المصدر نفسه صـ220.(1/404)
وأما البيزنطيون فكانوا يستقبلون السفراء العرب في كنيسة أيا صوفيا وقناطير المياه والأديرة حول القسطنطينية (1)،
وعند رجوع السفير كانت تقدم له الهدايا والمجوهرات الثمينة إكراماً له ولمن بعثه (2)، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك عند كلتا الدولتين، هو إظهار صيغ الاحترام المتبادل والنيات الحسنة في إقامة الصلح وإنابة السلام وكذلك إظهار كل دولة للأخرى مدى قوتها ورخائها، كي تكون محط أنظار السفير ومهابته من أجل وصف ما يشاهده إلى من بعثه عند رجوعه إليه (3)،
ورغم ما أشير إليه من الصفات التي يجب توفرها في السفير إلا أنه يبقى محط أنظار الخليفة أو الملك وتراقب تصرفاته وحركاته خشية الوشاية والكيد وإشعال نار الحرب وهذا ما حدث مع سفير معاوية إلى القسطنطينية الذي أرسل لعقد هدنة مع الروم وكان السفير مزود بتعليمات مشددة تقتضي ألا يخفف من شروط الهدنة مع البيزنطيين ولكن لم يستطع هذا السفير تنفيذ وصية معاوية وتهاون في عقد الهدنة حتى جاءت في صالح البيزنطيين (4)، فلما عاد عزله من منصبه (5).
سابعاً: الجراجمة في عهد معاوية رضي الله عنه:
في أثناء الحروب والغارات بين المسلمين والبيزنطيين، في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كان هناك طرف ثالث يشارك في النزاع القائم بينهما، يطلقون على أنفسهم اسم ((الجُرَاجمِة)) نسبة إلى مدينة ((الجُرَجُومة)) (6)، وأصولهم غير معروفة، ويشير البلاذري إلى أنهم كانوا يدينون بالنصرانية وأنهم كانوا لذلك يتبعون ((بطريق أنطاكية وواليها)) (7). وعندما فتح المسلمون بلاد الشام أرسل أبو عبيدة عامر بن الجراح حبيب بن مسلمة الفهري: فغزا الجرجومة فلم يقاتلها أهلها ولكنهم بادروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يُؤخَذوا بالجزية، وأن يُنَفَّلوا أسلاب من يقتلون من عدوّ المسلمين إذا حضروا حرباً معهم في مغازيهم (8). ولكن الجراجمة لم يلبثوا أن نقضوا اتفاقهم هذا، وصنعواً حاجزاً بين المسلمين
_________
(1) المصدر نفسه صـ220.
(2) العلاقات العربية ـ البيزنطية صـ148.
(3) المصدر نفسه صـ148 ..
(4) المصدر نفسه صـ149.
(5) المصدر نفسه صـ149.
(6) الجرجومة: مدينة على جبل اللكام بالثغر الشامي فيما ما بين بياس وبوقا قرب النطاكية، معجم البلدان (2/ 123).
(7) فتوح البلدان للبذري صـ58.
(8) المصدر نفسه صـ58.(1/405)
والبيزنطيين واستطاعوا عرقلة سير الفتوحات الإسلامية في آسيا الصغرى، فكانوا متذبذبين مرّة مع المسلمين وأخرى مع الروم وقد بقيت شوكة في ظهر الجيوش الإسلامية ليس في عهد معاوية لكن حتى عهد عبد الملك،
ثم ما لبثت أن تفرقت في بلاد الشام وآسيا الصغرى، فخفَّ خطرها (1). وعلى أية حال، فلابد من القول بأن الانشاءات والمجهودات التي قام بها معاوية رضي الله عنه في سبيل الوصول إلى القسطنطينية وان كانت لم تثمر خلال حياته إلا أنها لعبت دوراً أساسياً في حفز من جاؤوا بعده من الخلفاء لأن يكملوا المسيرة التي بدأها (2).
ثامناً: أبو مسلم الخولاني من الغزاة في أرض الروم:
وهذا مثال من عظماء الرجال في ذلك العصر الذين ساهموا في صياغة نموذج إسلامي في السلوك والتعامل مع الحكام والمشاركة الإيجابية في المجتمع وحركة الفتوحات.
قال عنه الذهبي: سِّيد التابعين وزاهد العصر واسمه عبد الله بن ثوب على الأصح (3) قدم المدينة وقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر (4)، وكانت له مواقف محموده في ضد الأسود العنسي الذي تنبَّأ باليمن، وثبت أبو مسلم على الإسلام فبعت إليه الأسور، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنَّه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضُرَّه، فقيل للأسود: إن لم تَنْفِ هذا عنك أفسد عليك من اتَّبعك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة فأناخ راحلته ودخل المسجد يُصليِّ، فبصُر به عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممَّن الرجل؟ قال: من اليمن. قال: ما فعل الذي حَرقُه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهمَّ نعم: فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصِّدِّيق. فقال: الحمدلله الذي لم يُمتني حتَّى أراني في أمة محمد من صنع به كما بإبراهيم الخليل (5). وهذا التابعي الكبير كان من أهل الشام في عهد معاوية وقد تأثر به خلق كثير بها وكان رحمه الله كثير العبادة، فعن أبي العاتكة: قال: علَّق أبو مسلم سوْطا في المسجد (6)، فكان يقول: أنا أولى بالسَّوط من البهائم، فإذا فتر مَشَقَ (7)، ساقيه سوطا أو سوطين. وروى أنه كان يقول: لو رأيت الجنة عياناً أو النَّار
_________
(1) خلافة معاوية للعقيلي صـ116.
(2) المصدر نفسه صـ116.
(3) سير أعلام النبلاء (4/ 8،7).
(4) المصدر نفسه (4/ 8).
(5) المصدر نفسه (4/ 9).
(6) المصدر نفسه (4/ 9).
(7) مَشَقَ: ضربه بسرعة.(1/406)
عياناً ما كان عندي مستزاد (1)، وعن شرحييل، أن رجلين أتيا أبا مسلم، فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد، فوجداه يركع فانتظراه فأحصى أحداهما أنه ركع ثلاث مئة ركعة (2)،
وكان أبو مسلم، إذا استسقى سُقي (3)، وكان مستجاب الدعوة فعن محمد بن زياد، عن أبي مسلم، أن امرأة خَبَّبتَ (4)، عليه امرأته، فدعا عليها، فعميت، فأتته فأعرضت وتابت، فقال:
اللهُمَّ إن كانت صادقة، فاردُد بصرها، فأبصرت (5) وشارك رحمه الله بالجهاد في أرض الروم وعن أبي مسلم الخولاني، أنَّه كان إذا غزا أرض الروم، فمُّروا بنهر فقال: أجيزوا بسم الله، ويمر بين أيديهم، فيمرون بالنهر الغَمرْ، فربما لم يبلغ الدَّوابِّ إلا الرُّكب، فإذا جازوا قال: هل ذهب لكم شيء؟ فمن ذهب له شيء فأنا ضامن له، فألقى بعضهم مِخْلاته عمداً. فلما جاوزوا قال الرجل: مِخْلاتي وقعت، قال: اتَبعني فاتّبعه، فإذا بها معلَّقةٌ يعود في النهر، قال: خذها (6)، وكان الولاة يتيَّمنون بأبي مسلم، ويؤَمِّرونه على المقدِّمات (7)، وقد توفي رحمه الله بأرض الروم، وكان شتا مع بُسر بن أبي أرطاة فأدركه أجله، فعاده بُسر في مرضه فقال له أبو مسلم: يا بُسر، اعقد لي على من مات في هذه الغزاة فإني أرجو أن آتي بهم يوم القيامة على لوائهم (8)، وعندما سمع معاوية رضي الله عنه بموته قال: إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري (9)، وكان رحمه الله من أهل الحكمة فقد روي عن أبي مسلم الخولاني في مجال الرَّضى التام بقضاء الله وقدره، قوله: لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته حتى إذا أستوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إليّ قبضه منيّ أحب إليّ من أن يكون لي الدنيا وما فيها (10).
وهذا دليل على كمال توحيد أبي مسلم عبد الله بن ثوب الخولاني حيث جاوز مرحلة الصبر على أقدار الله المؤلمة إلى مرحلة الرضى بقضاء الله، فاعتبر المصيبة بفقد ولد قد أحسن الله نباته وكان على خير ما يتمناه المؤمن شباباً صلاحاً أحبّ إليه من الدنيا وما فيها (11). هذه بعض الملامح العريضة على الجبهة الشامية المتعلقة بالجهاد في عهد معاوية رضي الله عنه.
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 9).
(2) المصدر نفسه (4/ 10) ..
(3) المصدر نفسه (4/ 10).
(4) خبَّب فلان على فلان صديقه، إذا أفسده عليه.
(5) سير أعلام النبلاء (4/ 11).
(6) المصدر نفسه (4/ 11).
(7) المصدر نفسه (4/ 13).
(8) المصدر نفسه (4/ 13).
(9) المصدر نفسه (4/ 14).
(10) صفة الصفوة (4/ 213) حلية الأولياء (2/ 127).
(11) التاريخ الإسلامي (19/ 356).(1/407)
المبحث الثاني: فتوحات الشمال الأفريقي في عهد معاوية رضي الله عنه:
أولاً: حملة معاوية بن حديج رضي الله عنه:
معاوية بن حديج الكندي له صحبة ورواية قليلة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان في شيء شفاء فشربة عسل أو شرطة محجم، أو كية نار، وما أحب أن أكتوي (1)، وكان رضي الله عنه ملكاً مطاعاً من أشراف كندة (2)، وكان من خيرة الأمراء، فعن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلت من أهل مصر،
قالت: كيف وجدتم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيراً، ولا غلاماً إلا أبدل مكانه غلاماً. قالت: إنه لا يمنعني قتله أخي أن أُحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم من ولي من أمر أُمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به، ومن شقّ عليهم فأشقق عليه (3)،
وبعد أن استتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كانت جبهة شمال أفريقيا، من أولى الجبهات التي وجه إليها اهتمامه، لأنها تتاخم حدود مصر الغربية من ناحية ومن ناحية أخرى فهي تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية، العدو اللدود للمسلمين والتي صمم أمير المؤمنين معاوية على تضييق الخناق عليها، وعدم إعطائها فرصة لالتقاط أنفاسها، ففي الوقت الذي واصل فيه ضغطه عليها من الشرق، وزحفه على جزرها في البحر المتوسط تمهيداً للوصول إلى عاصمتها القسطنطينية ـ كما سبق ذكره ـ نراه قد قرر أن يطوقها من الجنوب، من شواطي شمال إفريقيا التي كانت تعتبرها من أملاكها، ففي أول سنة من حكمه 41 هـ أرسل معاوية بن حديج على رأس حملة إلى إفريقيا ثم أرسله ثانية سنة 45 هـ على رأس حملة من عشرة الآف مقاتل، فمضى حتى دخل إفريقيا وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم بن العاص، وغيرهم من أشراف قريش،
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 37) إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه (3/ 40).
(3) مسلم رقم 1828 ..(1/408)
فبعث ملك الروم إلى إفريقية بطريقاً يقال له: نقفورا في ثلاثين ألف مقاتل، فنزل الساحل، فأخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيل كثيفة، فسار حتى نزل على شرف عال ينظر منه إلى البحر بينه وبين مدينة سوسة (1)،
اثنا عشر ميلاً، فلما بلغ ذلك نقفوراً أقلع من في البحر منهزماً من غير قتال، ورجع بن الزبير إلى معاوية بن حديج وهو بجبل القرن، ثم وجه ابن حديج عبد الملك بن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء (2) فحاصرها وقتل من أهلها عدداً كثيراً حتى فتحها عنوة، وأغزى معاوية بن حديج جيشاً في البحر إلى صقلية في مائتي مركب، فسبوا وغنموا وأقاموا شهراً، ثم انصرفوا إلى إفريقيا بغنائم كثيرة (3)، وبعد هذه الفتوح عاد معاوية بن حديج إلى مصر دون أن يترك قائداً أو عاملاً، ويفهم من هذا التصرف ومن سلوك معاوية بن حديج أثناء هذه الغزوة أن البربر أهل البلاد كانوا قد
أصبحوا حلفاء للمسلمين على الروم، وأن المسلمين كانوا يكتفون إلى ذلك الحين بإبعاد الخطر الرومي من هذه الناحية (4) وعندما استعاد معاوية بن حديج طرابلس الغرب ترك فيها رويفع بن ثابت الأنصاري والياً عليها سنة 46 هـ فغزا منها إفريقيا ((تونس)) ودخلها سنة 47 هـ، وفتح جزيرة جربة التي كان يسكنها البربر (5)،
وقد تحدثت المراجع عن كثرة السبايا في هذه الغزوة وقام رويفع بن ثابت الأنصاري بتذكير المسلمين في هذه بأحكام وطء السبايا، حيث قال: أما أني لا أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره (6)، ولا يحل لامرئ يؤمن
_________
(1) سوسة مدينة صغيرة بنواحي إفريقيا، بينها وبين القيروان ستة وثلاثين ميلاً ويحيط بها البحر من ثلاث جهات من الشمال والجنوب والشرق، معجم البلدان (3/ 282) ..
(2) هنالك مدينتان تحملان هذا الاسم، إحداهما بفارس، بينها وبين خانقين سبعة فراسخ، وهي على طريق خراسان، وبها كانت الوقعة المشهورة بين المسلمين والفرس سنة 16 هـ، وهذه التي بإفريقيا بينها وبين القيروان أربعة وعشرون ميلاً ـ ياقوت الحموي معجم البلدان (2/ 156).
(3) البيان المغرب لابن عذاري (1/ 16ـ17)، الشرف والتسامي بحركة الفتح الإسلامي صـ209، حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول، شكري فيصل صـ161.
(4) تاريخ المغرب وحضارته، حسين مؤنس (1/ 85).
(5) صفحات من تاريخ ليبيا والشمال الإفريقي للصّلابيّ صـ332 ..
(6) زرع غيره: أي محل زرع لغيره، يعني اتيان الحبالى.(1/409)
بالله واليوم الآخر أن يقع (1) على امراة من السبي حتى يستبرئها (2)، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما (3) حتى يُقسم (4). وقد بقي في ولاية طرابلس الغرب ثم ولاه مسلمة بن مخلد ولاية مصر وبرقة، وبقي عليها أميراً ومات بها سنة 56 هـ وقبره معروف في الجبل الأخضر ببرقة في مدينة البيضاء وهو آخر من توفي من الصحابة هناك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أحاديث، وان فقيهاً من أصحاب الفتيا من الصحابة وكان خطيباً مفوهاً (5)
ثانياً: عقبة بن نافع وفتح إفريقية:
هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقيا لمعاوية وليزيد، وهو الذي أنشأ القيروان واسكنها الناس (6)، وكان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، لم يصحّ له صحبة، شهد فتح مصر، واختطّ بها (7)، فقد اسند معاوية بن أبي سفيان قيادة حركة الفتح في إفريقية إلى هذا القائد الكبير الذي خلد التاريخ اسمه في ميدان الفتوحات، وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقية منذ البداية مع عمرو بن العاص واكتسب في هذا الميدان خبرات واسعة، وكان عمرو بن العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها يدعو الناس إلى الإسلام، وقد جاء
إسناد القيادة إلى عقبة بن نافع خطوة موفقة في طريق فتح شمال إفريقيا كله، ذلك أنه لطول إقامته في برقة وزويلة وما حولها، منذ فتحها أيام عمرو بن العاص، أدرك أنه لكي يستقر الأمر للمسلمين في إفريقية ويكف أهلها عن الارتداد، فلا بد من بناء قاعدة ثابتة للمسلمين ينطلقون منها في غزواتهم، ويعودون إليها ويأمنون فيها على أهلهم وأموالهم، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات في إفريقية، أرسل إليه عشرة آلاف فارس وانضم إليه من اسلم من البربر فكثر جمعه (8)، وسار في جموعة حتى نزل بمغمداش من سرت (9)، فبلغه أن أهل
_________
(1) يقع على إمراة: يجامعها.
(2) يستبرئها: بحيضة أو بشهر.
(3) مغنماً: أي شيئاً من الغنيمة.
(4) يُقسم: أي من الغانمين ويخرج منه الخمس.
(5) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 486)، صفحات من تاريخ ليبيا والشمال الإفريقي صـ333.
(6) سير أعلام النبلاء (3/ 532).
(7) المصدر نفسه (3/ 533).
(8) الكامل في التاريخ (2/ 483).
(9) سرت مدينة بين برقة وطرابلس، معجم البلدان (3/ 206).(1/410)
ودان (1) قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجهه إليهم عمرو بن العاص ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجه إليهم عقبة قسماً من الجيش عليهم عمر بن علي القرشي وزهير بن قيس البلوي، وسار معهم بالقسم الآخر من الجيش واتجه إلى فزان (2)،
فلما دنا منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا (3)، ثم واصل فتوحاته، فتح قصور كُوّار (4)، وخاور (5)، وغدامس (6)، وغيرها (7)، ومما يلاحظ أن عقبة تجنّب في مسيرة المناطق الساحلية، فقصد المناطق الداخلية يفتحها بلداً بلداً، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ البربر إلى جانبه ويقيم جبهة داخلية تحيط بالبيزنطيين على الساحل وتمدّه بالطاقات البشرية للاستقرار والإطاحة بالوجود البيزنطي (8).
ثالثاً: بناء مدينة القيروان:
في سنة 50 هـ بدأت إفريقية الإسلامية عهداً جديداً مع عقبة بن نافع، المتمرس بشؤون إفريقية منذ حداثة سنّه، فقد لاحظ كثرة ارتداد البربر، ونقضهم العهود، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة على إفريقية ونشر الإسلام بين أهلها هو إنشاء مدينة تكون محط رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان وبنى جامعها (9)، وقد مهد عقبة
قبل بناء المدينة لجنوده بقوله: إن إفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر، فأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون عزاً للإسلام إلى آخر الدهر، فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين، وقالوا: نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط، فقال عقبة إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها، ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون (10)، ولم يعجبه موضع القيروان الذي كان بناه معاوية بن
_________
(1) ودان جنوب إفريقية بينها وبين زويلة عشرة أيام من جهة إفريقية، معجم البلدان (5/ 365، 366).
(2) فزان: جنوب ليبيا ولاية واسعة كانت عاصمتها زويلة ..
(3) فتوح مصر صـ132.
(4) إقليم ببلاد السودان الغربي جنوب فزان معجم البلدان (4/ 486).
(5) خاور: مدينة جنوب فزان.
(6) غدامس: مدينة جنوب ليبيا قرب الحدود الجزائرية.
(7) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ296.
(8) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ280.
(9) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 38).
(10) البيان المغرب (1/ 19).(1/411)
حديج قبله، فسار والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم (1)، وكان موضع غيضة لا يرام من السباع والأفاعي، فدعا عليها، فلم يبق فيها شئ، وهربوا حتى أن الوحوش لتحمل أولادها (2)، وعن يحي بن عبد الرحمن بن حاطب قال: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله، فظعنوا، ثلاث مرات فما رأينا حجراً ولا شجراً إلا يخرج من تحته دابة حتى هبطنا بطن الوادي: ثم قال للناس: انزلوا بسم الله (3)، وكان عقبة بن نافع مجاب الدعوة (4)،
وقد رأى قبيل من البربر كيف أن الدواب تحمل أولادها وتنتقل، فأسلموا ثم شرع الناس في قطع الأشجار وأمر عقبة ببناء المدينة فبنيت وبني المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم وتم أمرها سنة 55 هـ وسكنها الناس، وكان في الناس، وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا، فتغير وتنهب ودخل كثيراً من البربر الإسلام، واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها (5)، وتم تخطيط مدينة القيروان على النمط الإسلامي، فالمسجد الجامع ودار الإمارة توأمان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهما دائماً إلى جوار بعضهما، ويكونان دائماً في قلب المدينة التي يخطتها المسلمون ويرتكزان في وسطها (6)، وبينهما يبدأ الشارع الرئيسي للقيروان، الذي سيسمى باسم السماط الأعظم، ثم ترك عقبة فراغاً حول المسجد ودار الإمارة في هيئة دائرة واسعة، ثم قسمت الأرض خارج الدائرة إلى خطط القبائل، ليكون استمراراً للشارع الرئيسي في الاتجاهين إلى نهاية المدينة، وانجفل البربر من نواحي إفريقية إلى القيروان، وسكنوا حولها وكان الكثير منهم دخل في
الإسلام، وشرعوا في تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم وأمور دينهم وهكذا نشاهد فيما بين سنتي 50 و55 هـ حركة قوية بدأت في تعريب الشمال الأفريقي (7).
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ270.
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 533).
(3) رياض النفوس (1/ 9) معالم الإيمان (1/ 9)، سير أعلام النبلاء (3/ 533).
(4) سير أعلام النبلاء (3/ 533) وخروج الدواب بسبب دعاء عقبة وتأمين من معه رواية صحيحة الإسناد ..
(5) الكامل في التاريخ (2/ 484).
(6) الأمويون محمد سيد الوكيل (1/ 72).
(7) تاريخ المغرب وحضارته (1/ 89).(1/412)
1 ـ الخصائص المتوفرة في موضع القيروان:
كانت الدوافع السياسية والعسكرية والإدارية والدعوية دوافع قوية في قرار عقبة في اتخاذ موقع القيروان، فقد تميز موقع القيروان بالآتي:
أـ بأنه لا يفصله عن مركز القيادة العسكرية في الفسطاط إي بحر أو نهر، فهو يقع على الطريق البري الذي يربط بين الفسطاط (بمصر) وبين المغرب، ويبدو أن عقبة رحمه الله أخذ بنظرية عمر بن الخطاب في بناء الأمصار والمعسكرات بألا يفصلها فاصل من نهر أو بحر أو جسر عن المدينة أو مركز القيادة، وأن تكون على طرف البر أو أقرب إلى البر والصحراء،
ب ـ موافقة الموضع لذهنية العرب ومتطلباتهم الضرورية. وتتجلى هذه الخصوصية من خلال قراءة توصية عقبة بن نافع في أن يكون الموضع قريباً من السبخة: فإن أكثر دوابكم الإبل تكون أبلكم على بابها في مراعيها (1) .. ، وكذلك في الكلمات التي عبر عنها أصحاب عقبة عندما استجمع رأيهم في الموضع المنتخب، إذ قالوا: نحن أصحاب أبل ولا حاجة لنا بمجاورة البحر (2).
جـ ـ بأنه يتمتع ببعض الانتاجات والموارد الذاتية، فالمنطقة التي كان فيها موضع القيروان عبارة غيضة، كما أورد الجغرافيون، وكان مواجهاً لجبال أوراس، معقل قبائل البربر، إذن، فإنه كان في بقعة زراعية تتضمن بعض المحاصيل التي تكفل للمجاهدين المسلمين مورداً غذائياً مهماً (3).
س ـ صحيح أن المشكلة الرئيسية التي جابهتها القيروان بعد اتخاذها كانت متمثلة بالموارد المائية، كما هي الحال في مدينة البصرة، مع وجود فارق بين المصرين، فإن مياه البصرة كانت مع الأنهار غير أنها مالحة. أما مياه القيروان الصالحة للشرب فكانت تعتمد على مصدرين، الأول منهما الأمطار حيث كانت تخزن في صهاريج يطلق عليها اسم (المواجل)، وثانيها مياه وادي السراويل في قبلة المدينة، لكنه كان مالحاً. لذلك فإن بعض المؤرخين حدد مصدر مياه القيروان
_________
(1) الروض المعطار صـ486، دراسات في تاريخ المدن العربية الإسلامية د. عبد الجبار ناجي صـ252.
(2) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى (1/ 78).
(3) القيروان، للحبيب الجنحاني صـ59.(1/413)
قائلاً: وشربهم من ماء المطر. إذا كان الشتاء ووقعت الأمطار والسيول دخل ماء المطر من الأودية إلى برك عظام يقال لها (المؤجل) .. ولهم وادٍ يسمى وادي
السراويل في قبلة المدينة يأتي فيه ماء مالح .. يستعملونه فيما يحتاجونه (1)، ومع ذلك، فإن هذه المشكلة المعقدة يبدو أنها أخذت تتضاءل تدريجياً إلى حد ما (2).
2 ـ القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمتها العلمية:
لم تبدأ الحياة العلمية المركزة إلا بعد تأسيس القيروان سنة 50 هـ، فسرعان ما أصبحت القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمته العلمية، منها انطلق الدعاة وإليها رحل طلاب العلم من الآفاق ومما رشح القيروان في هذه المكانة ما يلي:
أـ إن إنشاء مدينة القيروان يعني أن إفريقية أصبحت ولاية إسلامية جديدة وجزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي الكبير، وبالتالي سيعيش المسلمون فيها حياتهم العادية، على رأسها التعليم وبث الثقافة الإسلامية، فإن القيروان مدينة رسالة وعلى أهلها تلقى مسئولية نشر الإسلام في المغرب، فكما كانت منطلق الجيوش الفاتحة، كانت كذلك منطلق الدعاة إلى الأنحاء لنشر الإسلام، وقد شعر الصحابة بهذه المكانة للقيروان منذ تأسيسها (3).
ب ـ لقد تم بناء الجامع وهو المدرسة الأولى في الإسلام، ولا شك أن الصحابة الذين كانوا في جيش عقبة قد جلسوا للتدريس فيه على النمط الموجود في مدن المشرق آنذاك، فقد كان مع عقبة أثناء تأسيس القيروان ثمانية عشر صحابياً (4)، وقد مكثوا فيها خمس سنوات كاملة كان عملهم فيها، ولا شك، نشر اللغة العربية، وتعليم القرآن والسنة في جامع القيروان، وذلك أثناء بناء مدينة القيروان، حيث لم تكن هناك غزوات كبيرة تتطلب غياباً طويلاً عن القيروان، أما في غزوة عقبة الثانية فقد كان معه خمسة وعشرون صحابياً (5)، وسائر جيشه من التابعين، وقد انتشرت رواية الحديث النبوي الشريف في هذه الفترة مما دعا عقبة أن يوصي
_________
(1) القيروان للحبيب الجنحاني صـ59.
(2) دراسات في المدن العربية الإسلامية صـ252.
(3) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 50).
(4) البيان المغرب (1/ 20).
(5) المصدر نفسه (1/ 23).(1/414)
أولاده من ورائهم جميع المسلمين بتحري حديث الثقات وعدم كتابة ما يشغلهم عن القرآن (1).
ت ـ لقد استقطبت القيروان أعداداً هائلة من البربر المسلمين الذين جاءوا لتعلم الدين الجديد، قال ابن خلدون عند حديثه عن عقبة: فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ودخل أكثر البربر في الإسلام ورسخ الدين (2)، ولا شك أن الفاتحين قد خصصوا لهم
من يقوم بهذه المهمة (3). ومن القيروان انتشر الإسلام في سائر بلاد المغرب، فقد بنى عقبة بالمغربين الأقصى والأوسط عدة مساجد لنشر الإسلام بين البربر، كما ترك صاحبه شاكراً في بعض مدن المغرب الأوسط لتعليم البربر الإسلام (4)، ولما جاء أبو المهاجر دينار لولاية إفريقية تألف كُسيلة وقومه وأحسن إلى البربر، فدخلوا في دين الله أفواجاً ودعّم حسان بن النعمان ـ فيما بعد جهود عقبة في نشر الإسلام بين البرير حيث خصّص ثلاثة عشر فقيهاً من التابعين لتعليم البربر العربية والفقه ومبادئ الإسلام (5)، وواصل موسى بن نُصير هذه المهمة حيث: أمر العرب أن يعلّموا البربر القرآن وأن يفقّهوهم في الدِّين (6)، وترك في المغرب الأقصى سبعة وعشرين فقيهاً لتعليم أهله (7).
جـ ـ كان كثير من أفراد الجيش قد صحبوا معهم زوجاتهم، ومنهم من اتخذ بإفريقية السراري وأمهات الأولاد، قال أبو العرب (8): روى بعض المحدثين أن عبد الله بن عمر بن الخطاب لما غزا مع معاوية بن حديج كانت معه أم ولد له، فولدت له صبية من أم الولد وماتت، فدفنها في مقبرة قريش بباب سلم، فاتخذتها قريش مقبرة يدفنون فيها لمكان تلك الصبية (9). ومن هنا كان لابد من الاهتمام بتعليم النشئ المسلم مبادئ الإسلام واللغة العربية ولذلك فقد نشأت الكتاتيب بالقيروان
_________
(1) شجرة النور (2/ 100) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 51).
(2) تاريخ ابن خلدون (4/ 186).
(3) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 51).
(4) البيان المغرب (1/ 27) مدرسة الحديث في القيرون (1/ 51).
(5) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 52).
(6) البيان المغرب (1/ 42).
(7) المصدر نفسه (1/ 42).
(8) الرياض (1/ 91) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 52).
(9) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 52).(1/415)
في وقت مبكر جداً، فقد روي عن غياث بن شبيب أنه قال: كان سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بنا ونحن غلمة بالقيروان فيسلم علينا ونحن في الكُتّاب وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه (1)، وكان سفيان بن وهب قد دخل القيروان مرتين أولاهما سنة 60 هـ أي بعد الانتهاء من تأسيس القيروان بخمس سنوات، والثانية سنة 78 هـ (2).
س ـ إن الموقع الجغرافي لمدينة القيروان كان له دور كبير في إثراء الحياة العلمية وإنعاشها، فقد كانت في موقع متوسط بين الشرق والغرب يمرّ بها العلماء والطلبة من أهل المغرب والأندلس في ذهابهم إلى المشرق، فيسمعون من علمائها (3)، وكثير منهم يصبح أهلاً للعطاء
عند عودته فيسمع منه أهلها، كما كان يدخلها من يقصد المغرب أو الأندلس من أهل المشرق (4).
ش ـ لقد كانت التجارة في القيروان رابحة والسلع فيها نافقة ولذلك أمّها كبار التجار من المشرق والمغرب وكثير منهم من المحدّثين والفقهاء، فكان ذلك عاملاً مهماً في إزدهار الحياة العلمية بالقيروان (5).
ص ـ وممّا أسهم في شراء الحياة العلمية كون القيروان آنذاك هي العاصمة السياسية، ذلك أنّه كلما جاء أمير جديد اصطحب معه مجموعة من العلماء والأدباء، كما أن كثيراً من المحدثين والفقهاء يفدون إلى العاصمة الإفريقية ضمن الجيوش القادمة من المشرق والتي استمر مجيئها إلى بعض منتصف القرن الثاني، هذا بالإضافة إلى من كان يقصد الأمراء للمدح والتسلية من أهل الشعر والأدب (6).
ل ـ كما أن القيروان اكتسبت نوعاً من الاحترام والتعظيم باعتبارها البلد الذي أسسه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر بها على أيديهم كثير من الكرامات، واستقر بها بعضهم مدة من الزمن، وهي آخر ما دخله الصحابة من بلاد المغرب (7)، كل هذه الأمور هيأت القيروان لدور الريادة العلمية في إفريقية والمغرب حتى وصفها
_________
(1) أسد الغابة نقلاً عن مدرسة الحديث في القيروان (1/ 52).
(2) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 53).
(3) المصدر نفسه (1/ 53).
(4) المصدر نفسه (1/ 53).
(5) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 53).
(6) المصدر نفسه (1/ 54).
(7) المصدر نفسه (1/ 54).(1/416)
أبو إسحاق الجبنياني قوله: القيروان رأس وما سواها جسد، وما قام برد الشبه والبدع إلا أهلها ولا قاتل ولا قتل على أحياء السنة إلا أئمتها (1)، وقد لهج المؤلفون القدامى بفضل القيروان على سائر بلاد المغرب في المجال العلمي من ذلك ما وصفها به ماقديشي بأنها: منبع الولاية والعلوم، فهي لأهل المغرب أصل كل خير، والبلاد كلها عيال عليها، فما من غصن من البلاد المغربية إلا منها علا، ولا فرع في جميع نواحيها إلا عليها ابتنى، كيف لا ومنها خرجت علوم المذهب وإلى أئمتها كل علم ينسب ولا ينكر هذا خاص ولا عام، ولا يزاحمها في هذا الفضل أحد على طول الأمد والأيام (2)، وهكذا أصبحت القيروان دار العلم الإفريقية وبرز فيها كبار المحدثين والفقهاء والقراء ورحل إليها أهل المغرب والأندلس لطلب العلم، وقد نافح أهلها عن مذاهب السلف فصارت دار السنة والجماعة بالمغرب (3)، لقد قامت القيروان بدور كبير في فتح شمال إفريقية كله والأندلس ونشر الإسلام في المغرب وأصبحت من أهم مراكز الحضارة الإسلامية (4).
رابعاً: عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55 هـ:
بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقية، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً فقال: ... إن أبا المهجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه (5)، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته (6)، ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخي كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى
_________
(1) مناقب أبي إسحاق الجبنياني صـ60، 61.
(2) حسن البيان للشيخ محمد النيفر صـ189.
(3) مدرسة الحديث في القيروان (1/ 55).
(4) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ270.
(5) فتوح مصر صـ134، البيان المغرب (1/ 22).
(6) فتوح مصر صـ134.(1/417)
يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقية (1). وهناك نقطة في هذا الموضوع، وهي الإساءة التي تعرض لها عقبة من أبي المهاجر أثناء عزله فقد ذكرت المصادر أن أبا المهاجر أساء إلى عقبة إساءة بالغة، فقد سجنه وأوقره حديداً (2)، ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ قال الدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف في كتابه القيم: ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ ويصعب علينا أن نقبل اتهام الدكتور حسين مؤنس لمسلمة بن مخلد، بأنه هو الذي أوعز إلى أبي المهاجر أن يسيء إلى عقبة (3). فهذا اتهام لا يستند إلى دليل، خصوصاً وأن ابن عبد الحكم يقول عن مسلمة حين ولي أبا المهاجر: وأوصاه حين ولاه أن يعزل عقبة بأن يحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه وأوقره حديداً، حتى أتاه كتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه (4).
ثم يذكر أن مسلمة ركب إلى عقبة حين مر بمصر وترضاه وأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبا المهاجر وقال له: ولقد أوصيته بك خاصة (5)، ولكن لماذا خالف أبو المهاجر وصية مولاه مسلمة وأساء إلى عقبة، مع أنه هو شخصياً كان يجل عقبة، ويعرف مقامه، وقد جزع عندما دعا عليه عقبة، وقال هذا رجل لا يرد له دعاء، هذا هو السؤال الذي لا نملك عليه جواباً شافياً .. اللهم إلا الاستنتاج الذي أخذ به محمد علي دبوز، وهو أن أبا المهاجر ربما يكون قد أضطر اضطراراً إلى القبض على عقبة وسجنه، لأن عقبة خاشنه ولم
يرضخ للعزل بسهولة لأنه كان يرى نفسه أحق بالولاية والقيادة من أبي المهاجر: ولعل أبا المهاجر قد خاف من خلاف يقع بين المسلمين لعدم رضوخ عقبة له فيستغله أعداؤهم الروم، فاضطر إلى سجنه حتى لا يحدث خلل بين المسلمين (6). إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً وهو على كل حال معقول، فقد يخفف من شدة اللوم الذي يوجهه إلى أبي المهاجر كل مسلم حريص على أن تسود روح الاحترام والإجلال بين القادة المسلمين مهما كانت خلافاتهم، وأن يحاول اللاحق منهم الاستفادة من جهود السابق وخبرته، بدلاً من الإساءة وتبادل
_________
(1) البيان المغرب (1/ 22) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ271.
(2) فتوح مصر صـ133 ـ 134، البيان المغرب (1/ 22)
(3) فتح العرب للمغرب صـ151.
(4) فتوح مصر صـ133 ـ134.
(5) فتوح مصر صـ134.
(6) تاريخ المغرب الكبير (2/ 32ـ33).(1/418)
الأحقاد وأن يكون السابق منهم حريصاً كذلك على أن يعطي خبرته وتجاربه ونصائحه للاحق، حتى ينجح في مهمته لأن هدفهم واحد وهو الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه (1).
خامساً: فتوحات أبي المهاجر دينار 55 ـ 62 هـ:
على الرغم ... من الخطأ الكبير الذي ارتكبه أبو المهاجر في حق سلفه، المجاهد الكبير عقبة بن نافع، إلا أن الإنصاف يقتضينا أن نقول أنه قام بدور عظيم في فتح المغرب وتمهيده لقبول الإسلام ديناً ونظام حياة، فقد كان أبو المهاجر يتمتع بقدر كبير من الكياسة والسياسة وحسن التصرف، وقد رأى ـ بثاقب نظرة ـ أن سياسة الشدة التي كان يسير عليها عقبة بن نافع لا بد أن تغير، وعليه أن يصطنع بدلها سياسة كسب القلوب، فالبربر قوم أشداء يعتدون بكرامتهم وحريتهم فسياسة اللين معهم قد تكون أجدى من سياسة الشدة وقد نجح أبو المهاجر في سياسته تلك نجاحاً كبيراً، كما أن أبا المهاجر قد أدرك أن الذين يحركون البربر في شمال أفريقيا ضد المسلمين ويؤلبونهم عليهم، هم الروم (2)، الذين أخذوا يتحببون إلى البربر ولذلك انتهج سياسة تقوم على كشف حقيقة الروم وعلى إقناع البربر أن المسلمين ما جاءوا إلى هذه البلاد يستعمروهم ويستعبدونهم ويستغلوا بلادهم، كما يحاول الروم أن يفهموهم، وإنما جاءوا لهدايتهم ولخيرهم ودعوتهم إلى الإسلام الذي فيه سعادتهم ومساعدتهم على التحرر من ربقة الروم، الذين يستغلون بلادهم منذ قرون، وكان الروم رغم الهزائم التي حلت بهم في وسط إقليم إفريقية وجنوبه، لازالوا قوة في الشمال، ولازالت عاصمتهم قرطاجنة عذراء لم يقصدها أحد من الفاتحين الأولين، ثم إنهم لازالوا قوة في ساحل المغرب من بنزرت إلى طنجة، فكان على أبي المهاجر أن يضرب الروم ضربة قوية ليضعضع نفوذهم في تلك النواحي، ويكسر الحلف الذي عقدوه مع البربر، فسار إلى قرطاجنة ونازلها (3)،
فاستغلقت وتحصنت بالأسوار العالية، فشدد أبو المهاجر الحصار عليها فعلم الروم أنه لا قبل لهم
بالجيش الإسلامي، وأن أبا المهاجر لا بد أن ينتصر عليهم، فيدخل
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ274.
(2) تاريخ المغرب الكبير (2/ 33).
(3) النجوم الزاهرة (1/ 152) ..(1/419)
العاصمة باقتداره وقوته، فطلبوا الصلح فصالحهم بإخلاء جزيرة شريك (1)، لتنزل فيها جنوده، وكان أبو المهاجر يهدف من احتلال جزيرة شريك، القريبة من قرطاجنة، أن يراقب الروم وتحركاتهم، وترك فيها حامية من الجيش جعل على رأسها قائده حنش الصنعاني ليصد الروم إذا حاولوا مهاجمة المسلمين أثناء غزوهم للبلاد (2). رفع أبو المهاجر الحصار عن قرطاجنة بعد أن انتزع من الروم جزيرة شريك، ذلك الموقع الاستراتيجي الهام، وترك فيها حامية تؤمن ظهر المسلمين، وتراقب تحركات الروم، ثم اتجه بعد ذلك مسايراً الساحل ناحية الغرب، وقد خافه الروم والبربر جميعاً، فلم يتعرض له أحد، حتى وصل إلى مدينة ميلة (3)، على خمسين ميلاً من بجاية في جنوبها الشرقي (4) فوجدها مستعدة للقتال، وكان فيها طائفة من البربر والروم، تحصنوا بها، فنازلها أبو المهاجر واحتلها، وغنم ما فيها واستقر بها، وكانت ميلة تتوسط المغربين الأدني والأوسط، فهي أحسن مكان يراقب منه أمور البربر والروم في هذه البقاع، فجعلها مقره، وأقام بها نحواً من سنتين وقد استثمر هذه المدة في الاتصال بالبربر، وإفهامهم حقيقة الإسلام، ودعوتهم إليه، وقد نجح في سياسته نجاحاً كبيراً فأقبل البربر على الإسلام وآية ذلك أن المؤرخين لم يتحدثوا عن معارك وقعت له في هذه النواحي من المغرب، قسطنطينية الآن ونواحيها إلى بجاية (5).
لأن الروم كانوا يتقوون بالبربر، وهاهو أبو المهاجر قد نجح في اجتذاب البربر وفصلهم عن الروم، فسكنت تلك النواحي، سكون البحر بعد العاصفة (6)، وترامت الأخبار إلى أبي المهاجر أن جمعاً من الروم والبربر يستعد لحربه، فقرر المسير إليهم، وكانت زعامة المغربين الأوسط والأقصى لقبيلة أوربة (7)، وهي قسم كبير من أقسام البربر البرانس، وكان زعيم هذه القبيلة كسيلة بن لمزم، وكان كسيلة قوي الشخصية ذكي الفؤاد، غيوراً على وطنه وكان
_________
(1) سميت شريك نسبة إلى شريك العبسي وهي تقع شرق قرطاجنة تاريخ المغرب الكبير (2/ 34).
(2) تاريخ المغرب الكبير (2/ 34)، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ276.
(3) النجوم الزاهرة (1/ 152) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ277.
(4) بجاية على ساحل البحر بين تونس والمغرب معجم البلدان (1/ 339).
(5) تاريخ المغرب الكبير (2/ 35).
(6) المصدر نفسه (2/ 35) العالم الإسلامي في العصرالأموي صـ277.
(7) تاريخ ابن خلدون (6/ 146) تاريخ المغرب الكبير (2/ 38).(1/420)
البربر يجلونه ويحبونه وكان نصرانياً متمسكاً بدينه، وكان لا يعرف حقيقة الإسلام والمسلمين، فاستطاع الروم أن يوحوا إليه ما أرادوا في الإسلام والمسلمين فرآهم عدواً لدينه ووطنه، ورأى أن أبا المهاجر في ميلة، فعلم أنه لا بد أن يسير لافتتاح المغرب الأوسط
والأقصى، فذهب يدعو البربر لمكافحة المسلمين والاستعداد لحربهم وإجلائهم عن بلادهم، فتحمس البربر بثورة أميرهم كسيلة فلبسوا لامة الحرب، واستعدوا للقراع، فتجمع لكسيلة جيش كثيف من البربر والروم (1).
1 ـ معركة تلمسان (2): بعد أن استكمل كسيلة عدته عسكر في تلمسان، وانتظر اللقاء المرتقب مع أبي المهاجر ولم يطل انتظاره، فقد وصل أبو المهاجر، وعسكر بجيشه حول تلمسان، فألتقى الجيشان ودارت معركة قاسية، أبلى فيها كل من الفريقين بلاءً كبيراً، وأدركوا خطورتها وأن لها ما بعدها، وكثر القتلى من الجيشين، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فهزموا جيش كسيلة فولى الأدبار.
2 ـ إسلام كسيلة:
أسر كسيلة في معركة تلمسان وحمل إلى أبي المهاجر فأحسن إليه وقربه وعامله معاملة الملوك (3)، وطمع في إسلامه، فحدثه عن الإسلام وعرفه حقيقته، وإنه دين التوحيد الخالص، والعدل والمساواة، والأخوة، وأنه لو أسلم فلن يخسر شيئاً، بل العكس سوف يكسب الكثير روحياً ومادياً، وكان كسيلة ذكياً طموحاً مخلصاً لقومه لا يريد لهم إلا الإصلاح، فآمن كسيلة، وأصبح من المسلمين وأغرم بالعربية فصار يتعلمها، وأصبح من المقربين من أبي المهاجر وشمّر كسيلة لمناصرة الإسلام والمسلمين ودعا قومه البربر للدين الحنيف، وكان البربر قد تفتحت قلوبهم للإسلام والمسلمين وعاد أبو المهاجر بعد أن اطمأن إلى أمور المغرب الأوسط وإلى إسلام البربر إلى مقره قريباً من القيروان، وأقام بقرية تسمى دكرور يراقب الأمور، ويرصد تحركات الروم ودسائسهم ويعمل على إزالة نفوذهم من الشمال الإفريقي، لكن لسوء الحظ لم يطل به المقام، فقد توفي مولاه مسلمة بن مخلد الأنصاري والي مصر سنة 62 هـ وكان مسلمة سنداً قوياً لأبي
_________
(1) تاريخ المغرب الكبير (2/ 38).
(2) هما مدينتان أحدهما قديمة والأخرى جديدة اختطها المرابطون فهي كالقسطاط والقاهرة من أرض مصر معجم البلدان (2/ 44).
(3) تاريخ المغرب الكبير (2/ 38).(1/421)
المهاجر فلما زال هذا السند أعاد يزيد بن معاوية 60، 64 هـ عقبة بن نافع إلى إفريقية ثانية وعزل أبا المهاجر (1)، وفي تولية أبو المهاجر على إفريقية دليل على ثقة مسلمة بن مخلد الأنصاري فيه وحسن معاملة الموالي في الإسلام وبيان أن الناس كلهم سواسية في الإيمان سواء أكانوا عرباً مسلمين أو أجناساً أخرى من غير العرب، ونستدل من هذا الاختيار على أن
الموالي قد تمتعوا بمكانه مرموقة في العصر الأموي بعكس ما تصوره بعض الأقوال، وقيل أنا أبا المهاجر من موالي النوبة في مصر وقيل بأنه يرجع إلى أصول بربرية (2).
سادساً: حملة عقبة بن نافع الثانية 62 ـ 63 هـ:
وصل عقبة بن نافع إلى إفريقية ورتب أمورها وعامل أبا المهاجر معاملة قاسية، فقد أوثقه في وثاق شديد (3)، ومع هذا فقد كان أبو المهاجر مخلصاً وفياً شهماً غيوراً فلم يبخل بنصائحه لعقبة بالرغم ما حدث بينهما من الجفوة ومن أبرز هذه النصائح إشارته على عقبة بإكرام زعيم البربر كسيلة، ومحاولة تأليفه ليبقى على الإسلام، ولكن عقبة أهان ذلك الزعيم، حيث أمره يوماً أن يسلخ شاة بين يديه، فدفعها كسيلة إلى غلمانه، فأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه وانتهره، فقام كسيلة مغضباً وجعل كلما دس يده في الشاة مسح بلحيته، وبلغ ذلك أبا المهاجر فبعث إليه ينهاه ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف جبابرة العرب وأنت تعمد إلى رجل جبَّار في قومه وبدار عزه حديث عهد بالشرك فتفسد قلبه؟ توثَّق من الرجل فإني أخاف فتكه (4) فتهاون به عقبة، وسيأتي الحديث عن غدر كسيلة بالمسلمين وكيف اغتنم فرصة انفراد عقبة في بعض جيشه كما سيأتي بيانه وكيف قال عقبة لأبي المهاجر: الحق بالقيروان وقم بأمر المسلمين وأنا اغتنم الشهادة، فقال أبو المهاجر: وأنا اغتنم الشهادة مثلك، فكسر كل واحد منهما غمد سيفه وكسر المسلمون أغماد سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا (5).
قد لاحظنا أن أبا المهاجر خاض معركة واحدة كبرى دوخ بها الروم والبربر، وخضع له البربر، ودخل بعض
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ279.
(2) خلافة معاوية للعقيلي صـ130، 131.
(3) فتوح مصر صـ134.
(4) قادة فتح المغرب (1/ 137 ـ 142) رياض النفوس (1/ 26).
(5) رياض النفوس (1/ 26 ـ 27) قادة فتح المغرب (1/ 137؟ ـ 142).(1/422)
زعمائهم في الإسلام وأبرزهم كسيلة، ودخل كثير من قومه في الإسلام ووفر أبو المهاجر بذلك جهوداً كبيرة لابد من بذلها في فتح بلاد المغرب لو بقي أولئك البربر على كفرهم، ولاشك أن عقبة حينما أهان ذلك الزعيم البربري لم يكن يعتقد بصحة إسلامه إذ أن عقبة كان في غاية التواضع للمسلمين وكان اجتهاده يقضي بمحاولة إذلال ذلك الرجل حتى يتحطم طغيانه وتهون مكانته في نفوس قومه فلا يستطيع بعد ذلك أن يستنفرهم لحرب ضد المسلمين، ولكنه أخطأ في اجتهاده لأن قوم ذلك الرجل كانوا حديثي عهد بالإسلام، ومهما كان لظن عقبة فيه من احتمال في عدم الصدق في الولاء فإن كسبه وبقاءه في جيش المسلمين وتحت سلطتهم أولى بكثير من معاداته وإتاحة الفرصة له لضرب المسلمين من مكامن الخطر، وهو الذي صحبهم وحاز على شيء من ثقتهم (1)، ومن موقف عقبة المذكور تظهر لنا نتيجة مهمة
من نتائج العمل بسنن الإسلام التي من أهمها العمل بالشورى وأخذ رأي أهل الحل والعقد خاصة في الأمور المهمة، وعلى أي حال فإن كلا القائدين كان مجتهداً في تصرفه ولا يظن بواحد منهما أنه كان يعمل لصالح نفسه أو لصالح عشيرته وإنما كان رائدهما النظر في مصلحة الإسلام والمسلمين، ولكن كان اجتهاد أبي المهاجر أقرب إلى الصواب في هذه القضية (2).
1 ـ جهاده من القيروان إلى المحيط:
بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين عُزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقية، ثم أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي ودعا لها قائلاً: يا رب أملأها علماً وفقهاً وأملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك .. وامنعها من جبابرة الأرض (3)، وخرج عقبة بأصحابه الذين قدم بهم من الشام وعددهم عشرة ألف إلى جانب عدد كبير انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد
_________
(1) التاريخ الإسلامي (13/ 254).
(2) المصدر نفسه (13/ 254).
(3) البيان المغرب (1/ 23)، الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/ 126).(1/423)
من كفر بالله ثم قال: ـ يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملئوا صدوركم بالشعر وتتركوا القرآن، فإن القرآن دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء فإن الدّين ذُلُّ بالنهار وهم بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم وتبق لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا ـ ثم قال: عليكم سلام الله واُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا ـ ثم قال: اللهم تقبّل نفسي في رضاك واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك (1).
وهكذا ما ان وطئت أقدام عقبة أرض القيروان حتى عزم على الخروج للجهاد غير هياب ولا متردد، ومما يدل على مبلغ حبه للجهاد وهيامه به قوله في وصيته لأولاده: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله. فهو قد باع نفسه من الله عز وجل، واشتاق إلى الثمن العظيم الغالي ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))
(التوبة: أية 111). فجعل عمله الذي نذر حياته لأجله هو الجهاد، ونصب أمام عينيه الهدف السامي، وهو إعلاء كلمة الله في الأرض (2)، وفي وصيته المذكورة لأولاده فوائد جليلة، فقد أوصاهم بثلاث وصايا:
أـ الوصية الأولى: الاهتمام بانتقاء العلم واختيار أطيبه، وذلك بالاهتمام أولاً بالقرآن الكريم، حيث إنه الكتاب الذي يدل على الله عز وجل، وما ابلغه من وصف يهدي إلى بلوغ الهدف السامي الذي يسعى إليه كل مؤمن، وهو ابتغاء رضوان الله تعالى ونعيمه، ولا شك أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدخل في مقاصد القرآن الكريم لقوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا
_________
(1) البيان المغرب (1/ 23) صفحات من تاريخ ليبيا الإسلامي والشمال الإفريقي صـ248.
(2) التاريخ الإسلامي (13/ 257).(1/424)
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (الحشر: أية:7). ثم انتقاء الطيب من كلام العرب الذي يرشد إليه العقل السليم ويحث على مكارم الأخلاق.
ب ـ الوصية الثانية: البعد عن الاستدانة ولو دفع إليها الفقر لأن الدين ذل بالنهار حيث يدفع المستدين إلى بعض مواقف الذل أمام الدائن ومن لهم علاقة به، وهمُّ بالليل حيث يخلو المستدين إلى نفسه فيتذكر حقوق الناس عليه.
جـ ـ الوصية الثالثة: التحري في تلقي العلم، وذلك باختيار العلماء الربانيين أهل الورع والتقوى، والبعد عن العلماء المغرورين أهل الدنيا والجاه، فإنهم يزيدون المتعلم جهلاً حيث يبعدونه عن حقيقة العلم وثمرته وهي تقوى الله عز وجل (1). ونجد عقبة في نهاية وصيته لأولاده يسلمّ عليهم سلام المودع، مما يدل على استماتته في سبيل الله تعالى، ثم يقول: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك (2). وبهذا الاهتمام الكبير نجح عقبة بن نافع رحمه الله في فتوحاته حيث جعل الجهاد قضيته الكبرى في هذه الحياة (3). سار عقبة في جيش عظيم متجهاً إلى مدينة باغية (4)، حيث واجه مقاومة عنيفة من البيزنطيين الذين انهزموا أمامه ودخلوا مدينتهم وتحصنوا بها، فحاصرهم مدة ثم سار إلى تلمسان وهي من أعظم مدائنهم فانضم إليها من حولها من الروم والبربر فخرجوا إليه في جيش ضخم والتحم القتال، وثبت الفريقان حتى ظن المسلمون أن في تلك المعركة فناءهم ولكن منَّ عليهم بالصبر فكانوا في ذلك أشدَّ وأصبر من أعدائهم فهاجموا الروم هجوماً عنيفاً حتى ألجئوهم إلى حصونهم فقاتلوهم إلى أبوابها وأصابوا منهم غنائم كثيرة (5)،
ثم استمر غربا قاصداً بلاد
الزاب، فسأل عن أعظم مدنها فقيل له ((أَرَبَه)) وهي دار ملكهم وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية كلها عامرة، فامتنع بها من كان هناك من الروم وأهل المدينة وهرب بعضهم إلى الجبال، فاقتتل المسلمون مع أهل تلك المدينة فانهزم أهل تلك البلاد وقُتل كثير من فرسانهم ورحل عقبة إلى ((تاهرت)) فاستغاث الروم بالبربر فأجابوهم ونصروهم، وقام عقبة بن نافع في الناس خطبةً فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس
_________
(1) صفحات من تاريخ ليبيا الإسلامي والشمال الإفريقي صـ259.
(2) البيان المغرب (1/ 23).
(3) التاريخ الإسلامي (13/ 258).
(4) مصر في العصر الأموي صـ123، الكامل في التاريخ (2/ 589).
(5) البيان المغرب (1/ 23ـ27) التاريخ الإسلامي (13/ 261) ..(1/425)
إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه بايعوا رسول الله بيعه الرضوان على من كذب بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربة وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلبا لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشرو فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى وربكم عز وجل لا يُسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين (1). وهذه خطبة عظيمة تدل على أن عقبة بن نافع رضي الله عنه قد اعتمد في حروبه على السلاح الأعظم الذي فيه سر انتصارات المسلمين الباهرة ..
ألا وهو التوكل على الله تعالى، واستحضار عظمته وجلاله، ومعيته لأوليائه المؤمنين بالنصر والتأييد، فهو لا يبالي بجيوش الأعداء مهما كثرت، وإنما الذي يهتم به أن يتأكد جيداً من أن هذا السلاح المعنوي الفعال قد توفر في جيشه، وحينما يضمن ذلك فإنه يرحب باجتماع جيوش الأعداء ليكون ذلك أسرع في هلاكهم وتمزيق جمعهم على يد أولياء الله الصالحين وما أعظم شبه عقبة بخالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان يُسَرُّ ويداخله شعور بالقوة والتعاظم ـ من غير غرور ولا استهانة ـ كلما تضخم جيش الأعداء وتعددت عناصره، وكأن عقبة قد تأس به واتخذه له قدوة في القيادة والإقدام الذي لا يعرف التردد والسآمة، وهو في إقدامه واندفاعه يدرك أن جنود الإسلام الصادقين هم بأس الله تعالى المسلط على أعدائه الكفار، والله تعالى لا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين. إن شعوره الدائم بأن المجاهدين المسلمين هم سيف الله تعالى وبأسه الموجه ضد أعدائه يجعله عظيم الثقة بنصر الله تعالى وحسن الظن به (2).هذا وقد التقى المسلمون بأعدائهم في مدينة ((تاهرت)) وقاتلوهم قتالاً شديداً، فاشتد الأمر على المسلمين لكثرة عدوهم، ولكنهم انتصروا أخيراً، وانهزم أعداؤهم من الروم والبربر، وقتل منهم عدد كبير، وغنم منهم المسلمون أموالهم
_________
(1) البيان المغرب (1/ 23ـ27) قادة الفتح المغرب العربي (1/ 108ـ120).
(2) التاريخ الإسلامي (13/ 260).(1/426)
وسلاحهم (1)، ثم توجه إلى جهات المغرب الأقصى فوصل إلى طنجة،
حيث قابل بطريق من الروم اسمه ((جوليان)) الذي: أهدى له هدية حسنة، ونزل على حكمه (2) ولما سأله عقبة عن بحر الأندلس قال عنه: لا إنه محفوظ لا يرام (3)،
ثم سأله عن البربر والروم بقوله: دلني على رجال البربر والروم فقال: قد تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر وفرسانهم في عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى وهم أنجاد البربر وفرسانهم، فقال عقبة: فأين موضعهم؟ قال: في السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين (4) .. استفاد عقبة من هذه المعلومات واتجه إلى الجنوب الغربي، قاصداً بلاد السوس الأدنى حيث التقى بجموع بربر أطلس الوسطى، فهزمهم وطاردهم نحو صحراء وادي درعا، حيث بنى مسجداً في مدينة درعا ثم غادر صحاري مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة ((تافللت)) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة ((اغمات))، بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة تفيس (5)، حيث حاصر بها جموعاً من البيزنطيين والبربر، فلم ينفعهم تحصنهم، فدخل المدينة منتصراً وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى ودخل عاصمتها ((ايجلي)) التي بنى فيها مسجداً، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة ((ماسة)) ومنها إلى رأس ((ايفران)) على البحر المحيط (6)، وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب، وتشير مصادرنا التاريخية أن عقبة لما وصل إلى المحيط الأطلسي قال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك.
ثم قال: اللهم أشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله حتى لا يعبد أحد من دونك ثم وقف ساعة ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم،
_________
(1) 3الكامل في التاريخ (2/ 590).
(2) المصدر نفسه (2/ 590).
(3) المصدر نفسه (2/ 590) مصر في العصر الأموي صـ125 ..
(4) الكامل في التاريخ (2/ 590) مصر في العصر الأموي صـ125.
(5) مصر في العصر الأموي صـ126، البيان المغرب (1/ 26ـ27).
(6) الكامل في التاريخ (2/ 590).(1/427)
ففعلوا، فقال: اللهم لم أخرج بطراً ولا أشراً وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن تُعبد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعاً (1). وندرك من قوله المذكور مدى حبه للجهاد وشعوره بالمسئولية الكبرى التي حملها على عاتقه نحو تبليغ الإسلام وتقوية دولته والقضاء على دول الكفر التي حجبت نور الإسلام عن شعوبها، فهو يقف على البحر المحيط ويعلم آنذاك أنه نهاية المعمور من الأرض من ناحية المغرب، ثم نجده يُشهد الله تعالى على أنه قد بلغ المجهود الذي تحت مقدرته، وهذه الشهادة
تشعرنا بمدى ارتباط عقبة بالله تعالى، وأنه لم يكن يسير خطوة إلا وهو يستلهم التوفيق منه جل وعلا ويطلب رضوانه، وهذا الكلام يدل على وضوح الهدف من الجهاد عند عقبة حيث بيّن أن الحد الذي يقف عنده الجهاد، أن يزول الشرك من الأرض، وأن لا يعبد إلا الله وحده، ومادام الشرك قائماً فإن الجهاد لا بد أن يكون موجوداً، فالجهاد أذن هو جهاد الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإزالة الطغيان البشري وإخضاع دول العالم لحكم الإسلام لكي يكون فهم الإسلام واعتناقه متيسراً لكل الناس (2). ولم يقف عمل عقبة على الجهاد بل رافق ذلك بناء المساجد مثل مسجد درعة ومسجد ماسة بالسوس الأقصى (3)،
كما كان يترك نفراً من أصحابه يعلمون الناس القرآن وشرائع الإسلام، ومن هؤلاء شاكر الذي بنى رباطاً ما بين بلدتي مراكش وموجادور ولا زال موقعه باقياً إلى اليوم وهو المعروف عند العامة بالمغرب الأقصى بسيدي شاكر (4)، ويظهر أن أغلبية بربر المغرب الأقصى أسلموا على يده طوعاً مثل صنهاجة وهسكورة وجزولة (5)، كما أخضع المصامدة، وحملهم على طاعة الإسلام (6)، وكي يأمن القبائل الكثيرة من الانتقاض عليه، كان عقبة يأخذ منها رهائن ويولي عليها رجلاً منها مثلما فعل مع مصمودة فقد ترك عليها أبا
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 590)، البيان المغرب (1/ 23ـ27). قادة الفتح المغرب العربي (1/ 108ـ120).
(2) التاريخ الإسلامي (13/ 262).
(3) رياض النفوس (1/ 26)، الإسلام والتعريب (1/ 133) ..
(4) البيان المغرب (1/ 27).
(5) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/ 133).
(6) تاريخ ابن خلدون (6/ 108).(1/428)
مدرك زرعة بن أبي مدرك، أحد رؤسائها، الذي شارك في فتح الأندلس فيما بعد (1)، ويلاحظ أن الوثنية كانت غالبة على بربر المغرب الأقصى مما يفسر كثرة السبايا والغنائم، وأصاب ((عقبة)) نساء لم يرى الناس مثلهن فقيل أن الجارية كانت تساوي بالمشرق ألف مثقال وأكثر (2)، وكان السبي أحد عوامل انتشار الإسلام بين البربر بحكم اختلاطهم بالبيئة العربية الإسلامية ثم إن الاحتكاك والاختلاط المستمرين بين المقاتلة العرب، والبربر أوجد صلات وروابط تجلت في الحلف والولاء في هذا الوقت المبكر (3). يذكر السلاوي أن عقبة حين وصل إلى جبل درن: نهضت زناته وكانت خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة (4) وهذا يشعر بأن بعض زناته ومغراوة كانتا قد أسلمتا منذ زمن وكانتا حليفتان للمسلمين فنهضتا للدفاع عن المسلمين (5).
2 ـ استشهاد عقبة بن نافع وأبو المهاجر رحمهما الله تعالى:
يبدو أن عقبة المجاهد المخلص، كان يحس إحساس المؤمن الصادق، أنه سيلقى ربه شهيداً في هذه الجولة، فعندما عزم على المسير من القيروان في بداية الغزو دعا أولاده وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل ... إلى أن قال ولست أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله، وأوصاهم بما أحب، ثم قال: عليكم سلام الله .. اللهم تقبل نفسي في رضاك (6). نعى عقبة نفسه إلى أولاده، فتقبل الله منه وحقق له أمله في الشهادة، فقد أعد له الروم والبربر كميناً عند تهوذة (7)، وأوقعوا به وقضوا عليه هو ومن معه من جنوده، وترجع المصادر أمر الكارثة التي تعرض لها عقبة عند تهوذة إلى سبب رئيسي وهو سياسته نحو البربر بصفة عامة، وزعيمهم كسيلة بصفة خاصة ذلك الزعيم صاحب النفوذ والمكانة في قومه، والذي كان أبو المهاجر قد تألفه وأحسن إليه، فأسلم وتبعه كثير من قومه، لكن عقبة أساء إلى هذا الرجل إساءة بالغة، فأدرك أبو المهاجر عاقبة الخطأ الذي وقع فيه عقبة ولم يكتم نصيحته عنه ـ رغم أنه كان في حكم المعتقل ـ ولكن عقبة لم يسمع منه، وكان أبو المهاجر من معاشرته للبربر
_________
(1) فتوح مصر صـ207، الإسلام والتعريب (1/ 134).
(2) رياض النفوس (1/ 24).
(3) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/ 134).
(4) المصدر نفسه (1/ 135).
(5) المصدر نفسه (1/ 135).
(6) البيان المغرب (1/ 23ـ24).
(7) تهوذة: اسم لقبيلة بربرية بناحية إفريقية لهم أرض تعرف بهم.(1/429)
وزعيمهم، قد عرف مدى اعتزازهم بكرامتهم وأدرك أنهم لن يقبلوا هذه الإهانة، وهذا الإذلال الذي لحق بزعيمهم من عقبة فخاف غدرهم، فأشار على عقبة بالتخلص من كسيلة وقال له: عاجله قبل أن يستفحل أمره (1)،
ولكن عقبة لم يصغ إلى هذه النصيحة أيضاً وليته احتاط للأمر، بل أقدم على عمل آخر في غاية الخطورة، حيث جعل معظم جيشه يسير أمامه بعد أن رجع من رحلته الطويلة من المغرب الأقصى قاصداً القيروان، ولما صار قريباً من القيروان أرسل غالب جيشه على أفواج إلى القيروان وبقي هو على رأس الفوج الأخير، ومعه ما يقرب من ثلاثمائة من الفرسان من الصحابة والتابعين، وكان من عادة عقبة أنه يكون في مقدمة الجيش عند الغزو ويكون في الساقة عند قفول الجيش، فهو بذلك يعرض نفسه لخطر مواجهة العدو دائماً وإن هذه التضحية الكبيرة جعلته محبوباً لدى أفراد جيشه بحيث لا يعصون له أمراً ويتسابقون على التضحية اقتداء به، وهذه الصفة تعتبر من أهم عوامل نجاح القائد في أي عمل يتوجه إليه ولما علم الروم بانفراد عقبة بهذا العدد القليل من جيشه انتهزوا هذه الفرصة لمحاولة القضاء عليه، وهم يدركون أن وجوده القوي يعتبر أهم العوامل في تماسك المسلمين وبقاء قوتهم، فتآمروا عليه مع كسيلة البربري، فجمعوا لعقبة وأصحابه جمعاً لا قِبَلَ لهم (2) به وإذا بكسيلة يحيط بجيش
عقبة في جمع عدته خمسون ألفاً (3). وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة، فلمّا رأى الجموع تمثل بقول أبي محن الثقفي:
كفى حزناً أن تمرغ الخيل بالقنا ... وأُترك مشدوداً عليّ وثاقيا
إذ قمتُ عنّاني الحديد وأُغلت ... مصارع من دوني تصمّ المناديا
فلما سمع عقبة ذلك أطلقه، فقال له: الحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا اغتنم الشهادة، فلم يفعل وقال: وأنا أيضاً أريد الشهادة (4)، وهكذا كان أبو المهاجر نموذجاً من تلك النماذج الفريدة من الرجال، الذين هانت عليهم الحياة الدنيا واستولى على قلوبهم حب الآخرة وكسب رضوان الله تعالى، ومن هذا المنطلق أقدم عقبة ومعه عدد قليل على معركة غير متكافئة، وكان بإمكان بعضهم الفرار
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 591) ..
(2) التاريخ الإسلامي (13/ 263).
(3) البيان المغرب (1/ 25).
(4) الكامل في التاريخ (2/ 591).(1/430)
ولكنهم ثبتوا ثبات الأبطال حتى استشهدوا جميعاً في بلاد ((تهوذة)) من أرض الزاب ويَذكر المؤرخون أن قبور هؤلاء الشهداء معروفة في ذلك المكان وأن المسلمين يزورونها (1). وهكذا تحقق أمل عقبة في أبو المهاجر ونالا الشهادة في سبيل الله بعد ما قاموا بالواجب الذي عليهم، واستقبلوا الشهادة في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة إلى حسن ثواب ربها، وقد استطاع عقبة أن يشق بجهاده للإسلام طريقه في هذا الجزء من العالم الذي سار فيه خلفاؤه من بعده، زهير بن قيس البلوي، وحسان بن النعمان الغساني، وموسى بن نصير، فقد حقق أهدافه من التمهيد لنشر الإسلام والجهاد في سبيل الله (2)، ولقد كان استشهاد عقبة بن نافع ومن معه في عام ثلاثة وستين للهجرة وعمره آنذاك في حدود أربع وستين سنة، وبهذا ندرك مبلغ القوة التي كان يتمتع بها أسلافنا حيث قام بتلك الرحلة الشاقة وخاض المعارك الهائلة وقد جاوز الستين من عمره وهكذا استشهد هذا القائد العظيم بعد جهاد دام أكثر من أربعين عاماً قضاها في فتوح شمال أفريقيا، ابتداء بمصر وإنتهاء بالمغرب الأقصى (3)
3 ـ أثر معركة تهوذة على المسلمين 63 هـ:
كانت معركة تهوذة مصيبة على المسلمين، فقد استشهد القائد المجاهد عقبة بن نافع وصحبه وكان لاستشهاده وقع أليم على المسلمين، وانتابتهم حالة من الهلع والفزع، فمع أن العدد الذي استشهد مع عقبة كان قليلاً ـ قيل حوالي ثلثمائة جندي ـ وأن معظم الجيش كان قد سار متقدماً ونجا من المعركة، وكان من الممكن أن يتماسك هذا الجيش ويقاوم، حتى يحتفظ
بوجوده في القيروان، إلا أن الحالة النفسية للجنود لم تسمح بذلك، وقد حاول زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان أن ينفخ في الجنود روح المقاومة والتصدي لكسيلة عندما زحف على القيروان، وهتف قائلاً: يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقدمنّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، أو يفتح الله عليكم دون ذلك (4)، ولكن صيحة زهيرة هذه لم تجد استجابة، بل لقيت معارضة وتثبيطاً، حيث تصدى له
_________
(1) التاريخ الإسلامي (13/ 264)، البيان المغرب (1/ 28).
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ284، 285.
(3) التاريخ الإسلامي (13/ 265).
(4) البيان المغرب (1/ 31).(1/431)
حنش الصنعاني وقال له: لا والله ما نقبل قولك ولا لك علينا ولاية، ولا عمل أفضل من النجاة بهذه العصابة من المسلمين إلى مشرقهم، ثم قال يا معشر المسلمين من أراد منكم القفول إلى مشرقة فليتبعني فاتبعه الناس، ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته، فنهض في أثره، ولحق بقصره ببرقة وأقام بها مرابطاً إلى دولة عبد الملك بن مروان (1)، وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد القيروان، وبها أصحاب الأثقال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فأمنهم، ودخل القيروان، واستولى على إفريقية وأقام بها غير مدافع إلى أن قوى أمر عبد الملك بن مروان (2)،
ولئن أخرجت إفريقية من يد المسلمين فإنها لم تخرج عن الإسلام، فقد أسلمت قبائل من البربر وثبتت على إسلامها وكان تعيش بالقيروان وكان كسيلة يحسب حسابها ويتفادها لشدة باسها فقد اعترف كسيلة بذلك حين اقترح على جيشه الخروج من القيروان واختيار موضع آخر لمواجهة جيش زهير الذي أمده به عبد الملك بن مروان قال كسيلة: إني أردت أن أرحل إلى ممس فأنزلها، فإن هذه المدينة ((يعني القيروان)) فيها خلق عظيم من المسلمين ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم ونحن نخاف إذا التحم القتال أن يثبتوا علينا (3). هذا وقد بقيت القيروان بيد كسيلة مدة تقارب خمس سنوات من عام 64 هـ - 69 هـ حتى خلصها زهير البلوي من قبضته بعد أن أمده عبد الملك بن مروان بجيش كبير يأتي الحديث عن زهير بإذن الله في عهد عبد الملك بن مروان. وفي مقتل عقبة رحمه الله درس بليغ وهو أهمية الحذر من العدو فقد أرسل جنوده وبقي في مجموعة قليلة من المقاتلين رغباً في الشهادة وهذا مطلب سامي وكبير إلا أن استشهاده كان له آثار سيئة على الفتوحات في شمال إفريقيا وضاعت القيروان من أيدي المسلمين لمدة خمس سنوات وتأخرت الدعوة الإسلامية لذلك يجب على القادة أن يوازنوا بين مصالح الأمة الكبرى وحرصهم على الشهادة.
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 31)، النجوم الزاهرة (1/ 159).
(2) النجوم الزاهرة (1/ 160)، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ286 ..
(3) رياض النفوس (1/ 30) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/ 136).(1/432)
المبحث الثالث: فتوحات معاوية في الجناح الشرفي للدولة الأموية:
كان المسلمون حتى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه قد أتموا فتح البلاد التي تقع بين العراق ونهر جيحون، وتضم جرجان وطبرستان وخراسان وفارس وكرمان وسجستان، فلما قتل عثمان تعثرت حركة الفتح، وخرج أكثر أهل هذه البلاد عن الطاعة، حتى إذا جاء عهد معاوية رضي الله عنه أخذت دولته تبذل جهوداً بالغة لإعادة البلاد المفتوحة إلى الطاعة ومد حركة الفتح (1).
أولاً: فتوحات خراسان (2) وسجستان وما وراء النهر:
لما استقامت الأمور لمعاوية بن أبي سفيان ولّى عبد الله بن عامر البصرة وحرب سجستان وخراسان (3)، ولقد جاء تعيين عبد الله بن عامر في هذا المنصب نظراً لخبرته السابقة في هذه المنطقة وفي سنة 42 هـ - 43 هـ عين ابن عامر، عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس والياً على سجستان فأتاها وعلى شرطته عبّاد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وقطري بن الفجاءة، والمهلب بن أبي صفرة الأزدي ففتحوا في هذه الحملة مدينة زرنج (4)، صلحا ووافق مرزبانها على دفع ألفي ألف (مليوني) درهم، وألفي وصيف. ثم تقدموا نحو مدن خواش (5)، وبست (6)، وخُشَّك (7)، وغيرها من البلدان وتمكنوا من فتحها، كما تمكنوا من فتح مدينة كابل بعد أن ضربوا عليها حصاراً استمر لعدة أشهر (8). وما لبث أن جعل معاوية رضي الله عنه إقليم سجستان ولاية مستقلة وأمّر عليها عبد الرحمن بن سمرة كمكافأة له على تحقيقه مثل تلك الفتوحات (9). وظل عبد الرحمن والياً عليها
_________
(1) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ 219.
(2) خراسان: أي مطلع الشمس.
(3) تاريخ الطبري (6/ 133).
(4) زرنج: مدينة كبيرة هي قصبة سجستان معجم البلدان (3/ 138).
(5) خواش: مدينة بسجستان معجم البلدان (2/ 398).
(6) معجم البلدان (1/ 414).
(7) خشك: بلدة من نواحي كابل ومعجم البلدان (2/ 373).
(8) فتوح البلدان صـ395.
(9) المصدر نفسه صـ 396.(1/433)
حتى قدم زياد بن أبي سفيان البصرة معيناً عليها بدل عبد الله بن عامر، والذي عزله معاوية سنة 45 هـ كما مر معنا وعادت ولاية خراسان وسجستان مرة أخرى تحت
إشراف والي البصرة. وعند وصول زياد البصرة سنة 45 هـ قسم خراسان أربعة أقسام هي: مرو وعليها أُمَير أحمد اليشكري والذي كان أول من أسكن العرب في مرو (1)
ونيسابور وعليها خُلَيد بن عبد الله الحنفي، مرو الرُّود والطالقان والفارياب وعليها قيس بن الهيثم السُّلمي، هَراة وباذغيس وبوشنج وقاديس وعين عليها نافع بن خالد الطاحي الأزدي (2)، وفي سنة 47 هـ عمل زياد على جعل السلطة المركزية في خراسان في مدينة مرو ((القاعدة الأساسية فيها)).
ثانياً: تعيين الحكم بن عمرو الغفاري:
وكان عفيفاً وله صحبة (3)، وفي سنة 47 هـ غزا الحكم ((طخارستان)) (4)، فغنم غنائم كثيرة ثم سار إلى جبال الغور (5) وغزا أهلها الذين ارتدوا على الإسلام فأخذهم بالسيف عنوة وفتحها وأصاب منها مغانم كثيرة (6)، وكان المهلب بن أبي صفرة مع الحكم بخراسان، فغزا معه بعض جبال الترك وغزا معه جبل ((الأشل)) (7) من جبال الترك، إلا أن الترك أخذوا عليهم الشعاب والطرق واحتار الحكم بالأمر، فولى المهلب الحرب، فلم يزل المهلب يحتال حتى أسر عظيماً من عظماء الترك، فقال له: إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك، فقال له: أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، وسير الأثقال نحوه، فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى طريق أخرى، فما يدركونكم حتى تخرجوا منه، وفعل ذلك المهلب، فسلم الناس بما معهم من الغنائم (8)، وقطع الحكم نهر جيحون وعبر إلى ما وراء النهر (9) في ولايته ولم يفتح وكان أول من شرب من
_________
(1) فتوح البلدان صـ 408 ..
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن خلافة معاوية للعقيلي صـ135.
(3) فتوح البلدان صـ409.
(4) طخارستان: ولاية واسعة كبيرة تشتمل على عدة بلاد.
(5) الغور: جبال وولاية بين هراة وغزة.
(6) الكامل في التاريخ (2/ 478).
(7) الأشل: جبل في ثغور خراسان.
(8) الكامل في التاريخ نقلاً عن قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ118.
(9) ما وراء النهر: جيحون بخراسان فما كان في شرقه، يقال له: ما وراء النهر وما كان غربه فهو خراسان، وولاية خوارزم معجم البلدان (7/ 370) ,(1/434)
مائه من المسلمين هو أحد موالي الحكم، فقد اغترف بترسه بماء النهر، فشرب وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلى ركعتين، وكان الحكم أول من فعل ذلك (1). وقد قال عبد الله بن المبارك لرجل من أهل ((الصغانيات)): ((من
فتح بلادك؟)) فقال الرجل: لا أدري!! فقال ابن مبارك: فتحها الحكم بن عمرو الغفاري (2).
وقد مات الحكم سنة50 هـ (3)، فخلفه الصحابي الجليل غالب بن فضالة الليثي والذي واصل سياسة سلفه في إرسال حملات منظمة في فتح طخارستان ولكنه، رغم كل الجهود التي بذلها لم يحرز إي تقدم يذكر في ولايات طخارستان (4) لذلك عزله زياد وولى مكانه الربيع بن زياد الحارثي ((50 ـ 53 هـ (5))، وقد استطاع الربيع بن زياد إبان فترة ولايته على خراسان أن يغزو بلخ فصالحه أهلها، ثم غزا قوهستان ففتحها عنوة ثم أن ابنه عبد الله، الذي خلفه لبضعة أشهر من عام 53 هـ وخلفه خليد بن عبد الله الحنفي في إدارة الإقليم، وظل خليد في منصبه هذا حتى وصل عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان عامل معاوية رضي الله عنه المعين على خراسان في سنة 54 ـ 55 هـ وكان عبيد الله ابن 25 عاماً (6).
ثالثاً: عبيد الله بن زياد:
ما أن وصل عبيد الله إلى مرو حتى قاد حملة مكونة من 24 ألف رجل وقطعوا نهر جيحون على الإبل وفتحوا راميثين (7) ونسف (8) وبيكندة (9) فأرسلت ((خاتون)) ملكة ((بخارى)) إلى الترك تستمدهم فجاءهم منهم عدد كبير، فلقيهم المسلمون وهزموهم، وعند القتال انتصروا عليهم (10)، فبعثت خاتون تطلب الصلح والأمان وصالحها عبيد الله على ألف ألف درهم فلم يفتح بخارى وفتح بيكندة (11)، وكان قتال عبيد الله الترك من زحوف ((خراسان)) التي تذكر، وقد ظهر
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 478).
(2) فتوح البلدان للبلاذري صـ400 قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ118.
(3) طبقات بن سعد (7/ 29).
(4) خلافة معاوية للعقيلي صـ136.
(5) فتوح البلدان صـ409 خلافة معاوية للعقيلي صـ136.
(6) تاريخ الطبري نقلاً عن خلافة معاوية صـ138.
(7) الكامل في التاريخ (2/ 506).
(8) المصدر نفسه (2/ 506).
(9) المصدر نفسه (2/ 506).
(10) تاريخ اليعقوبي (2/ 211) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ125.
(11) فتوح البلدان صـ401 قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ125.(1/435)
منه بأس شديد (1)، فقد ذكر شاهد عيان، فقال: ما رأيت أشجع بأساً من عبيد الله بن زياد لقينا زحف الترك بـ ((خراسان))، فرأيته يقاتل فيحمل عليهم، فيطعن فيهم ويغيب عنا ثم يرفع رايته تقطر دماً، وبقي عبيد الله بخراسان سنتين (2)، إذ ولاه معاوية البصرة سنة
55 هـ (3)، فقدم معه البصرة بخلق من أهل بخارى (4) وهم ألفان كلهم جيد الرمي بالنشاب (5)، وتولى ابن زياد أرفع المناصب في أيام معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، وكان موضع ثقة بني أمية وكان يعتمد في حكمه على القسوة القاسية لفرض سيطرته على الناس، وكان لا يبالي من أجل تدعيم سيطرته أن يرتكب كل أنواع الإجراءات الرادعة قتلاً وتعذيباً وحجزاً للممتلكات والأموال (6)،
فقد كان ذا شخصية طاغية يحب الإمارة ويحب السيطرة ولقد أساء ابن زياد، فترك تصرفه الأهوج في قتل الحسين رضي الله عنه أثراً بالغاً في أيامه ولا نزال نعاني من نتائج قتله حتى اليوم (7)، وسيأتي بيان تفصيل ذلك بإذن الله عند الحديث عن مقتل الحسين رضي الله عنه. وفي سنة 55 هـ قدم أسلم بن زرعة الكلابي خراسان والياً عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان بدلاً من عبيد الله بن زياد والذي ندبه معاوية لولاية البصرة وظل أسلم في ولايته مدة تقارب السنة (8).
رابعاً: سعيد بن عثمان بن عفان: 56 هـ
تروى المصادر التاريخية أن سعيداً بن عثمان بن عفان قد اصطحب معه إلى خراسان حوالي أربعة آلاف رجل فيهم عدد من مشاهير رجالات القبائل العربية في البصرة والكوفة كما كان من ضمنهم حوالي خمسين عابثاً وقاطعاً للطريق من أمثال مالك بن الرِّيب المازني التميمي وهؤلاء تابوا ورجعوا إلى رشدهم وفضلوا الجهاد في سبيل الله (9) ومالك بن الريب هو القائل:
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى
وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا (10)
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ125.
(2) الكامل في التاريخ (2/ 506).
(3) الكامل في التاريخ (2/ 507).
(4) الكامل في التاريخ (2/ 506) الفتوح صـ401.
(5) الفتوح صـ401.
(6) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ135 ..
(7) المصدر نفسه صـ137.
(8) خلافة معاوية للعقيلي صـ139.
(9) خلافة معاوية للعقيلي ص،140.
(10) الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 354).(1/436)
وقدم سعيد خراسان فقطع النهر إلى (سمرقند) وبلغ خاتون ملكة بخاري عبوره النهر، فحملت إليه الصلح الذي صالحت عليه عبيد الله بن زياد وأقبل أهل الصُّغد وكِش ونسف إلى سعيد في مائة ألف وعشرين ألفاً، فالتقوا ببخاري، وقد ندمت خاتون على أدائها الجزية، فنكثت العهد ولكن قسماً من الحشود المجتمعة لقتال سعيد انصرفوا قبل مباشرة القتال، فأثّر انصرافهم في معنويات الآخرين واهتزّت معنوياتهم، فلما رأت خاتون ذلك، أعادت الصلح، فدخل سعيد مدينة بخاري فاتحاً (1)، وطلب سعيد من خاتون أن تبعث إليه بثمانين من أعيان
بلادها ممن كانوا على رأس الخارجين عليها، وممن تخشى غدرهم بها وتهديدهم لعرشها، وتخلّصت بذلك من أشدَّ أعدائها خطراً على عرشها وحاضرها، ومستقبلها، وحين تمَّ الصلح بين خاتون وسعيد، زارت خاتون سعيداً بمقرِّه، فطلعت عليه في زينتها الملكية، وكانت نادرة الجمال على ما يقال، فادّعى أهل بخاري أن القائد المسلم أعجب بجمالها أيّما أعجاب، وجرى ذكر إعجاب سعيد بها في الأغاني الشعبية التي لا يزال أهل بخاري يردِّدونها ويتغنون بها حتى اليوم ولكن هذا الإعجاب لا ذكر له في المصادر العربية الإسلامية المعتمدة، ومن الواضح أنه أقرب إلى خيال الأدباء والفنانين منه إلى حقائق المؤرخين.
وغزا سعيد سمرقند، فأعانته خاتون بأهل بخاري، فنزل على باب سمرقند، وحلف ألاّ يبرح أو يفتحها وقاتل المسلمون أهل سمرقند ثلاثة أيام، وكان أشدّ قتالهم في اليوم الثالث حيث فُقئت عين سعيد، ولزم أهل سمرقند أن يفتح سعيد ذلك القصر عنوة ويقتل من فيه، فطلبوا الصلح، فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، وعلى أن يعطوه رهناً من أبناء عظمائهم، وعلى أن يدخل المدينة ومن شاء ويخرج من الباب الآخر، فأعطوه خمسة وعشرين من أبناء ملوكهم، ويقال: إنهم أعطوه أربعين من أبناء ملوكهم، ويقال: ثمانين (2) وكان معه من الأمراء المهلب بن أبي صُفرة الأزدي وغيره واستشهد معه يومئذ قثم بن العباس بن عبد المطلب، وكان يُشبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم (3)، وكان أخوه عبد الله بن عباس دفن بالطائف وأخوه معبد استشهد بأفريقية وعبيد
_________
(1) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ82، تاريخ الطبري (6/ 224).
(2) فتوح البلدان صـ401 ـ 402 قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ141.
(3) شذرات الذهب (1/ 61) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ 142.(1/437)
الله بالمدينة وكلهم من أب واحد وأم واحدة قال تعالى: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (لقمان، الآية: 34).
هذا وانصرف سعيد بن عثمان إلى (تِرْمِذ) ففتحها صلحاً (1) وقد كان سعيد شاعراً ومن شعره في معاوية قوله:
ذكرت أمير المؤمنين وفضله
فقلت جزاه الله خيراً بما وصل
وقد سبقت مني إليه بوادر
من القول فيه آفة العقل والزلل
فعاد أمير المؤمنين بفضله
وقد كان فيه قبل عودته ميل
وقال: خراسان لك اليوم طعمه
فجوزي أمير المؤمنين بما فعل
فلو كان عثمان الغداة مكانه
لما نالني من ملكه فوق ما بذل (2)
وعزل معاوية سعيد عام 57 هـ، فأخذ سعيد ما لا من خراج خُراسان، فوجّه معاوية من لقبه
بـ ((حلوان)) (3) وأخذ المال منه ومضى سعيد بالرهن الذين أخذهم من أبناء عظماء (سمرقند) حتى ورد بهم المدينة النبوية، فدفع ثيابهم ومناطقهم إلى مواليه، وألبسهم جباب الصوف، وألزمهم السقي والعمل (4)، وألقاهم في أرض يعملون له فيها بالمساحي، فأغلقوا يوماً باب الحائط ووثبوا عليه فقتلوه ثم قتلوا أنفسهم (5)، فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط الأموي (6):
ألا إنّ خير الناس نفساً ووالداً ... سعيد بن عثمان قتيل الأعاجم
فإن تكن الأيام أردت صروفها ... سعيداً فهل حيٌ من الناس سالم؟
وقال أيضتً يرثيه:
يا عين جودي بدمع منك تهتاناً ... وأبكي سعيد بن عثمان بن عفانا
لم يف سعيد لأهل ((سمرقند)) بإعادة الرهن لهم، بل جاء بالغلمان معه إلى المدينة النبوية وجعل يستعملهم في النخيل والطين وهم أولاد الدهاقين وأرباب
_________
(1) فتوح البلدان صـ 402 قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ142.
(2) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ144.
(3) المصدر نفسه صـ143، 144.
(4) فتوح البلدان صـ402 ـ 403.
(5) المصدر نفسه صـ403 قادة الفتح الإسلامي صـ142.
(6) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ143.(1/438)
النِّعم، فلم يطيقوا ذلك العمل وسئموا عيشهم فوثبوا عليه في حائط له، وبذلك غدر بهم (1)، فكان هذا الغدر وبالاً عليه، إذ قدم حياته ثمناً لغدره (2)، لقد كان سعيد شهماً غيوراً يعتد بشخصيته، طموحاً، مُتْرَفاً، سخياً وكان من شخصيات قريش البارزة (3)
خامساً: فتح سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد: 57 هـ
عزل معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان سنة سبع وخمسين الهجرية، وأُضيفت إلى ولاية عبيد الله بن زياد في رواية (4)، وفي رواية أخرى، أن معاوية بن أبي سفيان ولّى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وكان شريفاً، فلم يصنع شيئاً في مجال الفتح، وكان ذلك في سنة 59 هـ (5) ومات معاوية وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد ولما سار سلم إلى خراسان، كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد في العراق ينتخب له ستة ألف فارس، وقيل: ألفي فارس، وكان سلم ينتخب الوجوه، فخرج معه عمران بن الفضيل البُرجُميّ والمهلب بن أبي
صفرة، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وخلق كثير من رؤساء البصرة وأشرافهم، فأخذ سلم هؤلاء الفرسان معه من البصرة، وتجهز ثم سار إلى خراسان (6)، وبدأ سلم بغزو خوارزم، فصالحوه على أربعمائة درهم وحملوها إليه وقطع سلم النهر (جيحون) ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكانت أوّل امرأة عربية عُبر بها النهر، فأتى (سمرقند) فصالحه أهلها (7)
ووجد (خاتون) ملكة بخارى قد نقضت العهد، واستنجدت بجيرانها من الصُّفد، وأتراك الشمال، فجاء طرخون على جيش الصُّفد، كما جاء ملك الترك في عسكر كثيف ولم تؤثر تلك الحشود الضخمة من القوات المعادية في معنويات المسلمين، فحاصروا بخارى دون أن يهجموا عليها، ليقفوا أولاً على تفاصيل قوات أعدائهم ومواضعها، وهي متربصة بهم في ومواضع ليست بعيدة عن بخارى وأمر سلم المهلب بن أبي صفرة الأذدي أن يستطلع أحوال العدو فاقترح المهلب أن يكلف غيره بهذه المهمة، وحجته أنه معروف المكانة بين قومه والمسلمين وقد يفشي تغيبه عن معسكر المسلمين سرّ الواجب الذي أُلقي على عاتقه، وهذا الواجب ينبغي أن يبقى سرّاً مكتوماً حتى يتم إنجازه بسرية تامة وكتمن شديد وحذر بالغ، لأن إفشاءه يعرّض المسلمين لخطر جسيم ولكنّ سلم بن زياد أصرّ على إيفاء المهلب دون غيره في هذا الواجب الحيوي الذي قد يعجز غيره عن النهوض به كما ينبغي، وأرسل معه ابن عمه ورجلاً من كل لواء من ألوية المسلمين، وأشترط المهلب على سلم إلا يبوح لأحد من الناس كائناً من كان بمهمته، ثم مضى إلى سبيله ليلاً مع جماعته الاستطلاعية، فكمن في موضع مستور، واستطلع قوات العدو دون أن
_________
(1) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ143.
(2) المصدر نفسه صـ143.
(3) الكامل في التاريخ (2/ 514).
(4) النجوم الزاهرة (1/ 149)، قادة الفتح الإسلامي صـ148.
(5) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ148.
(6) الكامل في التاريخ نقلا عن قادة الفتح الإسلامي صـ149.
(7) قادة الفتح الإسلامي صـ149، فتوح البلدان صـ149 ..(1/439)
يشعر العدو بموضعه المخفيّ المستور، ويبدو أن قوم المهلب والمسلمين افتقدوا المهلب في صلاة الفجر من تلك الليلة التي تسلل بها المهلب إلى موضع قريب من العدو، فما كان تغيب مثله أن يخفى على أحد وهو ليس مجهول المكان والمكانة يملأ الأعين قدراً وجلالاً، فألحّوا على سلم بالسؤال عن المهلب وألحفوا عليه، فلم يستطع أن يكتم أمره وأخبرهم أنه أرسله في مهمة استطلاعية ليلاً، وفشا الخبر بسرعة خاطفة في العسكر، فأسرع جمع من المسلمين بالركوب وتوجّهوا صوب موضع المهلب المستور، فكشفوا موضعه وموضع رجاله للعدو، وأبصرهم المهلب مقبلين نحوه يتسابقون بدون نظام ولا تنظيم فلامهم أشد اللوم على ما أقدموا عليه، لأنهم كشفوا موضع جماعته
الاستطلاعية للعدو دون مسوِّغ، فعرّضهم لخطر محدق أكيد، وأصبح موقف المهلب ومن معه من المسلمين في خطر داهم فبذل المهلب قصارى جهده لمعالجة موقفه الخطير وتدارك ما يمكن تداركه، وأحصى المهلب المسلمين الذين التحقوا به
متطوّعين، فكانوا تسعمائة من الفرسان المجاهدين، فقال لهم: والله لتندمُّن على ما فعلتم، وحدث ما توقعه المهلب، فما كاد ينظِّم المسلمين صفوفاً، حتى هاجمهم الترك وأبادوا منهم أربعمائة فارس مجاهد، ولاذ الباقون منهم على قيد الحياة بالفرار وأحيط بالمهلب ومن بقي معه من جماعته(1/440)
الاستطلاعية ذات العدد المحدود، ولكنه ثبت ثباتاً راسخاً لا يتزعزع عن موضعه، فالموت بالنسبة لأمثاله أهون عليهم من الفرار، وصاح المهلب بصوته الجهوريّ القوي مستغيثاً بالمسلمين، فسُمع صوته من معسكر المسلمين القريب، الذي كان على نصف فرسخ من موضعه المواجه للعدو، وبادر فوراً إلى نجدته من قومه الأزد، فشاغلوا الترك ريثما أقبل المسلمون خفافاً لنجدته على عجل بقيادة سَلْم، ونشب القتال بين الجانبين، فقاتل المسلمون الترك حين هزموهم هزيمة نكراء حيث هربوا منساحة المعركة مخلِّفين أموالهم وأثقالهم فغنمها المسلمون حتى أصاب كلّ فارس ألفين وأربعمائة درهم في رواية وعشرة آلاف درهم في رواية أخرى، وطارد المسلمون الترك المنهزمين، فلم ينج منهم إلا الشريد، وكان من بين القتلى (بندون) أو (بيدون) الصُّغدي ملك الصُّغد ,اعادت خاتون الصُّلح من جديد مع سلْم، فاستعاد فتح بخاري (1)، وبعث سَلْم وهو بالصّغد جيشاً من المسلمين إلى ((خُجَنْدة)) وفيهم الشاعر أعشى همدان، فهزم المسلمون فقال الأعشى:
ليت خيلي يوم الخُجَنْدة لهم يهزم
وغودرت في المكرِّ سَلِيْبَا
تحضُرً الطيرُ مصرعي وتروحت
إلى الله في الدماء خصيبا (2)
وكان عمّال خراسان قبل سَلْم يغزون، فإذا دخل السِّتاء رجعوا إلى ((مزوا الشَّاهجان))، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خُوارِزم، فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضاً، ويتشاورون في أمورهم. فلما قدم سَلْم غزا فشتا في تلك السنة، فألحّ عليه المهلّب بن أبي صفرة وسأله التوجه إلى تلك المدينة، فوجّهه في ستة آلاف، وقبل: أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا أن يصالحهم على أن يغدو أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك وصالحوه على نيِّف وعشرين ألف درهم، وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضاً، فكان يأخذ الرأس والدّابة بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف درهم (3)، وعاد سلم إلى (مَرْو) بعد جهاد هذه السنة الذي استمرّ سنتي إحدى وستين الهجرية واثنتين
_________
(1) تاريخ بخاري للنرشخي صـ65 ـ 67 نقلاً عن قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ152.
(2) فتوح البلدان صـ581، الكامل في التاريخ (2/ 584).
(3) الكامل في التاريخ (2/ 584).(1/441)
وستين الهجرية، ويبدو أنه قطع النهر ثانية في سنة ثلاث وستين الهجرية (1)، لأنه علم بأنّ الصُّغد قد جمعت له،
فقاتلهم وقتل ملكهم (2)، ولكنه عاد مسرعاً إلى (مرو) ليعالج مشاكل المنطقة الداخلية، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم (3)، فقد مات يزيد بن معاوية سنة أربع ستين فبويع بعده معاوية بن يزيد بن معاوية فلم يمكث إلا ثلاثة اشهر حتى هلك، وقيل: بل ملك أربعين يوماً ثمّ مات (4)،
وقيل غير ذلك، ولم بلغ سلم موت يزيد بن معاوية كتم ذلك، ولكنّ الخبر انتشر بين الناس في خُراسان انتشار النار في الهشيم، فمثل هذا الخبر يستحيل كتمانه مدة طويلة، ولما علم سلم بانتشار خبر موت يزيد بين الناس، أظهر موت يزيد وابنه معاوية، ودعا الناس إلى البيعة على الرضى حتى يستقيم أمر الناس على خليفة، فبايعوه ثمّ نكثوا بعد شهرين، وكان سلم محسناً إليهم محبوباً فيهم، ولكن قسما من القبائل العربية خلعوه عصبية وتعصباً وفتنة، فلم يجد أهل خُراسان أميراً قد حبهم مثل سَلْم بن زياد (5)، ولكن قائلهم قال: بئس ما ظنّ سَلْم، إن ظنَّ أنه يتأمر علينا في الجماعة والفتنة (6)، ووثب أهل خُراسان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، ووقعت الحرب (7)، ونسب الاقتتال بين القبائل العربية، وأصبحت خراسان مناطق في كل منطقة قائد وأمير، وتساقطت القتلى بين المسلمين بالسيوف، وتوقف الفتح وتوجه سَلْم إلى عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة (8).
سادساً: فتوحات السند في عهد معاوية:
تمكن المسلمون في عهد معاوية رضي الله عنه من بسط نفوذهم إلى ما وراء نهر السند، ففي سنة 44 هـ غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتى بَنَّة (9)، ولاهور،
_________
(1) قادة الفتح الإسلامي صـ152.
(2) فتوح البلدان صـ582.
(3) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ152.
(4) الكامل في التاريخ (2/ 605) ..
(5) الكامل في التاريخ (2/ 622).
(6) فتوح البلدان صـ582.
(7) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر صـ153.
(8) فتوح البلدان صـ582، قادة الفتح الإسلامي صـ154.
(9) بَنَّة: مدينة بكابل، ياقوت: ومعجم البلدان (2/ 500).(1/442)
وهما بين المًلتان (1)، وكابل، وأما في مستهل سنة 45 هـ فقد أرسل والي البصرة عبد الله بن عامر: عبد الله بن سوّار العبيدي إلى ثغر السند على رأس حملة قوامها أربعة آلاف رجل، ولم وصل ابن سوّار إلى مدينة مكران، بقي هناك أربعة أشهر يعدّ نفسه وجنده للحملة المرتقبة. ثم تقدم وجماعته نحو بلاد القيقان (2)، وفتحها، وكانت هديته إلى معاوية رضي الله عنه خيلاً قيقانية (3) سلّمها بنفسه إليه في
الشام، فأصل البرازين القيقانية من نسل تلك الخيول (4). وعلى أية حال، فلم يدم المقام لابن سوّار طويلاً في ثغر السند فقد قتلته جماعة من الترك هناك في سنة 47 هـ (5)، وفي سنة 48 هـ اختار زياد بن أبي سفيان سنان بن سلمة بن المُحَبَّق الهذلي ليكون والياً على الاقاليم المفتوحة من ثغر السند وما أن وصل سنان إلى هناك حتى تمكن من فتح مدينة مكران ((عنوّة)) ومصَّرها وأقام بها وضبط البلاد (6). ولكن سنان لم يمكث هناك سوى سنة أو سنتان ثم عزله زياد. وولى مكانه راشد بن عمرو الأزدي، فأتى مكران ثم تقدم في بلاد القيقان، فظفر، ثم اتجه نحو الميد، فقتل هناك (7)، وبعد ذلك تولَّى عباد بن زياد بن أبي سفيان أمر سجستان فقاد حملة توغل فيها في منطقة حوض نهر السند فنزل كِشْ، ثم سار إلى قُنْدُهار (8):
فقاتل أهلها فهزمهم، وفتحها بعد أن أصيب رجال من المسلمين (9)، وكان آخر الولاة الذين تولوا أمر الفتوحات في هذا الجزء هو المنذر بن الجارود العبدي أبو الأشعث والذي وصل ثغر السند معيناً عليه من قبل عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والي البصرة سنة 62 هـ فقاد المنذر حملة ضد مدينة قُصدار (10)، وتمكن من فتحها (11).
_________
(1) المُلتان: مدينة من نواحي الهند قرب غزنة: أهلها مسلمون.
(2) القيقان: بلاد قرب طبرستان معجم البلدان (4/ 423).
(3) فتوح البلدان صـ432.
(4) تاريخ خليفة صـ207، خلافة معاوية بن أبي سفيان للعقيلي صـ142.
(5) تاريخ خليفة صـ207، خلافة معاوية بن أبي سفيان للعقيلي صـ142.
(6) فتوح البلدان صـ432.
(7) المصدر نفسه صـ432.
(8) معجم البلدان (4/ 402) ..
(9) فتوح البلدان صـ433.
(10) معجم البلدان (4/ 353).
(11) فتوح البلدان صـ433، خلافة معاوية للعقليل صـ143.(1/443)
المبحث الرابع: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات معاوية رضي الله عنه:
أولاً: أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين:
كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين، فقد بين المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى: ((مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا
يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة، الآيتان: 120 ـ 121).
وقد تلعموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه قال تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) (التوبة، الآيات: 19 ـ 22).
واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى: ((قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)) (التوبة، الآية: 52)، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي قال تعالى: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ(1/444)
الْمُؤْمِنِينَ)) (آل عمران، الآيات: 169 ـ 171)، وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى: ((فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)) (النساء، الآيات: 74 ـ 76).
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين فضل الجهاد فألهبت أحاديثه مشاعرهم وعواطفهم وفجرت طاقاتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمن يجاهد بنفسه وماله (1)، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات المجاهدين فقال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة (2). وقد وضح صلى الله عليه وسلم فضل الشهداء وكرامتهم فقال: انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرّية ولوددت أني اقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم اقتل ثم أحيا ثم أقتل (3) وقال صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من
شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة (4). وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث، فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد تقدم بهم العمر فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو، لأنهم معذورون فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو (5).
_________
(1) البخاري رقم 2786.
(2) البخاري رقم 2790.
(3) مسلم (3/ 1497).
(4) البخاري رقم 2817.
(5) الجهاد في سبيل الله للقادري (1/ 145).(1/445)
كما كان للعلماء والفقهاء والزهاد دور كبير في تربية الناس على هذه الآيات والأحاديث ومن هؤلاء العلماء كبار الصحابة كأبي أيوب الأنصاري، وابن عمر، وغيرهم ومن التابعين كأبي مسلم الخولاني، يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية، فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات بلاد الشام والشمال الأفريقي وخراسان وسجستان والسند، وترتب على قيامهم بهذه الفريضة ثمرات كثيرة منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية، القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم، ظهور صدق الدعوة للناس الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا فيزداد المسلمون بذلك عزّاً والكفار ذُلاً وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم وأسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته (1).
ثالثاً: من سنن الله في فتوحات معاوية:
يلاحظ الباحث في دراسته للفتوحات في عهد معاوية بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن:
1 ـ سنة الله في الاتحاد والاجتماع:
كانت الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه أكبر معوق أصاب حركة الفتوحات بعد الردة أيام أبي بكر رضي الله عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا أن تداركتها رحمة الله ـ سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنهما وقد امتلأت المصادر بالنصوص التي تبين أثر الفتنة في انحسار حركة الجهاد (2) ومن هذه الآثار:
ـ عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء وقطعت فيها الأرحام وقطعت السبل، وعُطلت الفروج ـ يعني الثغور (3).
ـ ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي بإسناده قال: لما قتل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية، ولا صائفة حتى اجتمعت الأمة على معاوية (4).
_________
(1) الجهاد في سبيل الله (2/ 411 ـ 482).
(2) مرويات خلافة معاوية صـ310.
(3) الطبقات: يحقيق السُّلمي (1/ 331).
(4) مرويات خلافة معاوية صـ310.(1/446)
ـ قول أبي بكر المالكي: فوقعت الفتنة .. واستشهد عثمان رضي الله عنه، وولى بعده علي رضي الله عنه، وبقيت إفريقية على حالها إلى ولاية معاوية رضي الله عنه (1)، ولكن بعد الصلح وما ترتب عليه من الاتحاد والاجتماع عادت حركة الفتوحات إلى ما كانت عليه وأصبحت في عهد معاوية على ثلاث جبهات كما مر معنا. إن الاتحاد والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله مقصد من مقاصد الشريعة وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله واستمرار حركة الفتوحات، فالأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، لأن هذه الخطوة مهمة جداً في إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم (2) فحركة الفتوحات بين الانطلاق والتوقف مرهون بتحقيق سنة الاتفاق والاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والخلاف والشقاق قال تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعا .. ))
2 ـ سنة الأخذ بالأسباب:
قال تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)) (الأنفال: 60) وقد قام معاوية رضي الله عنه بالعمل بهذه الآية وحث ولاته على العمل بها ويظهر أخذ معاوية رضي الله عنه بسنة الأخذ بالأسباب، في اهتمامه ببناء الأسطول البحري وتطويره، وتقوية الجيش، والقضاء على الفتن الداخلية، ودعم الثغور، وأماكن الرباط والتخطيط الاستراتيجي للدولة في سياستها الداخلية والخارجية، والتكتيك العسكري، في نظام المعسكرات ونظام الرباط والثغور، والصوائف والشواتي، وبناء الحصون، ونظام التعبئة، وتوطين القبائل، لنشر الإسلام وتثبيت الفتوحات والتصدي لحركات التمرد، فبعدما زال خطر الهجوم العسكري من الفرس قام بتوطين عشرات الألوف من الأسر العربية في الجناح الشرقي من الدولة خاصة خراسان وقد نجحت هذه السياسة وأتت ثمارها في هذا الجناح (3).
_________
(1) رياض النفوس (1/ 27).
(2) خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي صـ359.
(3) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ119.(1/447)
3 ـ سنة التدافع:
قال تعالى: ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) (البقرة، أية:251) وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً، وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين
للأمة الإسلامية، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به. إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية (1).
4 ـ سنة الابتلاء:
قال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) (البقرة، آية: 214). وقد وقع البلاء في حصار القسطنطينية وتعرض الكثير من المسلمين للقتل وفي فتوحات الشمال الإفريقي، واستشهاد القادة كعقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار، وغيرهم، فهذه سنة الله في العقائد والدعوات فلا بد من الأذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر، واعتزام (2).
5 ـ سنة الله في الظلم والظالمين:
قال تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) (هود، الآيات: 100ـ102). وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة، وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود (3)، وكذلك نفوذ الدولة البيزنطية من الشام ومصر، وتزعزع وجودها في الشمال الإفريقي وما جاء عهد الوليد بن عبد الملك حتى زال نفوذها من الشمال الإفريقي كلياً.
_________
(1) لقاء المؤمنين، عدنان النحوي (2/ 117).
(2) تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين للصّلاّبيّ صـ456.
(3) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد صـ119ـ121.(1/448)
6 ـ سنة الله في المترفين:
قال تعالى: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) (الإسراء، آية:16). وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها، أي: متنعميها وجبّاريها وملوكها، ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكها، وإنما خص الله المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع، لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم، فكان توجه الأمر إليهم آكد (1)، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم في بلاد فارس وزعماء الروم في الشام ومصر والشمال الأفريقي
7 ـ سنة الله في الطغيان والطغاة: قال تعالى ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) ((الفجر، آية:14)) والاية وعيد للعصاة مطلقاً، وقيل: وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم (2). وفي تفسير القرطي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به (3)، وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا، فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت منهم أحد من عقاب الله (4). وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا، إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لا يحابي أحداً، قال تعالى في بيات المعتبرين بسنته في الطغاة ـ بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء عقاب ـ: ((فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)) (النازعات، الآيتان:26،25)، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس، وزعماء الروم في في مصر والشام مضت فيهم سنة الله.
8 ـ سنة التدرج
خضعت الفتوحات الإسلامية لسنة التدرج ويعتبر الحصار الأول والثاني للقسطنطينية مرحلة مبكرة لفتح القسطنطينية على عهد السلطان العثماني محمد الفاتح، فالأعمال التي قام بها المسلمون ضد الدولة البيزنطية قبل محمد الفاتح ساهمت في عمل تراكمي توّج بفتح القسطنضيه في عهد العثمانيين.
_________
(1) تفسير الآلوسي (15/ 42).
(2) السنن الإلهية صـ193.
(3) تفسير القرطي نقلا عن السنن الإلهية صـ193.
(4) السنن الإلهية صـ194.(1/449)
9ـ سنة الله في الذنوب والسيئات: قال تعالى: ((أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)) (الأنعام، آية:6)
وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها وأزال ملك الروم من مصر والشام وليبيا بسببها، وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب والمعاصي تهلك أصحابها، وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم (1)، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس والروم عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه وحققت أهدافه
10ـ سنة تغير النفوس: قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (الرعد، آية:11).
وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون بإحسان في فتوحات الشام ومصر والشمال الأفريقي وبلاد المشرق، بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله. فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة.
رابعاً: التخطيط الاستراتيجي للفتوحات عند معاوية رضي الله عنه:
خضعت الفتوحات في عهد معاوية للتخطيط الدقيق والمحكم، فقد كانت سياسته في الفتوحات كالآتي:
1ـ سياسته تجاه الروم:
فقد سلك الخطوات التالية:
أـ التركيز على عمليات الصوائف والشواتي، من أجل تحقيق عدة أهداف منها:
ـ استنزاف قوة الروم.
_________
(1) السنن الإلهية صـ210.(1/450)
ـ انتزاع زمام المبادرة من الروم، وجعلهم في حالة دفاع مستمر (1).
ـ أرغام الروم على توزيع قواتهم بحيث لا يستطيعون القيام بهجمات حاسمة وقوية ضد الدولة الإسلامية (2).
ب ـ مهاجمة الروم في عقر دارهم ومحاصرة عاصمتهم، وما يترتب على ذلك من إضعاف معنوياتهم، وقذف الرعب في قلوبهم.
جـ ـ تقليص النفوذ البحري للروم عن طريق فتح الجزر الواقعة في بحر الشام (3)، وما يترتب على ذلك من حرمان سفن الروم من قواعدها البحرية الهامة.
2 ـ سياسته في جبهة الشمال الإفريقي:
أـ أولى معاوية رضي الله عنه جبهة المغرب اهتماماً خاصاً تمثل بارتباط هذه الجبهة به شخصياً، حيث كان معاوية رضي الله عنه المرجع المباشر لقادة هذه الجبهة إلى سنة 47 هـ، وهي السنة التي ضُمت فيها جبهة المغرب إلى والي مصر (4)
ب ـ عمل معاوية رضي الله عنه على إقامة قاعدة جهادية متقدمة في قلب بلاد المغرب وقد قام عقبة بن نافع ببناء القيروان لكي تكون عزاً للإسلام والمسلمين.
3 ـ سياسته في جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر:
أـ استعانة معاوية رضي الله عنه بفاتح سجستان وخراسان أيام عثمان رضي الله عنه، وهو عبد الله بن عامر رضي الله عنه وتكليفه، بإعادة فتحها مرة أخرى.
ب ـ العمل على تثبيت الحكم الإسلامي، ونشر دعوة الإسلام في هذه المنطقة عن طريق إسكان خمسين ألف من العرب بعيالهم في خراسان (5).
خامساً: الشورى في إدارة حركة الفتوحات:
عند انتقال الخلافة إلى معاوية رضي الله عنه كان مجلس الشورى لديه يتألف من كبار أعيان عصره وولاته ومعاونيه الذين يتصفون بالبلاغة والسياسة وحسن
_________
(1) فن الحرب الإسلامي بسام العسلي (1/ 233).
(2) المصدر السابق (1/ 233).
(3) المصدر السابق (1/ 211).
(4) ولاة مصر صـ61، النجوم الزاهرة (1/ 175).
(5) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ364، 365.(1/451)
التدبير في أمور الإدارة العسكرية، وكان من هؤلاء عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي كان مشهوراً بالصفات السابقة، مما جعل الخليفة معاوية يعتمد عليه كالوزير المدبر لدولته والمشير ومنهم أيضاً زياد بن أبيه ولم تكن الوزارة في عهد بني أمية مقننة القواعد ولا مقررة القوانين، وكان ذوو الآراء من مستشاري الخليفة يقومون مقام الوزراء، وكان الواحد منهم يسمى كاتباً أو مشيراً (1) إضافة إلى ذلك كان الخليفة معاوية يعتمد في إدارته العسكرية على مشورة قادة وأمراء القبائل وخصوصاً التي بالشام، فقد كان يقربهم ويدني مجلسهم ويستشيرهم، وسار قادة معاوية بن أبي سفيان سيرته بمبدأ المشورة في إدارتهم العسكرية للمعارك الحربية (2).
سادساً: مركزية القيادة والإمداد في إدارة معاوية:
عندما انتقلت الخلافة إلى بني أمية أصبحت دمشق مقر الخلافة ومركز القيادة العليا للإدارة العسكرية، فكان الخليفة بها هو الذي يقرر السياسة الحربية كما كان مسئولاً عن الحرب والسلم فكان التنظيم الإداري العام للجيش أمراً من الأمور المركزية التي يشرف الخليفة مباشرة عليها (3)، وذلك بالرغم من وجود عمال الولايات والأقاليم الذين كان لهم مطلق السلطات والتي منها قيادة الجيوش بأنفسهم أو تعيين القادة المناسبين من قبلهم ووضع الخطط لهم وإمدادهم وتموينهم ومن أمثلة هؤلاء زياد بن أبيه وابنه عبيد الله (4)، فمن مركزية القيادة لإدارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في تعيين القادة أنه كتب إلى واليه بالبصرة زياد بن أبيه يأمره
أن يوجه إلى خراسان رجلاً يقوم بأمرها فولى زياد الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه، وكتب له عهده على خراسان وولاه حربها، وخراجها وسار إليها بمن يريد الجهاد في سبيل الله، من المتطوعة من أهل البصرة، إضافة إلى الجند النظامي أصحاب الديوان، فوضع لهم الأرزاق، وأعطاهم وقواهم وسار لما أمر به (5). ومن مركزية القيادة العليا في إدارة معاوية العسكرية تسيير الجيوش والإمدادات العسكرية لها، فنرى القائد، علقمة بن يزيد
_________
(1) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/ 280).
(2) الفتوح، ابن أعثم (1/ 340)، الإدارة العسكرية (1/ 280).
(3) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/ 314).
(4) المصدر نفسه (1/ 314).
(5) الفتوح لابن أعثم (2/ 318).(1/452)
الغطيفي كتب إليه قائلاً: إنك خلفتني بالإسكندرية وليس معي إلا اثنا عشر ألفاً ما يكاد بعضنا يرى بعض من القلة فكتب إليه الخليفة معاوية: إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة الآف من أهل المدينة، وأمرت معن بن يزيد السلمي أن يكون بالرملة في أربعة الآف مسكين بأعنة خيولهم متى يبلغهم عنك فزع يعبروا إليك (1).
سابعاً: الألوية والرايات:
حين انتقلت الخلافة إلى معاوية تعددت الألوية والرايات في إدارتهم العسكرية، كما تعددت ألوانها كاللون الأخضر والأحمر والأبيض بالرغم من اتخاذهم اللون الأبيض شعاراً ورمزاً لخلافتهم (2)، فمنذ عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لا نرى جيشاً يخرج ويسير نحو العدو إلا ويعقد لقائه لواء أو راية تكون لهم شعاراً ورمزاً يسيرون خلفها ويذودون عنها فنرى الواحد يصرع تلو الآخر وكل همه بقاءها منصوبة (3)، وكان القادة من الشجاعة والإقدام ما جعلهم يكونون أكفاء لحمل هذه الراية مثل عقبة بن نافع والحكم بن عمرو الغفاري وفضالة بن عبيد الله، وقد جعل والي العراق من قبل الخليفة معاوية زياد بن أبيه خروج القبائل على الرايات، ويبدو أن الغاية من ذلك معرفة مدى جدية كل منها في القتال والتزامها بالأوامر (4).
ثامناً: اهتمامه بالعيون والبريد:
كان اهتمام معاوية رضي الله عنه بأمر المخابرات وجمع المعلومات على الأعداء قديماً منذ كان أميراً على بلاد الشام وتطور جهاز المخابرات لما تولى الخلافة، وزاد اهتمامه به، ففي عهده أسر رجل من المسلمين بالقسطنطينية وأهين ببلاطهم فاستغاث وا معاوياه: لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا فوصل الخبر إليه عن طريق جواسيسه المتواجدين بأرض الروم فقام بفدائه وبأسر من أهانه وجعل المسلم يقتص منه بمثل ما أهانه وأن لا يزيد وهذا دليل على مدى دقة نظام
المخابرات في إدارته (5). ولقد ذكرت القصة فيما مضى بالتفصيل، كما قام الخليفة رضي الله عنه
_________
(1) فتوح مصر صـ192، الخطط للمقريزي (1/ 268).
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/ 368).
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن الإدارة العسكرية (1/ 368).
(4) تنظيمات الجيش للجنابي صـ227، الإدارة العسكرية (1/ 369).
(5) نهاية الأرب (6/ 158) الإدارة العسكرية (1/ 405).(1/453)
بفرض رقابة دقيقة ومحكمة على أفراد الحاميات وأسرهم وعين موظفاً في كل حامية ليتحرى عن الداخلين والخارجين حتى لا يتسلل عين للعدو إلى أرض المسلمين فتعرفوا على مواقع معسكراتهم ونقاط الضعف بها إن وجدت (1). وفي إدارته أنشأ ديوان البريد وأعتنى به عناية فائقة وذلك لتسرع إليه أخبار البلاد من جميع أطرافها بما في ذلك أخبار الثغور، ولم يكن للبريد ديوان قبل ذلك (2)،
وأما علاقة صاحب البريد بالإدارة العسكرية فقد كان عبارة عن عين الخليفة الباصرة وأذنه السامعة ينقل إليه أخبار عماله وقادته وسائر رجال دولته فكان له عيون يوافونه بكل جديد كما كان البريد واسطة بين الولاة والخلفاء والقادة لنقل الأوامر العسكرية وكان أصحاب البريد رقباء ومفتشين من قبل الدولة يرفعون التقارير عن أحوال الجند في مختلف حالات القتال وفي كل الظروف والأوقات ويخبرونه بحال المال والعطاء وذلك أنه يوكل بمجلس عرض الأولياء وأعطياتهم من يراعيه ويطالع ما يجري فيه ويكتب بما يقف عليه من الحال في وقته، إضافة إلى ذلك كان من واجبات صاحب البريد مساعدة الإدارة العسكرية في التموين والإمداد وحفظ الطرق وصيانتها من الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر وإليه كانت ترد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف فيقوم بتوصيلها بوجه السرعة من اختصار للطرق واختيار المراكب لمعرفته بالطرق والمسالك إلى جميع النواحي وكان الخليفة يجد عنده ما يحتاج إليه من المعرفة عند إنفاذ جيش وغيره وقت الحاجة إلى ما هنالك من مهام قام البريد بتأديتها في الإدارة العسكرية (3)، على الجملة كان يقال للبريد جناح المسلمين لما كان يطير به من الأخبار (4).
تاسعاً: اهتمام معاوية بالحدود البرية للدولة:
حين انتقلت الخلافة إلى معاوية زاد الاهتمام والاعتناء بهذه التحصينات لحماية الحدود الإسلامية وبخاصة إذا علمنا أن المؤسس الأول للدولة الأموية معاوية رضي الله عنه قد قام بتولي حملات الصوائف والشواتي بنفسه حين كان قائداً
_________
(1) الجندية للدقدوقي صـ177.
(2) خطط الشام، محمد كرد (5/ 19) ..
(3) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/ 406).
(4) ثمار القلوب للثعالبي صـ241، الإدارة العسكرية (1/ 407).(1/454)
ووالياً للخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما كما أسند إليه في خلافتيهما إنشاء وترميم بعض الحصون الدفاعية على الحدود الإسلامية كما سبق وأشرنا مما جعله ملماً بهذه الثغور والتحصينات، فأستكمل ما بدأه حين استقرت بيده
الخلافة، فقام ببناء وتحصين مرعش والحدث من ثغور الجزيرة وأسكنها الجند وكان يتعهدهما باستمرار (1)، واتخذ معاوية رضي الله عنه لتحصين المدن الساحلية سياسة التهجير أو النواقل بنقل قوم من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها، ونقل من الزط وأساورة البصرة والكوفة وفرس وبعلبك وحمص إلى ثغر أنطاكية (2)، وولى القائد عبد العزيز بن حاتم الباهلي أرمينية وأذربيجان فبنى مدينة دبيل (3)، وعمل عدة تحصينات دفاعية كما بنى مدينة النشوي (4) ورم مدينة برذعة (5)، وجدد بناء البيلقان (6)، إلى ما هنالك من تحصينات دفاعية قام بإنشائها (7)، كما قلد الوالي زياد بن أبيه القائد الربيع بن زياد الحارثي (8)، ثغر خراسان وأرسل معه من المصرين ((الكوفة ـ البصرة)) زهاء خمسين ألفا من الجند بعيالاتهم وأسكنهم ما دون النهر لحماية حدود الدولة الإسلامية هنالك (9)،
ويظهر لنا اهتمام زياد بأمر الثغور في قوله لحاجبه وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع وذكر منها: ورسول صاحب ثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي (10)، وسأل زياد جلساءه عن أنعم الناس عيشاً؟ فأجابوه قائلين أنت أيها الأمير فقال: فأين ما يرد علي من الثغور والخراج (11). وهذا يبين مدى ما كان يلقاه زياد من عناء الثغور في إدارتها والإشراف على أمرها لحفظها وسدها ومما أثر عن زياد أيضاً قوله: أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي عض على
_________
(1) الإدارة العسكرية (2/ 473).
(2) كان ذلك في عام 42 هـ فتوح البلدان (1/ 139).
(3) مدينة بأرمينية تتاخم أران كان ثغراً.
(4) النشوي: مدينة بأذربيجان، معجم البلدان (5/ 286).
(5) برذعة: في أقصى أذربيجان، معجم البلدان (1/ 379).
(6) بيلقان: في أرمينية الكبرى قريبة من شروان معجم البلدان (1/ 533).
(7) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 474).
(8) المصدر نفسه (2/ 474).
(9) كان ذلك سنة 51 هـ الإدارة العسكرية (2/ 474) ..
(10) الأوائل للعسكري نقلاً عن الإدارة العسكرية (2/ 475).
(11) المحاسن والمساويء صـ269.(1/455)
ناجذه. الثغر والصائفة والشرط والقضاء (1)، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه في إدارته لثغر مصر من قبل معاوية لا يحمل له من الخراج إلا الشيء اليسير وينفق جل الأموال على التحصينات وعطاء الجند المرابطين بالثغر (2)، واهتم معاوية بأمر الصوائف والشواتي حيث كانت تخرج في كل عام في وقتها المحدد لها لأداء مهمتها المنوطة بها وكان يختار لها
كبار القواد والأمراء، وكانوا يتمنون إدارتها ويعدون ذلك شرفاً وفخراً لهم فمن ذلك قول الخليفة معاوية لابنه يزيد: يا بني إن أمير المؤمنين قد بسط أملك فأذكر حاجتك فطلب منه مطالب كان أولها قوله: يجعل أمير المؤمنين غزو الصائفة العام إليّ لأفتح أمري بتجهيز الجيوش في سبيل الله (3)، ومن أبرز الولاة والقادة الذين تولوا إدارة حملات الصوائف والشواتي في عهد معاوية لعدة مرات هم سفيان بن عوف الغامدي الأزدي، ومالك بن هبيرة السكوني (4)،
وكان أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قبل أن يعين القادة على هذه الحملات يجري لهم إختباراً لمعرفة مدى حصافة القائد الإدارية ومن الذين كان يعتمد عليهم من قادته سفيان بن عوف الغامدي لخبرته الإدارية وقد توفي وهو بالصائفة يدير أعمالها وحين بلغ الخبر معاوية تأثر وكتب إلى أمصار وأجناد المسلمين ينعاه، وكان معاوية إذا رأى خللاً في الصوائف قال: واسفياناه ولا سفيان لي (5)، وكان معاوية رضي الله عنه لا يقصر في اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحماية حدود وأراضي الدولة الإسلامية والدفاع عنها (6).
عاشراً: إهتمام معاوية بالأسطول والحدود البحرية:
عندما قامت الدولة الأموية استكمل معاوية رضي الله عنه ما بدأه في بناء القوة البحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية بإقامة المراكب للغزو إلى جانب ترتيب الحفظة في السواحل مما استولى عليه المسلمون من قواعد ومنشآت بحرية، وعندما خرجت الروم في عهده إلى السواحل الشامية أمر بجمع الصناع من النجارين
_________
(1) تاريخ اليعقوبي، الإدارة العسكرية (2/ 475).
(2) فتوح مصر صـ102.
(3) أنباء نجباء الأبناء صـ106 لابن ظفر المالكي، الإدارة العسكرية (2/ 476).
(4) الإدارة العسكرية (2/ 477)، الإصابة (3/ 237) ..
(5) تهذيب تاريخ دمشق (6/ 185) الإدارة العسكرية (2/ 477).
(6) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 478).(1/456)
فجمعوا ورتبهم في السواحل الشامية وجعل مقر دار صناعة السفن في جند الأردن بعكا وكما هو معلوم أن بلاد الشام غنية بالأخشاب التي تعتبر من أجزاء السفن الأساسية يومئذ (1)، كما أنشأ الخليفة معاوية أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54 هـ في عهد واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، وكان مقرها بجزيرة الروضة لذا عرفت بإسم صناعة الروضة (2)، وكان قادة بحرية الخليفة معاوية ذوي خبرة وفن ببناء السفن الحربية فقد كلف أحدهم بمهمة عسكرية نحو الروم وطلب منه قائلاً: أنشيء مركباً يكون له مجاديف في جوفه واستعمله للسفر إلى بلاد الروم (3)، أي
بعمل فتحات جانبية للمجاديف (4)، وبلغت السفن الحربية في عهد معاوية رضي الله عنه نحواً من ألف وسبعمائة سفينة شراعية مشحونة بالرجال والسلاح وجميع العتاد، والمستلزمات القتالية البحرية (5)، وبذلك نجد أن معاوية رضي الله عنه قد أدرك بصائب رأيه أن سواحل الشام ومصر لا ينجيها من غزوات الروم إلا إيجاد هذا الأسطول الإسلامي التي يحافظ على الحدود البحرية ويغزو سواحل الروم الحين بعد الحين حتى يرتدع العدو ويحسب لهم ألف حساب (6).
وأخذ الأسطول الإسلامي في عهد معاوية في فتح الجزر الواقعة بالبحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى والتي منها جزيرة رودس (7)، بقيادة القائد جنادة بن أمية الزهراني الأزدي (8)، حيث فتحها ـ كما مر معنا ـ عنوة وكانت غيضة في البحر وهي من أخصب الجزائر بالمنطقة وأنزلها قوماً من المسلمين بأمر الإدارة العليا المركزية واتخذ بها حصناً وناطوراً يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد، وكان المسلمون بها على جزر من الروم وكان الخليفة معاوية يعاقب بين الجند فيها ولم يجمرهم وأدر عليهم الأرزاق والعطاء وكان الجند المقيمون بها أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر ويأخذون سفنهم
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 478).
(2) حسن المحاضرة (2/ 378) للسيوطي، الإدارة العسكرية (2/ 543).
(3) نهاية الأرب (6/ 186).
(4) الإدارة العسكرية (2،544).
(5) خطط الشام (5/ 37) محمد كرد علي.
(6) الحدود الإسلامية لبيزنطة (1/ 237) فتحي عثمان ..
(7) رودس: جزيرة ببلاد الروم مقابل الإسكندرية.
(8) الاستيعاب (1/ 243)، الأعلام للزركلي (2/ 140).(1/457)
وقد خافهم العدو (1) واستمر في فتح الجزر وشحنها بالجند المرابطين وأصبحت قواعد بحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية (2)، وأخذت حملات الصوائف والشواتي البحرية تجوب البحر وتمخر في عبابه في عهد معاوية رضي الله عنه وتسير جنباً مع جنب مع شقيقتها الحملات البرية حيث كانت تخرج من مصر والشام لتحمي سواحل المنطقة البحرية وتولى قيادتها كبار القادة المشهورين كالقائد يزيد بن شجرة الرهاوي وموسى بن نصير، وبسر بن أبي أرطأة العامري، وجنادة بن أمية الزهراني، وعقبة بن عامر وغيرهم من القادة، وسار خلفاء بني أمية من بعد الخليفة معاوية على سنته وأصبح الأسطول الإسلامي في نمو مطرد وأكثروا من إنشاء سفنه وتفننوا في إتقانه وجهزوه بالأدوات والمعدات الملاحية والقتالية، ورتبوا عليه الجند والقواد وزودوه بالتموين اللازم والأرزاق وظلت صوائفه وشواتيه تقلق الروم في كل عام وتهدد سواحلهم وحدودهم البحرية (3).
الحادي عشر: الاهتمام بديوان الجند والعطاء:
استمر ديوان الجند في أداء مهامه المناطة به وحدث به تطور بسبب كثرة الفتوحات وإتساع رقعة الدولة الإسلامية فقد أصبح ديوان الجند مؤسسة كبيرة حظيت باهتمام الخلفاء وولاتهم ومر بعدة مراحل تطويرية خلال هذه الفترة، فعندما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة تقاعس بعض الجند عن الحرب في بداية إدارته العسكرية إثر الفتن والصراعات الداخلية، فتمكن بحسن إدارته ودهائه بالإغلاق عليهم في العطاء حتى تمكن مرة أخرى من إلزامهم مرة أخرى بالجندية وتأليف القلوب (4)، وقرب إليه زعماء القبائل وقد بلغ عدد الجند النظامي الذين يستلمون العطاء في بداية العصر الأموي نحواً من ثمانين ألف جندي بالبصرة، وستين ألفاً بالكوفة وبمصر أربعون ألفاً وبالشام نحوا من ذلك، هذا سوى من في باقي الأقاليم الأخرى من جند كفارس وما وراء النهر وغيرهما من الأقاليم وأمصار الدولة الإسلامية (5)، كما كان بالكوفة من أبناء العجم زهاء عشرين ألف
_________
(1) النجوم الزاهرة (1/ 144) الإدارة العسكرية (2/ 545).
(2) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 545).
(3) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 546).
(4) المصدر نفسه (2/ 643).
(5) فتوح البلدان صـ102، الإدارة العسكرية (2/ 644).(1/458)
رجل فرض لهم وكانوا يسمون الحمراء (1)، وبالبصرة ألفا رجل من سبي بخاري كلهم جيد الرمي بالنشاب فقد ألحقهم الخليفة معاوية بالخدمة العسكرية وفرض لهم العطاء، وقد ولي كتابة الجند في إدارة الخليفة معاوية المركزية بدمشق عمرو بن سعيد بن العاص، هذا بالإضافة إلى دواوين الجند المحلية بالأقاليم الإسلامية المحلية الأخرى التي تتحمل مهام الإدارة العسكرية المحلية (2)،
وظل دور أمر العرفاء والنقباء سائراً ومستمراً كما كان في السابق، وذلك لاعتماد الإدارة عليهم في الشئون العسكرية والمالية وبخاصة في توزيع العطاء على الجند، فقد كان الخليفة معاوية يدفع إلى العرفاء العطاء وكان لكل قبيلة عريف يأخذ أعطيتهم ويدفعها إليهم (3)، هذا مع ما يقومون به من التعرف على أحوال الجند وأخبارهم ورفع التقارير عنهم للإدارة العليا (4)، وقد طور زياد الهيكل التنظيمي العسكري للعرفاء، فجعل الناس في البصرة أخماساً وجعل على كل خمس رجلاً كما جعل في الكوفة أرباعاً على قيادة عشرة جنود في القتال، بل أصبحوا مسئولين عن النواحي الأمنية ومثيري الشغب والفتن والقلاقل داخل قبائلهم ومعسكراتهم، فكانوا حلقة الاتصال في الإدارة العسكرية بين القبائل العربية في الأمصار الإسلامية وبين السلطات الإدارية للدولة فيما يختص بتثبيت أسماء الجند في الدواوين وتوزيع العطاء عليهم واستدعائهم عند الحاجة، وقد حل
أولئك العرفاء في القوة والنفوذ محل رؤساء القبائل والعشائر وكان اختيارهم يتم من بين ذوي النفوذ ليستطيعوا أداء واجباتهم تجاه الإدارة العسكرية (5) ومثال على ذلك ما قام به زياد حيث خطب في أهل البصرة وهددهم بقطع العطاء إذا لم يكفوه الخوارج حيث قال: يا أهل البصرة والله لتكفني هؤلاء أو لأبدأنّ بكم والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم (6). كما استخدمت الزيادة في العطاء للقادة والجند المتجاوبين والمنفذين للأوامر تشجيعاً
_________
(1) الأخبار الطوال صـ228 نقلاً عن الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 644).
(2) التراتيب الإدارية (1/ 229)، الإدارة العسكرية (2/ 644) ..
(3) نسب قريش صـ154، الإدارة العسكرية (2/ 645).
(4) خطط الشام (5/ 7).
(5) تنظيمات الجيش صـ223، الإدارة العسكرية (2/ 646).
(6) تاريخ الطبري، نقلا عن الإدارة العسكرية (2/ 646).(1/459)
وحث لهم على المضي قدماً في مهامهم ومناصبهم العسكرية المسئولين عنها (1)، كما فعل معاوية مع أشراف أهل الشام.
الثاني عشر: الأثر العلمي والاقتصادي الاجتماعي للفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه:
ومن الظواهر العلمية التي زادت إزدهاراً في عهد معاوية طائفة القصاص،، وقد كانوا ينتشرون بين الجند كالقراء يقصون عليهم أمجاد أسلافهم ويلقون عليهم الشعر الحماسي فتجيش له همم العسكر فيسارعون للقتال، وقد كان الخطباء والوعاظ يقومون بنفس المهمة كما يقوم بها القراء والقصاص والشعراء لينشروا في الجند روح الفداء ويرفعوا من روحهم المعنوية القتالية (2)، وسلك الخليفة معاوية في وصاياه وتوجيهاته العلمية للأمراء والقادة والجند على منوال من سبقه من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فعندما عين عبيد الله بن زياد على ثغر خراسان كان من نماذج وصاياه قوله: اتق الله ولا تؤثرن على تقوى الله شيئاً (3) ... وقد سبق الحديث عن وصيته لعبيد الله، ومن الآثار العلمية للحضارة الإسلامية في عهد معاوية أنه حينما فتح جزيرة رودس كان ممن اشترك في فتحها مجاهد بن جبر المقريء، فكان مقيماً بها يقريء الناس القرآن ويفقههم في الدين في المسجد الذي بني فيها اثناء الفتح، وهذا أنموذج ومثال من ألوف النماذج والأمثلة حيث أن هذا الأثر العلمي لا يقتصر على جزيرة رودس بل شمل كافة الأمصار والشعوب الإسلامية (4) ومن الآثار الاقتصادية والإجتماعية للفتوحات أن والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه وغيره من الولاة في عهد معاوية رضي الله عنه كانوا يبعثون إليه بأموال الخراج بعد أن يستقطعوا منها ما ينفق على الأراضي الزراعية بمصر لاستصلاحها من الخلجان والقناطر والجسور وحملا القمح إلى الحجاز لتفريقه وتوزيعه
على سكان الحرمين الشريفين، كمعونة لهم (5)،
وكان بالجزيرة مكان الروضة قبل أن تبنى بها دار صناعة السفن في عهد معاوية خمسمائة عامل
_________
(1) المحاسن والمساوي صـ464، الإدارة العسكرية (2/ 467).
(2) الفن الحربي صـ117، نقلاً عن الإدرة العسكرية (2/ 718).
(3) تاريخ الطبري (6/ 213).
(4) الإدارة العكسرية (2/ 719).
(5) فتوح مصر صـ102، حسن المحاضرة (1/ 151) ..(1/460)
مستعد لأي حريق يكون في البلاد أو هدم للإعانة في الكوارث وتقديم الخدمات الاجتماعية لأهل المنطقة (1)، ومن التكافل الاجتماعي في عهد معاوية مراعاته لأبناء الشهداء في إدارته ورعاية شئونهم والفرض لهم (2)، فقد كان يقول لجلسائه: يا هؤلاء، إنما سميتم أشرافاً لأنكم شرفتم على من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول أفرضوا لولده (3)، وعندما أذن معاوية رضي الله عنه لعبد الله بن صفوان بن أمية بالدخول عليه والمثول بين يديه طلب من معاوية أن يفرض للمنقطعين من ديوان العطاء، كما ذكّره بأن لا يغفل عن قواعد قريش والبر إليهم، وأن يقدم لهم الخدمات الاقتصادية والإجتماعية التي تكفل لهم الحياة الرغدة (4)، ومن الآثار الحضارية للفتوحات في النواحي الاقتصادية والاجتماعية استمرارية معاوية في توطين الجند بالثغور وإقطاعهم القطائع والأراضي والمساكن بها وشقه للأنهار وجلبه للمياه. فقد أمر عسكره المقيم بجزيرة رودس بأن يزرعوا ويتخذوا بها أمولاً ومواشي يرعونها حولها (5).
الثالث عشر: كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه:
حدثت كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه منها ما كان لأبي مسلم الخولاني والتي مرّ ذكرها وما حدث لعقبة رحمهما الله، حينما نادى الوحوش والدواب وطلب منها الرحيل، فرحلت بإذن الله تعالى حيث قال: فارحلوا عنّا فإنّا نازلون ومن وجدناه بعد هذا قتلناه، فنظر الناس بعد ذلك إلى أمر مُعْجِب، من أن السباع تخرج من الشَّعْراء (6) وهي تحمل أشبالها سمعاً وطاعة، والذئب جرْوَه، والحية تحمل أولادها. ونادى في الناس: كُفُّوا عنهم، حتى يرحلوا عنها، فخرج ما فيها من الوحش والسباع والهوامّ والناس ينظرون إليها، حتى أوجعهم حرُّ الشمس، فلمَّا لم يروا منها شيئاً، دخلوا، فأمرهم أن يقطعوا الشجر، فأقام أهل أفريقية ـ بالقيروان ـ بعد ذلك أربعين عاماً لا يرون بها
_________
(1) حسن المحاضرة (2/ 378)، الإدارة العسكرية (2/ 773).
(2) مروج الذهب (3/ 39، 40) الإدارة العسكرية (2/ 774).
(3) مروج الذهب (3/ 39، 40) الإدارة العسكرية (2/ 774).
(4) نسب قريش صـ389، الإدارة العسكرية (2/ 774).
(5) الفتوح لابن أعثم (1/ 354) الإدارة العسكرية (2/ 775).
(6) أي من الشجر.(1/461)
حيَّة، ولا عقرباً، ولا سَبُعاً: فاختط عقبة أولاً دار الإمارة، ثم أتى إلى موضع المسجد الأعظم فاختَّطه، ولم يُحدث فيه بناء. وكان
يصلي فيه وهو كذلك فاختلف الناس عليه في القبلة وقالوا: إن جميع أهل المغرب يضعون قِبلتهم على قبلة هذا المسجد، فأجهد نفسك في تقويمها، فأقاموا أيّاماً ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس، فلمَّا رأى أمرهم قد اختلف بات مغموماً، فدعا الله ـ عز وجل ـ أن يُفرَج عنه، فأتاه آت في منامه فقال له: إذا أصبحت فخذ اللواء في يدك، واجعله على عُنُقك.
فإنك تسمع بين يديك تكبيراً لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك، فانظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير فهو قبلتك ومحرابك، وقد رضي الله لك أمر هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة، وسوف يعز الله بها دينه، ويذل بها من كفر به، فاستيقظ من منامه وهو جزع، فتوضأ للصلاة، وأخذ يصلي وهو في المسجد ومعه أشراف الناس، فلما انفجر الصبح وصلى ركعتي الصبح بالمسلمين إذا بالتكبير بين يديه، فقال لمن حوله: أتسمعون ما أسمع؟ فقالوا: لا، فعلم أنَّ الأمر من عند الله، فأخذ اللواء فوضعه على عُنُقه، وأقبل يتبع التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب فانقطع التكبير فركز لواءه وقال: هذا محرابكم فاقتدى به سائر مساجد المدينة ثم أخذ الناس إليها المطايا من كل أُفق وعظم قدرها ... وكان عقبة خير والٍ وخير أمير، مستجاب الدعوة (1) وفي هذه القصة عبرة بليغة فيما حدث من عقبة حينما نادى تلك الوحوش والدواب فاستجابت له وغادرت ذلك المكان وهذه كرامة من الله تعالى يكرم بها أولياءه لما يريد بهم نصر الإسلام ونشره في الأرض، حيث أسمع تلك الدواب كلام عقبة وأوقع في قلوبها الخوف منه، وقدَّر لها أن تسمع وتطيع كما لو كانت ذات عقل وإدراك وقد رأى ذلك قبيل كبير من البربر فاسلموا، كما ذكر ابن الأثير في روايته (2).
هذا وقد حمل بعض الباحثين هذا الخبر على أنه من الأساطير التي نسجها الرواة حول عقبة، وعللواهذا الخبر بأن تلك الدواب فزعت لما سمعت ضجيج
_________
(1) البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب (1/ 19 ـ 21) الكامل في التاريخ (2/ 484) فتوح مصر صـ133 والقصة صحيحة الإسناد.
(2) فتوح مصر صـ133، التاريخ الإسلامية (13/ 249).(1/462)
الجيش الإسلامي فحملت أولادها وولَّت هاربة، وهذا التأويل من عجائب بعض الباحثين حيث يُغفلون تفكيرهم الصحيح من أجل ردِّ مالا يؤمن به العقل المجرد، كما أنهم يستغفلون المؤرخين الذين رووا هذه الحادثة وأمثالها على أنها من الأمور الخارقة للعادة، ويتهمونهم بالسذاجة لتحويلهم الوقائع المعتادة في حياة الناس إلى ما يشبه الأساطير، فإن التفكير الصحيح يرى أن التأويل الذي اعتمدوه لا ينسجم مع العقل السليم، لأن الوحوش والدواب البرية إذا تعرضت للفزع تأوي إلى حجورها الآمنة لتسخفي بها ولا تلجأ إلى الهرب حتى لا تتعرض للأذى مما فزعت منه، ثم إنه لو حصل خلاف الغالب من المعتاد فهربت تلك الدواب من أمر عادي وهو فزعها
من الجيش لم يكن هناك ما يدعو إلى عجب البربر وانبهارهم الذي حملهم على الدخول في الإسلام من أجل ذلك، ولم يكن في ذلك ما يحمل طائفة من المؤرخين على رواية هذه الحادثة الغريبة وقد جاء في إحدى روايات ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد قال: فحدثني زياد بن العجلان: إن أهل أفريقية اقاموا بعد ذلك أربعين سنة ولو التُمست حية أو عقرب بألف دينار ما وجدت (1)، وعبرة أخرى في تلك الرؤيا التي رآها عقبة بن نافع في أمر تحديد القبلة وما تلا ذلك من سماعة التكبير الذي لم يسمعه من حوله، وهذه كرامة أخرى لهذا الولي الصالح فرج الله تعالى بها عن المسلمين كربة كانوا يعانون منها من عدم مقدرتهم على تحديد القبلة بدقة، وهذا هو أحد المقاصد التي تظهر فيها الكرامات على أيدي أولياء الله الصالحين، وقد كان عقبة مستجاب الدعوة، فاستجاب الله تعالى دعاءه في تفريج همه وهموم المسلمين في هذا الأمر (2).
وأهل السنة والجماعة يثبتون الكرامات للصالحين: فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر الله به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياءه كراماتهم لحاجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك، وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد
_________
(1) فتوح مصر صـ133، التاريخ الإسلامية (13/ 249).
(2) التاريخ الإسلامي (13/ 249).
(3) مجموع الفتاوي (11/ 274).(1/463)
تكون بسبب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج، أتاه منها ما يقوي إيمانه أو يسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة (1). ومن عقيدة أهل السُّنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء (2).
الرابع عشر: قسمة الحكم بن عمرو الغفاري للغنائم في غزو جبل الأسل بخراسان:
عن عبد الرحمن بن صبح، قال: كنت مع الحكم بن عمرو بخراسان، فكتب زياد إلى عمرو، إن أهل جبل الأشل سلاحهم اللبود (3)، وآنيتهم الذهب (4)، فغزاهم حتى تواسطوا،
فأخذوا بالشعاب والطرق، فأحدقوا به، فعيَّ (5) بالأمر فولى المهلب الحرب، فلم يزال المهلب يحتال حتى أخذ عظيماً من عظمائهم، فقال له: اختر بين أن أُقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق، قال له: أوقد النار حيال الطريق لتسلكوه فإنهم يستجمعون لكم، ويعرون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى غيره فإنهم لا يدركونك حتى تخرج منه، ففعلوا ذلك، فنجا وغنموا غنيمة عظيمة (6)، وعن عبد الرحمن بن صبح قال: كتب إليه زياد: والله لئن بقيت لك لأقطعن منك طابقاً سحتاً (7)، وذلك أن زياداً كتب إليه لما ورد بالخبر عليه بما غنم: إن أمير المؤمنين كتب إلى أن أصطفى له صفراء وبيضاء (8)،والروائع (9)، فلا تحركن شيئاً حتى تخرج ذلك (10)، فكتب إليه الحكم: أما بعد، فإن كتابك ورد، تذكر أن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له كل صفراء وبيضاء والروائع، ولا تحركن شيئاً، فإن كتاب الله عز وجل قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السماوات والأرض رتقاً (11)
على عبد اتقى الله عز وجل جعل الله سبحانه وتعالى له مخرجاً، وقال
_________
(1) المصدر نفسه (11/ 283).
(2) الانحرافات العقدية والعلمية (1/ 508).
(3) اللبود: هو الالتصاق بالأرض: أي يكمنون لعدوهم.
(4) وهذا دلالة على غناهم وثراهم.
(5) عيَّ، وعيي: عجز: القاموس المحيط 1697.
(6) الكامل في التاريخ (2/ 476).
(7) لأقطعن منك طابقاً سحتاً: أي لأستأصلن ما خبث من كسبك.
(8) الصفراء والبيضاء: هما الذهب والفضة.
(9) الروائع: المقصود بها في هذا المقام، ما أعجبك وسرك من الغنائم.
(10) الرتق: ضد الفتق، وهو الالتحام، لسان العرب (10/ 114).
(11) الرتق: ضد الفتق، وهو الالتحام، لسان العرب (10/ 114) ..(1/464)
للناس: اغدوا على غنائمكم، فغداً الناس، وقد عزل الخمس، فقسم بينهم تلك الغنائم، قال: فقال الحكم: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني، فمات بخراسان بمرو (1). إن خبر قسمة الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه الغنائم بين أفراد جيشه ذكره ابن عبد البر (2)، وابن الجوزي (3)، وابن الأثير (4)، وابن كثير (5)، وتتفق هذه المصادر حول طلب معاوية رضي الله عنه اصطفاء الذهب والفضة وعدم قسمتها بين الجيش ـ لكنها لم تورد هذا الخبر بأسانيد صحيحة ـ وزاد بن كثير أن معاوية رضي الله عنه طلب أن يرسل الذهب والفضة إلى بيت المال (6)، وهنا يجدر التذكير بأن مصارف الغنيمة في الإسلام قد بينها الله سبحانه وتعالى في قوله: ((واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل)) (الأنفال: 41). وهذا يعني أن أربعة أخماس الغنيمة يقسم بين الجيش، ويبقى خمس الغنيمة فيقسم كما ورد في الآية السابقة وهذا الحكم لا يخفي على معاوية رضي الله عنه، كما أن دين معاوية وعدالته تمنعه من رد حكم الله سبحانه وتعالى (7)، وبالرجوع إلىرواية الطبري نلاحظ أن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه لم يبادر إلى قسمة الغنائم بين الجيش على الفور ـ مع وضوح حكم الشرع في ذلك ـ بل دارت بينه وبين زياد مراسلات في شأن الغنائم، وهذا التأخير في قسمة الغنائم يقودنا إلى عدة احتمالات يمكن من خلالها إزالة الغموض الوارد في الرواية وهذه الاحتمالات هي:
1 ـ رغبة معاوية رضي الله عنه في أن يكون خمس الغنيمة ـ الذي يتولى إمام المسلمين قسمته ـ من الذهب والفضة.
2 ـ رغبة معاوية رضي الله عنه في حمل ما غنم المسلمون من ذهب وفضة قبل تخميسه وقسمته ـ إلى الهند وبيعه هناك (8) بقيمة مرتفعة ثم يخمس ثمنه بعد ذلك، وفي ذلك خير للجميع (9).
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 167).
(2) الاستيعاب (1/ 357).
(3) المنتظم (5/ 230).
(4) الكامل في التاريخ (2/ 476).
(5) البداية والنهاية (11/ 217).
(6) البداية والنهاية (11/ 217).
(7) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ351، 352 هذه الفقرة كلها من هذا الكتاب القيم.
(8) ذكر الدكتور خالد الغيث حفظه الله مبحث مهم في مسألة الغنائم والحكم بن عمرو الغفاري فنقلته من انظر: مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ352.
(9) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ352.(1/465)
3 ـ وجود نقصٍ طارئ في بيت مال المسلمين، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يقترض ما غنمه جيش الحكم رضي الله عنه إلى أجل معلوم، وتأخير قسمة الغنائم بين الجيش إلى وقت لاحق (1).
ومن الدروس المهمة إن ثبتت الرواية التزام الحكم بن عمرو الغفاري بمبدأ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وتمسكه بأداء الأمانة في قسمة الغنائم، ولم يغل منها شيئاً ووزعها على العسكر بعد أن عزل الخمس (2)،
هذه أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات في عهد معاوية.
الخامس عشر: استشهاد صلة بن أشيم وابنه بسجستان عام 62 هـ:
صلة بن أشيم هو الزاهد، العابد، القدوة، أبو الصهباء العدويُّ البصري، زوج العالمة معاذة العدوية، وكان صلة له مواقف في المجتمع الإسلامي مؤثرة ومن هذه المواقف، عن ثابت قال: جاء رجل إلى صلة بنعي أخيه، فقال له: أدن فكل، فقد نُعي إليَّ أخي منذ حين، قال تعالى: ((إنك ميت وإنهم ميتون)) (الزمر، الآية: 30)، وكان صلة له كرامات منها، عن حمّاد بن جعفر بن زياد أنّ أباه أخبره، قال: خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة، فنزلوا
فقلت: لأَرمُقَنَّ عمله، فصلَّى ثم اضطجع، فالتمس غفلة الناس، ثم وثب، فدخل غَيْضَةً، فدخلتُ فتوضَّأ وصلّى، ثم جاء أسد حتى دنا منه، فصعدت شجرة، أفتراه التفت إليه حتى سجد؟ فقلت: الآن يفترسه فلا شيء، فجلس ثم سلَّم فقال: يا سبع اطلب الرِّزق بمكان آخر، فولىّ وإن له زئيراً أقول: تصدّع منه الجبل فلمّا كان الصبح فجلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللَّهم إني أسألك أن تُجيرني من النار، أو مثلي يَجتَرِئُ أن يسألك الجنَّة (3)، وعن العلاء بن هلال، أن رجلاً قال لصلة: يا ابا الصهباء رأيت أني أعطيت شهدة، وأعطيت شهدتين فقال: تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد، لقيتهم الترك بسجستان،
_________
(1) مرويات خلافة معاوية صـ352.
(2) المصدر نفسه صـ352.
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 499).(1/466)
فانهزموا. وقال صلة: يا بُنيَّ ارجع إلى أمك. قال: يا أَبَة، تريد الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال: فتقدَّمْ، فتقدَّم، فقاتل حتى أصيب، فرمى صلةُ عن جسده، وكان رامياً، حتى تفرَّقوا عنه، وأقبل حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قُتل (1)،
وعن حمّاد بن سلمة: أخبرنا ثابت أنّ صلة كان في الغزو، ومع ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى احتسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتل، ثم تقدَّم صلة فقتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كنتنّ جئتنَّ لتُهنَّئنني، وإن كنتنَّ جئتُنَّ لغير ذلك فارجعنَّ (2) وكانت الملحمة التي استشهد فيها سنة 62 هـ (3).
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 500) رجالة ثقات ..
(2) طبقات ابن سعد (7/ 137)، سير أعلام النبلاء (3/ 498).
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 500).(1/467)
المبحث الخامس: ولاية العهد ووفاة معاوية رضي الله عنه:
أولاً: بداية التفكير ببيعة يزيد:
يُحمَّل كثير من الباحثين، المغيرة بن شعبة، المسئولية عن بيعة يزيد بن معاوية، وذلك باعتباره العقل المدبر، وصاحب الفكرة الأولى، حين عرض على معاوية بأن يتولى يزيد الخلافة من بعده، وتكفل بالدعوة ليزيد وتهيئة أهل الكوفة لتقبل خبر اختيار يزيد لولاية العهد وكل من اتهم المغيرة بن شعبة، كان حجته في ذلك تلك الرواية التي أوردتها بعض المصادر القديمة ومفادها: أن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ دخل على معاوية واستعفاه من ولاية الكوفة فأعفاه، وأراد معاوية أن يولي بدلاً منه سعيد بن العاص، فبلغ ذلك أحد الموالين للمغيرة، وتأثر المغيرة عند ذلك، وتمنى العودة للإمارة، فقام فدخل على يزيد وعرّض له بالبيعة، فأخبر
يزيد والده بما قال له المغيرة، فاستدعى معاوية المغيرة بن شعبة وأمره بالرجوع والياً مرة أخرى على الكوفة وأن يعمل في بيعة يزيد (1)، وأسانيد هذه الرواية ضعيفة، فسند هذه الرواية لا يشجع على قبولها أو الاستئناس بها بأي حال من الأحوال، كما أن المغيرة رضي الله عنه صحابي جليل تمّ التعريف به في موضعه من هذا الكتاب وقد توفي عام 50 هـ (2) قبل ظهور فكرة ولاية العهد عند معاوية، حيث بدأت هذه الفكرة في الظهور في عهد زياد بن أبيه على العراق وقد صرّح الطبري بأن معاوية إنما دعا إلى بيعة يزيد سنة 56 هـ (3)، فلماذا تأخر كل هذه السنين إذا كان المغيرة قد شرع في التمهيد لهذه الفكرة قبل موته (4).
_________
(1) الإشراف في منازل الأشراف لابن أبي الدنيا صـ121 إسناد ضعيف، تاريخ الطبري (6/ 220) إسناده ضعيف جداً، تاريخ الذهبي حوادث (61 ـ 80 هـ) صـ272 إسناده ضعيف جداً.
(2) تاريخ الطبري (6/ 150).
(3) تاريخ الطبري (6/ 219) انظر: مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية صـ84 إلى 87.
(4) مواقف المعارضة في خلافة صـ87.(1/468)
ثانياً: الخطوات التي اتبعها معاوية لبيعة يزيد:
1 ـ المشاورات: لم نعثر في المصادر التاريخية على تحديد دقيق لتلك الفترة التي بدأ فيها معاوية رضي الله عنه يفكر تفكيراً جدياً في تولية ولده يزيد من بعده خليفة المسلمين. ولكنه بالتأكيد لم يفكر إلا بعد سنه الخمسين من الهجرة، وذلك بعد أن خلت الساحة من وجود الصحابة الكبار المبشرين بالجنة من أمثال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن يزيد بن عمرو، وبعد وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهم جميعاً، وبعد أن عرف يزيد عند قيادته لجيش المسلمين الذي حاصر القسطنطينية، وبعدها أصبح معاوية يهيء الأمور لترشيح يزيد للخلافة، وكان من الطبيعي يستشير زياد بن أبيه بعدما أصبح أخاً له، وصار يقال له: زياد بن أبي سفيان، وولاه العراق، ولنسمع إلى رواية الطبري لهذه الاستشارة، وماذا صنع زياد (1)، قال الطبري: لما أراد معاوية أن يبايع ليزيد، كتب إلى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقال إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع وإن الناس قد أبدعت (2) بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخره يرجو ثواباً ورجل دينا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، وقد عجمتهما (3) منك، فأحمدت الذي قبلك. وقد دعوتك لأمر
اتهمت عليه بطون الكتب (4): إن أمير المؤمنين كتب إليّ يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد، وهو يتخوّف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني. وعلاقة أمر الإسلام، وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رَسْلة (5)، وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدياً عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقال له: رويدك بالأمر فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركاً في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفَوْت.
فقال عبيد له: أفلا غير هذا قال: ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقِّت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سراً من معاوية فأخبره عنك أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخوَّفُ
_________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 189).
(2) أي: أضربهم.
(3) أي: خبرتهما.
(4) أي خائف من ذيوعه إذا هو كتبه.
(5) الرسة: الكسل.(1/469)
خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما يُنقَمُ عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، أشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغَشّ وأبعد بك إن شاء الله من الخطاءِ قال: أتقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم. فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكاتب زياد إلى معاوية يأمره (1)،بالتؤدة، وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية وكفّ يزيد عن كثير مما كان يضع (2).
إن تحليل هذا النص يكشف لنا عن الحقائق التالية:
أـ إن بداية الفكرة كانت من معاوية وأنه كان يدرك أنه كان يقدم على أمر خطير، لا بل على حدث لم يسبق إليه، ولهذا اصطفى زياداً للاستشارة وزياد هو الذي قال عنه الأصمعي: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلة، وزياد لكل صغيرة وكبيرة. وقد أشار عليه زياد بالتؤدة فقبل. ولهذا لم يُقدم معاوية على الأمر الخطير إلا بعد وفاة زياد (3). قال الطبري: لما مات زياد، دعا معاوية بكتاب فقرأه على الناس باستخلاف يزيد، إن حدث به حدث الموت، فيزيد ولي عهد، فاستوثق (4) له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة (5).
ب ـ إن معاوية لم يكن يريد حين الاستشارة الاكتفاء بالعهد، وإنما أراد الناس على مبايعة يزيد وهو حي، وهو حدث جديد أيضا لم يعهد من قبل، لأن الناس لم يبايعوا عمر إلا بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه.
جـ ـ إن زياداً قد أحس خطورة الأمر، فلم يشأ بادئ الأمر أن يكتب لمعاوية بنصيحته، بل أراد أن يحمّلها لرسول خاص وهو ((عبيد الله بن كعب النميري)) ليؤديها عنه إلى معاوية شفهياً وفي ذلك من الحيطة الشيء الكثير، لئلا يشيع خبر الكتاب، فيحدث ما لا يحمد. ولهذا قال لعبيد: ولهذا دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف.
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 221). يأمره هنا: يشير إليه.
(2) تاريخ الطبري (6/ 221).
(3) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 191).
(4) استوثق له الناس: اجتمعوا على رأيه.
(5) تاريخ الطبري (6/ 221).(1/470)
ح ـ إن معاوية كان يتخوف نفرة الناس، فليس العهد لولد الخليفة والخليفة حي ... بالأمر اليسير.
خ ـ إن زياداً كان يخشى على الأمة من يزيد، ولذلك يقول: وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد. ولهذا أيضا نرى في جواب عبيد له أن سيلقى يزيد وينقل إليه: أن زياداً يرى ترك ما ينقم عليه وبذلك: يسلم ما تخاف من علاقة.
س ـ إن زياداً كتب أخيراً إلى معاوية، ولكن لينصحه بالتؤدة وألا يعجل فقبل ذلك معاوية (1).
ـ وممن شاورهم معاوية رضي الله عنه الأحنف بن قيس، فقد روي أن معاوية لما نصبّ ولده يزيد لولاية العهد، أقعده في قبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين: اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ قال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك الله عن الطاعة خيراً، وأمر له بألوف فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر أني لأعلم أن شر من خلق الله سبحانه وتعالى هذا وأبنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فليس نطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحنف: أمسك عليك، فأن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها (2).
2 ـ الحملات الإعلامية:
ومن التمهيدات الإعلامية الناجحة التي قدمها معاوية رضي الله عنه لابنه توليته أميراً على الجيش الذي وجهه إلى غزو القسطنطينية وبعد أن رجع من الغزو ولاه إمارة الحج، ولكنه كان يتخوف نفرة الناس ويتهيب من بعض المعارضين (3)، ولذلك
_________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 192).
(2) الشهب اللامعة في السياسة النافعة صـ458.
(3) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ104.(1/471)
كان يواصل إعداد العدة للأمر، ويستشير ولاته ورجال دولته ويستعين بهم في تذليل العقبات وتهيئة الأجواء لأخذ البيعة ليزيد ومما يذكر
في هذا الجانب، أن الشاعر ربيعة بن عامر الدارمي المعروف ب ((مسكين الدارمي))، وكان مما يؤثره يزيد ويصله، أنشد في مجلس معاوية، وكان المجلس حافلاً ويحضره وجوه بني أمية فقال:
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ... ومروان أم ماذا يقول سعيد
بني خلفاء الله مهلاً فإنما ... يبوئها الرحمن حيث يريد
إذا المنبر الغربي خلاّه ربُّه ... فإن أمير المؤمنين يزيد
فقال معاوية، ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله ولم يتكلم أحد من بني أمية إلا بالإقرار والموافقة (1)
3 ـ قبول أهل الشام لبيعة يزيد:
أدرك معاوية رضي الله عنه حرص أهل الشام على بقاء الخلافة فيهم، فقد حسم أهل الشام أمرهم وأصبح خيارهم في ولاية العهد ليزيد ووجدوا فيه ضالتهم لاستمرار صدارتهم في الدولة الإسلامية ولم يكن أهل الشام يستغربون فكرة توريث الخلافة كما كان يستغربها أهل الحجاز، فقد عهدوها من قبل إبان حكم البيزنطيين لهم، بل إن بعض أهل العراق أيضا كانوا فيما يبدو مهيئين لتقبل فكرة توريث الخلافة ولكن من منظور خاص، حيث يرون أحقية أهل البيت بها واستمرارها فيهم وقد تأثروا في ذلك بنظام الحكم الساساني للفرس قبل الفتح الإسلامي لهذه البلاد (2)، إن أهل الشام استجابوا لرغبة معاوية في تولية يزيد ولياً لعهده من بعده وكان ذلك بعد رجوع يزيد من غزوة القسطنطينية، وقد أدى طرح هذه الفكرة إلى قبول وإجماع من أهل الشام بالموافقة على بيعة يزيد، ولم يكن هناك أي معارض (3)، وقد أسهم أهل الشام فيما بعد في أخذ البيعة ليزيد من الأمصار الأخرى مثل الحجاز (4).
_________
(1) الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 455)، دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ104.
(2) مسند أحمد (2/ 325) الموسوعة الحديثية حسن لغيره.
(3) تاريخ خليفة صـ211، مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ89.
(4) تاريخ فلسطين، هاني أبو الرب صـ319، 320، البيان والتبيين (1/ 392).(1/472)
4 ـ بيعة الوفود:
عقد معاوية رضي الله عنه اجتماعاً موسعاً في دمشق بعد ما جاءت الوفود من الأقاليم وكانت هذه الوفود تضم مختلف رجالات القبائل العربية، فمثلاً من بلاد الشام: الضحاك بن قيس الفهري، ثور بن معن السلمي (1)، عبد الله بن عضاة الأشعري، عبد الله بن مسعدة الفزاري،
عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، حسان بن مالك بن بحدل الكلبي (2) وغيرهم، كما حضر عن أهل المدينة عمرو بن حزم الأنصاري ـ وذلك في وقت متأخر ـ وحضر عن أهل البصرة الأحنف بن قيس التميمي، ثم تكلم كل زعيم من هؤلاء الزعماء ورحبوا بالفكرة وأثنوا عليها وأكدوا أن هذه هي الطريقة الأصوب لحقن الدماء وحفاظ الألفة والجماعة (3)، فحصلت المبايعة ليزيد بولاية العهد على أن الشيء المؤكد أن عمرو بن حزم الأنصاري لم يحضر هذا الاجتماع وذلك لأحد أمرين:
الأمر الأول: هو أن أهل المدينة لم يوافقوا في الأصل على البيعة وعارضوها بشدة فلم يرسلوا في موعد الوفود أحد.
الأمر الثاني: هو أن معاوية قد رفض الالتقاء بعمرو بن حزم وما ذلك إلا لأنه بلغه معارضة أهل المدينة، وعرف أن عمرو بن حزم مندوب عن أولئك المعارضين، فخشي إن حضر الاجتماع سوف يشتت الآراء، ويحدث بلبلة من خلال معارضته ولهذا استجاب له أخيراً فالتقى به على انفراد وحصل بالفعل ما كان يظن معاوية ولكن معاوية تقبل الانتقاد وأجزل له العطاء (4) وكان ذلك بعدما عزل رأي ابن حزم عن الوفود.
5 ـ طلب البيعة من أهل المدينة:
مثلما أرسل معاوية رضي الله عنه إلى الأقاليم يطلب منهم البيعة ليزيد أرسل إلى المدينة يطلب من أميرها أخذ البيعة ليزيد (5) فقام مروان بن الحكم أمير المدينة خطيباً فحض الناس على الطاعة وحذرهم الفتنة ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال
_________
(1) مختصر تاريخ دمشق (3/ 386).
(2) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ89.
(3) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ90.
(4) مجمع الزوائد (7/ 248، 249) صحيح الإسناد.
(5) العقد الفريد (4/ 370، 372) مواقف المعارضة صـ98.(1/473)
مروان سنة أبي بكر الراشدة المهدية واستدل على ذلك بولاية العهد من أبي بكر لعمر، فرد عليه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم (1)، ونفى أن تكون هناك مشابهة بين هذه البيعة وبيعة أبي بكر وقال: فقد ترك أبو بكر الأهل والعشيرة وعمد إلى رجل من بني عدي بن كعب إذ رأى أنه لذلك أهل فبايعه. ثم قال: هذه البيعة شبيهة بيعة هرقل وكسرى ثم حدث بينه وبين مروان نزاع (2)، وجاء في رواية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاثة بين سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر أو سنة عمر .. ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية كلما مات قيصر كان قيصر (3)، فقال مروان:
خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه (4)، فقال: إن هذا الذي أنزل الله فيه ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي)) (الاحقاف، الآية: 17) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري (5).
وقد سبق طلب مروان بن الحكم من أهل المدينة البيعة ليزيد تمهيد من معاوية رضي الله عنه حيث أرسل رسالة لم يذكر فيها يزيد وإنما جاء فيها: إني قد كبرت سني وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بالأمر بعدي، وكرهت أن اقطع أمراً دون مشورة من عندك فاعرض عليهم ذلك، وأعلمني بالذي يردون عليك فقام مروان في الناس فأخبرهم بما أراد معاوية فقال الناس: أصاب معاوية، ووفق وقد أحببنا أن يتخير لنا فلا يألوا (6)،ولكن عندما ذكر في المرة التالية اسم يزيد امتنع أهل المدينة في بداية الأمر وعبَّر عبد الرحمن بن أبي بكر عمّا في نفوسهم (7).
ومما سبق نلاحظ أن مروان بن الحكم لم يوفق في المهمة التي كلفه بها معاوية رضي الله عنه، وعند ذلك قرر معاوية المجيء بنفسه إلىالحجاز ومعرفة موقف الصحابة من هذه القضية المهمة ـ فجاء رضي الله عنه معتمراً في شهر رجب من
_________
(1) مواقف المعارضة صـ99، مجمع الفوائد (5/ 241) إسناده حسن.
(2) مجمع الفوائد (5/ 241) إسناده حسن.
(3) البخاري رقم 4827.
(4) المصدر نفسه رقم 4827 وفي البخاري رواية أخرى.
(5) المصدر نفسه رقم 4827.
(6) المدينة في العصر الأموي صـ88 نقلاً عن الكامل في التاريخ.
(7) مواقف المعارضة صـ99.(1/474)
سنة 56 هـ (1)، فلما علم عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير بقدوم معاوية خرجوا من المدينة، واتجهوا من المدينة إلى مكة (2)، فلما قدم معاوية المدينة خطب الناس وحثهم على البيعة وبيّن أن يزيد هو أحق الناس بالخلافة (3)، ثم قال: قد بايعنا يزيد فبايعوه (4)، ويبدو أن معاوية قد ذكر أنه يخشى على ابن عمر وغيره من القتل إن مانعوا، ويقصد بخوفه عليهم من أهل الشام، الذين لا يمكن أن يتصوروا أن أحداً يخالف أمير المؤمنين في أمر اتفق عليه كثير من الناس، فقد ذكر أن معاوية قال: والله ليبايعنَّ ابن عمر أو لاقتلنّه، فلما بلغ الخبر عبد الله بن صفوان (5)، غضب وعزم على مقاتلة معاوية إن ثبت هذا. فلما سأل معاوية أنكر ذلك وقال: أنا اقتل ابن عمر: إني والله لا أقتله (6).
أـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه في مجلس معاوية رضي الله عنه:
فلما قدم معاوية مكة، وقضى نسكه بعث إلى ابن عمر فقدم عليه فتشهد معاوية وقال: أما بعد يا ابن عمر فإنك قد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء وليس عليك أمير، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى على فساد ذات بينهم، فرد ابن عمر على معاوية، وبين له كيف كانت طريقة بيعة الخلفاء الراشدين، وذكر له كيف أن لهم أبناء خير من يزيد، فلم يروا في أبنائهم ما يرى معاوية في يزيد ثم بين له أيضاً أنه لا يريد أن يشق عصا المسلمين وأنه موافق على ما تجتمع عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأثلج هذا القول صدر معاوية رضي الله عنه وقال: يرحمك الله (7). فقد أشترط أبن عمر حدوث الإجماع على بيعة يزيد حتى يعطيه البيعة (8)، وكان معاوية رضي الله عنه قد أرسل بمائة ألف درهم لابن عمر، فلما دعا معاوية لبيعة يزيد قال: أترون هذا أراد، إن ديني إذا عندي لرخيص (9)،
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 305).
(2) التاريخ الصغير للبخاري (1/ 103) إسناد حسن.
(3) تاريخ خليفة صـ213، 214 إسناده حسن.
(4) الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير (1/ 262) حسن مشهور.
(5) التقريب صـ308 قتل عام 73 هـ بالكعبة مع ابن الزبير.
(6) الطبقات (4/ 83) بسند صحيح، تاريخ خليفة صـ214 ـ 215 بسند صحيح، مواقف المعارضة صـ101، 102.
(7) تاريخ خليفة صـ214، 215 بسند صحيح.
(8) الفقهاء والخلفاء د. سلطان خالد صـ58.
(9) الطبقات (4/ 182) بسند صحيح.(1/475)
وكان ابن عمر رضي الله عنه يرى أنه لا يجوز أن يؤخذ على البيعة الدراهم، لأنها من باب الرشوة فإن كانت البيعة حقاً فلا يجوز له أن يأخذ على الحق أجراً وإن كانت باطلاً، فلا يجوز له أن يبذل البيعة لمن لا يستحقها من أجل المال (1). موقف ابن عمر رضي الله عنه هو عدم الرضا بالأسلوب الوراثي للحكم أو أخذ البيعة عن طريق المال (2).
ب ـ عبد الرحمن بن أبي بكر في مجلس معاوية رضي الله عنهم:
وخرج ابن عمر ـ من مجلس معاوية ـ واستدعى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فأخذ معاوية في الكلام، فقاطعه عبد الرحمن ورد عليه بلهجة شديدة، وذكر أنه يمانع بيعة يزيد، وطلب أن يكون الأمر شورى، وتوعد معاوية بالحرب (3). ثم قام فقال معاوية: اللهم اكفنيه بم شئت، وطلب منه أن يتمهل وأن لا يعلن رفضه أمام أهل الشام فيقتلوه، فإذا جاء العشي وبايع الناس ثم يكن بعد ذلك على ما عنده من رأي (4). وكان الأولى لمعاوية رضي الله عنه أن يطلب من أهل الشام ألا يتعرضوا لمن خالفه
جـ ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
ثم استدعى ابن الزبير، واتهمه معاوية بأنه السبب في منع البيعة، وأنه وراء ما حدث من ابن عمر وابن أبي بكر، فردّ عليه ابن الزبير وطلب منه أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها ثم طلب من معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلاً منه فيبايعه. ثم استدل
على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آن واحد (5) ن ثم قال: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما (6).
س ـ الحسين بن علي رضي الله عنه:
ومن الملاحظ أن الرواية السابقة لم تذكر الحسين بن علي ضمن من استشارهم معاوية في بيعة يزيد، ولعل السبب يعود إلى
_________
(1) موسوعة فقه ابن عمر صـ153 قلعجي.
(2) الفقهاء والخلفاء صـ59.
(3) تاريخ خليفة صـ213، 214 بسند صحيح، مواقف المعارضة صـ103.
(4) تاريخ خليفة صـ214،تاريخ أبي زرعة (1/ 229) بإسناد صحيح.
(5) تاريخ خليفة صـ214 بإسناد حسن، حلية الأولياء (1/ 330، 331).
(6) المعجم الكبير للطبراني (19/ 314) مجمع الزوائد (5/ 198) قال الهيثمي ورجاله ثقات.(1/476)
أن معاوية أدرك العلاقة بين أهل العراق وبين الحسين وأنهم كانوا يكتبون له ويمنونه بالخلافة من بعد معاوية، ثم إن الحسين قد قابل معاوية بمكة فكلمه طويلاً كما يبدو في أمر الخلافة الأمر الذي أغضب يزيد فقال لأبيه: لا يزال رجل قد عرض لك، فأناخ بك، قال: دعه لعله يطلبها من غيري فلا يسوغه فيقتله (1).
ويتبين لنا من خلال الحوار الذي دار بين معاوية وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنهم يمانعون البيعة لسببين:
أـ اعتراضهم على تولية يزيد للعلاقة بين الأب والابن وأن هذه لم تكن طريقة الخلفاء الراشدين.
ب ـ الاستدلال على بطلان هذه البيعة ورفضها لمخالفتها النص الصريح الذي ورد في الحديث النبوي والذي لا يجيز البيعة لشخصين في آن واحد. والملاحظ هنا هو أن المعارضين لم يذكروا قدحاً في يزيد وإلا كيف يمكن أن يتجاهلوا صفات يزيد التي اتهم بها فيما بعد، وخاصة في ذلك الموقف الذي يتطلب حشد أي دليل في مقابل الخصم (2). والحقيقة أنه كان هناك شعور قوي بين بعض الناس خاصة بين أبناء المهاجرين هو كيف أن معاوية الذي أسلم في فتح مكة يتولى خلافة المسلمين، وهناك من هو أقدم إسلاماً وأحق منه (3)، وكان البعض معترضاً على تقديم يزيد خوفاً من القيصرية والهرقلية على حد تعبير عبد الرحمن بن أبي بكر. ولما رأى معاوية أوجه الانتقادات التي انتقد فيها أبناء الصحابة بيعة يزيد، ورأى أنها لا تمس يزيد شخصياً بل أنها وجهات نظر أرتاؤها ورأى معاوية خلافها، فهؤلاء مدفعون بحرصهم على جعل منصب الخلافة لا تتطرق إليه العلاقات الأسرية والرغبات الشخصية، ومن ثم تكون قيمة الخليفة واختياره مبنية على علاقته بالخليفة الذي قبله (4). قام
معاوية بعد اجتماعه مع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن وجدنا أحاديث الناس ذات عوار زعموا
_________
(1) الطبقات، الطبقة الخامسة صـ357 إسناد حسن نقلاً عن مواقف المعارضة صـ106.
(2) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ104.
(3) مصنف ابن أبي شيبة (111/ 90) بسند صحيح.
(4) مقدمة في تاريخ صدر الإسلام د. الدوري صـ64.(1/477)
أن ابن عمر وابن الزبير، وابن أبي بكر الصديق لم يبايعوا يزيد، قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له. فقال أهل الشام: لا والله لا نرضى حتى يبايعوا على رؤوس الناس وإلا ضربنا أعناقهم، فانتهرهم معاوية وقال: مه سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالسوء لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم، ثم نزل. فقال الناس بايع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر ويقولون لا والله ما بايعنا، ويقول الناس: بلى لقد بايعتم، وارتحل معاوية ولحق بالشام (1).
وبهذه الرواية الصحيحة يتبين لنا كذب تلك الرواية التي تتهم معاوية رضي الله عنه بأنه أقام على رأس كل رجل من الصحابة الأربعة وهم عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير، عبد الرحمن بن أبي بكر، والحسين بن علي رضوان الله عليهم أقام على رأس كل واحد منهم رجلين، وأعطى الإشارة لكل حارس بقتل من يمانع البيعة، فبايع الناس وبايع ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر تحت تهديد السلاح فبالإضافة على ضعف الرواية سنداً، فإن متنها لا يقل عن سندها من حيث الضعف ولا يقف أمام النقد الدقيق (2)، فمثلاً في بداية الرواية: أن معاوية لما كان قريباً من مكة قال لمرقال صاحب حرسه: لا تدع أحداً يسير معي إلا من حملته أنا فخرج يسير وحده حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي فوقف وقال: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد شباب المسلمين دابة لأبي عبد الله يركبها، ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: مرحباً وأهلاً بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق وسيد المسلمين ودعا له بدابة فركبها، ثم طلع ابن الزبير فقال مرحباً وأهلاً بابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا له بدابة فركبها ولم يعرض لهم شيء حتى قضى نسكه (3).
وأما ما يتعلق بباقي الرواية التي تذكر أن معاوية أوقف على رأس كل رجل حارسين وأمرهما بقتل من يحاول الاعتراض على البيعة، إذا بويع يزيد فهذا مستبعد لأمرين أحدهما: أليس من الغريب جداً على معاوية أن يستخدم العنف بهذه الصفة مع أبناء الصحابة،
_________
(1) تاريخ خليفة بسند حسن صـ214 ..
(2) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ106، تاريخ خليفة صـ215 بسند جويرية بن أسماء قال سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون والرواية ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها.
(3) تاريخ خليفة صـ215 رواية ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها.(1/478)
والصحابة أنفسهم ومن ثم يتسبب في توسيع الخلاف ويباعد الشق بينه وبين يزيد من جهة، وبين الصحابة وأبنائهم من جهة أخرى.
والأمر الآخر: عندما يقف الحراس على رؤوس الأربعة، ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر والحسين، أليس هذا المنظر أمام الناس يجعل الشك عند الناس يتضاعف حول مكانة يزيد، ويعرف الناس أن أولئك الحراس الذين يقفون على رأس كل شخص إنما يتربصون به
ويبغونه شراً، ثم يصبح لدى الناس اقتناعاً كاملاً بأن هذه البيعة بيعة إكراه وخديعة فيمانعوا (1).
ثالثاً: تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد:
اختلفت المصادر حول تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد على النحو التالي:
1 ـ ذكر خليفة بن خياط (2)، والذهبي (3)، أنه كان في سنة 51 هـ.
2 ـ ذكر ابن عبد ربه (4)، أن ذلك كان في سنة 55 هـ.
3 ـ ذكر الطبري (5)، وابن الجوزي (6)، وابن الأثير (7)، وابن كثير (8)، أن ذلك كان في سنة 56 هـ
هذا وبعد دراسة التواريخ السابقة اتضح عدم صحة ترشيح يزيد بن معاوية سنة 51 هـ (9) للأسباب التالية:
أـ أن وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه كانت في السنة نفسها أي في سنة 51 هـ واتخاذ قرار ترشيح يحتاج لوقت من طرف معاوية لكي يدرسه ويستشير فيه، كما أنه ليس من الحكمة إعلان قرار الترشيح بعد وفاة الحسن رضي الله عنه مباشرة.
_________
(1) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ110.
(2) تاريخ خليفة صـ213.
(3) تاريخ الإسلام (عهد معاوية) صـ147.
(4) العقد الفريد (4/ 338).
(5) تاريخ الطبري (6/ 219).
(6) المنتظم (5/ 285).
(7) البداية والنهاية (11/ 305).
(8) الكامل في التاريخ (2/ 508).
(9) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ450.(1/479)
ب ـ قتل حجر بن عدي رضي الله عنه في السنة نفسها، أي في سنة 51 هـ، لذا فإنه أيضاً ليس من الحكمة إعلان ترشيح يزيد بن معاوية في هذه السنة، لأن الأنفس لم تكن مهيأة لمثل هذه القرارات الجريئة، التي يعتبر توقيت إعلانها على الناس من أهم عوامل نجاحها.
جـ ـ إن ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد كان أثناء ولاية مروان بن الحكم على الحجاز (1)، وهي بلا شك الفترة الثانية من ولاية مروان بن الحكم والتي امتدت من سنة 54 هـ - 57 هـ وذلك أن الفترة الأولى من ولاية مروان بن الحكم كانت من سنة 42ـ 49 هـ.
بعد ذلك يتبقى تاريخان لإعلان ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد وهما 55 هـ وسنة 56 هـ وهذان التاريخان يكمل أحدهما الآخر ـ كما سيتضح لاحقاً ـ ولكن يرد في هذا المقام سؤال حول السبب الذي جعل معاوية رضي الله عنه يؤخر ترشيح ابنه يزيد ولياً للعهد على سنة 55 هـ أو سنة
56 هـ مع أن الحسن بن علي رضي الله عنه توفي سنة 51 هـ، وجواب هذا السؤال يكمن في معرفة أهم حدث وقع في سنة 55 هـ حيث توفي في هذه السنة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، آخر الستة الذين رضيهم ورشحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخلافة من بعده (2).
رابعاً: وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد:
حاول بعض الإخباريين أن يوجدوا علاقة بين وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وبين بيعة يزيد بن معاوية فذكر البعض أن معاوية رضي الله عنه لما رأى مكانة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عند أهل الشام ـ بسبب مآثر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ـ خافه معاوية فأمر ابن أثال الطبيب النصراني فدس إليه السم (3)، في حين يرجح ابن الكلبي سبب القتل إلى أمر آخر وهو: أن معاوية لما أراد أن يولي الأمور رجلاً من بعده فماذا
_________
(1) صحيح البخاري مع الفتح (8/ 439).
(2) مرويات خلافة معاوية صـ452، سير أعلام النبلاء (1/ 123).
(3) تاريخ الطبري (6/ 143) رواية ضعيفة.(1/480)
ترون؟ فقالوا عليك بعبد الرحمن بن خالد، وكان فاضلاً فسكت معاوية وأضمرها في نفسه ثم إن عبد الرحمن اشتكى، فدعا معاوية طبيبه بن اثال وأمره بدس السم إلى عبد الرحمن (1). فهذه الروايات بالإضافة إلى ضعف سندها يوجد اختلاف في متنها مع الواقع الملموس فمعاوية رضي الله عنه بيده عزل الأمراء أو توليتهم كما هو معروف، وليس بالصعوبة على معاوية أن يطلب من عبد الرحمن بن خالد أن يتنحى عن قيادة الصوائف على الثغر الرومي، ويهمل عبد الرحمن بن خالد ثم لا يكون له أي مكانة يُخشى منها وقد ورد أن معاوية عزله وولى بدلاً منه سفيان بن عوف الغامدي (2) على إحدي الصوائف (3)، وليس هذا يشكل صعوبة على معاوية، بل إن معاوية كان يعزل عن الإمارة من هو أعظم وأقوى من عبد الرحمن بن خالد ثم كيف يقوم معاوية بقتله وقد أورد الطبري ذكر غزوة البحر سنة 48 هـ وكان قائد أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، وعلى أهل المدينة المنذر بن زهير، وعلى جميعهم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد (4)،
فكيف يرضى معاوية أن يكون ولده قائداً كبيراً من بعد أبيه هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كيف يرضى أن يقوم ولده بقيادة الجيش لمعاوية إن كان معاوية قاتل أبيه، وهل يمكن أن يخفى على ولده هذا الأمر وهو أقرب الناس إليه (5)؟ فهذه أكاذيب واضحة حاولت أن توجد علاقة بين موت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والبيعة ليزيد، ومثلها
مثل الأكاذيب التي حاولت أن تربط بين موت الحسن بن علي والبيعة ليزيد ـ كما مرّ ذكره.
إن خبر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسم أورده القاسم بن سلام، وابن حبيب البغدادي (6)، وذكر أن الدافع هو الخوف من منافسة عبد الرحمن ليزيد في ولاية العهد (7)، كذلك أورد الخبر البلاذري (8)، وأبو الفرج الأصفهاني (9)،
_________
(1) كتاب الأمثال صـ192 للقاسم بن سلام ضعيف الإسناد.
(2) تهذيب تاريخ دمشق (6/ 185).
(3) أنساب الأشراف (4/ 104) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ92.
(4) تاريخ الطبري (6/ 147) ..
(5) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ93.
(6) المنمق في أخبار قريش صـ360.
(7) هذا تعليل فاسد، لأن ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد ظهر في عام 56 هـ بعد وفاة الحسن بن علي، وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد رضي الله عنهم.
(8) أنساب الأشراف (4/ 109).
(9) الأغاني (16/ 197).(1/481)
وأبو هلال العسكري (1)، وخبر اتهام معاوية رضي الله عنه بحادثة سم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لم يرد بإسناد صحيح، بل هو من الأخبار المكذوبة على هذا الصحابي الكريم (2) وفي ذلك يقول ابن كثير: وقد ذكر بن جرير وغيره، أن رجلاً يقال له: ابن أثال ـ وكان رئيس الذمة بأرض حمص ـ سقاه شربة فيها سم فمات، وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح (3).
خامساً: أسباب ترشيح معاوية لابنه يزيد:
1 ـ الحفاظ على وحدة الأمة:
نظر معاوية رضي الله عنه إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام الذين يمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة أثناء رحلته الأخيرة للحج إذا كان الدافع لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلاف (4)، الذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل (5). كان معاوية يرهب أن يدع أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالضأن لا راعي لها (6)، ولذلك عمل على اختيار من يخلفه وكان الأولى بمعاوية رضي الله عنه أن يعين من أفاضل المجتمع الإسلامي رجالاً يجعلهم موضع شورى يختاروا من كان أهلاً للخلافة ويبتعد عن ترشيح ابنه يزيد، لأن اختيار يزيد لم يكن أماناً من الاختلاف والقتال وسفك الدماء ولقد وقع المحظور بعد وفاة معاوية، وسفكت
الدماء ولم يزح اختيار معاوية يزيد ما تعلل به من المخاوف، ويبدو أنه وقع ما وقع بسبب شخصية يزيد، وإتباع الوراثة بديلاً من الشورى في اختيار الخليفة ولأسباب أخرى وعلى كل حال فمعاوية رضي الله عنه اجتهد ولم يكن مصيباً في تولية يزيد لولاية العهد، فقد كان بوسعه وقدراته السياسة الفائقة أن يطمئن في حياته على اجتماع كلمة المسلمين في أمر الخلافة من بعده باختيار واحد من قريش يشهد
_________
(1) جمهرة الأمثال (2/ 385).
(2) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ384.
(3) البداية والنهاية (11/ 174).
(4) دراسات في النظم صـ41. د. توفيق اليوزكي.
(5) مواقف المعارضة من خلافة يزيد صـ131.
(6) تاريخ الطبري (6/ 222).(1/482)
له الناس بحسن السيرة أكثر من يزيد ابنه ويجتمع عليه أعيان المجتمع الإسلامي في الشام والعراق وبلاد الحجاز وغيرها.
2 ـ قوة العصبية القبلية:
خاض معاوية رضي الله عنه الحرب وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية رضي الله عنه ومحبة لبني أمية ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة هو أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه (1)، ومن الدلائل على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير وقتله73 هـ رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لأبن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه مصعب ابن الزبير ومالوا مع عبد الملك بن مروان فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحد في فضائله ومكانته؟ بل نجد العكس نجد أن عبد الملك بن مروان الذي يعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين (2)،
فعصبية أهل الشام كانت سبباً مهماً في تولية يزيد وليست عصبية بني أميه فإن أسرة بني أميه لم تكن ذات تأثير كبير على الأحداث في مجيء معاوية رضي الله عنه إلى منصب الخلافة وقد بنى ابن خلدون دفاعه عن صنيع معاوية في ولاية العهد أن المصلحة تقتفي ذلك حيث قال: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه أنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ من بني أميه، إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حريصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وأن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل
_________
(1) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ131.
(2) المصدر نفسه صـ132 ..(1/483)
على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق،
فإنهم كلهم من أجل ذلك (1)، وقال أيضاً: عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة، بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه (2).
أي إن قوة عصبية بني أمية وسطوتهم، ونفورهم من الانقياد لغيرهم، جعلت معاوية رضي الله عنه يختار مرشحاً من بني أمية، فكان ابنه يزيد خوفاً منه على الأمة من الفرقة والاختلاف (3)، ومما لا شك فيه لو جاء معاوية برجل من ذوي الكفاءة من قريش غير ابنه يزيد واستفتى ذوي الرأي والنهي بشأنه، ثم وقف وراءه بثقله الكامل وتأييده الصريح، وطلب من أهل الحل والعقد في الأمة مبايعته بولاية العهد، فهل كان يعترض أحد؟ طبعاً لا، ذلك لأن أمير المؤمنين هو الداعي، ولأن المرشح لولاية العهد رجل أريد بترشيحه، ومبايعة مصلحة الأمة والدولة مجردة من كل شبهة أو عاطفة ألا ترى معي أن ذلك كان ممكناً وأنه كان محققاً للغرض القائل بأن القصد من ولاية العهد هو سد أبواب الخلاف بين المسلمين، وتجنب الأمة أخطار التنازع والفتن من جديد؟ ولكن معاوية رضي الله عنه على كل حال اجتهد، فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً فله أجر (4).
3 ـ محبة معاوية لابنه وقناعته به:
قال ابن كثير: وقد كان معاوية لما صالح الحسن، عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي أمر يزيد عند معاوية ورأى أنه لذلك أهل، وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك، ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى (5). وقال معاوية رضي الله عنه لعمرو بن حزم الأنصاري، الذي كان معارضاً للبيعة، فذكّر معاوية بالله، وطلب منه أن ينظر في عاقبة الأمور، فشكره معاوية وقال، إنك امرؤ ناصح. ثم أخذ معاوية يُبيّن له بصراحة أنه لم
_________
(1) مقدمة ابن خلدون (1/ 262، 263).
(2) مقدمة ابن خلدون (1/ 257، 258).
3 مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ462.
(3) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ126.
(4)
(5) البداية والنهاية نقلاً عن مرويات خلافة معاوية صـ459ـ 460.(1/484)
يبق إلا ابنه وأبنائهم وابنه أحق من أبنائهم (1)، وكانت ليزيد بعض الصفات التي شجعت معاوية على جعله ولياً للعهد قال الذهبي في ترجمة يزيد: كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم، وفطنة وفصاحة (2)، وقال ابن كثير: وكان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم،
والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك (3)، ربما كانت هذه الصفات دافعة لمعاوية وكافية له ليكون صالحاً للخلافة (4)،
ولا شك أن الصحابة وأبنائهم أفضل من يزيد وأصلح ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لا تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة فيرد عليه يزيد بقوله: كنت والله يا أبت عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب (5). وغير ذلك من الأسباب. فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب، الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف، وإن كان أميناً (6). فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، وسئل الأمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزو، فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر (7).
ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم، وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها فيه يحصل مقصود الإمامة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو
_________
(1) مجمع الفوائد (7/ 248، 249)، رجاله رجال صحيح الإصابة (4/ 621)، رجاله ثقات.
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 37).
(3) البداية والنهاية (11/ 646).
(4) أحادث وأحاديث فتنة الهرج صـ204 ..
(5) الأشراف لابن أبي الدنيا ًصـ127 سنده ضعيف.
(6) السياسة الشرعية لابن تيمية صـ22.
(7) المصدر نفسه صـ22.(1/485)
أعظم ورعاً فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه (1). فقد كان معاوية رضي الله عنه يرى بولاية المفضول مع وجود الفاضل هذه أهم أسباب ترشيح معاوية رضي الله عنه لابنه.
سادساً: الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد:
لقد حمّل كثير من المؤرخين السابقين والمعاصرين معاوية رضي الله عنه مسئولية البيعة الكاملة، وبالتالي حملوه جميع الأخطاء التي يقع فيها الحكام من زمان معاوية حتى عصرنا الحاضر، فمنهم من اتهمه بالخروج على نظام الشورى في الإسلام فكان أول محطم لنظام الإسلام (2).
ومنهم من اتهم معاوية بأنه أقر النظام الذي يعتمد على السياسة أولاً وإلى الدين ثانياً (3)، والبعض شبه معاوية بالملوك الأقدمين من الفرس والروم (4)، والبعض يجعل معاوية بهذه البيعة هو رائد المدرسة ((المكيافيلية)) في السياسة القائمة على تسويغ الوسيلة من أجل الغاية (5)، والبعض حكم على معاوية بارتكابه كبيرة أضافها إلى كبائره السابقة (6)، والبعض أعتبر معاوية خارجاً على إجماع المسلمين بهذه البيعة (7). ولمعرفة صحة هذه الاتهامات من عدمها يجدر بنا أن نعرف ماهية الشورى وكيفية تطبيقها، فالشورى دعامة من دعائم الحكم في الإسلام، وقاعدة صلبة من قواعده كما أن اختيار الحاكم في الإسلام وتولي أمر الأمة المسلمة لا تعطيه صفة مقدسة، أو سلطة مطلقة (8)، بل إنه مسئول عن كل عمل يقوم به وينفذ فيه ما ينفذ في شعبه وأما طريقة الشورى فلم يحدد لها نظام خاصاً، فتطبيقها إذن متروك للظروف والمقتضيات الجارية (9)،
فقد
_________
(1) العبرة مما جاء في الغزو والشهادة صـ35 صديق حسن خان.
(2) إسلام بلا مذهب صـ58 مصطفى الشكعة.
(3) نساء لهم في التاريخ الإسلامي نصيب، علي إبراهيم حسن صـ58.
(4) عائشة والسياسة صـ278 مواقف المعارضة في خلافة يزيد ص141.
(5) ملامح التيارات السياسية، إبراهيم بيضون صـ147.
(6) الأعمال العربية الكاملة (6/ 36) أمين الريحاني.
(7) زعماء الإسلام صـ219، حسن إبراهيم حسن.
(8) مواقف المعارضة (صـ142) النظرية الإسلامية للصعيدي صـ468.
(9) مواقف المعارضة صـ143 ..(1/486)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير المسلمين فيما لم ينزل فيه وحي ويأخذ برأيهم فيما هم أعرف به من شئون دنياهم، وكذلك سار الخلفاء الراشدون في استشارة المسلمين وإليك استعراض موجز لكيفية انعقاد إمامة الخلفاء الراشدين:
1 ـ طريقة انعقاد بيعة أبي بكر رضي الله عنه:
قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة بيعة الصديق بيع خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة (1)، وقد أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها: أن قيادة الأمة لا يقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، وأن الخلافة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وإن إثارة ((قريش)) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقع يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه ما لم يكن متعارضاً مع أصول الإسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم
للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية (2)
أـ وأول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن (نظام الحكم ودستور الدولة) يقرر بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن الكريم، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجماع هو النصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي أن هذا الإجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في السلام وهو الشورى الملزمة، وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالإجماع بعد وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا الإجماع لم يكن إلا تأييداً وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسنّة التي أوجبت الشورى.
ب ـ تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الإسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى، أي البيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى
_________
(1) الخلافة والخلفاء الراشدون صـ66، 67.
(2) دراسات في عهد النبوة للشجاع صـ256.(1/487)
الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة ـ الدستور في النظم المعاصرة ـ وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.
جـ ـ تطبيقاً للمبدأين السابقين قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية (1)، ثم أن الترشيح لم يصح نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول صلى اله عليه وسلم، ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه (2) المشهور الذي جاء فيه: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله (3). وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة (4)، وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد (5).
2 ـ طريقة انعقاد بيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لما اشتد المرض بالصديق رضي الله عنه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمّرتم في
_________
(1) فقه الشورى والاستشارة د. توفيق الشاوي صـ140.
(2) المصدر نفسه صـ142.
(3) البداية والنهاية (6/ 305، 306).
(4) البخاري ـ الأحكام ـ رقم 7219.
(5) التاريخ الإسلامي (9/ 28).(1/488)
حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي (1)، وقد قام أبي بكر رضي الله عنه بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم.
أـ استشارة أبي بكر كبار الصحابة:
تشاور الصحابة رضي الله عنهم وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدتك. ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى الرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر: ما أنت قائل لرَبِّك إذا سألك استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّد من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك (2) وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه (3).
ب ـ نص العهد الذي كتبه أبو بكر لكي يقرأ على الناس:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، يوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلف عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي به
_________
(1) تاريخ الطبري (4/ 238)، التاريخ الإسلامي (9/ 258).
(2) الكامل لابن الأثير (2/ 79) التاريخ الإسلامي شاكر صـ101.
(3) الكامل لابن الأثير (2/ 79).(1/489)
وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امريء ما اكتسب الخير أردت ولا أعلم الغيب ((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)) (الشعراء، الآية: 227).
جـ ـ إبلاغ الناس بنفسه:
إنه أراد إبلاغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بما استخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قربة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا سمعنا وأطعنا (1).
ر ـ التوجه بالدعاء لله: أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا إصلاحهم وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك (2).
س ـ تكليف عثمان بقراءة العهد على الناس: كلف أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به (3).
ش ـ وصية الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
اختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده (4)، وقد جاء في الوصية: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم
_________
(1) تاريخ الطبري (4/ 248).
(2) طبقات ابن سعد (3/ 199)، تاريخ المدينة (2/ 665 ـ 669).
(3) طبقات ابن سعد (3/ 200).
(4) أبو بكر الصديق، علي الطنطاوي صـ237.(1/490)
بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم وأن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت وليس تعجزه (1).
ونلاحظ أن عمر رضي الله عنه وليَّ الخلافة باتفاق أصحاب الحل والعقد وإرادتهم فهم الذين
فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه وأمضوه، ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب ((الطبيعيون)) عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن أستخلا ف عمر رضي الله عنه إلا على أصح أساليب الشورية وأعدلها (2) إن الخطوات التي سار عليها أبوبكرالصديق في اختيارخليفته من بعده لاتتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الاجراءات المتبعة فيها غير الاجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه (3). وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يرد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة (4).
3 ـ طريقة انعقاد بيعة عثمان رضي الله عنه:
استطاع الفاروق رضي الله عنه في اللحظات الأخيرة وهو على فراش الموت، رغم ما يعانيه من آلام جراحاته البالغة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية، لقد مضى قبله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في
_________
(1) صفة الصفوة (1/ 264، 265).
(2) أبو بكر الصديق ـ علي الطنطاوي صـ237 ز
(3) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة صـ273.
(4) النظرية السياسية الإسلامية، ضياء الريس صـ181.(1/491)
الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبي بكر أولى بالأمر من بعده، والصديق لما رشح عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسئولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم وحصل الاجماع على بيعة عمر (1)، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله كلهم بدريون وكلهم توفي رسول الله عليه وسلم وهو عليهم راضٍ، وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته وعدد الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد (2).
وبهذا يكون أمير المؤمنون أرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد ولا يشك أن أصل
الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصديق ـ رضي الله عنهم ـ بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل، فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت (3).
وبهذا جعل أمير المؤمنين هيئة سياسيسة عليا وهم أهل الشورى وأناط بهم وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحداً من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحداً من الصحابة الآخرين لم يثر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فحن لا نعلم: إن اقتراحاً آخر صدر عن أحد من الناس في ذلك، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال السَّاعات الأخيرة من حياته، أو بعد وفاته وإنما رضي الناس كافة هذا التدابير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين، وفي وسعنا أن نقول: إنَّ عمر
_________
(1) أوليات الفاروق صـ122.
(2) أوليات الفاروق صـ122.
(3) المصد نفسه صـ 127(1/492)
قد أحدث هيئة سياسية عليا مهمَّتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد، الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المباديء الأساسية التي أقرها الإسلام ولاسيما فيما يتعلق بالشورى، لأن العبرة من حيث النتيجة العامة التي تجري في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجّه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان، وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما هو مستند عمر في التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير، ورضيت به ولم يُسمع صوت اعتراض عليه حتى نتأكَّد: أنَّ الاجماع ـ وهو مصدر من مصادر التشريع ـ قد انعقد على صحته ونفاذه (1)، ولا ننسى: أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكِّد أن أهل الشورى أعلى هيئة سياسية قد أقرّه نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما: أنَّ الهيئة التي سمّاها عمر، تمتَّعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى، والأمانة (2).
ومن الأمور المهمة حرص الفاروق على ابعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة (3) وقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر مع أهل الشورى وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة
رجل منهم، وثلاثة رجل منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجل منهم، فإن لم يرضوا يحكم عبد الله بن عمر، فيكون مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فوصف عبدر الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، له من الله حافظ فاسمعوا له (4)، وقد أشرف على العملية الانتخابية عبد الرحمن بن عوف وشاور الناس في أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة، وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد ومن يأتي للمدينة وشملت مشاوراته النساء في خدورهنَّ، وقد أبدين رأيهنّ، كما شملت الصَّبيان، والعبيد في المدينة وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف: أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان،
_________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 227/228).
(2) المصدر نفسه (1/ 229).
(3) الخلفاء الرّاشدون للخالدي صـ98.
(4) تاريخ الطبري (5/ 325).(1/493)
ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ... ثم بعد ذلك أعلن عبد الرحمن بعد صلاة الصبح من اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23 النتيجة التي وصل إليها فبعد أن تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد: يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلا ثم بايع عثمان على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده. فبايعه الناس: المهاجرون، والأنصار، أمراء الأجناد والمسلمون (1)، وجاء في روية صاحب التمهيد، والبيان: أن علي بن أبي طالب أوّل من بايع عبد الرحمن بن عوف (2)،
وقد اعتبر الذهبي ما قام به عبد الرحمن بن عوف من أفضل أعماله حيث قال: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحلِّ، والعقد، فنهض في ذلك أتمَّ نهوض على جمع الأمَّة على عثمان، ولو كان محابياً فيها، لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمّه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص (3)، وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في أحد الخلفاء الراشدين: وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى، ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامّة، ثم البيعة العامّة (4).
4 ـ طريقة إنعقاد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق ومن أمصار مختلفة وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وزوراً وعدواناً، يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين (5)، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الاطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامه لنفسه أحد بعد عثمان ولم يكن أبو
السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، وذلك لم
_________
(1) البخاري، ك الأحكام رقم 7207.
(2) التمهيد والبيان صـ26 ..
(3) سير أعلام النبلاء (1/ 86).
(4) دراسة في عهد النبوة والخلافة الراشدة صـ278.
(5) الطبقات لابن سعد (3/ 31).(1/494)
يقبلها، إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال أثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روي الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم (1)،
فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد الحنفية قال: كنت مع علي رحمه الله وعثمان محصر قال فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقال علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله فأتى داره فدخلها وأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل، ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس (2).
5 ـ طريقة انعقاد بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه:
كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه في شهر رمضان من سنة 40 هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد اختار الناس الحسن بعد والده ولم يعين أمير المؤمنين أحداً من بعده، فعن عبد الله بن سبع قال: سمعت علياً يقول: لتخضبن هذه من هذا (3)، فما ينتظربي الأشقى (4) قالوا: يا أمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته (5)، قال: إذن تالله تقتلون بي غير قاتلي0 قالوا: فاستخلف علينا قال: لا، ولكن أترككم إلى ماترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم وفي رواية: أقول اللهمّ استخلفني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم
_________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام (2/ 677) ..
(2) كتاب السنة لأبي بكر الخلاّل صـ415.
(3) أي لتخضبن لحيته من دم رأسه.
(4) مجمع الزوائد (9/ 921) مسدأحمد (2/ 325) حسن لغيره.
(5) نبير عُُُُُُُترته: نهلك أقرباءه لسان العرب (4/ 5) (4/ 538).(1/495)
وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن ابن علي وكبر عليه أربع تكبيرات، ودفن بالكوفة، وكان أول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل وسنه نبيه، وقتال المُحليِّن، فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط: فبايعه وسكت وبايعه الناس (1)
وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت (2)، وفي رواية قال لهم: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا: ما هو؟ قال تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت (3)،
وفي رواية ابن سعد: إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضي به (4).
6 ـ طريقة انعقاد بيعة معاوية رضي الله عنه:
تمت بيعة معاوية بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه في الخلافة وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميراً للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة (5)، وقد بايع معاوية رضي الله عنه كل الصحابة الأحياء وأجمعت الأمة عليه وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام.
7 ـ المآخذ على فكرة ولاية العهد في عهد معاوية:
صحيح أن النظام الإسلامي للحكم لم ينص على طريقة معينة لاختيار ولي الأمر، ولكنه وضع الأساس التي لا تجوز الحيدة عنه، إلا في حالات الضرورة والاضطرار، وهو الشورى وليس للشورى أسلوب خاص، وطريقة واحدة، لا تتحقق إلا بها، ولكن تتحقق بأساليب شتى كما مرّ معنا في اختيار الأمة للخلفاء الراشدين، ولئن قصد معاوية رضي الله عنه بإحداث ولاية العهد في نظام الحكم الإسلامي جمع كلمة المسلمين، وحقن دمائهم، فهو إن شاء الله تعالى مأجور
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 73).
(2) تاريخ الطبري (2/ 77).
(3) الطبقات تحقيق د. محمد السلمي (1/ 286، 287) ..
(4) المصدر نفسه (1/ 316، 317).
(5) سير أعلام البنلاء (3/ 137) تاريخ خليفة).203.(1/496)
على أنه كان قادراً على أن يجعل العهد بعده لغير ولده من كبار الصحابة الموجودين في تلك الفترة، وكان فيهم كفاءات لو أسند إليهم الأمر، فقد كان الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر وغيرهم موجودين في هذا الوقت ولكن معاوية رضي الله عنه عدل عن هؤلاء وقصد لولده ليكون خليفة بعده، وبذلك حصل التغير الحقيقي في نظام الحكم الإسلامي، فليس التغيير في إيجاد نظام ولاية العهد ... ولكن التغيير في أن يكون ولي العهد ولد الخليفة أو أحد أقاربه، حتى أصبحت الحكومة ملكية بعد أن كانت خلافة راشدة (1)، وإذا كنا مأمورين باتباع سنة الرسول وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فإن التزام نظام الوراثة ليس من سنة النبي ولا من سنة خلفائه الراشدين، كما أن ترشيح يزيد لم يكن موفقاً لأسباب منها: إن المجتمع الإسلامي يومئذ كان فيه من هو أحق وأولى
بالخلافة من يزيد في سابقته وعلمه وعمله ومكانه وصحبته كعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم فأين الثرى من الثرية (2)؟ ومهما مبدأ توريث الحكم من الأب لابنه.
وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون إن للذنوب أسباب تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات المحاية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم (3)، ومعاوية رضي الله عنه من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه (4)، والذي يجب أن نعتقده في معاوية أن قلوبنا لا تنضوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل نقول: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (الحشر، الآية: 10) ونقول بأن معاوية اجتهد للأمة خوفاً عليها من الانقسام والفتن، ولا يمكن أن يحمل تبعات كل أخطاء الملوك والأمراء الذين جاؤوا من بعده، كما قرره عبد القادر عوده ـ رحمه الله ـ: حيث يقول: وأقام
_________
(1) الأمويون بين الشرق والغرب للوكيل (1/ 180)
(2) تاريخنا المفترى عليه للقرضاوي صـ250.
(3) منهاج السنة (4/ 385).
(4) سير أعلام النبلاء (3/ 156).(1/497)
معاوية أمر الأمة الإسلامية على المحجات والظلم وإهدار الحقوق، وقضى على الشورى وعطل قول الله تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى، الآية: 38) وحوّل الحكم العادل النظيف إلى حكم قذر قائم على الأهواء والشهوات، ووجه الناس إلى النفاق والذلة والصغار، ولا شك فيه أن كل من جاؤوا بعده إلى عصرنا هذا قد عمل بسنته وتثبتوا ببدعته حاشا عمر بن عبد العزيز، فعلى معاوية وقد استن هذه السنة السيئة إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة (1).
وإذا كان معاوية أو الخلفاء الأمويين قد حوّل الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثالث خلفاء الأمويين قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة .. وإنه لما يستوجبه الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط ولم تستطع الأمة التي أعطيت حقها في اختيار خليفتها أن تعود إلى شكل من أشكال الاختيار السابق في عصر الراشدين، وبرز بوضوح دور العصبية الإقليمية والقبلية وحسم في النهاية الصراع الدائر حول منصب الخلافة لمصلحة البيت الأموي واستطاعت الشام أن تحقق الحسم التاريخي بعمق الالتحام بين بنائها القبلي والوجود الأموي بها (2)، وسيأتي بإذن الله التفصيل عن حديثنا عن معاوية الثاني والحقيقة أن بيعة يزيد قد قبلها الكثير حتى الصحابة رضوان الله عليهم فقد بايعه ستوت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عمر (3)
خوفاً من الفتنة وحرصاً على وحدة الصف، فقد توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بعيد خروج معاوية من المدينة ولم يبق من المعارضين إلا ثلاثة هم ابن عمر وابن الزبير والحسين بن علي، أما ابن عمر فلما رأى الناس مجتمعة على يزيد بايعه وأرسل بيعته بعد وفاة معاوية رضي الله عنه وقال: إن كان خيراً رضينا به وإن كان بلاءً صبرنا (4)، وانحصرت المعارضة في شخص ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد حاول بعض الناس أن يلفقوا على معاوية رضي الله عنه تحسره من بيعة يزيد فنقلوا عنه أنه قال: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي (5). والسند من طريق الواقدي وهو
_________
(1) الإسلام وأوضاعنا السياسية صـ159.
(2) الدولة الأموية المفترى عليها صـ293/ 294، 195.
(3) القيد الشريد ورقة 17 نقلاً عن مواقف المعارضة صـ153.
(4) مصنف ابن أبي شيبة (11/ 100) بسند صحيح.
(5) أنساب الأشراف (4/ 28).(1/498)
متروك (1)،
ونسبوا إليه أيضاً أنه قال ليزيد: ما ألقى الله بشيء أعظم من نفسي من استخلافك (2). والسند من الطريق الهيثم بن عدي وهو كذاب (3)، ولقد اعتمد محمد رشيد رضا رحمه الله على هذه الرواية وتحامل على معاوية تحاملاً قاسياً (4)، ولقد تورط الكثير من الباحثين في الروايات الضعيفة والموضوعة فيما يتعلق بتاريخ صدر الإسلام وبنوا عليها تصورات وأفكار وأحكام تحتاج إلى إعادة نظر من جديد.
ومع ما وقع من إنحراف في تغيير النموذج الأعلى لنظام الحكم الإسلامي، الذي تتمثل فيه روح الإسلام كاملة وهو الخلافة واستبدال الملك العضوض به (5)، إلا أن الطابع الإسلامي هو الصفة الغالبة على مظهر الدولة، وتصرفات الحكام، فالصلاة تؤدي في أوقاتها، والزكاة تحصَّل من أربابها والصوم فريضة لا يُعارض في أدائها، وإقامة الحدود دون هوادة لم يقف شيء دون تنفيذها، والجهاد في سبيل الله فريضة ماضية بين رجالها، وبالجملة كانت تعاليم الإسلام مطبقة بحذافيرها (6).
سابعاً: الأيام الأخيرة في حياة معاوية:
1 ـ وصية معاوية رضي الله عنه ليزيد:
لما حضر معاوية الموت وذلك سنة 60 هـ وكان يزيد غائباً، دعا بالضحاك بن قيس الفهري ـ وكان صاحب شرطته ـ ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيني، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فانتصر
بهم، فإن أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن اقاموا بغير بلادهم
_________
(1) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ152 ..
(2) أنساب الأشراف (4/ 60).
(3) مواقف المعارضة صـ152.
(4) مواقف الصحابة في خلافة يزيد صـ152، الخلافة محمد رشيد صـ52.
(5) كيف نكتب التاريخ الإسلامي صـ112.
(6) الأمويون بين المشرق والمغرب (1/ 94، 95).(1/499)
أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين، فليس ملتمساً قِبَلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحماً ماسّة، وحقاً عظيماً، وقرابة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خَبُّ ضَبُّ، فإذا شخص لك فالبد له، إلا أن يلتمس منك صلحاً، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت (1). تظهر في هذه الوصية كفاية معاوية ودهائه السياسي من خلال تشخيصه لأهمية الأمصار ومدى تأثيرها المستقبلي على أوضاع الدولة الأموية فذكر في وصيته ثلاث أقاليم فقط هي الحجاز والعراق والشام، ذلك أن الأوضاع السياسية خارج دائرة هذه الأقاليم، لم تكن تثير أي هموم جدية لدى معاوية (2).
أـ الحجاز: فالبنسبة للحجاز يوصي معاوية ابنه قائلاً: انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهد من غاب (3)، ويأتي اهتمام معاوية بالحجاز فضلاً عن كونه محل أهله وعشيرته فهو من الناحية السياسية كان ولوقت قريب مركز الثقل السياسي للدولة الإسلامية ((مقر الخلافة)) ومن الناحية الدينية لم يزل يحتل مركز الصدارة لاحتضانه جل ما تبقى من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبإمكانه تقويض حكم بني أمية فيما لو اجتمعت كلمته وأتيحت الفرصة، له وهو بعد ذلك لايزال المكان الحقيقي للبيعة (4)، والأهم من ذلك كله فإنه يضم عدداً من الشخصيات المعارضة للحكم الأموي، أمثال الحسين بن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً كما سنرى ذلك في الفقرات اللاحقة من الوصية، ولذلك نرى معاوية يحث يزيد على استخدام مختلف الوسائل لاستقطاب الحجاز بما في ذلك أغداق الأموال (5)، ولهذه الأسباب أيضاً وضع معاوية السلطة في هذا الإقليم تحت مراقبته المباشرة، حيث
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 241).
(2) الوصية السياسية في العصر العباسي حقي إسماعيل صـ46.
(3) تاريخ الطبري (6/ 241).
(4) الوصية السياسية في العصر العباسي صـ46.
(5) المصدر نفسه صـ46.(1/500)
قام بتنفيذ سياسته في البيت الأموي، وقام بتشجيع مختلف النشاطات غير السياسية المناهضة له فيه (1)، واهتم بأهله اهتماماً خاصاً.
ب ـ العراق: أما الأقليم الثاني الذي يثير اهتمام معاوية فهو العراق، لذا يوصي ولي عهده أن يعامل أهل العراق معاملة خاصة فيقول: انظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل كل يوم
عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إليّ من أن يشهر عليك مائة ألف سيف (2)، ومن الجدير بالذكر أن شكاية أهل العراق من ولاتهم كان منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
جـ ـ الشام: أما الإقليم الثالث هو الشام، فإن وصية معاوية به تأتي من باب رد الجميل لأهل الشام لدورهم الكبير في مساندته بالوصول إلى الحكم وتأييدهم المستمر لسياسته لذا يوصي ابنه أن يجعلهم محل ثقته وعنايته وأن يذخرهم للمهمات الجسام في قوله: وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم فإذا أصبتهم فأردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم (3)، وتظهر الفقرة الأخيرة من هذا النص بعد نظر معاوية السياسي، فهو يسدي مخاوفه من اختلاط أهل الشام (4)، ببقية سكان الأقاليم الأخرى فتتبدل أخلاقهم نتيجة مكوثهم مدة طويلة ولربما استطاع المعارضون للحكم الأموي التأثير على جند الشام، على الرغم من التقاء مصالحهم مع مصالح البيت الأموي، فتسقط من يد الخلافة الأموية الورقة الرابحة التي طالما استخدمها معاوية وقطف ثمارها ولهذا يوصي معاوية ابنه بأن يسرع في إعادة جند الشام إلى بلادهم حال انتهاء مهمتهم (5)، ومن أهم ما في وصية معاوية خطته التي رسمها لولي عهده في مواجهة الأحداث المقبلة، وأوكل إليه تنفيذها بعد أن عجز هو من اقناع نفر من قريش بالبيعة ليزيد على الرغم من أن الروايات تذكر أن معاوية ذهب إلى الحجاز لهذا الغرض والتقى بالشخصيات التي رفضت البيعة ليزيد كلاً على انفراد في محاولة للحصول منهم على وعود بالبيعة (6)، إلا إن
_________
(1) الوصية السياسية في العصر العباسي صـ46.
(2) تاريخ الطبري (6/ 241).
(3) المصدر نفسه (6/ 241).
(4) الوصية السياسية في العصر العباسي صـ4.
(5) المصدر نفسه صـ48.
(6) الوصية السياسية في العصر العباسي صـ 48.(1/501)
هذه الجهود لم تثمر في تذليل المصاعب قب ظهورها (1)،
والوصية تظهر أن الحجاز، وتحديداً المدينة، هي أكثر البلدان معارضة لحكم بني أمية ولهذا يوصي معاوية إبنه أن يكون حذراً ودقيقاً في تعامله معها، وأن يكون حازماً شديدا حين يتطلب الأمر ذلك، ومرناً ليناً مع من لا يشكلون خطراً حقيقاً عليه، لما للحجاز من أهمية بالغة في تقرير وتثبيت الحكم (2).
وكان معاوية رضي الله عنه مصيباً في رأيه بعبد الله بن عمر من أنه رجل قد وقذه الدين، ولا خطر على يزيد منه، وذلك أن الوليد بن عتبة حين طلبه للبيعة قال: إذا بايعت الناس بايعت فتركوه لثقتهم بزهادته في الأمر وشغله بالعبادة (3)، وكان مصيباً في حدسه من أهل العراق لن يتركوا الحسين بن علي رضي الله عنه حتى يخرجوه، ويبدو أنه كان متأكداً من وقوع الاصطدام بينهما، لذلك طلب من يزيد أن يعفوا عنه إذا تمكن منه، أما الخطر الحقيقي والذي يتطلب الحزم
والشدة فإنه يأتي من عبد الله بن الزبير الذي كان يتمتع على ما يبدو من تأييد واسع النطاق بين معظم المعارضين للحكم الأموي، ولأنه كان رجل سياسة وحرب من الطراز الأول، وعلى الجملة فإن وصية معاوية تعكس سياسته ودهاءه في تصريف الأمور، فنراه من خلال الوصية يتعامل مع الأحداث التي تتطلب الشدة حزماً، وفيما عدا ذلك فهو يستخدم خبرته وتجربته السياسية الطويلة في مواجهة الأحداث، وقد وصف معاوية نفسه مشيراً إلى هذه السياسة بقوله: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها (4)، وكان على الدوام يوصي يزيد بهذه السياسة فيقول له: عليك بالحلم، والاحتمال حتى تمكنك الفرصة فإذا أمكنك فعليك بالصفح فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور (5). وفي هذه الوصية يلخص معاوية رضي الله عنه منهجه وخبرته في السياسة والإدارة لابنه يزيد في كلمات قليلة جامعة تنم عما يتمتع به هذا الصحابي الكريم من حنكة سياسية وبراعة إدارية (6).
_________
(1) المصدر نفسه صـ48 ..
(2) المصدر نفسه صـ49.
(3) أنساب الأشراف (4/ 14).
(4) نهاية الإرب (6/ 44) العقد الفريد (1/ 25).
(5) نهاية الإرب (1/ 256).
(6) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري صـ95.(1/502)
2 ـ آخر خطبة لمعاوية رضي الله عنه واشتداد مرضه ووفاته:
كانت آخر خطبة خطبها معاوية رضي الله عنه قوله: أيُّها الناس إني من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي إلا من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيراً مني، ويا يزيد إذا وفى أجلي فوَلِّ غسلي رجلاً لبيباً، فإن اللبيب من الله بمكان فليُنعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم أعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقُراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي وأُذُنيَّ وعيْنيَّ، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني، ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي، ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين (1).
ولما احتضر معاوية جعل يقول:
لعمري لقد عُمِّرتُ في الدهر بُرهة
ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
وأعطيت حُمْرَ المال والحكم والنّهى
وسِلْمَ قماقيم (2) الملوك الجبابر
فأضحى الذي قد كان مما يَسُرُّني
كحلم مضى في المزمنات الغوابر
فيا ليتني لم أُعن في الملك ساعة
ولم أُعْنَ في لذات عيشٍ نواضر
وكنت كذي طمرين عاش ببُلْغةٍ
من العيش حتى زار ضيق المقابر (3)
وقد أوصى معاوية بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال كأنه أراد أن يُطيَّب له، لأن عمر بن الخطاب قاسم عمّاله (4). وذكروا أنه في آخر عمره اشتد به البَرْدُ فكان إذا لبس أو تغطَّى بشيء ثقيل يَغُمُّه، فاتُّخذ له ثوب من حواصل الطير (5)، ثم ثقل عليه بعد ذلك، فقال: تبَّاً لك من دار ملكتك أربعين سنة، عشرين أميراً، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تباً للدنيا ومُحبِّيها (6)، ولما اشتد المرض وتحدث الناس أنه الموت قال لأهله، أحشوا عيْنيّ إثمداً، وأوسعوا
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 454).
(2) القماقم والقُماقِقم من الرجال: السيد الكثير الخير الواسع الفضل ويجمع قياساً على قماقيم.
(3) البداية والنهاية (11/ 455).
(4) البداية والنهاية (11/ 455).
(5) الحواصل جمع حوصلة وحوصلة الطائر بمنزلة المعدة للإنسان.
(6) البداية والنهاية (11/ 455).(1/503)
رأسي دُهناً. ففعلوا وبرّقوا (1) وجهه بالدهن، ثم مُهِّد له فجلس وقال: أسندوني. ثم قال: إئذنوا للناس فليُسلموا عليَّ قياماً ولا يحبس أحد. فجعل الرجل يدخل فيُسلم قائماً فيراه متكحِّلاً مُتدهِّناً، فيقول متقوِّل الناس: هو لمّا به (2)، وهو أصح الناس، فلما خرَجوا من عنده (3) تمثل معاوية بقول أبي ذؤيب الهذلي الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كلَّ تميمة لا تنفع
وكان به النقابة (4)، فمات من يومه ذلك (5)، وكان يقول لما نزل به الموت: يا ليتني كنت رجلاً من قريش بذى طوى ولم أَلِ من هذا الأمر شيئاً (6)، ومن الشعر الذي تمثل به أيضاً قول الشاعر:
إن تناقش يكن نقاشك يا ربِّ
عذاباً لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز تجاوز العفو فاصفح
عن مسيءٍ ذنوبه كالتُّراب (7)
وقال رضي الله عنه وهو يُقَلبّ في مرضه، وقد صار كأنه سعفة محترقة: أي شيخ تقلِّبون إن نجاه الله من النار غداً (8)؟، وقال الحسن البصري: دُخل علىمعاوية وهو بالموت، فبكى، فقيل: ما يبكيك؟
قال: ما أبكي على الموت أن حل بي، ولا على دنيا أخلفها ولكن هما قبضتان: قبضة في الجنة، وقبضة في النار، فلا أدري في أي القبضتين أنا (9)
وأغمى على معاوية رضي الله عنه في سكرات الموت ثم أفاق فقال لأهله: اتّقوا الله، فإن الله يَقي من اتَّقاه ولا يَقي من لا يَتَّقي (10)، وجعل معاوية رضي الله عنه لما احتضر يضع خده على الأرض ثم يُقلِّب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) (النساء، الآية: 48) اللهم اجعلني ممَّن تشاء أن تغفر له (11)، ومن دعائه في ذلك اليوم:
_________
(1) برَّقوا: لمَّعوا.
(2) لما به: اقترب أجله.
(3) البداية والنهاية (11/ 456).
(4) النقابة: قرحة تخرج في الجنب وتهجم الجوف.
(5) البداية والنهاية (11/ 456).
(6) المصدر نفسه (11/ 456).
(7) البداية والنهاية (11/ 456).
(8) البداية والنهاية (11/ 457).
(9) كتاب المحتضرين صـ199، سكب العبرات (1/ 190).
(10) تاريخ الطبري (6/ 245).
(11) البداية والنهاية (11/ 457).(1/504)
اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يَرْجُ غيرك فإنك واسع المغفرة ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك ثم مات (1). وجاء في رواية: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي (2) رحم الله معاوية رضي الله عنه.
3 ـ سنة وفاة معاوية ومن صلى عليه:
قال الطبري: في هذه السنة هلك معاوية بن أبي سفيان بدمشق، فاختلف في وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان في سنة ستين من الهجرة وفي شهر رجب (3)، وقال ابن حجر: مات معاوية في رجب سنة ستين على الصحيح (4) وصلى على معاوية الضحاك ابن قيس الفهري، وكان يزيد غائباً حين مات معاوية (5)، فقد خرج الضحاك حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه تلوح، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن معاوية كان عود العرب (6)، وحدّ العرب (7)، قطع الله عز وجل به الفتنة وملَّكهُ على العباد، وفتح به البلاد. ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومُخَلُّون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى (8)، وبعث البريد إلى يزيد بوجع معاوية وقد اختلف المؤرخون هل حاضر يزيد وفاة أبيه أم لا؟ والصحيح أن يزيد لم يدرك والده حياً وإنما جاء بعد موته (9). ولما وصل يزيد الخبر قال:
جاء البريد بقرطاس يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل ماذا في كتابكم؟ ... قالوا: الخليفة أمس مثبتاً وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أغبر من أركانها انقطعا
من لا تزال نفسه توفي على شرف ... توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا
لما انتهينا وباب الدار منصفق ... وصوت رملة (10) رِيعَ القلب فانصدعا (11)
_________
(1) المصدر نفسه (11/ 457).
(2) تاريخ ابن خلدون (3/ 21).
(3) تاريخ الطبري (6/ 241).
(4) الإصابة (6/ 155).
(5) تاريخ الطبري (6/ 245).
(6) العود: الرجل المسن: لسان العرب (3/ 321).
(7) حد كل شيء: منتهاه.
(8) أي عند صلاة الظهر كما ورد في بقية المصادر.
(9) تاريخ الطبري (6/ 246).
(10) رملة بنت معاوية بن أبي سفيان، زوجة عمرو بن عثمان بن عفان.
(11) تاريخ الطبري (6/ 246).(1/505)
4 ـ عمر معاوية رضي الله عنه عند وفاته:
علىالقول الراجح: توفي معاوية وهو ابن ثمان وسبعين سنة (1)، بدليل قول ابن حجر: إن مولده كان قبل البعثة بخمس سنوات على الأشهر (2)، وكما هو معروف فإن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، وبذلك يكون مولد معاوية قبل الهجرة بثمان عشرة سنة، ولما كانت وفاته سنة ستين، فهذا يعني أن عمره عند وفاته كان ثمان وسبعين سنة (3).
5 ـ مدة خلافته:
تنازل الحسن بن علي لمعاوية بالتخيلة وتمت بيعته في شهر ربيع الأول من عام 41 هـ ومات بدمشق سنة 60 هـ يوم الخميس لثمان بقين من رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً (4)
6 ـ ما قيل فيه من رثاء:
قال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه:
ألا أنعي معاوية بن حرب ... نعاه الحل للشهر الحرام
نعاه الناعجات (5) بكل فجٍّ ... خواضع في الأزمَّةِ كالسِّهام
فهاتيك النجوم وهنَّ خُرْسٌ ... ينخن على معاوية الشآم
وقال أيمن بن خزيم يرثيه أيضاً:
رمى الحدثانَّ نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سُمودا
فرَدَّ شعورهنَّ السُّود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سُودا
فإنك لو شهدت بكاء هند ... ورملة إذ يُصَفِّقْن الخُدودا
بكيت بكاء مُعْوِلةٍ قّرِيح (6) ... أصاب الدهر واحدها الفريدا (7)
_________
(1) تاريخ الطبري (6/ 243).
(2) الإصابة (6/ 151).
(3) تاريخ الطبري (6/ 243).
(4) المصدر نفسه (6/ 243).
(5) الناعجات: جمع ناعجة وهي المرأة حسنة اللون.
(6) المعولة: الرافعة صوتها بالبكاء، القريح: الجريح.
(7) البداية والنهاية (11/ 462).(1/506)
7 ـ ما قاله ابن عباس في موت معاوية رضي الله عنهم:
قال عامر بن مسعود الجهني: مرّ بنا نعيُ معاوية ونحن في المسجد, فأتينا ابن عباس, فوجدناه جالساً وقد وضع خوانه (1) , وعنده نفر, ولم يوضع الطعام, فقلنا يا: ابن عباس: أما علمت بهذا الخبر؟ فقال: وما هو؟ قلنا: هلك معاوية. فقال: ارفع خوانك ياغلام, وسكت
ساعة هاجما (2) , ثم قال: جبل تزعزع ثم زال بجمعه في البحر (3). قال القاضي أبو يعلى بعدما ذكر القصة: اللهم أنت أوسع لمعاوية كنفاً, وأحسن من تجاوز عنه وعنّا (4).
8 ـ نقش خاتمه:
كان نقش خاتمه: لكل عمل ثواب (5) , وقيل: لا قوة إلا بالله (6).
9 ـ التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الأعلى بن ميمون, عن أبيه: أن معاوية قال في مرضه الذي مات فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني قميصاً فرفعته, وقلَّم أظفاره يوماً, فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة, فإذا مت فألبسوني ذلك القميص, وقطعِّوا تلك القلامة, واسحقوها وذُرٌّوها في عيني, وفي فيّ (7) , فعسى الله أن يرحمنى ببركتها (8).
ويعتبر تبرك الصحابة رضوان الله عليهم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الحسية المنفصلة عنه, من أنواع التبرك المشروع حيث فعله الصحابة رضوان الله عليهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته (9) كما فعله السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن الأدلة على ذلك:
أـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل, فتوضأ, وصب علي من وضوئه فعقلت (10).
ب ـ عن عثمان بن عبد الله بن وهب قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء .. فيها شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم, وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث
_________
(1) الخوان: ما يوضع عليه الطعام عند الأكل.
(2) هاجماً: الهاجم: الساكن المطرق.
(3) تنزيه خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ص113.
(4) المصدر نفسه ص 113.
(5) تاريخ القضاعي ص 326.
(6) المصدر نفسه ص 326.
(7) فيّ: الفم.
(8) تاريخ الطبري (6/ 245).
(9) مرويات معاوية في تاريخ الطبري ص 93.
(10) صحيح البخاري مع فتح الباري (1/ 360).(1/507)
إليها مخضبة (1). قال ابن حجر: بعث إليها مخضبة ـ وهو من جملة الآنية ـ والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب الإناء أو يغتسل بعده استشفاءً بها فتحصل له (2).
جـ ـ وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت في جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت، قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها (3).
وقد فرّع العلماء على مسألة التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة التبرك بفضلات الصالحين، وآثارهم ففي حديث عروة بنى مسعود وهو يصف أصحاب رسول الله عليه وسلم حوله، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلاوقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده ... وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وضوئه (4)، وقد علق الشاطبي على هذا الحديث، وأحاديث أخرى تماثله، فقال: فالظاهر في مثل هذا النَّوع أن يكون مشروعاً في حق من ثبتت ولايته، واتِّباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتبرك بفضل وضوئه، ويُتدلَّك بنخامته، ويُستشفى بآثاره كلِّها، إلا أنَّه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم في شيء من ذلك بالنِّسبة إلى مَنْ خَلَفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده، ثمّ كذلك عثمان بن عفان، ثمّ علي، ثمّ سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمَّة، ثمَّ لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبرِّكاً تبرك به أحد تلك الوجوه، أو نحوها، بل اقتصروا على الاقتداء بالأفعال، والأقوال، والسِّير التي اتَّبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء (5).
* * *
_________
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري (10/ 364).
(2) فتح الباري (10/ 365).
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (14/ 43).
(4) زاد المعاد (3/ 290) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية صـ488.
(5) غزوة الحديبة للحكمي صـ305.(1/508)