تَعْدُو بِنَا شَطْرَ جَمْعٍ وَهِيَ عاقدةٌ ... قَدْ كارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الحَقَبا1
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَقَالَ قَيْس بْنُ خُوَيْلد الهُذَلي يَصِفُ نَاقَتَهُ:
إنَّ النَّعوسَ بِهَا داءٌ مُخامِرها ... فَشَطْرَها نظرُ العَيْنين مَحْسور
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالنَّعُوسُ: نَاقَتُهُ، وَكَانَ بِهَا دَاءٌ فَنَظَرَ إلَيْهَا نَظَرَ حسير، من قوله: {وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] .
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: إلى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 147] .
كتمانهم ما في التوراة: وَسَأَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَخُو بَنِي سَلَمة، ثم وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الأشْهل وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْد، أَخُو بَلْحارث بْنِ الْخَزْرَجِ، نَفَرًا مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ عَنْ بَعْضِ مَا في التوراة، فكتموهم في إيَّاهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُخْبِرُوهُمْ عَنْهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] .
جوابهم النبي عليه السلام حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسلام: قَالَ: وَدَعَا رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليهودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَى الإِسلام وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وحذَّرهم عَذَابَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ. فَقَالَ لَهُ رَافِعُ بْنُ خَارجة، وَمَالِكُ بْنُ عَوْف: بَلْ نَتْبَعُ يَا مُحَمَّدُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنا، فَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَخَيْرًا مِنَّا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] .
جَمْعُهُمْ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ: وَلَمَّا أَصَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ جَمَعَ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يهودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنقاع، حَيْنَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فقال: يا معشر يهود،
__________
1 ناقة عاقدة: إذا جعلت ذنبها بين فخذيها في أول حملها، وإيفادها إشرافها، والحقب حبل بشد به الرحل إلى بطن الناقة.(2/143)
أسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصيبكم اللَّهُ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ بِهِ قُرَيْشًا، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، لايغرنَّك مِنْ نفسِك أَنَّكَ قتلتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، كَانُوا أغْمارًا1 لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إنَّكَ وَاَللَّهِ لَوْ قَاتَلْتنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نحنُ الناسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مثلَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 12، 13] .
دُخُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْتَ المِدْرَاس: قَالَ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْتَ المِدْرَاس2 عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ قَالَا: فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يهوديُّا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فهلُمَّ إلَى التَّوْرَاةِ، فَهِيَ بَيْنَنَا وبينَكم، فأبَيَا عَلَيْهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23، 24] .
تنازع الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إبراهيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَقَالَ أحبارُ يهودَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ حَيْنَ اجْتَمَعُوا عندَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَنَازَعُوا فَقَالَتْ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلَّا يَهُودِيًّا وقالت النصارى من أهل في نَجْرَانَ: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلَّا نَصْرانيًّا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} . [آل عمران: 65، 68] .
ما نزل في إيمانهم غُدْوَة وكفرهم عَشِيًّا: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَيْف، وعَدِي بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْف، بعضُهم لِبَعْضٍ: تعالَوْا نؤمنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غُدَوة، وَنَكْفُرْ بِهِ عَشِيَّةً، حَتَّى نَلبس عَلَيْهِمْ دينَهم لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ، وَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِ. فأنزل الله
__________
1 الأغمار: السذج الذين لم يجربوا الأمور.
2 المدارس: البيت الذي يدرس فيه اليهود كتابهم والمدراس أيضًا من يدرس لهم.(2/144)
تَعَالَى فِيهِمْ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 71-73] .
ما نزل في قول أبي رافع أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى: وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ القُرظيُّ حَيْنَ اجْتَمَعَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ، وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم إلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ مِنَّا يَا مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؟ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ نَصْرَانِيٌّ، يُقَالُ له: الريِّس، ويروى: الرُّبيِّس، والرئيس: أو ذاك تُرِيدُ مِنَّا يَا مُحَمَّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا؟ أَوْ كَمَا قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ أَوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَمَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللَّهُ، وَلَا أَمَرَنِي أَوْ كَمَا قَالَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79-80] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الرَّبَّانِيُّونَ: الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ السَّادَةُ؟ وَاحِدُهُمْ: رَبَّاني.
قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ كنتُ مُرتهِنًا فِي القَوْس أفْتَنني ... مِنْهَا الكلامُ وربانيَّ أحبارِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْقَوْسُ: صَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ. وَأَفْتَنَنِي، لُغَةُ تَمِيمٍ. وَفَتَنَنِي، لُغَةُ قَيْسٍ.
قَالَ جَرِيرٌ:
لَا وَصْلَ إذْ صَرمتْ هندٌ وَلَوْ وَقَفَتْ ... لَاسْتَنْزَلَتْنِي وَذَا المِسْحَيْن فِي القَوْسِ
أَيْ صَوْمَعَةَ الرَّاهِبِ. وَالرَّبَّانِيُّ: مُشْتَقٌّ مِنْ الرَّبِّ، وَهُوَ السَّيِّدُ. وفي كتاب الله: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41] أَيْ: سَيِّدَهُ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] .(2/145)
مَا نَزَلَ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ الميثاقِ بِتَصْدِيقِهِ إذْ هُوَ جَاءَهُمْ، وَإِقْرَارَهُمْ، فَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
سَعْيُهُمْ فِي الْوَقِيعَةِ بَيْنَ الْأَنْصَارِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَرَّ شَأس بْنُ قيْس، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا1، عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الضّغْن عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ، عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الأوْس وَالْخَزْرَجِ، فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ، يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: قَدْ اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد، وَاَللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ. فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنْ يَهُودَ كَانَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: اعمدْ إلَيْهِمْ، فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، ثُمَّ اُذْكُرْ يومَ بُعاث وَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ من الأشعار يَوْمِ بُعَاثَ: وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَكَانَ الظَّفْرُ فِيهِ يَوْمئِذٍ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، وَكَانَ عَلَى الْأَوْسِ يَوْمئِذٍ حُضَيْر بْنُ سِماك الْأَشْهَلِيُّ: أَبُو أسَيْد بْنُ حُضيْر؟ وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَمْرُو بْنُ النُّعْمَانِ البَيَاضِيُّ، فقُتلا جَمِيعًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ أَبُو قَيْس بْنُ الْأَسْلَتِ:
عَلَى أنْ قَدْ فُجِعْتُ بِذِي حِفاظٍ ... فَعَاوَدَنِي لَهُ حُزْنٌ رَصينُ2
فَإِمَّا تَقْتُلُوهُ فَإِنَّ عَمْرًا ... أعَضَّ برأسِهِ عَضَبٌ سَنِينُ3
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَحَدِيثُ يَوْمِ بُعاث أَطْوَلُ مِمَّا ذَكَرْتُ، وَإِنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ استقصائه ما ذكرت من القطع4.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَنِينُ، مَسْنُونٌ، مِنْ سَنَّه إذا شَحذَه.
__________
1 عسا الشيخ: كبر.
2 الحفاظ: شدة الغضب: والرصين: الثابت.
3 العضب: السيف القاطع.
4 يقصد القطع لسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.(2/146)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَفَعَلَ. فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا، حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنْ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرُّكب، أوْس بْنُ قَيْظِي، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ، مِنْ الأوْس، وجَبَّار بْنُ صَخْر، أَحَدُ بَنِي سَلمة مِنْ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنْ شِئْتُمْ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعة، فَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا مَوْعِدُكُمْ الظَّاهِرَةُ -وَالظَّاهِرَةُ: الْحرَّةُ- السلاحَ السلاحَ. فَخَرَجُوا إلَيْهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهَ اللَّهَ، أبدعْوى، الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَا بينَ أظهرِكم بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ، وألَّف بِهِ من قُلُوبِكُمْ؟! فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَزْغة1 مِنْ الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَبَكَوْا وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بعضُهم بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ، اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيْد عَدُوِّ اللَّهِ شَأس بْنِ قَيِّسْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98،99] .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أوْس بْنِ قَيْظي وَجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا، عَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَأْسٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 100-102] . إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] .
ما نزل في قولهم: ما اتبع محمدًا إلَّا شِرَارُنَا: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا أَسْلَمَ عبدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وثعلبةُ بْنُ سَعْية، وَأُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيد، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ، فَآمَنُوا وصدَّقوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَرَسَخُوا فِيهِ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ، أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا اتَّبَعَهُ إلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَخْيَارِنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إلَى غَيْرِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] .
__________
1 نزغ الشيطان بينهم: أفسد وأغرى.(2/147)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: آنَاءَ اللَّيْلِ: سَاعَاتِ اللَّيْلِ: وَوَاحِدُهَا: إنْي. قَالَ المُتنَخِّلُ الهُذَلي، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عُوَيْمر، يَرْثِي أثيْلة ابْنَهُ:
حُلْوٌ ومُر كعَطْفِ القِدْحِ شيمتهُ ... فِي كُلِّ إنْي قَضَاهُ الليلُ يَنْتَعلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ يَصِفُ حمارَ وَحْشٍ:
يُطَرِّب آناءَ النَّهَارِ كَأَنَّهُ ... غَوِي سَقَاهُ فِي التِّجارِ نديمُ1
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَيُقَالُ: إنًى مَقْصُورٌ، فِيمَا أَخْبَرَنِي يُونُسُ.
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114] .
مَا نَزَلَ فِي نَهْي الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُبَاطَنَةِ الْيَهُودِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ الْيَهُودِ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِوَارِ والحِلف، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 118، 119] ، أَيْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ، وَبِمَا مَضَى مِنْ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ، فَأَنْتُمْ كُنْتُمْ أَحَقَّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ مِنْهُمْ لَكُمْ: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119] إلى آخر القصة.
دخول أبي بكر بيت المدراس: وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى يَهُودَ، فَوَجَدَ مِنْهُمْ نَاسًا كَثِيرًا قَدْ اجْتَمَعُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ فِنْحاص، وَكَانَ من علمائهم وأحبارهم، ومعه في حَبْر مِنْ أَحْبَارِهِمْ، يُقَالُ لَهُ: أشْيع، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِفِنْحَاصٍ: وَيْحَكَ! يَا فَنُحَاصُ! اتَّقِ اللَّهِ وأسْلمْ؟ فَوَاَللَّهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا لَرَسُولُ اللَّهِ، قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَقَالَ فِنْحَاصُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَاَللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا بِنَا إلَى اللَّهِ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرَّعُ إلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَمَا هُوَ عَنَّا بغني، ولو
__________
1 الغوي: المفسد. والتجار: بائعو الخمر. والمفرد تاجر.(2/148)
كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا اسْتَقْرَضَنَا أموالَنا، كَمَا يَزْعُمُ صاحبُكم، يَنْهَاكُمْ عَنْ الرِّبَا ويُعْطيناه وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا قَالَ: فغضِب أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ، أيْ عدوَّ اللَّهِ. قَالَ: فَذَهَبَ فِنْحاص إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اُنْظُرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي بَكْرٍ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صنعتَ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا: إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غضبتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ، وَضَرَبْتُ وَجْهَهُ. فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنحاص، وَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ رَدًّا عَلَيْهِ وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181] .
وَنَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَضَبِ {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] .
ثُمَّ قَالَ فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ وَالْأَحْبَارُ مَعَهُ مِنْ يَهُودَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ، لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَعْنِي فِنْحَاصَ، وأشْيَع وَأَشْبَاهَهُمَا مِنْ الْأَحْبَارِ، الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُونَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى ما زينوا للناس من الضلالة، ويحبونه أَنْ يُحمدوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: عُلَمَاءُ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ عِلْمٍ، لَمْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى هُدى وَلَا حَق، وَيُحِبُّونَ أَنْ يَقُولَ الناس: قد فعلوا.
أمر اليهود الْمُؤْمِنِينَ بِالْبُخْلِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ كَرْدَمُ بْنُ قَيْسٍ، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وبَحْري بْنُ عَمرو، وحُيي بْنُ أخْطَب، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْد بْنِ التَّابُوتِ، يَأْتُونَ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا يُخَالِطُونَهُمْ، يَنْتَصِحُونَ لَهُمْ، مِنْ أصحابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تُنْفِقُوا أموالَكم فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكُمْ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا، وَلَا تُسارعوا فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ علامَ يَكُونُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، أَيْ: مِنْ التَّوْرَاةِ، الَّتِي فِيهَا تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، إلَى قَوْلِهِ تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} .(2/149)
اليهود –لعنهم الله– يجحدون الحقَّ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زيْد بْنِ التَّابُوتِ مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ، إذَا كلم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لَوَى لسانَه، وَقَالَ: أرْعنا سمعَك يَا مُحَمَّدُ، حَتَّى نُفْهِمَكَ، ثُمَّ طَعَنَ فِي الإِسلام وَعَابَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا} ، أَيْ رَاعِنَا سَمْعَكَ: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} وكَلم رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رؤساءَ مِنْ أحبارِ يَهُودَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُوريا الْأَعْوَرُ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا، فَوَاَللَّهِ إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ لَحَقٌّ، قَالُوا: مَا نَعْرِفُ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ: فَجَحَدُوا مَا عَرَفُوا، وَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نَطْمِسَ: نَمْسَحَهَا فَنُسَوِّيهَا، فَلَا يُرى فِيهَا عينٌ وَلَا أَنْفٌ وَلَا فَمٌ، ولا شيء بما يُرَى في الوجه، وكذلك: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] الْمَطْمُوسُ الْعَيْنُ: الَّذِي لَيْسَ بَيْنَ جَفْنَيْهِ شِقٌّ. وَيُقَالُ: طَمَسْتُ الكتابَ وَالْأَثَرَ، فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ. قَالَ الْأَخْطَلُ، وَاسْمُهُ الغَوْث1 بْنُ هُبَيْرة بْنِ الصَّلْت التَّغْلبي، يَصِفُ إبِلًا كَلَّفها مَا ذَكَرَ:
وتُكْلِيفُناهَا كلَّ طامسةِ الصُّوَى ... شطونٍ تَرَى حِرْباءَها يتململُ2
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاحِدَةُ الصُّوَى: صُوَّة. والصُّوَى: الأعلام التي يُستدل بها على الطرق والماء.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَقُولُ: مُسِحت فَاسْتَوَتْ بِالْأَرْضِ، فليس فيها شيء ناتئ.
__________
1 المشهور أن اسمه غياث بن غوث بن مصلت ويكنى أبا مالك.
2 الشطون: البعيد، والحرباء دويبة صغيرة تتلون في الشمس ألوانًا لها أربع قوائم جمعها حرابي.(2/150)
مَنْ حَزَّب الْأَحْزَابَ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الَّذِينَ حَزَّبوا الأحزابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنْي قُرَيْظَةَ: حُيي بن أخْطَب، وسلام، ابن أَبِي الحُقَيق، أَبُو رَافِعٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الحُقَيق وَأَبُو عَمَّار، ووَحْوَح بْنُ عَامِرٍ، وهَوْذة بْنُ قَيْسٍ. فَأَمَّا وَحْوَح، وَأَبُو عَمَّار، وهَوْذة فَمِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ، فَسَلُوهُمْ، دينُكم خَيْرٌ أَمْ دينُ مُحَمَّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: بَلْ دينُكم خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أهْدَى مِنْهُ وَمِمَّنْ اتَّبَعَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْجِبْتُ عِنْدَ الْعَرَبِ: مَا عُبد مِنْ دُونِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَالطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا أَضَلَّ عَنْ الحقِّ. وجَمْع الجِبْت: جُبوت وَجَمْعُ الطَّاغُوتِ طَوَاغيت.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنَا عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيح أَنَّهُ قَالَ: الْجِبْتُ: السَّحَرُ وَالطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ.
{وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] .
إنكار اليهودِ التنزيلَ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ سُكَيْن وعَدي بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ، مَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشر مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
وَدَخَلَتْ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: أمَا وَاَللَّهِ إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ إلَيْكُمْ؟ قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ، وَمَا نَشْهَدُ عَلَيْهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] .
اتفاقهم عَلَى طَرْحِ الصَّخْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى بَنِي النَّضير يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِية العامرييْن اللَّذَيْن قتلَ عَمْرُو بنُ أمية الضَّمْري.(2/151)
فَلَمَّا خَلَا بعضُهم بِبَعْضٍ قَالُوا: لَنْ تَجِدُوا مُحَمَّدًا أقربَ مِنْهُ الآنَ، فَمَنْ رَجُلٌ يَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيَطْرَحَ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحَنَا مِنْهُ؟ فَقَالَ عَمرو بْنُ جَحَّاشِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخَبَرُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَفِيمَا أَرَادَ هُوَ وَقَوْمُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
ادِّعاؤهم أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُ اللَّهِ: وَأَتَى رسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نعمانُ بْنُ أَضَاءَ، وبَحْري بْنُ عَمرو، وَشَأْسُ بْنُ عَدي، فَكَلَّمُوهُ وَكَلَّمَهُمْ رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ، وحذَّرهم نِقْمته، فَقَالُوا، مَا تُخوفنا يَا مُحَمَّدُ، نَحْنُ وَاَللَّهِ أبناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، كَقَوْلِ النَّصَارَى. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .
إنْكَارُهُمْ نُزُولَ كتاب من بعد موسى: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَدَعَا رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يهودَ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَحَذَّرَهُمْ غيرَ اللَّهِ وَعُقُوبَتَهُ، فأبَوْا عَلَيْهِ، وَكَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبادة، وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاَللَّهِ إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قبلَ مَبْعَثِهِ وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ؟ فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْملة، وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذا: مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا قَطُّ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بعدَ مُوسَى وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بعدَه. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِمْ خبرَ مُوسَى وَمَا لَقِيَ مِنْهُمْ، وَانْتِقَاضَهُمْ عَلَيْهِ وَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ حَتَّى تَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَةً.
رُجُوعُهُمْ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حُكْمِ الرَّجْمِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي ابنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنة، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، يحدِّث سعيدَ بْنَ المسيَّب، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ أَحْبَارَ يَهُودَ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ المِدْراس، حَيْنَ قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ، وَقَدْ زَنَى رجلٌ مِنْهُمْ بَعْدَ إحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ مِنْ يهودَ قَدْ أَحْصَنَتْ، فَقَالُوا: ابْعَثُوا بِهَذَا الرجلِ وَهَذِهِ الْمَرْأَةِ إلَى مُحَمَّدٍ، فَسَلوه كَيْفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا، وَوَلُّوهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ عَمِلَ فِيهِمَا بِعَمَلِكُمْ مِنْ التَّجْبِيَةِ -وَالتَّجْبِيَةُ: الْجَلْدُ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ مَطْلى بقارٍ، ثُمَّ تُسَوَّد(2/152)
وُجُوهُهُمَا ثُمَّ يُحملان عَلَى حِمَاريْن وَتُجْعَلُ وُجُوهُهُمَا مِنْ قِبلِ أَدْبَارِ الْحِمَارَيْنِ- فَاتَّبِعُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ مَلِك، وَصَدِّقُوهُ: وَإِنْ هُوَ حَكَمَ فِيهِمَا بِالرَّجْمِ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى مَا فِي أَيْدِيكُمْ أَنْ يَسْلبَكُموه، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَذَا رَجُلٌ قَدْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ قَدْ أَحْصَنَتْ، فَاحْكُمْ فِيهِمَا، فَقَدْ وَلَّيْنَاكَ الْحُكْمَ فِيهِمَا. فَمَشَى رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى أحبارَهم فِي بَيْتِ المدْرَاس فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَخْرِجُوا إليَّ علماءَكم، فَأُخْرِجَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بعضُ بَنِي قُرَيْظة: أَنَّهُمْ قَدْ أَخَرَجُوا إلَيْهِ يَوْمئِذٍ، مَعَ ابْنِ صُوريا، أَبَا يَاسِرِ بْنِ أخْطَب، وَوَهْبَ بْنَ يَهُوذا، فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ عُلَمَاؤُنَا. فَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى حَصَّل أمرَهم، إلَى أَنْ قَالُوا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُورِيَّا: هَذَا أَعْلَمُ مَنْ بقيَ بِالتَّوْرَاةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِنْ قَوْلِهِ: "وَحَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ"، إلَى: "أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِالتَّوْرَاةِ" مِنْ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ.
فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ غُلَامًا شَابًّا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنا، فألَظَّ بِهِ1 رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- المسألة، يقول له: يابن صُوريا، أنْشُدك اللَّهَ وأذكِّرك بأيامِهِ عِنْدَ بَنِي إسرائيلَ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِيمَنْ زنَى بَعْدَ إحصانهِ بِالرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، أَمَا وَاَللَّهِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إنَّهُمْ لَيَعْرِفُونَ أَنَّكَ لَنَبِيٌّ مُرْسَل وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكَ. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَ بِهِمَا فرُجما عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ فِي بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ: ثُمَّ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ صُوريا، وَجَحَدَ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أَيْ: الَّذِينَ بَعَثُوا مِنْهُمْ مَنْ بَعَثُوا وَتَخَلَّفُوا، وَأَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ تَحْرِيفِ الْحُكْمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، ثُمَّ قَالَ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} ، أي: الرجم، {فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي محمدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رَكَانة عن إسماعيل عن إبْرَاهِيمَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجْمِهِمَا، فرُجما بِبَابِ مَسْجِدِهِ، فَلَمَّا وجدَ اليهوديُّ مَسَّ الحِجارة قَامَ إلَى صَاحِبَتِهِ فَجَنَأَ عَليْها2، يَقِيهَا مَسَّ الحجارةِ، حتى قُتلا جميعًا،
__________
1 ألظ به: ألح عليه.
2 جنا: انحنى.(2/153)
قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تَحْقِيقِ الزِّنَا مِنْهُمَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسان، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا حكَّموا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِمَا، دَعَاهُمْ بِالتَّوْرَاةِ وَجَلَسَ حَبْر مِنْهُمْ يَتْلُوهَا، وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، قَالَ: فَضَرَبَ عبدُ اللَّهِ بْنُ سَلام يَدَ الحَبْر ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ آيَةُ الرَّجْمِ، يَأْبَى أَنْ يتلوَها عَلَيْكَ. فَقَالَ لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَكُمْ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ مَا دَعَاكُمْ إلَى تَرْكِ حُكم اللَّهِ وَهُوَ بِأَيْدِيكُمْ؟ " قَالَ: فَقَالُوا: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِينَا يُعمل به، حتى زنا رَجُلٌ مِنَّا بَعْدَ إحْصَانِهِ، مِنْ بُيُوتِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الشَّرَفِ، فَمَنَعَهُ الْمُلْكُ مِنْ الرَّجْمِ، ثُمَّ زنا رَجُلٌ بَعْدَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهُ، فَقَالُوا: لَا وَاَللَّهِ، حَتَّى تَرْجُمَ فُلَانًا، فَلَمَّا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا فَأَصْلَحُوا أَمْرَهُمْ عَلَى التَّجْبِيَةِ، وَأَمَاتُوا ذِكْرَ الرَّجْمِ وَالْعَمَلَ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أمرَ اللَّهِ وَكِتَابَهُ وَعَمِلَ بِهِ"، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمَا فرُجما عندَ بَابِ مَسْجِدِهِ. وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا.
ظُلْمُهُمْ فِي الدِّيَةِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي داودُ بن الحُصَيْن عن عكْرمة، عن ابن عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ الْمَائِدَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] إنما نزلت فِي الدِّيَةِ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي قُريظة، وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ لَهُمْ شَرَفٌ، يُؤَدُّونَ الديةَ كَامِلَةً، وَأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا يُؤَدُّونَ نصفَ الدِّيَةِ، فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الحقِّ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ الديةَ سَوَاءً.
قَالَ ابْنُ إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.
رغبتهم في فتنة الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَابْنُ صَلُوبَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُوريا، وشَأس بْنُ قَيْسٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إلَى مُحَمَّدٍ، لَعَلَّنَا نَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ بَشَرٌ، فأتَوْه، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَتُهُمْ، وَأَنَّا إنْ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَتْكَ يَهُودُ، وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَأَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَعْضِ قَوْمِنَا خُصُومَةٌ، أَفَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْكَ فَتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنُصَدِّقُكَ، فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .(2/154)
إنكارهم نبوةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نفرٌ مِنْهُمْ: أَبُو يَاسِرِ بْنُ أخْطب، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ وَعَازِرُ بْنُ أَبِي عَازِرٍ، وَخَالِدٌ، وَزَيْدٌ، وَإِزَارُ بْنُ أَبِي إزَارٍ، وأشْيع. فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنْ الرُّسُلِ؟ فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . فَلَمَّا ذَكر عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَلَا بِمَنْ آمَنَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59] .
ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ: وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رافعُ بْنُ حَارِثَةَ، وَسَلَامُ بْنُ مِشْكم، وَمَالِكُ بْنُ الصيْف، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيملة، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، ألستَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ، وَتُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَنَا مِنْ التَّوْرَاةِ، وَتَشْهَدُ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ حَقٌّ؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ وَجَحَدْتُمْ مَا فِيهَا مِمَّا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ الْمِيثَاقِ فِيهَا، وكتمتُم مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، فبَرئْتُ مِنْ إحداثِكم قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُ بِمَا فِي أَيْدِينَا، فَإِنَّا عَلَى الهدَى وَالْحَقِّ، وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ، وَلَا نَتَّبِعُكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
إِشْرَاكُهُمْ بِاللَّهِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَتَى رسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ، وقَرْدَم بْنُ كَعْبٍ، وبَحْري بْنُ عَمْرو، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا غيرَه؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، بِذَلِكَ بُعثت، وَإِلَى ذَلِكَ أَدْعُو". فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَفِي قَوْلِهِمْ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
نهْيُ الله المؤمنين عَنْ مُوَادَّتِهِمْ: وَكَانَ رفاعةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ، وسُوَيد بْنُ الْحَارِثِ قَدْ أَظْهَرَا الإِسلام ونافقا، فكان رجال من المسلمين يوادونهم. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] . إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} .(2/155)
سُؤَالُهُمْ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ: وَقَالَ جَبَل بْنُ أَبِي قُشَيْر، وشَمْوِيل بْنُ زَيْد، لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا محمدُ، أَخْبِرْنَا، مَتَى تقومُ الساعةُ إنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا تَقُولُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: "أَيَّانَ مُرْسَاها" مَتَى مُرْسَاهَا، قَالَ قَيْسُ بْنُ الحُدَادِيَّةِ الخُزاعي:
فجئتُ ومُخْفَى السِّرِّ بَيْنِي وبينَها
لِأَسْأَلَهَا أَيَّانَ مَنْ سَارَ راجعُ؟
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، ومُرساها: منهاها، وجمعه: مَرَاسٍ. وقال الكُمَيْت بْنُ زَيْدٍ الْأَسْدِيُّ:
وَالْمُصِيبِينَ بابَ مَا أَخْطَأَ النَّا ... سُ ومُرْسَى قَوَاعِدِ الإِسلامِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. ومُرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ تَنْتَهِي. وحَفِي عَنْهَا -عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ- يَقُولُ: يسألونك عنها كأنك حَفِيّ بهم تخبرهم بِمَا لَا تُخْبِرُ بِهِ غَيْرَهُمْ. والحَفِيُّ: البَرُّ الْمُتَعَهِّدُ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] وَجَمْعُهُ: أَحْفِيَاءُ. وَقَالَ أُعْشَى بَنِي قَيْس بْنِ ثَعْلَبَةَ:
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبُّ سائلٍ ... حَفِي عَنْ الأعشَى بِهِ حيثُ أصْعدا1
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْحَفِيُّ أَيْضًا: المُستحفي عَنْ عِلْمِ الشَّيْءِ، الْمُبَالِغِ فِي طَلَبِهِ.
ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم: سلاَّمُ بنُ مِشْكم، وَنُعْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى أَبُو أَنَسٍ، وَمَحْمُودُ ثم ابن دِحْية، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيف، فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قبلَتنا، وَأَنْتَ لَا تَزْعُمُ أَنَّ عُزيرًا ابْنُ اللَّهِ؟ فأنزل الله عز وجل في ذلك في قَوْلِهِمْ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] إلى آخر القصة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُضَاهِئُونَ: أَيْ: يُشاكل قولُهم قولَ الَّذِينَ كَفَرُوا، نَحْوَ أَنْ تحدِّث بِحَدِيثٍ فيحدث آخر بمثله، فهو يضاهيك.
__________
1 أصعد: سار في البلاد.(2/156)
طَلَبُهُمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- محمودُ بْنُ سَيْحان، ونُعمان بْنُ أَضَاءَ، وبَحْري بن عمرو، وعُزَيْز بن أبي عُزَيْز، وسَلاَّم بْنُ مِشْكم، فَقَالُوا: أحقٌّ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ لَحَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَإِنَّا لَا نَرَاهُ مُتَّسِقًا كَمَا تَتَّسِقُ التَّوْرَاةُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا وَاَللَّهِ إنَّكُمْ لَتَعْرِفُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ والجنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ مَا جَاءُوا بِهِ"، فَقَالُوا عند ذلك، وهم جميع: فنحاص، وعبدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا، وَابْنُ صَلُوبَا، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الحُقَيق، وأشيْع، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وشَمْوِيل بْنُ زَيْدٍ، وَجَبَلُ بْنُ سُكَينة: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا يعلِّمك هَذَا إنْسٌ وَلَا جِنٌّ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّكُمْ لتعلمون أنه من عند اللَّهِ. تَجِدُونَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ لِرَسُولِهِ إذا بعثه ما يشاء ويقدره مِنْهُ عَلَى مَا أَرَادَ، فأنزلْ عَلَيْنَا كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ نَقْرَؤُهُ وَنَعْرِفُهُ، وَإِلَّا جِئْنَاكَ بِمِثْلِ مَا تَأْتِي بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِيمَا قَالُوا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الظَّهِيرُ: العَوْن. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: تَظَاهَرُوا عَلَيْهِ، أَيْ تَعَاوَنُوا عَلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا سَمِىَّ النبيِّ أصبحتَ لِلدِّينِ
قَوَّامًا وللإِمام ظهيرَا ... أَيْ عَوْنا وَجَمْعُهُ ظُهراء.
سُؤَالُهُمْ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حُيي بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ أسَد، وَأَبُو رَافِعٍ، وأشْيع، وشَمْويل بْنُ زَيْدٍ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَّم حِينَ أَسْلَمَ: مَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِي الْعَرَبِ، وَلَكِنَّ -صَاحِبَكَ مَلك، ثُمَّ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلُوهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَا جاءَه مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، مِمَّا كَانَ قَصَّ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ كَانُوا مِمَّنْ أَمَرَ قُرَيْشًا أَنْ يَسْأَلُوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه، حين بعثوا إليهم النَّضر بْنُ الْحَارِثِ، وعُقبة بْنُ أَبِي مُعَيْط.
تهجمهم على ذات الله: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وحُدثت عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبير أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رهطٌ مِنْ يَهُودَ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: يَا محمدُ، هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الخلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى اُنْتُقِعَ لونُهُ، ثُمَّ سَاوَرَهُمْ غَضَبًا لِرَبِّهِ. قَالَ: فَجَاءَهُ جبريلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فسكَّنه، فَقَالَ: خَفِّضْ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ بجوابِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .(2/157)
قَالَ: فَلَمَّا تَلَاهَا عَلَيْهِمْ قَالُوا: فَصِفْ لَنَا يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ خَلْقُه كَيْفَ ذِراعه؟ كَيْفَ عَضده. فَغَضِبَ رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِ، الْأَوَّلِ، وَسَاوَرَهُمْ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ مثلَ مَا قَالَ لَهُ أولَ مَرَّةٍ، وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بجوابِ مَا سَأَلُوهُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عُتبة بْنُ مُسلم، مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمة بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يُوشِكُ الناسُ أَنْ يَتَسَاءَلُوا بينَهم حَتَّى يَقُولَ قائلُهم: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ثُمَّ ليتفُل الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وليستعذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشيطان الرجيم".
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الصَّمَدُ: الَّذِي يُصمَد إلَيْهِ، ويُفْزَع إلَيْهِ. قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ مَعْبد بْنِ نَضْلة تَبْكِي عَمرو بْنَ مَسْعُودٍ، وَخَالِدَ بْنَ نَضْلة، عَمَّيْهَا الْأَسَدِيَّيْنِ، وَهُمَا اللَّذَانِ قَتَلَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ اللَّخْمِيُّ، وَبَنَى الغَرِيين1 اللَّذيْن بِالْكُوفَةِ عليها:
أَلَا بَكَرَ النَّاعِي بَخَيْرَيْ بَنِي أسدْ ... بِعَمْرِو بن مسعود وبالسيِّد الصَّمَدْ
ذكر نصارى نجران وما أنزل الله فيهم:
مَعْنَى الْعَاقِبِ وَالسَّيِّدِ وَالْأَسْقَفِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وقَدِم على رسول الله -صلى الله عليه وَسَلَّمَ- وفدُ نصارَى نَجران، سِتُّونَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أربعةَ عشرَ رجلًا من أشرافهم، وفي الأربعةَ عشرَ مِنْهُمْ ثلاثةُ نَفَرٍ إلَيْهِمْ يَئُولُ أمرُهم: الْعَاقِبُ، أميرُ الْقَوْمِ وَذُو رَأْيِهِمْ، وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ، وَاَلَّذِي لَا يُصْدرون إلَّا عَنْ رَأْيِهِ، وَاسْمُهُ عبدُ الْمَسِيحِ وَالسَّيِّدُ لَهُمْ، ثِمَالُهُمْ2 وصاحبُ رَحْلهم ومجتَمعهم، وَاسْمُهُ الأيْهم، وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، أسْقُفهم وحَبْرهم وإمامهم، وصاحب مِدْرَاسِهم.
__________
1 الغريان: المشهوران كانا بالكوفة وهما بناءان طويلان يقال هما قبر مالك وعقيل نديمي جذيمة الأبرش وسميا الغريين؛ لأن النعمان بن المنذر كان يغريهما بدم من يقتله
يوم بؤسه. وانظر لسان العرب ج19 ص358.
2 ثمال القوم: من يرجعون إليه ويقوم بأمرهم.(2/158)
وَكَانَ أَبُو حَارِثَةَ قَدْ شَرُف فِيهِمْ، وَدَرَسَ كتبَهم، حَتَّى حَسُن عِلْمُهُ فِي دِينِهِمْ، فَكَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ قَدْ شَرَّفُوهُ وَمَوَّلُوهُ وَأَخْدَمُوهُ، وبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ، وَبَسَطُوا عَلَيْهِ الْكَرَامَاتِ، لِمَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دينهم.
إسْلَامِ كُوز بْنِ عَلْقَمَةَ: فَلَمَّا رَجَعُوا إلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نَجْرَانَ، جَلَسَ أَبُو حَارِثَةَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ موجِّهًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِلَى جَنْبِهِ أَخٌ لَهُ، يُقَالُ لَهُ: كُوز بْنُ عَلْقَمَةَ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: كُرْزٌ- فَعَثَرَتْ بَغْلَةُ أَبِي حَارِثَةَ، فَقَالَ كُوزٌ: تَعِسَ الْأَبْعَدُ: يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو حَارِثَةَ: بَلْ وأنت تَعستْ! فَقَالَ: وَلِمَ يَا أَخِي؟ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ، فَقَالَ لَهُ كوز: ما يمنعك منه وأنت تعلم بذا؟ قَالَ: مَا صَنَعَ بِنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، شَرَّفونا ومَولونا وَأَكْرَمُونَا، وَقَدْ أبوْا إلَّا خِلاَفه، فَلَوْ فعلتُ نَزَعُوا مِنَّا كلَّ مَا تَرَى. فَأَضْمَرَ عَلَيْهَا مِنْهُ أَخُوهُ كُوز بْنُ عَلْقَمَةَ، حَتَّى أسلمَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَهُوَ كَانَ يُحدِّث عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِيمَا بَلَغَنِي.
رُؤَسَاءُ نَجْرَانَ وَإِسْلَامُ ابن رئيس: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رُؤَسَاءَ نَجْرَانَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ كُتُبًا عندَهم. فَكُلَّمَا مَاتَ رئيسٌ مِنْهُمْ فأفْضَت الرِّيَاسَةُ إلَى غَيْرِهِ، خَتَمَ عَلَى تِلْكَ الكُتب خَاتَمًا مَعَ الْخَوَاتِمِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ وَلَمْ يكسِرها، فَخَرَجَ الرئيسُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْشِي فَعَثَرَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: تَعِسَ الْأَبْعَدُ، يُرِيدُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وَاسْمُهُ فِي الْوَضَائِعِ -يَعْنِي: الْكُتُبَ- فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَكُنْ لابنهِ هِمَّة إلَّا أَنْ شَدَّ فَكَسَرَ الْخَوَاتِمَ، فَوَجَدَ فِيهَا ذِكْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْلَمَ فحسُن إسلامُهُ وَحَجَّ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
إليكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضينُها ... مُعْترِضًا فِي بطنِها جَنينُها
مُخَالِفًا دينَ النَّصَارَى دينُها
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْوَضِينُ: الْحِزَامُ، حِزَامُ النَّاقَةِ، وقالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: وَزَادَ فِيهِ أهلُ الْعِرَاقُ:
مُعترضًا فِي بطنِها جنينُها
فَأَمَّا أَبُو عُبَيدة فأنشدناه فيه.
صلاتهم إلى جهة الْمَشْرِقِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ حَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الحِبرات1، جُبَب وَأَرْدِيَةٌ، فِي جَمَالِ رِجَالِ بني الحارث بن كعب. قال: يقول
__________
1 برود من اليمن.(2/159)
بعضُ مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمئِذٍ: مَا رَأَيْنَا وَفْدًا مثلَهم، وَقَدْ حَانَتْ صلاتُهم، فَقَامُوا فِي مسجدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلُّونَ: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دَعُوهم فصلَّوْا إلى المشرق.
أسماؤهم ومعتقداتهم: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَتْ تَسْمِيَةُ الأربعةَ، عشرَ، الَّذِينَ يَئُولُ إلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ: العاقبُ وَهُوَ عَبْدُ الْمَسِيحِ والسَّيد وَهُوَ الأيْهم، وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمة أَخُو بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وأوْس والحارث، وزَيْد، وقيْس، ويزيد، وَنَبِيُّهُ، وخوَيْلد، وَعَمْرو، وَخَالِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، ويُحَنَّس، فِي سِتِّينَ رَاكِبًا فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَالْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالْأَيْهَمُ السَّيِّدُ وَهُمْ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ -عَلَى دِينِ الْمَلِكِ، مَعَ اخْتِلَافِ مَنْ أَمَرَهُمْ، يَقُولُونَ: هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ: هُوَ والد اللَّهِ. وَيَقُولُونَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّصْرَانِيَّةِ فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: "هُوَ اللَّهُ" بِأَنَّهُ كَانَ يُحيي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَسْقَامَ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، ثُمَّ ينفِخ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا، وَذَلِكَ كلُّه بِأَمْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} .
وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ وَلَدُ اللَّهِ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعلم، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ، وَهَذَا لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ قَبْلَهُ.
وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: "إنَّهُ ثالثُ ثَلَاثَةٍ" بِقَوْلِ اللَّهِ: فَعَلْنا، وأمرْنا، وخلقْنا، وقَضَيْنا، فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ وَاحِدًا مَا قَالَ إلَّا فعلتُ، وقضيتُ، وأمرتُ، وخلقتُ وَلَكِنَّهُ هُوَ وَعِيسَى وَمَرْيَمُ، فَفِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ.. فَلَمَّا كلَّمه الحَبْران، قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أسْلِما" قَالَا: قَدْ أَسْلَمْنَا، قَالَ: "إنَّكُمَا لَمْ تُسلما فأسْلِما"، قَالَا: بلَى، قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ: قَالَ: "كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُمَا مِنْ الإِسلام دُعَاؤُكُمَا لِلَّهِ وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ، وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ"، قَالَا: فَمَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَصَمَتَ عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُجِبْهُمَا.
مَا نزل فيهم من القرآن: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَاخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ كُلِّهِ، صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، إلى بضع وثمانين آية منها، قال جَلَّ وَعَزَّ: {الم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2] فَافْتَتَحَ السُّورَةَ بِتَنْزِيهِ نَفْسِهِ عَمَّا قَالُوا، وَتَوْحِيدِهِ إياه بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ، رَدًّا عَلَيْهِمْ مَا ابْتَدَعُوا مِنْ الْكُفْرِ، وَجَعَلُوا مَعَهُ مِنْ الْأَنْدَادِ، وَاحْتِجَاجًا بِقَوْلِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي صَاحِبِهِمْ، لِيُعَرِّفَهُمْ بِذَلِكَ ضَلَالَتَهُمْ: فَقَالَ: {الم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ شَرِيكٌ(2/160)
في أمره {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2] الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَقَدْ مَاتَ عِيسَى وصُلب فِي قَوْلِهِمْ. وَالْقَيُّومُ الْقَائِمُ عَلَى مَكَانِهِ مِنْ سُلْطَانِهِ فِي خَلْقِهِ لَا يَزُولُ، وَقَدْ زَالَ عِيسَى فِي قَوْلِهِمْ عَنْ مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ، وَذَهَبَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالصَّدْقِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} : التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى، والإِنجيل عَلَى عِيسَى، كَمَا أَنْزَلَ الْكُتُبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُ: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} ، أَيْ: الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْزَابُ مِنْ أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ مُنْتَقِمٌ مِمَّنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ، بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا، وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فِيهَا. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أَيْ: قَدْ عَلِمَ مَا يُرِيدُونَ، وَمَا يَكِيدُونَ، وَمَا يُضَاهُونَ بِقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى، إذْ جَعَلُوهُ إلَهًا وَرَبًّا، وَعِنْدَهُمْ مِنْ، عِلْمِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، غِرَّة بِاَللَّهِ، وكُفرًا بِهِ. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} ، أَيْ: قَدْ كَانَ عِيسَى مِمَّنْ صُور فِي الْأَرْحَامِ، لَا يَدْفَعُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ كَمَا صُور غَيْرُهُ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ إلَهًا وَقَدْ كَانَ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إنْزَاهًا لِنَفْسِهِ، وَتَوْحِيدًا لَهَا مِمَّا جَعَلُوا مَعَهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الْعَزِيزُ فِي انْتِصَارِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ إذَا شَاءَ، الْحَكِيمُ فِي حُجَّتِهِ وَعُذْرِهِ إلَى عِبَادِهِ. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ، فهن حُجَّةُ الرَّبِّ، وعِصمة الْعِبَادِ، ودَفْع الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ، ابْتَلَى اللَّهُ فيهنَّ الْعِبَادَ، كَمَا ابْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَلَّا يُصْرَفن إلَى الْبَاطِلِ، وَلَا يُحرَّفن عَنْ الْحَقِّ. يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أَيْ: مَيْلٌ عَنْ الْهُدَى، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ، أَيْ: مَا تَصَرَّفَ مِنْهُ، لِيُصَدِّقُوا بِهِ مَا ابْتَدَعُوا وَأَحْدَثُوا، لِتَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ، وَلَهُمْ عَلَى مَا قَالُوا شُبْهَةَ: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} ، أَيْ: اللَّبْسِ، {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ذَلِكَ عَلَى مَا رَكِبوا مِنْ الضَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِمْ: خَلَقْنا وقَضَيْنا. يَقُولُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} أَيْ: الَّذِي بِهِ أَرَادُوا، مَا أَرَادُوا {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فَكَيْفَ يَخْتَلِفُ وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ، مِنْ رَبٍّ وَاحِدٍ. ثُمَّ رَدُّوا تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا عَرَفُوا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحَكِّمَةِ الَّتِي لَا تَأْوِيلَ لِأَحَدٍ فِيهَا إلَّا تَأْوِيلٌ وَاحِدٌ، وَاتَّسَقَ بِقَوْلِهِمْ الْكِتَابُ، وصدَّق بعضُه بَعْضًا، فَنَفَذَتْ بِهِ الحُجة، وَظَهَرَ بِهِ الْعُذْرُ، وَزَاحَ بِهِ الْبَاطِلَ، وَدَمَغَ بِهِ الْكُفْرَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذَا: {وَمَا يَذَّكَّرُ} فِي مِثْلِ هَذَا: {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} . أَيْ: لَا تُمِلْ -قُلُوبَنَا، وَإِنْ مِلْنَا بِأَحْدَاثِنَا. {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ثُمَّ قَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} بِخِلَافِ مَا قَالُوا: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} ، أَيْ: بِالْعَدْلِ فِيمَا يُرِيدُ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} ، أَيْ: مَا أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ: التَّوْحِيدُ لِلرَّبِّ، وَالتَّصْدِيقُ(2/161)
لِلرُّسُلِ. {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أَيْ: الَّذِي جاءك، أي في أَنَّ اللَّهَ الْوَاحِدَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ {بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، فَإِنْ حَاجُّوكَ} ، أَيْ: بِمَا يَأْتُونَ بِهِ مِنْ الْبَاطِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلَقْنا وفَعلْنا وأمَرْنا، فَإِنَّمَا هِيَ شُبهةُ باطلٍ قَدْ عَرَفُوا مَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} ، أَيْ: وَحْدَهُ {وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ} الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] .
ما نزل من القرآن فيما اتبعه الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: ثُمَّ جَمَعَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ جَمِيعًا، وَذَكَرَ مَا أَحْدَثُوا وَمَا ابْتَدَعُوا، مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21] ، إلَى قَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أَيْ: رَبَّ الْعِبَادِ، وَالْمَلِكُ الَّذِي لَا يَقْضِي فِيهِمْ غَيْرُهُ {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ، أَيْ: لَا إلَهَ غَيْرُكَ {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا غَيْرُكَ بِسُلْطَانِكَ وَقُدْرَتِكَ {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27] لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُكَ، وَلَا يَصْنَعُهُ إلَّا أَنْتَ أَيْ: فَإِنْ كُنْتُ سَلَّطْتُ عِيسَى عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي بِهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ إلَهٌ، مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ وَالْخَلْقِ لِلطَّيْرِ مِنْ الطِّينِ، والإِخبار عَنْ الْغُيُوبِ، لِأَجْعَلَهُ بِهِ آيَةً لِلنَّاسِ، وَتَصْدِيقًا لَهُ فِي نُبُوَّتِهِ الَّتِي بَعَثْتُهُ بِهَا إلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ مِنْ سُلْطَانِي وَقُدْرَتِي مَا لَمْ أُعْطِهِ: تمليكَ الْمُلُوكِ بِأَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَوَضْعَهَا حَيْثُ شِئْتَ، وَإِيلَاجَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، وَالنَّهَارِ فِي اللَّيْلِ، وَإِخْرَاجَ الْحَيِّ مِنْ الْمَيِّتِ، وَإِخْرَاجَ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ، وَرِزْقَ مَنْ شِئْتَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ بِغَيْرِ حِسَابٍ: فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ أُسَلِّطْ عِيسَى عَلَيْهِ، وَلَمْ أملِّكه إيَّاهُ، أَفَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عِبرة وبينة! أن لو كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَيْهِ، وَهُوَ فِي عِلْمِهِمْ يَهْرَبُ مِنْ الْمُلُوكِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْهُمْ فِي الْبِلَادِ، مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ.
مَا نَزَلَ مِنْ القرآن في وعظ المؤمنين وتحذيرهم: ثُمَّ وَعَظَ الْمُؤْمِنِينَ وحذَّرهم، ثُمَّ قَالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} أَيْ: إنْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِكُمْ حَقًّا، حُبًّا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أَيْ: مَا مَضَى مِنْ كُفْرِكُمْ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ وَتَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، أَيْ: عَلَى كُفْرِهِمْ، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
مَا نزل في خلق عيسى وخبر مريم وزكريا: ثُمَّ اسْتَقْبَلَ لَهُمْ أمرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وكيف كان في بدء ما أراد الله به، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ(2/162)
عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ثُمَّ ذَكَرَ أَمْرَ امْرَأَةِ عِمْرَانَ، وقولها: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} ، أَيْ: نَذَرْتُهُ فَجَعَلْتُهُ عَتِيقًا، تعبُّده لِلَّهِ، لَا يَنْتَفِعُ بِهِ لِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ، أَيْ: لَيْسَ الذكر كالأنثى كما جَعَلْتهَا مُحَرَّرًا لَكَ نَذِيرَةً، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} بَعْدَ أَبِيهَا وَأُمِّهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كفَّلها: ضمَّها.
خبر زكريا ومريم عليهما السلام: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فذكَّرها بِالْيُتْمِ، ثُمَّ قَصَّ خبرَها وخبرَ زَكَرِيَّا وَمَا دَعَا بِهِ، وَمَا أَعْطَاهُ إذْ وَهَبَ لَهُ يَحْيَى. ثُمَّ ذَكَرَ مريمَ، وَقَوْلَ الْمَلَائِكَةِ لَهَا: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} ، أَيْ: مَا كُنْتَ مَعَهُمْ {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَقْلَامَهُمْ: سِهَامَهُمْ، يَعْنِي: قِداحهم الَّتِي اسْتَهَمُوا بِهَا عَلَيْهَا، فَخَرَجَ قِدْح زَكَرِيَّا فَضَمَّهَا، فِيمَا قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ البَصري.
كفالة جُرَيج مريم: قال ابن إسحاق: كفلها ههنا جُرَيْج الرَّاهِبُ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ نَجَّارٌ، خَرَجَ السَّهْمُ عَلَيْهِ بِحَمْلِهَا، فَحَمَلَهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا قَدْ كَفَلها قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَصَابَتْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَعَجَزَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِهَا، فَاسْتَهَمُوا عَلَيْهَا أَيُّهُمْ يكفُلُها فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى جُرَيج الرَّاهِبِ بِكُفُولِهَا فكفَلَها. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ، أَيْ: مَا كُنْتَ مَعَهُمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ فيها. يخبره بخفيِّ ما كتموا عنه مِنْ الْعِلْمِ عندَهم، لِتَحْقِيقِ نُبُوَّتِهِ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بما يأتيهم به بما أَخْفَوْا مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ، أَيْ: هَكَذَا كَانَ أَمْرُهُ، لَا كَمَا تَقُولُونَ فِيهِ {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَيْ عِنْدَ اللَّهِ {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 45، 46] يُخْبِرُهُمْ بِحَالَاتِهِ الَّتِي يَتَقَلَّبُ فِيهَا فِي عُمْرِهِ، كَتَقَلُّبِ بَنِي آدَمَ فِي أَعْمَارِهِمْ، صِغَارًا وَكِبَارًا، إلَّا أَنَّ اللَّهَ خَصَّهُ بِالْكَلَامِ فِي مَهْدِهِ آيَةً لِنُبُوَّتِهِ، وَتَعْرِيفًا لِلْعِبَادِ بِمَوَاقِعِ قُدْرَتِهِ. {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} .(2/163)
أَيْ: يَصْنَعُ مَا أَرَادَ، وَيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ بَشَرٍ أَوْ غَيْرِ بَشَرٍ: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} مِمَّا يَشَاءُ وكيف شاء، {فَيَكُونُ} كما أراد ثُمَّ أَخْبَرَهَا بِمَا يُرِيدُ بِهِ، فَقَالَ: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ} الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ مِنْ عَهْدِ مُوسَى قَبْلَهُ {وَالْإنْجِيلَ} ، كِتَابًا آخَرَ أَحْدَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إلَّا ذِكْرُهُ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ، {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ: يُحَقِّقُ بِهَا نُبُوَّتِي، أَنِّي رَسُولٌ مِنْهُ إلَيْكُمْ {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} الَّذِي بَعَثَنِي إلَيْكُمْ، وَهُوَ ربكم {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَكْمَهَ: الَّذِي يُولد أَعْمَى. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاج:
هَرَّجْتُ فارتدَّ ارْتِدَادَ الأكْمه
وَجَمْعُهُ: كُمْه. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَرَّجت: صحتُ بِالْأَسَدِ، وجلبتُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} ، أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ إلَيْكُمْ، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أَيْ: لِمَا سَبَقَنِي عَنْهَا، {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، أَيْ: أُخْبِرُكُمْ بِهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْكُمْ حَرَامًا فَتَرَكْتُمُوهُ، ثُمَّ أُحِلُّهُ لَكُمْ تَخْفِيفًا عَنْكُمْ فَتُصِيبُونَ يُسره وَتَخْرُجُونَ مِنْ تِباعاتِه1 {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} أي: تبريًا من الذي يَقُولُونَ فِيهِ، وَاحْتِجَاجًا لِرَبِّهِ عَلَيْهِمْ {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، أَيْ: هَذَا الَّذِي قَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَيْهِ وَجِئْتُكُمْ بِهِ {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} وَالْعُدْوَانَ عَلَيْهِ، {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ} هَذَا قَوْلُهُمْ الَّذِي أَصَابُوا بِهِ الْفَضْلَ مِنْ رَبِّهِمْ {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} لَا مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يحاجُّونك فِيهِ {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ هَكَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ.
رَفْعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رفْعَه عِيسَى إلَيْهِ حَيْنَ اجْتَمَعُوا لِقَتْلِهِ، فَقَالَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَقَرُّوا لِلْيَهُودِ بصَلْبه، كَيْفَ رَفَعَهُ وَطَهَّرَهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
__________
1 تباعاته: جمع تبعة: الظلامة.(2/164)
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، إذْ هَمُّوا مِنْكَ بِمَا هَمُّوا {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثُمَّ الْقِصَّةُ، حَتَّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} يَا مُحَمَّدُ {مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} الْقَاطِعِ الْفَاصِلِ الْحَقِّ، الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ الْبَاطِلُ، مِنْ الْخَبَرِ عَنْ عِيسَى، وَعَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَا تقبلنَّ خَبَرًا غَيْرَهُ. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} "فَاسْتَمِعْ" {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} ، أَيْ: مَا جَاءَكَ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ عِيسَى {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أَيْ: قَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تمتريَنَّ فِيهِ، وَإِنْ قَالُوا: خُلق عِيسَى مِنْ غَيْرِ ذَكر فَقَدْ خَلقت آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ أُنْثَى وَلَا ذَكَرٍ، فَكَانَ كَمَا كَانَ عِيسَى لَحْمًا وَدَمًا، وشَعْرًا وبَشرًا، فَلَيْسَ خَلْق عِيسَى مِنْ غَيْرِ ذَكر بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا. {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي: من بعدما قَصَصْتُ عَلَيْكَ مِنْ خَبَرِهِ، وَكَيْفَ كَانَ أَمْرُهُ، {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ أَبُو عُبَيْدة: نَبْتَهِلْ: نَدْعُو بِاللَّعْنَةِ، قَالَ أعْشَى بَنِي قَيْس بْنِ ثَعْلَبة:
لَا تقْعُدَنَّ وَقَدْ أكَّلْتَها حَطبًا ... نعوذُ مِنْ شرِّها يَوْمًا ونبتهلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. يَقُولُ: نَدْعُو بِاللَّعْنَةِ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: بَهل اللَّهُ فُلَانًا، أَيْ لَعَنَهُ، وَعَلَيْهِ بَهْلةُ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: بُهْلة اللَّهِ، أَيْ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَنَبْتَهِلْ أَيْضًا: نَجْتَهِدْ، فِي الدُّعَاءِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: {إِنَّ هَذَا} الَّذِي جِئْتُ بِهِ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ عِيسَى {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} مِنْ أَمْرِهِ {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فَدَعَاهُمْ إلَى النَّصَف، وَقَطَعَ عَنْهُمْ الْحُجَّةَ.
إبَاؤُهُمْ الْمُلَاعَنَةَ: فَلَمَّا أَتَى رسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخبرُ مِنْ اللَّهِ عَنْهُ، والفَصْلُ مِنْ الْقَضَاءِ بينَه وَبَيْنَهُمْ، وَأَمَرَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَاعَنَتِهِمْ إنْ رَدُّوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، دَعَاهُمْ إلَى ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، دَعْنَا نَنْظُرْ فِي أَمْرِنَا، ثُمَّ نَأْتِيكَ بِمَا نُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَ فِيمَا دَعَوْتنَا إلَيْهِ. فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، ثُمَّ خَلَوْا بِالْعَاقِبِ، وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عبدَ المسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله أيا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عَرَفتم أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بالفَصْل مِنْ خبرِ صاحبِكم،(2/165)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فبقي كبيرُهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه الاستئصال مِنْكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إلَّا إلْف دينِكم، والإِقامة عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ، فَوَادِعُوا الرجلَ، ثُمَّ انصرِفوا إلَى بِلَادِكُمْ. فأتَوْا رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَدْ رَأَيْنَا أَلَّا نُلاعنك، وَأَنْ نتركَك عَلَى دينِك وَنَرْجِعَ عَلَى دِينِنَا، وَلَكِنْ ابعثْ مَعَنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا، يَحْكُمْ بَيْنَنَا فِي أَشْيَاءَ اخْتَلَفْنَا فِيهَا مِنْ أموالِنا، فإنكم عندنا رِضًا.
أبو عبيْدة يتولى أمرهم: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْتُونِي العَشِية أَبْعَثْ مَعَكُمْ القوىَّ الْأَمِينَ". قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: مَا أحببتُ الْإِمَارَةَ قَطُّ حبِّي إيَّاهَا يومئذٍ، رَجَاءَ أَنْ أكونَ صاحبَها، فرُحْتُ إلَى الظهرِ مُهَجِّرًا، فَلَمَّا صَلَّى بِنَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهرَ سَلَّم، ثُمَّ نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يسارِه، فَجَعَلْتُ أتطاولُ لَهُ لِيَرَانِي، فَلَمْ يزلْ يَلْتَمِسُ بِبَصَرِهِ حَتَّى رَأَى أَبَا عُبيدة بْنَ الْجَرَّاحِ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: "اخرجْ مَعَهُمْ، فاقضِ بينَهم بالحقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ"، قَالَ عُمَرُ: فَذَهَبَ بِهَا أَبُو عُبَيْدة.
أخبار عن المنافقين:
قال ابن إسحاق: وقدم رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ -كَمَا حَدَّثَنِي عاصمُ بْنُ عُمر بْنِ قَتادة- وَسَيِّدُ أَهْلِهَا عَبْدُ الله بن أبي بن سَلُولَ العَوْفي ثُمَّ أَحَدُ بَنِي الحُبْلَى، لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ فِي شَرَفِهِ مِنْ قَوْمِهِ اثْنَانِ، لَمْ تَجْتَمِعْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَبْلَهُ وَلَا بعدَه عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ -حَتَّى جَاءَ الإسلامُ-غيرِه، وَمَعَهُ فِي الأوْس رَجُلٌ هُوَ فِي قَوْمِهِ مِنْ الْأَوْسِ شَرِيفٌ مُطَاعٌ، أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ عَمرو بْنِ صَيْفي بْنِ النُّعْمَانِ، أَحَدُ بَنِي ضُبَيْعة بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ أَبُو حَنْظلة، الْغَسِيلُ يومَ أحُد، وَكَانَ قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَبِسَ المُسوح، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الراهب. فشقيا بشرفهما وضَرَّهما.
فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَكَانَ قَوْمُهُ قد نظموا له الخرز يتوجوه ثُمَّ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهُم عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قومُه عَنْهُ إلَى الِإسلام ضَغِنَ، وَرَأَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَلَبَهُ مُلْكًا. فَلَمَّا رَأَى قَوْمَهُ قَدْ أبَوْا إلَّا الْإِسْلَامِ دَخَلَ فِيهِ كَارِهًا مُصِرا على نفاق وضَغَن.
وأما أبو فَأَبَى إلَّا الكفرَ والفراقَ لقومهِ حِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى الِإسلام، فَخَرَجَ مِنْهُمْ إلَى مَكَّةَ ببضعةَ عشرَ رَجُلًا مُفَارِقًا للإِسلام وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(2/166)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَمَا حَدَّثَنِي محمدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ بَعْضِ آلِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ-: "لَا تَقُولُوا: الرَّاهِبَ، وَلَكِنْ قولوا الفاسق".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَكَمِ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ وسَمِعَ، وَكَانَ رَاوِيَةً: أَنَّ أَبَا عَامِرٍ أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قَدِمَ الْمَدِينَةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي جئتَ بِهِ؟ فَقَالَ: "جِئْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ"، قَالَ: فَأَنَا عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّكَ لستَ عَلَيْهَا"، قَالَ، بَلَى، قَالَ: إنَّكَ أَدَخَلْتَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْحَنِيفِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، قَالَ: "مَا فعلتُ، وَلَكِنِّي جِئْتُ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً"، قَالَ: الْكَاذِبُ أَمَاتَهُ اللَّهُ طَرِيدًا غَرِيبًا وَحِيدًا -يُعَرِّضُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْ أَنَّكَ جئتَ بِهَا كَذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَجَلْ، فَمَنْ كَذَبَ فَفَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهِ"، فَكَانَ هُوَ ذَلِكَ عَدُوَّ اللَّهِ، خَرَجَ إلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا افْتَتَحَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكةَ خَرَجَ إلَى الطَّائِفِ. فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ لَحِقَ بالشام. فمات بها طريدًا غريبًا وحيدًا.
وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مَعَهُ عَلْقمة بْنُ عُلاثة بْنِ عَوْفِ بْنِ الأحْوص بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، وَكِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمير الثَّقَفِيُّ، فَلَمَّا مَاتَ اخْتَصَمَا فِي مِيرَاثِهِ إلَى قَيْصَرَ، صَاحِبِ الرُّومِ. فَقَالَ قَيْصَرُ: يَرِثُ أهلُ الْمَدَرِ أهلَ الْمَدَرِ1، وَيَرِثُ أهلُ الوَبْرِ أهلَ الْوَبَرِ2، فَوَرِثَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ ياليل بالمدر دون علْقمة، قال كعبُ بنُ مَالِكٍ لِأَبِي عَامِرٍ فِيمَا صَنَعَ:
معاذَ اللَّهِ مِنْ عَمل خبيثٍ ... كَسَعْيِكَ فِي العشيرةِ عَبْدَ عَمْرٍو
فَإِمَّا قُلتَ لِي شرفٌ ونخلٌ ... فَقِدْمًا بعتَ إيمَانًا بكفرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
فَإِمَّا قُلْتَ لِي شرفٌ ومالٌ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَأَقَامَ عَلَى شَرَفِهِ فِي قَوْمِهِ مُتَرَدِّدًا حتى غلبه الإسلام، فدخل فيه كارهًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أُسَامَةَ بن زيد
__________
1 أهل المدر: من يسكنون المدن.
2 أهل الوبر: من يسكنون الخيام.(2/167)
بْنِ حَارِثَةَ حِبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَكِبَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبادة يَعُودُهُ مِنْ شَكْو أَصَابَهُ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إكافٌ1، فَوْقَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِية2، مُخْتَطمة3 بِحَبْلِ مِنْ لِيفٍ، وَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ: قَالَ: فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَي، وَهُوَ فِي ظِلِّ مُزَاحمَ أطُمِه4.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مُزَاحِمٌ: اسْمُ الْأُطُمِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَوْلَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ. فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذَمم5 مِنْ أَنْ يُجَاوِزَهُ حَتَّى يَنْزِلَ، فَنَزَلَ فسلَّم ثُمَّ جَلَسَ قَلِيلًا، فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وذكَّر بِاَللَّهِ وحذَّر، وبشَّر وَأَنْذَرَ قَالَ: وَهُوَ زَامُّ لَا يَتَكَلَّمُ، حَتَّى إذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَقَالَتِهِ، قَالَ: يَا هَذَا، إنَّهُ لَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِكَ هَذَا إنْ كَانَ حَقا فَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ فَمَنْ جَاءَكَ لَهُ فحدثْه إياه، ومن لم يأتك فلا تَغُتَّه6 بِهِ، وَلَا تَأْتِهِ فِي مَجْلِسِهِ بِمَا يَكْرَهُ منه. قال: قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي رِجَالٍ كَانُوا عنده من المسلمين: بلى، فاغشَنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله ما نحبُّ وَمِمَّا أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ وَهَدَانَا لَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ حِينَ رَأَى مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ مَا رَأَى:
مَتَى مَا يكنْ مولاكَ خَصْمك لَا تَزَلْ ... تَذِلَّ ويَصْرعْك الَّذِينَ تُصارعُ
وَهَلْ يَنْهَضُ الْبَازِي بغيرِ جناحِه ... وَإِنْ جُذَّ يَوْمًا ريشُه فَهُوَ واقعُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْبَيْتُ الثَّانِي عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسحاق.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أُسَامَةَ، قَالَ: وَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَفِي وَجْهِهِ مَا قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ ابْنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رسولَ اللَّهِ إنِّي لَأَرَى فِي وجهِك شَيْئًا، لَكَأَنَّكَ سَمِعْتَ شَيْئًا تَكْرَهُهُ، قَالَ:"أَجَلْ"، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اُرْفُقْ بِهِ. فَوَاَللَّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللَّهُ بِكَ، وَإِنَّا لنَنْظِمَ لَهُ الْخَرَزَ لنتوِّجَه. فَوَاَللَّهِ إنَّهُ لَيَرَى أَنْ قَدْ سَلَبْتَهُ مُلكًا.
__________
1 الإكاف: برذعة الحمار.
2 منسوبة إلى فدك قرية بالحجاز.
3 الخطام حبل يجعل على أنف الدابة تمسك به.
4 الأطم: الحصن.
5 تذمم: استحيا.
6 غته: ثقل عليه.(2/168)
ذِكْرُ مَنْ اعتلَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُروة، وعُمر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُروة، عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا قدِم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأَ أرضِ اللَّهِ مِنْ الْحُمَّى. فَأَصَابَ أصحابَه مِنْهَا بلاءٌ وسَقَمٌ. فَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: فَكَانَ أبو بكر، عامر بْنُ فُهَيْرَة، وَبِلَالٍ، مَوْلَيَا أَبِي بَكْرٍ، مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ. فَأَصَابَتْهُمْ الْحُمَّى، فدخلتُ عَلَيْهِمْ أَعُودُهُمْ. وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَب عَلَيْنَا الحجابُ. وَبِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مِنْ شِدَّةِ الوَعْك. فدنوتُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ. فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا أبتِ؟ فَقَالَ:
كلُّ امْرِئٍ مُصَبَّح فِي أهلِهِ ... والموتُ أدْنَى مِنْ شِراكِ نَعْلِهِ
قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي أَبِي مَا يَقُولُ: قَالَتْ: ثُمَّ دنوتُ إلَى عَامِرِ بْنِ فُهَيْرة فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ؟ فَقَالَ:
لَقَدْ وجدتُ الموتَ قبلَ ذَوْقِه ... إنَّ الجبانَ حَتْفهُ مِنْ فَوْقهِ
كلُّ امْرِئٍ مُجَاهَدٌ بطَوْقِهِ ... كالثَّوْرِ يَحْمِي جلدهَ برَوْقهِ1
بِطَوْقِهِ يُرِيدُ: بِطَاقَتِهِ. فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَتْ: فقلتُ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عَامِرٌ مَا يَقُولُ! قَالَتْ: وَكَانَ بِلَالٌ إذَا تَرَكَتْهُ الْحُمَّى اضْطَجع بِفِنَاءِ الْبَيْتِ ثُمَّ رَفَعَ عقيرتَه فَقَالَ:
أَلَا ليتَ شِعْري هَلْ أبيتنَّ لَيْلَةً ... بفَخ وَحَوْلِي إِذْخر وجليلُ2
وَهَلْ أرِدَنْ يَوْمًا مياهَ مجنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وطُفيل3
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: شَامَةٌ وَطُفَيْلٌ: جَبَلَانِ بِمَكَّةَ.
دُعَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَقْلِ وَبَاءِ الْمَدِينَةِ إلَى مَهْيَعَةَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فذكرتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ. فَقُلْتُ: إنَّهُمْ ليهْذُون وَمَا يَعْقِلون مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المدينةَ كَمَا حَبَّبت
__________
1 روقه: قرنه.
2 فخ: موضع خارج مكة والإذخر نبات يظهر بمكة طيب الرائحة والجليل نوع من النبات وهو ما يسمونه الثمام.
3 المجنة: اسم سوق للعرب في الجاهلية.(2/169)
إلَيْنَا مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ. وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إلَى مَهْيَعَة"، ومَهْيَعة: الجُحْفَة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو بْنِ الْعَاصِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابُه ثم أَصَابَتْهُمْ حُمَّى الْمَدِينَةِ. حَتَّى جَهدوا مَرَضًا. وَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَانُوا مَا يُصَلُّونَ إلَّا وَهُمْ قُعُودٌ. قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُصلون كَذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمْ: "اعْلَمُوا أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ". قَالَ: فتجشَّم الْمُسْلِمُونَ الْقِيَامَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الضَّعْفِ والسُّقْم التماسَ الْفَضْلِ.
بَدْءُ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهَيَّأَ لِحَرْبِهِ. قَامَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ جِهَادِ عَدوِّه. وقِتال مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِمَّنْ يَلِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
تَارِيخُ الْهِجْرَةِ:
بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ. قَالَ: حدثنا زياد بن عبد الله البَكَّائي. عن مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ المَطلِبى. قَالَ: قَدِم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يومَ الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل. لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ التَّارِيخُ. فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَرَسُولُ. اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ابنُ ثلاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِثَلَاثَ عشْرة سَنَةً. فَأَقَامَ بِهَا بقيةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَشَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وجُمادَيَيْن، وَرَجَبًا، وشعبان، وشهر رمضان، وشوال، وذا القعدة، وذا الحجة -وولي تلك الحَجّة الْمُشْرِكُونَ- وَالْمُحَرَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا فِي صَفَرَ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ المدينة.
غَزْوَةُ وَدَّان:
وَهِيَ أَوَّلُ غَزَوَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بن عبادة. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ وَدَّان، وَهِيَ غَزْوَةُ الأبْواء، يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِيَّ ضمْرة بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مُناة بْنِ كِنَانَةَ، فَوَادَعَتْهُ فِيهَا بَنُو ضَمْرة، وَكَانَ الَّذِي وَادَعَهُ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ مَخْشِي بْنُ عَمْرٍو الضَّمْريُّ،(2/170)
وَكَانَ سيِّدَهم فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يلقَ كَيْدًا فَأَقَامَ بِهَا بقيةَ صَفَرٍ، وَصَدْرًا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا.
سَرِيَّةُ عُبَيْدة بْنِ الْحَارِثِ:
وَهِيَ أَوَّلُ رَايَةٍ عَقَدَهَا عليه الصلاة والسلام
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَعَثَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، في مقامِه ذاك بِالْمَدِينَةِ عُبَيْدةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصي، فِي سِتِّينَ أَوْ ثَمَانِينَ رَاكِبًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ مَاءً بِالْحِجَازِ، بِأَسْفَلَ ثنيَّة المُرَّة، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا عَظِيمًا مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ رمَى يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمي بِهِ في الِإسلام.
ثُمَّ انْصَرَفَ القومُ عَنْ الْقَوْمِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ حَامِيَةٌ. وَفَرَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو الْبَهْرَانِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ الْمَازِنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا لِيَتَوَصَّلَا بِالْكُفَّارِ. وَكَانَ عَلَى الْقَوْمِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَمرو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيِّ: أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ مِكْرَز بْنُ حَفْصِ بن الأخْيَف، أحد بني مَعيص بن عامر بْنِ لُؤَي بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي غَزْوَةِ عُبَيْدة بْنِ الْحَارِثِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ لِأَبِي بَكْرٍ1 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أمِنْ طَيْفِ سَلْمى بالبطاحِ الدَّمائِثِ ... أرِقْتَ وَأَمْرٍ فِي العشيرةِ حادثِ2
تَرَى مِنْ لُؤي فِرقةً لَا يصدُّها ... عَنْ الكفرِ تذكيرٌ وَلَا بَعْث باعثِ
__________
1 ويشهد لصحة من أنكر أن تكون له، ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر فى الإسلام" رواه البخاري عن أبي المتوكل عن عبد الرزاق.
2 الدمائث: ما لان من الرمل.(2/171)
رَسُولٌ أَتَاهُمْ صادقٌ فتكَذَّبوا ... عَلَيْهِ وَقَالُوا: لَسْتَ فِينَا بماكِثِ
إذَا مَا دَعَوْناهم إلَى الحقِّ أَدْبَرُوا ... وهَرُّوا هَرِيرَ المجْحِراتِ اللواهثِ1
فَكَمْ قَدْ مَتَتْنا فيهمُ بقرابةٍ ... وتَرْكِ التُّقى شَيْءٌ لَهُمْ غيرُ كارثِ2
فَإِنْ يَرْجِعُوا عَنْ كفرِهم ... وعقوقِهم فَمَا طَيباتُ الحِل مثلُ الخبائثِ
وَإِنْ يَرْكَبُوا طغيانَهم وضلالَهم ... فَلَيْسَ عَذَابُ اللَّهِ عَنْهُمْ بلابثِ
وَنَحْنُ أَنَاسٌ مِنْ ذؤابةِ غَالِبٌ ... لَنَا العزُّ مِنْهَا فِي الفروعِ الأثائثِ3
فأولِي بربِّ الراقِصات عشيَّةً ... حَراجيجُ تُحْدَى فِي السَّريحِ الرثائثِ4
كأدْم ظباءٍ حولَ مَكَّةَ عكَّفٍ ... يَرِدْنَ حِياضَ البئْرِ ذَاتِ النبائثِ5
لَئِنْ لَم يُفيقوا عَاجِلًا مِنْ ضلالِهم ... ولستُ إذَا آليْتُ قَوْلًا بحانثِ
لتَبْتَدِرَنَّهم غَارَةٌ ذاتُ مَصْدَقٍ ... تُحرِّمُ أطهارَ النساءِ الطوامثِ
تغادرُ قَتْلَى تَعْصِبُ الطيرُ حولَهم ... ولاترأفُ الكفارَ رأفَ ابنِ حارثِ6
فأبلغْ بَنِي سَهمٍ لديْك رِسَالَةً ... وَكُلَّ كفورٍ يَبْتَغِي الشَّرَّ بَاحِثِ
فإن تَشْعَثوا عِرض عَلَى سوءِ رأيِكم ... فإنِّي مِنْ أعراضِكم غيرُ شاعثِ7
فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمي، فَقَالَ:
أمِنْ رسمِ دارٍ أَقْفَرَتْ بالعَثاعِثِ ... بكيتَ بعينٍ دمعُها غيرُ لابثِ8
__________
1 هروا: وثبوا. والمجحرات: الملجئات إلى مواضعها.
2 متتنا: اتصلنا، والكارث: المحزن.
3 الأثائث: المجتمعة.
4 أولي: أحلف، الراقصات: الإبل الراقصة وهو نوع من المشي لها، والحراجيج: الطوال. والسريح ما يربط في أخفاف الإبل مخافة أن تصيبها الحجارة. والرثائث: البالية.
5 الظباء للأدم: التى ظهورها سود وبطونها بيض، والنبائت: ما يخرج من تراب البئر عند حفره.
6 تعصب: تجتمع، وابن حارث: هو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
7 تشعثوا: تفرقوا.
8 العثائث: أفاع لا تنبث شيئًا.(2/172)
وَمِنْ عَجَبِ الأيامِ والدهرُ كُلُّهُ ... لَهُ عَجَبٌ مِنْ سابقاتٍ وحادثِ
لجيشٍ أَتَانَا ذِي عُرامٍ يَقُودُهُ ... عُبَيدةُ يُدْعَى فِي الهياجِ ابنَ حارثِ1
لنتركَ أَصْنَامًا بمكةَ عُكَّفًا ... مواريثَ موروثٍ كريمٍ لوارثِ
فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ بسُمْرِ رُدَيْنَةٍ وجُرْدٍ ... عِتاقٍ فِي العَجاجِ لَوَاهِثِ2
وبيضٍ كَأَنَّ المِلحَ فوقَ متونِها ... بأيدِي كمُاةٍ كالليوثِ العوائثِ3
نقيمُ بِهَا إصْعارَ مَنْ كَانَ مَائِلًا ... وَنَشْفِي الذُّحولَ عَاجِلًا غيرَ لابثِ4
فكَفُّوا عَلَى خوفٍ شديدٍ وهيْبةٍ ... وَأَعْجَبَهُمْ أَمْرٌ لهمِ أمرُ رائثِ5
وَلَوْ أَنَّهُمْ لم يفعلوا ناحَ نِسوة ... أيامَى لهم، ن بينِ نسْءٍ وطامثِ6
وَقَدْ غُودرتْ قتلَى يخبرُ عنهمُ ... حَفِي بِهِمْ أَوْ غافلٌ غيرُ باحثِ7
فأبلغْ أَبَا بَكْرٍ لَدَيْكَ رِسَالَةً ... فَمَا أَنْتَ عَنْ أعراضِ فِهْر بماكثِ
وَلَمَّا تَجِبْ مِنِّي يمينٌ غليظةٌ ... تُجدد حربًا حَلْفةً غيرَحانث
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتًا وَاحِدًا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ لابن الزبعرى.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رَمْيَتِهِ تِلْكَ فِيمَا يَذْكُرُونَ:
أَلَا هَلْ أَتَى رسولَ اللَّهِ أَنِّي ... حَميْتُ صَحَابَتِي بصدورِ نَبْلي
أذودُ بِهَا أوائلَهم ذِيَادًا ... بكلِّ حُزُونة وبكلِّ سَهْلِ8
__________
1 ذو عرام: ذو شدة.
2 السمر الردينية: الرماح المنسوبة إلى ردينة، امرأة كانت تثقف الرماح. والجرد: السريعة، والعجاج: الغبار.
3 العوائث: المفسدات.
4 الإصعار: الميل. والذحول. طلب الثأر.
5 الرائث: المتمهل في الأمور.
6 النسء: التي تأخر حيضها مظنة الحمل.
7 الحفي: المتهم.
8 الحزونة: الأرض الوعرة: والسهل ما انبسط من سطح الأرض.(2/173)
فَمَا يَعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوّ ... بسهمٍ يَا رسولَ اللَّهِ قَبْلِي
وَذَلِكَ أَنَّ دينَكَ دينُ صِدْقٍ ... وَذُو حَقٍّ أتيتَ بِهِ وعَدْل
يُنَجَّى المؤمنوِن بِهِ ويُجزِي ... بهِ الكفارَ عندَ مَقَامِ مَهْلِ1
فَمَهْلًا قَدْ غوِيتَ فَلَا تَعِبْنِي ... غَويَّ الحيِّ وَيْحَك يابنَ جَهْلِ2
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بالشعر ينكرها لسعد.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَتْ رايةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ -فِيمَا بَلَغَنِي- أولَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَحَدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَزْعُمُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حِينَ أَقْبَلَ مِنْ غَزْوَةِ الْأَبْوَاءِ، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَدِينَةِ.
سَرِيَّةُ حَمْزَةَ إلَى سَيْفِ البحر:
وَبَعَثَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ حمزةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، مِنْ ناحية الحِيص في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، وليس فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَلَقِيَ أَبَا جَهْلِ بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ. وَكَانَ مُوَادِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَانْصَرَفَ بعضُ الْقَوْمِ عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ بينهم قتال.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: كَانَتْ رَايَةُ حَمْزَةَ أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لِأَحَدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أنَّ بَعْثَهُ، وَبَعْثَ عُبَيْدة كَانَا مَعًا، فشُبِّه ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ. وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ حَمْزَةَ قَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ رَايَتَهُ أَوَّلُ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ حَمْزَةُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَدَقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَكُنْ يَقُولُ إلَّا حَقًّا، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ، فَأَمَّا مَا سَمِعْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا، فعُبَيْدة بْنُ الْحَارِثِ أَوَّلُ مَنْ عُقد لَهُ. فَقَالَ حَمْزَةُ فِي ذَلِكَ، فِيمَا يَزْعُمُونَ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذَا الشِّعْرَ لِحَمْزَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَلَا يَا لَقَوْمي للتحلًّمِ والجهْل ... وللنقْصِ مِنْ رأي الرجالِ وللعَقْلِ
__________
1 مهل: تثبت.
2 ابن جهل: يريد عكرمة بن أبي جهل.(2/174)
وللراكِبينا بالمظالمِ لَمْ نَطَأ لَهُمْ ... حُرماتٍ مِنْ سَوَامٍ وَلَا أهْلِ1
كَأَنَّا تَبَلْناهم وَلَا تَبْلَ عندَنا لَهُمْ ... غيرُ أَمْرٍ بالعفافِ وبالعدلِ2
وَأَمْرٍ بإسلامٍ فَلَا يَقْبَلُونَهُ ... وينزِلُ مِنْهُمْ مثلَ منزلةِ الهَزْلِ
فَمَا بَرِحوا حَتَّى انتدبْتُ لغارةٍ ... لَهُمْ حَيْثُ حَلُّوا أبْتَغي راحةَ الفَضْلِ
بأمرِ رسولِ اللَّهِ أَوَّلُ خافقٍ ... عَلَيْهِ لِوَاءٌ لَمْ يَكُنْ لاحَ مِنْ قَبْلِي
لِوَاءٌ لَدَيْهِ النصرُ مِنْ ذِي ... كرامةٍ إلهٍ عَزِيزٍ فعلُهُ أفضلُ الفعلِ
عَشِيةَ سَارُوا حَاشِدِينَ وكلُّنا ... مَرَاجِلُهُ مِنْ غيظِ أصحابهِ تَغْلي3
فلما تراديْنا أَنَاخُوا فعقَّلوا ... مَطَايَا وعَقَّلنا مدَى غَرَضِ النَّبْلِ4
فَقُلْنَا لَهُمْ: حبلُ الإلهِ نصيرُنا ... وَمَا لَكُمْ إلَّا الضلالةُ مِنْ حَبْلِ
فَثَارَ أَبُو جهلٍ هُنَالِكَ بَاغِيًا ... فخابَ وردَّ اللَّهُ كيدَ أَبِي جهلِ
وَمَا نحنُ إلَّا فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا ... وَهُمْ مِائَتَانِ بعدَ واحدةٍ فَضل
فَيَا لَلُؤَيّ لَا تُطيعوا غَوَاتَكم ... وَفِيئُوا إلَى الِإسلامِ والمنهجِ السهْلِ
فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُصَبَّ عليكُمُ ... عذابٌ فتَدعوا بالندامةِ والثُّكْلِ
فَأَجَابَهُ أَبُو جهَل بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ:
عجِبتُ لأسبابِ الحفيظةِ والجهلِ ... وَلِلشَّاغِبِينَ بالخلافِ وبالبُطْلِ
وَلِلتَّارِكِينَ مَا وَجَدْنَا جدودَنا ... عَلَيْهِ ذَوِي الأحسابِ والسُّؤْدَد الجزْلِ
أَتَوْنَا بإفكٍ كَيْ يُضلِّوا عقولَنا ... وَلَيْسَ مُضلًا إفكَهُم عقلَ ذِي عقلِ
فَقُلْنَا لَهُمْ: يَا قومَنا لَا تُخالفوا ... عَلَى قومِكم إنَّ الخلافَ مَدَى الْجَهْلِ
فَإِنَّكُمْ إنْ تَفْعَلُوا تَدْعُ نِسوةٌ ... لهنَّ بواكٍ بالرزيةِ والثُّكلِ
__________
1 السوام: الإبل السائمة وهي المتروكة في المرعي.
2 تبلناهم: عاديناهم.
3 المراجل: قدور النحاس.
4 أي أناخوا إبلهم بالقرب من بعض فأصحبت المسافة بينهما مرمى النيل.(2/175)
وَإِنْ تَرجِعوا عَمَّا فَعَلْتُمْ فَإِنَّنَا ... بَنُو عمِّكمْ أهلُ الحفائظِ والفَضْلِ
فَقَالُوا لَنَا: إنَّا وَجَدْنَا مُحَمَّدًا ... رِضًا لِذَوِي الأحلامِ مِنَّا وَذِي العقلِ
فلما أبوْا إلا الخلافَ وزيَّنوا ... جِماعَ الأمورِبالقبيحِ مِنْ الفعلِ
تيمَّمتُهم بالساحلَيْنِ بِغَارَةٍ لِأَتْرُكَهُمْ ... كالعَصْفِ ليس بذي أصلِ1
فورَّعني مَجْدِيُّ عَنْهُمْ وصُحْبتي ... وَقَدْ وَازَروني بالسيوفِ وبالنبلِ2
لِإِلٍّ عَلَيْنَا وَاجِبٍ لَا نُضيعُهُ ... أَمِينٌ قَوَاهُ غَيْرُ مُنْتَكثِ الحبلِ
فَلَوْلَا ابنُ عَمْرٍو كنتُ غادرتُ مِنْهُمْ ... ملاحمَ لِلطَّيْرِ العُكوفِ بِلَا تَبْل
وَلَكِنَّهُ آلَى بِإِلٍّ فقَلَّصتْ ... بأيمانِنَا حَدُّ السيوفِ عَنْ القتلِ
فَإِنْ تُبقني الأيامُ أرجعْ عليهمُ ... ببيضٍ رِقاقِ الْحَدِّ مُحْدَثةِ الصقلِ
بِأَيْدِي حُماةٍ مِنْ لُؤَيِّ بنِ غالبٍ ... كرامِ الْمَسَاعِي فِي الجُدوبة والمَحْلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذَا الشِّعْرَ لِأَبِي جَهْلٍ.
غزوة بواط:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأول يريد قريشًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ السَّائِبَ بن عثمان بن مظعون.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ بُواط4، مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَلَبِثَ بِهَا بقيةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر وبعض جُمادى الأولى.
غزوة العشيرة5:
ثُمَّ غَزَا قُرَيْشًا فَاسْتَعْمَلَ، عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلمة بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هشام.
__________
1 العصف: ورق الزرع الأصفر، أو القطع الدقيقة من التبن ونحوه.
2 ورعني: كفني ومنعني. ومجدي هو: ابن عمرو الجهني.
3 الإل العهد.
4 بواط: جبلان فرعان لأصل واحد، أحدهما: جلسي، والآخر غوري وفى الجلسي بنو دينار ينسبون إلى دينار مولى عبد الملك بن مروان.
5 ويقال فيها أيضا العسيرة والعسيراء وفي البخاري أن قتادة سئل فقال: العشير.(2/176)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَسَلَكَ عَلَى نَقْب بَنِي دِينَارٍ، ثُمَّ عَلَى فَيْفاء الخبَار فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ بِبَطْحَاءِ ابْنِ أَزْهَرَ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ السَّاقِ، فَصَلَّى عِنْدَهَا. فثَمَّ مَسْجِدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصُنع لَهُ عِنْدَهَا طَعَامٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ، وَأَكَلَ الناسُ مَعَهُ، فَمَوْضِعُ أثافِيِّ البُرْمة مَعْلُومٌ هُنَالِكَ، واستُقِي لَهُ مِنْ مَاءٍ بِهِ يُقَالُ لَهُ: المُشْتَرَب، ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرَكَ الخلائقَ بِيَسَارِ وَسَلَكَ شُعبةً يُقَالُ لَهَا: شُعبة عَبْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ اسْمُهَا الْيَوْمُ، ثُمَّ صَبَّ لِلْيَسَارِ حَتَّى هَبَطَ يَلْيَل، فَنَزَلَ بِمُجْتَمَعِهِ وَمُجْتَمَعِ الضَّبُوعة، وَاسْتَقَى مِنْ بِئْرٍ بالضَّبوعة، ثُمَّ سَلَكَ الفَرْش: فَرْشَ مَلَل، حَتَّى لَقي الطريقَ بصُحَيْرات الْيَمَامِ، ثُمَّ اعْتَدَلَ بِهِ الطَّرِيقُ، حَتَّى نَزَلَ العُشَيْرةَ مِنْ بَطْنِ يَنْبُع. فَأَقَامَ بِهَا جمادَى الْأُولَى وَلَيَالِيَ من جمادَى الآخرة، وادعَ فِيهَا بَنِي مُدلِج وحلفاءَهم مِنْ بَنِي ضَمْرة، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يلقَ كَيْدًا.
وَفِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ قَالَ لِعَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا قَالَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْثَم الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْب القُرَظي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْثم أَبِي يَزِيدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ. فِي غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ بِهَا رَأَيْنَا أُنَاسًا مِنْ بَنِي مُدْلج يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ لَهُمْ وَفِي نَخْلٍ فَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، هَلْ لَكَ فِي أَنْ تَأْتِيَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، فَنَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ قَالَ: قُلْتُ: إنْ شئتَ قَالَ: فَجِئْنَاهُمْ، فَنَظَرْنَا إلَى عَمَلِهِمْ سَاعَةً، ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْمُ. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعَلِيٌّ حَتَّى اضْطَجَعْنَا فِي صُور مِنْ النَّخْلِ1، وَفِي دَقْعاء2 مِنْ التُّرَابِ فَنِمْنَا، فَوَاَللَّهِ مَا أهَبَّنا3 إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُنَا بِرِجْلِهِ. وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعاء الَّتِي نِمْنَا فِيهَا، فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "مالك يَا أَبَا تُرَابٍ"، لِمَا يَرَى عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ. ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُحَدِّثُكُمَا بِأَشْقَى النَّاسِ رَجُلين؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُحَيْمِرُ ثَمُودٍ4 الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَاَلَّذِي يَضْرِبُكَ يا عليُّ على هذه -وضع يَدَهُ عَلَى قَرْنه- حَتَّى يَبُلَّ مِنْهَا هَذِهِ -وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ-".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إنما سمي
__________
1 صور من النخل: صغار منها.
2 الدقعاء: مالان من التراب.
3 أهبنا: أيقظنا.
4 هو قدار أو قذار بن سالف وأمه قذيرة وهو من التسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون المذكورين في سورة النمل.(2/177)
عَلِيًّا أَبَا تُرَابٍ: أَنَّهُ كَانَ إذَا عَتَب على فاطمة في شيءٍ لم يكلمْها، لم يقل لها شيئًا تكرهه، لا أَنَّهُ يَأْخُذُ تُرَابًا فَيَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَأَى عَلَيْهِ الترابَ عَرَفَ أَنَّهُ عَاتِبٌ على فاطمة، فيقول: "مالك يَا أَبَا تُرَابٍ؟ " فَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كان.
سرية سعد بن أبي وقاص:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ بَعْث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ غَزْوَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فِي ثَمَانِيَةِ رهْط مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ حَتَّى بَلَغَ الْخَرَّارَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يلقَ كَيْدًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ذَكَرَ بعضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْثَ سَعْدٍ هَذَا كان بعد حمزة.
غزوه سفوان:
وهي غزوة بدر الأولى:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمْ يُقِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ إلَّا لَيَالِيَ قَلَائِلَ لَا تبلغ العشرحتى أَغَارَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ عَلَى سَرْح الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طلَبه، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْد بن حارثة، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا، يُقَالُ لَهُ: سَفْوان، مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، وَفَاتَهُ كُرْزُ بنُ جَابِرٍ، فَلَمْ يدركْه، وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا بقيةَ جُمَادى الْآخِرَةِ وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ.
سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ:
وَنُزُولُ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}
الكتاب الذي حمله من الرسول: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشِ بْنِ رِئاب الْأَسَدِيَّ فِي رَجَبٍ، مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ، فَيَمْضِيَ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ، ولا يستكره من أصحابه أحدًا.(2/178)
وكان أصحاب ابن جحش في هذه السرية: وَكَانَ أصحابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: أَبُو حُذَيفة بْنُ عُتْبة بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَمِنْ حَلْفَائِهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ، وعُكَّاشة بْنُ مِحْصن بْنِ حُرْثان، أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خزَيمة، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَمِنْ بَنِي نَوْفَل بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُتبة بْنُ غَزْوان بْنِ جَابِرٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَمِنْ بَنِي زُهْرة بْنِ كِلَابٍ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَمِنْ بَنِي عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف لَهُمْ مِنْ عَنْز بْنِ وَائِلٍ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِين بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبوع، أَحَدُ بَنِي تَمِيمٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ، وَخَالِدُ بْنُ البُكَير، أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْث، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَمِنْ بَنِي الحارث بن فهر: سُهَيْل بن بيضاء. ابن جحش يفتح الكتاب: فَلَمَّا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ، فَنَظَرَ فِيهِ فَإِذَا فِيهِ: "إذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلة، بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فترصَّدْ بِهَا قُرَيْشًا وتَعلَم لَنَا مِنْ أخبارِهم". فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فِي الْكِتَابِ، قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَمْضِيَ إلَى نَخْلة، أرْصُد بِهَا قُرَيْشًا، حَتَّى آتِيَهُ مِنْهُمْ بِخَبَرِ، وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ؟ فَأَمَّا أَنَا فماضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أصحابهُ، لَمْ يتخلفْ عنه منهم أحد.
وَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ، حَتَّى إذَا كَانَ بمعْدن، فَوْقَ الفُرُع، يُقَالُ لَهُ: بَحْرَانُ، أَضَلَّ سعدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وعتبةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا، كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ. فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وبقيةُ أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلَ بنَخْلة. فَمَرَّتْ بِهِ عِير لِقُرَيْشِ تَحْمِلُ زَبِيبًا وأدَمًا، وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فيهما عمرو بن الحَضْرَمي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ الْحَضْرَمِيِّ: عبدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاد، وَيُقَالُ: مَالِكُ بْنُ عَبَّاد، أَحَدُ الصَّدِف، وَاسْمُ الصِّدِف: عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، أَحَدُ السَّكون بْنِ أَشْرَسَ بْنِ كِنْدة، وَيُقَالُ: كِنْدى.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَخُوهُ نَوْفل بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسان، مَوْلَى هِشَامِ بن المغيرة.
فَلَمَّا رَآهُمْ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَة بْنُ مُحْصَنٍ، وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رأسَه، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا، وَقَالُوا عُمَّارٌ، لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ.. وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاَللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمْ الْقَوْمَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ، فَلَيَمْتَنِعُنَّ مِنْكُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قتلتوهم لَتَقْتُلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ وَهَابُوا الِإقدام عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شَجَّعُوا أنفسَهم عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ. فَرَمَى واقدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ(2/179)
التَّمِيمِيُّ عَمرو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمِ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عثمانَ بنَ عبد الله، والحكمَ بن كَيْسان وَأَفْلَتَ القومَ نوفلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ. وَأَقْبَلَ عبدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَبِالْأَسِيرَيْنِ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ بعضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا غَنِمْنَا الْخُمُسَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ تَعَالَى الْخُمُسَ مِنْ الْمَغَانِمِ، فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمس الْعِيرِ، وقسَّم سَائِرَهَا بَيْنَ أصحابه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدمِوا عَلَى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ قَالَ: "مَا أمرتكمِ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ". فَوَقَّفَ العيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ. وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُقط فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلكوا، وَعَنَّفَهُمْ إخوانُهم مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا. وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَسَفَكُوا فِيهِ الدمَ، وَأَخَذُوا فِيهِ الأموالَ، وَأَسَرُوا فِيهِ الرجالَ فَقَالَ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّنْ كَانَ بمكة: إنما أصابوا في شعبان.
وَقَالَتْ يَهُودُ -تَفاءَلُ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَمْرٌو، عَمُرَتْ الْحَرْبُ. وَالْحَضْرَمِيُّ: حَضَرَتْ الْحَرْبُ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدَتْ الْحَرْبُ، فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لا لهم.
فَلَمَّا أَكْثَرَ الناسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] ، أَيْ إنْ كُنْتُمْ قَتلتم فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَدْ صَدُّوكم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِهِ، وَعَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْهُ وَأَنْتُمْ أهلُهُ، أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أَيْ قَدْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ، حَتَّى يَرُدُّوهُ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إيمَانِهِ فَذَلِكَ أكبرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْقَتْلِ {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] : أَيْ ثُمَّ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ، غَيْرَ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا مِنْ الْأَمْرِ، وَفَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الشَّفَقِ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَبَعَثَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي فداءِ عُثمان بن عبد الله والحكم بن كَيْسان، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا نفديكموهما حتى يقدمَ صاحبانا -يعنى سعد ابن أَبِي وَقَّاصٍ، وعُتبة بْنَ غَزْوان- فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا، نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ". فَقَدِمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ فَأُفْدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منهم.
فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسان فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حتى(2/180)
قُتل يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا. وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، فَمَاتَ بِهَا كافرًا. طمع أمير السرية في الأجر وما نزل في ذلك من القرآن: فَلَمَّا تَجَلَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ، طَمِعُوا فِي الْأَجْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَطْمَعُ أَنْ تكونَ لَنَا غَزْوَةٌ نُعْطَى فِيهَا أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] ، فَوَضَعَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَعْظَمِ الرَّجَاءِ.
وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وقَد ذَكَرَ بعضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَسَمَ الْفَيْءَ حِينَ أحلَّه، فَجَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ أفاءَه اللَّهُ، وخُمسًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَوَقَعَ عَلَى مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن جحش صنع في تلك العير.
أول غنيمة للمسلمين: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ. وعَمرو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كيسان أول من أسر المسلمون.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَيُقَالُ: بَلْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ قَالَهَا، حِينَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ أَحَلَّ. مُحَمَّدٌ وأصحابهُ الشهرَ الْحَرَامَ وَسَفَكُوا فِيهِ الدَم وَأَخَذُوا فِيهِ المالَ، وَأَسَرُوا فِيهِ الرجالَ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ:
تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً ... وأعظمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرشدَ راشدُ
صدودُكم عَمَّا يَقُولُ محمدٌ ... وكُفْرٌ بِهِ وَاَللَّهُ راءٍ وشاهدُ
وإخراجُكم مِنْ مسجدِ اللَّهِ أهلَه ... لِئَلَّا يُرى للهِ فِي البيتِ ساجدُ
فَإِنَّا وَإِنْ عَيَّرتمونا بِقَتْلِهِ ... وَأَرْجَفَ بالِإسلامِ باغٍ وحاسدُ
سَقَينا مِنْ ابنِ الحَضرَمي رماحَنا ... بنَخْلَةَ لَمَّا أوقَدَ الحربَ واقدُ
دَمًا وابنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانُ بَيْنَنَا ... يُنازعه غُلٌّ مِنْ القدِّ عاندُ1
صَرْفُ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ويقالُ: صُرفت الْقِبْلَةُ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثمانيةَ عشرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المدينة.
__________
1 القد: شرك من جلد، والعاند: السائل بالدم غير المنقطع.(2/181)
غزوة بدر الكبرى1:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِع بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ مُقبلًا مِنْ الشَّأْمِ فِي عِير لِقُرَيْشٍ عَظِيمَةٍ، فِيهَا أموالٌ لِقُرَيْشِ وَتِجَارَةٌ مِنْ تِجَارَاتِهِمْ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ أَرْبَعُونَ، مِنْهُمْ مَخْرَمة بْنُ نَوْفل بْنُ أهَيْب بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهرة، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ فَاجْتَمَعَ حديثُهم فِيمَا سقته مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ، قَالُوا: لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنْ الشَّامِ، نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ وَقَالَ: "هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُنْفِلُكموها". فَانْتَدَبَ الناسُ، فَخَفَّ بعضُهم وَثَقُلَ بعضُهم، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى حَرْبًا. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ يُتَحَسَّسُ2 الأخبارَ وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنْ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْرِ النَّاسِ. حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ اسْتَنْفَرَ أصحابَه لَكَ وَلِعِيرِكَ، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَم بْنَ عَمْرو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إلَى مكة، وأمره أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إلَى أموالِهم، ويُخبرهم أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إلَى مَكَّةَ.
رؤيا عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابن عباس، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قَالَا: وَقَدْ رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضم مَكَّةَ بِثَلَاثِ ليالٍ، رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا. فَبَعَثَتْ إلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب.
__________
1 بدر: اسم بئر حفرها رجل من غفار، ثم من بني النار منهم، اسمه: بدر، وقيل: هو بدر بن قريش بن يخلد الذي سميت قريش به، وروى يونس عن ابن أبي زكريا عن الشعبي قال بدر: اسم رجل كانت له بدر.
2 التحسس بالحاء. أن تتسمع الأخبار بنفسك، والتجسس بالجيم: هو أن تفحص عنها بغيرك، وفي الحديث "لا تجسسوا، ولا تحسسوا".(2/182)
فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، وَاَللَّهِ لَقَدْ رأيتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا أَفْظَعَتْنِي، وتخوفْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْهَا شَرٌّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَنِّي مَا أُحَدِّثُكَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهَا: وَمَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، حَتَّى وَقَفَ بالأبطَح، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَلَا انْفِرُوا يَا لَغُدُر لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَأَرَى النَّاسَ اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ1 بَعِيرُهُ على ظهر الكعبة، صَرَخَ بِمِثْلِهَا: أَلَا انْفِرُوا يَا لَغُدُرَ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ: ثُمَّ مَثَل بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْس، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا ثُمَّ أخذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا. فَأَقْبَلَتْ تَهْوي، حَتَّى إذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ2. فَمَا بَقِيَ بيتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَلَا دارٌ إلَّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا فَلِقَةٌ. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، وأنتِ فاكتميها، ولا تذكريها لأحد.
ثُمَّ خَرَجَ الْعَبَّاسُ، فَلَقِيَ الوليدَ بنَ عُتبة بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ لَهُ صِدِّيقًا: فَذَكَرَهَا لَهُ، وَاسْتَكْتَمَهُ إيَّاهَا. فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْحَدِيثُ بِمَكَّةَ، حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ فِي أنديتها.
قَالَ الْعَبَّاسُ: فغدوتُ لأطوفَ بِالْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي رَهْط مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ إذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ فَأَقْبِلْ إلَيْنَا؟ فَلَمَّا فَرَغْتُ أقبلتُ حَتَّى جلستُ مَعَهُمْ، فَقَالَ لِي أَبُو جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ مَتَى حَدَثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ: قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا رَأَتْ؟ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنَبَّأَ رِجَالُكُمْ حَتَّى تَتَنَبَّأَ نِسَاؤُكُمْ، قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ: انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ، فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ، فَإِنْ يكُ حَقًّا مَا تَقُولُ فَسَيَكُونُ، وَإِنْ تَمْضِ الثَّلَاثُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، نَكْتُبْ عَلَيْكُمْ كِتَابًا أَنَّكُمْ أكذبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَوَاَللَّهِ مَا كَانَ مِنِّي إلَيْهِ كَبِيرٌ، إلَّا أَنِّي جَحَدْتُ ذَلِكَ، وَأَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ رَأَتْ شَيْئًا قَالَ: ثُمَّ تفرقنا.
فَلَمَّا أمسيتُ، لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إلَّا أَتَتْنِي، فَقَالَتْ: أَقْرَرْتُمْ لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النساءَ وَأَنْتَ تسمعُ، ثُمَّ لَمْ يكن عندك غِيَر لشىء بما سَمِعْتَ، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ وَاَللَّهِ فَعَلْتُ، مَا كَانَ مِنِّي إلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ. وَاَيْمُ اللَّهِ لأتعرضن له، لاكفينَّكُنَّه.
قَالَ فغدوتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضَب أُرَى أَنِّي قَدْ فاتني منه
__________
1 مثل به: قام به.
2 لأرفضت: تفتتت.(2/183)
أَمْرٌ أحِب أَنْ أدركَه مِنْهُ. قَالَ: فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُهُ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَمْشِي نَحْوَهُ أتعرَّضه، لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعَ بِهِ، وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا، حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ، حَدِيدَ النَّظَرِ. قَالَ: إذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يشتدُّ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ، أكلُّ هَذَا فَرَق مِنِّي أَنْ أُشَاتِمَهُ! قَالَ: وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ: صَوْتَ ضَمْضم بْنِ عَمرو الغِفاري، وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ، قَدْ جَدَّعَ بعيرَه1، وحوَّل رحلَه، وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا معشرَ قُريش، اللطيمةَ اللطيمةَ2 أموالُكم مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَض لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تدْرِكوها، الغَوْثَ الغَوْثَ. قَالَ: فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ عَنِّي ما جاء من الأمر.
قريش تتجهز لِلْخُرُوجِ: فَتَجَهَّزَ الناسُ سِرَاعًا، وَقَالُوا: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وأصحابُه أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، كَلَّا وَاَللَّهِ ليعلَمنَّ غَيْرَ ذَلِكَ. فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ، إمَّا خَارِجٍ وَإِمَّا بَاعِثٍ مكانَه رَجُلًا. وَأَوْعَبَتْ قريش، فلما يَتَخَلَّفْ مِنْ أشرافِها أحدٌ.
إلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَخَلَّفَ، وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصِيَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ قَدْ لَاطَ3 لَهُ بأربعةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ، أَفْلَسَ بِهَا، فَاسْتَأْجَرَهُ بِهَا عَلَى أَنْ يُجْزِئَ عَنْهُ بَعَثَهُ، فَخَرَجَ عَنْهُ، وَتَخَلَّفَ أَبُو لهب.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عبدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نجيحٍ: أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَانَ أَجْمَعَ الْقُعُودَ، وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا جَسِيمًا ثَقِيلًا، فَأَتَاهُ عُقبة بْنُ أَبِي مُعَيْط، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ، بِمَجْمَرَةٍ يَحْمِلُهَا، فِيهَا نَارٌ ومَجْمَر، حَتَّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، اسْتَجْمِرْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ النِّسَاءِ: قَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وقبَّح مَا جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ: ثُمَّ تَجَهَّزَ فَخَرَجَ مع الناس.
ما وقع بين قريش وكنانة من الحرب قبل بَدْرٍ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جَهَازِهِمْ وَأَجْمَعُوا المسيرَ، ذَكَرُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِنْ الْحَرْبِ، فَقَالُوا: إنَّا نَخْشَى أَنْ يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، وَكَانَتْ الْحَرْبُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ كَمَا حَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي ابْنٍ لِحَفْصِ بن الأخْيَف، أحد بني
__________
1 جدع بعيره: قطع أنفه.
2 اللطيمة: الإبل التي تحمل البز والطيب.
3 لاط: احتبس.(2/184)
مَعيص بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَي، خَرَجَ يَبْتَغِي ضَالَّةً لَهُ بضَجنان، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثَ فِي رَأْسِهِ ذُؤابة، وَعَلَيْهِ حُلَّة لَهُ، وَكَانَ غُلَامًا وَضِيئًا نَظِيفًا، فَمَرَّ بِعَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ المُلَوَّح، أَحَدِ بَنِي يَعْمَر بْنِ عوف بن كعب بن عامر بن لَيْث بن بكر بن عبد مَناة بن كنانة، وَهُوَ بضَجْنان، وَهُوَ سَيِّدُ بَنِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ، فَرَآهُ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا غلامُ؟ قال: أنا ابنٌ لحفصِ بن الأخْيف الْقُرَشِيِّ. فَلَمَّا ولَّى الْغُلَامُ، قَالَ عَامِرُ بْنُ زَيْدٍ: يَا بَنِي بَكْرٍ، مَا لَكُمْ فِي قُرَيْشٍ مِنْ دَمٍ؟ قَالُوا: بَلَى وَاَللَّهِ، إنَّ لَنَا فِيهِمْ لَدِمَاءً، قَالَ: مَا كَانَ رَجُلٌ لِيَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ برَجُله إلَّا كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى دَمَهُ. قَالَ: فَتَبِعْهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، فَقَتَلَهُ بدمٍ كَانَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ؟ فَتَكَلَّمَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ يَزِيدَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ كَانَتْ لَنَا فِيكُمْ دِمَاءٌ، فَمَا شِئْتُمْ؟ إنْ شِئْتُمْ فأدُّوا عَلَيْنَا مَا لَنَا قِبَلَكم، وَنُؤَدِّي مَا لَكُمْ قِبَلَنَا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَإِنَّمَا هِيَ الدِّمَاءُ: رَجُلٌ بِرَجُلِ، فَتَجَافَوْا عَمَّا لَكُمْ قِبَلَنَا، وَنَتَجَافَى عَمَّا لَنَا قِبَلَكُمْ، فَهَانَ ذَلِكَ الْغُلَامُ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: صَدَقَ، رَجُلٌ بِرَجُلِ. فَلَهَوْا عَنْهُ، فَلَمْ يُطْلِبُوا بِهِ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا أَخُوهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْص بْنِ الْأَخْيَفِ يَسِيرُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، إذْ نَظَرَ إلَى عَامِرِ بْنِ يزيد بْنِ الملَوَّح عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَقْبَلَ إلَيْهِ حَتَّى أَنَاخَ بِهِ، وَعَامِرٌ مُتَوَشِّحٌ سَيْفَهُ، فَعَلَاهُ مِكْرَزٌ بِسَيْفِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ خَاضَ بَطْنَهُ بِسَيْفِهِ؟ ثُمَّ أَتَى بِهِ مَكَّةَ، فَعَلَّقَهُ مِنْ اللَّيْلِ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَلَمَّا أَصْبَحَتْ قُرَيْشٌ رَأَوْا سَيْفَ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ مُعَلَّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَعَرَفُوهُ فَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَسَيْفُ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ، عَدَا عَلَيْهِ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ حَرْبِهِمْ، حَجَزَ الإسلامُ بينَ النَّاسِ فَتَشَاغَلُوا بِهِ، حَتَّى أَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ المسيرَ إلَى بَدْرٍ، فَذَكَرُوا الَّذِي بينهم وبينَ بني بكر فخافوهم.
وَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فِي قَتْلِهِ عَامِرًا:
لَمَّا رأيتُ أَنَّهُ هُوَ عَامِرٌ ... تَذَكَّرْتُ أشلاءَ الحبيبِ الملحَّبِ1
وَقُلْتُ لِنَفْسِي: إنَّهُ هُوَ عامرٌ ... فَلَا تَرْهبيه، وَانْظُرِي أيَّ مَرْكبِ
وأيقنتُ أَنِّي إنْ أجَلِّلْه ضَرْبَةً ... مَتَى مَا أصبْه بالفُرافرِ يَعْطَبِ
خفضتُ لَهُ جَأْشِي وألقيتُ كَلْكَلي ... عَلَى بطلٍ شاكي السلاحِ مُجَرَّب2
__________
1 المحلب: الذي ذهب لحمه، وأصل اللحب تقطيع اللحم طولا.
2 الكلكل: الصدر.(2/185)
وَلَمْ أَكُ لَمَّا الْتَفَّ رُوعِي وَرُوعُهُ ... عُصَارَةَ هُجُنٍ مِنْ نِسَاءٍ وَلَا أَبِ
حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَلَمْ أَنْسَ ذَحْلَهُ ... إذَا مَا تَنَاسَى ذَحْلَهُ كُلُّ عَيْهَبِ1
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفَرَافِرُ في غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: الرَّجُلُ الْأَضْبَطُ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ: السَّيْفُ، وَالْعَيْهَبُ: الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ، وَيُقَالُ لِتَيْسِ الظِّبَاءِ وَفَحْلِ النَّعَامِ: الْعَيْهَبُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَيْهَبُ: الرَّجُلُ الضَّعِيفُ عَنْ إدْرَاكِ وتره.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا أَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ ذَكَرَتْ الَّذِي كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ، فَكَادَ ذَلِكَ يُثْنِيهِمْ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَكُمْ جَارٌ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ مِنْ خَلْفِكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا.
خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيَالٍ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أَصْحَابِهِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: خَرَجَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَمَانِ ليالٍ خَلَوْنَ من شهر رمضان، واستعمل عمرو ابن أُمِّ مَكْتُومٍ، وَيُقَالُ اسْمُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤي، عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَدَّ أَبَا لُبَابَةَ من الروحاء، واستعمله على المدينة.
اللواء والرايتان: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إلَى مُصْعَبِ بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بْنِ عَبْدِ الدَّارِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ أبيض.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَايَتَانِ سَوْدَاوَانِ إحْدَاهُمَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يُقَالُ لَهَا: الْعُقَابُ، وَالْأُخْرَى مَعَ بَعْضِ الْأَنْصَارِ.
عَدَدُ إبِلِ المسلمين إلى بدر: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ إبِلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَعِيرًا، فَاعْتَقَبُوهَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وَأَبُو كَبْشَةَ، وَأَنَسَةُ، مَوْلَيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَعْتَقِبُونَ بعيرًا.
__________
1 الذحل: الثأر.(2/186)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَجَعَلَ عَلَى السَّاقة قَيْسَ بْنَ أَبِي صَعْصَعَةَ أَخَا بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ. وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ معاذ، فيما قال ابن هشام.
الطريق إلَى بَدْرٍ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَسَلَكَ طَرِيقَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ، عَلَى نَقْب الْمَدِينَةِ، ثُمَّ عَلَى الْعَقِيقِ، ثُمَّ عَلَى ذِي الحُليفة، ثُمَّ عَلَى أُولَاتِ الجَيْش.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ،: ذات الجيش.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ مَرَّ عَلَى تُرْبان، ثُمَّ عَلَى مَلَل، ثُمَّ غَميس الحَمام مِنْ مَرَرَيْن، ثم على صُحَيْرات الْيَمَامِ، ثُمَّ عَلَى السَّيالة، ثُمَّ عَلَى فَجِّ الرَّوْحاء، ثُمَّ عَلَى شَنُوكة، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُعْتَدِلَةُ، حَتَّى إذَا كَانَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الظَّبْيَةُ: عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ- لَقُوا رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ النَّاسِ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا. فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: سلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَوَفِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فسلَّم عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي عَمَّا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هَذِهِ. قَالَ لَهُ سَلَمة بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقش: لَا تَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبِلْ عليَّ فَأَنَا أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ. نَزَوْتَ عَلَيْهَا، فَفِي بَطْنِهَا مِنْكَ سَخْلة1، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْ أفحشْتَ على الرجل"، ثم أعرض عن سَلمة.
وَنَزَلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْسج وَهِيَ بِئْرُ الرَّوْحاء ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا، حَتَّى إذَا كَانَ بالمنْصَرَف، تَرَكَ طَرِيقَ مَكَّةَ بِيَسَارٍ، وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى النَّازِيَةِ، يُرِيدُ بَدْرًا، فَسَلَكَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا، حَتَّى جَزَع وَادِيًا2، يُقَالُ لَهُ رُحْقان، بَيْنَ النَّازِيَةِ وَبَيْنَ مَضِيق الصَّفْراء، ثُمَّ عَلَى الْمَضِيقِ، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهُ، حَتَّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الصَّفْرَاءِ، بعثَ بَسْبَس بْنَ الجُهَني حليفَ بَنِي سَاعِدَةَ، وعَدِي بْنَ أَبِي الزّغْباء الْجُهَنِيَّ، حَلِيفَ بَنِي النَّجَّارِ، إلَى بَدْرٍ يَتَحَسَّسَانِ لَهُ الْأَخْبَارَ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمها. فلما استقبل في الصَّفراء، وَهِيَ قَرْيَةٌ بَيْنَ جَبَلين، سَأَلَ عَنْ جَبَلَيْهِمَا مَا اسْمَاهُمَا؟ فَقَالُوا: يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا، هَذَا مُسْلح، وللآخر: هذا مُخْزِئ، وَسَأَلَ عَنْ أَهْلِهِمَا فَقِيلَ: بَنُو النَّارِ وَبَنُو حُراق، بَطْنَانِ مِنْ بَنِي غِفار فَكَرِهَهُمَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرُورُ بَيْنَهُمَا، وَتَفَاءَلَ بِأَسْمَائِهِمَا وَأَسْمَاءِ3 أَهْلِهِمَا: فَتَرَكَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفْرَاءَ بِيَسَارِ، وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى وَادٍ يُقَالُ لَهُ: ذَفِرَان، فجزع فيه، ثم نزل.
__________
1 السخلة في الأصل: الصغير من الضأن واستعارها لولد الناقة.
2 قطعه عرضا.
3 ليس هذا من باب الطير والتشاؤم فقد كان ينهى عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا من باب كراهية الاسم القبيح.(2/187)
وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ وَأَحْسَنُ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ وَأَحْسَنُ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاَللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] . وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إلَى بَرْك الْغِمَادِ1 لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ، حَتَّى تَبْلُغَهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِهِ.
استشارة الْأَنْصَارِ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَشِيرُوا عليَّ أَيُّهَا النَّاسُ" وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا بُرآء مِنْ ذمامِك حَتَّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أبناءَنا ونساءَنا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخوَّف أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاَللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَجَلْ": قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عهودَنا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فخُضته لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تخلَّف مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُريك مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عينُك، فسِر بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فسُر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، ونشَّطه ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أنظر إلى مصارع القوم".
ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَفران، فَسَلَكَ عَلَى ثَنايا، يُقَالُ لَهَا: الأصَافِر، ثُمَّ انْحَطَّ مِنْهَا إلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: الدَّبَّة، وَتَرَكَ الحَنَّان بِيَمِينٍ وَهُوَ كَثيب عَظِيمٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الرَّجُلُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ: حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَيْخ من العرب، فسأله
__________
1 موضع بناحية اليمن، وقيل إنها مدينة بالحبشة.(2/188)
عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاكَ". قَالَ: أَذَاكَ بِذَاكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الَّذِي أَخْبَرَنِي، فَهُمْ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمْ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ قُرَيْشٌ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ، قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ مِنْ مَاءٍ"، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ. قَالَ يَقُولُ الشَّيْخُ: مَا مِنْ مَاءٍ، أَمِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ؟
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: ذَلِكَ الشَّيْخُ: سُفْيَانُ الضَّمْري.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، إلَى مَاءِ بَدْرٍ، يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ لَهُ عَلَيْهِ -كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ- فَأَصَابُوا رَاويةً1 لِقُرَيْشٍ فِيهَا أسْلَم، غُلَامُ بَنِي الحجَّاج، وعَرِيض أَبُو يَسَارٍ، غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنْ الْمَاءِ فَكَرِهَ القومُ خبرَهما، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ، فَضَرَبُوهُمَا. فَلَمَّا أَذْلَقُوهُمَا2 قَالَا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَكُوهُمَا. وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمَ، وَقَالَ: "إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، وَاَللَّهِ إنَّهُمَا لِقُرَيْشِ، أَخْبِرَانِي عَنْ قُرَيْشٍ؟ " قَالَا: هُمْ وَاَللَّهِ وَرَاءَ هَذَا الكَثيب الَّذِي تَرَى بالعُدْوة القُصْوى -وَالْكَثِيبُ: العَقَنْقَل- فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَمْ الْقَوْمُ؟ " قَالَا: كَثِيرٌ؟ قَالَ: "مَا عِدَّتُهُمْ؟ " قَالَا: لَا نَدْرِي، قَالَ: "كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ " قَالَا: يَوْمًا تِسْعًا، وَيَوْمًا عَشْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "القوم فيما بين التسعمائة وَالْأَلْفِ".
ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: "فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟ " قَالَا: عُتْبَةُ بنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو البخْتَري بْنُ هِشَامٍ، وحَكيم بْنُ حِزام، ونوْفل بْنُ خوَيلد، وَالْحَارِثُ بْنُ عامر بن نَوْفل، وطُعَيْمة بن عَدِي بن نَوْفل، والنَّضْر بْنِ الْحَارِثِ، وزَمَعَة بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، ونُبَيه، ومُنَبّه ابْنَا الْحَجَّاجِ، وسُهَيل بْنُ عَمْرٍو، وعَمرو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إلَيْكُمْ أَفْلَاذَ3 كَبِدِهَا".
__________
1 الرواية: الإبل التي يسقى الماء عليها.
2 أذلقه: بالغ في ضربة.
3 أفلاذ: قطع، انظر ما في هذا الحديث من البلاغة في كتاب المجازات النبوية للشريف الرضي طبعة مصطفى الحلبي بتحقيقنا.(2/189)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ بَسْبَس بْنُ عَمْرٍو، وَعَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْباء قَدْ مَضَيَا حَتَّى نَزَلَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا إلَى تَلٍّ قَرِيبٍ مِنْ الماء، ثم أخذا شَنًّا لهما1 يسقيان فِيهِ، ومَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ عَلَى الْمَاءِ فَسَمِعَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ جِوَارِي الْحَاضِرِ2، وَهُمَا يَتلازمان3 عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَلْزُومَةُ4 تَقُولُ لِصَاحِبَتِهَا: إنَّمَا تَأْتِي العيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غدٍ، فَأَعْمَلُ لَهُمْ، ثُمَّ أَقْضِيكَ الَّذِي لَكَ، قَالَ مَجْدِي: صدقتِ، ثُمَّ خلَّص بَيْنَهُمَا. وَسَمِعَ ذَلِكَ عَدي وبَسْبس، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فأخبراه بما سمعا.
نجاة أبي سفيان بِالْعِيرِ: وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، حَتَّى تَقَدَّمَ الْعِيرَ حذَرًا، حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ؟ فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أحسستْ أَحَدًا؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْكَرَهُ، إلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ قَدْ أَنَاخَا إلَى هَذَا التَّلِّ، ثُمَّ اسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا. فَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ مُناخَهما، فَأَخَذَ مِنْ أبعارِ بَعِيرَيْهِمَا، فَفَتَّهُ، فَإِذَا فِيهِ النَّوَى؟ فَقَالَ: هَذِهِ وَاَللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ. فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ سَرِيعًا، فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ عَنْ الطَّرِيقِ، فساحَلَ بِهَا5، فترك بدرًا بيسار وانطلق حتى أسرع.
قَالَ: وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا نَزَلُوا الجُحْفة، رَأَى جُهَيم بن الصَّلْت بن مَخْرمة بن عبد الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا، فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَإِنِّي لَبَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقِظَانِ، إذْ نَظَرْتُ إلَى رَجُلٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ حَتَّى وَقَفَ، وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ؟ ثُمَّ قَالَ: قُتل عُتبة بْنُ رَبِيعَةَ، وشَيْبة بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَف، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَعَدَّدَ رِجَالًا مِمَّنْ قُتل يَوْمَ بدرِ، مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ ضَرَبَ فِي لَبَّة بَعِيرِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ؟ فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أخْبية الْعَسْكَرِ إلَّا أَصَابَهُ نَضْح مِنْ دَمِهِ.
قَالَ: فبلغتْ أَبَا جَهْلٍ؟ فَقَالَ: وَهَذَا أَيْضًا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، سَيَعْلَمُ غَدًا مَنْ المقتول إن نحن التقينا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أحْرز عِيرَهُ، أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ: إنَّكُمْ إنَّمَا خَرَجْتُمْ لتَمنعوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ، فَارْجِعُوا؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاَللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا -وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، يجتمع لهم به
__________
1 الشن: الزق البالي.
2 الحاضر: النازلون على الماء.
3 التلازم: تعلق الغريم بغريمه.
4 الملزومة: المدينة.
5 أخذ بها طريق الساحل.(2/190)
سُوقٌ كُلَّ عَامٍ- فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرُ الجُزر، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ ونُسْقي الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وجَمْعنا، فَلَا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها، فامضوا.
وَقَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ: وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهرة وَهُمْ بالجُحْفة: يَا بَنِي زُهرة، قَدْ نجَّى اللَّهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وخَلَّص لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرمة بْنَ نَوْفَلٍ، وَإِنَّمَا نَفَرْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ، فَاجْعَلُوا لِي جُبْنَها وَارْجِعُوا، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِأَنْ تخرجوا في ضَيْعة، لَا مَا يَقُولُ هَذَا، يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ. فَرَجَعُوا، فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيّ وَاحِدٌ، أَطَاعُوهُ وَكَانَ فِيهِمْ مُطاعًا، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ بَطْنٌ إلَّا وَقَدْ نَفر مِنْهُمْ نَاسٌ، إلَّا بَنِي عَدِي بْنِ كَعْبٍ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيق، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ، وَمَشَى الْقَوْمُ. وَكَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -وَكَانَ فِي الْقَوْمِ- وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ، فَقَالُوا: واللَه لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي هَاشِمٍ، وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا، أَنَّ هَوَاكُمْ لَمَعَ مُحَمَّدٍ: فَرَجَعَ طَالِبٌ إلَى مكة مع من رجع، وقال طالب بن أَبِي طَالِبٍ:
لَا هُمَّ إمَّا يَغْزُوَنَّ طالبْ ... فِي عُصبةٍ مُحَالِفٌ مُحاربْ
فِي مِقْنبٍ مِنْ هَذِهِ المقانبْ ... فَلْيَكُنْ الْمَسْلُوبُ غيرَ السالبْ1
وَلْيَكُنْ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ "فَلْيَكُنْ الْمَسْلُوبُ"، وَقَوْلُهُ: "وَلْيَكُنْ الْمَغْلُوبُ" عَنْ غَيْرِ واحد من الرواة للشعر.
قريش تنزل بالعدوة والمسلمون بِبَدْرِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بالعُدْوَة القُصْوَى مِنْ الْوَادِي، خَلْفَ العَقَنْقَل وَبَطْنِ الْوَادِي، وَهُوَ يَلْيَل، بَيْنَ بَدْرٍ وَبَيْنَ العَقَنْقَل الْكَثِيبُ الَّذِي خَلْفَهُ قُرَيْشٌ، والقُلُب2 بِبَدْرِ فِي العُدْوة الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ يَلْيَل إلَى المدينة.
وبعث الله السماء، وكان الوادي دَهْسًا3، فَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْهَا مَا لَبَّد لَهُمْ الأرضَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ السَّيْرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا جمعه. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبادرهم إلى الماء، حَتَّى إذَا جَاءَ أَدُنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نزل به.
__________
1 المقنب: الجماعة من الخيل.
2 القلب: جمع قليب: البئر القديم مذكر وقد يؤنث.
3 الدهس: المكان اللين السهل الذي ليس برمل ولا تراب.(2/191)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فحُدثت عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلمة، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: أَنَّ الحُباب بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الجَموح قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أرأيتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أنزلَكه اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرأيُ والحربُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: "بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمَّ نُغَوِّر مَا وَرَاءَهُ مِنْ القُلُب، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فنمْلؤه مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ أشرتَ بِالرَّأْيِ". فَنَهَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مَعَهُ مِنْ النَّاسِ فَسَارَ حَتَّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أمر بالقُلُب فغُوِّرت، وبنى حَوْضا على القُلُب الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فيه الآنية.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ حُدث: أَنَّ سَعْدَ بْنَ معاذ قال: يا نبي الله، ألا نبتني لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ، ونُعد عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى، جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَكَ حُبًّا مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ، ثُمَّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عريشٌ، فكان فيه ارتحال قريش ودعاء الرسول عليهم: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ، فَأَقْبَلَتْ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصوَّب مِنْ العَقَنْقَل -وَهُوَ الْكَثِيبُ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ إلَى الْوَادِي- قَالَ: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بخُيلائها وَفَخْرِهَا، تُحادُّك وتكذِّب رسولَك، اللَّهُمَّ فنصرَك الَّذِي وَعَدْتنِي، اللَّهُمَّ أحِنْهم1 الْغَدَاةَ".
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَقَدْ رَأَى عتبةُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ-: "إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدوا".
وَقَدْ كَانَ خُفاف بْنُ أَيْمَاءَ بْنِ رَحَضة الغِفاري، أَوْ أَبُوهُ أَيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، بَعَثَ إلَى قُرَيْشٍ، حِينَ مَرُّوا بِهِ، ابْنَا لَهُ بِجَزَائِرِهِ2 أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ: إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نُمِدَّكُمْ بِسِلَاحِ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا. قَالَ: فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ: أَنْ وصَلَتْك رَحِم، قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ فلعَمْري لَئِنْ كُنَّا إنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَمَا بِنَا مِنْ ضَعْفٍ عَنْهُمْ، وَلَئِنْ كُنَّا إنَّمَا نُقَاتِلُ اللَّهَ، كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ، فَمَا لِأَحَدِ بِاَللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ.
__________
1 أحنهم: أهلكهم.
2 الجزائر: الذبائح.(2/192)
فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ أَقْبَلَ نفرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى وَرَدُوا حوضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُمْ"، فَمَا شَرِبَ مِنْهُ رَجُلٌ يَوْمَئِذٍ إلَّا قُتل، إلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكيم بْنِ حِزَامٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقتل، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فحسن إسلامه. فكان إذا جهد فِي يَمِينِهِ، قَالَ: لَا وَاَلَّذِي نَجَّانِي مِنْ يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي: إسحاق بن يَسَارٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: لَمَّا اطْمَأَنَّ الْقَوْمُ، بَعَثُوا عُمَير بْنَ وَهْبٍ الجُمَحي فَقَالُوا: احْزُروا لَنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رَجُلٍ، يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتَّى أَنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ؟ قَالَ: فَضَرَبَ فِي الْوَادِي حَتَّى أَبْعَدَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلَكِنِّي قَدْ رَأَيْتُ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، البَلايا1 تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحُ2 يَثْرب تَحْمِلُ الموتَ النَّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلَّا سُيُوفُهُمْ، وَاَللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقتل رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى يَقتل رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خيرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَرُوا رَأْيَكُمْ.
فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى فِي النَّاسِ، فَأَتَى عُتبة بْنَ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، إنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، وَالْمُطَاعُ فِيهَا، هَلْ لَكَ إلَى أَنْ لَا تَزَالَ تُذكر فِيهَا بِخَيْرِ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنَّاسِ، وَتَحْمِلُ أمرَ حَلِيفِكَ عَمرو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: قَدْ فعلتُ، أَنْتَ عليَّ بِذَلِكَ، إنَّمَا هُوَ حَلِيفِي، فَعَلَيَّ عقلُه وَمَا أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية.
الحنظلية ونسبها: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالْحَنْظَلِيَّةُ أُمُّ أَبِي جَهْلٍ، وَهِيَ أَسَمَاءُ بِنْتُ مُخَرَّبة، أَحَدُ بَنِي نَهْشِل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ فَإِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ أَمْرَ النَّاسِ غَيْرُهُ، يَعْنِي أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَام. ثُمَّ قَامَ عُتبة بْنُ رَبِيعَةَ خَطِيبًا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تلْقَوْا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النظر إليه، قَتل ابنَ عمه وابنَ خَالِهِ، أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَارْجِعُوا وَخَلُّوا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوهُ فَذَاكَ الَّذِي أَرَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ألفاكم ولم تَعَرَّضوا منه ما تريدون.
__________
1 النوق التي تربط على قبر الأموات لا تعلف ولا تسقى حتى تموت كان يفعلها بعض العرب الذي يقر بالبعث إلا أنه يظن أنه يحشر عليها الميت وقت بعثه.
2 النواضح: الإبل التي يستقى الماء عليها.(2/193)
قَالَ حَكيم: فانطلقتُ حَتَّى جئتُ أَبَا جَهْلٍ، فَوَجَدْتهُ قَدْ نَثَل1 دِرْعًا لَهُ مِنْ جِرَابِهَا، فَهُوَ يَهْنِئها2 -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُهيئها- فقلتُ لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ إنَّ عُتْبَةَ أَرْسَلَنِي إلَيْكَ بِكَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي قَالَ، فَقَالَ: انْتَفَخَ وَاَللَّهِ سَحْرُه حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، كَلَّا وَاَللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وبينَ مُحَمَّدٍ، وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَأَى أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أكلةَ جَزُور، وَفِيهِمْ ابْنُهُ، فَقَدْ تخوَّفكم عَلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثَ إلى عامر بن الحَضْرمي، فقال: هذا يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ، فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَك، وَمَقْتَلَ أَخِيكَ.
فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الحَضْرمي فَاكْتَشَفَ ثُمَّ صَرَخَ: واعَمْراه. واعَمْراه، فحميت الحرب، وحَقِب3 الناس، واستوثقوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ. وَأُفْسِدَ عَلَى النَّاسِ الرأيُ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ عُتْبَةُ.
فَلَمَّا بَلَغَ عُتبة قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ "انْتَفَخَ والله سَحْرُه"، ال: سَيَعْلَمُ مُصَفِّرُ استِه4 مَنْ انْتَفَخَ سَحْرُه، أَنَا أَمْ هُوَ؟
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: السَّحْر: الرِّئَةُ وَمَا حَوْلَهَا مِمَّا يَعْلَقُ بِالْحُلْقُومِ مِنْ فَوْقِ السُّرَّةِ. وَمَا كَانَ تَحْتَ السُّرَّةِ، فَهُوَ القُصْب، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: رَأَيْتُ عَمرو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَه فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ.
ثُمَّ الْتَمَسَ عُتبة بَيْضةً ليُدخلها فِي رَأْسِهِ، فَمَا وَجَدَ فِي الْجَيْشِ بَيْضَةً تَسَعُهُ مِنْ عِظَمِ هَامَتِهِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ اعْتَجَرَ5 عَلَى رَأْسِهِ بُبرد لَهُ.
مَقْتَلُ الأسود بن عبد الأسد الْمَخْزُومِيِّ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ خَرَجَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ رَجُلًا شَرِسًا سيِّئ الخُلُق، فَقَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لأشربنَّ مِنْ حوضِهم، أَوْ لأهدِمَنَّه. أَوْ لأموتَنَّ دُونَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ، خَرَجَ إلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَأَطَنَّ6 قدمَه بِنِصْفِ سَاقِهِ، وَهُوَ دُونَ الحَوْض فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخَبُ رِجْلُهُ دَمًا نَحْوَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ حَبَا إلى الحَوْض حتى اقتحم فيه، يريد أن يبر بيمينه، وَأَتْبَعَهُ حمزةُ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ.
__________
1 نثل: أخرج.
2 يهنئها: يطليها بعكر الزيت.
3 حقب الناس: اشتدوا.
4 كناية عن الدعة فقد كان الإنسان البعيد عن الحرب يتطيب بالخلوق، وقد قصد المبالغة لإهانته بذكر استه وإنما هو تطييب البدن.
5 اعتجر: تعمم.
6 أطن: أطار.(2/194)
دُعَاءُ عُتْبَةَ إلَى الْمُبَارَزَةِ: قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ بعدُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبة بْنِ رَبِيعَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتبة، حَتَّى إذَا فَصل مِنْ الصَّفِّ دَعَا إلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ فِتية مِنْ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ: عَوْف، ومعُوّذ، ابْنَا الْحَارِثِ وَأُمُّهُمَا عَفْرَاءُ وَرَجُلٌ آخَرُ، يُقَالُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحةَ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالُوا: مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ، أخرجْ إلَيْنَا أكْفاءَنا مِنْ قَوْمِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُمْ يَا عُبيدة بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ"، فَلَمَّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ، قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالَ عُبيدة: عُبَيْدَةُ، وَقَالَ حَمْزَةُ: حَمْزَةُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: عَلِيٌّ؛ قَالُوا: نَعَمْ، أكْفاء كِرَامٌ، فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ، وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ، عُتبة بْنَ رَبِيعَةَ وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبة بْنَ رَبِيعَةَ وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ. فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ، كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ1، وكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتبة فذَفَّفا2 عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إلَى أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمر بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ عُتبة بْنَ ربيعة قال للفتية من الْأَنْصَارُ حِينَ انْتَسَبُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، إنَّمَا نُرِيدُ قَوْمَنَا.
الْتِقَاءُ الْفَرِيقَيْنِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ تَزَاحَفَ النَّاسُ وَدَنَا بعضُهم مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَحْمِلُوا حَتَّى يأمرَهم، وَقَالَ: إنْ اكْتَنَفَكُمْ الْقَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بالنَّبْل، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ، مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
فَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَمَا حَدَّثَنِي أَبُو جعفر محمد بن علي بن الحسين.
ضرب الرسول ابن غزية: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حَبَّان بْنُ وَاسِعِ بْنِ حَبَّان عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّل صفوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ3 يُعَدِّلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بسَواد بْنِ غَزِيَّة، حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ، سَوَّاد، مُثَقَّلَةٌ، وَسَوَادٌ فِي الْأَنْصَارِ غَيْرُ هَذَا، مُخَفَّفٌ وَهُوَ مُسْتَنْتل4 مِنْ الصَّفِّ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ مُسْتَنصلِ5 مِنْ الصَّفِّ فَطُعِنَ فِي بَطْنِهِ بالقدْح، وَقَالَ: "استوِ يَا سَوَّاد" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْجَعْتنِي وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، قَالَ: فأقدْني6 فَكَشَفَ رسولُ الله
__________
1 أثبته: جرحه جراحة بالغة.
2 ذففا عليه: أسرعا قتله.
3 قدح: سهم.
4 مستنتل: متقدم.
5 مستنصل: خارج.
6 أقدني: اقتص لي من نفسك.(2/195)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: "استقدْ"، قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ فقبَّل بَطْنَهُ: فَقَالَ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَواد؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يمسَّ جِلْدِي جلدَك. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بخير، وقاله له.
الرسول يناشد رَبَّهُ النَّصْرَ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ عدَّل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّفُوفَ وَرَجَعَ إلَى الْعَرِيشِ فَدَخَلَهُ، وَمَعَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاشِدُ ربَّه مَا وَعَدَهُ مِنْ النَّصْرِ، وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنْ تَهْلك هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبد"، وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بعضَ مُناشدتك رَبَّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ مُنْجِز لَكَ مَا وَعَدَكَ. وَقَدْ خَفَقَ1 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَفْقةً وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ، ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ: "أبشرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ نصرُ اللَّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخذٌ بِعَنَانِ فرس يقوده، على ثناياه النَّقْعُ".
أول شهيد من المسلمين: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ رُمِي مِهْجع، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِسَهْمِ فقُتل فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ رُمي حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقة، أَحَدُ بَنِي عَدِي بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ يَشْرَبُ مِنْ الحَوْض، بِسَهْمِ فَأَصَابَ نَحْرَهُ، فقُتل.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النَّاسِ فحرَّضهم، وَقَالَ: "وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يُقَاتِلُهُمْ اليومَ رجلٌ فيُقتل صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقبلًا غَيْرَ مُدْبر، إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ". فَقَالَ عُمَيْر بْنُ الحُمام أَخُو بَنِي سَلمة، وَفِي يَدِهِ تَمَرَاتٍ يَأْكُلُهُنَّ: بَخْ بَخْ2، أَفَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أدخلِ الْجَنَّةَ إلَّا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَذَفَ التَّمَرَاتِ مِنْ يَدِهِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَقَاتَلَ القومَ حَتَّى قُتل.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمر بْنِ قَتادة: أَنَّ عَوْفَ بْنَ الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُضْحك3 الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: "غَمْسه يَده فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا". فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَهَا، ثُمَّ أَخَذَ سيفَه فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتل.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْر العُذْري، حليف بني زُهرة، أنه حدثه: لَمَّا الْتَقَى الناسُ، وَدَنَا بعضُهم مِنْ بَعْضٍ، قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: اللَّهُمَّ أقطَعنا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرف، فأحِنْه4 الغَداةَ. فكان هو المستفتح5.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ الحَصْباء فَاسْتَقْبَلَ قُرَيْشًا بِهَا، ثُمَّ قَالَ: "شاهتِ الوجوهُ"، ثُمَّ نَفَحهم بِهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: "شُدُّوا" فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ، فقتَل اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَتل مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وأسَر مَنْ أَسَرَ من أشرافهم. فلما وضع
__________
1 خفق: أخذته سنة خفيفة من النوم.
2 كلمة تقال في حالة الإعجاب.
3 أي يرضيه غاية الرضا مع تبشير وإظهار كرامة.
4 أحنه، أهلكه.
5 المستفتح: المبتدئ لنفسه.(2/196)
القومُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قائمٌ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، متوشِّح السَّيْفِ، فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخَافُونَ عَلَيْهِ كَرَّة الْعَدُوِّ، وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا ذُكِرَ لِي- فِي وَجْهِ سَعْد بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النَّاسَ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاَللَّهِ لَكَأَنَّكَ يَا سعدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ الْقَوْمَ؟ " قَالَ: أَجَلْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ. فَكَانَ الِإثخان فِي الْقَتْلِ بِأَهْلِ الشِّرْكِ أحبَّ إلي من استبقاء الرجال.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ: "إنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أخرجوا كرهًا، ولا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا: فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يقتُله وَمَنْ لَقِيَ أَبَا البَخْتَري بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أسد فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا أُخْرِجَ مُسْتكرَهًا".
قَالَ: فقال أبو حُذيفة: أنقتل آباءَنا وأخواتنا وَعَشِيرَتَنَا. وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ؟ وَاَللَّهِ لَئِنْ لقيتُه لألحِمنه السَّيْفَ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: لَأُلْجِمَنَّهُ السَّيْفَ- قَالَ: فَبَلَغَتْ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ: "يَا أَبَا حَفْصٍ -قَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ إنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّاني فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي حَفْص- أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ؟ " فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عنقهُ بِالسَّيْفِ، فَوَاَللَّهِ لَقَدْ نَافَقَ فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ: مَا أَنَا بِآمِنٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قلتُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا إلَّا أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّي الشَّهَادَةُ. فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنَّمَا نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلِ أَبِي البَخْتَري؛ لِأَنَّهُ كَانَ أكفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ لَا يُؤْذِيهِ، وَلَا يَبْلُغُهُ عَنْهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَكَانَ مِمَّنْ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبَتْ قُريش عَلَى بَنِي هاشم وبني المطلب. فلقيه المجَذَّر بن زياد البَلَوي، حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْف، فَقَالَ المجَذَّر لِأَبِي البَخْتري: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نَهَانَا عَنْ قَتْلِكَ -وَمَعَ أَبِي البَختري زَمِيلٌ1 لَهُ، قَدْ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ جُنادة بْنُ مُلَيحة بِنْتِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، وَجُنَادَةُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْث وَاسْمُ أَبِي البَخْتري: الْعَاصِ-قَالَ: وَزَمِيلِي؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجَذَّرُ: لَا وَاَللَّهِ، مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زميلك
__________
1 الزميل: من يزامله فيركب معه على بعير واحد.(2/197)
198#
مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِكَ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، إذَنْ لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا، لَا تَتَحَدَّثُ عَنِّي نساءُ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ. فَقَالَ أَبُو البَخْتري حِينَ نَازَلَهُ الْمُجَذَّرُ وَأَبَى إلَّا الْقِتَالَ، يَرْتَجِزُ:
لَنْ يُسْلِمَ ابنُ حُرةٍ زميلَهْ ... حَتَّى يموتَ أَوْ يَرى سبيلَهْ
فاقتتلا، فقتله المجذّر بن زياد. وقال المجذر بن زياد فِي قَتْلِهِ أَبَا البَخْتري:
إمَّا جَهِلْتَ أَوْ نسيتَ نَسَبِي ... فأثبِت النسبةَ أَنِّي مَنْ بَلِي
الطَّاعِنِينَ برماحِ اليَزني ... وَالضَّارِبِينَ الكبشَ حَتَّى يَنْحَنِيَ
بشِّر بيُتمِ مَنْ أَبُوهُ البَخْتري ... أَوْ بَشِّرن بمثلِها من بَني
أَنَا الَّذِي يُقال أَصْلِي مَنْ بَلي ... أطعنُ بالصَّعْدةِ حَتَّى تَنْثَني1
وأعبِطِ القِرْنَ بعَضْبٍ مَشْرَفي ... أرْزِمُ للموتِ كإرزامِ المَرِي2
فَلَا تَرَى مجذَّرًا يَفْرِي فَرِي3
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: "المَري" عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ. والمَري: النَّاقَةُ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ لَبَنُهَا عَلَى عُسر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ المجذَّر أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جهدتُ عَلَيْهِ أَنْ يَستأسر فَآتِيكَ بِهِ، فَأَبَى إلَّا أَنْ يُقاتلني، فقاتلتُهُ فقتلتُه.
قَالَ ابْنَ هِشَامٌ: أَبُو البَخْتري: الْعَاصِ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ.
مَقْتَلُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ ابن إسحاق: وحدثنيه أيضًا عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو، فتسمَّيت، حِينَ أسلمتُ، عبدَ الرَّحْمَنِ، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَكَانَ يَلْقَانِي إذْ نَحْنُ بِمَكَّةَ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، أَرَغِبْتَ عَنْ اسْمٍ سماكَه أبواك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لاأعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك
__________
1 الصعدة في الأصل: عصا الرمح، وقد أطلق هنا على الرمح صعدة.
2 أعبط: أقتل، والعضب: السيف القاطع، وأرزم: أحن.
3 فرى: عمل عملا أتى فيه بأمر عجيب.(2/198)
بِهِ، أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُجِيبُنِي بِاسْمِكَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَدْعُوكَ بِمَا لَا أَعْرِفُ، قال: فكان إذا دعاين: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، لَمْ أُجِبْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، اجعلْ مَا شِئْتَ، قَالَ: فَأَنْتَ عَبْدُ الْإِلَهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكُنْتُ إذَا مَرَرْتُ بِهِ قَالَ: يَا عَبْدَ الِإله فَأُجِيبُهُ، فَأَتَحَدَّثُ مَعَهُ حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مررتُ بِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ، عَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ، آخُذُ بِيَدِهِ وَمَعِي أَدْرَاعٌ قَدْ اسْتَلَبْتُهَا، فَأَنَا أَحْمِلُهَا فَلَمَّا رَآنِي قَالَ لِي: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الِإله؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ لَكَ فِيَّ، فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الْأَدْرَاعِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ، هَا اللَّهِ ذَا1. قَالَ: فطرحتُ الْأَدْرَاعَ مِنْ يَدِي، وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رأيتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللَّبَنِ؟ قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ أَمْشِي بِهِمَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُرِيدُ بِاللَّبَنِ، أَنَّ مَنْ أَسَرَنِي افْتَدَيْتُ مِنْهُ بِإِبِلِ كَثِيرَةِ اللَّبَنِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْن، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: قَالَ لِي أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ، آخِذٌ بِأَيْدِيهِمَا: يَا عَبْدَ الِإله، مَن الرَّجُلُ مِنْكُمْ المعلَّم بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ ذَاكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَقُودُهُمَا إذْ رَآهُ بِلَالٌ مِعَى، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى تَرْكِ الِإسلام، فيُخرجه إلَى رَمْضَاءَ مَكَّةَ إذَا حَمَيْتُ، فيُضجعه عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ يَأْمُرُ بالصَّخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ بِلَالٌ: أحَدٌ أَحَدٌ. قَالَ: فَلَمَّا رَآهُ، قَالَ رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نجوتُ إنْ نَجَا قَالَ: قُلْتُ: أَيْ بِلَالٌ، أَبِأَسِيرَيَّ قَالَ: لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا. قَالَ: قلت أتسمع يابن السَّوْدَاءِ، قَالَ: لَا نجوتُ إنْ نَجَا. قَالَ: ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ. يَا أنصارَ اللَّهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أميةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا. قَالَ: فَأَحَاطُوا بِنَا حَتَّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ المُسْكة2 وَأَنَا أذُبُّ عَنْهُ. قَالَ: فَأَخْلَفَ3 رجلٌ السيفَ، فَضَرَبَ رِجْل ابْنِهِ فَوَقَعَ، وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سمعتُ مثلَها قَطُّ. قَالَ: فقلتْ: انجُ بِنَفْسِكَ وَلَا نجاءَ بِكَ فَوَاَللَّهِ مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا. قَالَ: فَهَبِرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا، قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا، ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي وفَجَعني بأسيري.
الملائكة تشهد وَقْعَةَ بَدْرٍ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ حُدث عَنْ
__________
1 ها: حرف تنبيه: وذا: اسم إشارة يشير به إلى نفسه.
2 المسكة: الحلقة.
3 أحلف: سل.(2/199)
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفار، قَالَ: أقبلتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي حَتَّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ يُشرف بِنَا عَلَى بَدْرٍ، وَنَحْنُ مُشركان، نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّبْرة1، فَنَنْتَهِبُ مَعَ مَنْ يَنْتَهِبُ. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ فِي الْجَبَلِ إذْ دَنَتْ مِنَّا سَحَابَةٌ، فَسَمِعْنَا فِيهَا حَمْحَمة الْخَيْلِ، فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أقدْم حَيْزومُ2 فَأَمَّا ابْنُ عَمِّي فَانْكَشَفَ قناعُ قَلْبِهِ، فَمَاتَ مكانَه، وَأَمَّا أَنَا فكِدْت أهلِك، ثُمَّ تَمَاسَكْتُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ، عَنْ أَبِي أسَيد مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ، بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بصرُه: لَوْ كنتُ الْيَوْمَ بِبَدْرِ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمْ الشِّعْب الَّذِي خرجتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ فِيهِ وَلَا أَتَمَارَى.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيِّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ: إنِّي لَأَتَّبِعُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَضْرِبَهُ، إذْ وَقَعَ رأسُه قَبْلَ أَنْ يصلَ إلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مِقْسم، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ سِيما الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عمائمَ بِيضًا قَدْ أَرْسَلُوهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ حُنين عَمَائِمَ حُمْرًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بعضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ وَكَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عمائم بيضًا وقد أَرْخَوْهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ، إلَّا جِبْرِيلُ فَإِنَّهُ كَانَتْ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مِقْسَم، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَلَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى بَدْرٍ مِنْ الْأَيَّامِ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَيَّامِ عَددًا ومَددًا لَا يَضْرِبُونَ.
مَقْتَلُ أَبِي جَهْلٍ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَئِذٍ يَرْتَجِزُ، وَهُوَ يُقَاتِلُ وَيَقُولُ:
مَا تَنْقِم الحربُ العَوانُ مِنِّي ... بازلُ عامَيْن حديث سِني3
لمثلِ هذا ولدتني أمي
__________
1 الدبرة: الدائرة.
2 أقدم: كلمة تزجر بها الخيل وحيزوم هو فرس جبريل عليه السلام.
3 الحرب العوان جمع عون: الحرب الشديدة التي قوتل فيها مرة بعد أخرى، والبازل من الإبل الذي خرج سنه فهو في ذلك يصل لذروة مرحلة الشباب.(2/200)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: أحَدٌ أحَدٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَدوه، أَمَرَ بِأَبِي جَهْلٍ أَنْ يُلْتمس فِي الْقَتْلَى.
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ، كَمَا حَدَّثَنِي ثَوْر بْنُ يَزِيدَ عَنْ عِكْرمة، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَيْضًا قد حدثني ذلك قالا: قال معاذ بن عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، أَخُو بَنِي سَلمة: سَمِعْتُ الْقَوْمَ وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ الحَرَجة -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الحَرَجة: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ سَأَلَ أَعْرَابِيًّا عَنْ الحَرَجة؟ فَقَالَ: هِيَ شَجَرَةٌ مِنْ الْأَشْجَارِ لَا يُوصَلُ إلَيْهَا، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الحَكم لَا يُخلص إلَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فصمَدْتُ نحوَه، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أطنَّت قدمَه1 بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَوَاَللَّهِ مَا شَبَّهْتهَا حِينَ طَاحَتْ إلَّا بِالنَّوَاةِ تُطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضخة النَّوَى حِينَ يُضرب بِهَا2. قَالَ: وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكرمة عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي، فَتَعَلَّقَتْ بجلْدة مِنْ جَنْبي، وَأَجْهَضَنِي3 القتالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ.
ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ عَقير: مُعَوّذ بْنُ عَفْرَاءَ، فَضَرَبه حَتَّى أَثْبَتَهُ، فَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ. وَقَاتَلَ مُعَوذ حَتَّى قُتل، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلتمس فِي الْقَتْلَى، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا بَلَغَنِي-: "اُنْظُرُوا -إنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي الْقَتْلَى-إلَى أَثَرِ جُرح فِي رُكْبَتِهِ؛ فَإِنِّي ازْدَحَمْتُ يوماَ أَنَا وَهُوَ عَلَى مأدُبة لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعان، وَنَحْنُ غُلَامَانِ، وَكُنْتُ أشفَّ مِنْهُ بيَسير، فدفعتُهُ فَوَقَعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَجُحِشَ4 فِي إحْدَاهُمَا جَحْشًا لَمْ يَزَلْ أَثَرُهُ بِهِ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَق فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنقه، قال: وقد كان ضبَث بن مَرَّةً بِمَكَّةَ، فَآذَانِي وَلَكَزَنِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: هل
__________
1 أطنت قدمه: أطارتها.
2 مرضخة النوى: التي يدق بها النوى.
3 أجهضني: غلبني.
4 جحش: خدش.(2/201)
أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عدوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي أعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ1، أخْبرني لِمَنْ الدَّائِرَةُ اليومُ؟ قَالَ: قُلْتُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ضَبَثَ: قَبَضَ عَلَيْهِ ولَزِمه. قَالَ ضَابِئُ بْنُ الْحَارِثِ البُرْجمي:
فَأَصْبَحْتُ مِمَّا كَانَ بَيْني وبينَكم ... مِنْ الودِّ مثلَ الضابثِ الماءَ باليدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أعَارٌ عَلَى رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَخْبِرْنِي لِمَنْ الدَّائِرَةُ الْيَوْمَ؟
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: قَالَ لِي: لَقَدْ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعي الْغَنَمِ قال: ثم احتززت رأسَه ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ؟ قَالَ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ -قَالَ: وَكَانَتْ يَمِينَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قلتُ نَعَمْ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ، ثُمَّ أَلْقَيْتُ رأسَه بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمَرَّ بِهِ: إنِّي أَرَاكَ كَأَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا، أَرَاكَ تَظُنُّ أَنِّي قَتَلْتُ أَبَاكَ، إنِّي لَوْ قَتَلْتُهُ لَمْ أَعْتَذِرْ إلَيْكَ مِنْ قَتْلِهِ وَلَكِنِّي قَتَلْتُ خَالِي الْعَاصِ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَأَمَّا أَبُوكَ فَإِنِّي مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ يَبْحَثُ بَحْثَ الثَّوْرِ بِرَوْقِهِ2 فَحُدْتُ عَنْهُ، وَقَصَدَ لَهُ ابْنُ عمه على فقتله.
حديث عُكاشة بن مِحْصَن: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَاتَلَ عُكَّاشة بْنُ مِحْصَن بْنِ حُرْثان الْأَسَدِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفِهِ حَتَّى انْقَطَعَ فِي يَدِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ جِذْلًا3 مِنْ حَطب، فَقَالَ: "قاتلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشة"، فَلَمَّا أَخَذَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَزَّهُ، فَعَادَ سَيْفًا فِي يَدِهِ طَوِيلَ الْقَامَةِ، شَدِيدَ المتْن، أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ، فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ يُسمى: العَوْن. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهد بِهِ الْمَشَاهِدَ مَعَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قُتل فِي الرِّدَّة، وَهُوَ عِنْدَهُ، قَتَلَهُ طُليحة بْنُ خُوَيلد الْأَسَدِيُّ، فَقَالَ طُليحة فِي ذَلِكَ:
فَمَا ظَنُّكُمْ بالقومِ إذْ تَقْتُلُونَهُمْ ... أَلَيْسُوا وَإِنْ لَمْ يُسْلموا برجالِ
__________
1 أي ليس على عار فلن أبعد أن أكون رجلا قتله قومه.
2 الروق: القرن.
3 الجذل: أصل الشجرة.(2/202)
فَإِنْ تَكُ أذاودٌ أصِبْنَ ونِسْوة ... فَلَنْ تَذْهَبُوا فِرْغًا بقتلِ حِبال1
نصبْت لَهُمْ صدرَ الحِمالةِ ... إنَّهَا مُعَاوِدَةٌ قِيلَ الكُماة نَزَالِ2
فَيَوْمًا تَرَاهَا فِي الجِلالِ مَصُونةً ... وَيَوْمًا تَرَاهَا غيرَ ذاتِ جِلالِ3
عشيَّةَ غادرتُ ابنَ أقرمَ ثَاوِيًا ... وعُكَّاشة الغَنْمِي عندَ حجالِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حِبال: ابْنُ طُلَيحة4 بْنِ خُوَيلد. وَابْنُ أقْرَم: ثَابِتُ بْنُ أقْرم الْأَنْصَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وعُكَّاشة بْنُ مُحْصَنٍ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: "إنَّكَ مِنْهُمْ -أَوْ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ-"، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشة وَبَرَدَتْ الدعوةُ" 5.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا بَلَغَنَا عَنْ أَهْلِهِ: "مِنَّا خيرُ فَارِسٍ فِي الْعَرَبِ"، قَالُوا: وَمَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "عُكَّاشة بْنُ مِحْصَن"، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الأزْور الْأَسَدِيُّ: ذَاكَ رَجُلٌ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "لَيْسَ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُ منا للحِلْف".
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَنَادَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ابنَه عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ أَيْنَ مَالِي يَا خبيثُ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:
لَمْ يَبْقَ غيرُ شِكَّةٍ ويَعْبوبْ ... وصارمٌ يَقْتلُ ضُلاَّلَ الشِّيبْ6
فِيمَا ذُكِرَ لِي عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدي.
طَرْحُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقَلِيبِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بن رومان عن عُروة بن
__________
1 الأذواد: جمع ذود، ما بين الثلاثة إلى العشرة من الإبل. والفرغ: أن يطل الدم.
2 الحمالة: اسم فرس. ونزال: اسم فعل أمر بمعنى أنزل.
3 الجلال ما يلبسه الفرس لصيانته.
4 هو ابن أخيه لا ابنه وهو: حبال بن مسلمة بن خويلد.
5 بردت الدعوة: ثبتت.
6 الشكة: السلاح. واليعبوب: الفرس الكثير الجري.(2/203)
الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَتْلَى أَنْ يُطرحوا فِي القَليب طُرحوا فِيهِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعه فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُحَرِّكُوهُ، فَتَزَايَلَ لَحْمُهُ، فَأَقَرُّوهُ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنْ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ. فَلَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ، وَقَفَ عَلَيْهِمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يأهلَ القَليب. هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا". قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى؟ فَقَالَ لَهُمْ: "لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وعدَهم ربُّهم حَقًّا".
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ عَلِمُوا".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حُمَيد الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من جَوف الليل وهو يقول: "يأهلَ القَليب، يَا عتبةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبة بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، فعدَّد مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي القَليب: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وعدَ ربُّكم حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وجدتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا؟ " فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جيفُوا؟ قَالَ: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أنَ يُجِيبُونِي".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بعضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال يوم هذه المقالة: "يأهل القَليب، بِئْسَ عشيرةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ"، ثُمَّ قَالَ: "هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وعدَكم ربُّكم حَقًّا؟ لِلْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَ".
شِعْرُ حَسَّانَ في ذلك: قال ابن إسحاق: وقال حسانُ بن ثابت:
عرفتُ ديارَ زَيْنبَ بالكَثيبِ ... كخَطِّ الوَحْي فِي الورقِ القَشيبِ
تداولُها الرياحُ وَكُلُّ جَوْنٍ ... مِنْ الوَسْمِي مُنْهَمِرٍ سكوبِ1
فَأَمْسَى رَسْمُهَا خَلَقًا وأمستْ ... يَبَابًا بعدَ ساكِنِها الحبيبِ
فدعْ عَنْكَ التذكُّرَ كلَّ يومٍ ... ورُدَّ حرارةِ الصدرِ الكئيبِ
__________
1 الوسمي: مطر الخريف.(2/204)
وخَبِّر بِاَلَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ ... بصِدْقٍ غيرِ إخبارِ الكذوبِ
بِمَا صَنَعَ المليكُ غَداةَ بَدْرٍ ... لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّصيبِ
غداةَ كَأَنَّ جَمَعَهُئم حِراءٌ ... بدتْ أركانُة جُنْح الغروبِ
فلاقَيناهُمُ مِنَّا بجَمْع ... كأسْد الغابِ مردانٍ وشيبِ
أمامَ مُحَمَّدٍ قَدْ وَازَرُوهُ ... عَلَى الأعداءِ فِي لَفْحِ الحروبِ
بِأَيْدِيهِمْ صَوارمُ مُرهَفات ... وكلُّ مجرَّب خَاظِي الكُعوبِ1
بَنُو الأوسِ الغَطارفُ وازرَتْها ... بَنُو النجارِ فِي الدينِ الصليبِ2
فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا ... وعُتبةَ قَدْ تَرَكْنَا بالجَبوبِ3
وشَيْبةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رِجَالٍ ... ذَوِي حسبٍ إذَا نُسبوا حسيبِ
يُنَادِيهِمْ رسولُ اللَّهِ لَمَّا ... قَذَفْنَاهُمْ كباكِبَ فِي القَليبِ4
أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ حَقُّا ... وأمرُ اللَّهِ يأخدُ بالقَلوبِ؟
فَمَا نَطَقُوا، وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا:
صدقتَ وكنتَ ذَا رأيٍ مُصيبِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلقوا فِي القَليب، أُخِذَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فسُحب إلَى الْقَلِيبِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا بَلَغَنِي- فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتبة، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَقَالَ: "يَا أَبَا حُذَيْفَةَ، لَعَلَّكَ قَدْ دَخَلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ؟ " أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شككتُ فِي أَبِي وَلَا فِي مصرعه، ولكني كُنْتُ أَعْرِفُ مَنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إلَى الِإسلام، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ، وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ، بَعْدَ الَّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ، أَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ خيرًا.
الْفِتْيَةِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وكان الفتية
__________
1 الخاظي: المكتنز.
2 الغطارف: السادة. والصليب: القوي.
3 الجبوب: وجه الأرض.
4 الكباكب: الجماعات.(2/205)
الَّذِينَ قُتلوا بِبَدْرِ، فَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ، فِيمَا ذُكِرَ لَنَا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97] فتية مُسَمَّين: مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ: الْحَارِثُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عبد المطلب بن أَسَدٍ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو قَيْسِ بْنُ الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بْنِ مَخْزُومٍ، وَأَبُو قَيْس بْنُ الْوَلِيدِ بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بْنِ مَخْزُومٍ.
وَمِنْ بَنِي جمَح: عَلِيُّ بْنُ أمية بن خلف بن وهب بن حُذافة بْنِ جُمَح.
وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: الْعَاصِ بْنُ مُنَبه بن الحجاج بن عامر بن حُذيفة بن سعد بن سَهْمٍ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَسْلَمُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَعَشَائِرُهُمْ بِمَكَّةَ وَفَتَنُوهُمْ فَافْتَتَنُوا، ثُمَّ سَارُوا مَعَ قَوْمِهِمْ إلَى بَدْرٍ فَأُصِيبُوا به جميعًا.
فيء بدر: ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِمَا فِي الْعَسْكَرِ، مِمَّا جَمع النَّاسُ، فجُمع، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، فَقَالَ مَنْ جَمَعَهُ: هُوَ لَنَا. وَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ وَيَطْلُبُونَهُ: وَاَللَّهِ لَوْلَا نَحْنُ مَا أَصَبْتُمُوهُ، لَنَحْنُ شَغلْنا عَنْكُمْ الْقَوْمُ حَتَّى أَصَبْتُمْ مَا أَصَبْتُمْ، وَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخافةَ أَنْ يُخالف إلَيْهِ الْعَدُوُّ: وَاَللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا، وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ الْعَدُوَّ إن مَنَحَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَكْتَافَهُ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْمَتَاعَ حِينَ لَمْ يَكُنْ دونَه مَنْ يَمْنَعُهُ، وَلَكِنَّا خِفنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَّة الْعَدُوِّ، فَقُمْنَا دونَه فَمَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ من أصحابنا عن سليمان بن مُوسَى عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلان فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- قَالَ: سَأَلْتُ عُبادة بْنَ الصَّامِتِ عَنْ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ: فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ، فَقَسَمَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاء. يَقُولُ: عَلَى السَّوَاءِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي بعضُ بَنِي سَاعِدَةَ عَنْ أَبِي أسَيد السَّاعِدِيِّ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: أصبتُ سيف بني عائط الْمَخْزُومِيِّينَ الَّذِي يسمَّى المَرْزُبان يَوْمَ(2/206)
بَدْرٍ، فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ النَّفْل، أقبلتُ حَتَّى أَلْقَيْتُهُ فِي النَّفَلِ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا سُئله، فَعَرَفَهُ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ، فَسَأَلَهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأعطاه إياه.
بُشرى الفتح: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَ الْفَتْحِ عبدَ الله بن رَواحة بَشِيرًا إلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ، بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثَ زَيد بْنَ حَارِثَةَ إلَى أَهْلِ السَّافلة. قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَأَتَانَا الْخَبَرُ -حِينَ سَوَّيْنا الترابَ عَلَى رُقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلفني عَلَيْهَا مَعَ عُثْمَانَ- أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ قَدْ قَدِمَ. قَالَ: فَجِئْتُهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْمُصَلَّى قَدْ غَشِيَهُ النَّاسُ، وَهُوَ يَقُولُ: قُتل عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وشيْبة بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وزَمْعَة بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو البَخْتري الْعَاصِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، ونُبيه ومُنبه ابْنَا الْحَجَّاجِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أبتِ، أحقٌّ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاَللَّهِ يَا بني.
الرجوع إلى المدينة: ثُمَّ أَقْبَلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ الْأُسَارَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِمْ عُقبة بْنُ أَبِي مُعَيْط، والنَّضر بْنُ الْحَارِثِ، وَاحْتَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ النَّفَلَ الَّذِي أُصِيبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ عَلَى النَّفَلِ عبدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْف بْنِ مَبْذُولِ بْنِ غَنْم بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ فَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: إنَّهُ عَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْباء:
أقِمْ لَهَا صدورَها يَا بَسْبَسُ ... لَيْسَ بِذِي الطَّلْحِ لَهَا مُعَرَّسُ
وَلَا بصحراءِ غُمَيْر مَحْبَس ... إنَّ مَطَايَا القومِ لَا تُخَيَّس1
فحمْلُها عَلَى الطَّرِيقِ أكْيَس ... قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وفرَّ الأخْنَسُ
ثُمَّ أَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذَا خَرَجَ مِنْ مَضيق الصَّفْرَاءِ نَزَلَ عَلَى كَثِيبٍ بَيْنَ الْمَضِيقِ وَبَيْنَ النَّازِيَةِ -يُقَالُ لَهُ: سَيْرٌ- إلَى سَرْحة بِهِ فَقَسَمَ هُنَالِكَ النَّفَلَ الَّذِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السَّوَاءِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِّئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ سَلَمة بْنُ سَلَامَةَ -كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمر بْنِ قَتَادَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومان-: مَا الَّذِي تهنئوننا به؟
__________
1 لا تخيس: لا تحبس.(2/208)
قَالَ: تَقُولُ سَوْدة: وَاَللَّهِ إنِّي لَعِنْدَهُمْ إذْ أُتِينَا، فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى، قَدْ أُتِيَ بِهِمْ. قَالَتْ: فرجعتُ إلَى بَيْتِي، ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ سُهيل بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْحُجْرَةِ، مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنقه بِحَبْلٍ قَالَتْ: فَلَا وَاَللَّهِ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ كَذَلِكَ أَنْ قُلْتُ: أَيْ أَبَا يَزِيدَ: أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، أَلَا مُتم كِرَامًا، فَوَاَللَّهِ مَا أَنْبَهَنِي إلَّا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيْتِ: "يَا سَوْدة، أَعَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ تُحرّضين؟! " قَالَتْ: قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ أن قلتُ ما قلتُ.
الإيصاء بالأسارى: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نُبيه بْنُ وَهْبٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرَّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: "اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا". قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ بْنُ عُمَير بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو مُصْعَب بْنِ عُمير لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي الْأُسَارَى.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرَّ بِي أَخِي مُصْعب بْنُ عُمير وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي، فَقَالَ: شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ، فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ، لَعَلَّهَا تَفْدِيهِ مِنْكَ، قَال وَكُنْتُ فِي رَهط مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إذَا قدَّموا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالْخُبْزِ، وَأَكَلُوا التَّمْرَ، لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ بِنَا، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إلَّا نَفَحَنِي بِهَا. قَالَ: فَأَسْتَحْيِيَ فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ، فَيَرُدُّهَا عليَّ ما يَمَسُّهَا.
بُلُوغُ مصاب قريش في رجالها إلَى مَكَّةَ: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرِ بَعْدً النَّضر بْنِ الْحَارِثِ، فَلَمَّا قَالَ أَخُوهُ مُصْعب بْنُ عُمَير لِأَبِي اليَسَر، وَهُوَ الَّذِي أَسَرَهُ، مَا قَالَ، قَالَ لَهُ أَبُو عَزيز: يَا أَخِي، هَذِهِ وَصاتُك بِي، فَقَالَ لَهُ مُصْعَب: إنَّهُ أَخِي دونَك. فسألتْ أُمُّهُ عَنْ أَغْلَى مَا فُدِي بِهِ قُرشي، فَقِيلَ لَهَا: أَرْبَعَةُ آلَافِ درهم، فبعثته بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَفَدَتْهُ بِهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ بِمُصَابِ قُرَيْشٍ الحَيْسُمان بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الخُزاعي، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: قُتل عُتبة بْنُ رَبِيعَةَ، وشَيْبة بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلف، وزَمْعة بْنُ الْأَسْوَدِ، ونُبيه ومُنبه ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأَبُو البَخْتري بْنُ هِشَامٍ، فَلَمَّا جَعَلَ يُعَدِّدُ أشرافَ قُرَيْشٍ قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الحِجْر: وَاَللَّهِ إن يَعْقل هذا فاسئلوه عني فقالوا: مَا فَعَلَ صَفْوان بْنُ أُمَيَّةَ؟ قَالَ: هَا هُوَ ذَاكَ جَالِسًا فِي الحِجْر، وَقَدْ وَاَللَّهِ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتلا.(2/209)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حُسين بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبيد اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرمة مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كنتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وكان الِإسلام قد أدخلنا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ وأسلمتُ وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ قومَه وَيَكْرَهُ خلافَهم وَكَانَ يَكْتُمُ إسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَدْ تخلَّف عَنْ بَدْرٍ، فَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصِي بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا صَنَعُوا، لَمْ يَتَخَلَّفْ رَجُلٌ إلَّا بَعَثَ مَكَانَهُ رَجُلًا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ عَنْ مُصَابِ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا قُوَّةً وعِزًّا. قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكُنْتُ أَعْمَلُ الْأَقْدَاحَ، أَنْحَتُهَا فِي حُجرة زَمْزَمَ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَجَالِسٌ فِيهَا أنْحَتُ أَقْدَاحِي، وَعِنْدِي أمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةٌ، وَقَدْ سَرَّنا مَا جَاءَنَا مِنْ الْخَبَرِ، إذْ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بِشَر. حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُب الْحُجْرَةِ1، فَكَانَ ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِي. فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ إذْ قال الناس: هذا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ- قَدْ قَدِمَ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هلمَّ إليَّ، فَعِنْدَكَ لَعَمْرِي الْخَبَرُ، قَالَ: فَجَلَسَ إلَيْهِ والناس قيام عليه، فقال: يابن أَخِي، أَخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ لَقِينَا القومَ فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا يَقُودُونَنَا كَيْفَ شَاءُوا، وَيَأْسِرُونَنَا كَيْفَ شَاءُوا، وَاَيْمُ اللَّهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمت النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا، عَلَى خَيْل بُلْق، بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاَللَّهِ مَا تُليق شَيْئًا2، وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْتُ طُنُب الْحُجْرَةِ بِيَدَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ وَاَللَّهِ الْمَلَائِكَةُ قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فضرب بها وجهي ضربةً شديدة. قال: وثاورْتُه3 فَاحْتَمَلَنِي فَضَرَبَ بِي الْأَرْضَ، ثُمَّ بَرَكَ عليَّ يَضْرِبُنِي، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا. فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إلَى عَمُودٍ مِنْ عُمد الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ فلَعت4 فِي رَأْسِهِ شَجَّة منْكَرة، وَقَالَتْ: اسْتَضْعَفَتْهُ أَنْ غَابَ عَنْهُ سيدُه؟ فَقَامَ مُولِّيا ذَلِيلًا، فَوَاَللَّهِ مَا عَاشَ إلَّا سبعَ ليالٍ حَتَّى رَمَاهُ الله بالعَدَسة5 فقتلته.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّاد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّاد، قَالَ: نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: لَا تَفْعَلُوا فيبلُغَ مُحَمَّدًا وأصحابَه، فيشمَتوا بكم ولا تبعثوا في
__________
1 طنب الحجرة: طرفها.
2 لا تبقى شيئا.
3 ثاورته: وثبت إليه.
4 لعت: شقت.
5 العدسة: بثرة خطرة تخرج في الجسم تشبه الطاعون تقتل صاحبها سريعا.(2/210)
أَسْرَاكُمْ حَتَّى تسْتأنوا بِهِمْ لَا يَأْرَبُ1 عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ. قَالَ وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ المطَّلب قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ، زَمعة بْنُ الْأَسْوَدِ، وعَقيل بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمعة، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنْ اللَّيْلِ، فَقَالَ لِغُلَامِ لَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ: اُنْظُرْ هَلْ أحِلَّ النَّحْب، هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا؟ لَعَلِّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ، يَعْنِي زَمَعَةَ، فَإِنَّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ إلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ: إنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلَّتْهُ. قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الْأَسْوَدُ:
أَتَبْكِي أَنْ يَضلَّ لَهَا بعيرٌ ... ويمنعُها مِنْ النومِ السُّهودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْر وَلَكِنْ ... عَلَى بدرٍ تقاصرتِ الجُدودُ
عَلَى بدرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصيْصٍ ... ومخزومٍ ورَهْط أَبِي الوليدِ
وبَكِّي إنْ بكيتِ عَلَى عَقيل ... وَبَكِّي حَارِثًا أسَدَ الأسودِ
وبكيِّهم وَلَا تَسَمى جَمِيعًا ... وَمَا لِأَبِي حَكيمةَ مِنْ نَدِيدِ2
أَلَا قَدْ سَادَ بعدَهُمُ رِجَالٌ ... وَلَوْلَا يومُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا إقْوَاءٌ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ مِنْ أَشْعَارِهِمْ، وَهِيَ عِنْدَنَا إكْفَاءٌ3. وَقَدْ أَسْقَطْنَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْ هَذَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فِي الْأُسَارَى أَبُو وَداعة بْنُ ضُبَيْرة السَّهْمي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ لَهُ بِمَكَّةَ ابنًا كَيِّسًا تاجرًا ذا مال، وكأنكم به قَدْ جَاءَكُمْ فِي طَلَبِ فِدَاءِ أَبِيهِ"، فَلَمَّا قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم لَا يَأْرَبُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَداعة -وَهُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي-: صَدَقْتُمْ، لَا تَعْجَلُوا، وانسلَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَخَذَ أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَانْطَلَقَ بِهِ.
فداء سُهَيل بن عمرو: قَالَ، ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى، فَقَدِمَ مِكْرَز بْنُ حَفْصِ بْنِ الأخْيف فِي فَدَاءِ سُهَيل بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُم، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عوف، فقال:
__________
1 أي تأخروا في فدء أسراكم حتى لا يشتد عليكم في الفداء.
2 تسمى: تسامى. والنديد: الشبيه.
3 الإقواء والإكفاء: عيوب في قافية الشعر.(2/211)
أسرتُ سُهيْلا فَلَا أَبْتَغِي ... أَسِيرًا بِهِ مِنْ جميعِ الأممْ
وخِنْدف تَعْلَمُ أنَّ الْفَتَى ... فَتَاهَا سُهَيل إذَا يُظَّلَمْ
ضربتُ بِذِي الشَّفْر حَتَّى انْثَنَى ... وأكرهتُ نَفْسِي عَلَى ذِي العَلَمْ
وَكَانَ سُهَيل رَجُلًا أَعْلَمَ مِنْ شَفَتِهِ السُّفْلَى1.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذَا الشِّعْرَ لِمَالِكِ بْنِ الدُّخْشُم.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَي، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَنْزِعْ ثنيتي سَهل بْنِ عَمْرٍو، ويَدْلَع2 لِسَانَهُ، فَلَا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا: قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أمثِّل بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "إنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذمُّه".
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَ ذَلِكَ الْمَقَامِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا قَاوَلَهُمْ فِيهِ مِكْرَز وَانْتَهَى إلَى رِضَاهُمْ، قَالُوا: هَاتِ الَّذِي لَنَا، قَالَ: اجْعَلُوا رِجْلِي مَكَانَ رِجْلِهِ، وَخَلُّوا سَبِيلَهُ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْكُمْ بِفِدَائِهِ، فخَلَّوْا سَبِيلَ سُهَيل، وَحَبَسُوا مِكْرزًا مَكَانَهُ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ مِكْرز:
فديتُ بأذوادٍ ثِمانٍ سِبا فَتى ... يَنَالُ الصميمَ غُرمُها لَا الْمُوَالَيَا
رهنْتُ يَدَيَّ والمالُ أيسرُ مِنْ يَدَيَّ ... عليَّ وَلَكِنِّي خَشيت المخازِيَا
وقلتُ: سُهيلٌ خيرُنا فَاذْهَبُوا بِهِ ... لأبنائِنا حَتَّى نُديرَ الْأَمَانِيَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَذَا لمِكْرَز.
أَسْرُ عَمْرِو بن أبي سفيان: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَ لِبِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْط -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُمُّ عَمْرِو بن أبي
__________
1 الأعلم: مشقوق الشفة العليا وليس السفلى.
2 يدلع: يخرج.(2/212)
سُفْيَانَ بِنْتُ أَبِي عَمْرٍو، وَأُخْتُ أَبِي مُعَيط بْنِ أَبِي عَمْرٍو- أَسِيرًا فِي يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَسَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ: افْدِ عَمرًا ابْنَكَ، قَالَ: أَيُجْمَعُ عليَّ دَمِي وَمَالِي؟ قَتَلُوا حَنْظلة، وأفْدِي عَمرًا! دَعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ يُمسكوه مَا بَدَا لَهُمْ.
قَالَ: فبينما هو كذلك، حبوس بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ خَرَجَ سعدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ أكَّال، أَخُو بَنِي عَمرو بْنِ عَوْف ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مُعَاوِيَةَ مُعْتَمِرًا وَمَعَهُ مُرَيَّةٌ لَهُ، وَكَانَ شَيْخًا مُسْلِمًا، فِي غَنَمٍ لَهُ بالنَّقيع1 فخرج من هنالك مُعْتَمِرًا، وَلَا يَخْشَى الَّذِي صُنع بِهِ، لَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ يُحبس بِمَكَّةَ، إنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِرًا. وَقَدْ كَانَ عَهِدَ قُرَيْشًا لَا يَعْرضون لِأَحَدٍ جَاءَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا إلَّا بِخَيْرٍ، فَعَدَا عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِمَكَّةَ فَحَبَسَهُ بِابْنِهِ عَمْرو، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
أرهطَ ابنِ أكَّالٍ أَجِيبُوا دُعاءَه ... تَعَاقَدْتُمْ لَا تُسلموا السَّيدَ الكَهْلاَ
فَإِنَّ بَنِي عَمْرو لئامٌ أذِلةٌ ... لَئِنْ لَمْ يَفُكُّوا عَنْ أسيرِهم الكَبْلا
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ:
لَوْ كَانَ سَعْدٌ يومَ مكةَ مُطلقًا ... لَأَكْثَرَ َفيكم قبلَ أَنْ يُؤْسَرَالقَتْلا
بعَضْبٍ حُسَامٍ أَوْ بصفراءَ نبعةٍ ... تحنُّ إذَا مَا أنْبِضَتْ تَحْفِزُ النَّبلا2
وَمَشَى بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يعطيَهم عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَيَفُكُّوا بِهِ صَاحِبَهُمْ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَبَعَثُوا بِهِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَخَلَّى سَبِيلَ سعد.
قصة زينب بنت الرسول وزوجها أبي العاص: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ فِي الْأُسَارَى أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، خَتْن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وزوج ابنته زينب.
__________
1 موضع قرب المدينة.
2 العضب: السيف القاطع. والصفراء النبعة: القوس المصنوعة من شجرة النبع. وتحن: بصوت وترها. وأنبضت: تحرك وتر القوس استعدادًا للانطلاق. وتحفز النبلا: ترميه.(2/213)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أسرهِ خِرَاش بْنُ الصِّمَّة، أحد بني حرام.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ مِنْ رِجَالِ مَكَّةَ الْمَعْدُودِينَ، مَالًا، وَأَمَانَةً، وَتِجَارَةً، وَكَانَ لِهَالَةَ بِنْتِ خوَيْلد، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ خَالَتَهُ. فَسَأَلَتْ خَدِيجَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَوِّجَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخَالِفُهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فزوَّجه، وَكَانَتْ تَعُدُّهُ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا: فَلَمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُبُوَّتِهِ آمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ وَبَنَاتُهُ، فصدَّقْنه، وشَهدْن أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْحَقُّ، ودِنَّ بدينه، وثبت أبو العاص على شركه.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَ عُتبة بْنَ أَبِي لَهَبٍ رُقية، أَوْ أُمَّ كُلْثُومٍ1. فَلَمَّا بَادَى قُرَيْشًا بِأَمْرِ الله تعالى وبالعداوة، قالوا: إنكم قد فَرَّغْتم مُحَمَّدًا مِنْ هَمِّهِ، فردُّوا عَلَيْهِ بناتِهِ، فَاشْغَلُوهُ بهنَّ فَمَشَوْا إلَى أَبِي الْعَاصِ فَقَالُوا لَهُ: فَارِقْ صَاحِبَتَكَ وَنَحْنُ نُزَوِّجُكَ أَيَّ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ شئتَ، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، إنِّي لَا أُفَارِقُ صَاحِبَتِي، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِامْرَأَتِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُثْنِي عَلَيْهِ فِي صِهْره خَيْرًا، فِيمَا بَلَغَنِي، ثُمَّ مَشَوْا إلَى عُتبة بْنِ أَبِي لَهَبٍ، فَقَالُوا لَهُ: طَلِّق بِنْتَ مُحَمَّدٍ وَنَحْنُ نُنْكِحُكَ أَيَّ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ شئتَ: فَقَالَ: إنْ زَوَّجْتُمُونِي بِنْتَ أَبَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَوْ بِنْتَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَارَقْتُهَا، فَزَوَّجُوهُ بِنْتَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وفارقها، ولم يكن أدخل بِهَا فَأَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنْ يَدِهِ كَرَامَةً لَهَا، وَهَوَانًا لَهُ، وخَلَفَ عَلَيْهَا عثمانُ بْنُ عَفَّانَ بعده.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحل بِمَكَّةَ وَلَا يُحرم مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ الِإسلام قَدْ فرَّق بَيْنَ زَيْنَبَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ أَسْلَمَتْ وَبَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَأَقَامَتْ مَعَهُ عَلَى إسْلَامِهَا وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا صَارَتْ قُرَيْشٌ إلَى بَدْرٍ، صَارَ
__________
1 كانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت عتبة بن أبي لهب، وأم كلثوم تحت عتيبة، فطلقاهما بعزم أبيهما وأمهما حين نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] فأما عتيبة فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلط الله عليه كلبًا من كلابه فافترسه الأسد من بين أصحابه، وهم نيام حوله، وأما عتبة ومعتب ابنا أبي لهب، فأسلما ولهما عقب. انظر الروض الأنف بتحقيقنا ج3 ص68.(2/214)
فِيهِمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ فَأُصِيبَ فِي الأسارَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّاد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أهلُ مَكَّةَ فِي فداءِ أُسَرَائِهِمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَالٍ وَبَعَثَتْ فِيهِ بقلادةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى عَلَيْهَا قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقَّ لَهَا رِقةً شَدِيدَةً وَقَالَ: "إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا مالَها، فَافْعَلُوا؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَطْلَقُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا.
خُرُوجُ زَيْنَبَ إلَى الْمَدِينَةِ:
قَالَ: وَكَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ، أَوْ وَعَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، أَنْ يخلي سبيل زينب، أَوْ كَانَ فِيمَا شَرَطَ عَلَيْهِ فِي إطْلَاقِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيُعلم مَا هُوَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ إلَى مَكَّةَ وخُلي سَبِيلُهُ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَكَانَهُ، فَقَالَ: كُونَا بِبَطْنِ يأجَج حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ، فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَانِي بِهَا. فَخَرَجَا مكانَهما، وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِه1، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَاصِ مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تَجَّهز.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: حُدثت عَنْ زَيْنَبَ أَنَّهَا قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا أَتَجَهَّزُ بِمَكَّةَ لِلُّحُوقِ بِأَبِي لَقِيَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَقَالَتْ: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ، أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكَ تُرِيدِينَ اللُّحُوقَ بِأَبِيكَ؟ قالت: مَا أردتُ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَيْ ابْنَةَ عَمِّي، لَا تَفْعَلِي، إنْ كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ بِمَتَاعِ مِمَّا يَرْفُقُ بِكَ فِي سَفَرِكَ، أَوْ بِمَالٍ تَتَبَلَّغِينَ بِهِ إلَى أَبِيكَ، فَإِنَّ عِنْدِي حَاجَتَكَ، فَلَا تَضْطَني2 مِنِّي فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ بَيْنَ النِّسَاءِ مَا بَيْنَ الرِّجَالِ. قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَرَاهَا قَالَتْ ذَلِكَ إلَّا لِتَفْعَلَ، قَالَتْ: وَلَكِنِّي خِفتُها، فَأَنْكَرْتُ أَنْ أَكُونَ أُرِيدُ ذَلِكَ، وَتَجَهَّزْتُ.
فَلَمَّا فَرَغَتْ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَهَازِهَا قَدَّم لَهَا حَمُوها كِنانةُ بْنُ الربيعِ أَخُو زَوْجِهَا بَعِيرًا، فَرَكِبَتْهُ، وَأَخَذَ قوسَه وَكِنَانَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهَا نَهَارًا يقود بها، وهي في هَوْدج
__________
1 شيعه: قريب منه.
2 أي لا تستحي.(2/215)
لَهَا. وَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهَا حَتَّى أَدْرَكُوهَا بِذِي طُوى، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَبَقَ إلَيْهَا هبَّار بْنُ الْأَسْوَدِ بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والفِهْري، فروَّعها هَبَّار بالرُّمح وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ حَامِلًا -فِيمَا يَزْعُمُونَ- فَلَمَّا رِيعتْ طرحتْ ذَا بَطْنِهَا. وَبَرَكَ حَمُوهَا كِنَانَةُ، وَنَثَرَ كِنَانَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا يَدْنُو مِنِّي رَجُلٌ إلَّا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا، فتكَرْكر1 النَّاسُ عَنْهُ. وَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ فِي جلَّة مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، كُفَّ عَنَّا نبلَك حَتَّى نكلمَك فَكَفَّ، فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنَّكَ لَمْ تُصب، خَرَجْتَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى رُءُوسِ الناسِ عَلَانِيَةً، وَقَدْ عرفتَ مصيبتَنا ونكبتَنا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ مُحَمَّدٍ فَيَظُنُّ النَّاسُ إذَا خَرَجْتَ بِابْنَتِهِ إلَيْهِ عَلَانِيَةً عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، أَنَّ ذَلِكَ عَنْ ذُلّ أَصَابَنَا عَنْ مُصِيبَتِنَا الَّتِي كَانَتْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَّا ضَعْف ووَهْن، ولعَمري مَا لَنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيهَا مِنْ حَاجَةٍ، ومالنا في ذلك من ثُؤْرة2، وَلَكِنْ ارْجِعْ بِالْمَرْأَةِ، حَتَّى إذَا هَدَأَتْ الأصواتُ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنْ قَدْ رَدَدْنَاهَا، فسُلَّها سِرًّا، وَأَلْحِقْهَا بِأَبِيهَا قَالَ: فَفَعَلَ. فَأَقَامَتْ لياليَ، حَتَّى إذَا هَدَأَتْ الأصواتُ خَرَجَ بِهَا لَيْلًا حَتَّى أَسْلَمَهَا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَصَاحِبِهِ، فَقَدِمَا بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: أَوْ أَبُو خَيْثمة، أَخُو بَنِي سَالِمِ بن عَوْفٍ فِي الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ زَيْنَبَ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ لِأَبِي خَيْثَمَةَ-:
أَتَانِي الَّذِي لَا يقدرُ الناسُ قَدْرَه ... لزينَب فِيهِمْ مِنْ عُقوقٍ ومَأثَم
وإخراجُها لَمْ يُخْزَ فِيهَا محمدٌ ... عَلَى مَأقِطٍ وَبَيْنَنَا عِطْرُ مَنْشَمِ3
وَأَمْسَى أَبُو سفيانَ مِنْ حِلْفِ ضَمْضَمً ... وَمِنْ حَرْبِنَا فِي رَغْمَ أنفٍ ومَنْدم
قرنَّا ابنَه عَمرًا ومولَى يَمِينِهِ ... بِذِي حَلَقٍ جَلْد ِالصَّلاصلِ مُحكَمِ4
فأقسمْتُ لَا تَنْفكُّ مِنَّا كَتَائِبُ ... سُراةُ خَميسٍ فِي لُهامٍ مُسَوَّمِ5
نزوعُ قُرَيْشَ الكفرِ حَتَّى نَعُلَّها ... بخاطمةٍ فوقَ الأنوفِ بميْسَمِ6
__________
1 تكركر: رجع.
2 الثؤرة: طلب الثأر.
3 المأقط: معترك الحرب، ومنشم امرأة كانت تبيع العطر فتحالف قوم على الموت في قتال عدوهم وغمسوا أيديهم في عطرها فماتوا جميعا فضرب به المثل في الشؤم.
4 ذي حلق: السلاسل. والصلاصل: صوت الحديد.
5 السراة: السادة، والخميس: الجيش، واللهام: الكثير، والمسوم: المعلم.
6 نزوع: نسوق، نعلها: نعيد عليهم الكرة.(2/216)
نُنَزِّلُهُمْ أكنافَ نجدٍ ونخلةٍ ... وَإِنْ يُتْهموا بالخيلِ والرَّجْلِ نُتهِمِ1
يَدَ الدهرِ حَتَّى لَا يُعَوَّجُ سِربُنا ... ونُلحقهم آثارَ عادٍ وجُرْهم2
ويندَم قومٌ لَمْ يُطيعوا مُحَمَّدًا ... عَلَى أمرِهم وَأَيُّ حِينٍ تَنَدُّمِ
فأبلغْ أَبَا سفيانَ إمَّا لَقِيتَه ... لَئِنْ أنتَ لَمْ تُخلصْ سُجُودًا وتُسْلم
فأبشرْ بخزْيٍ فِي الحياةِ معُجَّلٍ ... وسِرْبالِ قارٍ خَالِدًا فِي جَهنمِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: وَسِرْبَالِ نَارٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَوْلَى يَمِينِ أَبِي سُفْيَانَ، الَّذِي يَعْنِي: عَامِرَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ: كَانَ فِي الأسَارَى وَكَانَ حِلْفُ الْحَضْرَمِيِّ إلَى حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مَوْلَى يَمِينِ أَبِي سُفْيَانَ، الَّذِي يَعْنِي: عُقبة بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَأَمَّا عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فَقُتِلَ يوم بدر.
وَلَمَّا انْصَرَفَ الَّذِينَ خَرَجُوا إلَى زَيْنَبَ لَقِيَتْهُمْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ لَهُمْ:
أَفِي السِّلمِ أعْيارٌ جَفاءً وغِلظةً ... وَفِي الحربِ أشباهُ النساءِ العَوارِكِ3
وَقَالَ كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ فِي أَمْرِ زَيْنَبَ، حِينَ دَفَعَهَا إلَى الرَّجُلَيْنِ:
عَجبتُ لهبَّارٍ وأوباقِ قومِهِ ... يُرِيدُونَ إخْفَارِي ببنتِ محمدِ
ولستُ أُبَالِي مَا حَيِيتُ عَدِيدَهُمْ ... وَمَا استجمَعَتْ قَبْضًا يَدِي بالمهتدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ بُكَير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأشَجّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الدَّوْسي. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: بَعَثَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّة أَنَا فِيهَا. فَقَالَ لَنَا: "إنْ ظَفِرْتُمْ بهبَّار بْنِ الْأَسْوَدِ، أَوْ الرَّجُلِ الْآخَرِ الَّذِي سَبَقَ معه إلى زينب
__________
1 الأكناف: النواحي. نجد ما ارتفع من أرض الحجاز. ونخلة موضع قريب من مكة وأتهم: أتى تهامة وهي ما انخفض من أرض الحجاز.
2 يد الدهر: أي أبد الدهر. والسرب: الطريق.
3 الأعيار: الحمير. والعوارك: الحيض.(2/217)
-قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ سَمَّى ابنُ إسْحَاقَ الرجلَ فِي حَدِيثِهِ وَقَالَ: هُوَ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ- فحرِّقوهما بِالنَّارِ" قَالَ، فَلَمَّا كَانَ الغدُ بَعَثَ إلَيْنَا. فَقَالَ: "إنِّي كُنْتُ أمرتُكم بِتَحْرِيقِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إنْ أَخَذْتُمُوهُمَا. ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يعذِّب بالنارِ إلَّا اللَّهُ، فَإِنْ ظَفَرْتُمْ بِهِمَا فَاقْتُلُوهُمَا".
إسْلَامُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَقَامَ أَبُو الْعَاصِ بِمَكَّةَ، وَأَقَامَتْ زَيْنَبُ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. حِينَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الِإسلام. حَتَّى إذَا كَانَ قُبَيل الْفَتْحِ، خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ تَاجِرًا إلَى الشَّامِ، وَكَانَ رَجُلًا مَأْمُونًا، بِمَالٍ لَهُ وَأَمْوَالٍ لِرِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، أَبْضَعُوهَا مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ وَأَقْبَلَ قَافِلًا، لَقِيَتْهُ سَرِيَّة لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فأصابوا ماله، وَأَعْجَزَهُمْ هَارِبًا، فَلَمَّا قَدِمَتْ السَّرِيَّةُ بِمَا أَصَابُوا مِنْ مَالِهِ، أَقْبَلَ أَبُو الْعَاصِ تَحْتَ اللَّيْلِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَجَارَ بِهَا، فَأَجَارَتْهُ، وَجَاءَ فِي طَلَبِ مالهِ، فَلَمَّا خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصُّبْحِ كَمَا حَدَّثَنِي يزيدُ بْنُ رُومَانَ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، صَرَخَتْ زينبُ مِنْ صُفَّة النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنِّي قَدْ أجرتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، قَالَ: فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسِ! هَلْ سَمِعْتُمْ ما سمعت؟ " قالوا: نعم؟ قال: "وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ من ذلك حتى سمعت ما سمعتُ، إنَّهُ يُجير عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ". ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ، فَقَالَ: "أَيْ بُنَية، أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، وَلَا يخلصنَّ إلَيْكَ، فَإِنَّكَ لَا تَحِلِّينَ لَهُ".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَى السَّرية الَّذِينَ أَصَابُوا مَالَ أَبِي الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُمْ: "إنَّ هَذَا الرجل منا حيثُ قد علمتم، أَصَبْتُمْ لَهُ مَالًا، فَإِنْ تُحسنوا وَتَرُدُّوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَإِنَّا نُحب ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ، فَأَنْتُمْ أحقُّ بِهِ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ نَرُدُّهُ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لِيَأْتِيَ بالدَّلْوِ، وَيَأْتِيَ الرَّجُلُ بالشَّنَّة وبالِإداوة1، حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ لِيَأْتِيَ بالشَظاظ2، حَتَّى رَدُّوا عَلَيْهِ مالَه بأسرِه، لَا يَفْقِدُ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ احتمله إلَى مَكَّةَ، فَأَدَّى إلَى كلِّ ذِي مَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مالَه، وَمَنْ كَانَ أَبْضَعَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لأحد منكم عندي مال لم يأخذه
__________
1 الشنة: السقاء البالي، والإداوة: الإناء الصغير من الجلد.
2 الشظاظ: خشبة عقفاء تدخل فى عروتي الكيس، والجمع: أشظة.(2/218)
قَالُوا: لَا. فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وفِيًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَأَنَا أشهدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاَللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إلَّا تخوّفي أن تظنوا أني أَرَدْتُ أَنْ آكلَ أموالَكم، فَلَمَّا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْكُمْ وَفَرَغْتُ مِنْهَا أسلمتُ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني داودُ بن الحُصَيْن عَنْ عِكرمة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَدَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يُحدثْ شَيْئًا1 بعد ستِ سنين.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ لَمَّا قَدِم مِنْ الشَّامِ وَمَعَهُ أَمْوَالُ الْمُشْرِكِينَ، قِيلَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تُسلم وَتَأْخُذَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، فَإِنَّهَا أَمْوَالُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ أَبُو الْعَاصِ: بِئْسَ مَا أَبْدَأُ بِهِ إسْلَامِي أَنْ أَخُونَ أَمَانَتِي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التنَوري، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عامر الشَّعبي، بنحو من حديث أي عبيدة عن أبي العاص.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ مِمَّنْ سُمى لَنَا مِنْ الْأُسَارَى مِمَّنْ مُنَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، من بني عبد شمس بن عبد مناف: أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسِ مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ بُعِثَتْ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِفِدَائِهِ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: المطَّلب بْنُ حَنْطَب بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيدة بْنِ عُمر بْنِ مَخْزُومٍ، كَانَ لِبَعْضِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فتُرك فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى خَلَّوا سَبِيلَهُ. فَلَحِقَ بِقَوْمِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَسَرَهُ خَالِدُ بْنُ زَيْد، أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، أَخُو بَنِي النجَّار.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَصَيْفي بن أبي رفاعة بن عابد بن عبد اللَّهِ بْنِ عُمر بْنِ مَخْزُومٍ، تُرك فِي أَيْدِي أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا لَمْ يأتِ أَحَدٌ فِي فِدَائِهِ أَخَذُوا عَلَيْهِ ليبعثنَّ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ، فخلَّوْا سَبِيلَهُ، فَلَمْ يَفِ لَهُمْ بِشَيْءٍ فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ:
وَمَا كَانَ صَيفيٌّ ليُوفي ذِمَّةً ... قَفا ثعلبٍ أَعْيَا ببعضِ الموارِدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ له.
__________
1 ويعارضه حديث عمرو بن شعيب أنه ردها عليه بنكاح جديد، ويمكن الجمع بينهما أنه ردها عليه على مثل النكاح الأول في الصداق مثلا.(2/219)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو عزَّة، عَمرو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أهَيْب بْنِ حُذافة بْنِ جُمَح، كَانَ مُحْتَاجًا ذَا بَنَاتٍ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله لقد عرفتَ مالي مِنْ مَالٍ، وَإِنِّي لَذُو حَاجَةٍ، وَذُو عِيَالٍ، فامنُنْ عليَّ؟ فمنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَلَّا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا. فَقَالَ أَبُو عَزَّةَ فِي ذَلِكَ، يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَذْكُرُ فَضْلَهُ فِي قَوْمِهِ:
مَنْ مُبلغ عَنِّي الرسولَ مُحَمَّدًا ... بِأَنَّكَ حقٌّ والمليكُ حَميدُ
وَأَنْتَ امرؤ تدعو إلى الحقِّ والهدَى ... عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ العظيمِ شهيدُ
وأنتَ امْرُؤُ بوِّئتَ فِينَا مَباءةً ... لَهَا درجاتٌ سَهْلةٌ وصعودُ1
فَإِنَّكَ مَنْ حَارَبْتَهُ لمُحارَبٌ ... شَقِيّ وَمَنْ سَالَمَتْهُ لسعيدُ
وَلَكِنْ إذَا ذُكرْتُ بَدْرًا وأهلَه ... تأوَّب مَا بِي حَسرةٌ وقعودُ2
ثَمَنُ الْفِدَاءِ: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَ فِدَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لِلرَّجُلِ، إلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، إلَّا مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
إسلام عُمير بن وَهْب بعد تحريض صفوان له عَلَى قَتْلِ الرَّسُولِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي محمدُ بن جعفر بن الزبير، عن عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَلَسَ عُمَيْر بْنُ وَهْبٍ الجُمحي مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصاب أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ -فِي الحِجْر- بِيَسِيرٍ، وَكَانَ عُمير بْنُ وَهْبٍ شَيْطانًا مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمَّنْ كَانَ يُؤذِي رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، ويَلْقَون مِنْهُ عَنَاءً وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ ابنهُ وَهْبُ بْنُ عُمَيْر فِي أُسَارَى بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَسَرَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ أَحَدُ بَنِي زُرَيْق.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفر بْنِ الزُّبير، عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: فَذَكَرَ أصحابَ القَليب ومُصابهم، فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاَللَّهِ إنْ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خيرٌ؟ قَالَ لَهُ عُمير: صدقتَ وَاَللَّهِ، أَمَا وَاَللَّهِ لَوْلَا دَيْن عليَّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ، وعيالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضَّيْعةَ بَعْدِي، لَرَكِبْتُ إلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أقتلَه، فَإِنَّ لِي قِبَلَهُمْ عِلَّةً: ابْنِي أَسِيرٌ فِي أيديهم قال: فاغتنمها صفوان
__________
1 بوئت: نزلت.
2 تأوب: رجع.(2/220)
وَقَالَ: عليَّ دينُك، أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ، وعيالُك مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ. مَا بَقُوا، لَا يَسَعُني شَيْءٌ وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُ عُمَير: فَاكْتُمْ شأني وشأنك قال: أفعل.
قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ عُمير بِسَيْفِهِ، فشُحِذ لَهُ وسُمَّ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِم الْمَدِينَةَ فَبَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَيَذْكُرُونَ مَا أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ بِهِ، وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، إذْ نَظَرَ عُمَرُ إلَى عُمَيْر بْنِ وَهْبٍ حِينَ أَنَاخَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشِّحًا السيفَ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عدوُّ اللَّهِ عُمَيْر بْنُ وَهْب، وَاَللَّهِ مَا جَاءَ إلَّا لشرٍّ. وَهُوَ الَّذِي حَرَّش بينَنا، وحَزَرنا1 لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ دَخَلَ عُمر عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْر بنَ وَهْب قَدْ جَاءَ متوشِّحًا سيفَه: قَالَ: "فأدخلْه عليَّ"، قَالَ: فَأَقْبَلَ عمر حتى أخذ بحمَّالة سيفه فرط عُنقه فلبَّبه بِهَا، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانُوا مَعَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ: اُدْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُمَرُ آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، قَالَ: "أرسلْه يَا عُمَرُ، ادْنِ يَا عُمير؟ " فَدَنَا ثُمَّ قَالَ: انْعَمُوا صَبَاحًا، وَكَانَتْ تحيةَ أهلِ الجاهليةِ بينَهم، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقد أَكْرَمَنَا اللَّهُ بتحيةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمير، بِالسَّلَامِ: تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ". فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إنْ كنتُ بِهَا لحديثُ عَهْدٍ. قَالَ: "فَمَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ " قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ فأحْسنوا فِيهِ، قَالَ: "فَمَا بَالُ السيفُ فِي عُنُقِكَ؟ " قَالَ: قبَّحها اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أغنتْ عَنَّا شَيْئًا؟ قَالَ: "اصدقْني، مَا الَّذِي جئتُ لَهُ؟ " قَالَ: مَا جئتُ إلَّا لِذَلِكَ. قَالَ: "بَلْ قعدتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الحِجْر، فَذَكَرْتُمَا أصحابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلْتُ، لَوْلَا دَيْنٌ عليَّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أقتلَ مُحَمَّدًا، فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ، وَاَللَّهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ"، قَالَ عُمَيْر: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتُ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنْ الْوَحْيِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إلَّا أَنَا وَصَفْوَانُ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إلَّا اللَّهُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانِي للإِسلام وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ، ثُمَّ شَهِدَ شهادةَ الحقِّ. فَقَالَ
__________
1 حرش: أفسد، والحرز: تقدير العدد تخمينا.(2/221)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أسيره"، ففعلوا.
ثُمَّ قَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْتُ جَاهِدًا عَلَى إطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، شَدِيدَ الْأَذَى لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تأذنَ لِي، فَأَقْدَمَ مَكَّةَ، فَأَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى الله عليه وسلم، لَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ، وَإِلَّا آذَيْتُهُمْ فِي دِينِهِمْ كما كنت أوذي أصحابك في دينهم؟ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ حِينَ خَرَجَ عُمَيْر بْنُ وَهْبٍ، يَقُولُ: أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمْ الْآنَ فِي أَيَّامٍ، تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانَ، حَتَّى قَدِمَ رَاكِبٌ فَأَخْبَرَهُ عَنْ إسْلَامِهِ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ أَبَدًا، وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَفْعِ أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمَ عُمير مَكَّةَ، أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ، ويؤذِي مَنْ خَالَفَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ نَاسٌ كثير.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وعُمير بْنُ وَهْبٍ، أَوْ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، قَدْ ذُكِرَ لِي أَحَدُهُمَا، الَّذِي رَأَى إبْلِيسَ حِينَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ يوم بدر، فقيل: أين، أي سُراق؟ ومَثَلَ1 عَدُوُّ اللَّهِ فَذَهَبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} . فَذَكَرَ اسْتِدْرَاجَ إبْلِيسَ إيَّاهُمْ، وَتَشَبُّهَهُ بسُراقة بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشم لَهُمْ، حِينَ ذَكَرُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَناة بْنِ كِنَانَةَ فِي الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} وَنَظَرَ عَدُوُّ اللَّهِ إلَى جُنُودِ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، قَدْ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِمْ رسولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} . وَصَدَقَ عَدُوُّ اللَّهِ، رَأَى مَا لَمْ يَرَوْا، وَقَالَ: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] فَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنه فِي كُلِّ مَنْزِلٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ لَا يُنْكِرُونَهُ، حَتَّى إن كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَالْتَقَى الْجَمْعَانِ نَكَصَ عَلَى عقبيه، فأوردهم ثم أسلمهم.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نَكَصَ: رَجَعَ: قَالَ أوْس بن حجر، أَحَدُ بَنِي أسْد بْنِ عَمرو بْنِ تَمِيمٍ:
نكصتُم عَلَى أعقابِكم يومَ جئتُمُ ... تُزَجُّونَ أنفالَ الخميسِ العَرَمْرَمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
__________
1 مثل: ذهب في الأرض واختفى.(2/222)
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت:
قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ آوَوْا نبيَّهم ... وصدَّقوه وأهلُ الأرضِ كُفَّارُ
إلَّا خصائصَ أقوامٍ همُ سَلَفٌ ... لِلصَّالِحِينَ مَعَ الأنصارِ أنصارُ
مُسْتبشرين بقَسْمِ اللَّهِ قولُهم ... لما أتاهم كريمُ الأصلِ مُختارا
أَهْلًا وَسَهْلًا فَفِي أَمْنٍ وَفِي ... سَعَةٍ نعمَ النَّبِيُّ ونعمَ القَسْمُ والجارُ
فَأَنْزَلُوهُ بدارٍ لَا يُخاف بِهَا ... مَنْ كَانَ جارَهمُ دَارًا هىَ الدارُ
وقاسَمُوه بِهَا الأموالَ إذْ قَدِمُوا ... مُهَاجِرِينَ وقَسْمُ الجاحدِ النارُ
سِرنا وَسَارُوا إلَى بَدْرٍ لِحيْنهمُ ... لَوْ يَعْلَمُونَ يقينَ العلمِ مَا سَارُوا
دَلاَّهُمُ بغرورٍ ثُمَّ أسْلَمهم ... إنَّ الخبيثَ لِمَنْ والاَه غَزَّارُ
وَقَالَ إنِّي لَكُمْ جَار فأوردَهم ... شَرَّ المواردِ فِيهِ الخِزْي والعارُ
ثُمَّ الْتَقَيْنَا فولَّوْا عَنْ سَراتِهمُ ... مِنْ مُنْجدينَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَارُوا1
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي قولَه: "لَمَّا أَتَاهُمْ كريمُ الأصلِ مختارُ" أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ.
المطْعِمون مِنْ قريش:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الْمُطْعِمُونَ2 مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: العباس بن عبد المطلب بن هاشم.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُتبة بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ.
وَمِنْ بني نَوْفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نَوْفل، وطُعَيْمة بن عدي بن نوفل، يعتقبان ذلك.
ومن في أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى: أَبَا البخْتري بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ. وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ: يَعْتَقِبَانِ ذَلِكَ.
__________
1 السراة: الخيار. وغاروا: تفرقوا.
2 من يطعمون الحجيج أيام الموسم.(2/223)
ومن بني عبد الدار بن قُصي: النَّضْر بن الحارث بن كَلَدة بن علقمة بن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقمة بْنِ كَلَدة بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدار.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
وَمِنْ بَنَى جُمح: أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفِ بْنِ وَهْب بن حُذافة بن جُمَح.
ومن بني سَهْم بْنِ عَمرو: نُبَيها ومُنبِّهًا ابْنَيْ الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذيفة بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْم، يعتقبان ذلك.
ومن بني عامر بن لُؤَي: سُهيل بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصْر بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْل بْنِ عَامِرٍ.
أَسَمَاءُ خيل المسلمين يوم بدو:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْخَيْلِ، فَرَسُ مَرْثَد بْنِ أَبِي مَرْثَد الغَنَوِي، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: السَّبَلُ وَفَرَسُ المِقْداد بْنِ عَمْرو البَهْراني، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: بَعْزجة، وَيُقَالُ له: سَبْحة وَفَرَسُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَكَانَ يُقَالُ له: اليَعْسوب. قال ابن هشام: ومع المشركين مائة فرس.
نزول سورة الأنفال تصف أحداث بدر:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا انْقَضَى أَمْرُ بَدْرٍ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ الْأَنْفَالَ بِأَسْرِهَا، فَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنْهَا فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي النَّفَلِ حِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] فَكَانَ عُبادة بْنُ الصَّامِتِ -فِيمَا بَلَغَنِي- إذَا سُئل عَنْ الْأَنْفَالِ، قَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَهْلِ بَدْرٍ نَزَلَتْ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا حِينَ سَاءَتْ فِيهِ أخلاقُنا، فردَّه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَسَمَهُ. بَيْنَنَا عَنْ بَوَاء -يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ- وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتُهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وصلاح ذات البين.
ثُمَّ ذَكَرَ القومَ ومسيرَهم مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ عَرَفَ القومُ أن قريشًا(2/224)
قَدْ سَارُوا إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا خَرَجُوا يُرِيدُونَ الْعِيرَ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} : أَيْ كَرَاهِيَةً لِلِقَاءِ الْقَوْمِ، وَإِنْكَارًا لِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، حِينَ ذُكِرُوا لَهُمْ {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} : أَيْ الْغَنِيمَةَ دُونَ الْحَرْبِ {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 57] : أَيْ بِالْوَقْعَةِ الَّتِي أَوْقَعَ بِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَقَادَتِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} : أَيْ لِدُعَائِهِمْ حِينَ نَظَرُوا إلَى كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} بِدُعَاءِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِكُمْ {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} : أَيْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكُمْ الْأَمَنَةَ حِينَ نِمْتُمْ لَا تَخَافُونَ {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} لِلْمَطَرِ الَّذِي أَصَابَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَحَبَسَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَسْبِقُوا إلَى الْمَاءِ، وَخَلَّى سَبِيلَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11] : أَيْ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ شَكَّ الشَّيْطَانِ، لِتَخْوِيفِهِ إيَّاهُمْ عَدُوَّهُمْ وَاسْتِجْلَادِ1 الْأَرْضِ لَهُمْ، حَتَّى انْتَهَوْا إلَى منزلهم الذي سبقوا إليه عدوَّهم.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} : أَيْ آزِرُوا الَّذِينَ آمَنُوا {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 12، 13] ، ثُمَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : أَيْ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ لِئَلَّا يَنْكُلُوا عَنْهُمْ إذَا لَقُوهُمْ، وَقَدْ وَعَدَهُمْ اللَّهُ فِيهِمْ مَا وعدهم.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى، فِي رَمْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ بِالْحَصْبَاءِ مِنْ يَدِهِ، حِينَ رَمَاهُمْ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} : أَيْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِرَمْيَتِكَ، لَوْلَا الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ نَصْرِكَ، وَمَا أَلْقَى فِي صُدُورِ عَدُوِّكَ مِنْهَا حِينَ هَزَمَهُمْ اللَّهُ {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17] : أَيْ لِيُعَرِّفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي إظْهَارِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حقه، ويشكروا بذلك نعمته.
__________
1 الاستجلاد: الشدة.(2/225)
ثُمَّ قَالَ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} : أَيْ لِقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَقْطَعَنَا للرحمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يُعرف، فأحْنه الغَداة. وَالِاسْتِفْتَاحُ: الْإِنْصَافُ فِي الدُّعَاءِ.
يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنْ تَنْتَهُوا} : أَيْ لِقُرَيْشِ {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} : أَيْ بِمِثْلِ الْوَقْعَةِ الَّتِي أَصَبْنَاكُمْ بِهَا يَوْمَ بَدْرٍ: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] : أَيْ أَنَّ عَدَدَكُمْ وَكَثْرَتَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ لَنْ تغنيَ عَنْكُمْ شَيْئًا، وَإِنِّي مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْصُرهُمْ على من خالفهم.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} . أَيْ لَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لِقَوْلِهِ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مِنْهُ، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} : أَيْ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لَهُ الطَّاعَةَ، ويُسرون لَهُ الْمَعْصِيَةَ {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} : أي المنافقين الَّذِينَ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ، بُكم عَنْ الْخَيْرِ، صُم عَنْ الْحَقِّ، لَا يَعْقِلُونَ: لَا يَعْرِفُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّقْمَةِ والتَّباعة1 {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ} 2، أي لأنفذ لهم الَّذِي قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْقُلُوبَ خَالَفَتْ ذَلِكَ منهم، ولو خرجوا معكم {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} مَا وَفَوْا لَكُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا خَرَجُوا عَلَيْهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} : أَيْ لِلْحَرْبِ الَّتِي أَعَزَّكُمْ اللَّهُ بِهَا بَعْدَ الذُّلِّ، وَقَوَّاكُمْ بِهَا بَعْدَ الضَّعْفِ، وَمَنَعَكُمْ بِهَا مِنْ عَدُوِّكُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ مِنْهُمْ لَكُمْ {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ لَا تُظْهِرُوا لَهُ مِنْ الْحَقِّ مَا يَرْضَى بِهِ مِنْكُمْ، ثُمَّ تُخَالِفُوهُ فِي السِّرِّ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هَلَاكٌ لِأَمَانَاتِكُمْ، وَخِيَانَةٌ لِأَنْفُسِكُمْ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} : أَيْ فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، لِيُظْهِرَ اللَّهُ بِهِ حَقَّكُمْ، وَيُطْفِئَ بِهِ بَاطِلَ مَنْ خالفكم.
ثُمَّ ذَكَّر رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، حِينَ مَكَرَ بِهِ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ أَوْ يُثبتوه أَوْ يُخْرِجُوهُ {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} : أَيْ فَمَكَرْتُ بِهِمْ بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
__________
1 التباعة: طلب الشخص بما ارتكب من المظالم.
2 لم يأت بجزء من الآية وهو {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} .(2/226)
ما نزل في غرة قريش واستفتاحهم على أنفسهم: ثُمَّ ذَكَرَ غِرة قُرَيْشٍ وَاسْتِفْتَاحَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، إذْ قَالُوا {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} أَيْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} كَمَا أَمْطَرْتهَا عَلَى قَوْمِ لُوطٍ {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 27] أَيْ بَعْضِ مَا عَذَّبْتُ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُنَا وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُهُ، وَلَمْ يُعَذِّبْ أُمَّةً وَنَبِيُّهَا مَعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا. وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَذْكُرُ جَهَالَتَهُمْ وَغِرَّتَهُمْ وَاسْتِفْتَاحَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حِينَ نَعَى سُوءَ أَعْمَالِهِمْ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] أَيْ لِقَوْلِهِمْ: إنَّا نَسْتَغْفِرُ وَمُحَمَّدٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، ثُمَّ قَالَ {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} وَإِنْ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ كَمَا يَقُولُونَ {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : أَيْ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَعَبْدَهُ: أَيْ أَنْتَ وَمَنْ اتَّبَعَكَ، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ حُرْمَتَهُ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَهُ: أَيْ أَنْتَ وَمَنْ آمَنَ بِكَ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْهُمْ {إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ. وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ. قال عنترة بن عَمرو بن شَدَّادٍ العبْسي:
ولرُبَّ قِرْنٍ قَدْ تركتُ مُجَدَّلًا ... تَمكُو فريصتُهُ كشِدْقِ الأعْلمِ1
يَعْنِي: صَوْتَ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ الطَّعْنَةِ، كَأَنَّهُ الصَّفِيرُ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ الطِّرِمَّاح بْنُ حَكِيمٍ الطَّائِيُّ:
لَهَا كلَّما رِيعت صَداة ورَكْدةَ ... بمُصْدَانِ أعلَى ابنَي شَمامِ البَوائنِ2
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. يَعْنِي الأرْوِية، يَقُولُ: إذَا فَزِعَتْ قَرَعَتْ بِيَدِهَا الصَّفاةَ ثُمَّ رَكَدَتْ -تَسْمَعُ صَدَى قرعها بيدها الصَّفاة- مثل التصفيق. والمُضْدان: الحِرْز وابنا شمام جبلان.
__________
1 مجدلا: وقع على الأرض. والفريصة: جزء فى مرجع الكتف. والأعلم مشقوق الشفة العليا، ويريد به الجمل.
2 صداة: تصفير، والركدة: السكون، والمصدان: الجدران، وابنا شمام: هضبتان بجبل شمام، والبوائن: المبتعدة.(2/227)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَلِكَ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يُحِبُّهُ، وَلَا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَلَا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 34، 35] : أَيْ لِمَا أَوْقَعَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ القتل.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّاد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ بَيْنَ نزول: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [الْمُزَّمِّلُ: 1] ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا، وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} إلَّا يَسِيرٌ، حَتَّى أَصَابَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِالْوَقْعَةِ يَوْمَ بدر.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَنْكَالُ: الْقُيُودُ وَاحِدُهَا: نِكْل. قَالَ رُؤبة بْنُ العَجَّاج:
يَكْفِيكَ نِكْلي بَغْيَ كلِّ نِكْلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
ما نزل في معاوني أبي سُفْيَانَ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} يَعْنِي النَّفَرَ الَّذِينَ مَشَوْا إلَى أَبِي سُفْيَانَ، وَإِلَى مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُقَووهم بِهَا عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَعَلُوا.
ثُمَّ قَالَ {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا} لِحَرْبِكَ {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
ما نزل من الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ: ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} : أَيْ حَتَّى لَا يُفتن مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ، وَيَكُونَ التَّوْحِيدُ لِلَّهِ خَالِصًا لَيْسَ لَهُ فِيهِ شَرِيكٌ، ويُخلَع مَا دُونَهُ مِنْ الْأَنْدَادِ {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ تَوَلَّوْا} عَنْ أَمْرِكَ إلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} الَّذِي أَعَزَّكُمْ وَنَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 39، 40] .
ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ مَقاسِمَ الْفَيْءِ وَحُكْمَهُ فِيهِ، حِينَ أَحَلَّهُ لَهُمْ، فَقَالَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] أَيْ يَوْمَ فَرَّقْتُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِقُدْرَتِي يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} مِنْ الْوَادِي {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} مِنْ الْوَادِي إلَى مَكَّةَ {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} :(2/228)
أَيْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ الَّتِي خَرَجْتُمْ لِتَأْخُذُوهَا، وَخَرَجُوا لِيَمْنَعُوهَا عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} أَيْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ ثُمَّ بَلَغَكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ، وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ مَا لَقِيتُمُوهُمْ {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} أَيْ لِيَقْضِيَ مَا أَرَادَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ إعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ عَنْ غَيْرِ بَلَاءٍ مِنْكُمْ فَفَعَلَ مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِلُطْفِهِ، ثُمَّ قَالَ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] أَيْ لِيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْحُجَّةِ لِمَا رَأَى مِنْ الْآيَةِ وَالْعِبْرَةِ، وَيُؤْمِنُ مَنْ آمَنَ على مثل ذلك.
ثُمَّ ذَكَرَ لُطْفَهُ بِهِ وَكَيْدَهُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43] فَكَانَ مَا أَرَاكَ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، شَجَّعَهُمْ بِهَا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَكَفَّ بِهَا عَنْهُمْ مَا تُخوِّف عَلَيْهِمْ مِنْ ضَعْفِهِمْ، لِعِلْمِهِ بِمَا فِيهِمْ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تُخُوِّفَ: مُبَدَّلَةٌ مِنْ كَلِمَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ وَلَمْ أَذْكُرْهَا1.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] أَيْ لِيُؤَلِّفَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ لِلنِّقْمَةِ مِمَّنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ، وَالْإِنْعَامَ عَلَى مَنْ أَرَادَ إتمام النعمة عليه من أهل ولايته.
ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَفَهَّمَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا بِهِ فِي حَرْبِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} تُقَاتِلُونَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الَّذِي لَهُ بَذَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَالْوَفَاءَ لَهُ بِمَا أَعْطَيْتُمُوهُ مِنْ بَيْعَتِكُمْ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} أَيْ لَا تَخْتَلِفُوا فَيَتَفَرَّقَ أَمْرُكُمْ {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أَيْ وَتَذْهَبَ حِدَّتُكُمْ {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45، 46] أَيْ إنِّي مَعَكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} : أَيْ لَا تَكُونُوا كَأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ، الَّذِينَ قَالُوا: لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا فننحر به الجُزر ونسقي بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا فِيهَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ الْعَرَبُ: أَيْ لَا يَكُونُ أَمْرُكُمْ رِيَاءً، وَلَا سُمعةً، وَلَا الْتِمَاسَ مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَخْلِصُوا لِلَّهِ النِّيَّةَ والحِسْبة فِي نَصْرِ دِينِكُمْ، وَمُوَازَرَةِ نَبِيِّكُمْ، لَا تَعْمَلُوا إلَّا لِذَلِكَ وَلَا تَطْلُبُوا غيره.
__________
1 يقال: إنها تخوفت ولذلك أصلح ابن هشام اللفظ.(2/229)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكُفْرِ، وَمَا يَلْقَوْنَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِصِفَتِهِمْ وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، حَتَّى انْتَهَى إلَى أَنْ قَالَ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] أَيْ فنكِّل بِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 59] أَيْ لَا يَضِيعُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَعَاجِلٌ خِلَفَهُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} : أَيْ إنْ دَعَوْكَ إلَى السَّلْمِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَصَالِحْهُمْ عَلَيْهِ {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} إنَّ اللَّهَ كافيك {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: جَنَحُوا للسَّلْم: مَالُوا إلَيْكَ للسَّلْم. الْجُنُوحُ: الْمَيْلُ. قَالَ لَبيد بْنُ رَبِيعَةَ:
جُنوحُ الهالِكي عَلَى يَدَيْه ... مُكِبًّا يَجْتَلي نُقَبَ النِّصالِ1
وهذا البيت في قصيدة له والسَّلْم أَيْضًا: الصُّلْحُ، وفىِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] ، وَيُقْرَأُ: "إلَى السِّلْم"، وَهُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى. قَالَ زُهَير بْنُ أَبِي سُلْمى:
وَقَدْ قُلْتُمَا إنْ نُدْرِك السّلْمَ وَاسِعًا ... بمالٍ ومعروفٍ مِنْ القولِ نَسْلَم
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ البَصري، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} للإِسلام. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} ، [البقرة: 208] وَيُقْرَأُ "فِي السَّلم" وَهُوَ الِإسلام. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْت:
فَمَا أنابُوا لسَلْمٍ حِينَ تُنْذِرُهم ... رُسْلُ الإلهِ وَمَا كَانُوا لَهُ عَضُدا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ لدَلْو تُعمل مُسْتَطِيلَةً: السَّلْم. قَالَ طَرَفة بْنُ الْعَبْدِ أَحَدُ بَنِي قَيْس بْنِ ثَعْلبة، يَصِفُ ناقة له:
__________
1 الهالكي: الحداد والصيقل نسبه إلى أول من عمل الحدادة وهو الهالك بن أسد. ونقب النصال: جرب الحديد.(2/230)
لها مِرْفقانِ أفتلانِ كأنما ... تمرُّ بسَلمَي دالجٍ مُتشدد1
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} هُوَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} بَعْدَ الضَّعْفِ {وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} عَلَى الْهُدَى الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ إلَيْهِمْ {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بِدِينِهِ الَّذِي جمعهم عليه {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . [الأنفال: 62، 63] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 64، 65] : أَيْ لَا يُقَاتِلُونَ عَلَى نِيَّةٍ وَلَا حَقٍّ وَلَا مَعْرِفَةٍ بِخَيْرٍ وَلَا شَر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجيح عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَباح، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمُوا أَنْ يُقاتل عشرون مائتين، ومائة أَلْفًا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى، {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] قال: فكانوا عَلَى الشِّطر مِنْ عَدُوِّهِمْ لَمْ يَنْبَغِ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانُوا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ قِتَالُهُمْ، وَجَازَ لَهُمْ أَنْ يتحوزوا عنهم.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأُسَارَى، وَأَخْذِ الْمَغَانِمِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَأْكُلُ مَغْنَمًا مِنْ عَدُوٍّ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بِالرُّعْبِ، وجُعلت لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُعْطِيتُ جوامعَ الكلم، وأحلت لي الغنائمُ وَلَمْ تُحْلَل لِنَبِيٍّ كَانَ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، خَمْسٌ لَمْ يُؤْتَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} : أَيْ قَبْلَكَ {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} مِنْ عَدُوِّهِ {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} ، أَيْ يُثْخِنَ2 عَدُوَّهُ، حَتَّى يَنْفِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} : أَيْ الْمَتَاعَ، الْفِدَاءَ بِأَخْذِ الرِّجَالِ {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} : أَيْ قَتْلَهُمْ لِظُهُورِ الدِّينِ الَّذِي يُرِيدُ إظْهَارَهُ، وَاَلَّذِي تُدْرَكُ بِهِ الْآخِرَةُ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} : أي
__________
1 الدالج: الذي لحمل الدلو من البئر إلى الحوض ليفرغها فيه، فهو يمشي متمهلا.
2 الإثخان هنا: التضييق.(2/231)
من الأسارَى والمغانم، {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68] : أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنِّي لَا أعذِّب إلَّا بَعْدَ النَّهْيِ، وَلَمْ يَكُ نَهَاهُمْ، لَعَذَّبْتُكُمْ فِيمَا صَنَعْتُمْ، ثُمَّ أحلَّها لَهُ وَلَهُمْ رحمة منه، وعائدة من الرحمن الرحيم، {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69] ثُمَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70]
وَحَضَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّوَاصُلِ، وَجَعَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أهل ولاية الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكُفَّارَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] أي إلا يوال الْمُؤْمِنَ مِنْ دُونِ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ بِهِ: {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} أَيْ شُبْهَةٌ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَظُهُورِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَوَلِّي الْمُؤْمِنِ الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ.
ثُمَّ رَدَّ الْمَوَارِيثَ إلَى الْأَرْحَامِ مِمَّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْوَلَايَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَهُمْ إلَى الْأَرْحَامِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ بِالْمِيرَاثِ {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] .
من حضر بدرا من المسلمين:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصي بْنِ كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْر بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْر بْنِ كِنانة.
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، أَسَدُ اللَّهِ، وَأَسَدُ رَسُولِهِ، عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وزَيْد بْنِ حَارِثَةَ بْنِ شرَحْبيل بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْكَلْبِيُّ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَراحيل بْنِ كعب بن عبد العُزى بن امرئ القيس بْنِ عَامِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ عَوْف بْنِ كِنانة بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْف بْنِ عُذْرة بْنِ زَيْدِ اللَّهِ بْنِ رُفَيْدة بْنِ ثَوْر بْنِ كَعْبِ بْنِ وَبْرة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وأنسَة مَوْلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو كَبْشة مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أنَسة: حَبشي، وَأَبُو كبشة: فارسي.(2/232)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو مَرْثَد كَنَّاز بْنُ حِصْن بْنِ يَرْبُوعِ بنِ عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ خَرَشة بْنِ سَعْدِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ جِلاَّنَ بْنِ غنْم بْنِ غَني بْنِ يَعْصر بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْس بْنِ عَيْلان.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَنَّاز بْنُ حُصيْن.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَابْنُهُ مَرْثد بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، حَلِيفَا حَمزة بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وعُبيدة بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ. وَأَخَوَاهُ الطّفَيْل بْنُ الْحَارِثِ، والحُصَيْن بْنُ الْحَارِثِ ومِسْطَح، وَاسْمُهُ عَوْف بْنُ أثَاثة بْنِ عَبَّاد بْنِ الْمُطَّلِبِ. اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُثمان بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، تَخَلَّفَ عَلَى امْرَأَتِهِ رُقية بنت رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ، قَالَ: وأجْرِي يَا رَسُولَ الله، قال: "وأجْرُك"، وأبو حذيفة بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَسَالِمٌ، مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي حُذيفة: مِهْشَم.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَالِمٌ، سَائِبَةٌ لثُبَيتة بِنْتِ يَغار بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبيد بْنِ زَيْدِ بْنِ مالك بن عَوْف بن عَمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، سيَّبته فانقطع إلى أَبِي حُذَيْفَةَ فَتَبَنَّاهُ وَيُقَالُ: كَانَتْ ثُبيتة بِنْتُ يَعار تَحْتَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ، فَأَعْتَقَتْ سَالِمًا سَائِبَةً، فَقِيلَ: سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمُوا أَنَّ صُبيحًا مَوْلَى أبي العاص بن أمية بن عبد شمس تَجَهَّزَ لِلْخُرُوجِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرِضَ، فَحَمَلَ عَلَى بَعِيرِهِ أَبَا سَلمة بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ثُمَّ شَهد صُبيح بَعْدَ ذَلِكَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مع رسول صلى الله عليه وسلم.
وَشَهِدَ بَدْرًا مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيمة: عَبْدُ الله بن جحش بن رئاب بن يَعْمَر بن صَبْرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم بْنِ دُودان بْنِ أَسَدٍ، وعُكَّاشة بْنُ مِحْصن بْنِ حُرْثان بْنِ قَيْسِ بْنِ مُرَّةَ بن كبير بن غَنْم بن دودان بن أَسَدٍ وَشُجَاعُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أسد بن صُبَيْب بْنِ مَالِكِ بْنِ كَبير بْنِ غَنْم بْنِ دُودان بْنِ أَسَدِ، وَأَخُوهُ عُقبة بْنُ وَهْبٍ، ويزِيد بْنُ رُقَيْش بْنِ رِئاب بْنِ يَعْمَر بن صَبْرة بن مُرة بن كبير بن غنْم بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ، وَأَبُو سِنان بْنُ مِحْصَن بْنِ حُرْثان بْنِ قَيْسٍ، أَخُو عُكَّاشة بْنِ مِحْصَن، وَابْنُهُ سِنان بْنُ أَبِي سِنان ومُحْرِز بْنُ نَضْلة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بنمُرة بن كبير بن غَنْم بن دودان بن أَسَدٍ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ سَخْبَرة بْنِ عَمرو بْنِ لكَيْز بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنم بن دودان بن أسد.(2/233)
وَمِنْ حُلَفَاءِ بَنِي كَبِيرِ بْنِ غَنْم بْنِ دُودان بْنِ أَسَدٍ: ثَقْف بْنُ عَمْرٍو، وَأَخَوَاهُ: مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو ومُدْلج بْنُ عَمْرٍو.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِدْلاج بْنُ عَمْرٍو.
قَالَ ابْنُ إسحاق: وهم من بني حجْش، آلِ بَنِي سُلَيم. وَأَبُو مَخْشِيٍّ حَلِيفٌ لَهُمْ. سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو مَخْشِي طائي، واسمه: سُوَيْد بن مَخْشِي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عبد مناف: عُتبة بن غَزْوان بن جابر بْنِ وَهْبِ بْنِ نسَيب بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرمة بْنِ خَصَفَة بْنِ قَيْس بْنِ عَيْلان، وخَبَّاب، مولى عُتبة بن غَزْوان رجلان.
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيلد بْنِ أسَد، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتعة، وَسَعْدٌ مَوْلَى حَاطِبٍ. ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتعة، وَاسْمُ أَبِي بَلْتعة: عَمرو، لخمي، وسعد مولى حاطب، كلبي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: مُصْعَب بْنُ عُمَير بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وسُوَيبط بْنُ سَعْدِ بْنِ حُرَيْملة بْنِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْلة بْنِ السَّباق بْنِ عَبْدِ الدار بن قصي، رجلان.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْف بن عبد عَوْف بن عبد بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهرة، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -وَأَبُو وَقَّاصٍ مَالِكُ بْنُ أهَيْب بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرة- وَأَخُوهُ عُمَير بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ ثُمَامَةَ بْنِ مَطْرُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ زُهير بْنِ ثَوْر بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الشَّريد بْنِ هَزْل بْنِ قَائِشِ بْنِ دُرَيْم بْنِ القَّيْن بْنِ أهْود بْنِ بَهْراء بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضاعة -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: هَزْلُ بْنُ فَاسِ بن ذر- ودَهِير بن ثَوْر.
قال ابن إسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلة بْنِ كَاهل بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْل، وَمَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ حَمَالة بْنِ غَالِبِ بْنِ مُحَلِّم بْنِ عَائِذَةَ بْنِ سُبَيْع بن الهَوْن بن خُزَيمة، من القَارَة.(2/234)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: القَارَة: لَقَبٌ لَهُمْ. وَيُقَالُ:
قَدْ أنْصَفَ القَارَةَ مَنْ رَامَاهَا
وَكَانُوا رُماة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذُو الشِّمَالَيْنِ بْنُ عَبْدِ عَمرو بن نَضلة بن غُبْشان بن سُلَيم بْنِ مَلكان بْنِ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، مِنْ خُزاعة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: ذُو الشِّمَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْسَرَ، وَاسْمُهُ عُمَير. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وخَبَّاب بْنُ الْأَرَتِّ، ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: خَبَّاب بْنُ الْأَرَتِّ، مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَلَهُ عَقِب، وَهُمْ بِالْكُوفَةِ، وَيُقَالُ: خُبَّاب مِنْ خُزاعة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظة بن مُرة: أبو سَلَمة عَتيق بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْم. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اسْمُ أَبِي بَكْرٍ: عَبْدُ اللَّهِ، وعَتيق: لَقَبٌ، لحُسن وَجْهِهِ وَعِتْقِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبِلَالٌ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَبِلَالٌ مُوَلَّد مِنْ مُوَلَّدِي بَنِي جُمَح، اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ من أمية بن خلف، وهو بلال ابن رَباح، لَا عَقِب لَهُ، وَعَامِرُ بْنُ فهَيْرة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَامِرُ بْنُ فُهَيرة، مُوَلَّد مِنْ مُولدي الأسْد، أَسْوَدُ، اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وصُهَيْب بْنُ سِنان، من النَّمِر بن قاسط.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: النَّمِرُ بْنُ قَاسِطِ بْنِ هِنْب بن أفْصى بن جَديلة بن أسد بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ وَيُقَالُ: أَفْصَى بْنُ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ، وَيُقَالُ: صُهَيْبٌ، مَوْلَى. عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعان بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْم وَيُقَالُ: إنَّهُ رُومِيٌّ. فَقَالَ بَعْضُ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ: إنَّمَا كَانَ أَسِيرًا فِي الرُّومِ فاشتُرِيَ مِنْهُمْ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُهيب سابقُ الرُّومِ".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَطَلْحَةُ بْنُ عُبيد اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْم، كَانَ بِالشَّأْمِ، فَقَدِمَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ، فَكَلَّمَهُ. فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ فَقَالَ: وأجْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَأَجْرُكَ". خَمْسَةُ نفر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظة بْنِ مُرة: أَبُو سَلَمة بْنُ عَبْدِ الأسد. واسم(2/235)
أَبِي سَلمة: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بن هلال بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وشمَّاس بْنُ عُثْمَانَ بن الشَّريد بن سُوَيْد بن هَرْمي بن عامر بن مخزوم.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ شَمَّاس: عُثْمَانُ، وَإِنَّمَا سُمي شَمَّاسًا؛ لِأَنَّ شَماسًا مِنْ الشَّمامِسة قَدِم مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ جَميلًا، فَعَجِبَ، النَّاسُ مِنْ جَمَالِهِ. فَقَالَ عُتبة بْنُ رَبِيعَةَ وَكَانَ خَالَ شَمَّاسٍ: هَا أَنَا آتِيكُمْ بِشَمَّاسٍ أَحْسَنَ منه، فأتى بابن أخته عُثْمَانَ فسُمي شَماسًا، فِيمَا ذَكَرَ، ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: والأرْقم بْنُ أَبِي الأرْقم، وَاسْمُ أَبِي الأرْقم: عَبْدُ مَنَافِ بْنِ أَسَدٍ وَكَانَ أَسَدٌ يُكنى: أَبَا جُنْدب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَمَّارُ بن ياسر، عَنْسي، من مِذْحَج.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ومُعَتِّب بْنُ عَوْف بْنِ عَامِرِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَفيف بْنِ كُليب بن حُبْشِيَّة بن سَلُول بن كعب بن عَمْرٍو، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى: عَيْهامة. خمسة نفر.
وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ: عُمر بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْل بْنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ رباح بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْط بْنِ رَزَاح بْنِ عَدي، وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ. ومِهْجَع، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ الصفَّين يَوْمَ بَدْرٍ، رُمِي بِسَهْمٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِهْجع، مِنْ عَكّ بْنِ عَدْنَانَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَمْرُو بْنُ سُرَاقة بْنِ المعْتَمِر بْنِ أنَس بْنِ أَذَاةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْط بن رِياح بن رَزاح بن عَدي بْنِ كَعْبٍ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُراقة، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بن عُمر بْنِ ثَعْلَبَةَ بنِ يَرْبوع بْنِ حَنْظَلة بْنِ مالك بن زَيد مناة بن تميم، حليف لَهُمْ، وخوْلي بْنُ أَبِي خَوْلى، وَمَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلى، حَلِيفَانِ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو خَوْلي، مِنْ بَنِي عِجْلِ بْنِ لُجَيْم بْنِ صَعْب بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، مِنْ عِنْز بْنِ وَائِلٍ.
قال ابن هشام: عِنْز بن وائل بن قاسط بن هُنْب بن أفْصى بن جَديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، ويقال: أفْصى: بن دُعْمِي بْنِ جَدِيلَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَامِرُ بْنُ البُكَير بْنِ عَبْدِ يَالِيل بْنِ نَاشِبِ بن غِيرَة، من بني سعد بن ليْت، وَعَاقِلُ بْنُ البُكَيْر وَخَالِدُ بْنُ البُكَيْر، وَإِيَاسُ بْنُ البُكَيْر، حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وسعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفيل بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِرْط بنِ رياح بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَدِمَ مِنْ الشَّأْمِ بَعْدَ مَا قَدِم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ، فَكَلَّمَهُ، فَضَرَبَ لَهُ رسول(2/236)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ، قَالَ: وَأَجْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَأَجْرُكَ". أَرْبَعَةَ عشر رجلًا.
ومن بني جُمَح بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وَهْب بن حُذافة بن جُمَح، وابنه السَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَخَوَاهُ قُدامة بْنُ مَظعون، وعبد الله بن مَظْعون، ومَعْمَر بْنِ حَبيب بْنِ وهْب بْنِ حُذافة بْنِ جُمَح، خَمْسَةُ نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ خُنَيْسِ بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم. رجل.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لؤي، ثم من بني مالك بن حسل بْنِ عَامِرٍ: أَبُو سَبْرة بْنِ أَبِي رُهْم بن عبد العُزى بن أبي قيس بن عبد وُد بن نصر بن مالك بن حِسْل، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَخْرَمة بْنِ عَبْدِ العُزى بن قيْس بن عبد وُد بن نصر بن مَالِكٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُهَيل بْنِ عَمْرِو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْل -كَانَ خَرَجَ مَعَ أَبِيهِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ بَدْرًا فَرَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدَهَا مَعَهُ- وعُمَيْر بْنُ عَوْف، مَوْلَى سُهَيل بْنِ عَمْرٍو، وَسَعْدُ بْنُ خَوْلة، حَلِيفٌ لَهُمْ. خَمْسَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هشام: سعد بن خَوْلة من اليمن.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْر: أَبُو عُبيدة بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أهَيْب بْنِ ضَبَّة بْنِ الْحَارِثِ، وَعَمْرُو بن الحارث بن زُهَير بن أبي شداد بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أهَيْب بْنِ ضَبَّة بْنِ الْحَارِثِ، وسُهَيْل بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَبِي أهَيْب بْنِ ضَبَّة بْنِ الْحَارِثِ، وَأَخُوهُ صَفْوَانُ بْنُ وَهْب، وَهُمَا ابْنَا بَيْضَاءَ وعَمرو بْنُ أَبِي سَرْح بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أهَيْب بْنِ ضَبَّة بن الحارث. خمسة نفر.
فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَمَنْ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، غَيْرَ ابْنِ إسْحَاقَ، يَذْكُرُونَ فِي الْمُهَاجِرِينَ بِبَدْرٍ، فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: وَهْبَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْح، وَحَاطِبَ بْنَ عَمْرٍو. وَفِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: عِيَاضَ بْنَ زُهَيْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَشَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثم من(2/237)
الْأَنْصَارِ، ثُمَّ مِنْ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، ثُمَّ مِنْ بني عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمرو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ: سَعْدُ بْنُ مُعاذ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الأشْهل وعَمرو بْنُ مُعاذ بْنِ النُّعْمَانِ، وَالْحَارِثُ بْنُ أوْس بْنِ مُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ، وَالْحَارِثُ بْنِ أنس بن رافع بن امرئ القيس.
وَمِنْ بَنِي عُبَيْد بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ: سَعْدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عُبَيْد. وَمِنْ بَنِي زَعُورا بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: زُعُورا- سَلَمة بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقَش بْنِ زُغبة، وعَبَّاد بْنُ بِشر بْنِ وَقَش بْنِ زُغْبَةَ بْنِ زَعُورَا، وسَلَمة بْنُ ثَابِتِ بنِ وَقَش، وَرَافِعُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ كُرْز بْنِ سَكَن بْنِ زَعُورا، وَالْحَارِثُ بْنُ خَزْمَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أُبَيِّ بْنِ غَنْم بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْف بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي عَوْف بْنِ الْخَزْرَجِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمة بْنِ خَالِدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَجْدَعة بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وسَلَمة بْنُ أسْلم بن حَريش بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَجْدَعة بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَسْلَمُ: بْنُ حُرَيْس بن عَدِي قال ابن إسحاق: وأبو الهَيْثَم بْنُ التَّيهان، وعُبيد بْنُ التَّيهان.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَتِيكُ بْنُ التَّيهان.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْل. خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَبْدُ اللَّهِ بن سهل: أخو بني زَعُورا، ويقال: غَسَّان.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَنْ بَنِي ظَفَر، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَوَاد بْنِ كَعْبٍ، وَكَعْبٌ: هو ظَفَر. قال ابن هشام: ظَفَرِ: بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمرو بْنِ مَالِكِ بن الأوْس: قَتَادة بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ سوَاد، وعُبَيْد بْنُ أوْس بْنِ مالك بن سَوَاد. رجلان. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عُبَيْد بْنُ أوْس الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مُقَرِّن؛ لِأَنَّهُ قَرَن أربعةَ أَسْرَى فِي يَوْمِ بَدْرٍ. وَهُوَ الَّذِي أَسَرَ عَقيل بن أبي طالب يومئذ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ رِزَاح بْنِ كَعْبٍ: نَصْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْد، ومُعَتِّب بْنُ عَبْدٍ.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ، مِنْ بَلِيٍّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ، ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.(2/238)
وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ: مَسْعُودُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدي بْنِ جُشَم بْنِ مَجْدعة بْنِ حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مَسْعُودُ بْنُ عَبْدِ سَعْدٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو عَبْس بْنُ جَبْر بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَم بْنِ مَجْدعة بْنِ حَارِثَةَ.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ، ثُمَّ مِنْ بَلِيٍّ: أَبُو بُرْدَة بْنُ نِيَار، واِسمه: هَانئ بْنُ نيَار بن عمرو بن عُبَيْد بن كلاب بن دُهَمان بن غنْم بن ذُبْيان بن هُمَيْم بْنِ كَاهِلِ بْنِ ذُهْل بْنِ هَني بْنِ بَلي بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضاعة. ثلاثة نفر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَمْرو بْنِ عَوْف بْنِ مَالِكِ بْنِ الأوْس، ثُمَّ مِنْ بَنِي ضُبَيْعة بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْف بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْف: عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قَيْس. وَقَيْسُ أَبُو الأقْلح بْنُ عِصْمة بْنِ مَالِكِ بْنِ أمَة بْنِ ضُبَيْعة ومُعَتِّب بْنُ قُشَير بْنِ مُلَيْل بْنِ زَيْدِ بْنِ العَطَّافِ بْنِ ضُبَيْعة، وَأَبُو مُلَيْل بْنُ الأزْعَر بْنِ زَيْدِ بْنِ العَطَّاف بْنِ ضُبَيعة وعَمرو بْنُ مَعْبد بْنِ الأزْعَر بْنِ زَيْدِ بْنِ الْعَطَّافِ بْنِ ضُبَيْعة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عُمَير بْنُ مَعْبد.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبِ بْنِ الْعُكَيْمِ بْنِ ثعلبة بن مجدعة بن الحارث بن عَمْرٍو، وَعَمْرٌو الَّذِي يُقَالُ لَهُ: بَحْزَج بْنُ حَنَس بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. خمسة نفر.
وَمِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ: مُبَشِّر بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبر بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبر، وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْد بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ قَيْس بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ امية. وعُوَيْم بن ساعدة، ورافع ابن عُنْجدة -وعُنْجدة أُمُّهُ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وعُبَيْد بْنُ أَبِي عُبَيْد، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطب.
وَزَعَمُوا أَنَّ أَبَا لُبابة بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ: وَالْحَارِثَ بْنَ حَاطِبٍ خَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَّعَهُمَا، وأمَّر أَبَا لُبَابَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَ لَهُمَا بِسَهْمَيْنِ مَعَ أَصْحَابِ بَدْرٍ. تِسْعَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: رَدَّهُمَا: مِنْ الرَّوْحاء.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْد بْنِ أُمَيَّةَ وَاسْمُ أبي لبابة: بَشير.(2/239)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عُبيد بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ: أنَيْس بْنُ قَتَادة بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبيد.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَلِيٍّ: مَعْن بْنُ عَدِيِّ بن الجدّ بن العَجْلان بن ضُبَيْعة، ثابت بْنُ أقْرَم بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ العَجْلان، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمة بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ العَجْلان، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ العَجْلان ورَبْعي بن رَافِعِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الجَدِّ بْنِ الْعَجْلَانِ. وَخَرَجَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الجَد بْنِ العَجْلان، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ مَعَ أصحاب بدر1. سبعة نفر.
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْر بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ البُرك -وَاسْمُ البُرك: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ ثَعلبة- وَعَاصِمُ بْنُ قَيْسٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَاصِمُ بْنُ قَيْسٍ: ابْنُ ثَابِتِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو ضَيَّاح بْنُ ثَابِتِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَأَبُو حَنَّة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ أَخُو أَبِي ضَيَّاح، وَيُقَالُ: أَبُو حَبَّة. وَيُقَالُ لِامْرِئِ الْقَيْسِ: البُرك بْنُ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَسَالِمُ بْنُ عُمير بْنِ ثَابِتِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: ثابت: بن عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْحَارِثُ بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس بْنِ ثَعْلَبَةَ، وخَوَّات بْنُ جُبَيْر بْنِ النُّعْمَانِ، ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمٍ مَعَ أَصْحَابِ بَدْرٍ. سَبْعَةُ نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي جَحْجَبِي بْنِ كُلْفة بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمرو بْنِ عَوْفٍ: مُنْذِر بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبة بْنِ أحَيْحَة بْنِ الْجِلَاحِ بْنِ الحَريش بْنِ جَحْجَبِي بْنِ كُلْفَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: الحَريس بْنُ جَحْجَبي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي أنَيْف: أَبُو عَقيل بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلبة بْنِ بَيْحان
__________
1 ورده لأنه بلغه شيء عن أهل مسجد الضرار وكان قد استخلفه على قباء والعالية فرده لنظر في ذلك.(2/240)
بْنِ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أنيْف بْنِ جُشَم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْم بْنِ إرَاش بْنِ عَامِرِ بن عُمَيْلة بن قَسْمِيل بن فَرَان بن بَلِي بْنِ عَمْرِو بْنِ الحَاف بْنِ قُضاعة. رَجُلَانِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ تَميم بْنُ إرَاشة، وقِسْميل بن فَارَان.
قال ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي غنْم بْنِ السَّلْم بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الأوْس: سَعْدُ بْنُ خيْثمة بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ النحَّاط بْنِ كَعْبِ بْنِ حارثة بن غَتم، ومُنذر بْنُ قُدامة بْنِ عَرفجة وَمَالِكُ بْنُ قُدامة بْنِ عَرْفجة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَرْفَجَةُ: ابنُ كَعْبِ بْنِ النَّحَّاطِ بْنِ كَعب بْنِ حَارِثَةَ بْنِ غَنْم.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْحَارِثُ بْنُ عَرْفجة، وَتَمِيمٌ، مَوْلَى بَنِي غَنْم. خَمْسَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَمِيمٌ: مَوْلَى سَعْدِ بن خيثمة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ مالك بن عوف بن عمرو بن عوف: جَبْر بْنُ عَتيك بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ. بْنِ هَيْشة بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَمَالِكُ بْنُ نُميلة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ عَصَر، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِي: ثلاثة نفر.
فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْأَوْسِ مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، أحدٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَشَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مِنْ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنْ الْخَزْرَجِ بْنِ حارثة بن ثعلبة بن عَمرو بن عامر، ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلبة بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: خَارِجَةُ بْنُ زَيْد بْنِ أَبِي زُهَير بْنِ مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَسَعْدُ بْنُ رَبيع بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهير بْنِ مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحة بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وخَلاَّد بْنُ سُوَيْد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس. أربعة نفر.
وَمِنْ بَنِي زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: بَشير بْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خِلاس بْنِ زَيْدٍ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: جُلاس، وَهُوَ عِنْدَنَا خَطَأٌ- وَأَخُوهُ سِماك بْنُ سعد. رجلان.
وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: سُبيع بْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْشة بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ، وعَبَّاد بْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْشة، أخوه.(2/241)
قال ابن هشام: ويقال: قيس: بن عَبَسة بْنِ أُمَيَّةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَبْدُ الله بن عَبْس، ثلاثة نفر.
وَمِنْ بَنِي أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ، وَهُوَ الَّذِي يُقال لَهُ: ابْنُ فُسْحُم. رَجُلٌ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فُسْحُم أُمُّهُ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ القَيْن بْنِ جَسْر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي جُشم بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَزَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الخزرج، وهما التوءم: خُبَيْب بْنُ إسَافِ بْنِ عِتَبة بْنِ عَمرو بْنِ خَديج بْنِ عَامِرِ بْنِ جُشَم، وَعَبْدُ الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد رَبِّه بْنِ زَيْدٍ، وَأَخُوهُ حُرَيْث بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، زَعَمُوا، وسُفيان بْنُ بَشْرٍ. أَرْبَعَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سُفْيَانُ بْنُ نَسْر بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ زيد.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي جِدَارة بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: تَمِيمُ بْنُ يَعَارَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ جِدارة، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمير مِنْ بَنِي حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمير بْنِ عَدِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ جِدَارة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَيْدُ بْنُ المزَيَّن بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ جِدَارة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: زَيْدُ بْنُ المُريِّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْفطة بْنِ عَدِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ جِدَارَةَ، أربعة نفر.
وَمِنْ بَنِي الأبْجَر، وَهُمْ بَنُو خُدْرة، بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمرو بْنِ عباد بن الأبْجر، رجل. وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غنم بن عوف بنِ الخزرج وهو بنو الحُبلى -قال ابن هشام: الحُبلى: سالم بن غنْم بن عوف، وإنما سُمي الحُبلى، لِعِظَمِ بَطْنِهِ- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمَشْهُورُ بِابْنِ سَلُولَ، وَإِنَّمَا سَلُولُ امْرَأَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أُبَيٍّ: وأوْس بْنُ خَوْلي بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدٍ. رَجُلَانِ.
وَمِنْ بَنِي جَزْء بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْم: زَيْدُ بْنُ وَدِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْس بْنِ جَزْء، وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلَدَة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عُمر بن زيد(2/242)
بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن سَالِمِ بْنِ غَنْم، وَعَامِرُ بْنُ سَلَمة بْنِ عَامِرٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَمْرو بْنُ سَلَمة وَهُوَ مِنْ بَلِيٍّ، مِنْ قُضاعة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو حُمَيْضة مَعبد بْنُ عَبَّاد بْنِ قُشَيْر بن المقَدَّم بن سالم بن غَنْم.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مَعْبد بْنُ عُبَادَةَ بْنِ قَشْغَر بْنِ المقدَّم، وَيُقَالُ: عُبادة بْنُ قَيْس بن المقَدَّم.
قال ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَامِرُ بْنُ البُكَيْر، حَلِيفٌ لَهُمْ، سِتَّةُ. نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَامِرُ بْنُ العُكَيْر، ويقال: عاصم بن البُكَيْر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي سالمِ بْنِ عَوْف بْنِ عَمْرِو بْنِ الخَزْرج، ثُمَّ مِنْ بَنِي العَجْلان بْنِ زَيْدِ بْنِ غنْم بْنِ سالم: نَوْفل بن عبد الله ابن نَضْلة بن مالك بن العَجلان. رجل.
وَمِنْ بَنِي أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا غَنْمُ بْنُ عَوْفٍ، أَخُو سَالِمِ بْنِ عَوْف بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَغَنْمُ بْنُ سَالِمٍ، الَّذِي قَبْلَهُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ- عُبادة بْنُ الصَّامِتِ بْنِ قَيْس بْنِ أَصْرَمَ، وَأَخُوهُ أوْس بن الصامت، رجلان.
وَمِنْ بَنِي دَعْد بْنِ فِهر بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْم: النُّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ دَعْد، وَالنُّعْمَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ. قَوْقل. رَجُلٌ.
وَمِنْ بَنِي قُرْيوش بْنِ غَنْم بنِ أُمَيَّةَ بْنِ لَوْذان بْنِ سَالِمٍ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ قرْيوس بْنُ غنْم- ثَابِتُ بْنُ هَزّال بن عمرو بن قُرْيوش، ر جل.
وَمِنْ بَنِي مَرْضَخة بْنِ غَنْم بْنِ سَالِمٍ: مَالِكُ بْنُ الدُّخْشم بْنِ مَرْضَخة، رَجُلٌ.
قَالَ ابن هشام: مالك بن الدُّخشم: بن مالك بن الدخشم بن مَرْضَخة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي لَوْذان بْنِ سَالِمٍ: رَبِيعُ بْنُ إيَاسِ بْنِ عَمْرو بْنِ غَنْم بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ لَوْذان، وَأَخُوهُ وَرَقَةُ بْنُ إيَاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ إيَاسٍ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هشام: ويقال: عمرو بن إياس، أخو ربيعة وَوَرَقَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَلي، ثُمَّ مِنْ بَنِي غُصَيْنة -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: غُصَينة: أُمُّهُمْ، وَأَبُوهُمْ عَمْرُو بْنُ عِمَارَةَ- المجذَّرَ بْنُ ذِيَادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زُمْزمة بن عمر بْنِ عِمَارَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غُصَيْنة بْنِ عَمْرِو بْنِ بُتَيرة بْنِ مَشْنُوّ بْنِ قَسْر بْنِ تَيْم بْنِ إرَاش بْنِ عَامِرِ بْنِ عُمَيلة بن قِسْمِيل بِن فَرَان بن بلي بْنِ عَمرو بْنِ الحَاف بْنِ قُضاعة.(2/243)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: قَسْر بْنُ تَمِيمِ بْنِ إرَاشة، وقِسْميل بْنُ فَارَان. وَاسْمُ الْمُجَذَّرِ عَبْدُ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وعُبادة بْنُ الخَشْخاش بْنِ عَمْرِو بْنِ زُمْزُمَة، ونَحَّاب بْنُ ثَعلبة بْنِ حَزمة بْنِ أصْرم بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمَارَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ بحَّاث بْنُ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَزَمة بْنِ أَصْرَمَ. وَزَعَمُوا أَنَّ عُتبة بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ -حَلِيفٌ لَهُمْ- مِنْ بَهْرَاءَ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، خَمْسَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عُتْبَةَ بن بَهْز، من بني سليم.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الخزرجِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ: أَبُو دُجانة، سَمَّاك بْنُ خرَشة. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو دُجَانَةَ: سِماك بْنُ أَوْسِ بْنِ خَرَشة بْنِ لَوْذان بن عبد وُدّ بن زيد بن ثعلبة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: والمنذِر بْنُ عَمْرِو بْنِ خُنَيْس بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذان بْنِ عَبْدِ وُدّ بن زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. رَجُلَانِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ويقال: المنذر: ابن عمرو بن خَنْبَش. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي البَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ: أَبُو أسَيد مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ البَدِي، وَمَالِكُ بْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ إلَى البَدِي. رَجُلَانِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مَالِكُ بْنُ مَسْعُودٍ: ابْنُ البَدِي، فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي طَريف بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ: عبدُ رَبِّهِ بْنِ حَقِّ بْنِ أوْس بْنِ وَقش بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ طَرِيفٍ. رَجُلٌ.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ، مِنْ جُهينة: كعبُ بْنُ حِمار بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: كَعْبٌ: ابْنُ جَمَّاز، وَهُوَ مِنْ غُبْشَان.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وضَمْرة وَزِيَادٌ وبَسْبس، بَنُو عَمْرٍو.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ضَمْرة وَزِيَادٌ، ابْنَا بِشْر.
قَالَ ابْنُ إسحاق: وعبد الله بن عامر، بن بَلِى. خمسة نفر.(2/244)
وَمِنْ بَنِي جُشَم بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كعب بن غنم بن كعب بن سلمة: خِرَاشُ بْنُ الصِّمَّة بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَموح بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، والحُبَاب بْنُ المنذِر بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْد بْنِ حَرَامٍ وعُمَير بن الحُمام بن الجموح بن زيد بن حَرَامٍ وَتَمِيمٌ مَوْلَى خِرَاشِ بْنِ الصِّمَّة، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامٍ، ومعُاذ بْنُ عَمْرِو بْنِ الجَموح ومُعوذ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ، وخَلاَّد بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ وعُقبة بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَحَبِيبُ بْنُ أسْوَد، مَوْلَى لَهُمْ، وَثَابِتُ بْنُ ثَعْلبة بن زيد بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَرَامٍ. اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا.
قال ابن هشام: وكل ما كان ههنا الجَموح، فَهُوَ الجَموح بْنُ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ جَدِّ الصِّمَّة بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ الْجَمُوحُ بْنُ حَرَامٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عُمَير بْنُ الْحَارِثِ: ابْنُ لَبْدَة بْنِ ثعلبة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عُبَيْد بْنِ عَدي بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة، ثُمَّ مِنْ بَنِي خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ: بِشر بْنُ البَرَّاء بْنِ مَعْرُور بْنِ صَخْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خَنْساء، والطُّفَيْل بْنُ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ، والطُّفيل بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَسِنَانُ بْنُ صَيْفي بْنِ صَخر بْنِ خَنْساء، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الجَدِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وعُتبة بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وجَبَّار بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ، وَخَارِجَةُ بْنُ حُمَيِّر، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيِّر، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ أَشْجَعَ، مِنْ بَنِي دُهْمان. تِسْعَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: جَبَّار: بْنُ صَخْر بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خُنَاس. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي خُنَاس بْنِ سِنان بْنِ عُبيد: يَزِيدُ بْنُ المنذِر بْنِ سَرْح بْنِ خُنَاس، ومِعْقل بن المنذر بن سرح بن خُناس، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَلْدُمَة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: بُلْذُمَة وبُلْدُمَة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: والضَّحَّاك بْنُ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلبة بْنِ عُبَيْد بْنِ عَدِي، وسَوَاد بْنُ زُرَيق بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْد بْنِ عَدِيٍّ.
قال ابن هشام: ويقال: سَوَاد: بن رِزْن بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ومَعْبد بْنُ قَيْس بْنِ صَخْرِ بْنِ حَرام بن ربيعة بن عَدي بن غَنْم بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمة. وَيُقَالُ: مَعْبَدُ بْنُ قَيْس: ابْنُ صَيْفي بْنِ صخْر بْنِ حَرَامِ بن رَبِيعَةَ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وعبدُ اللَّهِ بْنُ قَيْس بْنِ صَخْر بْنِ حَرام بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْم. سبعة نفر.
وَمِنْ بَنِي النُّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبيد: عبدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ النُّعْمَانِ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ(2/245)
بْنِ رِئاب بْنِ النُّعْمَانِ، وخُلَيْدة بْنُ قَيْس بْنِ النُّعْمَانِ. والنُّعمان بْنُ سِنان، مَوْلَى لَهُمْ. أربعة نفر. وَمِنْ بَنِي سَوَاد بْنِ غَنْم بْنِ كَعْب بْنِ سَلِمَةَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي حَديدة بْنِ عمرو بن غَنْم بن سواد -قال ابن هِشَامٍ: عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ، لَيْسَ لسَوَاد ابْنٌ يُقَالُ لَهُ غَنْمٌ-: أَبُو الْمُنْذِرِ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَديدة، وسُلَيم بْنُ عَمْرِو بْنِ حَدِيدَةَ وقُطبة بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ وَعَنْتَرَةُ مَوْلَى سُلَيم بْنِ عَمْرٍو. أَرْبَعَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَنْتَرَةُ، مِنْ بَنِي سُلَيم بن منصور، ثم من بني ذَكْوان.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ نابي بن عَمرو بن سَوَاد بن غَنْم: عَبْس بْنُ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمة بنِ عَدِيٍّ، وَأَبُو اليَسَر، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّاد بْنِ عَمْرِو بْنِ غنْم بْنِ سَوَادٍ، وسَهْل بْنُ قَيْس بْنِ أبي بن كَعْبِ بْنِ القَيْن بْنِ كَعْبِ بْنِ سَوَاد، وعمرو بن طَلْق ببن زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ سِنَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْم، ومُعاذ بْنُ جَبَلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أوْس بْنِ عَائِذِ بْنِ عَدي بْنِ كَعْبِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أُدَيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أسَد بْنِ سارِدة بْنِ تَزيد بْنِ جُشَم بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمرو بْنِ عَامِرٍ. سِتَّةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أوْس: ابْنُ عبَّاد بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدَيِّ بْنِ سَعْدٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِنَّمَا نَسب ابْنُ إسْحَاقَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فِي بَنِي سَوَاد، وليس منهم؛ لأنه فيهم.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاَلَّذِينَ كَسَرُوا آلِهَةَ بَنِي سَلمة: مُعاذ بْنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنمة وَهُمْ فِي بَنِي سواد بن غَنْم.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي زُرَيق بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مالك بن غضب بن جُشَم بن الخزرج، ثُمَّ مِنْ بَنِي مُخَلَّد بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَامِرٌ: ابْنُ الأزْرق- قَيْس بْنُ مُحْصِنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلَّدٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: قَيْسٌ: ابْنُ حِصْنٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو خَالِدٍ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ قَيْس بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلَّد، وجُبَير بْنُ إيَاسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلَّد، وَأَبُو عُبادة، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَلَدَة بْنِ مُخَلَّد، وَأَخُوهُ عُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنُ خَلَدة بْنِ مُخلَّد، وذَكْوان بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلَدة بْنِ مُخَلَّد وَمَسْعُودُ بْنُ عامر بن خَلَدة بن مُخَلَّد. سبعة نفر.
وَمِنْ بَنِي خَالِدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيق: عَبَّاد بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ خَالِدٍ. رجل.
وَمِنْ بَنِي خَالِدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيق: أَسَعْدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الفاكِه بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلَدة، والفاكِه بْنُ بِشر بْنِ الْفَاكِهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلَدة.(2/246)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بُسْر بْنُ الْفَاكِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ومُعاذ بْنُ ماعِص بْنِ قَيْس بْنِ خَلَدة، وَأَخُوهُ: عَائِذُ بْنُ ماعِص بْنِ قَيْسِ بْنِ خَلَدة، وَمَسْعُودُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قيس بن خَلَدة. خمسة نفر.
وَمِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بن زُرَيق: رفاعة بْنِ الْعَجْلَانِ وَأَخُوهُ خَلاد بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ العَجْلان، وعُبيد بْنُ زَيْدِ بْنِ عامر بن العَجلان. ثلاثة نفر.
ومن بني بَياضة بن عامر بن زُرَيق: زِيَادُ بنِ لَبيد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سِنان بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أميَّة بْنِ بَياضة، وفرْوة بْنُ عَمْرِو بْنِ وَذْفة بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ.
قَالَ ابْنُ هشام: ويقال: وَدْفَة.
قال ابن إسحاق: وخالد بن قَيْس بن مالك بن العَجْلان بن عَامِرِ بْنِ بَياضة ورُجَيْلة بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ ثَعْلبة بْنِ عَامِرِ بْنِ بَياضة.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: رُخَيْلة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وعَطية بْنُ نُوَيْرة بْنِ عَامِرِ بْنِ عطية بْنِ بَياضة، وَخُلَيْفَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرة بْنِ بَيَاضَةَ. سِتَّةُ نَفَرٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عُلَيفة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي حَبيب بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَم بْنِ الْخَزْرَجِ: رَافِعُ بْنُ المعَلَّى بْنِ لَوْذان بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ حَبِيبٍ رجل.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَهُوَ تَيْم اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي غَنْم بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ غَنْمٍ: أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. رَجُلٌ.
وَمِنْ بَنِي عُسَيْرة بْنِ عَبْدِ عَوْف بْنِ غَنْم: ثَابِتُ بْنُ خَالِدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ عُسَيْرَةَ. رَجُلٌ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ويقال: عُسَيْر، وعُشَيْرة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف بْنِ غَنْم: عُمارة بْنُ حَزْم بنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذان بْنِ عَمرو، وسُراقة بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ العُزى بْنِ غزِيَّة بْنِ عمرو. رجلان.(2/247)
وَمِنْ بَنِي عُبَيْد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْم: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبَيْد، وسُلَيم بْنُ قَيْسِ بْنِ قَهْد: وَاسْمُ قَهْد: خَالِدُ بْنُ قَيس بْنِ عُبيد. رَجُلَانِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: ابْنُ نَفْع بن زيد.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَائِذِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ -وَيُقَالُ عَابِدٌ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ-: سُهَيْل بْنُ رَافِعِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عَائذ، وعَدِي بْنُ الزَّغْباء، حَلِيفٌ لهم من جُهَينة. رجلان.
وَمِنْ بَنِي زَيْدِ بْنِ ثَعلبة بْنِ غَنْم: مَسْعُودُ بْنُ أوْس بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو خُزَيْمة بن أوس بن زيد بن أصْرَم بن زَيْدِ، وَرَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سَوَاد بْنِ زيد. ثلانة نفر.
وَمِنْ بَنِي سَوَاد بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمٍ: عَوْف، ومُعَوّذ، ومُعاذ، بَنُو الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بن سَوَاد، وهم بنو عَفْراء.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَفْرَاءُ بِنْتُ عُبيد بْنِ ثَعْلبة بْنِ غَنْم بْنِ مَالِكِ بْنِ النجار، ويقال: رِفاعة: بن الْحَارِثِ بْنِ سَوَادٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالنُّعْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رِفاعة بْنِ سَوَاد، وَيُقَالُ: نُعَيْمان فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَامِرُ بْنُ مُخلد بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَوَاد، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْس بْنِ خَالِدِ بْنِ خَلَّدة بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَوَاد، وعُصَيْمة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أشْجَع، ووَديعة بْنُ عَمرو، حليف مِنْ جُهَينة، وَثَابِتُ بْنُ عَمْرو بْنِ زَيْدِ بن عَدِي بن سَوَاد. وزعموا أَنَّ أَبَا الْحَمْرَاءِ، مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ عَفْرَاءَ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا. عَشَرَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو الْحَمْرَاءِ، مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ -وَعَامِرٌ: مَبْذُولٌ- ثُمَّ مِنْ بَنِي عَتيك بْنِ عَمْرِو بْنِ مَبْذول: ثَعْلَبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مِحْصَن بْنِ عَمرو بْنِ عَتيك، وسَهْل بْنُ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَتيك، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّة بْنِ عَمْرِو بْنِ عَتيك، كُسر بِهِ بِالرَّوْحَاءِ فَضَرَبَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. ثلاثة نفر.
وَمِنْ بَنِي عَمرو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ -وَهُمْ بَنُو حُدَيْلة- ثُمَّ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حُدَيلة بِنْتُ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْب بْنِ جُشَم بْنِ الْخَزْرَجِ، وَهِيَ أُمُّ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَبَنُو مُعَاوِيَةَ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهَا.(2/248)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْس، وَأَنَسُ بْنُ معُاذ بْنِ أَنَسِ بْنِ قيس. رجلان. وَمِنْ بَنِي عَدي بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُمْ بَنُو مَغَالة بِنْتِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ مَناة بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيمة، وَيُقَالُ: إنَّهَا مِنْ بَنِي زُرَيْق، وَهِيَ أُمُّ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَبَنُو عَدِيٍّ يُنْسَبُونَ إلَيْهَا
أوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنذر بْنِ حَرام بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَناة بْنِ عَدي، وَأَبُو شَيْخِ أُبَيِّ بن ثابت بن المنذِر بن حرام بن عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَناة بْنِ عَدِيٍّ.
قَالَ ابن هشام: أبو شيخ بن أبَيُّ بْنِ ثَابِتٍ، أَخُو حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو طَلْحَةَ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْل بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرام بْنِ عَمرو بن زيد بن عدي. ثلاثة نفر.
وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ النَّجَّارِ: حَارِثَةُ بْنُ سُراقة بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرٍ، وعُمرو بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ وَهْب بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ أَبُو حَكيم، وسَليط بْنُ قَيْس بْنِ عَمْرِو بْنِ عَتِيكِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو سَليط، وَهُوَ أسَيْرة بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو أَبُو خَارِجَةَ بْنِ قَيْس بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرٍ، وَثَابِتُ بْنُ خَنساء بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرٍ، وَعَامِرُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ الحَسْحَاس بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدي بْنِ عَامِرٍ، ومُحْرِز بْنُ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرٍ، وسَوَاد بْنُ غَزِيّة بْنِ أهَيْب، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِي. ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابن هشام: ويقال: سَوَّاد.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي حَرَام بْنِ خنْدب بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْم بْنِ عَدي بْنِ النَّجَّارِ: أَبُو زَيْدٍ قَيْس بْنُ سَكَن بْنِ قَيْس بْنِ زَعُوراء بْنِ حَرَامٍ، وَأَبُو الأعْور بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمِ بْنِ عَبْس بْنِ حَرَامٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَبُو الْأَعْوَرِ: الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وسُلَيْم بْنُ مِلْحان، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحان -وَاسْمُ مِلْحَانَ: مَالِكُ بْنُ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ. أربعة نفر.(2/249)
وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَوْف بْنِ مَبْذول بْنِ عَمرو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ: قَيس بْنُ أَبِي صَعْصعة، وَاسْمُ أَبِي صَعْصعة: عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَمرو بْنِ عَوْف وعُصَيْمة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيمة. ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي خَنْسَاءَ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَازِنٍ: أَبُو دَاوُدَ عُمَيْر بْنُ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خَنْساء، وسُراقة بْنُ عَمْرِو بن عَطِية بن خَنْساء. رجلان.
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبة بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ: قَيْس بْنُ مُخَلَّد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَخْر بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. رَجُلٌ.
وَمِنْ بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ بن دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ: النُّعمان بْنُ عبدِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ، والضحَّاك بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ، وسُلَيم بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارٍ، وَهُوَ أَخُو الضَّحَّاكِ، وَالنُّعْمَانُ ابْنَيْ عَبْدِ عَمْرٍو، لِأُمِّهِمَا، وَجَابِرُ بن خالد بن عبد الأشهل بن حَارِثَةَ، وَسَعْدُ بْنُ سُهَيْل بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ. خَمْسَةُ نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي قَيس بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ: كَعْبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ وبُجَيْر بْنُ أَبِي بُجَيْر، حَلِيفٌ لَهُمْ. رَجُلَانِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بُجَير: مِنْ عَبْس بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْث بْنِ غَطَفان، ثُمَّ مِنْ بَنِي جَذيمة بْنِ رَوَاحة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْخَزْرَجِ مِئَةٌ وَسَبْعُونَ رجلًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ في الخزرج ببدر، في بَنِي العَجْلان بْنِ زَيْدِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سالم بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عِتْبان بْنُ مَالِكِ بْنِ عَمرو بْنِ العَجْلان، ومُلَيْل بْنُ وَبَرة بْنِ خَالِدِ بْنِ العَجْلان، وعِصْمة بْنَ الحُصَيْن بْنِ وَبَرة بْنِ خَالِدِ بْنِ العَجْلان.
وَفِي بَنِي حَبيب بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بن مالك بن غَضب بن جُشم بن الْخَزْرَجِ، وَهُمْ فِي بَنِي زُرَيق هِلَالِ بْنِ المعَلَّى بْنِ لَوْذان بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَدِي بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلبة بْنِ مَالِكِ بْنِ زيد مناة بن حبيب.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ شَهِدَهَا منهم، ومن ضُرب له بسهمه وأجره، ثلاثمائة رَجُلٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا، وَمِنْ الْأَوْسِ وَاحِدٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلًا.(2/250)
من استُشهد من المسلمين يوم بدر:
وَاسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُبيدة بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، قَتَلَهُ عُتبة بْنُ رَبِيعَةَ، قَطَعَ رِجْلَهُ، فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ. رَجُلٌ.
وَمِنْ بَنِي زُهرة بْنِ كِلَابٍ: عُمير بْنُ أَبِي وَقَّاصِ بْنِ أهَيْب بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهرة، وَهُوَ أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، وَذُو الشِّمالين بن عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَضْلة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ خزاعة ثم من بني غُبْشان. رجلان.
وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَي: عَاقِلُ بْنُ البُكَيْر. حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَناة بْنِ كِنَانَةَ، ومِهْجَع، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الخطاب. رجلان.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهر: صَفْوَانُ بْنُ بَيْضاء رجل. ستة نَفَرٍ.
مِنَ الْأَنْصَارِ: وَمِنْ الْأَنْصَارِ: ثُمَّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: سَعْدُ بْنُ خَيْثمة، ومُبَشَّر بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنبر. رَجُلَانِ.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ. ابْنُ فُسْحُمْ. رجل.
ومن بني سَلمة، ثم من بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة: عُمَيْر بن الحُمام. رجل.
وَمِنْ بَنِي حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشم: رَافِعُ بْنُ المعلَّى. رجل.
وَمِنْ بَنِي النَّجَّارِ: حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الحارث. رجل.
ومن بني غَنْم بن مالك بن النجار: عَوْف ومُعَوذ، ابْنَا الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادٍ، وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ. رَجُلَانِ. ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ.
من قُتل ببدر من المشركين:
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قُريش، ثم من بني عبد شس بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: حَنْظَلة بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بن حرب بن أمية بن عبد شمس، قَتَلَهُ زيدُ بْنُ حَارِثَةَ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، وَيُقَالُ: اشْتَرَكَ فِيهِ حَمزة وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْحَارِثُ بْنُ الحَضْرمي، وَعَامِرُ بْنُ الحَضْرمي حَلِيفَانِ لَهُمْ، قَتَلَ عَامِرًا:(2/251)
عَمَّار بْنُ يَاسِرٍ، وَقَتَلَ الحارثَ: النعمانُ بْنُ عَصْرٍ، حَلِيفٌ لِلْأَوْسِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ. وعُمَير بْنُ أَبِي عُمير، وَابْنُهُ: مَوْلَيَانِ لَهُمْ. قَتَلَ عُمير بْنَ أَبِي عُمَيْرٍ: سالمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وعُبيدة بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، قَتَلَهُ الزبيرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَالْعَاصِ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيط بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأقْلح، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، صَبْرًا1.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ ابن إسحاق:.وعتبة بن ربيعة عَبْدِ شَمْسٍ، قَتَلَهُ عُبيدة بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اشْتَرَكَ فِيهِ هُوَ وَحَمْزَةُ وعلىٌّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وشَيْبة بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، قَتَلَهُ حمزةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي أَنْمَارِ بْنِ بَغيض، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: اثنا عشر رجلًا.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفل، قَتَلَهُ -فِيمَا يَذْكُرُونَ- خَبيبُ بنِ أبي إسَافٍ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وطُعَيْمة بْنُ عَدِيِّ بْنِ نوْفل، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَيُقَالُ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. رجلان.
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ قُصَيٍّ: زَمَعَة بْنُ الأسْوَد بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَتَلَهُ ثابتُ بْنُ الجِذْع، أَخُو بَنِي حَرَامٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
وَيُقَالُ: اشْتَرَكَ فِيهِ حمزةُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَثَابِتٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْحَارِثُ بْنُ زَمَعة، قَتَلَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ -فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وَعُقَيْلُ بْنُ الأسْود بْنِ الْمُطَّلِبِ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ، اشْتَرَكَا فِيهِ -فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وَأَبُو البَخْتَري، وَهُوَ الْعَاصِ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، قَتَلَهُ المجَذَّر بنِ ذِيَادٍ البَلَوِي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أبو البَخْتري: العاص بن هاشم.
__________
1 قتل صبرا: شدت يداه ورجلاه، أو أمسك به أحد ليقتل.(2/252)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ونَوْفَل بْنُ خُوَيلد بْنِ أسد، وهو ابن العَدَوية، عدي بن خُزاعة، وَهُوَ الَّذِي قَرَنَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، وطلحةَ بْنَ عُبيد اللَّهِ حِينَ أَسْلَمَا فِي حَبْلٍ، فَكَانَا يُسميان: الْقَرِينَيْنِ لِذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. خمسة نفر.
ومن بني عبد الدار بن قُصَي: النضرُ بن الحارث بن كَلَدة بن عَلْقمة بن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَبْرًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفْرَاءِ، فِيمَا يَذْكُرُونَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بِالْأُثَيْلِ1. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقمة بْنِ كَلَدَة بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَيْدُ بْنُ مُلَيص مَوْلَى عُمَير بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ. رَجُلَانِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَتَلَ زيدَ بْنَ مُلَيْص بلالُ بنُ رَباح، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَزَيْدٌ حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ، مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَيُقَالُ: قتله المِقْداد بْنِ عَمْرٍو.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي تَيْم بْنِ مُرَّةَ: عُمَير بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَتَلَهُ عليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَيُقَالُ: عبدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعُثْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عُبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب، قتله صُهَيْب بن سِنان: رجلان.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظة بْنِ مُرَّة: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ -وَاسْمُهُ عَمرو بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو بْنِ مَخْزُومٍ- ضَرَبَهُ مُعاذ بْنُ عَمْرِو بْنِ الجَموح، فَقَطَعَ رِجْلَهُ، وَضَرَبَ ابْنُهُ عِكْرمة يَدَ مُعَاذٍ فَطَرَحَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ مُعَوّذ بْنُ عَفْرَاءَ حَتَّى أَثْبَتَهُ2، ثُمَّ تَرَكَهُ وَبِهِ رَمَق. ثُمَّ ذَفَّفَ عَلَيْهِ3 عبدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَاحْتَزَّ رأسَه، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى، وَالْعَاصِ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمر بْنِ مَخْزُومٍ، قَتَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَلِيفٌ لهم من بني تميم.
__________
1 الأثيل: موضع قريب من المدينة.
2 أثبته: جرحه جراحة بالغة لا يقوم معها.
3 ذفف عليه: أسرع قتله.(2/253)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَمْرو بْنِ تَمِيمٍ، وَكَانَ شُجاعًا، قَتَلَهُ عمَّار بْنُ يَاسِرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو مُسَافِعٍ الْأَشْعَرِيُّ، حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ أَبُو دُجانة السَّاعِدِيُّ -فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وحَرْملة بْنُ عَمْرٍو، حَلِيفٌ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَتَلَهُ خَارِجَةُ بْنُ زَيْد بن أبي زهير، أخو بَلْحارث بْنِ الْخَزْرَجِ، وَيُقَالُ: بَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وَحَرْمَلَةُ، مِنْ الْأَسَدِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَسْعُودُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وَأَبُو قَيْس بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو قَيْس بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ المُغيرة، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَيُقَالُ: قَتَلَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ورِفاعة بْنُ أَبِي رِفاعة بْنِ عَابِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمر بْنِ مَخْزُومٍ، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، أَخُو بَلْحارث بْنِ الْخَزْرَجِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: والمنذِر بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ بْنِ عَابِدٍ قَتَلَهُ مَعْن بْنُ عَدِيِّ بْنِ الجَدّ بْنِ العَجْلان حَلِيفُ بَنِي عُبيد بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِيمَا قَالَ ابن هشام، وعبد الله بن المنذِر ابن أَبِي رِفَاعَةَ بْنِ عَابِدٍ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ بْنِ عَابِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: السَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ شَرِيكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَ الشريكُ السائبُ لَا يُشاري وَلَا يُماري" وَكَانَ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ -فِيمَا بَلَغَنَا- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابنُ شهاب الزهري عن عبيد الله بن عُتبة، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّائِبَ بْنَ أَبِي السَّائِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمر بْنِ مَخْزُومٍ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَعْطَاهُ يَوْمَ الجِعِرَّانة مِنْ غَنَائِمِ حُنين.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ: أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ.(2/254)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الأسَد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بْنِ مَخْزُومٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وحاجب بن السائب بن عُوَيْمر بن عمر بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزوم -قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَائِذٌ: ابْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَيُقَالُ: حَاجِزُ بْنُ السَّائِبِ- وَاَلَّذِي قَتَلَ حاجبَ بْنَ السَّائِبِ: عَلي بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وعُوَيْمر بْنُ السَّائِبِ بْنِ عُوَيْمر، قَتَلَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ القَوْقَلي مُبَارَزَةً، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وعَمْرو بْنُ سُفيان، وَجَابِرُ بْنُ سُفيان، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ طَيِّئٍ، قَتَلَ عَمرًا يزيدُ بْنُ رُقَيش، وَقَتَلَ جَابِرًا: أَبُو بُرْدَة بْنُ نَيَّار فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابن إسحاق: سبعة عَشَرَ رَجُلًا.
وَمِنْ بَنِي سَهْم بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ: مُنَبِّه بن الحجاج بن عامر بن حُذيفة بن سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، قَتَلَهُ أَبُو اليَسَر، أَخُو بَنِي سَلِمة، وَابْنُهُ الْعَاصِ بْنُ مُنَبِّه بْنِ الْحَجَّاجِ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ. ونبَيْه بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرٍ قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ اشْتَرَكَا فِيهِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الْعَاصِ بْنُ قَيْس بْنِ عَدِي بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَاصِمُ بْنُ عَوْف بْنِ ضُبَيْرة بْنِ سعيد بْنِ سَهْم، قَتَلَهُ أَبُو اليَسَر، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: خَمْسَةُ نَفَرٍ.
ومن بني جُمح بن عمرو بن هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفِ بن وهب بْنِ جُمَح، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بني مازن.
قال ابن هشام: بَلْ قَتَلَهُ مُعاذ بْنُ عَفْرَاءَ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وخَبيب بْنُ إسَافٍ، اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَابْنُهُ عَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلف، قَتَلَهُ عَمَّار بْنُ يَاسِرٍ، وأوْس بْنُ مِعْير بْنِ لَوْذَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ جُمَح، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، وَيُقَالُ: قَتَلَهُ الحُصَيْن بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعون، اشْتَرَكَا فِيهِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ. قَالَ ابْنُ إسحاق: ثلاثة نفر.
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: مُعَاوِيَةُ بْنُ عَامِرٍ،.حَليف لَهُمْ مِنْ عَبْدِ القَيْس، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَيُقَالُ: قَتَلَهُ عُكَّاشة بْنُ مِحْصَن، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.(2/255)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ومَعْبد بْنُ وَهْبٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي كَلْب بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْث، قَتَلَ مَعْبَدًا خَالِدٌ وَإِيَاسُ ابْنَا البُكَير، وَيُقَالُ: أَبُو دُجانة، فيما قال ابن هشام. رجلان.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَجَمِيعُ مَنْ أُحْصِيَ لَنَا مِنْ قَتْلى قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ. خَمْسُونَ رَجُلًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبيدة، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، وَالْأَسْرَى كَذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ المسيَّب، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] بقوله لِأَصْحَابِ أُحُدٍ -وَكَانَ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا- يَقُولُ: قَدْ أَصَبْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مثلَيْ مَنْ استُشهد مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، سَبْعِينَ قَتِيلًا وَسَبْعِينَ أَسِيرًا. وَأَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
فَأَقَامَ بالعَطَنِ المعَطَّن مِنْهُمْ ... سَبْعُونَ: عُتبة مِنْهُمْ والأسْوَدُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي قَتْلَى بَدْرٍ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ أُحُدٍ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ الله تعالى في موضعها.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِمَّنْ لَمْ يَذْكُرْ ابنُ إسْحَاقَ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ الْقَتْلَى.
مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: وَهْبُ بْنُ الْحَارِثِ، مِنْ بَنِي أنْمار بْنِ بَغيض، حَلِيفٌ لَهُمْ وَعَامِرُ بْنُ زَيْدٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ اليمن رجلان.
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى: عُقْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ الْيَمَنِ، وعُمير مولى لهم. رجلان.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: نُبَيْه بْنُ زَيْدِ بْنِ مُلَيْص، وعُبَيد بْنُ سَليط، حليف لهم من قيس. رجلان.
وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ: مَالِكُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ أَخُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ أُسِرَ فَمَاتَ فِي الأسَارى، فعُد فِي الْقَتْلَى، وَيُقَالُ: وَعَمْرُو بن عبد الله بن جدعان. رجلان.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: حُذَيفة بْنُ أَبِي حُذَيفة بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَهِشَامُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ صُهَيْب بْنُ سِنَانٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ أَبُو أسَيْد مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ. قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَائِذُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ عُوَيْمِرٍ، أُسِرَ ثُمَّ افتُدي فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جِراحةٍ جَرَحَهُ إيَّاهَا حمزةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وعُمَيْر حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ طَيِّئٍ، وَخِيَارٌ، حليف لهم من القارة، سبعة نفر.
وَمِنْ بَنِي جُمح بْنِ عَمْرٍو: سَبْرة بْنُ مالك، حليف لهم. رجل.
وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو: الْحَارِثُ بْنُ مُنَبِّه بْنِ الْحَجَّاجِ، قَتَلَهُ صُهَيْب بْنُ سِنَانٍ، وَعَامِرُ بْنُ عَوْفِ بْنِ ضُبيرة أَخُو عَاصِمِ بن ضبيرة، قتله عبد الله بن صلمة الْعَجْلَانِيُّ، وَيُقَالُ: أَبُو دُجانة، رَجُلَانِ.(2/256)
ذكر أسرى قريش يوم بدر:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأُسِرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، مِنْ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ المطَّلب بْنِ هَاشِمٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بن عبد المطَّلب بن هاشم.
وَمِنْ بَنِي المطَّلب بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: السَّائِبُ بْنُ عُبَيد بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ المطَّلب ونُعمان بْنُ عمَرو بْنِ عَلْقمة بن المطلب. رجلان.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي وَجْزَةَ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ. وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي وَحرة، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو العاص بن الربيع بن عبد العُزَّى بن عَبْدِ شَمْسٍ، وَأَبُو الْعَاصِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: أَبُو رِيشَة بْنُ أَبِي عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ الأزْرق وعُقبة بْنُ عبد الحارث بن الحَضْرَمي، سبعة نفر.
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عَدِيُّ بْنُ الخِيار بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسِ ابْنِ أَخِي غَزْوان بْنِ جَابِرٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ مَنْصُورٍ وَأَبُو ثَوْر، حَلِيفٌ لَهُمْ. ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: أَبُو عَزيز بْنِ عُمَيْر بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَيَقُولُونَ: نَحْنُ بَنُو الْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ السَّبَّاقِ. رجلان.
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ: السَّائِبُ بْنُ أَبِي حُبَيْش بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، والحُوَيْرث بْنُ عَبَّادِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَسَدٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَائِذِ بْنِ عُثمان بْنِ أَسَدٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَسَالِمُ بْنُ شَمَّاخ، حَلِيفٌ لَهُمْ: ثلاثة نفر.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ: خَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمر بْنِ مَخْزُومٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي حذَيفة بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُومٍ، وَصَيْفِيُّ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ بْنِ عَابِدِ بن عبد الله؛ وأبو المنذر(2/257)
بن أبي رفاعة بن عابد بن عبد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَأَبُو عَطَاءٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّائِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ، حَلِيفٌ لَهُمْ، وَهُوَ كَانَ -فِيمَا يَذْكُرُونَ- أَوَّلُ مَنْ وَلَّى فَارًّا مُنْهَزِمًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
وَلَسْنَا عَلَى الأدبارِ تَدْمى كلومُنا ... وَلَكِنْ عَلَى أقدامِنا يَقْطُرُ الدمُ1
تِسْعَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: "لَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ".
وَخَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ، مِنْ خزاعة؛ ويقال: عُقيلي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ بْنِ كَعْبٍ: أَبُو وَداعة بن ضُبَيرة بن سعيد بن سعد بن سَهْم، كَانَ أوِل أَسِيرٍ أَفْتُدِيَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ افْتَدَاهُ ابْنُهُ الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَداعة؛ وفرْوة بْنُ قيْس بْنِ عَدِيِّ بْنِ حُذافة بن سعد بن سهم، حنظلة بْنُ قَبِيصَةَ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سعد بن سهم. أربعة نفر.
ومن بني جُمَح بن عمرو بن هصيص بْنِ كَعْبٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، وَأَبُو عَزَّة عَمْرُو بْنُ عَبْدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ وُهَيب بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَح، وَالْفَاكِهُ، مَوْلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، ادَّعَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ رَباح بْنُ الْمُغْتَرِفِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي شَمَّاخ بْنِ مُحارِب بنِ فِهْرٍ -وَيُقَالُ: إنَّ الْفَاكِهَ: ابْنَ جَرْوَلِ بْنِ حِذْيم بْنِ عَوْفِ بْنِ غَضْبِ بْنِ شَماخ بْنِ مُحارب بْنِ فِهر- وَوَهْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بن خَلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، وَرَبِيعَةُ بْنُ دَرَّاج بْنِ العَنْبس بْنِ أهْبان بن وهب بن حذافة بن جمح، خمسة نفر.
ومن بني عامر بن لؤي: سُهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْل بْنِ عَامِرِ، أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُم، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْف، وَعَبْدُ بْنُ زَمَعة بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْل بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَشْنوء بْنِ وَقْدان بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْل بْنِ عَامِرٍ. ثَلَاثَةُ نفر.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: الطُّفَيل بْنُ أَبِي قنَيْع، وعُتبة بْنُ عَمْرِو بْنِ جَحْدم. رَجُلَانِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَمِيعُ مَنْ حُفِظَ لنا من الأسارى ثلاثة وأربعون رجلا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَعَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَدَدِ رجل لم نذكر اسمه، وممن لم يذكر ابن إسحاق من الأسارى:
__________
1 الكلوم: الجراحات.(2/258)
مِنْ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُتبة، حليف لهم من بني فِهر: رجل.
وَمِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عَقيل بْنُ عَمْرٍو، حَلِيفٌ لَهُمْ، وَأَخُوهُ تَمِيمُ بْنُ عمرو، وابنه. ثلاثة نفر.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: خَالِدُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي العِيص، وَأَبُو العَريض يَسار، مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ. رَجُلَانِ.
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: نَبْهان، مولى لهم. رجل.
ومن بني أسد بن عبد العزي: "عبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث. رجل.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: عَقِيل، حليف لهم من اليمن. رجل.
ومن في تَيْم بْنِ مُرَّةَ: مُسَافع بْنُ عِياض بْنِ صَخْر بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْم، وَجَابِرُ بْنُ الزَّبِيرِ، حَلِيفٌ لَهُمْ. رجلان.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: قَيْسُ بْنُ السائب. رجل.
وَمِنْ بَنِي جُمَح بْنِ عَمْرٍو: عَمْرُو بْنُ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَأَبُو رُهْم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَلِيفٌ لَهُمْ، وَحَلِيفٌ لَهُمْ ذَهَبَ عَنِّي اسْمُهُ، وَمَوْلَيَانِ لِأُمَيَّةِ بْنِ خَلَفٍ، أَحَدُهُمَا نِسْطاس، وَأَبُو رَافِعٍ، غُلَامُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، سِتَّةُ نفر.
وَمِنْ بَنِي سَهْم بْنِ عَمْرٍو: أَسْلَمَ: مَوْلَى نُبيه بن الحجاج. رجل.
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: حَبِيبُ بْنُ جابر، والسائب بن مالك رجلان.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: شَافِعُ وشَفيع، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ رَجُلَانِ1.
مَا قِيلَ مِنْ الشِّعْرِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنْ الشِّعْرِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَتَرَادَّ بَهْ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ لِمَا كَانَ فِيهِ، قَوْلُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ المطلب، يرحمه الله:
__________
1 راجع أنساب وأخبار من حضر بدرا وشهداء بدر من المسلمين والقتلى من المشركين وأسرى المشركين في الروض الأنف بتحقيقنا ج3 ص99 وما بعدها.(2/259)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا وَنَقِيضَتَهَا:
أَلَمْ ترَ أَمْرًا كَانَ مِنْ عَجَبِ الدهرِ ... وللحَيْن أسبابٌ مُبَينة الأمْرِ1
وَمَا ذاك إلا أن قومًا أفادهم ... فخانوا تَواصٍ بالعقوقِ وبالكفرِ2
عَشِيَّةَ راحُوا نحوَ بدرٍ بجمعِهم ... فَكَانُوا رُهُونًا للركيةِ مِنْ بَدْرِ3
وَكُنَّا طَلَبْنَا العيرَ لَمْ نبغِ غيرَها ... فَسَارُوا إلَيْنَا فَالْتَقَيْنَا عَلَى قَدْرِ
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا لَمْ تكنْ مَثْنَويَّةٌ ... لَنَا غَيْرَ طعنٍ بِالْمُثَقَّفَةِ السُّمْر4
وضربٍ ببيضٍ يَخْتَلِي الهامَ حَدُّها ... مُشهَّرة الألوانِ بيِّنة الْأُثُرِ5
وَنَحْنُ تَركنا عُتبةَ الْغَيَّ ثَاوِيًا ... وشَيْبة فِي الْقَتْلَى تَجَرْجَمَ فِي الجَفْرِ6
وَعَمْرٌو ثَوَى فِيمَنْ ثَوَى مِنْ حُماتِهم ... فشُقَّتْ جيوبُ النائحاتِ عَلَى عَمْرِو
جيوبُ نساءٍ مِنْ لُؤَيِّ بنَ غالبٍ ... كِرَامٍ تفرعْنَ الذوائبَ منْ فِهرِ7
أُولَئِكَ قومٌ قُتِّلوا فِي ضلالِهم ... وخَلَّوا لِوَاءً غيرَ مُحْتَضَرِ النصرِ
لِواءُ ضلالٍ قَادَ إبليسُ أهلَه ... فَخَاسَ بِهِمْ، إنَّ الخبيثَ إلَى غَدْر8
وَقَالَ لَهُمْ، إذْ عاينَ الأمرَ وَاضِحًا ... بَرِئْتُ إلَيْكُمْ مَا بيَ اليومَ مِنْ صَبْرِ
فَإِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَإِنَّنِي ... أَخَافُ عقابَ اللَّهِ وَاَللَّهُ ذُو قَسْرِ9
فقدَّمهم للحَيْن حَتَّى تَوَرَّطُوا ... وَكَانَ بِمَا لَمْ يَخْبُر القومُ ذَا خُبْرِ
فَكَانُوا غَداةَ البئرِ أَلْفًا وجمعُنا ... ثلاثُ مئينٍ كالمسَدمة الزُّهْرِ10
وَفِينَا جنودُ اللَّهِ حَيْنَ يمدُّنا ... بِهِمْ فِي مَقَامٍ ثُمَّ مُستوْضَحِ الذكرِ
فَشَدَّ بِهِمْ جبريلُ تحتَ لوائِنا ... لَدَى مأزقٍ فِيهِ مناياهمُ تجري
__________
1 الحين: الهلاك.
2 أفادهم: أهلكهم.
3 الركية: البئر ذات الماء.
4 مثنوية: رجوع.
5 يختلي: يقطع. والهام: الرءوس. والأثر: بضمتين أثر الجرح والجمع آثار وأثور وإذا كان بفتح فسكون فهو جوهر السيف.
6 تجرجم: تسقط، والجفر: البئر المتسعة.
7 تفرعن: علون، والذوائب: الأعالي.
8 خاس: غدر.
9 القسر: الغلبة.
10 المسدمة: الفحول من الأبل، والزهر البيض.(2/260)
فَأَجَابَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ:
أَلَا يَا لقَومي للصبابةِ والهجرِ ... وللحزنِ مِنِّي والحرارةِ فِي الصدرِ1
وللدمعِ مِنْ عينيَّ جَوْدًا كَأَنَّهُ ... فريدُ هَوَى مِنْ سِلكِ ناظمةٍ يَجْرِي
عَلَى البطلِِ الحلوِ الشَّمَائِلِ إذْ ثَوى ... رهينَ مقامٍ للرَّكيةِ مِنْ بدرِ
فَلَا تبعُدْن يَا عمرُو مِنْ ذِي قرابةٍ ... وَمِنْ ذِي نِدَامٍ كَانَ ذَا خُلُقٍ غمرِ2
فَإِنْ يَكُ قَوْمٌ صَادَفُوا منكَ دَوْلةً ... فَلَا بُدَّ لِلْأَيَّامِ مِنْ دُوَلِ الدهرِ
فَقَدْ كنتَ فِي صَرْف الزمانِ الَّذِي مَضَى ... تُريهم هَوانًا مَنك ذَا سُبُلٍ وَعْرِ
فإلا أمُتْ يا عمرو أتركْك ثَائِرًا ... وَلَا ابقِ بُقْيا فِي إخاءٍ وَلَا صِهْرِ3
وَأَقْطَعُ ظَهْرًا مِنْ رجالٍ بِمَعْشَرٍ ... كرامٍ عَلَيْهِمْ مثلَ مَا قَطَعُوا ظهرِي
أغرَّهم مَا جمَّعو مِنْ وَشيظةٍ ... ونحنُ الصميمُ فِي القبائلِ مِنْ فِهْرِ4
فيا لَلُؤَي ذَبِّبوا عَنْ حريمِكم ... وآلهةٍ لَا تَتْرُكُوهَا لِذِي الفَخْرِ
تَوَارَثَهَا آبَاؤُكُمْ وورثتمُ ... أَوَاسِيَّهَا والبيتَ ذَا السقفِ والسِّترِ5
فَمَا لحليمٍ قَدْ أَرَادَ هلاكَكم ... فَلَا تَعْذروه آلَ غَالِبٍ مِنْ عُذْرِ
وجدُّوا لِمِنْ عاديتمُ وَتَوَازَرُوا ... وَكُونُوا جَمِيعًا فِي التأسِّي وفي الصبرِ
لعلَكم أن تَثأروا بأخيكمُ ... ولاشيء إنَّ لَمْ تَثْأَرُوا بِذَوِي عَمْرو
بمطَّرداتٍ فِي الأكفِّ كَأَنَّهَا ... وميضٌ تُطيرُ الهامَ بَيِّنَةَ الأثرِ6
كَأَنَّ مَدبَّ الذرِّ فوقَ متونِها ... إذَا جُرِّدَتْ يَوْمًا لأعدائِها الخُزْرِ7
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبْدَلْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ كَلِمَتَيْنِ مِمَّا رَوَى ابْنُ إسحاق، وهما "الفخر" في آخر البيت، و"فما لِحَلِيمِ" فِي أَوَّلِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ نَالَ فِيهِمَا من النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
1 الصبابة: رقة الحب أو الحب الشديد.
2 الغمر بسكون الميم: الكريم الواسع الخلق، وهذا المعنى هو الذي يقصده هنا.
3 الثائر: صاحب الثأر.
4 الوشيظة الأتباع الذين ليسوا من القوم.
5 الأواسي: ما تأسس عليها الأبنية.
6 المطردات: المهتزة. أي بسيوف مهتزة.
7 الذر: صغار النمل. والخزر: الناظرون بمؤخرة عيونهم كبرا.(2/261)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي يَوْمِ بَدْرٍ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يَعْرِفُهَا وَلَا نَقِيضَتَهَا، وَإِنَّمَا كَتَبْنَاهُمَا لِأَنَّهُ يُقَالُ: إنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعان قُتل يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي الْقَتْلَى، وَذَكَرَهُ فِي هَذَا الشِّعْرِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أبلَى رسولَه ... بلاءَ عَزِيزٍ ذِي اقتدارٍ وَذِي فَضلِ
بِمَا أَنْزَلَ الكفارَ دارَ مذلةٍ ... فَلَاقَوْا هَوانًا مِنْ إسارٍ وَمِنْ قَتْلِ
فَأَمْسَى رسولُ اللَّهِ قَدْ عَزَّ نصرُهُ ... وَكَانَ رسولُ اللَّهِ أُرْسِلَ بالعدلِ
فَجَاءَ بفرقانٍ مِنْ اللَّهِ مُنْزَلٍ ... مُبينة آياتُهُ لذوِي العقلِ
فَآمَنَ أقوامٌ بِذَاكَ وَأَيْقَنُوا ... فأمْسَوْا بحمدِ اللَّهِ مُجْتَمِعِي الشملِ
وَأَنْكَرَ أَقْوَامٌ فَزَاغَتْ قلوبُهم ... فزادهمُ ذُو العرشِ خَبْلًا عَلَى خَبلِ
وَأَمْكَنَ مِنْهُمْ يومَ بدرٍ رسولَه ... وَقَوْمًا غِضابًا فِعْلُهُمْ أحسنُ الفعلِ
بأيديهمُ بيضٌ خِفاف عَصوا بِهَا ... وَقَدْ حَادَثُوهَا بالجلاءِ وبالصَّقْلِ1
فَكَمْ تَرَكُوا مِنْ نَاشِئٍ ذِي حَمِّيةٍ ... صَرِيعًا وَمِنْ ذِي نَجْدةٍ منهمُ كَهْلِ
تبيتُ عيونُ النائحاتِ عليهمُ ... تَجُودُ بإسْبالِ الرَّشَاشِ وبالوَبْلِ2
نوائحَ تَنْعَى عُتبةَ الغَي وابنَه ... وشيبةَ تَنْعَاهُ وَتَنْعَى أَبَا جَهْلِ
وَذَا الرِّجْل تنعَى وابنُ جُدعان فِيهِمْ ... مُسَلِّبَةً حَرَّى مُبينةَ الثُّكْلِ3
ثَوَى منهمُ فِي بئرِ بَدْرٍ عصابةٌ ... ذَوِي نَجَداتٍ فِي الحروبِ وَفِي المحْلِ
دَعَا الْغَيُّ مِنْهُمْ مَنْ دَعَا فَأَجَابَهُ ... وَلِلْغَيِّ أسبابٌ مُرَمَّقةُ الوصْلِ4
فأضحوا لدى دارِ الجحيمِ بمعزِلٍ ... عن الشَّغبِ والعدوانِ في أشغلِ الشُّغلِ
فَأَجَابَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ:
عجبتُ لأقوامٍ تغنَّى سفيهُهُم ... بِأَمْرٍ سَفاهٍ ذِي اعتراض "وذي بُطْلِ
__________
1 عصوا: ضربوا. وحادثوها: تعهدوها.
2 الإسبال: الإرسال. والرشاش: المطر الضعيف. والوبل: ما كثر من المطر.
3 ذا الرَجْل: هو الأسود الذي قطع حمزة رجله عند الحوض ثم قتله فيها. والمسلبة: التي تلبس السلاب وهي خرقة سوداء تلبسها الثكلى.
4 المرمقة: الضعيفة.(2/262)
تَغَنَّى بقتلَى يَوْمَ بَدْرٍ تَتَابَعُوا ... كِرَامِ الْمَسَاعِي مِنْ غُلَامٍ وَمِنْ كهلِ
مصاليتَ بيضٍ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... مطاعينَ فِي الْهَيْجَا مَطاعيم في المَحْل1
أصيبوا كرامًا لم يَبيحوا عَشِيرَةً ... بقومٍ سِوَاهُمْ نازِحي الدَّارِ والأصْلِ
كَمَا أصبحتْ غسانُ فِيكُمْ بِطَانَةً ... لَكُمْ بَدَلًا مِنَّا فِيَا لَكَ مِنْ فِعْل.
عُقوقًا وَإِثْمًا بَيِّنًا وَقَطِيعَةً ... يَرى جورَكم فِيهَا ذَوُو الرَّأْيِ والعقلِ
فَإِنْ يَكُ قَوْمٌ قَدْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ ... وخيرُ الْمَنَايَا مَا يَكُونُ مِنْ القتلِ
فَلَا تَفْرَحُوا أَنْ تَقْتلوهم فقتلُهم ... لَكُمْ كائنٌ خَبْلًا مُقيما عَلَى خَبْلِ
فَإِنَّكُمْ لَنْ تَبرحُوا بعدَ قتلِهم ... شَتِيتًا هَواكم غيرُ مُجْتَمِعِي الشَّمْلِ
بِفَقْدِ ابنِ جُدْعان الحميدِ فعالهُ ... وعُتبةَ وَالْمَدْعُوُّ فِيكُمْ أَبَا جَهْلِ
وشيْبَة فيهم والوليد وفيهمُ ... أميةُ مأوَى المعتَرين وَذُو الرِّجْل
أُولَئِكَ فابْكِ ثُمَّ لَا تبكِ غيرَهم ... نوائحُ تَدْعُو بالرَّزِيَّة والثُّكْلِ
وَقُولُوا لأهلِ المكَّتين تَحَاشَدُوا ... وَسِيرُوا إلَى آطامِ يثربَ ذِي النخلِ2
جَمِيعًا وحامُوا آلَ كعبٍ وذَبّبوا ... بخالصةِ الألوانِ مُحدَثة الصقْلِ3
وَإِلَّا فَبُيِّتُوا خَائِفِينَ وأصْبِحوا ... أذلَّ لوطءِ الْوَاطِئِينَ مِنْ النعْلِ
عَلَى أَنَّنِي واللاتِ يَا قومُ فَاعْلَمُوا ... بِكَمْ واثقٌ أَنْ لَا تُقيموا عَلَى تَبْل4
سِوى جمعِكم للسابغاتِ وللقَنا ... وللبَيْض والبِيض القواطعِ والنَّبلِ5
وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ مرداس، أحد بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، فِي يَوْمِ بَدْرٍ:
عجبتُ لفخرِ الأوْسِ والحَيْنُ دائرٌ ... عَلَيْهِمْ غَدًا والدهرُ فِيهِ بصائرُ
وَفَخْرُ بَنِي النَّجَّارِ إنْ كَانَ مَعْشَرٌ ... أُصِيبُوا ببدرٍ كُلُّهُمْ ثَمَّ صابرُ
فَإِنْ تَكُ قَتْلى غُودِرتْ مِنْ رجالِنا ... فَإِنَّا رِجَالٌ بعدَهم سنغادرُ
وترْدِي بِنَا الجُرْدُ العناجيجُ وسطَكم ... بَنِي الأوْسِ حَتَّى يَشْفي النَفَس ثائرُ6
ووسْطَ بَنِي النجارِ سَوْفَ نَكُرُّها ... لَهَا بالقَنا والدارعين زَوافِرُ
__________
1 المصاليت: الشجعان.
2 المكتبين: يقصد مكة والطائف. والآطام: جمع أطم. الحصن.
3 ذببوا: أمنعوا.
4 التبل: العداوة.
5 السابغات: صفة لموصوف محذوف أي الدروع السابغات.
6 تردى: تسرع. والجرد: الخيل القصيرات الشعر العتاق. والعناجيج: الطوال السراع. والثائر: الطالب ثأره.(2/263)
فَنَتْرُكُ صَرْعَى تَعْصِبُ الطيرُ حولَهم ... وَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا الأمانيَّ ناصرُ1
وَتبْكيهمُ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ نِسْوَةٌ ... لهنَّ بِهَا لَيْلٌ عَنْ النومِ ساهرُ
وَذَلِكَ أَنَّا لَا تزالُ سيوفُنا ... بهنَّ دَمٌ -مِمَّنْ يحاربنَ– مَائرُ2
فَإِنْ تَظْفَروا فِي يومِ بَدْرٍ فَإِنَّمَا ... بأحمدَ أَمْسَى جَدُّكم وَهُوَ ظاهرُ
وبالنفرِ الأخيارِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ ... يُحَامُونَ فِي اللأواءِ والموتُ حاضرُ
يُعدُّ أَبُو بَكْرٍ وحَمزةُ فيهمُ ... ويُدعى عَلِيٌّ وسْطَ مَنْ أَنْتَ ذاكرُ
ويُدعى أَبُو حفصٍ وعثمانُ منهمُ ... وَسَعْدٌ إذَا مَا كَانَ فِي الحربِ حاضرُ
أُولَئِكَ لَا مَنْ نَتَّجتْ فِي ديارِها ... بَنُو الأوسِ وَالنَّجَّارِ حَيْنَ تُفاخرُ
ولكنْ أبوهمْ مِنْ لُؤيِّ بْنِ غالبٍ ... إذَا عُدت الأنسابُ كَعْبٌ وعامرُ
هُمْ الطَّاعِنُونَ الخيلَ فِي كلِّ مَعْرَكٍ ... غَداةَ الهِياجِ الْأَطْيَبُونَ الأكاثرُ
فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، أَخُو بَنِي سَلمة، فَقَالَ:
عَجِبْتُ لأمرِ اللَّهِ وَاَللَّهُ قَادِرٌ ... عَلَى مَا أَرَادَ، لَيْسَ للهِ قاهرُ
قضَى يومَ بَدْرٍ أَنْ نلاقِيَ مَعشرًا ... بغَوْا وسبيلُ الْبَغْي بالناسِ جائرُ
وَقَدْ حَشدوا وَاسْتَنْفَرُوا مِنْ يَلِيهِمْ ... مِنْ الناسِ حَتَّى جَمعهم مُتكاثرُ
وَسَارَتْ إلَيْنَا لَا تحاولُ غيرَنا ... بأجمعِها كعبٌ جَمِيعًا وعامرُ
وَفِينَا رسولُ اللَّهِ والأوسُ حولَه ... لَهُ مَعْقِل مِنْهُمْ عَزِيزٌ وناصرُ
وجَمْعُ بَنِي النجارِ تحت لوائهِ ... يُمَثَّوْن فِي الماذِيِّ والنقعُ ثَائِرُ3
فَلَمَّا لقِيناهم وَكُلٌّ مجاهدٌ ... لأصحابهِ مُستَبسلُ النفسِ صابرُ
شَهِدنا بِأَنَّ اللَّهَ لَا رَبَّ غيرَه ... وَأَنَّ رسولَ اللَّهِ بالحقِّ ظاهرُ
وَقَدْ عُرِّيَتْ بيضٌ خِفاف كَأَنَّهَا ... مقاييسُ يُزْهِيها لعَيْنيك شاهرُ4
بِهِنَّ أَبَدْنَا جمعَهم فتبدَّدوا ... وَكَانَ يُلاقي الحَيْن مَنْ هُوَ فاجرُ
فكُبَّ أَبُو جهلٍ صَرِيعًا لوجههِ ... وعتبةُ قَدْ غادرْنَه وهو عاثرُ
__________
1 تعصب: تجتمع.
2 مائر: سائل.
3 الماذي: الدرع اللينة السهلة.
4 يزهيها: يحركها.(2/264)
وشبيبةُ والتيمىُّ غادرْن فِي الوغَى ... وَمَا منهمُ إلَّا بِذِي العرشِ كافرُ
فأمْسَوْا وقودَ النارِ فىِ مستقرِّها ... وكلُّ كَفَوْرٍ فِي جهنمَ صائرُ
تَلَظي عَلَيْهِمْ وهْيَ قَدْ شبَّ حَمْيُها ... بزُبَرِ الحديدِ والحجارة سجرُ1
وَكَانَ رسولُ اللَّهِ قَدْ قَالَ أَقْبِلُوا ... فوَلَّوْا وَقَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ ساحرُ
لِأَمْرِ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَهلِكوا بِهِ ... وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّه اللهُ زاجرُ2
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبْعَرَى السَّهْمِيُّ يبكي قتلَى بدر:
قال ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى للأعْشَى بْنِ زُرارة بْنِ النَّبَّاشِ، أَحَدُ بَنِي أسَيْد بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، حَلِيفُ بَنِي نَوْفل بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ:
مَاذَا عَلَى بَدْرٍ وَمَاذَا حَوْلَهُ ... مِنْ فِتيةٍ بيضِ الوجوهِ كرامِ
تَرَكُوا نُبَيْهًا خلفَهم ومُنَبِّهًا ... وابنَي رَبِيعَةَ خيرَ خَصْمِ فِئام3
والحارثَ الفياضَ يبرُق وجهُهُ ... كالبدرِ جَلَّى ليلةَ الإِظلامِ
وَالْعَاصِيَ بنَ مُنَبِّه ذَا مِرةٍ ... رُمحًا تَمِيمًا غيرَ ذِي أوْصامِ4
تَنْمَى بَهْ أعراقُهُ وجُدودُه ... وَمَآثِرُ الأخوالِ والأعمامِ
وَإِذَا بَكَى باكٍ فأعولَ شَجْوهُ ... فَعَلَى الرئيسِ الماجدِ ابْنِ هشامِ5
حَيَّا الإِلهُ أَبَا الوليدِ ورهطَه ... ربُّ الْأَنَامِ، وخَصَّهم بسلامِ
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ:
ابْكِ بَكَتْ عَيْنَاكَ ثُمَّ تبادرَتْ ... بدَمٍ –تُعَلُّ غُروبُها-سَجَّامِ6
ماذا بكيتَ به الذين تتابعوا ... هَلا ذكرت مكارِمَ الأقوامِ7
__________
1 تلظى: تلتهب. وزبر الحديد: قطعه. والساجر: الموقد.
2 حمه: قدره.
3 الفئام: الجماعات.
4 ذو مرة: صاحب قوة. والأوصام: العيوب.
5 الشجون: الحزن.
6 تعل: من العلل وهو الشرب مرة بعد أخرى، والغرب: مجاري الدمع. والسجام: السائل.
7 تتابعوا: ألقوا بأنفسهم في التهلكة.(2/265)
وذكرْتَ مِنَّا مَاجِدًا ذَا هِمَّةٍ ... سَمْحَ الخلائقِ صادقَ الْإِقْدَامِ
أَعْنِي النبيَّ أَخَا المكارمِ والنَّدَى ... وأبرَّ مَنْ يُولي عَلَى الإقْسامِ1
فلمثلهِ ولمثلِ مَا يَدْعُو لَهُ ... كَانَ الممَدَّحَ ثَمَّ غيرَ كَهامِ2
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ أَيْضًا:
تَبَلَتْ فؤادَك فِي المنامِ خَريدة ... تَسْقِى الضَجيعَ ببارِدٍ بسامِ3
كالمِسْكِ تحلطه بماءِ سحابةٍ ... أَوْ عاتقٍ كَدَمِ الذَّبِيحِ مُدَامِ4
نُفُجُ الحقيبةِ بُوصُها متنضدٌ ... بَلهاءُ غيرُ وشَيكةِ الإِقسامِ5
بُنيت عَلَى قطنٍ أجَمَّ كَأَنَّهُ ... فُضُلًا إذَا قعدتْ مَدَاكُ رُخامِ6
وَتَكَادُ تَكسَل أَنْ تجيءَ فِراشَها ... فِي جِسْمِ خَرْعَبةٍ وحُسنِ قَوَامِ7
أَمَّا النهارُ فَلَا أفترُ ذكرَها ... وَاللَّيْلُ تُوزعني بِهَا أحلامي8
أقسمْت أنساها وأتركُ ذِكرَها ... حتى تُنيَّبَ فِي الضريحِ عِظَامِي9
يَا مَنْ لعاذلةٍ تَلومُ سَفَاهَةً ... وَلَقَدْ عَصَيْتُ عَلَى الْهَوَى لُوَّامِي
بَكرَتْ عليَّ بسُحْرَةٍ بعدَ الكَرَى ... وتقارُبٍ مِنْ حادثِ الْأَيَّامِ
زَعمتْ بِأَنَّ المرءَ يكرُبُ عُمْرَه ... عَدَمٌ لمعتَكِر من الأصْرامِ10
__________
1 يولي: يقسم.
2 الكهام: الضعيف.
3 تبلت: أسقت، والجريدة: الحسنة الناعمة.
4 العاتق: الخمر المعتقة.
5 النفج: المرتفعة، الحقيبة: هي ما يجعله الراكب وراءه، استعارها هنا لردف المرأة. والبوصي: الردف. والبلهاء: الغافلة. والإقسام: جمع قسم وهو اليمين.
6 قطنها: وسطها. والأجم، أي: لا عظام فيه. والمداك: الحجر الذي يدق عليه الطيب.
7 الخربعة: حسنة الخلق.
8 توزعني: تغريني.
9 أنساها: أي لا أنساها.
10 المعتكر: الإبل الكثيرة التي يرجع بعضها على بعض. والأصرام: الجماعات من الإبل.(2/266)
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدَّثتَني ... فنجوتِ مَنْجى الحارثِ بنِ هشامِ
تَرك الأحبةَ أَنْ يُقاتل دونَهم ... وَنَجَا برأسِ طِمرَّةٍ ولجامِ1
تَذَرُ العَناجيج الجيادَ بقفْرةٍ ... مرَّ الدَّموكِ بمُحْصَدٍ ورِجَامِ2
مَلأتْ بِهِ الفَرْجَيْن فارمدَّت بِهِ ... وثَوَى أحبتُه بشرِّ مُقامِ3
وَبَنُو أَبِيهِ ورَهطُه فِي مَعْركٍ
نَصَرَ الإلهُ بِهِ ذَوِي الْإِسْلَامِ
طحنتْهُمُ، وَاَللَّهُ يُنفذ أمرَه
حَربٌ يُشَبُّ سعيرُها بضرامِ
لَوْلَا الإلهُ وجَرْيُها لتركْنه
جَزَرَ السباعِ ودُسْنَه بحوامِي
مِنْ بينِ مَأْسُورٍ يُشدَّ وَثاقُهُ
صَقْر إذَا لاقَى الأسنةَ حَامي
ومجدَّلٍ لَا يَسْتَجِيبُ لدعوةٍ
حَتَّى تزولَ شوامخُ الأعلامِ
بالعارِ والذلِّ المبينِ إذا رَأَى
بيضَ السيوفِ تَسوق كلَّ هُمامِ
بِيَدَيْ أَغَرَّ إذَا انْتَمَى لَمْ يُخزِهِ
نسبُ القِصار سَمَيْدَعٍ مِقْدامِ4
بيضٌ إذَا لَاقَتْ حَدِيدًا صَمَّمت
كالبرقِ تحتَ ظلالِ كلِّ غَمامِ
فَأَجَابَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ:
اللَّهُ أعلمُ مَا تركتُ قتالَهمٍ
حَتَّى حَبَوْا مُهْري بأشقَرَ مُزْبِدِ5
وَعَرَفْتُ أَنِّي إنْ أقاتلْ وَاحِدًا
أُقْتَلْ وَلَا يَنْكى عَدوِّيَ مَشْهدِي
فصددْتُ عَنْهُمْ وَالْأَحِبَّةُ فيهمُ
طَمعًا لَهُمْ بعقابِ يومٍ مُفْسِدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَهَا الْحَارِثُ يَعْتَذِرُ مِنْ فِرَارِهِ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْ قَصِيدَةِ حَسَّانَ ثَلَاثَةَ أبيات من آخرها؛ لأنه أقذع فيها.
__________
1 الطمرة: الفرس كثيرة الجري.
2 العناجيج: الطوال السراع. والدموك: البكرة بآلتها التي تكون عند رأس البئر، والحصد: الحبل الشديد الفتل؛ والرجام: واحد الرجامين، وهما الخشبتان اللتان تلقى عليهما البكرة.
3 الفرجان: الفراغان اللذان بين يدي الفرس ورجليها. وأرمدت: أسرعت.
4 القصار: من قصر سعيهم عن كسب المحامد، والسميدع: السيد.
5 المزبد: ما قذف بالزبد.(2/267)
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أَيْضًا:
لَقَدْ علمتْ قُرَيْشٌ يومَ بَدْرٍ ... غَداةَ الأسرِ والقَتْلِ الشديدِ
بِأَنَّا حينَ تَشْتَجِرُ الْعَوَالِي ... حُماةُ الحربِ يومَ أَبِي الوليدِ
قتلْنا ابنَي ربيعةَ يومَ سارَا ... إلَيْنَا فِي مُضاعفةِ الحديدِ
وَفَرَّ بِهَا حَكِيمٌ يومَ جَالَتْ ... بَنُو النجارِ تخطرُ كالأسودِ
وولَّت عِنْدَ ذَاكَ جَمُوعُ فِهرٍ ... وَأَسْلَمَهَا الحُوَيرثُ مِنْ بعيدِ
لَقَدْ لاقيتمُ ذلاُّ وَقَتْلًا ... جَهِيزًا نَافِذًا تحتَ الوريدِ1
وكلُّ القومِ قَدْ وَلَّوْا جَمِيعًا ... وَلَمْ يَلْووا عَلَى الحسبِ التليدِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
يَا حارِ قَدْ عَوَّلْتَ غَيْرَ معُوَّلِ ... عِنْدَ الهياجِ وساعةَ الأحسابِ2
إذْ تمتَطى سُرُحَ الْيَدَيْنِ نَجِيبَةً ... مَرْطَى الجراءِ طويلةَ الأقرابِ3
وَالْقَوْمُ خَلْفَكَ قَدْ تركتَ قتالَهم ... ترجو النجاةَ وَلَيْسَ حَيْنَ ذَهاب
ألاَّ عَطفتَ عَلَى ابْنِ أمِّك إذْ ثَوَى ... قَعْصَ الأسنةِ ضائعَ الأسلابِ4
عجلَ المليكُ لَهُ فَأَهْلَكَ جمعَه ... بشَنارِ مُخزيةٍ وسوءِ عذابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتًا وَاحِدًا أَقْذَعَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: بَلْ قَالَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ السَّهْمِيُّ:
مُسْتشعِري حَلَقِ المَاذِيِّ يقدُمُهم ... جَلْدُ النَّحيزةِ ماضٍ غيرُ رِعديدِ5
أَعْنِي رسولَ إلَهِ الخلقِ فَضَّله ... على البريةِ بالتقوَى وبالجودِ
__________
1 الجهيز: السريع. الوريد: عرق في صفحة العنق.
2 عولت: عزمت.
3 سرح اليدين: سريعتهما. ومرطى الجراء: سريعة الجري. والأقراب: الخواصر.
4 القعص: القتل بسرعة.
5 المستشعر: اللابس الثوب على جسده بلا حاجز. والماذي: الدروع السهلة اللينة. والنحيزة: الطبيعة.(2/268)
وَقَدْ زَعمتم بِأَنْ تَحْمُوا ذمارَكم ... وماءُ بَدْرٍ زَعَمْتُمْ غيرُ مَورودِ
ثُمَّ وردْنا وَلَمْ نَسْمَعْ لقولِكم ... حَتَّى شَرِبنا رَواءً غَيْرَ تَصْريدِ1
مُستعصِمين بحبلٍ غيرِ منجذمِ ... مُستحكَمٍ مِنْ حبالِ اللَّهِ ممدودِ
فِينَا الرسولُ وَفِينَا الحقُّ نَتْبَعُهُ ... حَتَّى المماتَ وَنَصْرٌ غيرُ محدودِ
وافٍ وماضٍ شِهَابٌ يُستضاءُ بِهِ ... بدرٌ أنارَ عَلَى كلِّ الأماجيدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَيْتُهُ: "مُسْتَعْصِمِينَ بِحَبْلٍ غَيْرِ مُنْجَذِمٍ" عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
خَابَتْ بَنُو أسَدٍ وَآبَ غَزِيُّهمِ ... يومَ القليبِ بَسَوْءةٍ وفُضوحِ
منهمِ أَبُو الْعَاصِي تجدَّل مُقْعَصاَ ... عَنْ ظهرِ صادقةِ النجاءِ سَبُوحِ2
حَيْناَ لَهُ مِنْ كل مَانِعٍ بسلاحهِ ... لَمَّا ثَوَى بمقامهِ المذبوحِ
والمرءُ زَمْعةُ قَدْ تركْنَ ونَحرُه ... يَدْمَى بعاندِ مُعْبَطٍ مَسفوحِ3
متوسِّدًا حُرَّ الجبينِ مُعَفَّرًا ... قَدْ عُر مارِنُ أنفِهِ بقُبوحِ4
وَنَجَا ابنُ قيسٍ فِي بقيةِ رَهْطِه ... بشَفا الرِّمَاقِ مُوَليًا بجروحِ5
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
أَلَا لَيْتَ شِعْري هَلْ أَتَى أهلَ مكةٍ ... إبارتُنا الكفارَ فِي ساعةِ العُسْر6
قَتَلْنَا سَراةَ القومِ عِنْدَ مجالِنا ... فَلَمْ يَرْجعوا إلَّا بقاصمةِ الظَّهْرِ7
قَتَلْنَا أَبَا جهلٍ وعُتبةَ قبلَه ... وشَيْبةُ يكْبو لليدَيْن وللنحرِ
قَتَلْنَا سُوَيْدًا ثُمَّ عُتبةَ بعدَه ... وطُعمة أَيْضًا عندَ ثائرةِ القَتْر8
فَكَمْ قَدْ قَتَلْنَا مِنْ كريمٍ مُرَزَّءٍ ... لَهُ حسبٌ فِي قومِهِ نابِه الذكرِ
تَرَكْنَاهُمْ للعاوياتِ يَنُبنَهمْ ... ويَصْلَوْنَ نَارًا بعدُ حَاميةَ الْقَعْرِ9
__________
1 الرواء: التكثر من الماء: التصريد: تقليل الشرب.
2 المقعص: من قتل بسرعة. والسبوح: سريعة الجري كأنها تسبح في الماء لسهولة جريها.
3 العائد: الذي يجري بلا انقطاع. ودم معبط: طري.
4 عر: لطخ.
5 الشفا: الحد.
6 إبارتنا: إهلاكنا.
7 قاصمة الظهر: أي المصيبة التي تقصم الظهور.
8 ثائرة القتر: ما ثار من الغبار.
9 العاويات: الذئاب والسباع ينوبه: يأتيه مرة بعد أخرى.(2/269)
لَعَمْرك مَا حامتْ فوارسُ مالكٍ ... وأشياعُهم يومَ الْتَقَيْنَا عَلَى بدرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ بَيْتَهُ:
قَتَلْنَا أَبَا جهلٍ وعُتبةَ قَبْلَهُ ... وشَيْبةُ يَكْبُو لِلْيَدَيْنِ وَلِلنَّحْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
نجَّى حَكِيمًا يومَ بَدْرٍ شَدُّه ... كنجاءِ مُهر مِنْ بناتِ الأعْوجِ1
لَمَّا رَأَى بَدْرًا تَسِيلُ جِلاههُ ... بكتيبةٍ خضراءَ مِنْ بَلْخَزْرَجِ2
لَا يَنكُلون إذَا لَقُوا أعداءَهم ... يَمْشُونَ عائدةَ الطريقِ المنْهَجِ
كَمْ فيهمُ مِنْ ماجدٍ ذِي مَنْعةٍ ... بطلٍ بمَهلكةِ الجبانِ المُحْرَجِ
ومُسَوَّدٍ يُعْطِي الجزيلَ بكفِّه ... حَمَّالِ أثقالِ الدِّيات مُتَوجِ
زَيْنِ النَّدِيِّ مُعاوِدٍ يومَ الوَغَى ... ضَرْبَ الكُماةِ بكلِّ أبْيَضَ سَلْجَجِ3
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ سَلْجج، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ أَيْضًا:
فَمَا نَخْشَى بحوْلِ اللَّهِ قَوْمًا ... وَإِنْ كَثروا وأجمعَتِ الزحوفُ
إذَا مَا ألَّبوا جَمْعًا عَلَيْنَا ... كَفَانَا حدَّهم رَبٌّ رءوفُ
سموْنا يومَ بدرٍ بالعوالِي ... سِراعًا مَا تُضعْضِعْنا الحتوفُ
فَلَمْ ترَ عُصبةً فِي النَّاسِ أنْكَى ... لِمَنْ عَادَوْا إذَا لَقِحَتْ كُشوف4
وَلَكِنَّا توكَّلْنا وقُلنا ... مآثرُنا ومَعْقِلنا السيوفُ
لقيناهُم بِهَا لَمَّا سَمَوْنا ... ونحنُ عصابةٌ وهُمُ ألوفُ
__________
1 الأعوج: نوع كريم من الخيل.
2 الجلاه: ما يستقبلك من جنبات الوادي. وخضراء: سوداء من كثرة الحديد الذي عليها.
3 السلجج: الماضي.
4 لقحت: حملت. والكشوف: الناقة التي ضربها الفحل في وقت لا تشتهيه. والمعنى أن الحرب قد هاجت بعد سكون.(2/270)
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا، يَهْجُو بَنِي جُمَح وَمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ:
جمحَت بَنُو جُمَح لِشقْوةِ جدّهمٍ ... إنَّ الذليلَ مُوَكَّل بذليلِ
قُتلت بَنُو جُمَحٍ ببدرٍ عَنْوَة ... وَتَخَاذَلُوا سَعْيًا بكلِّ سبيلِ
جحدُوا الكتابَ وَكَذَّبُوا بمحمدٍ ... وَاَللَّهُ يُظهرُ دينَ كلِّ رسولِ
لَعَنَ الإلهُ أَبَا خُزيمةَ وابنَه ... والخالدَيْن، وصاعِدَ بن عقيلِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَفِي قَطْعِ رجله حين أصيب، فِي مُبَارَزَتِهِ هُوَ وَحَمْزَةُ وَعَلِيٌّ حِينَ بَارَزُوا عَدُوَّهُمْ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِعُبَيْدَةَ:
ستبلُغُ عَنَّا أهلَ مكةَ وَقْعَةٌ ... يَهُبُّ لَهَا مَنْ كَانَ عَنْ ذَاكَ نائيَا1
بعُتبةَ إذْ ولَّى وشيبةَ بعدَه ... وَمَا كَانَ فِيهَا بِكْرُ عُتبة راضيَا2
فَإِنْ تَقْطَعُوا رِجلي فَإِنَّى مُسلم ... أرَجِّي بِهَا عَيْشًا مِنْ اللَّهِ دَانِيًا
مَعَ الحورِ أمثالِ التماثيلِ أُخلصتْ ... مَعَ الجنةِ العُليا لِمَنْ كَانَ عَاليَا3
وبعْتُ بِهَا عَيْشًا تعرَّقْتُ صَفْوَه ... وعالجتُهُ حَتَّى فقدْتُ الأدانيَا4
فأَكرمني الرحمنُ من فضلِ مَنِّهِ ... بثوبٍ مِنْ الإسلامِ غطَّى المسَاوِيَا
وَمَا كَانَ مَكْروهًا إلىَّ قتالُهم ... غداةَ دَعَا الأكفاءَ مَنْ كَانَ داعيَا
وَلَمْ يَبْغِ إذْ سَالُوا النبيَّ سَوَاءَنَا ... ثَلاَثتنا حَتَّى حَضَرْنا الْمُنَادِيَا
لقِيناهمُ كالأسْدِ تخطرُ بالقَنا ... نُقاتل فِي الرَّحْمَنِ مَنْ كَانَ عاصيَا
فَمَا بَرِحَتْ أقدامُنا مِنْ مقامِنا ... ثَلاثتنا حَتَّى أَزِيرُوا الْمَنَائِيَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَمَّا أُصِيبَتْ رِجْلُ عَبِيدَةَ قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْيَوْمَ لَعَلِمَ أَنِّي أَحَقُّ مِنْهُ بِمَا قَالَ حِينَ يَقُولُ:
كَذَبْتُمْ وبيتِ اللَّهِ يُبْزَى مُحَمَّدٌ ... وَلَمَّا نُطاعِنْ دونَه ونُناضلِ5
ونُسلمه حتى نُصرَّعَ حولَه ... ونَذْهَلُ عن أبنائِنا والحلائلِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لِأَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
__________
1 يهب: يستيقظ.
2 بكر عتبة: ابن عتبة البكر.
3 التماثيل: الصور المتقنة الصنع والضمير في أخلصت يعود على الحور العين، والمعنى خص بها.
4 التعرق: المزج.
5 يبزى: أي لا يبزى والمعنى: لا يقهر.(2/271)
شعر كعب بن مالك في رثاء عبيدة: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ عَبِيدَةُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ مُصَابِ رِجْلِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ يَبْكِيهِ:
أَيَا عَينُ جودي ولا تبخَلي ... بدَمْعِكِ حفا وَلَا تنْزُرِي
عَلَى سيدٍ هَدَّنا هُلكهُ ... كَرِيمِ المَشاهِدِ والعُنْصرِ
جَرِيءِ المقدَّم شَاكِي السلاحِ ... كَرِيمِ النَّثا طَيِّبِ المَكسِرِ1
عُبيدة أَمْسَى وَلَا نَرْتَجِيهِ ... لعُرفٍ عَرَانَا وَلَا مُنْكرِ
وَقَدْ كَانَ يَحْمَى غداةَ القتا ... لِ حاميةَ الجيش بالمِبترِ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَيْضًا، فِي يَوْمِ بَدْرٍ:
أَلَا هَلْ أَتَى غسانَ فِي نأيِ دارِها ... وأخبَرُ شىءٍ بالأمورِ عليمُها
بِأَنْ قَدْ رَمَتْنَا عَنْ قِسِيٍّ عَدَاوَةٍ ... مَعدّ مَعا جُهالُها وحليمُها
لِأَنَّا عَبَدْنَا اللَّهَ لَمْ نرْجُ غيرَه ... رجاءَ الجِنانِ إذْ أَتَانَا زعيمُها
نَبِيٌّ لَهُ فِي قومهِ إرْثُ عِزة ... وأعراقُ صِدقِ هذَّبتها أرُومُها2
فَسَارُوا وسِرْنا فَالْتَقَيْنَا كَأَنَّنَا ... أسودُ لِقاء لَا يُرجَّى كليمُها3
ضربناهُمُ حَتَّى هَوَى فِي مَكَرِّنا ... لمنْحر سَوْءٍ مِنْ لُؤي عظيمُها
فَوَلَّوْا وَدُسْنَاهُمْ ببيضٍ صوارمٍ ... سواءٌ عَلَيْنَا حِلفُها وصَميمُها4
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَيْضًا:
لعَمْر أَبِيكُمَا يَا بْنَيْ لُؤَيّ ... عَلَى زَهْو لَدَيْكُمْ وانتِخاءِ5
لَما حامتْ فوارسُكم ببدرٍ ... وَلَا صَبروا بِهِ عندَ اللقاءِ6
وَرَدْنَاهُ بنورِ اللَّهِ يجلُو ... دُجَى الظَّلماءِ عَنَّا والغطاءِ
رسولُ اللَّهِ يَقْدُمنا بِأَمْرٍ ... مِنْ أمْرِ اللَّهِ أحكمَ بالقضاءِ
فَمَا ظَفَرَتْ فوارسُكم ببدرٍ ... وَمَا رَجعوا إليكمْ بالسَّوَاءِ
فَلَا تعجلْ أَبَا سُفيانَ وارقُبْ ... جيادَ الْخَيْلِ تطلُعُ مِنْ كَداءِ7
__________
1 النثا: ما يتحدث به عن الشخص من خير أو ضر. وطيب المكسر: خال من العيب.
2 الأورم: الأصول.
3 الكليم: الجريح.
4 حلفها: حليفها، والصميم: الخالص.
5 الانتخاء: الإعجاب.
6 حامت: من الحماية وهي الامتناع.
7 كداء: مكان بمكة.(2/272)
بنصرِ اللَّهِ روحُ القدْسِ فِيهَا ... ومِيكالٌ، فَيَا طِيبَ المَلاءِ1
وَقَالَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَبْكِي أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ:
أَلَا إنَّ عَيْني أنفدَتْ دمعَها سَكْبًا ... تُبَكِّي عَلَى كعبٍ وَمَا إنْ تَرَى كَعْبَا
أَلَا إنَّ كَعبًا فِي الحروبِ تَخَاذَلُوا ... وأرْداهُمُ ذَا الدهرِ وَاجْتَرَحُوا ذَنْبَا
وعامر تَبكي للملماتِ غُدوة ... فيا ليت شِعْري هَلْ أَرَى لَهُمَا قُربَا
هُمَا أخوايَ لَنْ يُعَدَّا لِغَيةٍ ... تُعدُّ وَلَنْ يُستامَ جارهُما غَصْبَا2
فَيَا أَخَوَيْنَا عَبدَ شمسٍ وَنَوْفَلًا ... فِدًا لَكُمَا لَا تَبْعَثُوا بينَنا حَرْبَا
وَلَا تُصبحوا مِنْ بعدِ وُدِّ وألفةٍ ... أحاديثَ فِيهَا كلُّكم يَشْتَكِي النكْبَا
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حربِ داحسٍ ... وجيش أبي يكسومَ إذ مَلَئوا الشِّعبَا3
فَلَوْلَا دفاعُ اللَّهِ لَا شيءَ غيرهُ ... لأصبحتمٌ لَا تَمنعون لَكُمْ سِربَا4
فَمَا إنْ جَنينا فى قريشٍ عَظِيمَةً ... سِوَى أَنْ حَمَينا خيرَ مَنْ وطِئ التُّربا
أَخَا ثقةٍ فِي النائباتِ مُرَزا ... كَرِيمًا نثاه لا بَخيلًا ولا ذَرْبا5
يطيفُ بِهِ العافونَ يَغْشَوْنَ بابَه ... يَؤُمون بَحْرًا لَا نَزُورًا وَلَا صَرْبَا6
فَوَاَللَّهِ لَا تَنْفَكُّ نَفْسِي حَزِينَةً ... تَمَلْمَلُ حَتَّى تَصدُقوا الخزرجَ الضربا
وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ، يَرْثِي أَبَا جَهْلٍ:
أَلَا مَنْ لِعَيْنٍ باتتِ الليلَ لَمْ تَنَمْ ... تُراقب نَجمًا فِي سوادٍ مِنْ الظُّلَمْ
كَأَنَّ قَذًى فِيهَا وَلَيْسَ بِهَا قَذًى ... سِوَى عَبْرةٍ مِنْ جائلِ الدَّمْعِ تَنْسَجِمْ
فبلِّغ قُرَيْشًا أَنَّ خيرَ نَديِّها ... وأكرمَ مَنْ يَمْشِي بساقٍ عَلَى قَدَمْ
ثَوَى يومَ بدرٍ رَهْنَ خَوْصَاءَ رَهنُها ... كريمُ الْمَسَاعِي غيرُ وَغْدٍ وَلَا بَرمْ7
فآليتُ لَا تنفَكُّ عَيْنَيَّ بعَبْرةٍ ... عَلَى هالكٍ بعدَ الرئيسِ أَبِي الحكمْ
عَلَى هَالِكٍ أشجَى لُؤَيَّ بْنَ غالبٍ ... أَتَتْهُ الْمَنَايَا يومَ بَدْرٍ فلم يَرِمْ8
__________
1 روح القدس: جبريل. وميكال: هو ميكائيل عليهما السلام. والملاء: أراد الملأ، وهم الأشراف.
2 يقال: هذا الشخص لغية إذا دعي لغير أبيه.
3 انظر حرب داحس فيما سبق من السيرة وهامشها.
4 السرب: النفس.
5 الذرب: الفاسد.
6 الصرب: المنقطع.
7 الخوصاء: البئر الضيقة. والبرم: البخيل.
8 لم يرم: لم يبرح.(2/273)
ترى كسَرَالخَطّيُّ فِي نحرِ مُهرِهِ ... لَدَى بائنٍ مِنْ لَحْمِهِ بَيْنَهَا خِذَمْ1
وَمَا كَانَ ليثٌ ساكنٌ بطنَ بِيشةٍ ... لَدَى غَلَلٍ يَجْرِي بِبَطْحَاءَ فِي أجَمْ2
بِأَجْرَأَ مِنْهُ حِينَ تَخْتَلِفُ القَنا ... وتُدْعَى نَزَالِ فِي القَماقمةِ البُهمْ3
فَلَا تَجْزَعُوا آلَ المغيرةِ وَاصْبِرُوا ... عَلَيْهِ وَمَنْ يجزعْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُلَم
وجِدُّوا فَإِنَّ الموتَ مَكرمةٌ لَكم ... وَمَا بعدَه فِي آخِرِ العيشِ مِنْ ندَمْ
وَقَدْ قلتُ إنَّ الريحَ طَيِّبَةٌ لَكُمْ ... وعِزَّ الْمَقَامِ غَيْرُ شَكٍّ لِذِي فَهَمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أهل العلم بالشعر ينكرها لضرار:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، يَبْكِي أَخَاهُ أَبَا جَهْلٍ:
أَلَا يَا لهفَ نَفْسِي بعَد عَمْرٍو ... وَهَلْ يُغني التلهفُ مِنْ قتيلِ
يُخْبِرُنِي المخبِّر أَنَّ عَمرًا ... أَمَامَ القومِ فِي جَفْر مُحيلِ4
فَقِدْمًا كُنْتُ أحْسب ذَاكَ حقُّا ... وأنتَ لِمَا تَقَدَّم غيرُ فِيلِ5
وكنتُ بنعمةٍ مَا دمتَ حَيًّا ... فَقَدْ خُلفْتَ فِي دَرَجِ المسيلِ6
كأني حِينَ أُمْسِي لَا أَرَاهُ ... ضعيفُ العَقْد ذُو هَم طويلِ7
عَلَى عَمْرٍو إذَا أمسيتُ يَوْمًا ... وطَرْفٌ من نَذكُّرِه كَلِيلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامِ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِلْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَقَوْلُهُ: "فِي جفر" عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأسْوَد بْنِ شُعوب اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ:
تحَيّي بالسلامةِ أمَّ بَكْر ... وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِن سلامِ
فَمَاذَا بالقَليبِ قليبِ بدرٍ ... مِنْ القَيْناتِ والشَّرْبِ الكرامِ
__________
1 الخطي: الرماح. الخذم، وقد تنطق بالجيم: قطع اللحم.
2 بطن بيشة: مكان تنسب إليه الأسود. الغلل: الماء الجاري في أصول الشجر، والأجم بضم الميم وفتحها وقد تسكن، مفردها أجمة: الشجر الكثير الملتف.
3 القماقمة: السادة الكرام، والبهم: الشجعان.
4 الجفر المحيل: للبئر القديمة.
5 غير فيل: أي غير فاسد الرأي.
6 درج المسيل: موطن الذل والغلبة.
7 العقد: العزم.(2/274)
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قليبِ بدرٍ ... مِنْ الشِّيزَى تُكلَّل بِالسَّنَامِ1
وَكَمْ لكِ بالطًّويِّ طَويِّ بدرٍ ... مِنْ الحَوْماتِ والنَّعَمِ الْمُسَامِ2
وَكَمْ لَكِ بالطَّوِيِّ طَوِيِّ بدرٍ ... مِنْ الغاياتِ والدُّسُعِ العظامِ3
وأصحابِ الكريمِ أَبِي عَلِيٍّ ... أَخِي الكاسِ الكريمةِ والنِّدامِ
وَإِنَّكَ لَوْ رأيتَ أَبَا عقيلٍ ... وَأَصْحَابَ الثَّنيةِ مِنْ نَعامِ4
إذًا لَظَلِلْتَ مِنْ وَجدٍ عَلَيْهِمْ ... كأمِّ السَّقْب جائلةِ المَرامِ5
يُخبرنا الرسولُ لسَوْفَ نَحْيَا ... وكيفَ لقاءُ أصداءٍ وَهَامِ6
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي أَبُو عُبيدة النَّحْوِيُّ:
يخبِّرنا الرسولُ بأنْ سَنَحْيا ... وَكَيْفَ حياةُ أصداءٍ وهامِ
قَالَ: وَكَانَ قد أسلم ثم ارتد.
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْت، يَرْثِي مَنْ أُصِيبَ مِنْ قُريش يَوْمَ بَدْرٍ:
أَلَّا بَكِيتِ عَلَى الْكِرَا ... مِ بَنِي الكرامِ أُولِي الممادِحْ
كَبُكَا الحمامِ عَلَى فُرُو ... عِ الأيْكِ فِي الغُصنِ الجوانحْ
يَبْكِينَ حَرَّى مُستكي ... ناتٍ يَرُحْنَ مَعَ الروائحْ
أمثالهنَّ الْبَاكِيَا ... تِ المعولاتِ مِنْ النوائحْ
مَنْ يَبْكِهمْ يَبْكِ عَلَى ... حُزْنٍ ويَصدُق كُلَّ مادحْ
مَاذَا ببدرِ فالعَقَن ... قَلِ من مَرازبةٍ جَحاجِحْ7
__________
1 الشيزي: جفان تصنع من خشب الأبنوس.
2 الطويّ: البئر المطوية بالحجارة، والحومات: القطيع من الإبل. والمسام: المرسل في المرعى.
3 الدسع: العطايا.
4 النعام: موضع.
5 السقب: ولد الناقة وقت وضعه.
6 الأصداء: جمع صدى وهو ما يتبقى من الميت في قبره. والهام: جمع هامة: وهى طائر تزعم العرب أنه يخرج من رأس القتيل يصيح اسقوني حتى يؤخذ بثأره فيسكت.
7 العقنقل: المنعقد من كثبان الرمل. والمرازبة: الرؤساء. كلمة أعجمية. والجحاجح: السادة.(2/275)
فمدافع البرْقَين فالحنان ... مِنْ طَرَفِ الأوَاشِحْ1
شُمْطٍ وشبانٍ بَهَا ... ليلٍ مَغاويرِ وحَاوِحْ2
ألا تَرَوْنَ لِمَا أرَى ... وقدْ أبانَ لكلِّ لامحْ
أَنْ قَدْ تغيَّر بطنُ مكـ ... ـةَ فَهْيَ مُوحشةُ الأباطحْ
من كل بِطريقٍ لبِطري ... ق نَقي اللونِ واضحْ3
دُعموصُ أَبْوَابِ الْمُلُو ... كِ وَجَائِبٌ لِلخِرقِ فَاتِحْ4
مِنْ السَّراطمةِ الخَلا ... جِمة المَلاوثةِ المَناجِحْ5
القائلين الفاعلين الآ ... مرينَ بكلِّ صالحْ
المُطعمين الشحمَ فَوْ ... قَ الخبزِ شَحْمًا كالأنافِحْ6
نُقلُ الجفانِ مَعَ الْجِفَا ... نِ إلَى جفانٍ كالمناضِحْ7
لَيْسَتْ بِأَصْفَارٍ لِمَنْ ... يَعْفو وَلَا رَح رَحارِحْ8
للضيفِ ثُمَّ الضيفِ بعدَ ... الضيفِ والبُسُط السَّلاطِحْ9
وُهُبُ المئينَ من المئي ... نَ إلى المئينَ من اللواقِحْ10
سَوْق المؤَبَّلِ للمُؤبَّ ... لِ صادراتٍ عن بَلادِحْ11
__________
1 مدافع: حيث يندفع السيل. البرقين: مكان. والحنان: كثيب الرمل، والأواشح: مكان.
2 الوحاوح: جمع وحوح: المنكمش الحديد النفس.
3 البطريق: رئيس الأساقفة عند النصارى وهو أيضًا: القائد من قواد الروم وهو العالم عند اليهود.
4 الدعموص: في الأصل دويبة صغيرة تغوص في الماء، استعارها لمن يكثر الدخول على الملوك. والجائب: القاطع. والخلاجمة: الطوال. والملاوث: السادة.
5 السراطمة: واسعو الخلق. والخلاجمة: الطوال. والملاوث: السادة.
6 الأنافح: جمع أنفحة وهو شيء يخرج من بطن البهائم المجترة لونه أصفر فشبه به الشحم.
7 المناضح: الحياض.
8 الأصفار: الآنية، ويعفو: يطلب المعروف، ورح رحارح: أي واسعة من غير عمق.
9 السلاطح: الطوال العرائض.
10 اللواقح الحوامل.
11 المؤبل: الإبل الكثيرة وبلادح: موضع.(2/276)
لكرامِهم فوقَ الْكِرَا ... مِ مَزيَّة وَزْنَ الرواجحْ
كتثاقُلِ الأرطال بالقِس ... طاسِ فِي الأيدِي الْمَوَائِحْ1
خَذَلتهمُ فئةَ وَهُمْ ... يَحمون عوراتِ الفضائحْ
الضاربين التَّقدميـ ... ـة بالمهنَّدةِ الصفائحْ2
وَلَقَدْ عَنَانِي صوتُهم ... مِنْ بَيْنِ مُسْتَسْقٍ وصائحْ
لله دَرّ بني عَلي ... أَيِّمٍ مِنْهُمْ ونَاكحْ
إنْ لَمْ يُغيروا غَارَةً ... شَعْواءَ تُجْحِر كلَّ نابحْ3
بالمُقْرَبات، المُبعَدا ... تِ، الطامحاتِ من الطوَامحْ4
مُرْدًا عَلَى جُرْدٍ إلَى ... أسْدٍ مُكالِبةٍ كوالحْ
ويُلاقِ قِرْنٌ قِرنَه ... مَشْيَ المصافِحِ للمصافحْ
بزُهاءِ ألفٍ ثم ألـ ... ـفٍ بَيْن ذِي بَدَنٍ ورامحْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ نَالَ فِيهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنْشَدَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ بَيْتَهُ:
ويُلاق قِرنٌ قِرْنه ... مَشْسي المصافحِ للمصافحْ
وَأَنْشَدَنِي أَيْضًا:
وُهُبُ الْمِئيِنَ مِنْ المئينَ ... إلَى الْمِئيِنَ مِنْ اللواقحْ
سَوْق الْمُؤَبَّلِ لِلْمُؤَبَّلِ ... صَادِرَاتٌ عَنْ بَلَادِحْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، يَبْكِي زَمعَة بْنَ الْأَسْوَدِ، وقَتْلى بَنِي أَسَدٍ:
عينُ بَكِّي بالمسجلاتِ أبا الـ ... ـحارثِ لَا تَذْخَرِي عَلَى زَمَعهْ5
وَابْكِي عقيلَ بنَ أسْود أسدَ الـ ... ـبأسِ ليومِ الهياجِ والدَّفْعَهْ
__________
1 الموائح: المتمايله لثقل ما ترفعه.
2 التقدمية: المتقدمين في أول الجيش، والصفائح: العرائض.
3 تجحر: تُلجئ إلى جحر.
4 المقربات: الكريمة التي تكون قرب البيوت اهتمامًا بها، والمبعدات: التي تبعد في جريها، والطامحات: التي ترفع رءوسها.
5 تذخري: تدخري.(2/277)
تِلْكَ بَنُو أسَدٍ إخْوَةِ الجوْ ... زاءِ لَا خانَة وَلَا خَدَعَهْ
هُمُ الأسرةُ الْوَسِيطَةُ مِنْ كع ... ببٍ وَهُمْ ذِرْوةُ السَّنامِ والقَمَعه1
أَنْبَتُوا مِنْ مَعَاشِرِ شَعَرَ الر ... أسِ وهُم أَلْحَقُوهُمْ المنَعَهْ
أَمْسَى بَنُو عمِّهم إذَا حضر ال ... بأسُ أكبادُهم عليهمُ وَجِعَهْ
وهم المطعِمون إذا قَحطَ القَط ... ْرُ وَحَالَتْ فَلَا تَرَى قَزَعَهْ2
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لِهَذَا الشِّعْرِ مُخْتَلِطَةٌ؛ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةِ الْبِنَاءِ، لَكِنْ أَنْشَدَنِي أَبُو مُحْرز خلف الأحمر وغيره، وروى بَعْضٌ مَا لَمْ يروِ بَعْضٌ:
عَيْنُ بَكي بالمسبلاتِ أَبَا الْحَا ... رثِ لَا تَذْخَري عَلَى زَمَعَهْ
وعقيلَ بنَ أسْوَدٍ أسدَ الْبَأْ ... سِ ليومِ الهِياجِ والدَّفَعَهْ
فعلَى مثلِ هُلْكِهم خَوَتِ الجوْ ... زاءُ، لَا خانةٌ وَلَا خَدَعَهْ
وهمُ الأسرةُ الوسيطةُ من كَع ... بٍ، وَفِيهِمْ كَذِرْوةِ القَمَعَهْ
أنْبتُوا مِنْ مَعَاشِرَ شعرَ الرأ ... سِ، وَهُمْ أَلْحَقُوهُمْ المنَعَهْ
فَبَنُو عمِّهم إذَا حَضَرَ الْبَأْ ... سُ عَلَيْهِمْ أكبادُهم وجِعَهْ
وَهُمْ المُطعمُونَ إذا قَحَطَ القطْ ... رُ وَحَالَتْ فَلَا تَرَى قَزَعَهْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، معاويةُ بْنُ زُهَير بْنِ قَيْس بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضُبَيْعة بْنِ مَازِنٍ بْنِ عَدي بْنِ جُشَم بْنِ مُعَاوِيَةَ حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ مُشْرِكًا وَكَانَ مَرَّ بهُبَيْرة بْنِ أَبِي وَهْبٍ وَهُمْ مُنْهَزِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ أَعْيَا هُبَيْرة، فَقَامَ فَأَلْقَى عَنْهُ درعَه وَحَمَلَهُ فَمَضَى بِهِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ أَصَحُّ أَشْعَارِ أَهْلِ بَدْرٍ:
وَلَمَّا أَنْ رأيتُ القومَ خَفُّوا ... وَقَدْ زَالَتْ نعامتُهم لنَفْر3
وَأَنْ تُركَتْ سراةُ القومِ صَرْعَى ... كَأَنَّ خيارَهم أذْباحُ عِتْرِ4
وَكَانَتْ جُمَّة وَافَتْ حِمامًا ... ولُقِّينا المنايا يومَ بدرِ5
صُدُّ عَنْ الطريقِ وَأَدْرَكُونَا ... كَأَنَّ زُهاءَهم غَطَيَانُ بَحْرِ6
__________
1 الوسيطة: الشريفة. والقمعة: السنام.
2 القزعة: القطعة من السحاب المتفرق.
3 زالت، ورويت شالت نعامتهم كناية عن الهلاك فالنعامة باطن القدم ومن مات شالت رجله فظهرت باطنها.
4 العتر: الصنم الذي يذبح له.
5 الجمة: الجماعة.
6 الغطيان: الفيضان.(2/278)
وَقَالَ الْقَائِلُونَ: مَن ابنُ قَيْسٍ؟ ... فَقُلْتُ: أَبُو أُسَامَةَ، غَيْرَ فَخْرِ
أَنَا الجُشَمِيُّ كَيْمَا تَعرفوني ... أبَيِّنُ نِسْبَتِي نَقْرًا بنقْر1
فَإِنْ تَكُ فِي الغَلاصمِ مِنْ قُرَيْشٍ ... فَإِنِّي مِنْ معاويَةَ بنِ بكرِ2
فأبلغْ مَالِكًا لَمَّا غُشينا ... وَعِنْدَكَ مالِ –إنْ نبأتَ– خُبري3
وأبلغْ إنْ بلغتَ المرءَ عَنَّا ... هُبَيْرة، وهْوَ ذُو عِلمٍ وقَدْرِ
بِأَنِّي إذْ دُعيت إلَى أفَيْدٍ ... كَرَرْتُ وَلَمْ يَضِقْ بالكرِّ صَدْرِي4
عشيةَ لَا يَكَرُّ عَلَى مُضافٍ ... وَلَا ذِي نَعمةٍ مِنْهُمْ وصِهْر5
فدونكمُ بَنِي لَأيٍ أَخَاكُمْ ... ودونَكِ مَالِكًا يَا أمَّ عمرِو6
فلولا مَشْهدي قامت عليه ... مُوَفَّقَةُ القوائمِ أمُّ أجْري7
دَفُوعٌ للقبورِ بمنكبَيْها ... كَأَنَّ بوجهِهَا تحميمُ قِدْرِ8
فأقسمُ بِاَلَّذِي قَدْ كَانَ رَبِّي ... وأنصَابٍ لدَى الجمراتِ مُغْرِ9
لَسَوْفَ ترَوْن مَا حَسبي إذَا مَا ... تبدَّلت الجلودُ جلودَ نمرِ
فَمَا إنْ خَادِرٌ مِنْ أسْدِ تَرْج ... مُدِل عَنْبَس فِي الغيلِ مُجْرِي10
فَقَدْ أَحْمِي الأباءةَ مِنْ كُلافٍ ... فَمَا يَدْنُو لَهُ أَحَدٌ بنقرِ11
__________
1 النقر: الطعن فى النسب، أي إن عبتم نسبي جاوبتكم بمثله.
2 الغلاصم: الأعالي.
3 مال: أصله مالك فرخمه بحذف آخره.
4 أفيد: تصغير وفد اسم للجمع، مثل ركب، ولذلك جاز تصغيره.
5 المضاف: الخائف.
6 بني لأي: جاء به مكبرًا على أصله ويريد به بني لؤي.
7 الموفقة: السبع. والأجر، جمع جرو: وهو ولدها.
8 التحميم: التلطخ بالسواد.
9 الأنصاب: ما يذبحون عنده من الأحجار. ومغر: حمراء.
10 الخادر: الأسد في خدره، والخدر أجمة الأسد. وترج، جبل بالحجاز. والعنبس: العابس الوجه. والغيل: الشجر الملتف. المجرى: ذو جراء، أي ذو أشبال.
11 الأباءة: أجمة الأسد. والكلاف: إما أن تكون اسمًا لمكان أو لعله أراد أنه من شدة كلفه بذلك.(2/279)
بِخَل تَعجزُ الحُلَفاءُ عَنْهُ ... يواثبُ كلَّ هَجْهَجَةٍ وزَجْرِ1
بأوشَكَ سَوْرَةً مِنِّي إذَا مَا ... حَبَوْتُ لَهُ بقَرْقَرَةٍ وهَدْرِ2
ببيضٍ كالأسنَّةِ مُرْهَفَاتٍ ... كَأَنَّ ظُباتِهنَّ جَحيمُ جَمْرِ3
وأكلَفَ مُجنإٍ مِنْ جلدِ ثَوْر ... وَصَفْرَاءِ البُراية ذاتَ أزْرِ4
وأبيضَ كالغديرِ ثَوَى عَلَيْهِ ... عُمَيْر بالمداوسِ نصفَ شَهْرِ5
أرَفِّلُ فِي حمائلهِ وأمشِي ... كمِشْيةِ خادرٍ ليثٍ سِبَطْرِ6
يَقُولُ ليَ الْفَتَى سَعدٌ هَدِيّا ... فقلتُ: لَعَلَّهُ تقريبُ غَدْر7
وَقُلْتُ أَبَا عَدِيّ لَا تَطُرْهم ... وَذَلِكَ اٍن أطعْتَ اليومَ أَمْرِي8
كدأبِهمُ بفروةَ إذْ أتاهمْ ... فظلَّ يُقادُ مَكْتُوفًا بضفرِ9
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْشَدَنِي أَبُو مُحْرز خَلَفُ الْأَحْمَرُ:
نَصُدُّ عَنْ الطَّرِيقِ وَأَدْرَكُونَا ... كَأَنَّ سِراعَهم تيارُ بحرِ
وَقَوْلُهُ: مُدَلٍّ عَنْبَسٌ فِي الغيلِ مُجْري، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وقال أبو أسامة أيضًا:
__________
1 الخل: الطريق وسط الرمل. والحلفاء: الأصدقاء المتحالفون. والهجهجة: زجر الأسد بأن تقول له: هج هج.
2 السورة: الحدة. والقرقرة والهدر: من أصوات فحول الإبل.
3 الظباة: جمع ظبة، حد السهم.
4 الأكلف: الترس أسود الظاهر. والمجنأ: المنحني. وصفراء: القوس. والبرايا ما يتطاير منها حين تصنع.
5 الأبيض: السيف. وعمير: اسم رجل يصقل السيوف. والمداوس: الآلات التي تصقل بها السيوف.
6 أرفل: أطول. والسبطر: الطويل.
7 الهدي: ما يهدى إلى البيت، ونصبه على إضمار فعل من لفظه.
8 لا تطرهم: لا تقربهم.
9 الدأب: العادة. والضفر: الحبل المفتول.(2/280)
أَلَا مِنْ مُبلغٍ عَنِّي رَسُولًا ... مُغَلْغَلةً يُثَبتُها لطيفُ1
أَلَمْ تعلمْ مَرَدي يومَ بَدْرٍ ... وَقَدْ بَرَقَتْ بجنْبيْكَ الكُفوفُ2
وَقَدْ تُركت سَراةُ القومِ صَرْعَى ... كَأَنَّ رُءُوسَهُمْ حَدَجٌ نَقيفُ3
وَقَدْ مَالَتْ عَلَيْكَ ببطْنِ بَدْرٍ ... خلافَ القومِ داهيةٌ خَصيف4
فنجَّاه مِنْ الغَمراتِ عَزْمي ... وعونُ اللَّهِ والأمرُ الحَصيفُ
ومُنقلَبي مِنْ الأبواءِ وحْدي ... وَدُونَكَ جَمعُ أعداءٍ وُقوفُ5
وأنتَ لمَنْ أرادكَ مُستكينٌ ... بجنبِ كُراشَ مَكلومٌ نَزِيفُ6
وَكُنْتُ إذَا دَعَانِي يومَ كربٍ ... مِنْ الأصحابِ داعٍ مُستضيفُ7
فَأَسْمَعَنِي وَلَوْ أَحْبَبْتُ نَفْسِي ... أخٌ فِي مثلِ ذَلِكَ أَوْ حليفُ
أرُدُّ فأكشِفُ الغُمَّى وأرْمِي ... إذَا كَلَحَ المَشافرُ والأنوفُ8
وقِرنٍ قَدْ تركتُ عَلَى يَدَيْهِ ... ينوءُ كأنه غُصْن قَصيفُ
دلفْتُ له إذا اخْتَلَطُوا بحَرَّى ... مُسَحْسَحةٍ لعانِدِها حَفيفُ9
فَذَلِكَ كَانَ صُنعي يومَ بدرٍ ... وقبلُ أَخُو مُداراةٍ عَزوفُ10
أَخُوكُمْ فِي السِّنِينَ كَمَا عَلمتم ... وحَربٍ لَا يزالُ لَهَا صَريفُ11
ومِقدام لَكُمْ لَا يَزْدهيني ... جَنانُ الليلِ والأنَسُ اللفيفُ12
__________
1 المغلغلة: الرسالة. واللطيف: الحازم في أموره.
2 برقت: لمعت.
3 الحدج النقيف: الحنظل المكسور لأخذ الحب منه.
4 الخصيف المتراكم.
5 الأبواء: مكان بين مكة والمدينة وبه قبر آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم.
6 كراش: اسم جبل، والمكلوم: الجريح.
7 المستضيف: الواقع في الضيق.
8 المشافر: شفاه الإبل، واستعارها هنا للآدمي.
9 حرى: موجعة: صفة لموصوف محذوف أي طعنة موجعة. المسحسحة: كثيرة سيلان الدم. والمعاند: العرق الذي لا ينقطع دمه. والحفيف: الصوت.
10 المداراة: مصانعة الناس. والعزوف: المترفع عن الدنايا.
11 السنين: سنين القحط المجدبة. والصريف: الصوت.
12 جنان الليل: ظلمته. الأنس اللفيف: الجماعة الكثيرة.(2/281)
أَخُوضُ الصَّرَّةَ الجمَّاءَ خَوْضاَ ... إذَا مَا الكلْبُ أَلْجَأَهُ الشَّفيفُ1
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْتُ قَصِيدَةً لِأَبِي أُسَامَةَ عَلَى اللَّامِّ، لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ بَدْرٍ إلَّا فِي أَوَّلِ بَيْتٍ مِنْهَا وَالثَّانِي، كراهة الإكثار.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتبة بْنِ رَبِيعَةَ تَبْكِي أَبَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ:
أعينَي جوادا بدمعٍ سَرِبْ ... عَلَى خيرِ خِنْدِفَ لَمْ ينقلبْ
تَدَاعَى لَهُ رهطُهُ غُدوةً ... بَنُو هاشمٍ وَبَنُو المطلبْ
يُذيقونه حَدَّ أسيافِهم ... يَعُلُّونَه بَعْدَ مَا قَدْ عَطِبْ
يَجرونه وعفيرُ التُّرَابِ ... عَلَى وجههِ عَارِيًا قَدْ سُلبْ
وَكَانَ لَنَا جَبلًا رَاسِيًا ... جميلَ المرآة كثيرَ العُشُبْ2
وأمَّا بُرَيُ فَلَمْ أعْنِه ... فأوتِي مِنْ خَيْرِ مَا يَحتَسب3
وَقَالَتْ هِنْدُ أَيْضًا:
يريبُ عَلَيْنَا دهرُنا فيسوءنا ... ويأبَى فما تأتي بشيءٍ يغالبُهْ
أبعدَ قتيلٍ مِنْ لؤيِّ بنِ غالبٍ ... يُراع أمرؤ إنْ مَاتَ أَوْ مَاتَ صاحبُهْ
أَلَا رُبَّ يوم قد رُزئت مُرَزَّءًا ... تَرُوحُ وَتَغْدُو بالجزيلِ مواهبُهْ
فأبلغْ أَبَا سًفيانَ عَنِّي مَالكًا ... فَإِنْ ألْقَهْ يَوْمًا فَسَوْفَ أعاتبهْ4
فَقَدْ كَانَ حَرْبٌ يُسعِرُ الحربَ إنَّهُ ... لكلِّ امرىء فِي الناسِ مَوْلًى يطالبُهْ5
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِهِنْدٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَتْ هِنْدُ أَيْضًا:
للهِ عَيْنا مَنْ رَأى ... هُلْكا كَهُلْكِ رِجَالِيَهْ
يَا رُبَّ باكٍ لي غدا ... فى النائباتِ وباكيهْ
__________
1 الصرة: شدة البرد. الجماء: الشديدة. والشفيف: الريح الشديدة.
2 المرآة: أرادت مرآة العين، فنقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها فحذفت الهمزة.
3 بري: مصغر البراء وهو اسم رجل.
4 المالك: الرسالة الشفوية.
5 حرب: والد أبي سفيان.(2/282)
كما غادروا يومَ القليب ... غداةَ تلك الوَاعيهْ1
من كلِّ غيثفى السَّنِيـ ... ـنِ إذَا الكواكبُ خاويهْ
قَدْ كنتُ أحذَرُ مَا أَرَى ... فَالْيَوْمُ حَقَّ حَذارية
قَدْ كُنْتُ أحْذَرُ مَا أَرَى ... فَأَنَا الغَداةَ مُوامِيَهْ2
يَا رُبَّ قائلةٍ غَدًا ... يَا وَيْحَ أمِّ مُعاويهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِهِنْدٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَتْ هِنْدُ أَيْضًا:
يَا عينُ بكِّي عُتُبه ... شَيْخًا شَدِيدَ الرَّقبه
يُطعم يَوْمَ الْمَسْغَبَهْ ... يَدْفَعُ يَوْمَ المغلَبه
إنِّي عَلَيْهِ حَرِبَهْ ... مَلْهُوفَةٌ مُسْتَلبه3
لنهبطنَّ يثربَهْ ... بغارةٍ مُنْثعبهْ4
فِيهَا الخيولُ مُقْرَبه ... كلُّ جوادٍ سَلْهَبَهْ5
وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بنتُ مُسَافِرِ بْنِ أَبِي عَمرو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، تَبْكِي أَهْلَ الْقَلِيبِ الَّذِينَ أُصِيبُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَتَذْكُرُ مصابَهم:
يَا مَن لِعَيْنٍ قَذَاها عائرُ الرمدِ ... حَدَّ النهارِ وقَرْنُ الشمسِ لَمْ يَقِدِ6
أُخْبِرْتُ أَنَّ سَراةَ الْأَكْرَمِينَ مَعًا ... قَدْ أحرَزتْهم مناياهُم إلَى أمَدِ
وفَرَّ بالقومِ أصحابُ الركابِ وَلَمْ ... تَعطِفْ غَداتئِذٍ أُمٌّ عَلَى ولدِ
قُومي صَفِيَّ وَلَا تَنْسَى قرابتَهم ... وَإِنْ بكيتِ فَمَا تَبْكِينَ مِنْ بُعُدِ
كَانُوا سقُوبَ سَمَاءِ الْبَيْتِ فانقصفتْ ... فَأَصْبَحَ السَّمْك مِنْهَا غيرَ ذِي عَمَدِ7
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي بَيْتَهَا: "كَانُوا سُقُوبَ" بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ.
__________
1 الواعية: الصراخ.
2 موامية: أصلها مؤامية وهي الذليلة.
3 الحربة: الحزينة.
4 المنثعبة: سريعة السيلان.
5 السهلية: الفرس الطويلة.
6 القذا: ما يقع في العين من الأذى. والعائر: وجع في العين. وحد النهار: الفاصل الذي بينه وبين الليل. وقرن الشمس: أعلاها. ولم يقد: لم يتم نوره.
7 السقوب: عمد الخباء.(2/283)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ مُسَافِرٍ أيضًا:
ألا يا مَنْ لعينٍ ... للتبكي دمعُها فانِ
كغَربي دالجِ يَسْقِي ... خِلالَ الغَيِّثِ الدانِ1
وَمَا ليثُ غريفٍ ذُو ... أَظَافِيرَ وأسنانِ2
أبو شِبْلَيْنِ وَثَّابٌ ... شديدُ البطشِ غَرْثانِ3
كحِبِّي إذْ تولَّى ... ووجوهُ الْقَوْمِ ألوانُ
وبالكفِّ حُسَامٌ صَا ... رمٌ أبيضُ ذُكران4
وأنت الطَّاعنُ النجلا ... ءَ منها مُزبذ آن5
قال ابن هشام: ويروون قَوْلَهَا: "وَمَا لَيْثُ غَرِيفٍ" إلَى آخِرِهَا، مَفْصُولًا من البيتين اللذين قبله.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّاد بْنِ الْمُطَّلِبِ تَرْثِي عُبيدة بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ:
لَقَدْ ضمِّن الصفراءُ مَجْدًا وسؤدَدًا ... وحِلمًا أَصِيلًا وافرَ اللُّبِّ والعقْلِ6
عبيدةَ فَابْكِيهِ لأضيافِ غُربةٍ ... وأرملةٍ تهوِي لأشْعثَ كالجَذْلِ7
وبكِّيه للأقوامِ فِي كلِّ شَتوةٍ ... إذَا احمرَّ آفاقُ السماءِ مِنْ المَحْلِ
وبكِّيه للأيتامِ والريحُ زَفْرَة ... وتشْبيب قِدرٍ طَالَمَا أزْبدت تَغْلى8
فَإِنْ تُصبح النيرانُ قد مات ضَوْؤها ... فَقَدْ كَانَ يُذْكِيهنَّ بالحطَبِ الجَزْلِ
لطارقِ ليلٍ أَوْ لملتمسِ القِرَى ... ومُسْتنبحٍ أضْحَى لَدَيْهِ عَلَى رِسْلِ9
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بالشعر ينكرها لهند.
__________
1 الغرب: الدلو العظيمة. الدالج: السائر بالدلو بين البئر والشجر.
2 الغريف: أجمة الأسد.
3 الغرثان: الجوعان.
4 الذكران: أجود الحديد وأيبسه.
5 المزبد: الذي له زبد وهو الرغوة. وآن: حام.
6 الصفراء: موضع بين مكة والمدينة.
7 الأشعث: المتغير. والجذل: أصل الشجرة.
8 الريح الزفرة: الشديدة. والتشبيب: إيقاد النار تحت القدر. وأزبدت: رمت بالزبد وهو الرغوة.
9 المستنبح: الضال بالليل فينبح مثل الكلاب فتجاوبه كلاب الحي فيهتدي إليه. والرسل: هنا الرخاء.(2/284)
قال ابن إسحاق: وقالت قُتَيلة بن الْحَارِثِ، أُخْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ1، تَبْكِيهِ:
يَا رَاكِبًا إنَّ الأثيْل مَظِنَّةٌ ... مِنْ صُبحِ خامسةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ
أبلغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً ... مَا إنْ تزالُ بِهَا النجائبُ تَخْفقُ
مِنِّي إلَيْكَ وعَبرةً مَسْفُوحَةً ... جَادَتْ بواكفِها وَأُخْرَى تخنُقُ2
هَلْ يسمعنِّي النضرُ إنْ ناديتُهُ ... أَمْ كَيْفَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لَا ينطقُ
أَمُحَمَّدُ يَا خيرَ ضنْءِ كريمةٍ ... فِي قومِها والفحلُ فحلٌ مُعْرقُ3
مَا كَانَ ضَرَّك لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ المَغيظُ المحْنَقُ
أَوْ كُنْتَ قابلَ فديةٍ فليُنفقنَّ ... بِأَعَزَّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنفَقُ
فالنضرُ أقربُ مَنْ أسَرْتَ قَرَابَةً ... وأحقُّهم إنْ كَانَ عِتْقٌ يُعتَقُ
ظلتْ سيوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أرحامٌ هُنَاكَ تُشققُ
صَبرًا يُقاد إلَى الْمَنِيَّةِ مُتْعَبًا ... رَسْف المقيَّد وهُو عانٍ مُوثَقُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَيُقَالُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الشِّعْرُ، قَالَ: "لَوْ بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فراغُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ فِي عَقِب شهر رمضان أو في شوال.
بحمد الله وحسن توفيقه تم الجزء الثاني من سيرة ابن هشام ويليه الجزء الثالث إن شاء الله نرجو من الله أن يعين على تمامه
__________
1 الصحيح: أنها بنت النضر لا أخته.
2 الواكف: السائل.
3 الضن: الأصل. والمعرق: الكريم.(2/285)
الفهارس
...
فهرست الجزء الثاني من سيرة ابن هشام:
ص الموضوع
3 خبر الصحيفة ائتمار قريش بالرسول عليه السلام تهكم أبي لهب بالرسول وما نزل فيه من القرآن
4 شعر أبي طالب في تظاهر قريش أبو جهل يحكم الحصار على المسلمين
5 ذكر ما لقى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْأَذَى
مَا نزل من القرآن في أبي لهب وامرأته
6 أم جميل امرأة أبي لهب إيذاء أمية بن خلف للرسول
7 إيذاء العاص للرسول
إيذاء أبي جهل للرسول
إيذاء النضر للرسول
8 ابن الزبعرى وما قيل فيه
9 الأخنس وما أنزل فيه الوليد وما أنزل فيه أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وما أنزل فيهما
10 سورة "الكافرون" وسبب نزولها أبو جهل وما نزل فيه
11 تفسير لفظ المهل
ابن أم مكتوم والوليد وسورة عبس
12 العائدون من أرض الحبشة
14 عثمان بن مظعون يرد جوار الوليد
15 أبو سلمة في جوار أبي طالب
16 دخول أبي بكر في جوار بن الدغنة ورده عليه
17 حديث نقض الصحيفة
22 إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي
23 إسلام والد الطفيل وزوجه
25 قصة أعشى بني قيس بن ثعلبة
26 نهاية الأعشى
27 أبو جهل والإراشي
27 ركانة المصلي ومصارعته للنبي صلى الله عليه وسلم قدوم وفد النصارى من الحبشة
30 سبب نزول سورة الكوثر
معنى الكوثر
31 نزول "وقالوا لولا نزل عليه ملك" نزول "ولقد استهزئ برسل من قبلك"
32 ذكر الإسراء والمعراج رواية ابن مسعود عن الإسراء رواية الحسن
33 رواية قتادة(2/286)
ص الموضوع
33 عودة إلى رواية الحسن
34 رواية عائشة، رواية معاوية، الإسراء رؤيا
35 وصف إبراهيم وموسى وعيسى علي يصف الرسول صلى الله عليه وسلم
36 رواية أم هانئ عن الإسراء قصة المعراج
40 المستهزئون بالرسول وكفاية الله أمرهم
41 قصة أبي أزيهر الدوسي
44 دوس تحاول الثأر لأبي أزيهر
45 أم غيلان وأم جميل، وفاة أبي طالب وخديجة وما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدهما
46 المشركون يطلبون عهد بينهم وبين الرسول قبل موت أبي طالب
47 رجاء الرسول إسلام أبي طالب وما نَزَلَ فِيمَنْ طَلَبُوا الْعَهْدَ عَلَى الرَّسُولِ عِنْدَ أبي طالب، سعى الرسول إلى الطائف وموقف ثقيف منه
49 وفد جن نصيبين
50 عَرْضُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه على القبائل عرض نفسه في المواسم
53 إسْلَامُ إيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ وَقِصَّةُ أَبِي الْحَيْسَرِ
54 إسلام الأنصار
55 أسماء من التقوا به صلى الله عليه وسلم من الخزرج
56 بيعة العقبة الأولى
57 نص البيعة
58 إرسال مصعب بن عمير مع وفد العقبة أول جمعة أقيمت بالمدينة إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير
61 أمر العقبة الثاني البراء بن معرور يصلي إلى الكعبة
63 إسلام عبد الله بن حرام، لامرأتان في البيعة، العباس يستوثق من الأنصار، عهد الرسول على الأنصار
65 أسماء النقباء الاثنى عشر، نقباء الخزرج، نقباء الأوس، شعر كعب بن مالك في النقباء
66 ما قاله العباس بن عبادة للخزرج
67 أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ فِي بيعة العقبة الثانية، الشيطان يصرخ بعد بيعة العقبة الأنصار تستعجل الحرب
67 قريس تجادل الأنصار، قريس تأسر سعد بن عبادة، خلاص سعد
70 قصة صنم عمرو بن الجموح
71 إسلام عمرو وما قاله من الشعر(2/287)
72 شروط البيعة في العقبة الأخيرة، أسماء من شهد العقبة الأخيرة
79 نُزُولُ الْأَمْرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في القتال
80 الإذن لمسلمي مكة بالهجرة إلَى الْمَدِينَةِ ذِكْرُ الْمُهَاجِرِينَ إلَى الْمَدِينَةِ
85 هِجْرَةُ عمرو قصة عياش وهشام معه
86 أمر الوليدين الوليد مع عياش وهشام منازل المهاجرين بالمدينة
89 هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم قريش تتشاور في أمره
91 استخلافه لعلي
92 ما نزر في تربص المشركين بالنبي وأبو بكر يطمع في المصاحبة، حديث الهجرة إلى المدينة
93 في الغار
94 من قام بشأن الرسول في الغار سبب تسمية أسماء بذات النطاق راحلة الرسول
95 أبو جهل يضرب أسماء الجني الذي تغنى بمقدمه صلى الله عليه وسلم نسب أم معبد
96 موقف آل أبي بكر بعد الهجرة سراقة بن مالك
97 طريق الهجرة
97 قدومه صلى الله عليه وسلم قباء
100 مسجد قباء، خروج الرسول من قباء وذهابه إلى المدينة، واعتراض القبائل له لينزل عندها
101 مبرك الناقة
102 مسجد المدينة
عمار والفئة الباغية
103 الرسول ينزل في بيت أبي أيوب
104 أبو سفيان وبنو جحش
105 خطبة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
106 الرَّسُولُ يوادع اليهود
108 المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
110 أبو أمامة
111 خبر الأذان
112 ما كان يدعو به بلال قبل الفجر، أبو قيس بن أبي أنس
115 عداوة اليهود
118 إسلام عبد الله بن سلام
119 حديث صفية، المنافقون بالمدينة
125 المنافقون من أحبار اليهود، طرد المنافقين من المسجد
127 ما نزل في اليهود والمنافقين
137 سؤال اليهود الرسول وإجابته اليهود ينكرون نبوة سليمان ورد الله عليهم
137 كِتَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَهُودِ خيبر(2/288)
163 كفالة جريج لمريم
164 رفع عيسى عليه السلام
165 إباء النصارى الملاعنة
166 أبو عبيدة يتولى أمرهم، أخبار عن المنافقين
169 ذِكْرُ مَنْ اعْتَلَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دعاء الرسول بنقل وباء المدينة إلى مهيعة
170 بدء قتال المشركين، تاريخ الهجرة، غَزْوَةُ وَدَّانَ وَهِيَ أَوَّلُ غَزَوَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام
171 سَرِيَّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَهِيَ أَوَّلُ رَايَةٍ عقدها عليه الصلاة والسلام
174 سرية حمزة إلى سيف البحر
176 غزوة بواط، غزوة العشيرة
178 سرية سعد بن أبي وقاص، غزوة سفوان "وهي غزوة بدر الأولى"، سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَنُزُولُ "يَسْأَلُونَكَ عن الشهر الحرام"
181 صرف القبلة إلى الكعبة
182 غزوة بدر الكبرى، رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب
184 قريش تتجهز للخروج، ما وقع بين قريش وكنانة
186 خروج الرسول صلى الله عليه وسلم، اللواء والرايتان، عدد إبل المسلمين إلى بدر
187 الطريق إلى بدر
188 استشارة الأنصار
190 نجاة أبي سفيان بالعير
191 قريش تنزل بالعدوة والمسلمون ببدر
193 الحنظلية ونسبها
194 مقتل الأسود بن عبد الأسد المخزومي
195 دعاء عتبة إلى المبارزة، التقاء الفريقين ضرب الرسول لابن غزية
196 الرسول يناشد ربه النصر، أول شهيد من المسلمين
198 مقتل أمية بن خلف
199 الملائكة تشهد وقعة بدر
200 مقتل أبي جهل
202 حديث عكاشة بن محصن
203 طرح المشركين في القلب
204 شعر حسان في ذلك
205 الْفِتْيَةِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ "إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الملائكة ظالمي أنفسهم"
206 في بدر، الرجوع إلى المدينة(2/290)
208 مقتل النضر وعقبة
209 بلوغ مصاب قريش في رجالها إلى مكة
211 فداء سهيل بن عمرو
212 أسر عمرو بن أبي سفيان
213 قصة زينب بنت الرسول وزوجها أبي العاص
215 خروج زينب إلى المدينة
217 إسلام أبي العاص بن الربيع
220 إسلام عمير بن وهب وتحريض صفوان على قتل الرسول
223 المطعمون من قريش
224 نزول سورة الأنفال تصف أحداث بدر
232 من حضر بدرا من المسلمين
251 من استشهد من المسلمين يوم بدر من قتل ببدر من المشركين
257 ذكر أسرى قريش يوم بدر
259 ما قيل من الشعر يوم بدر
تمت الفهرسة(2/291)
129 ما نزل في أبي ياسر وأخيه
140 كفر اليهود بالإسلام وما نزل في ذلك
141 تنازع اليهود والنصارى عنده صلى الله عليه وسلم
142 ما قالته اليهود عند صرف القبلة إلى الكعبة
143 كتمانهم ما في التوراة، جوابهم حينما دعوا إلى الإسلام جمعهم في سوق بني قينقاع
144 دخلوه صلى الله عليه وسلم بين المدراس، تنازع اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام، ما نزل في إيمانهم غدوة وكفرهم عشيا
145 ما نزل في قول أبي رافع أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى
146 ما نزل في أخذ الميثاق عليهم سعيهم في الوقعية بين الأنصار يوم بعاث
147 ما نزل في قولهم: ما اتبع محمد إلا شرارنا
148 مَا نَزَلَ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُبَاطَنَةِ اليهود، دخول أبي بكر بيت المدارس
149 أمر اليهود المؤمنين بالبخل
150 اليهود يجحدون الحق
151 من حزبوا الأحزاب، إنكار اليهود التنزيل
151 اتفاقهم على طرح الصخرة عليه صلى الله عليه وسلم
152 ادعاؤهم أنهم أحباء الله، إنكارهم نزول كتاب بعد موسى رُجُوعُهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حكم الرجم
154 ظلمهم في الدية، رغبتهم في فتنة الرسول
155 إنكارهم نبوة عيسى عليه السلام ادعاؤهم أنهم على حق، إشراكهم بالله، نهى المؤمنين عن موادتهم
156 سؤالهم عن قيام الساعة، ادعاؤهم أن عزيزا ابن الله
157 طلبهم كتابا من السماء، سؤالهم عن ذي القرنين، تهجمهم على ذات الله
158 ذكر نصارى نجران وما نزل فيهم معنى العاقب والسيد والأسقف
159 إسلام كوز بن علقمة
رؤساء نجران وإسلام ابن رئيس صلاتهم إلى جهة المشرق
160 أسماؤهم ومعتقداتهم، ما نزل فيهم من القرآن
162 ما نزل فيما اتبعه اليهود والنصارى ما نزل في وعظ المرمنين وتحذيرهم ما نزل في خلق عيسى وخبر مريم وزكريا(2/299)