ووجد زهير له أنصارًا وأعوانًا، من المعجبين به في الإسلام بالطبع، قدَّموه على غيره من شعراء الجاهلية. وقد سبق أن شارت إلى رواية زعمت أن عمر فضله على غيره من شعراء أهل الجاهلية1. وذكر أن عكرمة بن جرير سأل أباه جريرًا: من أشعر الناس؟ قال: أعن الجاهلية تسألني أم الإسلام؟ قال: ما أردت إلا الإسلام؟ فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها، قال: زهير شاعرهم"2. وزعم أن ابن عباس سأل الحطيئة عن أشعر الناس، فقال: الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ون لا يتسق الشَّتمَ يشتمِ
وليس الذي يقول:
ولست بمستبق أخًا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
بدونه، ولكن الضراعة أفسدته، كما أفسدت جرولا، والله لولا الجشع لكنت أشعر الماضين، وأما الباقون فلا شك أني أشعرهم. قال ابن عباس: كذلك أنت يا أبا مُلَيكة"3. وقائل البيت الأول زهير، وقائل البيت الثاني هو النابغة.
ولكنَّا نقرأ في رواية أخرى ما يخالف هذا الرأي، نقرأ فيها أن سائلا سأل الحطيئة عن أشعر الناس، فقال أبو دؤاد حيث يقول:
لا أعدُّ الإقتار عدمًا، ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
وهو رأي لم يقبل به أحد من النقاد4. وجعل بعده عُبَيدًا5.
ورجح بعضهم الأعشى على غيره، رجحه الشاعر الأخطل مثلا، فزعم أنه قال: "الأعشى أشعر الناس"6. وكان خلف الأحمر يقول: الأعشى
__________
1 العمدة "1/ 98".
2 العمدة "1/ 96".
3 العمدة "1/ 97"، المزهر "2/ 481".
4 العمدة "1/ 97"، المزهر "2/ 481".
5 الشعر والشعراء "1/ 242"، "دار الثقافة، بيروت".
6 العمدة "1/ 97"، المزهر "2/ 481".(17/234)
أجمعهم. وقال أبو عمرو بن العلاء مثله مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره، وكان أبو الخطاب الأخفش يقدمه جدًّا، لا يقدِّم عليه أحدًا"1. "وقال بعض متقدمي العلماء: الأعشى أشعر الأربعة"2، والأربعة هم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، أو زهير، والنابغة، والأعشى، وعنترة3. "حكى الأصمعي عن ابن أبي طرفة: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب. وزاد قوم: وجرير إذا غضب"، "وقيل لكثير، أو لنصيب، من أشعر العرب؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب"4.
وحجة من قدَّم الأعشى، أنه كان "أكثرهم عروضًا وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، وأكثرهم مدحًا وهجاءً ونظرًا وصفة كل ذلك عنده"5.
ووجد النابغة من فضله على غيره من شعراء الجاهلية، وفيهم الخليفة أبو بكر الذي كان يقول عنه "هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا"6 و"عمر"7 والشاعر "جرير"8، وحجة من قدم النابغة على غيره أنه: "كان أحسنهم ديباجة عشر، وأكثره رونق كلام، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحًا، وهجاء، وفخرًا، وصفة"9، و"أجزلهم بيتًا. كان شعره كلام ليس فيه تكلُّف"10.
وزعم أن الكُمَيت كان يقول: "عمرو بن كلثوم أشعر الناس"،
__________
1 العمدة "1/ 95".
2 العمدة "1/ 99".
3 العمدة "1/ 95".
4 العمدة "1/ 95".
5 ابن سلام، طبقات "1/ 18".
6 العمدة "1/ 95".
7 ابن سلام، طبقات "17"
8 "وقال جرير: النابغة أشعر الناس"، المزهر "2/ 481".
9 العمدة "1/ 99".
10 ابن سلام، طبقات "17".(17/235)
وأن الشاعر ذا الرُّمَّة" فضل لبيدًا على كل الشعراء1.
وكان ابن أبي إسحاق، وهو عالم، ناقد، ومتقدم مشهور، يقول: "أشعر الجاهلية مرقش"، وسأل عبد الملك بن مروان الأخطل: من أشعر الناس؟ فقال: العبد العجلاني، يعني تميم بن أبي مقبل"2، وهو من المخضرمين3، "وقيل لنصيب مرة: من أشعر العرب؟ فقال: أخو تميم، يعني علقمة بن عبدة، وقيل أوس بن حجر، وليس لأحد من الشعراء بعد امرئ القيس، ما لزهير والنابغة، والأعشى في النفوس"4.
وذكر ابن سلام أن أبا عمرو بن العلاء كان يرى أن خداش بن زهير أشعر في قريحة الشعر من لبيد، وأبى الناس إلا تقدمة لبيد. وكان يهجو قريشًا"5. ولعل هذا الهجاء هو الذي جعل الناس يأبون تقديمه في الشعر.
وروي عن الأصمعي، أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "كان أوس بن حجر فحل العرب، فلما أنشأ النابغة طأطأ منه"، وذكر عنه أيضا، وقد سئل عن النابغة وزهير، أنه قال: "ما كان زهير يصلح أن يكون أخيذًا للنابغة، يعني روايًا عنه". وروي أن أهل البصرة أجمعوا على امرئ القيس وطرفة بن العبد، وأجمع أهل الكوفة على بشر بن أبي خازم والأعشى الهمداني، وأجمع أهل الحجاز على النابغة وزهير6.
وليونس النحوي رأى في أشعر الشعراء، قيل إنه سئل "عن أشعر الناس فقال: لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكني أقول: امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا غضب"7. فربط الشاعرية بحالة من الحالات النفسية. وورد التفضيل على هذا النحو: "أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب،
__________
1 المزهر "2/ 481".
2 العمدة "1/ 97"، ابن سلام، طبقات "16".
3 الشعر والشعراء "1/ 366".
4 العمدة "1/ 97 وما بعدها".
5 ابن سلام، طبقات "32 وما بعدها".
6 السيوطي، شرح شواهد "1/ 80".
7 ياقوت، إرشاد "7/ 310".(17/236)
وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب. وكان زهير أجمع الناس للكثير من المعاني في القليل من الألفاظ، وأحسنهم تصرفًا في المدح والحكمة"1.
ترى مما تقدم أن موضوع من كان أشعر شعراء الجاهلية موضوع حساس، لما كان للعصبية وللذوق الشخصي دخل فيه، ثم إنهم لم يكونوا يحكمون من دراسة الكل، أي بدارسة كل ما ينسب إلى الشاعر من شعر، وإنما كانوا ربما حكموا على الشاعر ببيت أو ببيتين، وحكم مثل هذا يمكن أن يتخذ حكمًا علميًّا، أضف إلى ذلك أنهم لم يميزوا بين ما نسب إلى الشاعر من شعر، وبين ما صح له من شعر، ولا يكون الحكم في المثل هذا الأمور حكمًا علميًّا، إلا بدراسة عميقة لشعر كل شعر، بعد تمييز صحيحه من فاسده، ثم مطابقته ومقابلته بشعر الشعراء الآخرين. إلى أمور أخرى من هذا القبيل، يطرقها نقاد الشعر والأدب، بمقاييس ثابتة، أما مقاييس تلك الأيام فقد اختلفت، وخضعت للعواطف والأهواء، والسيوطي على حق حين يقول في هذا الموضع: "وهذا يدلك على اختلاف الأهواء وقلة الاتفاق"2.
وقد يعمد علماء الشعر إلى بيت من شعر، فيجعلونه أحسن بيت قيل في الجاهلية، أو عند العرب، فقد قالوا: أن الاتفاق قد وقع على أن أمدح بيت للجاهلية، هو قول زهير:
نراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائلُهُ3
ولكنهم قالوا إن الشاعر "دعبل" قال: إن أمدح بيت قالته العرب في الجاهلية قول أبي الطمحان القيني:
وإن بني أوس بن لأم أرومة ... علت فوق صعب لا ترام مراقبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه4
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 98".
2 المزهر "2/ 482".
3 بلوغ الأرب "3/ 99".
4 بلوغ الأرب "3/ 128".(17/237)
وروي عن الأصمعي قوله إن بيت أبي ذؤيب الهذلي:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
هو أبرع بيت قالته العرب1.
وقد كان بشار بن برد حذرًا حين سئل: أخبرنا عن أجود بيت قالته العرب؟ فقال: إن تفضيل بيت واحد على الشعر كله لشديد، ولكن قد أحسن كل الإحسان لبيد في قوله:
وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وإذا رمت رحيلا فارتحل ... وأعصى من يأمر توصيم الكسل2
وقد ذهب علماء الشعر إلى أن أشعر أهل المدر، أهل يثرب، ثم عبد القيس ثم ثقيف، وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصَّلْت. أما أشعر أهل يثرب، فهو حسان بن ثابت في نظر كثير من رواة الشعر. وورد في بعض الأخبار أنه أشعر أهل المدر3.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 140".
2 بلوغ الأرب "3/ 131".
3 الأغاني "3/ 180"، "4/ 3"، العمدة "1/ 89"، "باب تنقل الشعر في القبائل".(17/238)
نَقْدُ الشِّعْرِ:
وذكر أن الشعراء الجاهليين، كانوا يراجعون شعر بعضهم بعضًا، وينقدونه لما كان بينهم من تسابق على نيل الشهرة والاسم، أو لما كانوا يجدونه في شعر الشاعر من هنة أو غفلة أو هفوة، كالذي ذكروه من أمر الشاعر المتلمس، ذكر أن طرفة بن العبد سمع قوله:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم
وكان إذ ذاك صبيًّا، فقال: استنوق الجمل فصار مثلا1.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 115"، ونسب هذا البيت خطأ إلى المسيب بن علس، الموشح "76"، الأغاني "23/ 559".(17/238)
أو أنهم كانوا ينقدونه عند التحكيم. ليقتنع الشعراء بصحة حكم الحكم، كالذي كان من أمر النابغة في سوق عكاظ، وكالذي روي من تنازع امرئ القيس مع علقمة الفحل على الشعر، وقول كل واحد منهما لصاحبه: "أنا أشعر منك"، ومن قبولهما بتحكيم أم جندب، زوج امرئ القيس بينهما. وقبول أم جندب الحكم بينهما. فذكر أنها قالت لهما: "قُوْلا شعرًا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة، فأنشداها، ثم حكمت بترجيح شعر علقمة على شعر زوجها، وأظهرت لهما العوامل التي حملتها على هذا الترجيح، فغضب امرؤ القيس عليها وطلقها، فخلف عليها علقمة1. وهي قصة من هذا القصص الموضوع على امرئ القيس.
ويقتضي ذلك أن الشعراء كانوا يحفظون شعر غيرهم، فقد كان منهم من إذا قابل شاعرًا، وجادله في شعره، أنشده شعره، وبين له ما يراه فيه من عيوب. وقد رأيت كيف زعموا أن النابغة لما جاء يثرب، أراد أهلها أن يظهروا له ما في شعره من إقواء، وهو من عيوب الشعر، فأمروا قينة فغنت به، وأبانت له مواطن الإقواء، فأحس به، ويقال له إنه تركه من يومئذ.
أما استحسان العلماء لشعر شاعر، أو تخبيثه أو تسخيفة ونقده، فقد خضع عندهم لعوامل عديدة، قامت في بادئ أمرها على الذوق والمزاج، فهذا يستحسن شعرًا لورود بيت فيه أستحسنه واستعذبه على حين يري آخر أنه لا يساوي شيئًا، وليس فيه ما يدعو إلى المدح والثناء عليه، ثم على العروض، فنرى العسكري يعترض على اختيار الأصمعي لميمية المرقش، وقد سبق لابن قتيبة أن اعترض على اختيار الأصمعي القصيدة أيضًا، وقال الآمدي: إنه ليس بحاجة إلى ذكر العيوب العروضية فيها لكثرتها2، ثم على النحو والبيان والبديع وغير ذلك من علوم الصناعة التي وضعت في الإسلام، وقد كان عليهم ملاحظة أن هذه العلوم إنما وضعت أو ثبتت في الإسلام، وأن الذوق الجاهلي يختلف عن الذوق الإسلامي، وإن
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 146 وما بعدها"، "علقمة بن عبدة"، الأغاني "21/ 225 وما بعدها"، الموازنة "1/ 37".
2 الصناعتين "4" غرونباوم "112".(17/239)
الخليل لم يجمع كل بحور الشعر الجاهلي، بل طرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها1، ولعله لم يتمكن من الوقوف على أوزان أخرى؛ لأنها لم تكن مألوفة بين عرب العراق، أو لأنها صيغت بلهجات قبائل لم يرتح من شعرها، لأنه من الشعر القبلي الخاص.
وفضل العلماء الشعر الذي يكون فيه البيت تامًّا مستغنيًا بمعناه عن غيره، وقالوا لذلك: البيت المقلد. لأنه قائم بذاته غني عن غيره، يضرب به المثل2. ولهذا رأوا في القصيدة الجيدة، أن تكون أبياتها مقلدة، إذا قدمت بيتًا منها على بيت أو أبيات، أو إذا أوت بيتًا منها، أو حذفت بيتًا منها أو أكثر، فإنها لا تتأثر بهذا التغيير والتبديل، ولعل لهذا الرأي صلة بقولهم: "ومقلدات الشعر وقلائده البواقي على الدهر"3.
وقد أورد الجاحظ رأيًا في القصيدة لخلف الأحمر، فقال: "أما قول خلف الأحمر:
وبعض قريض القوم أولاد علة
فإنه يقول: إذا كان الشعر مستكرهًا، وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض، كان بينها من التنافر ما بين أولاد العَلَّات. وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيًا موافقًا، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة.
قال: وأجود الشِّعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغًا واحدًا، وسبك سبكًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"4.
وقد رأينا أمثلة كثيرة في استحسان شعر شاعر، أو في المفاضلة بين شعر الشعراء، والموازنة بينهم، ,قد بنيت على أبيات، أعجبت الناقد المفاضل،
__________
1 غرونباوم "135".
2 ابن سلام، طبقات "127 وما بعدها"، "دار المعارف"، الجرجاني، الوساطة "33".
3 تاج العروس "2/ 475"، "قلد".
4 البيان والتبيين "66 وما بعدها".(17/240)
ففضل شاعره الذي جعله أشعر على غيره، ثم رأيناه نفسه، لكن في موقف آخر يفضل غيره عليه، بسبب بيت أو أبيات أعجبه أو أعجبته. وقد تبدلت هذه النظرة في أيام العباسيين، فنجد لابن سلام مقاييس جديدة في النقد، وفي وضع الشعراء وتصنيفهم إلى طبقات. ونجد لابن قتيبة رأيًا في النقد يستند على آراء من تقدم عليه وعلى ملاحظاته الشخصية في النقد والموازنة بين الشعراء، وقد يخالف غيره على رأيه، خذ ما قله من نقد مرير في الأصمعي حيث يقول: "ومن هذا الضرب أيضًا قول المرقش:
هل بالديار أن تجيب صمم ... لو أن حيًّا ناطقًا كلم
يأبى الشباب الأقورين ولا ... تغبط أخاك أن يقال حكم
والعجب عندي من الأصمعي إذ أدخله في متخيره، وهو شعر ليس بصحيح الوزن، ولا حسن الروي، ولا متخير اللفظ، ولا لطيف المعنى، ولا أعلم فيه شيئًا يستحسن إلا قوله:
النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم1
ويذكر أهل الأخبار أن من الشعراء من كان يستحسن بيت شاعر، فيسطو عليه. ونجد ابن قتيبة يذكر في كتابه "الشعر والشعراء" ما أخذه الشعراء بعضهم من بعض، فذكر مثلا أن طرفة، والنابغة الجعدي، والشماخ، وأوس بن حجر، والنجاشي، وزهير، والمسيب، وزيد الخيل أخذوا من شعر امرئ القيس، فنظموه في شعرهم2. وإذا صح ذلك، كان معناه أن أولئك الشعراء كانوا قد حفظوا شعر امرئ القيس، وأنهم كانوا يحفظون أشعار غيرهم من الشعراء المتقدمين عليهم أو المعاصرين لهم وبذلك سطوا على ذلك الشعر أو على معناه.
غير أننا لو درسنا الأمثلة التي ذكرها ابن قتيبة وغيره على أنها من سرقات الشعر، نرى أن أكثرها لا يمكن أن يعد سرقة، لأن للسرقة الشعرية علامات،
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 18 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 68 وما بعدها".(17/241)
ولا نكاد نلمس من هذه العلامات شيئًا في الشعر المتهم بأنه شعر مسروق. وإنما نجده من قبيل توارد الخاطر لا غير، أسرع نقاد الشعر، فجعلوه سطوًا وسرقة.
ونحن لا نعلم من أمر نقد الشعر عند الجاهليين إلا ما جاء في الموارد الإسلامية وهو شيء قليل، وهو شيء لا ندري أيضًا مكانه من الصحة، وكل ما لدينا من تقسيم للشعراء إلى طبقات ومن تفضيل شاعر على شاعر، ومن تفضيل شعر على شعر هو مما عمل في الإسلام، صنع وفق قواعد نقد دونها العلماء. وقد ظهرت بواكير النقد العلمي للشعر الجاهلي عند علماء اللغة والنحو والعروض، ثم تولاها علماء راعوا أصول البيان والبلاغة والبديع في نقد الشعر، ولما كان هذا النقد لا يخص موضوعنا بالذات، وقد كتب عنه المتخصصون، فأنا أترك أمره إليهم، وقد وضعت فيه مؤلفات حديثة، وضعها عرب ومستشرقون.(17/242)
أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:
ويروي أهل الأخبار أن أشعر الناس حيًّا هذيل. وقيل: "أفصح الشعراء لسانًا وأعذبهم أهل السروات، وهن ثلاث وهي: الجبال المطلَّة على تهامة مما يلي اليمن، فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة في السراة الوسطى وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد، أزد شنوءة، وهم: بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نصر بن الأزد. وقيل: أفصح الناس: عُلْيَا تميم وسُفْلى قيس، وقيل: سافلة العالية وعالية السافلة، يعني: عجز هوازن، وأهل العالية: أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها، ولغتهم ليست بتلك عند "أبي زيد"1".
ويلاحظ أن هنالك قبائل كثيرة لم يروِ علماء الشعر لها شعرًا، أو أنهم رووا شعرًا قليلا لها، بينها قبائل كبيرة معروفة، كان لها تقدم ونفوذ، مثل: الغساسنة وتنوخ ولخم وبهراء، وكلب، ولا يعقل أن يكون الله قد حرم هذه القبائل من قول الشعر، فلم ينبت في أرضها شاعر، ولم يقم بينها من جاري القبائل الأخرى في قول الشعر، وهم عرب مثل غيرهم،
__________
1 العمدة "1/ 88 وما بعدها".(17/242)
لهم حس وشعور، فلا يعقل عدم ظهور شعراء بينهم، ويظهر أن سبب إهمال رواة الشعر لشعر هذه القبائل هو اعتبارهم هذه القبائل دون القبائل الأخرى في اللغة والفصاحة، لأنهم كانوا على اتصال بالحضر، فلم يسائلوهم، ولم يقيموا لشعورهم وزنًا، ولهذا لم يصل منه إلينا شيء، أو إلا القليل منه، فظهرت تلك القبائل في جملة القبائل المقلة في الشعر.
وقد روي لبعض الشعراء شعر كثير، فيه قصائد طويلة، وصل لنا في دواوين، أو في كتب الشعر والأدب، فوقفنا بذلك على شعرهم. وهناك شعراء اشتهر أمرهم وعرف ذكرهم، إلا أن معظم شعرهم قد ذهب معهم، فلم يبق منه إلا القليل، بحيث لا يتناسب هذا الباقي منه مع الشهرة التي أحاطت بهم. وقد عرف هؤلاء بالشعراء المقلِّين1.
ومن المقلِّين في الشعر: طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد، وطرفة أفضل الناس واحدة عند العلماء. وهي المعلقة:
لخولة أطلال بِبُرْقة ثَهْمَد
وله سواها يسير. ومن المقلين المحكمين سلامة بن جندل، وحصين بن الحُمَام المرِّي، والمتلَمِّس، والمسيب بن علس، ومنهم عنترة، والحارث بن حِلِّزة، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن معدي كرب، والأسعر بن أبي حمران الجعفي، وسويد بن أبي كاهل، والأسود بن يعفر2.
__________
1 المزهر "2/ 485"، "المقلُّون من الشعراء".
2 العمدة "1/ 102 وما بعدها".(17/243)
الشِّعْرُ والإِسْلامُ:
ورد في الحديث: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا يريه، خير من أن يمتلئ شعرًا"، وورد أن رسول الله بينا كان بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد. فقال رسول الله: "خذوا الشيطان، أو امسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا"1. وفي القرآن: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ
__________
1 صحيح مسلم "7/ 50"، "كتاب الشعر"، زاد المسلم "1/ 350 وما بعدها"، كتاب خلق الإنسان "275 وما بعدها"، "لابن أبي ثابت".(17/243)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} 1، و {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} 2، و {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 3، و {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} 4، و {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} 5، و {الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 6.
وورد عن عائشة قولها، وقد قيل لها: "هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه. غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل آخره أوله، وأوله آخره. فقال له أبو بكر: إنه ليس هكذا! فقال نبي الله: إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي"7. وورد في تفسير: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} . "بل قال بعضهم هو أهاويل رؤيا رآها في النوم. وقال بعضهم: هو فرية واختلاق افتراه واختلقه من قبل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر. وهذا الذي جاءكم به شعر"8. وورد في معنى {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، أن قريشًا قالوا: "أنترك عبادة آلهتنا لشاعر مجنون، يعنون بذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم"9. وقالوا في معنى {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ، "قال ذلك قائلون من الناس: تربصوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان، و"قال قائل منهم احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى
__________
1 [سورة يس، الرقم: 36، الآية: 69] .
2 [الأنبياء، الرقم: 21، الآية: 5] .
3 [الصافات، الرقم: 37، الآية: 36] .
4 [الطور، الرقم: 52، الآية: 3] .
5 [الحاقة، الرقم: 69، الآية: 41] .
6 [الشعراء، الرقم: 26، الآية: 224 وما بعدها] .
7 تفسير الطبري "23/ 19"، "بولاق"، صحيح مسلم "7/ 48 وما بعدها".
8 تفسير الطبري "17/ 3".
9 تفسير الطبري "23/ 33".(17/244)
يهلك كما هلك من قبله الشعراء زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم"1. وفسر قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ، بـ"ما هذا القرآن بقول شاعر، لأن محمدًا لا يحسن قيل الشعر فتقولوا هو شعر"2،وقوله: {والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، "الغاوون الرواة"، وذكر أنهم في كل لغو يخوضون، وأن الله استثنى منهم شعراء المؤمنين3.
وقد كره ناس الشعر لما ورد عنه في القرآن الكريم وفي الحديث، وامتنع بعض الشعراء من قوله كالذي ذكروه من ترك لبيد الشعر بعد دخلوه في الإسلام، ومن قوله للخليفة عمر أو لعامله على الكوفة، وقد سأله عما قاله من الشعر في الإسلام، "ما كنت لأقول شعرًا بعد إذ علمني الله سورة البقرة وآل عمران"4. وأهمل بعض الصحابة رواية الشعر، لما فيها من تذكير بأمر الجاهلية وبأيامها، وأقبل آخرون على القرآن يحفظونه بدلا من الشعر الجاهلي ورأى آخرون أن في حفظه وفي إنشاده إثارة لنعرة الجاهلية بعد أن حرمها الله، كراهية وقوع الفتنة، وحدوث القتال كالذي كان يقع في الجاهلية، لا سيما ما يتعلق منه بالمدح وبالهجاء وبالأيام، ولهذا قال عمر لحسان بن ثابت يوم مرَّ به وهو ينشد الشعر بمسجد رسول الله: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغيِّر علي ذلك، فقال عمر: صدقت"5.
فهذا الشعر المفرق المسبب للقتن أو الثالب للأعراض، هو الشعر الذي كره الناس روايته أو نظمه، ولهذا كان عمر يحاسب الهجائين، فملا هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر، وشكاه الزبرقان عليه، حكم عمر حسان بن ثابت فيه، فحكم عليه أنه "لم يهجه، ولكن سلح عليه"، فهو أشد إيلامًا من الهجاء، فحبسه عمر، وقال: "يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين"6،
__________
1 تفسير الطبري "27/ 29".
2 تفسير الطبري "29/ 42".
3 تفسير الطبري "19/ 79 وما بعدها"، الصاحبي "273 وما بعدها".
4 الشعر والشعراء "1/ 195 وما بعدها"، "الثقافة".
5 العمدة "1/ 28".
6 الشعر والشعراء "1/ 244"، "الحطيئة"، "قال: ذرق عليه"، ابن سلام، طبقات "25".(17/245)
ولما هجا النجاشي بني العجلان، فشكوه إلى عمر، حكم عمرُ حسان بن ثابت، والحطيئة في أمر هذا الهجاء فلما حكما بأنه هجاهم قال له عمر: إن عدت قطعت لسانك"1. وروي أن رجلا مر بباب رجل، وقد كان فتمثل:
هل ما عملت وما استودعت مكتوم
فاستعدى رب البيت عليه عمر، فأمر به عمر فحدّ2.
وذكر أن النبي قال: "من قال في الإسلام هجاء مقذعًا فلسانه هدر"3. وأنه لما بلغه هجاء الأعشى علقمة بن علاثة العامري، نهى أصحابه أن يرووا هجاءه4. وروي أن المنع عن رواية الشعر، كان خاصًّا بالشعر الذي هجي به النبي5.
ولما هجا ضابئ بن الحارث وكان رجلا بذيا كثير الشر، وكان بالمدينة صاحب صيد وصاحب خيل، قومًا من بني نهشل استعدوا عليه عثمان فحبسه6. فكان حبسه لهجائه لا لشعره.
ومع ذلك، فقد تهاجى الشعراء في أيام الأمويين وتنازعوا فيما بينهم، وتطاول بعضهم على بعض، وجرأت السياسة هذا الهجاء وأمدته بوقود يزيد في حدته حدة، لعصبيات وسياسة، وتجرأ البعض في هجاء الحكومة وفي هجاء المعارضين حرض يزيد بن معاوية الشاعر الأخطل على هجاء الأنصار، وفي محيط مثل هذا المحيط، انقسم إلى أحزاب وفرق، متخاصمة شديدة عنيفة في الخصومة، لا بد وأن يجد الشعر فيه أرضًا طيبة، ومنبتًا خصبًا مساعدًا. فكانت للشعراء حرية في النيل بعضهم من بعض، واستفاد خلفاء بني أمية من ذلك، بتحريض شعرائهم على عض خصومهم، مما لا مجال للبحث عنه في هذا المكان.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 248"، "النجاشي".
2 ابن سلام، طبقات "36".
3 العمدة "1/ 170".
4 الفائق "1/ 664".
5 الفائق "2/ 389".
6 ابن سلام، طبقات "40".(17/246)
وكان عمر قد نهى الشعراء عن ذكر النساء في أشعارهم، لما في ذلك من الفضيحة، وكان الشعراء يكَنُّون عن النساء بالشجر وبالنخلة، لئلا تشهر المرأة، وخوفًا من أهلها وقرابتها1.
أما الشعر الآخر، الذي لم يكن ينال الناس، ولا يتذكر الأصنام والأوثان وأمور الجاهلية التي حرمها الإسلام، فلم يتعرض له الإسلام بسوء، بل كان الرسول نفسه يسمع الشعر، ويطلب من الصحابة إنشاده له، وقد ورد أن الرسول سمع عمرو بن كُلْثُوم، وهو بعكاظ ينشد معلقته الشهيرة2، وسمع شعر أمية بن أبي الصَّلت كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، واستمع إلى شعر قيس بن الخطيم، وإلى شعر شعراء آخرين، وكان يستملحه ويستعذبه، ولا سيما شعر الحكمة والإرشاد. "جاء النابغة الجعدي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: هل معك من الشعر ما عفا الله عنه؟ قال: نعم. قال: أنشدني منه، فأنشده:
وإنا لقوم ما نعوِّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
فلما أنشده قوله:
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
قال رسول الله: "لا فضَّ الله فَاك" 3.
ومن سيماء اهتمام الإسلام بأمر الشعر، أن الشعر الجاهلي إنما دون وثبت في أيامه، وأن الصحابة كانوا يحفظونه ويروونه، وأن دواوينه، إنما ظهرت في أيام الأمويين. فلم يحرِّم الإسلام الشعر، ولم يظهر كرهه له، وإنما كره الشعر الوثني الذي مَجَّد الوثنية، فطرح ولم يروَ، ولعل هذا هو السبب الذي يجعلنا، لا نقرأ في كتب الأدب والأخبار شعرًا فيه إشادة بصنم، أو بأمر من أمور
__________
1 الخزانة "2/ 193 وما بعدها".
2 الأغاني "9/ 171 وما بعدها"، "ساسي"، "11/ 54".
3 رسائل الجاحظ "1/ 363 وما بعدها"، "كتاب فصل ما بين العداوة والحسد".(17/247)
الجاهلية المناهضة للإسلام. وقد روي عن النبي قوله: "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة، أو قال: حكما"1، وأنه أمر حسان بن ثابت، وعبد الله بن رَوَاحة، وكعب بن مالك بهجاء قريش. وأنه قال لحسان: "اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشْقِ النَّبْل"2.
وقد اعتذر العلماء عن سبب نفي الشعر عن الرسول، بأن الشاعر، لا يكاد يكون إلا مادحًا ضارعًا، أو هاجيًا ذا قذع، وهذه أوصاف لا تصلح للنبي، ثم إن فيه إيقاعًا، والإيقاع ضرب من الملاهي، ومنها لم يصلح الشعر للرسول3. وقد بحث القرطبي في موضوع نفي الشعر عن الرسول، فرجع ذلك إلى أربع مسائل: الأولى: أنه كان لا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط، وذلك ردًّا لقول من قال من الكفار: إنه شاعر، وإن القرآن شعر. وقد كان ربما أنشد البيت المستقيم في النادر4.
الثانية: إصابته الوزن أحيانًا لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانًا من نثر كلامه ما يدخل في وزن، كقوله يوم حنين وغيره:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام، وليس ذلك شعر ولا في معناه، كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وقوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ، وقوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} إلى غير ذلك من الآيات5.
__________
1 الصَّاحبي "274".
2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 852".
3 المزهر "2/ 469 وما بعدها".
4 تفسير القرطبي "15/ 51 وما بعدها".
5 تفسير القرطبي "15/ 52 وما بعدها".(17/248)
الثالثة: أن ما روي من عدم قوله الشعر، لا يعني عيب الشعر، وإنما لنفي الظنة عنه من أنه كان يقول الشعر.
الرابعة: أن قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، يعني نفي الشعر عنه، لئلا يظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر1.
فالرسول لم يكره الشعر لكونه شعرًا، ولم يعبه أو نهى عن قوله، وإنما كان النهي خاصًّا به. قال "الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له"2.
__________
1 المصدر نفسه "15/ 54 وما بعدها".
2 كذلك "15/ 52".(17/249)
الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي
مدخل
...
الفَصْلُ الثَّانِي والْخَمْسونَ بَعْدَ المائةِ: تَدْوِينُ الشِّعْرِ الجَاهِلِيِّ
ليس في الشعر الجاهلي بيت واحد يستطاع أن يثبت أنه كان مدونًا في الجاهلية وأن رواة الشعر وحفظته وجدوه مكتوبًا بأبجدية جاهلية، فنقلوه عنها. ولم يتجاسر -على ما أعلم- أحد من رواة الشعر أو حافظ من حفاظه على الادعاء بأنه نقل ما عنده من شعر جاهلي من ديوان جاهلي، أو من قراطيس جاهلية، أو من مادة مكتوبة أخرى تعود أيامها إلى الجاهلية. فكل ما وصل إلينا من هذه البضاعة، إنما هو من عهد الكتابة والتدوين، وعهد التدوين لم يبدأ إلا في الإسلام، وأول تدوين للشعر، إنما كان في عهد الأمين.
وعدم وصول شعر جاهلي إلينا مدون في أيام الجاهلية، أو منقول عن مكتوبات جاهلية، ثم عدم ادعاء أحد من قدماء الرواة أنه قد نقل من دواوين أو قراطيس جاهلية، يحملنا على القول بعدم تدوين الجاهليين لشعرهم وبعدم اهتمامهم بتسجيله. فلِمَ وَقَع ذلك؟ ولِمَ أحجم الجاهليون عن تدوين شعرهم، وهو تراثهم الخالد وسجلهم وديوانهم الذي به حفظت الأنساب وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله، وآثار أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأن العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب(17/250)
مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتال، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثير"1. "قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"2.
ومعنى هذا أن الشعر الجاهلي لم يكن مدونًا، وإنما كان محفوظًا في الصدور، وقد ورد رواية باللسان، فكانوا يتلونه حفظًا لا عن صحيفة أو كتاب، ويؤيد ذلك ما ورد في الأخبار من أن بني أمية، وقد كانوا شغوفين جدًّا بالشعر القديم، ربما اختلف الرجلان منهم في بيت شعر، فيرسلان راكبًا إلى قتادة يسأله، عن خبر، أو نسب، أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس، ولقد قدم عليه رجل من عند بعض أولاد الخلفاء من بني مروان، فقال لقتادة: من قتل عمرًا وعامرًا التغلبيين يوم قضة؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبعية بن قيس بن ثعلبة". قال فشخص بها ثم عاد إليه. فقال: أجل قتلهما جحدر، ولكن جميعًا؟ فقال: اعتوراه فطعن هذا بالسنان، وهذا بالزج فعادى بينهما3. وعلى ما في هذا الخبر من أثر الصنعة والتكلف، فإن فيه دلالة على شغف الأمويين بسماع أخبار الأيام الماضية، وبعدم وجود مدونات في ذلك الوقت، تضم الشعر والأخبار والنسب، لذلك، كانوا يرسلون إلى خاصتهم ومن يرون فيه العلم بهذا الأمور للاستفسار منهم عما يريدون الوقوف عليه.
ويؤيد ذلك أيضًا ما ورد من أن الرسول كان إذا أراد سماع شعر شاعر، سأل من كان في حضرته من يحفظ من شعر فلان؟ فينشده عليه من قد يكون حافظًا له، ثم ما يروى من أن الصحابة كانوا يحفظون الشعر، ومن أنهم كانوا إذا أرادوا الوقوف على شعر شاعر لم يحفظوا شعره، سألوا غيرهم ممن يحفظه عنه. ولم نسمع في الأخبار، أن أحدًا من الصحابة، كان يملك ديوانًا، أو كتابا فيه شعر، أو خبر، أو نسب، وأنهم كانوا يرجعون إلى المدونات، في مثل هذه الحالات.
ولكن ما ذهبنا إليه من عدم وجود تدوين للشعر الجاهلي ولأخبار الجاهلية،
__________
1 المزهر "2/ 473 وما بعدها"، "ذهاب الشعر وسقوطه"
2 المزهر "2/ 474"، "ذهاب الشعر وسقوطه"
3 العسكري "التصحيف والتحريف" "4"، مصادر الشعر الجاهلي "198".(17/251)
تنفيه روايات تزعم أن الجاهليين كانوا يدونون أشعارهم، فقد روي أن النعمان بن المنذر، أمر "فنسخت له أشعار العرب في الطنوج وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن عبيد الثقفي، قيل له: إن تحت القصر كنزًَا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"1. وروايات تذكر أنه "قد كان عند آل النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه"2. وروايات تقول إن العرب كانت شديدة العناية بشعرها، مبالغة في المحافظة على الجيد منه، فأمرت بكتابتها بماء الذهب على القباطي وبتعليقها على الكعبة، إعجابًا بها وإشادة بذكرها. وقد عرفت تلك القصائد بالمذهبات وبالمعلقات وبالسموط3. وروايات تذكر أن الملك كان إذا استجديت قصيدة يقول: "علقوا لنا هذه لتكون في خزانته"4.
وتنفيه أيضًا روايات أخرى تفيد أن بعض الشعراء الجاهليين كانوا يقرءون ويكتبون، كالذي جاء عن عدي بن زيد العبادي، عن المرقش الأكبر، من أنه كان قد تعلم الكتابة من رجل من أهل الحيرة، فصار يكتب أشعاره، وكالذي يظهر من بيت لابن مقبل يفيد أن عرب أواسط جزيرة العرب كانوا يدونون أشعار الشعراء5. وقد ذكر أن سعد بن مالك والد المرقش، أرسله وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة فعلمهما الكتابة6. وروي أنه كان يكتب بالحميرية7، فلا يعقل إذن أن يدون أمثال هؤلاء الشعراء الكتاب القراء شعرهم، أو بعض شعرهم المستجاد على الأقل!
وتنفيه الرواية القائلة إن لقيط بن يعمر الإيادي، كتب قصيدة وأرسلها
__________
1 المزهر "1/ 249"، "النوع الخامس عشر. معرفة المفاريد"، ابن جني، الخصائص "1/ 392 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 70"، "الطنوج"،
2 المزهر "2/ 474"، "ذهاب الشعر وسقوطه"، تاج العروس "2/ 70"، الجمحي طبقات "10".
3 المزهر "2/ 480"، "مشاهير الشعراء".
4 المزهر "2/ 480"، "مشاهير الشعراء"، العمدة، لابن رشيق "1/ 96".
5 جواد على، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 13"، مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد الرابع، الجزء الثاني"، "1956م"، "ص522".
6 الأغاني "6/ 130"، المفضليات "459 وما بعدها".
7 الشعر والشعراء "1/ 139".(17/252)
إلى قومه إياد يحذرهم فيها من مجيء جيش كسرى إليهم للإيقاع بهم، وذلك في قصيدته التي استهلها بقوله:
سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى مَنْ بالجزيرة من إيادِ1
وتنفيه روايات أخرى تشير إلى أن العرب في صدر الإسلام، كانوا يدونون الشعر ويوزعونه بين الناس لينتشر بينهم، فلما هجا النجاشي الأنصار، اجتمع سادتهم وتذاكروا أمره، ثم ذهب قوم إلى حسان، فنظم شعرًا في هجائه، كتبه غلمان الكتاب2، وما كانت الغاية من تدوين الغلمان له، إلا إذاعته ونشره بين الناس. وروي أن عبد الله بن الزبعري، وضرار بن الخطاب الفهري، قدما المدينة فتلاحيا مع حسان، في أمر الشعر، وقالا شعرًا مما كانا قالاه في الأنصار، وكان عمر قد نهى عن رواية شعر الهجاء حذر الفتنة، فغضب حسان منهما، وذهب إلى عمر، فأخبره بما وقع، فارسل وراءهما، وطلب من حسان أن ينشدهما مما قاله لهما، فأنشدهما، فلما انتهى من إنشاده كتب ذلك، وحفظ مع شعر الأنصار، وكانوا يكتبونه حذر بلاه3. وروي أن طلحة أنشد قصيدة، فما زال شانقًا ناقته حتى كتبت له4.
غير أننا إذا ما تتبعنا تأريخ ورود هذا الذي ذكرته عن وجود التدوين في الحيرة وارتفعنا به حتى نصل به إلى أصله، نجد أنه جاء كله نقلا، وقد أخذه المتأخرون عن المتقدمين، والمتقدمون عن طبقة أقدم، حتى نصل إلى مرجع واحد هو آخر سلسلة السند، الذي ينتهي بحماد الرَّاوِية وابن الكلبي. فحماد هو صاحب الزعم المتقدم، القائل إن النعمان بن المنذر، أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج5، وابن الكلبي هو صاحب الخبر القائل إن العرب علقت القصائد السبع على الكعبة، وإن العرب اخترتها من بين القصائد الجاهلية الكثيرة فوضعتها على أركان الكعبة، إعجابًا بها وإشادة بذكرها!
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 129"، الأغاني "20/ 23".
2 مصادر الشعر الجاهلي "125".
3 الأغاني "4/ 140 وما بعدها".
4 الزمخشري، الفائق "677".
5 المزهر "1/ 249: "النوع الخامس عشر".(17/253)
وهناك رواية أخرى مشابهة لرواية حماد عن تعليق المعلقات، يرجع سندها إلى ابن الكلبي، هذا نصها: "قال ابن الكلبي المتوفى سنة 204 وقيل سنة 206: أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس، علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحدر فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة"1. "وزاد بعضهم أنهم كانوا يسجدون لها كما يسجدون لأصنامهم"2. ولابن الكلبي زعم آخر له علاقة بهذا الموضوع، فقد ذكر أنه كان يقول: "كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى، وتأريخ نسبهم، من كتبهم بالحيرة"3.
فنحن إذن أمام رجلين يرجع إليهما خبر وجود تدوين للشعر الجاهلي، كان أحدهما من أمرس الناس بالشعر الجاهلي، وكان ثانيهما من أشهر رجال الأخبار. ولا نعرف أحدًا تقدم عليهما زعم هذا الزعم، أو ادَّعى هذه الدعوى! ثم إننا لا نجد في مؤلف من المؤلفات الإسلامية التي وصلت إلينا ما يفيد أن أحدًا قد نقل شيئًا من مدون جاهلي، أو قرأ فيه، خلا ما ورد عن ابن الكلبي من أنه كان يستخرج أنساب آل نصر وتأريخ من حكم منهم ومدد أعمارهم وما إلى ذلك من بيع الحيرة4.
ولا يعقل بالطبع تصور انفراد حماد وحده بمعرفة أمر ديوان النعمان بن المنذر، دون سائر الرواة وعشاق الشعر، وبينهم من كان لا يقل حرصًا ولا تتبعًا له عن حمَّاد. ولا يعقل أيضًا تصور بلوغ الحرص والأنانية بآل مروان درجة جعلتهم يضنون حتى بالتلويح أو بإراءة ذلك الديوان الجاهلي بعضهم بعضًا. ولو كان عند آل مروان ذلك الديوان حقًّا، لافتخروا بوجوده لديهم، ولعرضوه على الناس، ولأخذوا منه الشعر القديم، ولما استعانوا بالرواة من حماد وأمثاله ليروون لهم الشعر الجاهلي وليجمعوا لهم ذلك الشعر، وحماد نفسه شاهد على ذلك
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 187 وما بعدها".
2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 186".
3 تأريخ الطبري "2/ 37".
4 تأريخ الطبري "2/ 37".(17/254)
حيث كانوا يستدعونه من العراق ليسألوه أمر شعر، خفي عليهم، أو شعر لا يعرفون عنه شيئًا، ثم كيف يسكت رواة أهل الكوفة عن هذا الديوان، فلا يشيرون في أخبارهم ورواياتهم إليه، ولا يلحقون به سندهم في روايتهم للشعر؟ قال ابن النديم: "قال أبو العباس ثعلب: جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وردّ الديوان إلى حماد وجناد"1، فلو كان لدى آل مروان ديوان جاهلي قديم، فهل يعقل ترك الوليد ذلك الديوان وذهابه إلى حماد وجناد يستعين بما عندهما من دواوين شعر، أو من ديوان شعر ليجمع له ديوانًا بأشعار القدماء، فلما جمع له ديوانًا من ديواني حماد وجناد أعادهما عليهما! ولو فرضنا أنه كان قد استعان بهما، لأنهما كانا قد جمعا شعر شعراء لم يكن عنده شعرهم، فإن الرواة ما كانوا ليسكتوا هذا السكوت المطبق عن ذلك، ولقالوا على الأقل إنه قد كان عنده ديوان شعر جاهلي، لكنه لم يكن تامًّا، يضم كل أشعار الجاهليين، فاستعان بهما لسد هذا النقص. ولو كان ديوان حماد أو ديوان جناد من دواوين أهل الجاهلية، لما سكت العلماء عن ذلك، ولما سكت حماد نفسه، أو جناد من التنويه به، لما لهذا التنويه من أهمية بالنسبة لهما، ولإثبات أنهما كانا صادقين في رواية الشعر، وأنهما استقيا الشعر من منابع أصيلة لا يرتقي إليها الشك.
ثم إنه لو كان لحماد أو غيره من أهل الكوفة ديوان جاهلي، أو أن أهل الكوفة كانوا قد وقفوا على ديوان النعمان بن المنذر أو على كتب من كتب أهل الحيرة في الشعر أو في التواريخ والأخبار، لما سكتوا عن ذلك أبدًا، ولأسندوا روايتهم إلى تلك المدونات، ردًّا بذلك على أهل البصرة الذين اتهموهم بالافتعال وبنحل الشعر على ألسنة الشعراء الجاهليين، وبأخذهم من أفواه أعراب لا يطمئن إليهم، على الأقل.
إن سكوت الرواة وعلماء الشعر عن أمر هذا الديوان، واقتصار خبر وجوده على روايات حماد، يحملنا هذا السكوت الغريب، على الشك في هذا المروي عنه وعلى التريث ولو مؤقتا في تصديقه، حتى يقوم دليل جديد مقنع بوصول شيء من مكتوبات أهل الحيرة إلى الإسلاميين يمكننا من إبداء رأي علمي واضح في هذا الموضوع.
__________
1 الفهرس "140".(17/255)
وقد سكتت كل الأخبار التي تحدثت عن طنوج النعمان بن المنذر، عن الجهة التي دخل الديوان في ملكها. كما سكتت عن مصيره النهائي. فأين ذهب يا ترى ذلك الديوان؟ ولِمَ لَمْ ينقل منه أحد؟ ولِمَ لم يُشِرْ إلى وجوده شخص آخر غير حماد؟
ولم أعثر حتى الآن على خبر يفيد علم أحد من المتقدمين على حماد بوجود ديوان شعر جاهلي مدوَّن، ولا بنقل أحد من الرواة وبضمنهم حماد نفسه من هذا الديوان أو من ديوان آخر يعود تأريخه إلى أيام الجاهلية. مع أن بين عشاق الكتب من كان يقتني الكتب والقراطيس القديمة، ويتهالك ويستهتر في المحافظة عليها وفي العناية بها، وبينهم من كان يملك ما شاء الله منها. وقد قص ابن النديم الورَّاق المتهالك في البحث عن الكتب قصصًا عن القراطيس والكتب القديمة وعن استهتار الناس بجمع الخطوط العتيقة، ولم يشر إلى عثوره هو أو غيره على صفحة واحدة مكتوبة قبل الإسلام في الشعر أو في النثر. ولو كان قد سمع بهذه الأوراق، لما تركها تمر سبيلها، فلا يراها أو يسمع عنها ممن وقف عليها ورآها على الأقل1. نعم: ذكر أنه "كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم فيه ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان ابن فلان الحميري من أهل وزل صنعا، عليه ألف درهم فضة كيلا بالحديدة، ومتى دعاه بها أجابه شهد الله والملكان. وكان الخط شبه خط النساء"2. وهو خبر تظهر عليه آثار الصنعة، والوضع.
وقد يكو خبر الديوان، وخبر الطنوج من مفتعلات حماد وابن الكلبي، لإظهار سبب تفوق أهل الكوفة على أهل البصرة بالعلم بالشعر، كما يظهر ذلك جليًّا من نص الخبر، وهو "ومن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة3 ولإظهار سبب تفوق ابن الكلبي على غيره من أهل الأخبار في رواية أخبار ملوك الحيرة، غير أني لا أستبعد مع ذلك وجود دفاتر وكتب في خزائن ملوك الحيرة وفي قصورها وكنائسها، قد كان فيها شعر ونثر وأخبار
__________
1 الفهرست "67"، "المقالة الثانية من كتاب الفهرست".
2 الفهرست "ص13 وما بعدها"، "الكلام على القلم العربي".
3 الخصائص "1/ 392.(17/256)
ومراسلات وسجلات بالأموال وما شابه ذلك لوجود حكومي عندهم تولاه عدي بن زيد، ووجود علماء ورجال دين عندهم ألَّفوا الكتب في أمور الدين وفي العلوم التي كانت سائدة في ذلك الوقت، لكنها تلفت وهلكت بسبب الأحداث التي وقعت في الحيرة أيام الفتح الإسلامي لها، وارتحال الناس عنها وفي جملتها رجال الدين، وتهدم كنائسها وبيوتها بسبب نقل حجارتها إلى الكوفة لبناء بيوتها بها، مما سبب تلف تلك المدونات المكتوبة على أدم وقراطيس سهلة التلف، والتي لا يمكن لها مقاومة مثل هذه الأحداث. ولا يستغرب ذلك، فقد تلفت نسخ القرآن الأولى مثل نسخة حفصة بنت عمر، ونسخة عثمان وهلكت رسائل الرسول وكتبه على أهميتها، وذهبت الصحف القديمة التي دون بها الحديث أو سيرة الرسول، وغير ذلك، في أيام الراشدين وبني أمية، فهل يستغرب بعد ذلك ذهاب ما دوِّن في أيام ملوك الحيرة وانطماس أثره!
وقد تعرض بروكلمن لموضوع تدوين الشعر أو عدم تدوينه عند الجاهليين، فقال: "ومن ثم يعد خطأ من مركليوث وطه حسين أن أنكرا استعمال الكتابة في شمال الجزيرة العربية قبل الإسلام بالكلية، ورتبا على ذلك ما ذهبا إليه من أن جميع الأشعار المروية لشعراء جاهليين مصنوعة عليهم، ومنحولة لأسمائهم.
ولكن بديهيًّا أن الكتابة لم تقضَ قضاءً كليًّا على الرواية الشَّفوية. فقد كان لكل شاعر جاهلي كبير على وجه التقريب راوية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس، وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة إلا نادرًا.
وعن الرواة كانت تنتشر الدراية بالشعر في أوساط أوسع وأشمل، بعد أن يذيع في قبيلة الشاعر نفسه. ولهذا لم يمكن التحرز عن السقط والتحريف، وإن لاحظنا أن ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحد على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث"1.
وقد تعرض المستشرق "كرنكو" لموضوع الكتابة والتدوين عند العرب، وقد ذهب إلى أن نظم الشعر مرتبط بالكتابة، بدليل أن بعض القوافي تظهر حقيقتها
__________
1 بروكلمن "1/ 65".(17/257)
للعيان أكثر منه للسمع، بحيث أن الحروف وليست الأصوات، هي التي تلعب دورًا هامًّا في الشعر1. غير أن رأيه هذا لم ينل تأييدًا من غالبية المستشرقين. وذهب "كو لدزيهر"، إلى احتمال تدوين العرب لشعر الهجاء، لما لهذا النوع من الشعر من أهمية عندهم، فإن في شعر الشاعرة ليلى الأخيلية:
أتاني من الأنباء أن عشيرة ... بشوران يزجون المطي المذللا
يروح ويغدو وفدهم بصحيفة ... ليستجلدوا لي، ساء ذلك معملا2
وفي شعر ابن مقبل:
بني عامر، ما تأمرون بشاعر ... تخير بابات الكتاب هجائيًا3
غير أن بعضهم يرى صعوبة تصور ذلك، لعدم وجود أدلة مقنعة تثبت هذا الرأي4.
وقد توقف "بلاشير" أيضًا في قضية تدوين الرواة لشعر الشاعر الذي تخصصوا به، أو برواية شعر أي شاعر كان. يرى احتمال تدوين بعض الرواة الحضر لبعض عُيُون الشعر، غير أنه يعود، فيرى أن ذلك مجرد احتمال، وأن من الصعب إثباته بأدلة مقنعة، ويذهب إلى أن رواية الرواة، كانت رواية شفوية كذلك5.
ولا استبعد احتمال تدوين الشعراء الجاهليين الذين كانوا يحسنون الكتابة والقراءة لأشعارهم، كما لا استبعد احتمال تدوين رواة الشعر، ولا سيما ما نبه وشرف منه، غير أننا لا يمكن أن نقول إن الشاعر كان إذ ذاك يدون كل شعره، أو أن الرواة، كانوا يدونون كل ما حفظوه من الشعر، لأن هذا النوع من التدوين لم يكن مألوفًا عندهم، كما كان يكلف ثمنًا باهظًا، لا قِبَلَ للشاعر أو للراوية بتحمله، ثم إن القرطاس كان نادرًا عندهم، والتدوين على
__________
1 بلاشير، تأريخ الأدب العربي "94 وما بعدها".
2 المصدر نفسه "ص98".
3 العمدة "2/ 159 وما بعدها"، الحيوان "7/ 112"، ديوان ابن مقبل "410".
4 بلاشير "98 وما بَعْدَها".
5 بلاشير "101".(17/258)
الأدم، غاليًا، ينوء بثمنه الشاعر أو الرَّاوِيَة، ويأخذ مكانًا، ولا سيما إذا كان الشاعر من الأعراب، وأنا لا أستبعد احتمال وجود مثل هذه المدونات عند الحضر، مثل أهل الحيرة، لانتشار الكتابة بينهم ولشيوع التدوين عندهم، ولكن الأحداث وعوامل الطبيعة أتلفت تلك المدونات، فلم تسقط لهذا السبب في أيدي رواة الشعر والأخبار.
ولا تزال الرِّوَاية الشفوية مستعملة حتى اليوم، مع وجود التدوين وكثرة الورق، فلأغلب شعراء العراق اليوم -مثلا- رواة يدونون شعر الشاعر ويحفظونه في الوقت نفسه حفظًا، فإذا حضروا مجلسًا، وجاء ذكر الشعر، أو شعر شاعر يروون شعره تلوه حفظا على السامعين، وفي النجف رواة شعر، دونوا شعر شعرائها المحدثين مثل الحبّوبي وغيره في دواوين، وحفظوه في الوقت نفسه حفظًا في قلوبهم، ومنهم من حفظ شعره من غير تدوين له، وقد يزيد ما يحفظونه على ما هو مدون بسبب أن الشاعر قد يحضر مناسبة تهزة فيقول فيها شيئًا فيحفظه رواته والمعجبون به، وقد يفوت تسجيله على رواته الذين يلازمون الشاعر، فلا يقفون عل خبره، ويدفع الإعجاب بالشاعر المعجبين به على التقاط شعره وحفظه في أدمغتهم حتى كأنهم أشرطة تسجيل حساسة، لا يفوتها من التسجيل أي شيء.
وبسبب عدم لجوء الجاهليين إلى تدوين شعرهم في الغالب، لأسباب عديدة، منها: ندرة الورق، وغلاؤه، واعتمادهم في حفظه على الذاكرة، هلك أكثره بموت حافظه، وأصيب قسم منه بتحريف وتغيير، وزيد بعض منه، ونقص منه بعض آخر، وصنع شعر على المتقدمين لأغراض مختلفة، ونسب الشعر إلى جملة شعراء، ورويت أبيات بروايات مختلفة، وما كان ذلك ليحدث، لو أنهم كانوا قد عمدوا إلى تدوينه وتثبيته. "قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير. ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة. وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة، ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، وغير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما(17/259)
حمل عليهما حمل كثير"1. وقد ذكر ابن سلام أن عبيد بن الأبرص قديم عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب لا أعرف له إلا قوله:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
ولا أدري ما بعد ذلك"2.
وذكر أنه قد سقط من شعر شعراء القبائل الشيء الكثير، وفات على علماء الشعر منه ما شاء الله، مما لم يحمله إلينا العلماء والنقلة. وقيل عن الأصمعي: "كان ثلاثة أخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار، فذهب رجزهم، يقال لهم: منذر ونذير ومنتذر، ويقال إن قصيدة رؤبة التي أولها:
وقائم الأعماق خاوي المخترق
لمنتذر"3.
ونسب إلى أبي عمرو بن العلاء قوله: "لما راجعت العرب في الإسلام رواية الشعر بعد أن اشتغلت عنه بالجهاد والغزو، واستقل، واستقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار؟ فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواية بعد فزادوا في الأشعار التي قيلت، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعر أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال"4.
وقال "ابن قتيبة": "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو انفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال.
__________
1 ابن سلام، طبقات "10".
2 ابن سلام، طبقات "36".
3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "9".
4 الْمُزْهِرُ "1/ 174 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات "14".(17/260)
261
ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولاقصيدة إلا رواها"1.
وورد عن أبي عبيدة قوله: إن ابن دؤاد بن مُتَمِّم بن نُوَيرَةَ قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة، فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته، فلما فقد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمِّم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا أنه يفتعله"2.
وقد ينسب قوم شعرًا لشاعر، بينما ينسبه قوم لشاعر آخر، وقد يختلف في ذلك أهل البادية عن أهل الحاضرة، فقد روي مثلا أن أهل البادية من بني سعد يروون البيت:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي مريض المستنفر الحامي
للزبرقان بن بدر، بينما يرويه غيرهم للنابغة. وقد ذكر الرواة، أن من المحتمل أن يكون الزبرقان استزاده في شعره كالمثل حين جاء موضعه لا مجتلبًا له، وقد تفعل ذلك العرب، لا يريدون به السرقة3. وقد حدث مثل ذلك في بيت شعر هو لأبي الصلت بن أبي ربيعة، هو:
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
بينما ترويه بنو عامر لنابغة الجعدي4.
ونسب:
وبعد غد، يالهف نفسي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
إلى هدبة بن خشرم، وعزاه آخرون إلى أبي الطمحان من
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "8".
2 الْمُزْهِرُ "1/ 175"، ابن سلام، طبقات "14".
3 ابن سلام، طبقات "17".
4 ابن سلام، طبقات "17".(17/261)
المخضرمين، ثرب الزبير بن عبد المطلب1.
وروي أن البيت:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
وهو بيت ينسب إلى أمية بن أبي الصلت، وكان معروفًا عند حفظة الشعر مثل الحسن بن علي بن أبي طالب أنه له، إلا أن الرواة يذكرون أن النابغة الجعدي، قال للحسن: "يابن رسول الله، والله إني لأول الناس قالها، وإن السروق من سرق أمية شعره"2. وروي أيضًا أن البيت:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
هو من قصيدة للنابغة الجعدي، غير أن قسمًا من علماء الشعر يرويها لأمية بن أبي الصلت، وقسمًا آخر، كان متردًا، فقد ذكر أن راوية سأل خلف الأحمر عن القصيدة، فقال للنابغة، وقد يقال لأمية3. ويظهر من هذين المثلين، أن الرواة كانوا يخلطون بين شعري الشاعرين.
ومن ذلك نسبة الشعر الذي فيه:
دانٍ مسفٍّ فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمشتكي كمن يمشي بقرواح
إلى عبيد بن الأبرص، أو أوس بن حجر4.
ونسبة الشعر:
والشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
إلى رؤبة وإلى الحطيئة5.
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 274 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "27".
3 ابن سلام، طبقات "27".
4 الحيوان "6/ 132".
5 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".(17/262)
ويقع من ذلك شيء كثير مذكور في كتب الشعر والأدب، وهو يدل على أن الشعر لم يكن مدونًا في بادئ أمره، وإنما كان يروى حفظًا، ولو كان قد أخذ من كتاب لما جاز عقلا وقوع مثل هذا الخطأ والاشتباه.
ويحدث أن شاعرين يصنعان قصيدتين من بحر واحد وروي واحد، فيختلط أمرهما على الرواة، يدخلون أبياتًا من هذه في تلك، فتختلط نسبة الأبيات1.
وقد وضع على لسان عدي بن زيد العبادي شعر كثير. وقد علل ابن سلام سبب ذلك بقوله: "كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فَلَان لسانُه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله أربع قصائد غرر وروائع مبرزات، وله بعده شعر حسن"2. وقد تكون للعصبية يد في هذا الوضع. فعدي من أهل الحيرة، وقد تعصب أهل الكوفة للحيرة، إذ انتقل أكثر أهل الحيرة إلى الكوفة فأقاموا بها، وتعصبوا لتأريخهم القديم، فلعل هذه العصبية هي التي حملتهم على وضع الشعر على لسانه لرفع شأن نصارى الحيرة في الشعر.
ومع اشتهار الحيرة بالكتابة، واشتهار عدي بها خاصة، إذ كان من كتاب كسرى بالعربية، فإننا لم نعثر على خبر يفيد أن الرواة أخذوا شعر عدي عن ورقة جاهلية، أو ديوان جاهلي مدون. ولو كان لعدي ديوان مدون، لما وقع في شعره ما قاله ابن سلام.
وقد يسأل سائل: كيف يعقل أن يضع شاعر مثل حمّاد الراوية شعرًا فخمًا جزلا يستعز به ثم ينسبه إلى الجاهليين ولو نسبه إلى نفسه لكان اليوم فخرًا له ولعد من أكابر الشعراء فأقول: كان طلب آل مروان للشعر الجاهلي شديدًا. وهذا ما صيَّر رواية الشعر من الحرف النافعة التي كانت تدر أرباحا طيبة لأصحابها تزيد على الأرباح التي يحصل عليها الشاعر من شعره. وقد كسب حماد من حرفته هذه مالا حسنًا. غير أن الإلحاح في طلب هذا الشعر والإغراء الذي أبداه عشاقه للرواة، أفسد الرواة، وحملهم على وضع الشعر وحمله على القدماء للحصول على الأجر، ولنيل الحظوة، ولإظهار العلم وسعة الحفظ. وقد زاد في هذا الوضع
__________
1 الحيوان "6/ 132"، "حاشية رقم3".
2 ابن سلام، طبقات "31".(17/263)
المنافسة الشديدة التي كانت بين الرواة، فخلقت هذه الظروف وأمثالها شعرًا جديدًا منحولا حسب على ملاك شعر الجاهليين.
ونجد في ثنايا كتب الأدب وفي كتب الشعر أشعارًا كثيرة منحولة وضعت قديمًا على ألسنة الجاهليين، وضعت لأن الناس كانوا يومئذ في شوق عظيم وتعطش إلى سماع أشعار من قبلهم، كانوا يقبلون عليها أكثر من إقبالهم على شعر معاصريهم من الشعراء، ويجزلون له العطاء أكثر من إجزالهم لسماع شعر شاعر معاصر، إلا ما قد يكون منه في المدح والذم. وكان ربح الراوية القدر المتبحر بالشعر الجاهلي المتجر به العارف بنظم الشعر لا يقل عن ربح الشاعر العظيم إن لم يزد عليه في أكثر الأحيان. والعادة أن مكافأة الشاعر المعاصر على شعر، لا تكون إلا في أمور لها صلة بالمجتمع، مثل المدح والهجاء والهزل والاستخفاف والتضحيك، أما في غير ذلك فتقديره إلى العلماء وأصحاب الذوق، وهم لا يثيبون على هذه الأمور إلا قليلا، ولهذا يكون تقدير الشاعر الذي لا يمدح ولا يهجو ولا يتقرب لأحد بالأمور المذكورة، بعد موته في الغالب، فلا ينال مثل هذا الشاعر من العيش ما يكفيه. ثم إن الراوية مطلوب في كل وقت، مرغوب فيه، وسوقه رائجة. فإذا غنت مغنية بيتًا قديمًا، أراد السامعون معرفة صاحبه، وأكثر الناس خبرة بأصحاب الشعر القديم هم الرواة، وهم قلة، لما يجب أن يكون في الراوية من خصائص تجعله من نوادر الرجال. فالذكاء الخارق، والعلم بالشعر وبأساليبه، والتمكن من العربية بمفرداتها وبلهجاتها وبالقبائل وبأيام العرب وبأمثال ذلك، هي من اللوازم التي لا تتهيأ لكل إنسان، ولذلك لم يكن أمثال هؤلاء الرواة إلا أفرادًا نص العلماء على أسمائهم نصًّا. وقد نالوا في أيامهم شهرة لم تكن أقل منزلة من شهرة أفذاذ الشعراء، وقد تدرب عليهم فحول الشعراء، وتخرج من مدرستهم أعاظم شعراء العرب في الإسلام. فرواية الشعر إذن وحفظه وصنعه، لم تكن حرفة سهلة يسيرة، ولا منزلة صغيرة بالنسبة إلى منزلة الشاعر، إنها لا تقل في السمو عن أرفع منزلة وصل إليها الشعراء في ذلك العهد. ولم يقل دخل الراوية من عطايا الملوك وهداياهم بأقل من دخل الشاعر، إن لم يزد عليه في بعض الأحيان، ولهذا فليس بغريب إذا ما رأينا الشاعر ينسب شعره للجاهليين، ويرويه على أنه من شعر شاعر جاهلي قديم، ولا ينسبه لنفسه.
وآفة ما تقدم عدم التدوين والتقييد، ولو كان الشعر مدونًا في صحف وكتب،(17/264)
ومقيدًا على حجر، لما ضاع هذا الضياع، ولما اعتوره هذا التغيير، الخطير، فحوّر فيه وغيَّر، وقد أدرك أثر هذا المرض على الشعر، شاعر إسلامي، هو ذو الرمة، فقال: لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أحب إلي من الحفظ لأن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلامًا بكلام"1.
وقد كان للشعراء الذين ظهروا في أيام الأمويين رواة، يروون شعرهم، كما كانوا يهذبونه وينقحونه ويدخلون بعض التغيير عليه، بعلم الشاعر وبموافقته، لعلة فاتت عليه، فقد كان لجرير رواته، وكان للفرزدق رواته، وكانوا يقوّمون ما انحرف من شعرهم وما قد يكون فيه من سناد وعيوب، خفي أمرها على الشاعر، فأدرك أمرها الرواة2.
__________
1 الحيوان "1/ 41"، "عبد السلام محمد هارون".
2 الأغاني "4/ 256 وما بعدها".(17/265)
رُوَاةُ الشِّعْرِ:
وقد ذكر علماء الشعر أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتخذون لهم رواة يحفظونهم شعرهم حفظًا ويروونه رواية. ومعنى هذا أن أولئك الرواة كانوا يلازمون الشعراء، فإذا نظم الشاعر شعرًا تلاه على راويته ليحفظه فلا ينساه، وإذا غيّر الشاعر في شعره أو عدل فيه أشار على راويته بما غير وعدل حتى يعدل هو ويغير في الذي حفظه. فراوية الشاعر، هو نسخة ثانية حافظة لشعر الشاعر، أما النسخة الأولى، فهو الشاعر نفسه. وقد يتهيأ للشاعر جملة رواة، ويقال لمن يحفظ الكثير من الشعر، وللكثير الرواية هو "راوية للشعر"1.
وأولئك الرواة، هم دواوين شعر ناطقة، تحفظ المتون، أي أصول الشعر، كما تحفظ المناسبات، أي الظروف التي قيل فيها الشعر. وهم أنفسهم ذوو حس مرهف، وفهم عالٍ للشعر. إذ لا يقبل على رواية الشعر وحفظه إلا أصحاب الحس المرهف الموهوبون، الذين لهم طبع شاعري، وميل غريزي فيهم إليه. ولهذا تنتهي الرواية بالراوية في الأغلب إلى قول الشعر ونظمه، فيكون في
__________
1 تاج العروس "10/ 158"، "روى".(17/265)
عداد فحول الشعراء. والرواية هي تمرين وإعداد لقول الشعر، ولفهم دروبه، تساعد الموهوب في إظهار مواهبه. "فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار، والتلمذة لمن فوقه من الشعراء، فيقولون: فلان شاعر راوية، يريدون أنه إذا كان راوية عرف المقاصد، وسهل عليه مأخذ الكلام، ولم يضق به المذهب، وإذا كان مطبوعًا لا علم له ولا رواية ضل واهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلب المعنى فلم يصل إليه وهو مائل بين يديه، لضعف آلته كالمقْعَد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعينه الآلة.
وقد سئل رؤبة بن العجاج عن الفحل من الشعر، فقال: هو الراوية، يريد أنه إذا روى استفحل.
قال يونس بن حبيب: وإنما ذلك لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد غيره، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة. وقال الأصمعي: لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلا حتى يروي أشعار العرب"1
والشعراء جميعا، هم في أول أمرهم بالشعر رواة شعر، ولا يكون الشاعر منهم شاعرا حتى يحفظ الشعر ويرويه، لأن الحفظ يساعد على قول الشعر ونظمه، ويكون تمرينًا له، ولا زال أمر الشعراء عندنا على هذا النحو، فأكثر شعرائنا هذا اليوم هم رواة في الأصل، حفظوا من الشعر ما ساعدهم على النظم، يضاف عليه موهبة الشاعر وسليقته فيه. وقد يقال إن الشاعر الراوية أمكن في الشعر وأقدر عليه من الشاعر، الذي لا يروي من الشعر إلا يسيرًا، أو لا يحفظ منه شيئًا، لأن الشاعر الراوية يتعلم من فنون الأقدمين ومن خبرتهم وتجاربهم في النظم ما يخفى على من ليس له علم سابق به.
__________
1 العمدة "1/ 197 وما بعدها"، "باب في آداب الشاعر".(17/266)
الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من شعراء الجاهلية، بدءوا حياتهم في قول الشعر بروايته وحفظه، ثم صاروا من أكابر الشعراء. منهم زهير بن أبي سلمى، فقد بدأ حياته في الشعر راوية لشعر أوس بن حجر، وكان أوس راوية(17/266)
الطفيل الغَنَوِيّ وتلميذه1. ومنهم: كعب بن زهير بن أبي سُلْمَى، فقد كان راوية لوالده، ثم الحطيئة، فقد بدأ الشعر برواية شعر زهير وآل زهير2. وكان زهير راوية طفيل الغنوي أيضا، وكان امرؤ القيس راوية أبي دواد الإيادي3، وكان الأعشى راوية لشعر المسيب بن علس، والمسيب خال الأعشى4.
ولا نكاد نجد شاعرًا لم يحفظ شعر غيره من الشعراء المتقدمين عليه، أو من المعاصرين له. والشاعر العربي حتى اليوم، لا يكون شاعرًا فحلا في الشعر، إلا إذا حفظ من شعر غيره من الشعراء الفحول، فحفظ الشعر يدربه ويقويه على نظم الشعر، وكذلك كان أمر الشعراء الجاهليين. ويؤيد هذا الرأي ما نجده في الأخبار من حفظ الشعراء شعر غيرهم ومن مناقضتهم للشعراء في شعرهم، مما يدل بالطبع على حفظهم له.
قال رؤبة: الفحولة هم الرواة، "يريد الذين يروون شعر غيرهم، فيكثر تصرفهم في الشعر ويقوون على القول"5، فروايتهم للشعر أكسبتهم علمًا بأبوابه وبفنونه، ومكنتهم منه حتى صار يخرج على ألسنتهم سهلا قويًّا جيدًا، لما صار لهم من علم به ومران في حفظه.
ويكاد يكون لكل شاعر جاهلي راوية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس. وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده. وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة إلا نادرًا"6. ومن رواة الأعشى، الراوية عبيد، وكان يصحب الأعشى ويروي شعره، وكان عالمًا بالإبل، وكان يسأله عن شعره وعن معانيه وألفاظه، وعنه أخذ الرواة مثل "سماك" أخبار الأعشى وشعره7. وسماك هو سماك بن حرب، وهو من مشاهير الرواة.
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 76"، بروكلمن "1/ 95".
2 الأغاني "2/ 165"، "دار الكتب"، "8/ 91".
3 العمدة "1/ 198"، بروكلمن "1/ 95".
4 الموشح "51"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 107".
5 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 9"، العمدة "1/ 114"، "باب في الشعراء والشعر".
6 بروكلمن "1/ 64 وما بعدها".
7 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 181".(17/267)
وكان من رواة الأعشى يحيى بنُ متى، وهو من أهل الحيرة، وكان نصرانيًّا عباديًا معمرًا1، وله راوية آخر اسمه يونس بن متى2، وهو كما يظهر من اسمه من النصارى كذلك، وقد يكون هذا الشخص، هو الأول أي يحيى، حرَّف النساخ اسمه، فصار يونس3.
ولما كان بعض الرواة من الكتبة، فلا استبعد أن يكون من بينهم من دوَّن شعر شاعره إلى جانب حفظه لشعره، وذلك ليرجع إليه فيما إذا خانته حافظته، أو شك في شيء منه، أو لإجراء تنقيح في شعر شاعره، وتوجد روايات تشير إلى وقوع مثل هذا التدوين، غير أننا لا نستطيع أن نسلم بتأكيدها أو أن نقوم بنفيها في الوقت الحاضر، فمثل هذه الأحكام تحتاج إلى أدلة قوية مقنعة، ولا يمكن لنا التسليم بصحة تلك الروايات أو بردها في الوقت الحاضر4.
وقد تخصص بعض الناس برواية شعر جملة شعراء، وتخصص آخرون برواية شعر قبيلة، أو شعر جملة قبائل.
ويظهر أن أسلوب الحفظ والتسجيل في الذاكرة، كان الأسلوب الشائع بين الجاهليين في ذلك الزمن في الإبقاء على النثر أو الشعر، وقد كان هذا الأسلوب متبعًا عند غير العرب في تلك الأيام، إذ كانوا يقيمون وزنًا كبيرًا للرواية، حتى إنهم كانوا يفضلون الحفظ على القراءة عن كتاب أو صحيفة، ولا سيما بالنسبة للكتب المقدسة والكتب الدينية الأخرى وفي الأمور النابهة مثل الشعر. يرون أن في القراءة ثوابًا وأجرًا عظيمًا، وتعظيمًا لشأن المقروء. ولا أستبعد أن تكون هذه النظرة هي التي جعلت أصحاب الرسول يحفظون القرآن ويتلونه تلاوة من غير قراءة عن كتاب ولا نظر في صحيفة، يتلونه أمام الرسول وبين أنفسهم وبين الناس، ولا يقرءونه عن كتاب، مع أن منهم من كان يقرأ ويكتب وقد جمع القرآن. وكان تقدير العالم آنذاك بحفظه، لا بما يكتبه من صحف وبما يؤلفه من مؤلفات، ولهذا اشتهر كثير من العلماء بسعة علمهم، مع أنهم لم يتركوا أثرًا مكتوبًا، لأن العلم بالحفظ لا بالتدوين، وقد ينتقص من شأن العالم إذا تلا علمه عن كتاب،
__________
1 الأغاني "9/ 112".
2 المعرب، للجواليقي "46".
3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "216 حاشية 1"، مصادر الشعر الجاهلي "240 وما بعدها".
4 بلاشير "101".(17/268)
حتى إن كان ذلك الكتاب كتابه، لأن القراءة عن كتاب لا تدل على وجود علم عند القارئ، وشأنه إذن دون شأن الحافظ، الخازن للعمل في دماغه المملي للعلم إملاء، وكانوا إذا انتقصوا عالمًا قالوا: إنه يتلو عن صحيفة، أو يقرأ عن صحيفة أو كتاب، ومن هنا قيل للذي يقرأ في صحيفة ويخطئ في قراءتها المصحفون، قال ابن سلام: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما يروي الصحفيون ما كانت إليه حاجة، ولا كان فيه دليل على علم"1. وقد حمل ابن سلام على رواة الشعر الذي تداولوه من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وإنما العلم علم العلماء بالشعر وأهل الرواية الصحيحة، أما أهل الصحف، الذين يروون من صحيفة، فلا يروى عنهم، إذ لا يروى عن صحفي"2. وانتقصوا من علم القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، ومن روى عنه مثل أحمد بن عبيد، الملقب أبا عصيدة، لأن هؤلاء "رواة أصحاب أسفار"، فهم لا يذكرون مع العلماء حفظة العلم3، والرواة أصحاب السفر، والصحفيون، إنما كانوا يعتمدون على الصحف، ويحلون منها، ولذلك فقد يقع اللحن أو الخطأ منهم سهوًا أما الرواة الحفاظ، فلا يقع ذلك منهم إلا في النادر، ثم إنهم ينشدون الشعر من مخارجه وحروفه، وهذا هو تفسير قول ابن سلام وأضرابه: "ليس لأحد أن يقبل من صحيفة، ولا يروي من صحفي"4. وفي جملة ما آخذ به ابن سلام الصحفيين، أي الذين يكتبون ويدونون ما يقال لهم، دون نقد، أنهم لم يكونوا أصحاب رأي وعلم، بل كانوا يقبلون كل ما يقال لهم، كما هو واضح من قوله في ابن اسحاق: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق، ومثل ما رواه الصحفيون، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على علم"5.
ولهؤلاء الرواة فضل كبير -ولا شك- على الشعر الجاهلي وعلينا أيضا، فبحفظهم لذلك التراث القيم وبإذاعته وبنشره بين أبناء زمانهم، أمكن وصوله إلى من جاء بعدهم من عشاق الشعر والمتيمين به، حتى وصل إلى أيدي المدونين فدونوه.
__________
1 الْمُزْهِرُ "1/ 174".
2 ابن سلام، طبقات "5 وما بعدها".
3 الْمُزْهِرُ "2/ 413".
4 طبقات "5 وما بعدها".
5 طبقات "11".(17/269)
وصل بأفواه متعددة، ومن الصدور، ولهذا تعددت الروايات واختلفت القراءات وهذا شيء لا بد أن يحدث، وهو أمر غير مستغرب، فحفظ الصدور لا يكون كحفظ السطور. ولو كان الشعر قد دون في ذلك العهد، وسجل في صحف ودواوين لما اختلف الرواة الإسلاميون في تدوينه يوم شرعوا في جمع ذلك الشعر وتدوينه في دواوين. فنجد الرواة قد يختلقون في عدد أبيات القصيدة وفي ترتيبها وفي نص البيت، فترى روايات متعددة تمس بيتًا واحدًا، لا تمس شكل الكلمة، بحيث نرجع ذلك إلى خطأ النُّساخ، وإنما تمس اللفظة نفسها، أو جملة ألفاظ شطر البيت أو البيت نفسه، وكتب الشعر والأدب مليئة بأمثال هذه الأمور التي هي من حاصل الاعتماد على الرواية الشفوية في حفظ الشعر.
ومتى أنشد شاعر شعره، وأذاع روايته بين الناس، حفظ وطار بين طلاب الشعر وعشاقه، لا سيما إذا كان مما يتصل بالناس. هذا عميرة بن جعل يهجو قومه، ثم يندم على ما قال، فيقول:
ندمت على شتم العشيرة بعدما ... مضت واستتبت للرواة مذاهبه
فأصبحت لا أسطيع دفعا لما مضى ... كما لا يرد الدَّر في الضرع حالبه1
وفي هذا المعنى جاء شعر المسيب بن علس.
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع2
فالشعر تحمله الرياح وتنشره بين الناس، فيحفظ، ويرويه الرواة.
وكما كان لهم فضل على الشعر في تدوينه وتخليده، فكذلك كان لهم يد في إفساده وفي غشه وتزييفه. فقد كان منهم من يخلط في الشعر، ومنهم من كان يضيف عليه أو ينقص منه، أو يصنع الشعر فينحله الشعراء، ولما قيل للحطيئة، وهو من المخضرمين أوصِ قال: "ويل للشعر من الرواة السوء"3. وفي قول
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 544"، المفضلية رقم63.
2 المفَضَّلِيَّات "62"، العصر الجاهلي "142".
3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 239"، "دار الثقافة، بيروت".(17/270)
هذا الشاعر الخبير بدروب الشعر وفنونه، شهادة كافية على ما كان لرواة الشعر من أثر في رواية الشعر، غير أن منهم من كان يحسن الشعر ويقومه، ذكر عن "ابن مقبل" قوله: "إني لأرسل البيوت عوجًا، فتأتي الرواة بها قد أقامتها"1.
وقد تحدث "الجاحظ" عن رواة الشعر في أيامه، وعن ألوان الشعر التي كان الرواة يبحثون عنها، فقال: "وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتف من كل شيء. ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهوهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتياني منعزل.
وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن المنجم، وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلف يجمع ذلك كله.
ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب. ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلى كل شعر فيه الشاهد والمثل"2.
__________
1 مجالس ثعلب "481".
2 البَيَانُ والتَّبْيينُ "3/ 23 وما بعدها".(17/271)
التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:
أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب. وقد وقع فيه جماعة من الأجلاء من أئمة اللغة(17/271)
وأئمة الحديث، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: من يعرى من الخطأ والتصحيف؟!
قال ابن دُرَيد: صحف الخليل بن أحمد، فقال: يوم بغاث بالغين المعجمة، وإنما هو بالمهملة. أورده ابن الجوزي. وهو شيء لا يمكن وقوعه من الخليل، صاحب العلم الغزير بأحوال العرب، وقد يكون من فعل النساخ، إن صح كلام ابن الجوزي، فنسب التصحيف إلى الخليل.
وسببه الخط، أما لتشابه الحروف، وإما بسبب عدم وجود الحركات، فمن النوع الأول حديث ينسب إلى الرسول هو: "تسمعون جرش طير الجنة"، وكان الأصمعي قد سمعه في مجلس شعبة، فقال: "جرس" بالسين لا بالشين2. ومن هذا القبيل: ما وقع من تصحيف في شعر للحطيئة هو قوله:
وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر
أي كثير اللبن والتمر، وقد قرأ:
وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تامر
أي لا تتوانى عن ضيفك بتعديل القرى إليه.
ومثل ذلك تصحيف الأصمعي في بيت لأوس:
يا عام لو صادفت أرماحنا ... لكان مثوى خدك الأخرما
فقرأه "الأحزما"، وإنما هو "الأخرما" بالراء، وهو طرف أسفل الكتف3.
ومن ذلك ما وقع بين الأصمعي والمفضل عند عيسى بن جعفر، فقد ناظر المفضل الأصمعي، بأن أنشد بيت أوس بن حجر:
وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبًا جذعا
فقال له الأصمعي: "هذا تصحيف، لا يوصف التولب بالإجذاع، وإنما
__________
1 الْمُزْهِرُ "2/ 353 وما بعدها".
2 الْمُزْهِرُ "2/ 354".
3 الْمُزْهِرُ "2/ 355".(17/272)
هو جدعا. الجدع: السيِّئ الغذاء، قال: فجعل المفضل يشغب، فقلت له: تكلم كلام النمل وأصب. لو نفخت في شبور يهودي ما نفعك شيئًا"1.
وقرئ يومًا على الأصمعي في شعر أبي ذؤيب:
فقال أعرابي حضر المجلس للقارئ ضل ضلالك أيها القارئ! إنما هي ذات الدبر، وهي ثنيةٌ عندنا، فأخذ الأصمعي بذلك فيما بعد2.
وقد أوردت الكتب أمثلة كثيرة على التصحيف، وقع فيه كثير من العلماء، من ذلك ما وقع لأبي عمرو وللأصمعي، ولأبي حاتم ولكبار علماء اللغة، ويعود سببه إلى التنقيط، فالحروف مثل الجيم، والحاء، والخاء، تميز بينها النقط، فإذا أخطأ الكاتب في وضع النقطة في محلها، وقع التصحيف. وقد يقع، ولا يقع خلل في القراءة، وإنما يتبدل المعنى، دون أن يشعر القارئ بوجود ارتباك في معنى المقروء، وقد يقع في الأعلام من أسماء الرجال والنساء والأمكنة، وقد وقع التَّصحيف في الكتب بسبب السهو في النسخ، أو جهل النُّسَّاخ، ومن ذلك ما وقع في كتاب "العين" وفي كتب لُغوية وأدبية ثمينة، أمكن رد بعضه إلى الصحيح، ولم يمكن تصحيح بعض آخر، لصعوبة تعيين المراد3.
وقد روى العسكري قصة طريفة على التَّصحيف والتَّحْريف، ذكر أنه "كان حيان بن بشر قد ولي قضاء بغداد، وكان من جملة أصحاب الحديث فروى يوما أن عرفجة قطع أنفه يوم الكلاب، فقال له مستمليه: أيها القاضي، أنما هو يوم الكلام، فأمر بحبسه، فدخل إليه الناس، فقالوا: ما دهاك؟ قال: قطع أنف عرفجة في الجاهلية، وابتليت به أنا في الإسلام"4.
__________
1 مجالس العلماء، للزجاجي "14"، العسكري، التصحيف والتحريف "104"، الفاضل والمفضول "82"، المصون "192"، الحيوان "4/ 25"، إنباه الرواة "3/ 302".
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 27".
3 الْمُزْهِرُ "2/ 353 وما بعدها"، النوع الثالث والأربعون، معرفة التصحيف والتحريف".
4 الْمُزْهِرُ "2/ 353".(17/273)
الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:
وبسبب اعتماد الرواة على الذاكرة في حفظ الشعر وروايته، وأنفة المتقدمين منهم من تدوينه، ومن الرجوع إلى الصحف وقع الخلط في شعر الشعراء، فصاروا ينسبون شعرًا لشاعر، بينما هو من شعر شاعر آخر. ونجد في كتب الأدب أشعارًا تنسب إلى شاعر، ثم تنسب إلى شاعر آخر، أو إلى شاعر ثالث في موضع آخر من الكتاب، أو في كتب أخرى. وما كان ذلك ليقع، لو كان القدماء قد أخذوا العلم بطريق الكتابة والتدوين. من ذلك مثلا الشعر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فإنه ينسب لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، وينسبه بنو عامر للنابغة الجعدي1. ومن ذلك قصيدة:
تَطاوَلَ لَيلُكَ بالأَثمدِ ... ونامَ الخَليُّ ولم تَرقُدِ
فقد نسبت لامرئ القيس الكندي، ونسبت لعمرو بن معدي كرب، ونسبت لامرئ القيس بن عانس2.
وللسبب المتقدم وقع خلط في عدد أبيات الشعر، فقد زاد بعض الرواة في قصيدة شاعر، بينما نقص رواة آخرون عدد أبياتها، وقد يدخلون في القصيدة ما ليس منها بسبب اختلاط الشعر على الراوية، وما كان هذا ليقع لو ورد الشعر مدونًا منذ أيام الجاهلية.
ومن ذلك أيضًا ورود الشعر بروايات وبأوجه مختلفة، فقد ورد الشعر المنسوب لأفنون التغلبي:
لَو أَنَّني كُنتُ مِن عادٍ وَمِن إِرَمٍ ... غذى سخل ولُقمانا َوذا جَدَنِ
بروايات مختلفة، كما قرئت بعض ألفاظه بأوجه مختلفة من أوجه الإعراب3،
__________
1 الْمُزْهِرُ "1/ 183".
2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 731".
3 مجالس العلماء "42 وما بعدها".(17/274)
وما كان ليقع هذا الاختلاف لو كان الشعر قد ورد مدوَّنًا أولا ومَشْكُولا ثانيًا، فلما جاء رواية بالألسن وقع فيه هذا الاختلاف. ونجد العلماء يغلط بعض بعضًا في إعراب ألفاظ الشعر، تتغير معانيه بقراءتها بأوجه متعددة من الأعراب، كما غلط بعضهم بعضًا وهاجم بعضهم بعضًا هجومًا عنيفًا خرج على حدود الأدب والياقة بسبب الإعجام، كما في "تعتر" و"تعنز" في بيت الحارث بن الحلِّزة:
عنتا باطلا وظلمًا كما تعـ
ـتر عن حجرة الربيض الظباء1
ونجد علماء الشعر والأدب يروون شعر شاعر بصور متباينة في كتبهم، فتجد الجاحظ مثلا، يروي أبيات شعر لشاعر، ثم يرويها بشكل يختلف عما ذكره لذلك الشاعر في موضع آخر من كتابه وذلك إما سهوًا، وإما باختلاف رواية، وإما من وقوع الزلل في اللسان. وتجد وقوع مثل ذلك في كتب اللغة، فقد ذكر ابن منظور بيتًا للأعشى هو:
فأصبح لم يمنعه كيد وحيلة ... بساباط حتى مات وهو محرزق
ثم ذكره بعد سطرين إلى هذه الصورة:
هنالك ما أغنته عزة ملكه ... بساباط، حتى مات وهو محرزق2.
وقد يقع ذلك عن تعمد، بسبب الاستشهاد في تأييد مسألة نحوية أو لغوية، فقد روي أن سائلا سأل أبا عمرو بن العلاء عن جمع يد من الإنسان، فقال: أيد، وأنكر أن تكون الأيادي إلا في النعم، وقال الأخفش: "أما إنها في علمه، غير أنها لم تحضره، ثم أنشد بيت عدي بن زيد العبادي:
أنكرت ما تبينت في أياديـ ... نا واشناقها إلى الأعناق
بينما يروي:
ساءها ما بنا تبين في الأيدي ... واشناقها إلى الأعناق3
__________
1 مجالس العلماء "18"
2 اللسان "7/ 311"، "سبط".
3 مجالس العلماء، للزجاجي "162".(17/275)
وقد كان العلماء يتحذلقون في مثل الأمور، ويبحثون جهدهم عن الشاذ والغريب في الشعر، بل أخذ بعضهم يفتعل الغريب، ويضع الشاذ، فينسبه إلى المتقدمين لإفحام الخصم، ولإظهار مقدرته العلمية وبراعته في علوم اللغة أمام الخلفاء والحاكم وهذا مما أساء بالطبع إلى العلم، إذا أدى إلى دخول المصنوع في الشعر، وإلى الإساءة إلى سمعة العلماء. وتجد في "مجالس العلماء" للزجاجي، مجالس فيها من استهتار كبار العلماء بعضهم ببعض، ومن وضع أحدهم على
الآخر، ما يبعث على الشفقة على حال قسم منهم، لما بلغوه في كلامهم وفي تصرفاتهم من الإسفاف بسبب محاولتهم التقدم عند الحكام، بالمنزلة والجاه ونيل المال.
على كل حال، فقد خفت فوضى الرواية، بعد إقبال الناس على التدوين، وتحبير الشعر وأمالي المجالس وأقوال العلماء وآرائهم على القراطيس، خاصة بعد شيوع الاستنساخ وظهور جملة نسخ للكتاب الواحد، فضبطت بهذه الطريقة الرواية بعض الضبط، وصرنا أمام روايات متعددة للقطعة أو للقصيدة، وقد سدد هذه الطريقة وزاد في تثبيتها إقبال العلماء على نشر المخطوطات نشرًا حديثًا بواسطة الطباعة فوفرت هذه الطريقة نسخ المخطوطات القديمة للباحثين، ويسرت لهم بذلك الوقوف عليها مما مكنهم من إبداء نظرهم على ما جاء فيها من روايات عن الشعر العربي القديم.(17/276)
الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر
مدخل
...
الفَصْلُ الثَّالِثُ والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: أَشْهَرُ رُوَاةِ الشِّعْرِ
اشتهر مخرمة بن نوفل بن أهيب "وهيب" بن عبد مناف بن زهرة، وهو من قريش برواية الشعر وبالعلم به. "وكان من مسلمة الفتح، وله سر وعلم، كان يؤخذ عنه النسب1، ولا سيما نسب قريش إذ كان من العالمين به. وكان عالِمًا بأنصاب الحرم. فبعثه "عمر" هو وسعيد بن يربوع، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، فجددوها. وكانت أمه رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف شاعرة، وكانت لدة عبد المطلب2.
وعُرف أبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف بالعلم بالشعر. وهو من بني عدي. وكان من معمري قريش ومن مشيختهم، وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب. وكان شديد العارضة، وكان "عمر" يمنعه حتى كف من لسانه. وكان من مسلمة الفتح، وكان مقدما في قريش معظمًا، وكانت فيه وفي بنيه شدة وعرامة3.
وكان أبو بكر من الحافظين للشعر الراوين له، روى المطلب بن المطلب
__________
1 كتاب نسب قريش "262"، "وهيب"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 101".
2 الإصابة "3/ 370"، "رقم7842".
3 الإصابة "4/ 35 وما بعدها"، "رقم 207"، الاستيعاب "4/ 31 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، نسب قريش "369، 372".(17/277)
ابن أبي وداعة عن جده قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر -رضي الله تعالى عنه- عند باب بني شيبة، فمر رجل وهو يقول:
يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد الدار
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقتار
قال: فالتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله ... الا نزلت بآل عند منف
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إفراف
الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي
ويكللون جفانهم بسديفهم ... حتى تغيب الشمس في الرجاف
منهم علي والنبي محمد ... القائلون هلم للأضياف
قال: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "هكذا سمعت الرواة ينشدونه" 1.
وكان أبو بكر أحد العلماء بالنسب في قريش، وكانوا إذا أرادوا الوقوف على نسب رجل جاءوا إليه يسألونه، فهو عالم من علماء قريش فيه.
وكان عمر بن الخطاب ممن يحفظون الشعر، ووصف بأنه كان عالمًا به2 وبأنه "كان أعلم الناس بالشعر"، وكان يحكم على الشعر وينتقده، ولا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر3، وأنه كان بصيرا به، حتى قيل عنه إنه كان "لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر"4، ورووا له أمثلة كثيرة من حفظه للشعر ومن حسن نقده له، ونفاذه في باطن معانيه ومحاسنه5.
__________
1 الأمالي، للقالي "1/ 241 وما بعدها".
2 العمدة "1/ 76"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 239".
3 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 241 وما بعدها".
4 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 241".
5 العِقْدُ الفريد "6/ 120 وما بعدها".(17/278)
وذكر أنه كان يقدم امرأ القيس على بقية الشعراء1.
وكانت عائشة من رواة الشعر، وكانت تحفظ منه ما شاء الله، قيل إنها قالت: "إني لأروي ألف بيت للبيد، وأنه أقل مما أروي لغيره2. وإنها كانت تحفظ من شعر كعب بن مالك شعرًا كثيرًا، منها القصيدة فيها أربعون بيتًا ودون ذلك3، وكان تتمثل بالأشعار، وربما دخل عليها رسول الله، فوجدها تنشد الشعر4. قال "أبو الزناد": "ما رأيت أحدًا أروى لشعر من عروة. فقيل له: ما أرواك، فقال: روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا"، وورد عن عروة قوله: "ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة"5. وروي أنها كانت تحث على تعلم الشعر وروايته، بقولها: "رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم"6.
وكان ابن عباس من رواة الشعر وحفاظه. سأله عمر أن ينشده شعرًا، فطلب منه أن يذكر له اسم الشاعر لينشد
له شعره، فقال زهير بن أبي سلمى، فأنشده "إلى أن برق الصبح"7، وزعم أنه كان يفسر كلمات كتاب الله بالشعر، قال أبو عبيد: "إنه كان يُسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر"8. وزعم أهل الأخبار أن نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر، سألا ابن عباس عن كلمات واردة في القرآن، فجلس لهما بفناء الكعبة، وأخذ نافع يسأله الكلمة تلو الكلمة وهو يشرحها لهم بشعر، وقد دون نصها العلماء، أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب الوقف، والطبراني في معجمه الكبير، ويرجع سند ابن الأنباري إلى ميمون بن مهران، ويرجع سند الطبراني إلى الضحاك بن مزاحم، وقد أخذ السيوطي بالروايتين وسجلهما في كتابه
__________
1 الأغاني "8/ 199"، الفائق "1/ 343".
2 العِقْدُ "6/ 125".
3 الْمُزْهِرُ "2/ 309".
4 الأغاني "3/ 117".
5 الإصابة "4/ 349"، "رقم 704"، الاستيعاب "4/ 348 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
6 العِقْدُ "6/ 125".
7 الأغاني "10/ 291".
8 السيوطي، الإتقان "2/ 55".(17/279)
"الإتقان في علوم القرآن"، بعد أن حذف منها نحو بضعة عشر سؤالا1. وقد وردت هذه الرواية الرواية بصورة مختلفة2، وذكر أن أبا عبيدة معمر بن المثنى، أخذ أسئلة نافع وأدخلها في كتابه في غريب القرآن3.
وكان معاوية ممن يروي ويحفظ الشعر الجاهلي، وقد رووا عن حفظه للشعر الجاهلي واستشهاده به في كلامه شيئًا كثيرًا، فزعموا أنه كان يمتحن الناس بأشعار الجاهليين، فإذا وجد في أحدهم علمًا بها زاد في عطائه وقدمه عنده وأجزل عليه4. ورووا أنه كتب إلى زياد بشأن ابنه، وقد وجده عالما بكل ما سأله عنه إلا الشعر: "ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاق ليرويه فيبر، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل5. ويروى أنه سأل عبد الله بن زياد: ما منعك من روايته؟ قال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدري، فقال: أعزب! والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مرارًا، ما يمنعني من الإنهزام إلا أبيات ابن الإطنابة، وتمثل بها، ثم كتب إلى أبيه أن روِّه الشعر، فرواه فما كان يسقط عليه منه شيء6.
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الشعر الجاهلي فقال: "والعرب أوعى لما تسمع، وأحفظ لما تأثر، ولها الأشعار التي تقيد عليها مآثرها، وتخلد لها محاسنها. وجرت من ذلك في إسلامها على مثل عادتها في جاهليتها، فبنت بذلك لبني مروان شرفًا كثيرًا ومجدًا كبيرًا وتدبيرًا لا يحصى"7. وقد كان لبني سفيان وآل مروان
__________
1 الإتقان "2/ 55- 88".
2 الكامل، للمبرد "566 وما بعدها".
3 السيوطي، الوسائل في مسامرة الأوائل "112"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "243".
4 الأغاني "3/ 100 وما بعدها"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 333"، "3/ 9"، الفائق "1/ 240".
5 العِقْدُ الفريد "6/ 125".
6 الْمُزْهِرُ "2/ 310 وما بعدها"، وتروى هذه القصة بروايات أخرى، راجع المصون، للعسكر "136"، مجالس ثعلب "82" الأمالي، للقالي "1/ 158"، عيون الأخبار "1/ 126"، ديوان المعاني "1/ 114"، المرزباني، معجم "9"، "فراج"، عيون الأخبار "3/ 159"، مجالس ثعلب "67"، "عبد السلام محمد هارون".
7 البَيَانُ والتَّبْيينُ "88"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت 1959م، المطبعة الكاثوليكية".(17/280)
عناية فائقة بالشعر الجاهلي، فقد كان "معاوية" كما ذكرت يحفظ كثيرًا من ذلك الشعر، وينقب عنه، وكان يسأل من يجد فيه العلم عنه، حتى زعم أنه ذكر قصيدتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حِلِّزةَ اليَشْكُرِيّ، وقال: "كانتا من مفاخر العرب، وكانتا معلقتين بالكعبة دهرًا"1. وزعم أن بني أمية "كانوا ربما اختلفوا وهم بالشأم في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريدًا إلى العراق":2، وأنهم كانوا يسألون الوافدين عليهم من سادات القبائل ومن الأعراب ومن العارفين بالشعر عن الشعراء، وقد يذكرون بيتًا أو شعرًا حفظوه لا يدرون اسم قائله، فكانوا يستفسرون عن قائله، وعن المناسبة التي قال الشاعر شعره فيها، ويحسنون جائزة من له علم بالشعر والأخبار3.
وكان عبد الملك بن مروان من العلماء بالشعر الجاهلي، قيل إنه كان يمتحن الناس به، ومنهم الحجاج بن أبي يوسف الثقفي4. وقد ذكر أنه استدعى إليه عامر بن شراحيل الشعبي، ليحدثه عن الحلال والحرام، وعن أشعار العرب وأخبارهم، وكان الشعبي من ذلك الطراز البارع في الشعر وفي أخبار العرب وفي الحلال والحرام5، وروي أن عبد الملك كان قد طرح أربعة من شعراء المعلقات، وأثبت مكانهم أربعة6، وإذا صح هذا الخبر دل على وجود القصائد المسماة بالمعلقات في ذلك العهد.
وروي أنه كان يقول: إذا أردتم الشعر الجيد، فعليكم بالزرق من بني قيس بن ثعلبة، وبأصحاب النخيل من يثرب، وأصحاب الشعف من هذيل7. ويظهر أنه كان من المعجبين بشعر الأعشى، روي أنه قال لمؤدب ولده: "أدبهم برواية شعر الأعشى فإنه لكلامه عذوبة"8. والأعشى هو من بني قيس بن ثعلبة،
__________
1 الخزانة "3/ 162"،
2 العسكري، التَّصحيف والتَّحريف "4".
3 الأغاني "3/ 91".
4 ياقوت، إرشاد "1/ 27"، الأمالي، للقالي "1/15".
5 إرشاد "1/ 96 وما بعدها"، الخزانة "2/ 250"، "هارون".
6 الخزانة "1/ 61"، الخزانة "1/ 288"، "بولاق".
7 العِقْدُ "6/ 124".
8 جمهرة أشعار العرب "63".(17/281)
وقد كان يقيم وزنًا كبيرًا للشعر في تأديب الأولاد. فكانت وصيته لمؤدب ولده: "روهم الشعر، روهم الشعر، يمجدوا وينجدوا"1. وروي أنه تمثل وهو بمرضه الذي مات فيه بشعر ابن قميئة، وذلك أمام الشعبي، فأنشده الشعبي شعرًا من شعر لبيد2.
ونجد في الأخبار أن عبد الملك، كان إذا شك في شعر، أو أراد الوقوف عليه وعلى ظروفه، كتب إلى العلماء به، يسألهم عنه، أو يستدعي من يعرف أن له علمًا به، فيسأله عنه، أو يسأل آل الشعر أو أحد أفراد قبيلته عنه. وكان كثير الحفظ له، حتى كاد لا يدانيه فيه كثير من حفاظ الشعر، وكان يجمع إليه الشعراء في يوم، حتى يستمتع بإنشاد شعرهم، وشعر المتقدمين عليهم. وكان له ذوق في الشعر ونقد دقيق له، ذكر أنه قال يومًا للشعراء وقد اجتمعوا عنده: "تشبهوننا بالأسد والأسد أبخر، وبالبحر والبحر أجاج، وبالجبل مرة والجبل أوعر، أقلتم كما قال أيمن بن خريم" ثم ذكر شعره في بني هاشم3. وقال للأخطل، وقد كان قد قال له: "يا أمير المؤمنين، قد امتدحتك فاستمع مني" "إن كنت إنما شبهتني بالصقر والأسد فلا حاجة لي في مدحتك، وإن كنت كما قالت أخت بني الشريد4 لأخيها صخر فهات. فقال الأخطل: وما قالت يا أمير المؤمنين؟ قال: هي التي تقول:
وما بلغت كف امرئ متناول ... من المجد إلا حيث ما نلت أطول5
ثم قرأ عليه الأبيات. ولما دخل "جرثومة" الشاعر على عبد الملك بن مروان، فأنشده والأخطل حاضر، "قال عبد الملك للأخطل: هذا المدح ويلك يابن النصرانية"6.
وكان يجمع بين الشعراء، ويستمع إلى شعرهم، يجمعهم حتى إن كانوا
__________
1 العِقْدُ "6/ 125".
2 الخزانة "2/ 251"، "هارون ".
3 المصون في الأدب، لأبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري "ص62"، "تحقيق عبد السلام محمد هارون"، "الكويت 1960م".
4 يعني الخنساء.
5 المصون "63".
6 المصون "64".(17/282)
متعادين متنافسين، فقد جمع بين جرير، والفرزدق، والأخطل، في مجلس واحد، وذكر أنه سأل أعرابيًّا شاعرًا عن أهجى بيت في الإسلام، وعن أرق بيت في الإسلام، فأشار إلى أبيات لجرير، وفضل جريرًا عليهما، فأيده عبد الملك في هذا الرأي1.
وقد وصف عامر الشعبي، "عبد الملك بن مروان" وصفًا يدل على شدة إعجابه به؛ إذ يقول في وصفه له: "فلما فرغ من الطعام وقعد في مجلسه واندفعنا في الحديث، وذهبت لأتكلم، فما ابتدأت بشيء من الحديث إلا أستلبه مني فحدث الناس به، وربما زاد فيه على ما عندي، ولا أنشدته شعرًا إلا فعل مثل ذلك. فغمّني ذلك، وانكسر بالي له، فما زلنا على ذلك بقية نهارنا، فلما كان آخر وقتنا التفت إلي وقال: يا شعبي، قد والله تبينت الكراهية في وجهك لما فعلت، وتدري أي شيء حملني على ذلك؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: لئلا تقول: لئن فازوا بالملك أولا لقد فزنا نحن بالعلم، فأردت أن أعرفك أنَّا فُزنا بالملك وشاركناك فيما أنت فيه"2، ولهذا اجتمع إليه الشعراء وعلماء الأخبار ورواة الناس، حتى حفلت بهم مجالسه، وكان يذاكرهم ويحادثهم وينوه بهم ويدني مجالسهم3. وذكر أن عبد الملك أرسل إلى الحجاج أن يرسل إليه الشعبي، فأرسله إليه، فلما دخل عليه كان الأخطل عنده، فأخذ يسأله عن الشعر، ويسأل الأخطل عنه، حتى إذا انتهى، قال له: يا شعبي، إنما أعلمناك هذا، لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة، فلن يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق"4. وكان الشعبي قد جعل الخنساء أشعر النساء أما عبد الملك ففضل ليلى الأخيلية عليها. فشق ذلك على الشعبي، فقال له ذلك القول، وردد عليه أبيات الأخيلية حتى حفظها. والرواية المتقدمة التي أخذتها من الرافعي هي هذه الرواية بشيء من التغيير.
وكان يتمثل بالشعر الجيد، ويثني على الحسن منه، ويحسن نقده. تمثل بشعر
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 45 وما بعدها".
2 الزجاجي، مجالس العلماء "209".
3 الرافعي "1/ 407".
4 آمالي المرتضى "2/ 16 وما بعدها".(17/283)
لهذيل بن مشجعة البولاني، وقال: "هذا والله شعر الأشراف. نفى عن نفسه الحسد واللؤم والانتقام عند الإمكان، والمسألة عند الحاجة:"1.وله مجالس كان يسأل فيها الناس عن الشعر، يمتحنهم، وذكر أنه سأل رجل وهو بالكوفة عن شعر ذي الأصبع العدواني" وعن أخباره، وكان من عدوان، فلما وجده جاهلا حط من عطائه2، وذكر أنه اجتمع بالربيع بن ضبيع الفزاري، وسأله عن أخباره3 وأنه كان يبدي ملاحظات قيمة على أشعار الشعراء الجاهليين والمعاصرين له4. وروي أنه كان يبحث عن شعر الشعراء بما فيهم الشعراء والمعاصرون له، فلما قدم الأجرد "الأحرد"، وهو من شعراء ثقيف في نفر من الشعراء، قال له: إنه ما شاعر إلا وقد سبق إلينا من شعره قبل رؤيته فما قلت"5.
وكان الوليد وسليمان ابنا عبد الملك من المولعين بالشعر كذلك، وذكر أن الوليد كان يقدم النابغة على غيره من الشعراء، وكان سليمان يقدم امرأ القيس، فذكر ذلك لعبد الملك، فبعث إلى أعرابي فصيح، ليكون الحكم بينهما6.ورويت القصة بشكل آخر، ورد فيها أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة الذبياني في وصف طول الليل أيهما أجود، فرضيا بالشعبي فأحضر، فصار الحكم بينهما7.
وكان هشام بن عبد الملك من المولعين بالشعر كذلك، ذكر أنه كتب إلى عامله في أشخاص "حماد" الراوية إليه لبيت سمع لم يعرف اسم قائله.
وكان الوليد بن يزيد من المتيمين بالشعر، وهو نفسه شاعر مجيد، وكان يستدعي حماد الرواية ليسأله عن الشعر، وقد قتل في سنة ست وعشرين ومائة. وكان منهمكًا في اللهو وشرب الخمر وسماع الغناء، ذكر أنه استفتح
__________
1 رسائل الجاحظ "1/ 362 وما بعدها"، "كتاب فصل ما بين العداوة والحسد".
2 أمالي المرتضى "1/ 249 وما بعدها".
3 أمالي المرتضى "1/ 253".
4 أمالي المرتضى "1/ 278".
5 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 620".
6 الزجاجي، مجالس العلماء "272".
7 الخزانة "2/ 325 وما بعدها".(17/284)
القرآن، فخرج له: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد} 1، فألقاه ونصبه غرضًا ورماه بالسهام، وقال:
تهددني بجبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل: يا رب مزقني الوليد2
وكان إذا أراد الاستفسار عن شعر جاهلي خفي أمره عليه، أرسل إلى حماد يسأله عنه3، كما كان يسأل غيره عنه كذلك.
وروي أنه نشر يومًا المصحف، وجعل يرميه بالسهام، وهو يقول:
تذكرني الحساب ولست أدري ... أحقًّا ما تقول من الحساب
فقل لله يمنعني طعامي ... وقل لله يمنعني شرابي
وأنه قال:
اسقياني وابن حرب ... واسترانا بإزار
فلقد أيقنت أني ... غير مبعوث لنار
واتركا من طلب الجنـ ... ـة يسعى في خسار
سأسوس النسا حتى ... يركبوا دين الحمار4.
إلى غير ذلك من أشعار وأخبار، وروايات تتهجم عليه، نسبت بعضها إلى أهله وأقاربه، بل زعم أن الرسول لعنه في حديثه5، ومثل هذه الأحاديث من الحديث الموضوع.
__________
1 إبراهيم، الآية: 15.
2 الخزانة "2/ 228"، "هارون"، الخزانة "1/ 328"، "بولاق".
3 الخزانة "4/ 129"، "بولاق"، وورد بصورة أخرى تختلف بعض الاختلاف عن هذه الرواية، أمالي المرتضى "1/ 130".
4 أمالي المرتضى "1/ 129"، ورويت بصورة أخرى، الأغاني "7/ 46"، رسالة الغفران "444".
5 أمالي المرتضى "1/ 129"، راجع رسالة الغفران حيث تجد بعض أشعاره "444 وما بعدها".(17/285)
وفي شعر الوليد سلاسة وطبع، وعدم مبالاة، فالحياة في نظره، سماع غناء، وخمر طيب، أما الحكم والملك، فلا يساويان شيئًا:
أنا الأمامُ الوليد مفتخرًا ... أجرّ بردي، وأسمع الغزلان
أسحب ذيلي إلى منازلها ... ولا أبالي من لامَ أو عذلا
ما العيش إلا سماع محسنة ... وقهوة تترك الفتى ثملا
لا أرتجي الحور في الخلود وهل ... يأمل حور الجنات من عقلا؟
إذا حبتك الوصال غانية ... فجازها بذلها كمن وصلا
ويقال إنه لما أحيط به، دخل القصر وأغلق بابه وقال:
دعوا لي هندًا والرباب وفرتني ... ومسمعة، حسبي بذلك مالا
خذوا ملككم، لا ثبت الله ملككم ... فليس يساوي بعد ذاك عقالا
وخلُّوا سبيلي قبل عيرٍ وما جرى ... ولا تحسدوني أن أموت هزالا1
وكان ابن شهاب الزهري من رواة الشعر، وكان من المؤلفين، وقد توفي سنة "124هـ"2، وكان راوية للشعر، يحفظ الكثير منه، حتى كان الأمويون إذا أشكل عليهم أمر من أمور الشعر، أرسلوا إليه يسألونه عنه3.
وكان عروة بن الزبير من رواة الشعر، ويعد من أشهر رواته عند أهل الحجاز، روى عن عائشة، وكان يقول: "روايتي في رواية عائشة"4، وقد روى عن أختها أسماء بنت أبي بكر، روى عنها شعرًا لزيد بن عمرو بن نفيل، ولورقة بن نوفل5 وكان يزور آل مروان، رآه الحجاج "قاعدًا مع عبد الملك بن مروان، فقال عروة: أنا لا أم لي! وأنا ابن عجائز الجنة! ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له يا ابن المتمنية! فقال عبد الملك: أقسمت عليك أن تفعل، فكف عروة. والمتمنية، هي الفريعة بنت همام، أم الحجاج
__________
1 رسالة الغفران "444 وما بعدها"، الأغاني "7/ 46، 73".
2 المعارف "472".
3 الأغاني "4/ 248".
4 الإصابة "4/ 349"، "رقم704".
5 الأغاني "3/ 124 وما بعدها".(17/286)
وهي القائلة:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج1
وللمتمنية قصة، لا تخلو أن تكون من وضع أعداء الحجاج.
وقد نسب أهل الأخبار إلى بعض رواة الشعر حفظ الشيء الكثير من ذلك الشعر، نسبوا إلى بعضهم حفظ آلاف القصائد عدا القطع والأراجيز، وذكروا مثلا أن حمادًا الرواية كان يحفظ "27" قصيدة على كل حرف من حروف الهجاء ألف قصيدة2. وأن الأصمعي كان يحفظ "16" ألف أرجوزة3، وأن أبا ضمضم كان يروي لمائة شاعر اسم كل منهم عمرو4، وأن أبا تمام حفظ "14" ألف أرجوزة من أراجيز الجاهلية غير القصائد والمقاطيع5، إلى أمثال ذلك من أرقام لا تخلو من مبالغات أهل الأخبار.
وروي أن فتيانًا جاءوا إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قلتم كبر الشيخ فنتلعبه عسى أن نأخذ عليه سقطة! فأنشدهم لمائة شاعر، وقال مرة أخرى لثمانين، كلهم اسمه عمرو6. وقال الأصمعي: "فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين. فهذا ما حفظه أبو ضمضم، ولم يكن بأروى الناس، وما أقرب أن يكون من لا يعرفه من المسمين بهذا الاسم أكثر ما عرف".
ولما نشأ التدوين بالمعنى المفهوم من هذه اللفظة في الإسلام، كان الشعر في طليعة الموضوعات التي عني الناس بها في أيام الأمويين فما بعد. فجمعوا شعر الشعراء على انفراد، وجمعوا شعر جماعة منهم، أو شعر قبيلة أو قبائل، وجمعوا
__________
1 الفائق "3/ 52 وما بعدها".
2 النجوم الزاهرة "1/ 420"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية"1/ 77".
3 ابن خِلِّكَان "1/ 121"، طبقات الأدباء "151"، زيدان "1/ 77".
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "4"، زيدان "1/ 77".
5 ابن خِلِّكَان "1/ 121"، زيدان "1/ 77".
6 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "9"، "الثقافة".(17/287)
شعر طبقة من الطبقات الاجتماعية، كما عنوا بالاختيارات وغير ذلك1.
وقد أخذ بعض رواة الشعر الجاهلي من منابعه، أي من القبائل، "قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: دخل أبو عمرو إسحاق بن مرار البادية ومعه دستيجان من حبر، فما خرج حتى أفناهما يكتب سماعه عن العرب"2. وأبو عمرو هذا، هو أبو عمرو الشيباني.
وقد أشار ابن النَّدِيم والعلماء الذين عنوا بالشعر إلى أسماء نفر من العلماء عنوا واشتغلوا بجمع الشعر، وذكروا أسماء كتبهم واختياراتهم. وقد وصل إلينا بعض ما اشتغلوا فيه وجمعوه، فطبع، ومنه ما لا زال مخطوطًا محفوظًا في خزائن الكتب. وهو معروف يعرف الناس المواضع التي يوجد فيها، وقد يهيأ له من يقوم بطبعه وتيسيره بذلك للناس، غير أننا لا نزال نجهل مصير عدد كبير من الدواوين والأشعار والاختيارات التي ذكر ابن النَّدِيم وغيره أسماءها مع أسماء جامعيها، لا ندري إذا كانت اليوم في خزائن الكتب لا يعرف الناس من أمرها شيئًا، لعدم إحاطة المسئولين بأمر تلك الخزائن العلم بها، أو أنها عند أسر لا تعرف من أمرها المخطوطات شيئًا، لجهلها بها وبالعلم، أو أنها تلفت وولت لعوامل عديدة، فلا أمل إذن من بعثها ونشرها.
وقد تحرش الجاحظ بنموذج من رواة الشعر بالبصرة، فقال: "وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين ومن لم يروِ أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتف من كل شيء. ولقد شهدتم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروى عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتياني متغزل.
وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن المنجم، وأبي مالك
__________
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 67".
2 نزهة الألباء "ص61 وما بعدها".(17/288)
عمرو بن كركرة، مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده. وكان خلف يجمع ذلك كله"1.
ولم يقتصر عمل الراوية على رواية الشعر وإنشاده للناس، بل كان يقوم أيضًا بشرح غامض ألفاظه وبإجلاء ما قد يكون في الشعر من معان خفية غامضة، كما كان يقوم بشرح الظروف والمناسبات التي نظم الشعر فيها، إلى غير ذلك من أمور تتعلق بالشعر. ولهذا فإن راوية الشاعر، هو ديوان حي للشاعر، فيه كل ما يتعلق بشعر ذلك الشاعر.
ولم يقتصر الشعر على عشاقه ورواته والعلماء به، أو على الرواة الشعراء، بل ساهم فيه أناس تخصصوا بأمور أخرى، كان لاختصاصهم اتصال متين بالشعر، مثل علماء النسب وعلماء الأيام والأخبار. وفقد أمدنا هؤلاء بمادة لا بأس بها من الشعر الجاهلي في الجاهلية وفي الإسلام. وكانوا إذا تحدثوا عن نسب قبيلة أو عن نسب رجل معروف، ذكروا ما قيل في حقها أو في حقه من مدح أو هجاء، وكانوا إذا تكلموا عن أيام الجاهلية، اضطروا إلى سرد ما قال فيها أبطالها وفرسانها من شعر. فقد كان من عادة الأبطال إنشاد شعر التبجح بالنفس وبمفاخرها وبمفاخر القبيلة حين نزولهم ساحة القتال، وكان من عادة المنتصر تخليد نصره بأشعار ينشدها أبناء القبيلة، لتكون تسجيلا لمفاخره بني الناس.
وساهم علماء العربية: علماء اللغة والنحو والتفسير والحديث مساهمة تذكر في تخليد الشعر الجاهلي، بما جمعوه من شواهد في اللغة وفي النحو وفي الصرف، وفي تفسير القرآن والحديث من أبيات وقطع بل قصائد أحيانًا. فقدموا لنا بفعلهم هذا مادة ساعدتنا في زيادة معارفنا عن شعر ما قبل الإسلام وفي ضبط الشعر الوارد في المصادر الأخرى، وتصحيح ما قد يكون قد وقع في الروايات المتضاربة من أوهام، كما أمدتنا بمادة لا بأس بها، بل جديدة ونادرة أحيانًا عن أصحاب الشعر وعن المناسبات التي قيل فيها.
وقد تعرض الجاحظ لأمر هؤلاء في الشعر، فقال: "ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب. ولم أرَ غاية رواة الشعر إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه
__________
1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "100"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".(17/289)
الشاهد والمثل"1.
يقول بروكلمن: "ولم يبدأ جمع الشعر إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين، بيد أن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرًا غريبًا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجماع أنفسهم شعراء، فقد ظنوا أنه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبًا عليهم أيضًا في بعض الأحيان أن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا أيضًا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد أراد حماد الراوية أن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لأصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم أنه وجد الشعر الذي كتب بأمر النعمان ودفن في قصره الأبيض بالحيرة، ثم كشف في أيام المختار بن أبي عبيد.
لقد غير الرواة بعض أشعار الجاهلية عمدًا، ونسبوا الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أن يكون وضع أشعار قديمة، منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع إثباته.
على أنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دورًا ثانويًّا. وقد روى علماء المسلمين أشعارًا للجاهليين تشتمل على أسماء أصنام وعبادتها، وأن أسقطوا أيضًا أبياتًا أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لأن الشعور الديني لم يكن غالبًا على نفوس العرب في الجاهلية"2.
ويعود الفضل في جمع الشعر الجاهلي وتدوينه وتخليده إلى مدينتين اشتهرتا بالعلم، هما: الكوفة والبصرة، فقد كان علماء هاتين المدينتين في طليعة من عني بجمع الشعر الجاهلي وتقصِّيه، ولا نكاد نجد مدينة إسلامية، بلغت مبلغهما في
هذه الناحية، أو تمكنت من مزاحمتهما في جمع شتات هذا الشعر وحصره في كتب مدونة صارت مرجعًا للعلماء ولعشاق هذا الشعر إلى يومنا هذا. ونكاد لا نجد كتابًا في الشعر أو في الأدب، إلا وهو عيال على علم علماء هاتين المدينتين.
__________
1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "101"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1959م".
2 بروكلمن "1/ 65 وما بعدها".(17/290)
ولم تساهم مكة مدينة قريش، مساهمة الكوفة أو البصرة في جمع الشعر الجاهلي، الذي زعم أنه نظم بلغتهم، ولم تلحق يثرب بالمدينتين المذكورتين في هذا المضمار كذلك. ولم تبلغ دمشق التي صارت حاضرة العالم الإسلامي بعد مقتل "علي" وتولي "معاوية" الحكم، مبلغ المدينتين في هذا العلم وفي علوم العربية الأخرى، مع حب الأمويين للشعر الجاهلي، ورغبتهم في توفيق بلاد الشأم المؤيدة لهم، على العراق لمشاكسته لهم، ومعارضته للشأم منذ ما قبل الإسلام. ويظهر أن أرض دمشق لم تكن أرضًا خصبة بالنسبة للشعر الجاهلي لأن سكانها حتى الفتح كانوا بين سوريين، أي من بني إرم، وبين إغريق وعناصر أعجمية أخرى، بينما كانت الحيرة والأنبار وعين التمر وسائر القرى العربية الأخرى، تعلم العربية في مدارسها، وتدرس الخط العربي، وكان رجال الدين فيها، قد وقفوا على الثقافة اليونانية، ونقلوا كتبًا منها إلى السريانية، ولكونهم من النصارى الشرقيين، كانت لغة العلم والدين عندهم السريانية، ولكنهم كانوا يعظون ويعلمون بالعربية. أما عرب الشأم، فقد أقاموا في قرى ومضارب في أطراف بلاد الشأم، ومع احتفال سادات غسان بالشعراء، فإن عنايتهم بهم لم تبلغ مبلغ عناية آل لخم بهم، ولعل ذلك بسبب ارتباطهم الشديد بالروم، وهيمنة الروم عليهم، بحيث لم يكونوا يسمحون لهم بالتحرك إلا بعد استشارتهم، ولا أن يتصلوا بالعرب إلا بأمر منهم، ولهذا لم يجدوا لهم منفعة تذكر بالإغداق على الشعراء وبإغراء الشعراء بالمجيء إليهم لمدحهم، اللهم إلا إذا جاء الشعراء إليهم، ورموا بأنفسهم ضيوفًا عليهم، أما سادات الحيرة، فقد كانوا أكثر تحررًا في أمورهم وسياستهم من منافسيهم الغساسنة، وكان نفوذ الفرس خفيفًا عليهم، وقد بلغ حكمهم في أيام امرئ القيس "328م" أسوار نجران، وكانت البحرين تابعة للحيرة، يحكمها عامل بعينه ملك الحيرة، كما كان نفوذ الملوك يمتد إلى نجد فاليمامة، فلملوك الحيرة إذن مصالح سياسية خاصة في منطقة واسعة من جزيرة العرب، ولهم روابط مع سادات القبائل، ونظرًا إلى ما للشعر والشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء والإغداق عليهم والترحيب بهم، لشراء ألسنتهم، أما من كان يوشى به عندهم، فيغضبون عليه، أو يجد أنه لم يكافأ على مدحه لهم، وقيامه بشعره بالدعاية لهم، مكافاة عادلة، فكان يهرب إلى أعداء آل لخم،(17/291)
الغساسنة، ليجد له مأوى عندهم، كما فعل النابغة والمتلمس. ولما كان الغساسنة قد تأثروا بالحياة الحضرية، أكثر من ملوك الحيرة، وقد تشربوا بالثقافة البيزنطية، فعاشوا في بيوت بدمشق بين الحضر، وبنوا القصور الكبيرة في القرى التابعة لهم، وهي مواضع خصبة، وقد أثثوها على الطريقة الرومية، وكانوا يسمعون الغناء الرومي، وكانت مصالحهم بالأعراب وبجزيرة العرب -كما قلت- غير ذات بال، لم يحفلوا بالشعراء الوافدين عليهم احتفال ملوك الحيرة بهم، ولم يغدقوا إغداق المناذرة عليهم، فصار عدد الشعراء الوافدين عليهم قليلا إذا قيس بعدد من كان يذهب منهم إلى قصور الحيرة، كما يظهر ذلك جليًّا من كتب الأخبار والأدب التي تحدثت عن الشعراء الجاهليين، ولعل هذا الصدّ عن الشعراء هو الذي حمل النابغة على ألا يمكث عند الغساسنة طويلا، فحمل حمله، وعاد إلى الحيرة معتذرًا إلى النعمان عما بدر منه من خطأ، راميًا سبب ما وقع بينهما من قطيعة إلى عمل الوشاة الحساد. ولعله كان أيضًا في جملة العوامل التي جعلت العراق يتقدم على الشأم في رواية الشعر الجاهلي وفي نشره، فنحن لا نكاد نعرف رجلا من أهل الشأم الصميمين، قام بالشعر الجاهلي، أو بأمر شعراء العرب في الشأم من أهل الجاهلية، كما قام به أهل العراق. ولم تشتهر دمشق ولا غيرها من مدن بلاد الشأم بما قامت به مدن العراق من جمع الشعر الجاهلي على الرغم من تحمس الأمويين وكلفهم في جمعه وتدوينه.
وقد تعرض العلماء لأمر المدينة، فقالوا: "فأما مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا نعلم بها إمامًا في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة. زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة.
وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخفت روايته، وهو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب، يكنى أبا الوليد، وكان شاعرًا وعلمه بالأخبار أكثر1. وذكر أن في جملة ما صحفه من الشعر، قول الحارث بن حِلِّزةَ اليَشْكُرِيّ:
أيها الكاذب المبلغ عنا ... عبد عمرو وهل بذاك انتهاء
__________
1 الْمُزْهِرُ "2/ 413 وما بعدها".(17/292)
وإنما هو: عند عمرو1.
وأقدم ما لدينا من مدونات الشعر الجاهلي، الاختيارات التي جمعها حماد الراوية، المعروفة بالمعلقات، والتي عرفت بالسموط. ولعلها الديوان الذي ذكر ابن النَّدِيم أنه أرسله إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فاستعان به مع ديوان آخر بعثه إليه جناد، ليجمع منهما ومن غيرهما ديوان العرب وأشعارها2، وقد يكون ديوانًا آخر أوسع من هذا المجموع.
ويلي هذه الاختيارات، اختيارات أخرى جمعها رجل من أهل الكوفة أيضًا، ورواية من رواة الشعر المعروفين هو المفضل بن محمد بن يعلى الضبي، المتوفى سنة "164هـ" "780م"، أو "168"، أو "170هـ"، على اختلاف الروايات. وقد اتخذه المنصور مؤدبًا لابنه المهدي فعمل له الأشعار المختارة المسماة المفضليات، وهي مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه، والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي قال: وأول النسخة التي لتأبط شرًّا:
يا عبد ما لك من شوق وإبراق ... ومر طيف على الأهوال طراق3
"هذا وقد وقع في الجزء الأول من هذا الكتاب سهو، إذا سقطت لفظة "مائة" من: "وهي مائة وثمان وعشرون قصيدة"، فصارت على هذا النحو: "وهي ثمان وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص"4، ولذلك أحببت أن ألفت نظر القراء لإصلاح هذه الهفوة"
ويلي هذه الاختيارات اختيارات أخرى جمعها الأصمعي، سأتحدث عنها أثناء حديثي عنه بعد قليل، ثم اختيارات أخرى عرفت بـ"جمهرة أشعار العرب"، قد جمعت في أواخر المائة الثالثة للهجرة. "وهي مجموعة سباعية تشتمل على سبعة أقسام، أولها المعلقات السبع، وتحمل الأقسام الستة الباقية حلى من العناوين المختارة
__________
1 الْمُزْهِرُ "2/ 362".
2 الفِهْرِسْت "140".
3 الفِهْرِسْت "108"، الأغاني "5/ 125"، بروكلمن "1/ 73".
4 "68".(17/293)
وهي: المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثي، المشوبات، الملحمات"1.
ويسمى جامعها أبا زيد القرشي، وقيل إن سند رواية أبي زيد هذا، وهو المفضل، كان في المرتبة السادسة من سلالة الخليفة عمر بن الخطاب، وإذا فلا بد أن حياته كانت في أواخر القرن الثالث الهجري. على أن كلا الرجلين: أبي زيد والمفضل، مجهول بالكلية فيما عدا ذلك. ويبدو لنا أن تسميتها موضوعة على اسمي كل من أبي زيد الأنصاري النحوي المشهور وشيخه المفضل. ولكن لما كان كتاب الجمهرة معروفًا لابن رشيق "390- 456هـ/ 1000- 1046م"، فقد يكون تم تأليفه في القرنين الثالث والرابع للهجرة"2.
وهناك مجموعات أخرى مثل ديوان الحماسة لأبي تمام "المتوفي 231هـ"، وديوان الحماسة للبحتري "205- 284هـ"، وحماسة "الخالديين"، أو كتاب الأشباه والنظائر، للأخوين: أبي عثمان سعيد "المتوفي حوالي 350هـ"، وأبي بكر محمد "المتوفي380هـ"، ومجموعات أخرى معروفة، مثل كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، ذكرها "بروكلمن" و"جرجي زيدان"، وغيرهما ممن بحث عن الشعر الجاهلي، فلا حاجة إذن إلى ذكرها في هذا المكان.
ولم يلزم رواة الشعر الأول وعلماء اللغة والنحو أنفسهم النص على اسم المنبع الذي عرفوا الشعر أو الخبر منه، فصار من الصعب علينا، بل من غير الممكن التعرف على السبيل الذي سلكه هذا الشعر الجاهلي من الجاهلية حتى وصل إلى حماد الراوية، أو خلف الأحمر، أو غيرهما من رواة الشعر، ولو كانوا قد نصوا عليه، لأمكن التثبت من صحة الشعر، بنقد سلسلة السند، أو المصدر المكتوب إن كان مكتوبًا، فيخفف بذلك من هذا الشك الذي يحوم حول صحة المصادر التي أخذ الرواة منها معينهم عن هذا التراث الخالد الجاهلي.
وقد اكتفى الرواة أحيانا بذكر اسم أعرابي، نسبوا أخذ شعرهم أو خبرهم إليه، اتصلوا به أثناء قدومه البصرة أو الكوفة، أو في أثناء ذهابهم إلى البادية لجمع العلم بأخبار العرب وبشعرها القديم منها، ومعظمهم من قبائل مختارة
__________
1 بروكلمن "1/ 75".
2 بروكلمن "1/ 75".(17/294)
نصوا على اسمها، مثل تميم، وأسد، وهي القبائل التي ارتضى علماء اللغة الأخذ عنها، وكان بعضهم ممن ترك البادية وعاش في الحاضرتين، وأظهروا مقدرة وكفاءة في الرد على أسئلة العلماء، واستوجبت توثيقهم وتقديمهم، حتى صار بعضهم من طبقة العلماء.
ولم يشرِ العلماء أحيانًا إلى اسم الأعرابي، أو الأعراب الذين أخذوا عنهم، بل اكتفوا بالإشارة إلى أنهم سمعوا ما ذكروه من أعرابي، أو من أعرابي فصيح، أو من فصحاء الأعراب، أو فصحاء العرب. ولا ندري حال هؤلاء الأعراب وحظهم من العلم والمعرفة بعلوم اللغة، وبأمور القبيلة في الجاهلية، وقد يصح الأخذ منهم في أمور لغوية تخص لهجة قبيلتهم، أما في موضوع الشعر والأخبار، فهناك مشاكل شائكة تجعل من الصعب قبول روايتهم، لمجرد أنهم أعراب، وأنهم أعلم من الحضر بأمور قبيلتهم، فبينهم من كان لا يبالي من التحقق بإجابته، فيجيب حسب مزاجه وهواه.
وقد اشتهر وعرف بعض الأعراب، حتى دخلت أسماؤهم في الكتب، وقد دون ابن النَّدِيم أسماء جماعة منهم في باب دعاه: "أسماء فصحاء العرب المشهورين الذي سمع منهم العلماء، وشيء من أخبارهم وأنسابهم"1. وقد ذكر أن من بين هؤلاء من كان معلما، يعلم الصبيان بأجرة، ويؤخذ منه العلم، وكان شاعرًا، مثل أبي البيداء الرباحي، وهو أعرابي نزل البصرة، وعلم بها، وأبي مالك عمرو بن كركرة، وكان يعلم في البادية ويورق في الحضر مولى بني سعد، راوية أبي البيداء، وكان عالما باللغة، وله رأي طريف: "يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء"2، وأبي عرار، وهو أعرابي من بني عجل، قريب من أبي مالك، في غزارة علم اللغة، وكان شاعرًا، وكان ممن يتصل به جناد وإسحاق بن الجصاص"3. ولبعضهم مؤلفات، ذكر أسماءهم ابن النديم. وقد أقام معظمهم بين الحضر، في المدن المشهورة التي كانت تبحث عن أمثال هؤلاء، مثل البصرة والكوفة، ثم بغداد، وكان أكثرهم ينظم الشعر، ومنهم من كان كاتبًا قارئًا، طابت له الإقامة بين الحضر، ووجد له الرزق بينهم، ففضل وطلب المال على الإقامة في أرض الشح والفقر.
__________
1 الفِهْرِسْت "ص71 وما بعدها".
2 الفِهْرِسْت "ص72".
3 الفِهْرِسْت "ص72".(17/295)
بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:
هناك رجال غلبت عليهم رواية الشعر، فاشتهروا بها، مثل حماد الراوية وخلف الأحمر. غير أن هناك رجالا، اشتغلوا بالعربية والنحو، لا يقل جهدهم في جمع الشعر الجاهلي عن جهد رواة الشعر، منهم من جمعه لتفسير كلام الله، ومنهم من حفظه للاستشهاد به في ضبط اللغة وقواعد النحو، حتى إنا لنجد في كتب اللغة والمعاجم وشواهد النحو، أبيات شعر وقطعًا لشعراء جاهليين فات خبرها عن رواة الشعر، ولهذا فنحن لا نستطيع فصل عمل هؤلاء عن عمل رواة الشعر، وعدم الإشارة إليهم في أثناء حديثنا عن العلماء الذين كان لهم فضل جمع الشعر الجاهلي.
ومن أعرف رواة الشعر الجاهلي، عامر بن شراحيل الشعبي، المولود سنة "5" للهجرة والمتوفى سنة "104"، أو "105" للهجرة، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى ما بين السنة "151" والسنة "159" للهجرة، وحماد الراوية، والمفضل الضبي، وخلف الأحمر، وأبو عمرو الشيباني، والمتوفى سنة "205"، أو "206"، أو "213" للهجرة، وأبو عبيدة، ومحمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة "146" للهجرة، وابنه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وابن الأعرابي، وابن السِّكِّيت، المتوفى سنة "244" أو "246" للهجرة، والطوسي، المتوفى في حوالي السنة "250" للهجرة، والسكري، المتوفى سنة "270" أو "275" للهجرة والمبرد، المتوفى سنة "282"، أو "285"، أو "286" للهجرة1، وغيرهم ممن تجد اسماءهم في الفِهْرِسْت لابن النَّدِيم وفي الموارد الأخرى. ويعد أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان من خزاعي ابن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم" المتوفى سنة "154هـ"2. من أعلم زمانه في الشعر واللغة، وقد ذكر أن
__________
1 Ch. J. Lyall, Ancient Arabien Poetry, pp. XXXIX.
2 المعارف "540"، أخبار النحويين، للسيرافي "28 وما بعدها"، البداية والنهاية، لابن كثير "10/ 112"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 262".(17/296)
اسمه زبّان بن العلاء بن عمار المازني1. وكان عالما بكلام العرب ولغاتها وغريبها، وكان مشهورًا في علم القراءة والحديث واللغة والعربية2. وقد أخذ الشعر عن أعراب أدركوا الجاهلية، وأثنى عليه الجاحظ، وأطرى على علمه، فقال: "كان أعلم الناس بأمور العرب، مع صحة سماع وصدق لسان حدثني الأصمعي، قال: جلست إلى أبي عمرو عشر حِجَج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. قال: وقال مرة: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته. يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما. وحدثني أبو عبيدة قال: كان أبو عمرو أعلم الناس بالغريب والعربية، وبالقرآن والشعر، وبأيام العرب وأيام الناس"، "وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ3 فأحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه. وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية"4.
وقد فسر بعض المستشرقين إحراق أبي عمرو بن العلاء لكتبه، على أنه كانت تحت تأثير أزمة دينية تدل "على أوساط التدين في العراق لا تنظر بعين الارتياح إلى التنقيب عن بقايا الوثنية"5. وأشار بعض منهم إلى أن الحرق تناول ما جمعه من الشعر الجاهلي، وأنه كان في أزمة زهدية لينصرف إلى دراسة القرآن6. وهو تفسير غريب، استنتجوه من لفظة "تقرأ"، أي "تنسك" على ما يظهر، وليس بهذه اللفظة صلة بالوثنية وبالشعر الجاهلي، ولو كان الشعر الجاهلي ممقوتا، وجمعه وحفظه مذمومين، لما حفظه الصحابة وترنموا واستشهدوا به، ثم إن غيرهم من الزهاد مثل أبي الأسود الدؤلي، كان يحفظ هذا الشعر ويستشهد به، وقد رأينا أن الرسول، كن يسمعه ويستشهد به، ثم إن خبر
__________
1 الْمُزْهِرُ "2/ 304"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 321"، الفِهْرِسْت "48"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 270".
2 نزهة الألباء "24"،المقتبس، للمرزباني "25 وما بعدها"، ابن خِلِّكَان "1/ 386 وما بعدها"، الذهبي، العبر "1/ 223".
3 تقرأ: تنسك.
4 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 320 وما بعدها"، ابن خِلِّكَان "1/ 376".
5 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "110".
6 المصدر نفسه "الحاشية رقم4".(17/297)
إحراق الكتب، لا يشير لا تصريحا ولا تلميحًا إلى علاقته بالشعر، ولعله خير موضع، وضعه أبو عبيدة لغرض ما، كأنه كان يريد من وضعه المبالغة في علمه وفي زهده، أو أن حريقًا غير متعمد أصاب بعض كتبه، فضخمه ووسعه، وجعله إحراقًا متعمدًا، إذا لا يعقل أن يقوم هو بإحراق كتبه كلها، ثم إن قوله: "وكان كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت له بيتًا على قريب من السقف، ثم إنه تقرأ فأحرقها كلها" لا يخلو من مبالغة فليس من السهل على رجل كتابة هذا القدر من الكتب بالنسبة لذلك الوقت، حيث كان الورق غاليًا، بحيث تملأ بيتًا إلى قريب من السقف، ثم قيامه بإحراقها كلها بمثل هذه البساطة والسذاجة، فهي في نظري قصة مصطنعة، لا حقيقة فيها. ومما يؤيد سذاجة هذه القصة، هو أن صاحبها عاد فقال إنه رجع بعد إلى علمه الأول، فلم يكن أمامه عنده إلا ما حفظه بقلبه1، مما يثبت أنه أراد من وضعها المبالغة في علمه، بزعمه أنه كان قد حفظ ما شاء الله من العلم، ومنه الشعر الجاهلي الذي كان يمجده، ويرى أنه وحده هو الشعر، ولهذا لم يستشهد أو يحتج ببيت إسلامي، مهما بلغ الشعر الإسلامي من الجودة والحسن لأنه شعر محدث، والمحدث لا يقاس بالشعر الجاهلي الأصيل، مهما بلغ من الإتقان.
وقد زعم أنه قال: "ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يروى للأعشى من قوله:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا2
ولا ندري بالطبع إذا كان هذا الكلام المنسوب إلى أبي عمرو هو من كلامه حقًّا، أو كان من الكلام المصنوع المنحول عليه. وإذا كان صحيحًا، فإن فيه تلميحًا إلى أن هناك من قد اتهمه بالوضع، جريًا على العادة التي كانت إذ ذاك من اتهام العلماء بعضهم بعضًا بالوضع، فروي هذا الخبر في تبرير ذمته من الوضع، وإنه لم يضع في حياته إلا البيت المذكور.
وعوانة بن الحكم بن عياض الكلبي، ويُكَنَّى أبا الحكم، من هذا
__________
1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 321".
2 الْمُزْهِرُ "2/ 415"، الأغاني "3/ 143".(17/298)
الرعيل الذي كان له فضل في جمع الشعر. كان من علماء الكوفة، راوية للأخبار عالما بالشعر والنسب، وكان فصيحًا ضريرًا. وله كتب منها: كتاب التأريخ وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وقد ذكر بعضهم أنه لمنجاب بن الحارث، غير أن ابن النديم، نص على أنه لعوانة، وليس لمنجاب. وذكر ابن النَّدِيم أنه قرأ بخط أبي عبد الله بن مقلة، قال أبو العباس ثعلب: جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها والوليد بن يزيد بن عبد الملك، وردَّ الديوان إلى حماد وجناد"1. مما يدل على أن الوليد كان قد استعار منهما ديوانًا كان عندهما في أشعار العرب. ولعل كل واحد منهما كان قد جمع ديوانًا خاصًّا به، فاستعان الوليد بهما في إخراج ديوان واحد يضم ما جاء في الديوانين من شعر. وكان وفاة عوانة سنة "147هـ".
والمفضل بن محمد بن يعلى الضبي الكوفي، المتوفى سنة "164هـ"، "168هـ"، "170هـ"، هو من أصحاب العلم بالشعر، وكان قد انضم إلى جماعة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلوي، فظفر به المنصور، وعفا عنه، وألزمه ابنه المهدي، وجعله مؤدبًا له. وللمهدي عمل الأشعار المختارة المسماة المفضليات، "وهي مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه. والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي. قال: وأول النسخة لتأبط شرًّا:
يا عبد ما لك من شوق وإبراق ... ومر طيف على الأهواء طراق2
وذكر ابن النَّدِيم أن له من الكتب: "كتاب الاختبارات -وقد ذكرناه- كتاب الأمثال، كتاب العروض، كتاب معاني الشعر، كتاب الألفاظ"3.
وكتاب الاختيارات هو المفضليات، ويظهر أنه عرف بالمفضليات نسبة إلى الجامع، فطغت هذه التسمية على الاسم الأصل4.
__________
1 الفِهْرِسْت "140".
2 الفِهْرِسْت "ص108"، الأغاني "5/ 125"، ياقوت، إرشاد "7/ 171"، بغية الوعاة "2/ 297 وما بعدها"، إنباه الرواة "3/ 298 وما بعدها"، ابن الأنباري نزهة "56"، المعارف "545".
3 الفِهْرِسْت "108".
4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 72 وما بعدها".(17/299)
وكان المفضل عالما بالشعر، وكان أوثق من روى الشعر من الكوفيين. ولم يكن أعلمهم باللغة والنحو، إنما كان يختص بالشعر. وقد روى عنه أبو زيد شعرًا كثيرًا1.
وليست هذه القصائد التي يضمها كتاب المفضليات كلها من جمع المفضل وترتيبه على ما جاء في بعض الموارد، وليست في هذه القصائد المطبوعة في المفضليات إلا سبعون قصيدة هي من اختيار المفضل. أما بقيتها، فهي زيادات وإضافات وضعت على تلك القصائد2. وليس للمفضل منها على ما جاء في مرود آخر إلا ثمانون قصيدة هي التي أخرجها للمهدي. وأما ما تبقى منها، فهي من اختيارات الأصمعي، وهي أربعون قصيدة من مجموع عشرين ومائة3. فيكون ثلثاها على وفق هذه الرواية من اختيار المفضل. وأما الثلث الباقي، فمن اختيار الأصمعي4. ولم يذكروا شيئًا عن القصائد الثماني الباقية، وقد نص "ذيل الأماني" على أنها مائة وعشرون5.
ويدل هذا الاختلاف على أن رواة المفضليات لم يعتمدوا في روايتهم للكتاب على النسخة الأم، وهي النسخة التي اختارها المفضل للمهدي. وإلا لما حدث اختلاف بين الرويات في ترتيب القصائد وفي عددها، أو أن المفضل نفسه لم يدون اختياراته تلك في كتاب، وإنما اختار ما اختاره دون تدوين، فكان يمليه على المهدي مجلسًا مجلسًا، حتى أكمل تلك الاختيارات، وأنه ألقى اختياراته هذه على من كان يحضر مجلسه طلبًا للشعر في مجالس أيضًا، فمن هنا وقع هذا الاختلاف. وقد كان يكتفي بإلقاء المختار على طلابه دون شرح. أما الشرح المطبوع، فليس من شرح الضبي وتفسيره، وإنما هو من عمل رواة آخرين ورد ذكرهم في مقدمة الكتاب، وليس للمفضل إلا الاختيارات6.
__________
1 الْمُزْهِرُ "2/ 405 وما بعدها".
2 مقاتل الطالبيين "119"، "طبعة طهران"، المفضليات "الترجمة الإنكليزية ". VOL,,II,p, xiv.
3 ذيل الأمالي "130"، "دار الكتب المصرية".
4 المفضليات "الترجمة الإنكليزية" VOL,II,p, xiv.
5 ذيل الأمالي "130".
6 راجع النص العربي للمفضليات "طبعة لايل"، "1".(17/300)
والشرح المطبوع هو من صنع أبي محمد القاسم محمد القاسم بن بشار الأنباري وجمعه، وقد أخذه من موارد متعددة أشار إليها في الكتاب. وقد رواه عنه ابنه أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وعنه أبو بكر أحمد بن محمد الجراح الخزاز. وفي جملة من اعتمد عليه أبو محمد صاحب هذا الشرح من شيوخه، عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي، وقد أملى عليه القصائد المختارة المنسوبة إلى المفضل "إملاء، مجلسًا مجلسًا، من أولها إلى آخرها عن المفضل الضبي"1. كما كان في جملتهم أبو عمرو بندار الكرخي، وأبو بكر العبدي، وأبو عبد الله محمد بن رستم، والطوسي، وأبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح. من هؤلاء ومن أمثالهم جمع الأنباري هذا الشرح، وفيهم من هو من الكوفة وفيهم من هو من أهل البصرة وهم من أتباع الأصمعي، ولهذا نجدد رواياته تتداخل فيه من أبيات شعر أو قصائد لم يخترها المفضل، ومن شرح أو تفسير لكلم غريب.
فالمفضليات وإن نسبت إلى المفضل، غير أنها في الواقع من جمع الأنباري المذكور، وقد جمعها من أفواه جملة رجال، كل واحد منهم له فيها عمل ويد. وفق الأنباري بين تلك القصائد والأشعار وبين هذه الروايات والمعارف الواردة عن الشعر، وأخرج منها هذا الكتاب الثمين الكبير2.
وللمفضل أقوال حفظت في كتب أخرى غير هذا الكتاب، فنجد أبا زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي صاحب كتاب جمهرة أشعار العرب يذكره في مواضع من كتابه، ويذكر نتفًا من روايات مستندة إليه3، كما نجد الأصبهاني يورد له أخبارًا في الشعر في مواضع عديدة من كتابه الأغاني، ونجد غيرهما من رجال الأدب يشيرون إليه. وفي الموارد التي أشاروا إليها ما يدل على علم واسع له في الشعر وعلى إدراك في النقد.
وإذا كان ما ذكره ابن النَّدِيم عن المفضليات من قوله: "هي مائة
__________
1 المفضليات "1" "طبعة لايل"، "النص العربي".
2 جواد علي، تدوين الشعر الجاهلي، مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد السابع" "الجزء الثاني ص520 وما بعدها "، "1956".
3 جمهرة أشعار العرب "القاهرة 1926م".(17/301)
وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص وتتقدم وتتأخر، بحسب الرواية، والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي، قال: وأول النسخة لتأبط شرًّا:
يا عيد ما لك من شوق وإبراق ... ومر طيف على الأهوال طراق1.
تكون هذه النسخة أصح الروايات إذن، وكان ابن الأعرابي المتوفى سنة "231هـ" قد سمع المفضل، وكان يذكر أنه ربيب المفضل، كانت أمه تحته2، فلا يستبعد أن تكون نسخته، هي النسخة الصحيحة، لاتصاله به.
وقد ذكر أبو جعفر بن الليث الأصفهاني قال: أملى علينا أبو عكرمة الضبي المفضليات من أولها إلى آخرها، وذكر أن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، وقرئت بعد على الأصمعي فصارت مائة وعشرين، قال أبو الحسن3: أخبرنا أبو العباس ثعلب أن أبا العالية الأنطاكي والسدري، وعافية بن شبيب، وهؤلاء كلهم بصريون من أصحاب الأصمعي، أخبروه أنهم قرءوا عليه المفضليات ثم استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره، وضموه على المفضليات وسألوه عما فيه مما أشكل عليهم من معاني الشعر وغريبه فكثرت جدًّا"4. وروي عن أبي عكرمة قوله: "مرَّ أبو جعفر المنصور بالمهدي، وهو ينشد المفضل قصيدة المسيب التي أولها: أرحلت...... فلم يزل واقفًا من حيث لا يشعر به حتى استوفى سماعها، ثم صار إلى مجلس له وأمر بإحضارهما، فحدث المفضل بوقوفه واستماعه لقصيدة المسيب واستحسانه إياها، وقال له: لو عمدت إلى أشعار الشعراء المقلين واخترت لفتاك لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا! ففعل المفضل"5.
ويلاحظ أن الرواة مختلفون فيما بينهم في عدد قصائد وقطع المفضليات، فمنهم من جعلها مائة وثمانٍ وعشرين قصيدة وقطعة، كما هي رواية ابن النَّديم.
__________
1 الفِهْرِسْت "108".
2 الفِهْرِسْت "108 وما بعدها".
3 الأخفش.
4 ذيل الأمالي "130".
5 ذيل الأمالي "130 وما بعدها".(17/302)
ومنهم من صيرها مائة وعشرين1.
وأما جناد أبو محمد بن واصل الكوفي مولى بني أسد، فقد كان على حد وصف ابن النديم: "أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها"، غير أنه "لم يكن له علم بالنحو"، و"كان يلحن كثيرًا"2. وهو يعد من الكوفيين، وقد ذكروا أنه كثير الحفظ في قياس حماد الراوية، وأن أهل الكوفة كانوا يلجئون إليه حين يشُكُّون في شعر وحين يعزب عنهم اسم شاعر فيجدونه حافظًا وبما أرادوه عارفًا. غير أنهم مجمعون على أنه كان لحانًا، كثير اللحن جدًّا، فوق لحن حماد. وقد ذكروا أمثلة على لحنه، وعلى عدم وقوفه على العروض، فكان يخطئ فيه ويخلط في الأشعار3. وممن كان ينتقض علمه ويرى قلة بضاعته في العربية وفي الشعر أيضًا يونس بن حبيب "183هـ" وهو كما رأينا من المتحاملين أيضًا على حماد، ومن المتعصبين للبصرة على الكوفة. ولهذا يكون لتحامله على جناد أثر من التعصب للبصريين.
وقد أخذ الثوري على أهل الكوفة روايتهم عن حماد، وجنَّاد واتِّكالهم عليهما، وهما رجلان "كانا يرويان ولا يدريان، كثرت رواياتهما، وقل علمهما"، ومن ثم فسدت روايتهم عن الرجلين. غير أن علينا أن نكون حذرين في تقبل هذه المؤاخذة على الكوفيين في رواية الشعر، فقد كان الثوري من جماعة الأصمعي حتى كان ينسب إليه. وكان الأصمعي يحمل على حماد، وعلى أهل الكوفة، لأنه كان بصريًّا، فلا يستبعد تحمل التلميذ لأستاذه، وتأثره به، فقال ما قال جناد وحماد بِدَاعي العاطفة والتعصب للبصريين على الكوفيين.
وقد أشرت إلى ورود رواية تنسب إلى ثعلب ذكرت أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها ولغاتها ... ورد الديوان إلى حماد وجناد"4 مما يدل وجود ديوان للشعر عند جناد لعله كان من جمعه.
__________
1 الفِهْرِسْت "108"، ذيل الأمالي "130".
2 "من رواة الأخبار والأشعار، لا علم له بالعربية، وكان يصحف ويكسر الشعر، ولا يميز بين الأعاريض المختلفة، فيخلط بعضها ببعض، ياقوت، إرشاد "2/ 425".
3 الإرشاد "2/ 425"، الفِهْرِسْت "141".
4 الفِهْرِسْت "140"، "أَخْبَارُ عوانة".(17/303)
ويُونُس بن حبيب، وكني أبا عبد الرحمن، المتوفى سنة "182هـ" "183هـ" من رواة الشعر كذلك، وأن غلب النحو عليه1.
ذكر أنه كان مولى لبني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وذكر أنه من موالي ضبة. وقيل عنه: "كان أعلم الناس بتصاريف النحو". وهو من أصحاب أبي عمرو بن العلاء، وكانت حلقته بالبصرة، ينتابها طلاب العلم وأهل الأدب وفصحاء الأعراب ووفود البادية2. وكان له مذاهب وأقيسة بها3.
وذكر أن أبا عمر، وهو إسحاق بن مراد المعروف بالشيباني مولى بني شيبان، كان عالِمًا بشعر القبائل، "أخذ عنه دواوين أشعار القبائل كلها". ولما جمع أشعار العرب كانت نيفًا وثمانين قبيلة. وقد توفي سنة "206هـ"، وقيل سنة "213هـ"4. وكان قد خرج إلى البادية ليأخذ عن الأعراب، فكان يدون ما يأخذ منهم5.
وأبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، هو من رواة الشعر وعلمائه، كما كان من علماء اللغة وأخبار العرب وأنسابها، وقد عرف بالطعن في أنساب الناس وبالبحث عن المثالب، لذلك كرهه الناس، فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره. وقد توفي سنة ثمانٍ وقيل تسع، وقيل عشر وقيل إحدى عشرة ومائتين وقيل ثلاث عشرة ومائتين "وكان ديوان العرب في بيته"6. وله كتب في الأخبار والحوادث والبيوت والنسب والشعر. وفي جملة مؤلفاته شرح ديوان المتلمس7. ونجد له أخبارًا عن أيام العرب، مشتتة في بعض كتب الأدب8، وآراء في الشعر مدونة في تلك الكتب أيضًا.
__________
1 المعارف "541"، بغية الوعاة "2/ 365"، مراتب النحويين "21 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 399، 423"، ابن خِلِّكان "2/ 416 وما بعدها".
2 الفِهْرِسْتُ "69".
3 ابن الأنباري، نزهة "49 وما بعدها".
4 الفِهْرِسْتُ "107 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 82".
5 ابن الأنباري، نزهة "93 وما بعدها"، إنباه الرواة "1/ 221 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 439 وما بعدها". المُزْهِر "2/ 411 وما بعدها"، شذرات الذهب "2/ 23 وما بعدها".
6 الفِهْرِسْتُ "85"، المُزْهِر "2/ 402 وما بعدها"، المعارف "543"، إنباه الرواة "3/ 276 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 294 وما بعدها".
7 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 94".
8 بروكلمن "1/ 128"، ابن الأنباري، نزهة "104 وما بعدها".(17/304)
والأصمعي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك، المتوفى سنة "213هـ" "216هـ"، "217هـ"، من العلماء الحفاظ للشعر، وقد بالغ مترجموه في الثناء عليه، فزعموا أنه كان يروي على روي كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة، وذكر ابن النَّديم أنه عمل "قطعة كبيرة من أشعار العرب، ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"1. ولا تشتمل الأصمعيات إلا على "72" قصيدة وقطعة، ومجموع أبياتها "1163" بيتًا، لكثرة ما فيها من المقطوعات. وعدد شعرائها واحد وستون شاعرًا، لم يسمِّ ثلاثة منهم. وبقي خمسة مجهولين لا تعرف أسماؤهم في الموارد الأخرى. وأكثر الباقين من الجاهليين وليس فيها إلا أربعة عشر شاعرًا من المخضرمين والإسلاميين. وفيها قصيدة لكل من امرئ القيس وطَرَفَة2. وقد نسب ابن النَّديم له كتابًا دعاه: "مصادر كتاب القصائد الست"3. وربما كان هو الكتاب الذي نشره "آلورد" برواية الأعلم الشمنتري بعنوان: دواوين الشعر الستة4.
وذكر أن الأصمعي جمع أشعار بني جعدة، وأشعار الأنصار5 وأنه جمع "ديوان المتلمس"6 وديوان امرئ القيس، وأنه روى شرح هذا الديوان لأبي عمرو الشيباني7. وجمع ديوان الفرزدق وجرير8.
وروي أن الأصمعي كان "أتقن القوم باللغة، وأعلمهم بالشعر، وأحضرهم
__________
1 الفِهْرِسْتُ "88 وما بعدها"، ابن الأنباري، نزهة "112 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 112 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 404 وما بعدها".
2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 74 وما بعدها"، المعارف "543"، "وقد بلغ عدد قصائدها ومقطوعاتها اثنتين وتسعين، وهي موزعة على "71" شاعرًا، منهم نحو "40" جاهليًّا"، العصر الجاهلي، لشوقي ضيف "178".
3 الفِهْرِسْتُ "88".
4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 88".
W Ahiward, The Diwan of the six ancient Arabic Poets, London, 1870.
5 الأغاني "5/ 171"، "19/ 82 وما بعدها"، بروكلمن "1/ 84".
6 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 94".
7 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 100".
8 المصدر نفسه "1/ 212، 213، 222".(17/305)
حفظًا، وكان قد تعلم نقد الشعر من خلف الأحمر"1. وروي أنه كان يقول أحفظ عشرة آلاف أرجوزة، وأن الرشيد يسميه شيطان الشعر، وروي أنه كان يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة2.
وابن الأعرابي، أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، ممن سمع من المفضل الضبي، وكان يذكر أنه ربيب المفضل. كانت أمه تحته. ومات سنة "231هـ". فروايته للاختيارات، يجب أن تعد من أصدق الروايات، لاتصاله بالمفضل، ولصلته به. وكان له مجلس، يحضره طلاب العلم، يسألونه فيه ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب. وكان ممن لازمه بضع عشرة سنة "أبو العباس" ثعلب. ويذكر ثعلب أن شيخه هذا "قد أملى على الناس ما يحمل على أجمال. لم ير أحد في الشعر أغزر منه"3. وقد أورد ابن النَّديم له جملة كتب، روى بعضها عنه جماعة من مشاهير العلماء، مثل الطوسي وثعلب4. وذكر أن روايته للمفضليات تعد من أصح الروايات5. وقد سمع من المفضل الدواوين وصححها، واعتبر رأسًا في كلام العرب، وكان من أكابر علماء اللغة المشار إليهم في معرفتها6.
وقد رمي بعض من جمع الشعر بالوضع وبانتحال الشعر وإدخاله في شعر القدماء، واتهموا بدس القصائد عليهم، أو بزيادتها أو بتنقيص أبيات منها، أو بإجراء تغيير عليها. وقد تمكن بعض علماء الشعر من الإشارة إلى بعض الشعر المصنوع، أو المدخول، ولم يتمكنوا من الإشارة إلى البعض الآخر منه. ومن هؤلاء الذين عرفوا واشتهروا برواية الشعر وبعلمهم به، وبصنعهم له، ودسه بين الناس على أنه شعر قديم حماد الرواية وخلف الأحمر.
فأما حماد الراوية فعلى راس مشاهير رواة الشعر الجاهلي وحفاظه. وقد كان هو نفسه شاعرًا مجيدًا يضع الشعر على ألسنة المتقدمين، لكنه اشتهر بالرواية
__________
1 المُزْهِر "2/ 403".
2 الرافعي "3/ 15".
3 الفِهْرِسْتُ "108 وما بعدها".
4 الفِهْرِسْتُ "109".
5 ابن الأنباري، نزهة "56".
6 ابن الأنباري، نزهة "150 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 105 وما بعدها"، المعارف "546"، المُزْهِر "2/ 411"، مراتب النحويين "149 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "5/ 275".(17/306)
أكثر من اشتهار بكونه شاعرًا. ولد سنة "75" للهجرة "694م" بالكوفة، وهو من "الديلم" في الأصل، وعرف بأبي القاسم. وعرف والده بسابور بن المبارك بن عبيد. سباه ابن عروة بن زيد الخيل، ووهبه لابنته ليلى فخدمها خمسين سنة، ثم ماتت فبيع بمائتي درهم، فاشتراه عامر بن مطر الشيباني وأعتقه. وقيل إن اسم أبي ليلى "ميسرة". وكان حماد ربما لحن في الشيء. وقيل إنه كان لصًّا في شبابه، يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فوجد في بعض سرقاته جزءًا من شعر الأنصار، فقرأه واستعذبه وحفظه، ثم اندفع في طلب الشعروأيام الناس ولغات العرب1. وأخذ ينظم الشعر يشبه به مذهب شاعر من الشعراء ويدخله في شعره، وكان هو بالشعر القديم بصيرًا، وحمل ذلك عنه في الآفاق، فاختلط شعره بشعر الشعراء الجاهليين، وذاع بين الناس على أنه لهم، حتى صار من الصعب حتى على نقاد ذلك الشعر والعالمين به، تمييز الفاسد منه من الصحيح2.
وذكر أن حمادًا، هو حماد بن هرمز، وكان هرمز من سبي مكنف بن زيد الخيل وكان ديلميًّا، يكنى أبا ليلى3. وإذا أخذنا برواية ابن النَّديم من أن مولد حماد كان سنة "خمس وسبعين"، ومن أن وفاته كانت سنة ست وخمسين ومائة4، فيكون حينئذ قد عمَّر "81" سنة.
ويذكر ابن النَّديم أن حمادًا كان في أيام الوليد بن عبد الملك، وعاش إلى سنة "156هـ"، وأنه كان يقول" "كنت أنشد الوليد الشعر الجيد، فيطلب مني السفساف فأنشده فيطرب، فأعلم أن الأمر مدبر، ثم أنشد المهدي السفساف، فيطلب مني الجيد الفحل، فأعلم أن أمرهم مقبل"5. وذكر عنه أنه كان يجالس المهدي. وذكر أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك
__________
1 الأغاني "6/ 87"، الخزانة "4/ 131 وما بعدها"، "بولاق".
2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 245 وما بعدها"، الفهرست، لابن النَّديم "140"، الأغاني "5/ 163"، ابن خِلِّكان "1/ 205"، "في ترجمة حماد"، مجلة المجمع العلمي العراقي، تدوين الشعر الجاهلي، المجلد الرابع "جـ2/ 527 وما بعدها"، "1956م".
3 المعارف "541"، ابن الأنباري، نزهة "35 وما بعدها"، الأغاني "6/ 70 وما بعدها"، خزانة الأدب "4/ 129 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 406".
4 الفِهْرِسْتُ "ص140".
5 الفِهْرِسْتُ "ص140 وما بعدها".(17/307)
جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ورد الديوان إلى حماد وجناد"1. ولم يشر ابن النَّديم الذي روى هذا الخبر نقلا عن رواية تنسب إلى ثعلب إلى ديوان حماد المذكور في أثناء تحدثه عنه. فلعله قصد "الاختيارات"، أي القصائد السبع، وقد يكون قصد ديوانًا آخر. ولم نسمع أي خبر عن مصير الديوان الذي جمعه الوليد بن يزيد.
ويذكر ابن النَّديم أنه "لم يُرَ لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس وصنفت الكتب بعده"2. وهو خبر يظهر أن حمادًا لم يؤلف كتبًا، وإنما كان يروي الشعر رواية، ويمليه إملاء على طلاب الشعر، فيدونونه. أما أن تصنيف الكتب لم يكن معروفًا آنذاك، وإنما الناس صنفت الكتب بعده، فيناقضه ما قاله ابن النَّديم نفسه، من أن زياد بن أبيه، ألف كتابًا في المثالب، ودفعه إلى ولده، وقال: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم3، ومن أن عبيد بن شرية الجرهمي، ألف كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين4، وقد طبع له كتابًا في حيدر آباد بالهند، بعنوان: أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها، وهو يشتمل على أسئلة لمعاوية وأجوبة عبيد عليها، وما قاله من أن "صحارًا" العبدي له كتاب اسمه كتاب الأمثال5، وما قاله من أن لعوانة بن الحكم بن عياض الكلبي، المتوفى سنة "147هـ" أي قبل حماد، من الكتب: كتاب التأريخ، كتاب سيرة معاوية وبني أمية6، أضف إلى ذلك ما ألفه وهب بن منبه المتوفى سنة "114هـ"7، وأبو مخنف، وابن شهاب الزُّهري، وابن سيرين وغيرهم8.
وقد روى أهل الأخبار قصصًا عن مدى علم حماد بالشعر الجاهلي، وزعموا
__________
1 الفِهْرِسْتُ "ص140".
2 الفِهْرِسْتُ "ص140".
3 الفِهْرِسْتُ "137"، "المقالة الثالثة"، المعارف "176"، النووي، تهذيب الأسماء واللُّغات "1/ 259".
4 الفِهْرِسْتُ "ص138".
5 الفِهْرِسْتُ "ص138".
6 الفِهْرِسْتُ "140".
7 بروكلمن "1/ 251 وما بعدها".
8 راجع أخبارهم في بروكلمن "1/ 253 وما بعدها".(17/308)
أن خلفاء بني أمية كانوا إذا أشكل عليهم مشكل في الشعر سألوه، وأنهم كانوا يكتبون إلى عمالهم بإرساله إليهم لاستفتائه في أمر شعر جاهلي أشكل خبره عليهم وعلى من عندهم من أهل العلم بالشعر. من ذلك ما رووه عن حماد قوله: "كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان في خلافته. وكان أخوه هشام يجفوني لذلك، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من أخواني سرًّا، فلما لم أسمع أحدًا ذكرني في السنة أمنت وخرجت وصليت الجمعة في الرُّصافة، فإذا شرطيَّان قد وقفا علي وقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر الثقفي، وكان واليًا على العراق. فقلت في نفسي من هذا كنت أخاف. ثم قلت لهما تدعاني حتى آتي أهلي وأودعهم ثم أسير معكما! فقالا: ما إلى ذلك من سبيل. فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر، وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه، فرد على السلام ورمى إيى بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الرواية من يأتيك به من غير ترويع، وادفع له خمسمائة دينار وجَمَلا مهريًّا يسير عليه ثنتي عشرة ليلة إلى دمشق. فأخذت الدنانير ونظرت، فإذا جمل مرحول فركبت وسرت حتى وافيت دمشق في ثنتي عشرة ليلة، فنزلت على باب هشام، واستأذنت فإذن لي فدخلت عليه وهو جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب من حرير أحمر وقد ضمخ المسك، فسلمت عليه، فردَّ علي السلام، واستدناني فدنوت منه حتى قبَّلت رجله، فإذا جاريتان لم أرَ أحسن منهما قط. فقال: كيف أنت وكيف حالك؟ فقلت بخير يا أمير المؤمنين. فقال: أتدري فيما بعثت إليك؟ فقلت: لا. قال: بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال:
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
فقلت يقوله عدي بن زيد "؟ " العبادي في قصيدة. قال: أنشدنيها، فأنشدته:
بكر العاذلون في وضح الصبـ ... ـح يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يابنة عبد الله ... والقلب عنكم موثوق
لست أدري إذا كثر العذل فيها ... أعذول يلومني أم صديق(17/309)
قال حماد: فانتهيت فيها إلى قوله:
ودعوا بالصبوح يومًا فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين الـ ... ـديك صفى سلافها الرووق
مرة قبل مزجها، فإذا ما ... مزجت لذَّ طعمها من يذوق
قال: فطرب هشام، ثم قال: أحسنت يا حماد، سل حاجتك؟ قلت: إحدى الجاريتين. قال: هما جميعًا لك بما عليهما وما لهما، فأقام عنده مدة، ثم وصله بمائة ألف درهم"1.
وكل من تحدث عن حماد من مبغض ومحب، مجمع على سعة حفظه للشعر وإحاطته به. وحفظه هذا الشعر هو الذي وسمه بسمة عرف بها طوال حياته وبعد وفاته، حتى صار لا يعرف إلا بها، هي الرواية، فقيل له حماد الرَّاوية. ولو جرد حماد من هذا النعت، لما صار في الإمكان التعرف عليه. قيل إن الخليفة الوليد بن يزيد قال لحماد الراوية: بم استحققت هذا اللقب، فقيل لك: الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعرًا قديما ولا محدثًا إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال: إن هذا العلم وأبيك كثير! فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيرًا، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد. فأنشد الوليد حتى ضجر، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسع مائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم2.
وفي الأغاني خبر آخر من هذا النوع يطري علم حماد ويثني عليه، روي
__________
1 ثمرات الأوراق، لابن حجة الحموي "1/ 81"، "حاشية على المستطرف"، ابن الأنباري، نزهة "35 وما بعدها". الأغاني "6/ 70 وما بعدها".
2 الأغاني "6/ 71"، ابن خِلِّكان "5/ 120 وما بعدها"، الخزانة "4/ 129 وما بعدها"، "بولاق"، ياقوت، إرشاد "10/ 259".(17/310)
عن الشاعر مروان بن أبي حفصة. زعم أنه رآه عند الوليد بن يزيد. وكان قد دخل عليه في جماعة من الشعراء، "وهو في فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده، كلما أنشد شاعر شعرًا، وقف الوليد بن يزيد على بيت من شعره، وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، هذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعر، فقلت: من هذا؟ فقالوا: حماد الراوية، فلما وقفت بين يدي الوليد أنشده، قلت: ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين، وهو لحنة لحانة؟ فأقبل الشيخ علي وقال: يابن أخي، إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامهم، فهل تروي من أشعار العرب شيئًا؟ فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل، فقلت له: نعم، شعر ابن مقبل قال: أنشد، فأنشدته قوله:
سل الدار من جنبي حبر فواهب ... إذا ما رأى هضب القليب المفجع
ثم جزت، فقال لي: قف فوقفت، فقال لي: ماذا يقول؟ فلم أدرِ ما يقول! فقال لي حماد: يابن أخي، أنا أعلم الناس بكلام العرب. يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا"1.
وقد كان الخليفة الوليد بن يزيد يعطف على حماد كثيرًا، ويشمله برعايته، ويجالسه، ويتباحث معه في الشعر. وقد كانت إحاطة حماد بالشعر هي السبب في تقديمه إلى الخليفة، إذ كان الوليد من العاشقين للشعر ومن الواقفين عليه المعروفين بسعة العلم، وكان هو نفسه شاعرًا مجيدًا2. وقد ذكر عنه أنه كان يمتلك ديوانًا فيه أشعار الفحول، أو جملة دواوين جمعت أشعار العرب، كما سبق أن أشرت إلى ذلك.
ويروى عن حماد أنه كان ذا ذاكرة عجيبة، وحافظة قوية غريبة في سرعة الحفظ. روي أن الطِّرِمَّاحَ بنَ حَكِيمٍ قص على ابنه هذه القصة، قال:
__________
1 الأغاني "6/ 72"، الزجاجي، مجالس العلماء "27 وما بعدها".
2 جمع شعر الوليد بن يزيد ورتبه المستشرق الإيطالي "ف. جبريالي، ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1937م، بعنوان: ديوان الوليد بن يزيد، وقدم له المرحوم خليل مردم بك.(17/311)
أنشدت حمادًا الراوية في مسجد الكوفة -وكان أذكى الناس وأحفظهم- قولي:
بان الخليط بسحرة فتبددوا
وهي ستون بيتًا: فسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم أقبل علي فقال: أهذه لك. قلت: نعم، قال: ليس الأمر كما تقول، ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتًا زادها فيها في وقته، فقلت له: ويحك! إن هذا الشعر قلته منذ أيام، ما اطلع عليه أحد، قال: قد والله قلت أنا هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي، فقلت: لله علي حجة حافيا راجلا إن جالستك بعد هذا أبدًا. فأخذ قبضة من حصى المسجد وقال: لله علي بكل حصاة من هذا الحصى مائة حجة إن كنت أبالي، فقلت، أنت رجل ماجن، والكلام معك ضائع، ثم انصرفت"1.
وقد أخذ عن حماد أهل المصرين: الكوفة والبصرة، ومنهم: خلف الأحمر، وروى عنه الأصمعي شيئًا من شعره. ونسب إلى الأصمعي قوله: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس، فهو عن حماد الراوية إلا شيئًا بمعناه من أبي عمرو بن العلاء"2.
وللهيثم بن عدي خبر يشيد فيه بعلم حماد وبسعة حفظه له. وهناك أخبار أخرى في سعة حفظ حماد للشعر، مدونة في كتب الأدب، قد يخرجنا سردها من صلب هذا الموضوع3.
وقد عرف حماد كذلك بسعة علمه بالعربية، فقالوا إنه "كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها". وورد عن الهيثم بن عدي قوله فيه: "ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد"4، والهيثم راويته وصاحبه. وروي أن عمرو بن العلاء كان يقدم حمادًا على نفسه، وكان حماد يقدم عمرًا على نفسه5، وعمرو بن العلاء نفسه من شيوخ علماء العربية في ذلك العهد.
__________
1 الأغاني "6/ 94 وما بعدها".
2 المُزْهِر "2/ 406"، ابن الأنباري، نزهة "59".
3 الأغاني "2/ 209 وما بعدها"، "6/ 72"، "7/ 45، 56 وما بعدها".
4 الأغاني "6/ 70 وما بعدها" ياقوت، إرشاد "10/ 265".
5 الأغاني "6/ 73".(17/312)
غير أن هنالك أخبارًا تزعم أنه كان قليل البضاعة من العربية، وأنه كان لَحَّانًا، وأنه "حفظ القرآن الكريم من المصحف في نيِّف وثلاثين حرفًا"1، وأنه قرأ "الغاديات ضبحًا" "بالغين المعجمة"، فسعى به إلى عقبة بن مسلم بن قتيبة الباهلي، فامتحنه بالقراءة في المصحف، فصحَّف في عدة آيات2. ولا استبعد وقوع اللحن منه، إذ كان من الموالي، بعد أن وقع اللحن من عرب خلص ومن أنبل الأسر العربية ومن بعض كبار رجال الدولة في ذلك العهد. غير أن في هذا الوارد عن قلة بضاعته في العربية وفي كثرة لحنه وتصحيفه في القرآن الكريم، مبالغات وزيادات، وضعها عليه حسَّاده ومنافسوه لا شك؛ إذ لا يعقل وقوع مثل هذه الأغلاط الشنيعة من رجل وصل إلى الخلفاء برواية الشعر وتفسيره وتفسير غريبه، وعرف بين العلماء بسعة علمه بلغات العرب، حتى كانوا يلجئون إليه في حل مُشْكِلها وغريبها. ولو كان على مثل ما ذكر من اللحن في الكلام والتصحيف فيه ومن قلة بضاعته في العربية، لما وصل إلى الوليد بن زيد وإلى هشام وإلى خلفاء آخرين، وقد كانوا لا يختارون في الشعر واللغة إلا الفطاحل القديرين، قال المدائني: "وكانت ملوك بني أمية تقدمه، وتؤثره، وتستزيده، فيفد عليهم، ويسأله عن أيام العرب وعلومها، ويجزلون صلته".
ولم يكن حماد عند أهل البصرة ثقة ولا مأمونًا، وكانوا يضعفونه. ذكروا أنه كان يصنع الشعر ويقتني المصنوع منه وينسبه إلى غير أهله. ورووا أن أعرابيًّا جاء مجلس حماد فأنشده قصيدة لم تعرف، ولم يدر لمن هي، فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها، وقام الأعرابي، قال: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالا، فقال حماد: اجعلوها لطَرَفَة3. وروي أنه قدم البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال ما أطرفتني شيئًا، فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الْحُطيئة مديح أبي موسى. فقال: ويحك يمدح الْحُطيئة أبا موسى لا أعلم به وأنا أروي للحطيئة ولكن دعها تذهب في الناس4.
__________
1 ابن خِلِّكان "1/ 207".
2 ابن خِلِّكان "5/ 129"، "حاشية رقم1"، "طبعة الدكتور أحمد فريد رفاعي"، الموشح للمرزباني "195"، "القاهرة 1343".
3 المُزْهِر "2/ 406".
4 طبقات، لابن سلام "15".(17/313)
وقد اتهم حماد بالوضع، قال محمد بن سلام الجمحي: "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حماد الراوية، وكا غير موثوق به. وكان ينحل الشعر غيره، ويزيد في الأشعار"1 وقال: يونس بن حبيب: "إني لأعجب كيف أخذ الناس عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسر الشعر، ويصحف ويكذب"2. وروي عن الأصمعي قوله: "جالست حمادًا الراوية، فلم آخذ عنه ثلاثمائة حرف، ولم أرضَ روايته وكان قارئًا"3. وروي عنه أيضًا قوله: "كان حماد أعلم الناس إذا نصح"، يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهمًا بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب. وهؤلاء كلهم من رؤساء البصرة في العلم، وقد كان علماء هذه المدينة، يطعنون كما سبق أن قلت في علمه وفي أمانته، ولكنهم يعترفون مع ذلك بقابليته وبمواهبه في الشعر، حتى زعموا أنه كان إذا صنع الشعر على لسان شاعر جاهلي، صعب حتى على العلماء، استخراجه من الصحيح.
وقد أدخله الشريف المرتضى في عداد الزنادقة الملحدين المتهمين في دينهم، ومنهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وحماد الرواية، وحماد بن الزبرقان، وحماد عجرد، وعبد الله بن المقفَّع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الأزدي، وعلي بن خليل الشيباني، وقال عن حماد: "وأما حماد الراوية، فكان منسلخًا من الدين، زاريًا على أهله، مدمنًا لشرب الخمور وارتكاب الفجور"4. ونقل عن
الجاحظ أنه كان يجتمع مع أمثاله "على الشرب وقول الشعر، ويهجو بعضهم بعضًا، وكل منهم متهم في دينه". وقال عنه "وكان حماد مشهورًا بالكذب في الرواية وعمل الشعر، وإضافته إلى الشعراء المتقدمين ودسه في أشعارهم، حتى إن كثيًرا من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر، لأنه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس في شعر كل رجل منهم ما يشاكل طريقته، فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم"5
__________
1 طبقات الشعراء "14".
2 طبقات ابن سلام "15"، المُزْهِر "2/ 406".
3 المعارف "541"، المُزْهِر "2/ 407".
4 آمالي المرتضى "1/ 128، 131 وما بعدها".
5 آمالي المرتضى "1/ 131 وما بعدها".(17/314)
و"روي أن هارون الرشيد قال للمفضل بن محمد: كيف بدأ زهير بقوله:
دع ذا وعد القول في هرم
ولم يتقدم قبل ذلك شيء ينْصَرِفُ عنه. فقال المفضَّل: قد جرت عادة الشعراء بأن يقدموا قبل المديح نسيبًا، ووصف إبل وركوب فَلَوات، ونحو ذلك. فكأن زهيرًا همَّ بذلك، ثم قال لنفسه: دع هذا الذي هممت به مما جرت به العادة، واصرف قولك على مدح هَرِم. فهو أولى مِنْ صُرِف إليه القول ونُظِم، وأحق من بدئ بذكره الكلام وختم. فاستحسن الرشيد قوله. وكان حماد الراوية حاضرًا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا أول الشعر، ولكن قبله:
لمن الديار بقنة الحجر
وذكر الأبيات الثلاثة. فالتفت الرشيد إلى المفضل وقال: ألم تقل إن "دع ذا ... " أول الشعر، فقال: ما سمعت بهذه الزيادة إلا يومي، ويوشك أن تكون مصنوعة. فقال الرشيد لحماد: أصدقني، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا زدت هذه الأبيات. فقال الرشيد: من أراد الثقة والرواية الصحيحة فعليه بالمفضل، ومن أراد الاستكثار والتوسع فعليه بحماد"1.
والقصة بهذا الشكل مصنوعة، فالمعروف أن وفاة حماد كانت سنة "156هـ". فلا يعقل التقاء حماد بالرشيد أيام خلافته. ومخاطبته له بيا أمير المؤمنين. ثم إن من الصعب تصور اعتراف حماد بإضافة أشعار من عنده على شعر الجاهليين بمثل هذه الصورة والبساطة، وهو في حضرة خليفة. والأغلب أنها وضعت على حماد من خصومه، للطعن به، وللرفع من شأن المفضل بن محمد الضَّبي.
وقد وردت هذه القصة بشكل آخر، وردت أنها وقعت في أيام المهدي، روي أن جماعة من العلماء "كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بـ"عيساباذ" وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية، فدخل، فمكث مليًّا،
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 754".(17/315)
ثم خرج إلينا، ومعه حماد والمفضل جميعًا، وقد بان في وجه حماد الإنكار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما، فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفًا لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدًا محدثًا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب، فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال:
دع ذا وعد القوم في هَرِمِ
ولم يتقدم له قبل ذلك قول: فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئًا، إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يروى في أن يقول شعرًا، فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: "دع ذا"، أو كان مفكرًا في شيء من شأنه فتركه وقال: "دع ذا"، أي دعْ ما أنت فيه من الفكر وعدّ القول في هرم، فأمسك عنه. ثم دع بحماد، فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل، فقال: ليس هكذا قال زهير يأمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشده:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين مذ حجج ومذ دهر؟
قفر بمندفع النحائت من ... ضفوى أولات الضال والسدر
دع ذا وعد القول في هرم ... خير الكهول وسيد الحضر
قال: فأطرق المهدي ساعة، ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ أميرَ المؤمنين عنك خبرٌ لا بد من استحلافك عليه. ثم استحلفه بإيمان البيعة وبكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه، فحلف له بما توثق منه. قال له: أصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقر له حينئذ أنه قائلها. فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه"1.
__________
1 الأغاني "6/ 89 وما بعدها"، الخزانة "4/ 128 وما بعدها"، "بولاق".(17/316)
فأنت ترى أن هذه القصة تكاد تكون القصة السابقة نفسها، لولا ما أدخل عليها من ذكر اسم المهدي بدل الرشيد ومن تزويقات، وهي أقرب إلى الواقع من حيث الزمن من الأولى، فقد أدرك حماد أيام خلافة المهدي. أما من حيث الصحة أو الكذب، فربما كانت من وضع أعداء حماد عليه، أو من وضع المتعصبين للمفضل الضبي المرجحين علمه على علم حماد.
وفي القصة الثانية موطن شك أيضًا، فالمعروف أن خلافة المهدي كانت سنة "158هـ"، وأنه اتخذ داره بعيساباذ بعد تولِّيه الخلافة، وقد كان وفاة حماد سنة "156هـ"، أي قبل توليه إمارة المؤمنين. فيظهر أنها من الموضوعات التي وضعت على حماد، ربما وضعها أصحاب المفضل لتعظيم أمر صاحبهم، وللحط من شأن حماد. وقد كان المفضل يكره حمادًا الراوية، ويطعن في علمه، بسبب تنافس الرجلين على الزعامة في العلم.
وأكثر هذه التهم التي وجهت إلى علم حماد وإلى جهله بالعربية، وبالعروض، إنما هي تهم وجهها إليه أهل البصرة، عصبية لمدينتهم ورجالهم، وما اتهام ابن سلام ويونس بن حبيب لحماد، بالتهم المذكورة، سوى ترديد لهذه العصبية الضيقة، وللخصومة على الزعامة التي كانت بين المدينتين. ويونس بن حبيب الذي يحمل على حماد، ويتهمه باللحن، قد أتهم نفسه بتهمة اللحن، اتهمه خصومه أهل الكوفة بالطبع، ونجد مثل هذه الاتهامات من تجهيل العلماء بعضهم بعضًا بقواعد العربية وبالوقوع في اللحن، في صفحات الكتب الباحثة في المناظرات وفي التراجم، وفي كتب الأخبار والأدب، حتى يكاد يكون من الصعب علينا العثور على عالم، نقول إنه سلم من سهم من سهام النقد والتجريح.
ويظهر أن المنافسة على الزعامة في العلم بالشعر الجاهلي، جعلت المفضل الضبي ينال من حماد، ويظهر أثر هذه المنافسة فيما ينسب إلى الضبي من أقوال ذكر أنه قالها في حماد مثل قوله: "قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا" فقيل له: "وكيف ذلك أيخطئ في رواية أم لحن؟ قال: "ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم(17/317)
ناقد، وأين ذلك؟ "1.
وابن الأعرابي الذي يروي انتقاص المفضل الضبي لحماد، هو على ما يذكر ربيب المفضل، كانت أمه تحته2، فلا أستبعد تأثره بحنق الضبي على حماد، بسبب المنافسة التي كانت بينه وبين حماد.
وقد اتهم حماد الزندقة، كما اتهم بها حماد عجرد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وعلي بن الخليل، وصالح بن عبد القدوس، وبشار، وأبو نُواس. وقد وصف الجاحظ الزنادقة بقوله: "ربما سمع أحدهم ممن لا معرفة عنده ولا تحصيل له، أن الزنادقة ظرفاء، وأنهم عقلاء وأدباء، وأنه عباد وأصحاب اجتهاد، وأن لهم البصائر في دينهم، والبذل لمهجهم، وأن هناك علمًا وتمييزًا، وإنصافًا وتحصيلا، فيسري إليهم مسرى المهر الأرن، ويحن إليهم حنين الواله العجول، ويتصبب فيهم صبابة العاشق المتيم، ويرى أنه متى اتهم بهم، فقد قضى لهم بذلك كله، فلا يزال كذلك حتى يسهل في طباعه، ويرجح عنده أن يزعم أنه زنديق". وذكر أنه "ما منهم في الظاهر إلا نظيف البزة، جميل الشكل، ظاهر المروءة، فصيح اللهجة، ظريف التفضيل والجملة، والله أعلم ببواطنهم وضمائرهم. قال أبو نواس، وكان أيضًا زنديقًا يعد فيهم:
تيه مغنٍّ وظرف زنديق3
وكان حماد صديقًا لحمادين آخرين هما حماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وكانوا "يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار، ويتعاشرون معاشرة جميلة، وكانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة"4. وقد هجا حماد بن الزبرقان حمادًا الراوية، فقال:
نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حمادُ
هدلت مشافره الدنان فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد
__________
1 ياقوت، إرشاد "4/ 140"، "تحقيق مركليوث"، الأغاني "6/ 89".
2 الفِهْرِسْتُ "108 وما بعدها".
3 ثمار القلوب "176 وما بعدها"، ديوان أبي نُواس "89".
4 الأغاني "6/ 74 وما بعدها"، الحيوان "4/ 447 وما بعدها".(17/318)
وابيضَّ من شرب المدامة وجهُهُ ... فبياضه يوم الحساب سوادُ1
غير أن علينا باعتبارنا من المؤرخين أن نحترز احترازًا شديدًا في تقبل كل ما يرون من الأخبار، ولا سيما في المسائل الشخصية، وفي القضايا التي تكتنفها الخصومات في مثل هذه الحالة. فقد كان لحماد خصوم كثيرون من أهل هذا الشأن، وقد حسدوه على تقدمه وشهرته كما كان هو يحسد غيره ولا شك إن تقدم عليه. والإنسان مهما تقدم وترفع، فإنه لا يستطيع أن يرد نفسه من العاطفة، ولا سيما عاطفة الدفاع عن النفس وإثبات الشخصية والتنافس مع الآخرين. وقد كان المفضل الضبي -كما ذكرت- في جملة خصوم حماد، وهو من رءوس رواة الشعر في تلك الأيام، وهو نفسه لم يكن من الناجين من هذه التهمة التي اتهم بها حماد.
غير أن لا يعني أن حمادًا كان صادقًا في كل ما قاله وفي كل ما رواه، فوضعه للشعر، وصنعه له، وحمله على القدماء من المسائل المتواترة التي لا سبيل إلى نكرانها. إنما أريد هنا أن أنبه على ضرورة التأني والتقصي في أثناء مجابهتنا لمثل هذه الأخبار، لنخرج ما قد بولغ أو زيد فيه، حتى يكون حكمنا حكمًا محايدًا، أو قريبًا من الواقع.
وكما استدعى خلفاء بني أمية حمادًا للاستفادة منه في الشعر، كذلك استدعاه خلفاء بني العباس الأوائل، كالمنصور والمهدي، ليروي لهما ما كان يحفظه من الشعر والأخبار، وليتحدث إليهم فيما أشكل عليهم من غريب الشعر وقد استدعاه الخليفة المنصور مرة، فأحضر من البصرة. غير أن صِلاته بهم لم تكن -على ما يظهر- على نحو صلاته بالأمويين، حيث حسب عليهم. واستدعي إلى المهدي، كما ذكرت ذلك. ونقرأ في رواية أن حمادًا قال لإياس بن مطيع، وقد ذكر صِلاته بالعباسيين: "دعني فإن دولتي كانت في بني أمية، وما لي عند هؤلاء خير"2، مما يخبر أنه كان مجفوًا عند بني العباس، وذكر أنه قال لمروان بن أبي حفصة: "ذهب ويحك ما كنت تعهد"3. وقد يكون لتقدم حماد
__________
1 الحيوان "4/ 445".
2 الأغاني "6/ 81"، "8/ 253".
3 "ذهب ويحك ما كنت تعهد، ذاك زمان، وهذا زمان" الزجاجي، مجالس العلماء "28"، الخزانة "4/ 130"، "بولاق".(17/319)
في العمر دخل في هذا البعد، فقد كان قد جاوز السبعين من العمر في أيام المهدي، والعمر يؤثر بالطبع في مثل هذه الاتصالات، التي تحتاج إلى همة ونشاط، وجواب حاضر وبديهة، ورد على منافسين وحساد.
وعاش حماد فشهد سقوط دولة بني أمية، إذ توفي سنة "156هـ"، وذكر أنه أبطل روايته فيما دسه على غيره من الشعر1.
ومن شعر حماد قوله:
إذا سرت في عدل فسر في صحابة ... وكندة فاحذرها حذارك للخسف
وفي شيمة الأعمى زيار وغيلة ... وقشب وإعمال لجندالة القذف
وكلم شرٌ على أن رأسهم ... حميدة والميلاء حاضنة الكسف
متى كنت في حيي بجيلة فاستمع ... فإن لهم قصفًا يدل على حتف
إذا عتزموا يومًا على خنقِ زائرٍ ... تداعوا عليه بالنباح وبالعزف2
وقوله مخاطبًا الشاعر أبي عطاء السندي:
فما صفراء تكنى أم عوف ... كأن رُجَيلتها منجلان
وروي أن أبا العطاء أحس بدس حماد له، فأجابه:
أردت زرارة وأزن زنا ... بأنك ما أردت سوى لساني
أي: أردت جرادة، وأظن ظنًّا بأنك ما أردت إلا أن تستخرج رطانتي، وكان في لسانه لكنة شديدة ولثغة3.
ويعد ابن كناسة أبو يحيى محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى الأسدي "207هـ" في جملة الرجال الذين اتصلوا بحماد ورووا عنه. ونجد في الأغاني جملة أخبار رويت عن حماد في الشعر والأخبار. وابن كناسة نفسه من علماء
__________
1 إرشاد، لياقوت "4/ 137 وما بعدها"، شرح المفضليات "2/ 8"، "لايل"، "مقدمة"، الأغاني "5/ 164 وما بعدها"، الفِهْرِسْتُ "140"، بروكلمن "1/ 246".
2 الحيوان "2/ 266".
3 الحيوان "5/ 558".(17/320)
أيامه بالعربية وأيام الناس والشعر، وقد سمع هشام بن عروة، وسلمان الأعشى، وروى عنه أحمد بن حنبل ومحمد بن إسحاق الصاغاني1. كذلك كان أبو أيوب المديني في جملة من رأى حمادًا وروى عنه2.
ومن أصحاب حماد: سالم بن أبي السمحاء3، والشاعر عمار بن عمرو بن عبد الأكبر المعروف بذي كناز، وهو من الشعراء المجان المعاقرين للشراب المتهتكين القائلين للشعر الطريف المضحك المستخدمين لسخف فيه لأجل الإضحاك4، وابن عياش5، والحسين بن يحيى6، ومعاوية بن بكر الباهلي7.
ومن أشهر رواة الكوفة بعد حماد خالد بن كلثوم الكلبي، وله صنعة في الأشعار المدونة على القبائل8. وكان لغويًّا راوية لأشعار القبائل وأخبارها، عارفًا بالنساب والألقاب وأيام الناس. له كتاب "أشعار القبائل" يحتوي على عدة قبائل9.
وأما خلف الأحمر، الذي توفي بعد حماد، سنة "180هـ" على رواية، فذكر العلماء أنه "لم ير قط أعلم بالشعر والشعراء من خلف الأحمر. كان يعمل الشعر على ألسنة الفحول من القدماء فلا يتميز عن مقولهم، ثم تنسك فكان يختم القرآن كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا جزيلا على أن يتكلم في بيت من الشعر شكُّوا فيه فأبى"10. وقيل عنه "كان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم ...
__________
1 الأغاني "1/ 135".
2 الأغاني "3/ 266".
3 الأغاني "5/ 262".
4 الأغاني "7/ 56 وما بعدها".
5 الأغاني "7/ 67".
6 الأغاني "8/ 285".
7 الأغاني "11/ 7".
8 الرافعي "1/ 383".
9 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 352".
10 المستطرف "1/ 60"، "وكان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا، يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم"، الفهرست"80"، "أخبار خلف الأحمر"، إنباه الرواة "1/ 348 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 554"، المُزْهِر "2/ 403".(17/321)
وله من الكتب: كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"1. واسمه خلف بن حيان، وعرف بأبي محرز، وكان مولى لأبي موسى الأشعري، وقيل مولى بني أمية، وأصله من خراسان2. وقيل مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أعتقه وأعتق أبويه، وكانا فرغانيين3، وقد ذكر ابن قتيبة أن في شعر العلماء تكلف، وهو رديء الصنعة، ليس فيه شيء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الأصمعي، وشعر ابن المقفع، وشعر الخليل، خلا خلف الأحمر، فإنه كان أجودهم طبعًا وأكثرهم شعرًا4. وكان عالِمًا بالغريب والنحو والنسب والأخبار، شاعرًا كثير الشعر جيده، ولم يكن في نظرائه من أهل العلم أكثر شعرًا منه. وكان يقول الشعر وينحله المتقدمين، ويكثر قول الشعر في وصف الحيات، وأراجيزه في ذلك كثيرة5.
وقد ذكر عنه أنه كان يتلاعب بالشعر الجاهلي، فيزيد فيه وينقص. يروى أنه زاد البيت الأول والثالث من قصيدة زهير بن أبي سلمى "رقم4" في الديوان6. ونسب بعضهم إليه صنع المرثية التي رثى تأبَّطَ شَرًّا بها أقاربه7. وقد نسب بعض العلماء إليه صنع لأمية الشَّنْفَرى8، والمشهورة بلامية العرب التي أولها:
أقيموا بني أمي صدور مطيِّكم ... فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ
وروي عن الأصمعي قوله: سمعت خلفًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها:
خيلٌ صيامٌ وخيل غير صائمة ... تحت العجاج، وأخرى تعلك اللجما9
__________
1 الفِهْرِسْتُ "80"، المعارف "544"، تهذيب اللغة، للأزهري"40 وما بعدها"، "طبقات، لابن سلام "6".
2 الفِهْرِسْتُ "80".
3 المعارف "544"، المُزْهِر "2/ 403"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673".
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 16".
5 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673 وما بعدها"، ياقوت، إرشاد "11/ 66"، نزهة الألباء "37"، الآمالي، للقالي "1/ 154"، الزبيدي، طبقات "113".
6 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 65".
7 المصدر نفسه "1/ 104"، "حاشية رقم1".
8 الأمالي، للقالي "1/ 157"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 106".
9 الرافعي "1/ 381".(17/322)
وله قصائد أخرى نص على بعضها العلماء وبينوا أنها مصنوعة، وقد وضع شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا1، وقال الجاحظ: إنه هو الذي أورد على الناس نسيب الأعراب، وهذا النسب من أرق الشعر قاطبة وما أحراه أن يكون مصنوعًا2. ولما توفي خلف رثاه أبو نُواس بشعر فيه:
أودى جميع العلم مذ أودى خلف ... من لا يعدّ العلم إلا ما عرف
قليذمٌ من العيالم الخسف ... كنا متى نشاء منه نغترف
رواية لا تجتنى من الصحف3. ...
وهو أحد رواة الغريب واللغة والشعر ونقاده والعلماء به وبقائليه وصناعته. وله صنعة فيه. وهو أحد الشعراء المحسنين، ليس في رواة الشعر أحد أشعر منه.
وكان يبلغ من حذقه واقتداره على الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء، حتى يشبه بذلك على جلّة الرواة، ولا يفرقون بينه وبين الشعر القديم، من ذلك قصيدته التي نحلها ابن أخت تأبَّط شرًّا، التي أولها:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطل4
جازت على جميع الرواة، فما فطن بها إلا بعد دهر طويل بقوله:
خبر ما نابنا مصمئل ... جلّ حتى دقَّ فيه الأجل
فقال بعضهم:
جل حتى دق فيه الأجل
من كلام المولدين. فحينئذٍ أقر بها خلف"5.
__________
1 المُزْهِر "2/ 403".
2 الرافعي "1/ 381 وما بعدها".
3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673"، الحيوان "3/ 154".
4 وتنسب أيضًا إلى تأبَّط شرًّا، ديوان الحماسة "2/ 312"، العقد الفريد "6/ 157"، الأغاني "6/ 87"، "إن بالشعب إلى جنب سلع"، الأمالي "1/ 156"، أمالي المرتضى "2/ 280"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 674".
5 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 348 وما بعدها".(17/323)
كان خلف الأحمر رأس البصرة في رواية الشعر وفي البصر به. كما كان حماد زعيم الكوفة في هذا العلم. وكان خلف نفسه ممن أخذ هذا العلم عن حماد، فهو من أحد تلامذته ورواته وسامعيه. وكان المقدم عند أهل البصرة، حتى كانا لا يصدرون الرأي في شعر دونه، ,إذا اختلف علماؤهم في شيء منه، عرضوا خلافهم عليه للبت فيه1. وروي أنه كان أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية، فسمع منه2.
وقيل عنه: إنه كان شاعرًا مجيدًا جيد الشعر كثيره، لم يكن في نظرائه أحد يقول مثله الشعر3. ووضع على شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا موضوعًا وعلى غيرهم، وأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة. وكان خلف أخذ النحو عن عيسى بن عمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو. "ولم ير أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه، وكان يضرب به المثل في علم الشعر، وكان يعمل على ألسنة الناس، فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه، ثم نسك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا عظيمًا خطيرًا على أن يتكلم في بيت شعر شكُّو فيه، فأبى ذلك. وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية، لأن كان قد أكثر الأخذ عنه. وبلغ مبلغ لم يقاربه حماد. فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم"4. وروي عن خلف قوله: "كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب، وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني، ويدخله في أشعارها، وكان فيه حمق"5.
ويصعب في الواقع تصديق هذه الرواية المنسوبة إلى خلف الأحمر، فلم يكن حماد بإجماع المنافسين له على شيء من الفضلة والحمق، حتى نصدق ما ورد في هذا الخبر الآحاد، الذي هو خبر من أخبار رواة البصرة، بل نرى من الأخبار
__________
1 الرافعي "1/ 381".
2 ابن الأنباري، نزهة "58 وما بعدها".
3 المعارف "544".
4 المُزْهِر "2/ 403".
5 الأغاني "6/ 92"، "9/ 124".(17/324)
الواردة عنهم العكس، نرى فيه الفطنة والخبث إلى آخر أيامه. ثم إنه كان أقدم وأشهر وأعرف وأحفظ من خلف الأحمر، وهو في معرفة الشعر وتمييزه أمرس من صاحبه خلف، فلا يعقل فوات ما نحله خلف القدماء على حماد. وقد كان الرواة أنفسهم يتعجبون من مقدرة حماد على التمييز بين الصحيح والفاسد من الشعر، وعلى إحاطته بأساليب الجاهليين في نظم القريض، وعلى إتقانه تلك الأساليب، حتى صار من الصعب على عشَّاق الشعر التمييز بين ما كان يصنعه حماد على ألسنة الشعراء الجاهليين وبين ما كان من نظمهم حقًّا. ولهذه الأسباب يصعب التصديق بهذا الخبر، ورأى أنه من وضع أهل البصرة، وضعوه على حماد، كرهًا له وللكوفيين. ورواته هم من البصريين.
وما خبر توبة خلف الأحمر، وخروجه إلى أهل الكوفة، ليعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، والتي أدخلها أهل الكوفة في دواوينهم، وأَبَو إصلاحها، أو حذفها، سوى قصة فيها الطعن والسخرية بعلم أهل الكوفة وبفهمهم للشعر، وفيه مدح وتفخيم لعلم خلف بالشعر، وإن كان لا يخلو من تجريح لخلف نفسه، وفيه مدح لعلم أهل البصرة ولصدقهم في رواية الشعر والأخبار. استهزاء إذن وتعريض بأهل الكوفة، ليس فوقه استهزاء، وضعه رجل فيه دعابة وتعصب وتحامل على الكوفيين.
وقد اختص خلف بالفروع التي اختص بها حماد بالكوفة، وبذلك جعل البصرة تنافس الكوفة فيها. اختص بالشعر القديم، وباللغة، وبشيء آخر مهم جدًّا هو وضع الشعر وحمله على ألسنة القدماء، فصار في هذا الباب بطل البصرة وممثلها، كما كان حماد بطل الكوفة وزعيم الوضَّاعين. وقد امتاز خلف على الأصمعي العالم البصري ومعاصره بقدرته على نظم الشعر، إذ كان هو نفسه شاعرًا متمكنًا في الشعر، متقنًا لفنونه، كان من حذقه واقتداره في الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء فلا يفرق بينه وبين القديم. أما الأصمعي، فلم يبلغ مبلغه فيه، وإن كان من علماء اللغة والأدب والنحو ومن حفظة الشعر ورواته.
وهناك روايات تنسب الصدق إلى خلف، ثم لا تكتفي بذلك حتى تجعله أعرف الناس وأعلمهم بالشعر. وروايات تذكر أنه كان أول من أحدث السماع بالبصرة، وأنه تعلم ذلك من حماد1.
__________
1 ياقوت، إرشاد "4/ 179".(17/325)
وكان الأصمعي، وهو من علماء البصرة، كما ذكرت، غير راضٍ عن خلف، إذ كان يغمز فيه، ويتهمه بالكذب. ويظهر أن ذلك بسبب المنافسة على الزعامة في العلم. روي عنه أنه قال في خلف: "رواة غير منقحين، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دواد الإيادي قالها خلف الأحمر. وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون، وبها يفتخرون"1. ويريد بهم أهل الكوفة، وذكر الأصمعي أيضًا أن خلفًا الأحمر "وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا، وعلى غيرهم، عبثًا بهم، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة"2.
وينسب إلى الأصمعي قوله أنه حضر مأدبة وأبو محرز خلف الأحمر، وابن مناذر معنا، فقال له ابن مناذر: يا أبا محرز أن يكن امرؤ القيس، والنابغة، وزهير ماتوا، فهذه أشعارهم مخلدة، فقس شعري إلى شعرهم. قال: فأخذ صفحة مملوءة مرقًا، فرمى به عليه فملأه، فقام ابن مناذر مغضبًا، وأظنه هجاه بعد ذلك"3. وهذه القصة -إن صحت- تشير إلى وجود غلظة في طبع خلف. وهناك أخبار أخرى تؤيد هذا الرأي4.
وقد أشار ابن النَّديم إلى كتاب لخلف الأحمر، وأسماه: "كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"5. وذكر ياقوت الحموي له كتابين: ديوان شعر حمله عنه أبو نواس، وكتاب "جبال العرب"6.
ومما يؤسف له حقًّا، هو أن حمادًا الراوية، أو غير حماد ممن رووا عنه، أو أخذوا عن غيره، لم يشيروا إلى الموارد التي أخذ حماد منها هذا الفيض من الشعر، كما أنهم لم يشيروا إلى الموارد التي استقى بقية رواة الشعر منها ما رووه
__________
1 الموشح "201 وما بعدها".
2 مراتب النحويين "75".
3 الموشح "296"، الأغاني "11/ 17"، ياقوت، إرشاد "4/ 179".
4 "حدثني عمر بن شبة، قال: أنشد أبو عبيدة خلفًا الأحمر شعرًا له، فقال له خلف: يا أبا عبيدة، أخبئ هذه كما تخبئ السنور خرءها، الموشح "366 وما بعدها".
5 الفِهْرِسْتُ "74".
6 ياقوت، إرشاد "4/ 179".(17/326)
من الشعر الجاهلي. ولو ذكروه لأفادونا ولا شك بذلك كثيرًا، إذ يكون في مقدورنا التوصل إلى معرفة الأشخاص الذين كان لهم فضل حمل هذه الثروة العظيمة من ذلك الشعر. ومما يؤسف له أيضًا هو أن معظم دواوين الشعراء الجاهليين لا يرتفع سندها إلى رواة يتقدم عهدهم على عهد حماد. ولو ارتفعت لاستفدنا منها بالطبع كثيرًا في معرفة أسماء رواة الشعر الجاهلي وحفاظه وجامعيه وكتبته قبل أيام حماد، ولعرفنا بذلك شيئًا عن الموارد التي أخذ منها هذا الراوية ذلك الكنز الثمين.
ولا بد من ذكر السكري في هذا المكان. وهو أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري اللغوي، المتوفى سنة "275هـ". فله مؤلفات عديدة عن الشعر، وشروح للدواوين. منها: شرح أشعار هذيل1، وديوان أبي كبير الهذلي بشرح السكري2، وكتاب أخبار اللصوص، جمع فيه أشعار اللصوص البدو المشهورين3، وأشعار اليهود4، وشرح ديوان زهير5، وديوان امرئ القيس، بروايته6، وشرح ديوان حسان، وقد نقل منه البغدادي7، وديوان الحطيئة، وهو روايته عن ابن حبيب8، وديوان أبي ذؤيب الهذلي9، وشرحه على ديوان عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات10، وديوان الأخطل، وهو روايته عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي11، وديوان الفرزدق12.
وقد أخذ السكري من الموارد التي ألفت قبله؛ كما أخذ من علماء المصرين: البصرة والكوفة، دون تعصب أو تحزب، وكان راوية البصريين13.
__________
1 خزانة "2/ 317".
2 بروكلمن "1/ 84".
3 بروكلمن "1/ 85".
4 بروكلمن "1/ 84".
5 بروكلمن "1/ 96".
6 بروكلمن "1/ 100".
7 خزانة "3/ 333"، "4/ 44".
8 بروكلمن "1/ 168".
9 بروكلمن "1/ 169".
10 بروكلمن "1/ 193".
11 بروكلمن "1/ 208".
12 بروكلمن "1/ 213".
13 نزهة الألباء "144 وما بعدها".(17/327)
الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين
مدخل
...
الفَصْلُ الرَّابعُ والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: تَنقيحُ الشِّعْرِ والدَّواوينُ
والذي يطالع كتب الأدب والأخبار، ويقرأ ما ورد فيها عن الشعراء الجاهليين، يخرج منها بانطباع خلاصته أن أكثر شعراء الجاهلية، لم يكونوا يهذبون شعرهم، ولم يكونوا يثقِّفونه، ولم يكونوا يُجْرون عليه تحويرًا أو تغييرًا أو تعديلا، بعد إنشادهم له، وأن أغلبهم كان يقول شعره ارتجالا من غير تحضير سابق ولا تهيئة، فهو من عفو الخاطر. جرت على ذلك سُنّة الشعراء في الجاهلية، فكان شاعرهم يرتجل شعره حسب الظروف والمناسبات.
وتصدق دعوى أهل الأخبار هذه في شعر المناسبات وفي المفاجآت، أي في الحالات التي لا يكون الشاعر فيها على علم مسبق بأنه سيقول فيها شيئًا من الشعر فتضطره المناسبة إلى قول شيء منه، أما في الحالات الأخرى، فإن دعواهم هذه لا يمكن قبولها، بسبب أننا نجدهم يذكرون أن الشاعر كان يهيِّئ شعره قبل إلقائه، وأنه كان إذا نظم يحفظه رواته، أو يدونه على صحيفة، وقد ينقح فيه ويجوِّد، وأن من الشعراء من كان يحرص على ألا يذيع شعره إلا بعد أمد، وإلا بعد أن يعرضه على خاصته ليروا رأيهم فيه، فيغير فيه ويبدل، فإذا سمع آراءهم وملاحظاتهم ووجدها وجيهة، أخذ بها، وصقل شعره بموجبها، وعندئذٍ يذيعه ويعطيه راويته لينشره بين الناس.
جاء في "طبقات الشعراء" أن الرسول سأل عبد الله بن رواحة: "كيف تقول الشعر إذا قلت؟ " فأجابه: "أنظر في ذلك ثم أقول". فأمره أن(17/328)
يقول شعرًا تقتضيه الساعة، وأخذ ينظر إليه: فانبعث عبد الله يقول شعرًا، ثم قال: "ولم أكن أعددت شيئا"1 وجاء في كتاب "الشعر والشعراء" عن الحارث بن حِلِّزة، وهو القائل:
آذنتنا ببينها أسماءُ ... ربَّ ثاوٍ يمل منه الثواء
وقال إنه ارتجلها بين يدي عمرو بن هند ارتجالا" ثم قال: "قال الأصمعي: قد أقوى الحارث بن حِلِّزة في قصيدته التي ارتجلها، قال:
فملكنا بذلك الناس إذ ما ... ملك المنذر بن ماء السماء
قال أبو محمد: ولن يضر ذلك في هذه القصيدة، لأنه ارتجلها فكانت كالخطبة"2. فاعتذر عن الإقواء بالارتجال، ومعنى هذا أنه لو كان قد هيأها وأعدها من قبل، كما هي العادة لما وقع في الإقواء.
وفي جواب عبد الله بن رواحة "لم أكن أعددت شيئًا"، وفي اعتذار المعتذر عن إقواء الحارث بن حِلِّزة، دلالة بيِّنة على أن الشعراء كانوا يهيئون شعرهم وينقحونه قبل إنشاده، وأنهم كانوا لا يقولون شيئًا منه إلى بعد أن يكون قد اختمر في رءوسهم ورضوا عنه، حتى يكون سديدًا، اللهم إلا في المناسبات وفي الظروف الحرجة التي تهز الشاعر فتحمله على نظم الشعر.
وورد أن الحارث بن حِلِّزة اليشكري، قال لقومه، "وهو رئيس بكر بن وائل: إني قد قلت قصيدة، فمن قام بها ظفر بحجته وفلج على خصمه، فقروَّاها ناسًا منهم، فلما قاموا بين يديه لم يرضهم، فحين علم أنه لا يقوم بها أحد مقامه، قال لهم: والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء إذا انصرفت عنه، وكان لبرص كان به، غير أني لا أرى أحدًا يقوم بها مقامي، وأنا محتمل ذلك لكم"3، مما يدل على أنه كان قد أعدّها ونظمها بعد تروٍّ ودراسة، ثم ألقاها على الملك، مع أننا
__________
1 طبقات "55"، شرح شواهد، للسيوطي "1/ 293"، العمدة "1/ 210".
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 127 وما بعدها"، العمدة "1/ 190".
3 الخزانة "1/ 519".(17/329)
نرى الكتب، تذكر أنه ارتجلها ارتجالا، بمعنى أنها كانت من وحي الموقف والساعة، ولم تكن مهيأة من قبل. لأن الارتجال في الكلام، التكلم عن غير تدبر ولا تهيئة سابقة، وقيل من غير رويَّة ولا فكر1. ويظهر أنهم قصدوا بالارتجال إلقاء الكلام من غير نظر إلى صحيفة، وذلك أوقع في النفس عندهم من الإلقاء عن شيء مكتوب، على الرغم من كون صاحبه قد أعده من قبل وقد حفظه، كما يفعل شعراء هذا اليوم من إنشادهم شعرهم المنظوم سابقًا من غير نظر في صحيفة، ليظهر الشاعر وكأنه يرتجله ارتجالا.
ولا يعقل أن يكون الشعر كله من نتاج المصادفة والمفاجأة، وأنه كان يحفظ على نحو ما قيل وأنشد، فلم يجر عليه قلم، ولم ينله تهذيب ولا تشذيب، ولا سيما بالنسبة للقصائد. فقد كان الشاعر ينظم شعره مقدمًا في الغالب، ثم ينشده رواته وجماعته، لئلا ينساه، ثم يرى رأيهم فيه، وقد يزيد هو عليه شيئًا، وقد ينقص منه شيئًا، ومن هنا نجد رواية أكثر القصائد لا تثبت على ترتيب واحد، وليست لها وحدة مستقلة ولا ترتيب متكامل، إلا في أحوال نادرة، ومن ثم اختلفت الرواية عن الشاعر، فقد يكون أحد الرواة، قد افترق عن الشاعر وابتعد عنه وهو يحفظ شعره على نحو ما سمعه منه، على حين يكون الشاعر قد أضاف على شعره شيئًا جديدًا، حفظه عنه غيره من الرواة، فتسبب ذلك في ظهور الاختلاف في القصيدة الواحدة، وتكون الرواية القديمة أقصر من الرواية الحديثة في العادة، لعدم دخول الزيادة التي ترد متأخرة بالطبع على الشعر2. روي عن ابن مقبل قوله: "إني لأرسل البيوت عوجًا، فتأتي الرواة بها قد أقامتها"3. فللرواة إن صح هذا الخير، يد في إصلاح الشعر، وفي تغييره، وفي إقامة ما قد يكون فيه من اعوجاج.
ولا بد للشاعر من إعداد الشعر"القصيد" وتهيئته والنظر فيه قبل إنشاده، كما في شعر المدح والهجاء، لما يجب أن يتفنن فيه الشاعر، وهو على علم أن من سيقصده لمدحه، قد قصده غيره للغاية نفسها، وقد يصادف إنشاده لشعره
__________
1 تاجُ العَروسِِ "7/ 337"، "رجل".
2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 61".
3 مجالس ثعلب "481".(17/330)
-وهو ما يقع في الغالب- بحضور عدد آخر من الشعراء المحترفين للشعر: المتفننين فيه، فإذا هو لم يهيِّئ شعره من قبل ولم يعرضه على أحد ولم يتفنن فيه، ويأتي فيه بغرائب الفنون، ضاع شعره بين بقية الأشعار. فهو مضطر إذن على إعداد شعره إعدادًا حسنًا قبل إنشاده أمام الممدوح، وحكّه وتشذيبه لينال المكانة المرجوة بين بقية الشعر.
ونجد في شعر ينسب إلى امرئ القيس، يذكر فيه أن المعاني كانت تنثال عليه، فكان يعمل رأيه فيها، فيؤخر ويقدم، ويتخير ما يستجاد من غرر الأبيات:
أذود القوافي عني ذيادًا ... ذياد غلام جريء جرادا
فلما كثرن وعنينني ... تخيرت منهن ستًّا جيادا
فأعزل مرجانها جانبًا ... وآخذ من درها المستجادة1.
وقد نسب بعض الرواة هذه الأبيات إلى غيره.
ولا بد في شعر الهجاء من إعداد، ولا سيما في شعر الهجاء الذي يعد للرد على شاعر هجاء، أو على شعر هجاء سابق، إذ يجب في هذه الحالة إعداده بعناية لتحطيم الهاجي وإسقاطه وإخماله، ويستدعي ذلك عمل الروية فيه والتأمل طويلا، وإنشاد الشعر مرارًا وتَكْرارًا على الرواة والعارفين بالشعر لأخذ رأيهم فيه. وقد يزيدون عليه وقد ينقصون منه، فإذا رضي الشاعر عنه، وقنع به، أنشده أمام الناس، وقد يكون في المواسم ليسير بين القبائل، وقد يرسل مكتوبًا إلى من يهمهم الأمر ليصل إليهم ذلك الهجاء. وقد يكون الشاعر تميم بن مقبل تميم بن أُبيّ بن مقبل، قد عنى هذا المعنى في البيت المنسوب قوله إليه:
بني عامر، ما تأمرون بشاعر ... تخير بابات الكتاب هجائيا2
وبابات الكتاب، سطوره وهو بيت لا يخلو من غموض، حتى إن علماء
__________
1 ديوان امرئ القيس "63".
2 ديوان "ص410"، "الدكتور عزة حسن"، "تخير آيات"، العمدة "2/ 167"، الحيوان "7/ 112".(17/331)
اللغة اختلفوا في تفسيره، اختلافًا كبيرًا، وقد يفهم منه أن الشاعر كان قد تخير هجاءه ودونه في وجوه الكتاب، أي أن الهجاء كان مدونًا بسطور ومكتوبًا، وقد يكون قد أنذر به وتوعد، بأن من سيهجوهم إذا لم يكفوا عن سفههم، فإنه سيدوِّن هجاءه ويثبته في سطور وينشره بين الناس، فهو ينذرهم به ويتوعدهم وقد أدخله صاحب "العمدة" في "باب الوعيد والإنذار"، وقال: "كان العقلاء من الشعراء وذوي الحزم يتوعدون بالهجاء، ويحذورن من سوء الأحدوثة، ولا يمضون القول إلا لضرورة لا يحسن السكوت معها"1. وقد اتخذ "كولدتزيهر" هذا البيت دليلا على وجود التدوين في شعر الهجاء عن العرب، كما اتخذ من شعر ليلى الأخيلية:
أتاني من الأنباء أن عشيرة ... بشوران يزجون المطي المذللا
يروح ويغدو وفدهم بصحيفة ... ليستجلدوا لي، ساء ذلك معملا2.
دليلا آخرعلى تدوين الهجاء.
وتنقيحُ الشعر تهذيبُه. وأنقح شعره إذا حككه، أي أزال عيوبه. ولهذا قيل: خير الشعر الحولي المنقح3. فكان الشاعر إذا نظم شعرًا أجال بصره به، ليرى ما فيه من نشاز وعيوب، فيحك منه ما يحتاج إلى حك، ويجيل بصره به إلى أن يعجبه ويرضيه، فيقوله للناس. وقد ينقحه بعد إلقائه، إذ قد يسمع نقدًا يراه من شاعر أو من العارفين بالشعر، صائبًا، فينقح الموضع المنتقد. وقد ينتبه الشاعر وهو يقرأ شعره على الملأ، إلى أفكار لم تكن تخطر على باله ساعة نظم شعره، فينظمها ويضيفها إلى ما نظمه.
وكان من الشعراء من يكتب ويقرأ ويدون شعره. ومن هؤلاء عدي بن زيد العبادي، الذي كان يتولى مكاتبة العرب عند كسرى، والذي كان قد حذق الكتابة بالعربية والفارسية4. وهو من شعراء الحيرة، والشاعر
__________
1 العمدة "2/ 167".
2 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "98".
3 تاجُ العَروسِِ "2/ 242"، "نقح"، "7/ 122"، "حك".
4 الأغاني "2/ 101 وما بعدها".(17/332)
سويد بن صامت الأوسي، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك الأنصاري، وهم من شعراء يثرب1، ولهذا فلا يستبعد وقوع التدوين والتنقيح من هؤلاء الشعراء ومن أمثالهم الذي كانوا يقرءون ويكتبون، يكتبون شعرهم، ثم يجيلون النظر فيه، فيغيرون منه ما شاءوا ويبدلون ما لا يعجبهم منه حتى يستوي، فيذاع.
ولو ذهبنا هذا المذهب وقلنا بصحة المذكور في هذه الروايات، حق علينا أن نقول إن الشعراء الجاهليين إن لم يكن أكثرهم فبعضهم على الأقل كانوا ينقحون شعرهم ويعدلون فيه ويجبرونه، حتى يستقيم في نظرهم ويستوي. فإذا رضوا عنه، أذاعوه عندئذ، وأنشدوه حين تدعو الداعية إلى الإنشاد. وقد يطول هذا التنقيح، وقد ينقص. قد يقع في أيام، وقد يقع في شهر أو شهور أو حول أو أكثر. ومثل هذا التنقيح والتحكيك، يستدعي وجود تدوين في الغالب، بأن يدون الشاعر أو راويته الشعر، ثم يجري التنقيح على المكتوب.
ذكر ابن قتيبة، أن من الشعراء المتكلف والمطبوع. "فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهير والحطيئة. وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين. وكان الْحُطيئة يقول: "خير الشعر الحولي المنقح المحكك"، وكان زهير يسمى كبر قصائده: "الحوليات"2.
وقد أشار بعض الشعراء إلى تنقيحه شعره وإلى تهذيبه له، وتحكيكه فيه. منهم الشاعر المخضرم سويد بن كراع من "عطل"3، وكان شاعرًا محكمًا4. فقال في أبيات يذكر تنقيحه شعره:
أبيت بأبواب القوافي كأنما ... أصادي بها سربًا من الوحش نزعا
أكالثها حتى أعرس بعدما ... يكون سحيرًا أو بعيد فأهجعا
__________
1 ابن سعد، الطبقات "3/ 2 ص79"، المحبر "271 وما بعدها"، الأغاني "3/ 25".
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 22 وما بعدها"، "الثقافة"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 13، 204"، "لجنة"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 204"، "هارون".
3 الأغاني "11/ 121"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 530"، "الثقافة".
4 الإصابة "2/ 117"، "رقم3722".(17/333)
إذا خفت أن تروى علي رددتها ... وراء التراقي خشية أن تطلعا
وجشّمني خوف ابن عفان ردها ... فثقِّفها حولا جريدًا ومربعا
وقد كان في نفسي عليها زيادة ... فلم أرَ إلا أن أطيع وأسمعا1
وكان هجا قومه، فاستعدوا عليه عثمان، فأوعده، وأخذ عليه ألا يعود2. فأخذ يهذب شعره ويثقفه خشية الوقوع فيما لا يحمد عليه.
وذكر ابن قتيبة أن "المتكلف من الشعر وإن كان جيدًا محكمًا، فليس به خفاء على ذوي العلم، لتبينهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذف ما بالمعاني حاجة إليه، وزيادة ما بالمعاني غنى عنه"3.
وقال: "والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة، وإذا لم يتلعثم ولم يتزحر"4.
والتكلف في نظم الشعر شيء ممجوج ما في ذلك شك، لما فيه من تصنع وتنطُّع، وخروج على عفو الخاطر، وعلى الطبع. أما تهذيب الشعر مراجعته وتشذيبه، والتأني فيه، والنظر فيه، لتعبيده وتشذيبه، حتى يكون عذبا نقيا، نابعًا عن شاعرية وسليقة، خاليًا من الشطحات والنزوات، يعجب السامع، فأمر آخر، على ألا يتجاوز الحد، بحيث يخضع الشعور لاستبداد الصنعة، فهو عندئذ معيب. وقد رأى الأصمعي، وهو من نقدة الشعر وعلمائه، في تثقيف الشعر وحكه وتشذيبه عبودية للشعر، انتقد زهيرًا والحطيئة عليها، فقال: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما، عبيد الشعر. وكذلك كل من جود في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة. وكان يقال: لولا أن الشعر قد كان استعبدهم واستخرج مجهودهم، حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة،
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 23"، "الثقافة".
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 530"، "الثقافة".
3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 32"، "الثقافة".
4 المصدر نفسه "1/ 34".(17/334)
ومن يلتمس قهرهم الكلام، واغتصاب الألفاظ، لذهبوا مذهب المطبوعين، الذين تأتيهم المعاني سهوًا ورهوًا، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالا، وإنما الشعر المحمود كشعر النابغة الجعدي؛ ولذلك قالوا في شعره: مطرف بآلاف، وخمار بواف. وقد كان يخالف في ذلك جميع الرواة والشعراء"1. وقد فسر ابن قتيبة الجملة الأخيرة المتعلقة بالنابغة الجعدي، بقوله: "وكان العلماء يقولون في شعره خمار بواف، ومطرف بآلاف. يريدون أن في شعره تفاوتًا، فبعضه حد مبرز، وبعضه رديء ساقط"2.
وجاء في "العمدة" لابن رشيق: "وكان الأصمعي يقول: زهير والنابغة من عبيد الشعر، يريد أنهما يتكلفان إصلاحه، ويشغلان به حواسهما وخواطرهما"3، فوضع النابغة في موضع الْحُطيئة المذكور في "البيان والتبيين" وفي الموارد الأخرى.
قال السيوطي: قال الجاحظ في البيان: كان الشاعر من العرب يمكث في القصيدة الحول، ويسمون تلك القصائد الحوليات والمنقحات والمحكمات، يصير قائلها فحلا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا"4. فالقصيدة الحولية المنقحة المحكمة، هي القصيدة التي يتأنى بها صاحبها، فيهذب فيها ويشذب، حتى يحكمها، لتصير متماسكة بينه متينة، ومن هنا قال الحطئية: خير الشعر الحولي المنقح"، أو "خير الشعر الحولي المحكك"5. وكانوا يسمون تلك القصائد أيضًا المقلدات6؛ والحوليات، والمنقحات، والمحكمات، وقد أوجز السيوطي كلام الجاحظ، الذي أدرك ما كان يفعله الشاعر بشعره من تغيير وتبديل ومن تنقيح وتجويد، حتى يرضى عنه. فقال أكثر مما نقله السيوطي عنه، قال إن من الشعراء "من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتًا وزمنًا طويلا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله ويقلب فيها رأيه، إتهامًا لعقلة، وتتبعًا على
__________
1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 13"، "لجنة"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 22 وما بعدها"، "بيروت دار الثقافة"، "1/ 81 وما بعدها".
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 210".
3 العمدة "1/ 133".
4 شرح شواهد "1/ 26"، باختلاف اللفظ، البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 13".
5 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 204"، "2/ 13".
6 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 26"، "2/ 9"، "لجنة".(17/335)
نفسه، فيجعل عقله زمانًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره"1. يفعلون ذلك ليخرج شعرهم بليغًا بينًا، خالصًا نقيًّا، حتى ينالوا منه ما يريدون من التأثير في السامع، ومن استهواء الناس إليهم "وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات الأمور ميَّثوا الكلام في صدورهم وقيدوه على أنفسهم، فإذا قومه الثقاف وأُدخل الكير وقام على الخلاص أبرزوه محكمًا منقحًا ومصفًّى من الأدناس مهذبًا"2، وقال: "وكانوا يسمون تللك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا"3.
والحوليات، هي القصائد التي يحول عليها الحول. والمقلدات، البواقي من الشعر على الدهر وقلائده4. والمنقحات، القصائد المنقحة المهذبة المحككة. يقال: خير الشعر الحولي المنقح، وأنقح شعره إذا حككه، وأحسن النظر فيه، وأصلحه وأزال عيوبه5. وقد كان الشاعر يجيل النظر في شعره، ويفكر فيه ويصلح منه، قبل أن يعرضه على الناس، حتى لا يعاب عليه، فيغض من قدره، وتهبط منزلته بين الناس، وتطمع فيه الشعراء. فهؤلاء الشعراء، هم أصحاب فن، لا يهمهم الإخراج الكثير، بل الشعر المحكك المنسق المنقح، ولذلك يمكثون أمدًا يعيدون النظر فيه حتى يعجبهم نظمه، فيذيعونه عندئذ بين الناس.
وقد عرف طفيل الغَنَوِيّ في الجاهلية بالمحبر، وذهب علماء الشعر إلى أنه إنما عرف بذلك لحسن شعره6، وكان مثل زهير والنابغة "في التنقيح وفي التثقيف والتحكيك"7. وقد عرف ربيعة بن سفيان الشاعر الفارس بالمحبر؛ "لتحبيره شعره وتزيينه كأنه حبر"8. والحطيئة، والنَّمر بن ثعلب من هذه الطبقة التي تأنقت في شعرها وثقفته9. وقد عرف النمر بن تولب بالكيس
__________
1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 9".
2 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 14"، "2/ 9"، "هارون".
3 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 14".
4 تاجُ العَروسِِ "2/ 475"، "قلد".
5 تاجُ العَروسِِ "2/ 242"، "نقح".
6 العمدة "1/ 133"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "3/ 364".
7 العمدة "1/ 133"، تاجُ العَروسِِ "3/ 119"، "حبر".
8 تاجُ العَروسِِ "3/ 119"، "حبر".
9 العمدة "1/ 133".(17/336)
لحسن شعره1. وورد في رواية أخرى أنه إنما قيل له المحبر لقوله:
سماوته أمال برد محبر ... وسائره من أتحمي معصب2
وكان طفيل بن عوف بن كعب "طفيل بن كعب الغنوي"، أحد نعَّات الخيل من الجاهليين، فعرف بطفيل الخيل لكثرة وصفه إياها، قيل إنه كان من أوصف الناس للخيل3، وقد أخذ عنه بعض الشعراء، مثل النابغة وزهير. وقيل إنه كان ثالث الشعراء الوصافين للخيل4. وقد نشر "كرنكو" ديواني طفيل والطِّرِمَّاح مع ترجمتهما إلى الإنكليزية، وذلك ضمن سلسلة منشورات "جب"5.
ذكر أن أبا بكر قال يومًا للأنصار: زادكم الله عنّا يا معشر الأنصار خيرًا، فما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغَنَوِيّ:
جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أمّنا ... تلاقي الذي منا لَملّت
وروي أن معاوية قال: دعوا لي طفيلا وسائر الشعراء لكم، وأن عبد الملك بن مروان، قال: من أراد أن يتعلم ركوب الخيل فليرو شعر طفيل.
ومن جيد الشعر المنسوب له، قوله:
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 227"، العمدة "1/ 133".
2 الخزانة "3/ 643".
3 "طفيل بن عوف بن خلف بن ضبيس بن مالك بن سعد بن عوف بن كعب بن جلان بن غنى بن أعصر"، الخزانة "3/ 643"، الأغاني "16/ 85 وما بعدها"، "ساسي"، الشعر والشعراء، لابن قتيبة "275"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 362"، ديوان طفيل والطرماح، "كرنكو"، "لندن 1927"، بروكلمن تأريخ الأدب العربي "1/ 120"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 364 وما بعدها"، "الثقافة"، السمط "210"، المؤتلف "147".
4 بروكلمن "1/ 119".
5 The Poems of T.B. 'A. al-Gh. And at-Tirimmah, ed and transl. by F. Krenkow, London, 1927 E. J. W. Gibb Mem. XXV.(17/337)
إني، وإن قلّ مالي لا يفارقني ... مثل النعامة في أوصالها طول
أو قارح في الغرابيات ذو نسب ... وفي الجراء مسح الشد إجفيل
إن النساء كأشجار نبتن معا ... منها المرار، وبعض النبت مأكولا
إن النساء متى ينهينَ عن خلقٍ ... فإنه واجبٌ لا بد مفعول
لا ينصرفن لرشدٍ إن دعين له ... وهن بعد ملائيم مخاذيل1
ومن شعره:
وللخيل أيامٌ فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيامها الخير تعقب
وقد شرح ديوانه يعقوب بن السِّكِّيت، وقد رجع إليه البغدادي2.
وقد قسم ابن رشيق الشعر إلى مطبوع ومصنوع. والمطبوع هو الأصل الذي وضع أولا، وعليه المدار. والمصنوع وإن وقع عليه هذا الاسم، فليس متكلفًا تكلف أشعار المولدين، لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تمثل، لكن بطباع القوم عفوًا فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف يصنع القصيدة، ثم يكرر نظره فيها خوفًا من التعقب، بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة، وربما رصد أوقات نشاطه فتباطأ عمله لذلك، والعرب لا ينظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظة، أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه، وإتقان بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي، وتلاحم الكلم بعضه ببعض حتى عدّوا من فضل صنعة الحطيئة حسن نسقه الكلام بعضه على بعض"3.
ولم يعب علماء الشعر الشعر المنمق المحكك، إذا لم تؤثر فيه الكلفة، ولم يظهر عليه التعمل، ولم يخرج عن حدود الطبع. ومن هنا قال بعض الحذاق بالكلام:
"قل من الشعر ما يخدمك، ولا تقل منه ما تخدمه. وهذا هو معنى قول
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 364 وما بعدها".
2 الخزانة "3/ 642".
3 العمدة "1/ 129"، "باب في المطبوع والمصنوع".(17/338)
الأصمعي"1، وهو أيضًا معنى ابن رشيق وغيره من علماء الشعر، الذين يريدون شعرًا طبيعًا صدر من القلب وعن عفو الخاطر، لا تعمل فيه ولا تزويق يخرجه من الطبع إلى الصنعة، فيكون ثقيل الظل لا تستسيغه الطباع.
ويرى "بروكلمن" أن "القصائد الطوال كالمعلقات، لم يتم نظمها دفعة واحدة. ومهما كانت القافية كثيرًا ما تهدي الشاعر في نظم شعره، فإنه يجدر بنا أن نتصور نشأة القصيدة في الزمن القديم على غرار ما وصفه "موزل" عند شعراء البادية المحدثين. وعلى ذلك فلا يستبعد بحال من الأحوال أن تكون القصيدة من نتاج حول كامل. ومن هنا وجدنا رواية أكثر القصائد لا تثبت على ترتيب واحد. فقد ينشد الشاعر شعرًا لرواته وأحبائه أول الأمر لئلا ينساه، ثم يزيد عليه، لا سيما إذا ذكَّره أحباؤه بشيء غفل عنه، وربما بدل بعض أبياته بعد ذلك بأخرى لم يسمعها ذووه الأولون، فتختلف الرواية عن الشاعر. ولا يأبى الشاعر نفسه أن يعترف بأن كل ذلك من بنات أفكاره. وقد يكون ذلك أيضًا هو السبب في أن كثيرًا من الشعر القديم لم تبق منه إلا قطع متفرقة"2.
ولا يختلف الشاعر الجاهلي عن الشاعر الإسلامي في نظري في تهذيب شعره وتنقيحه. فقد كان الفرزدق الشاعر المشهور الذي حفظ وروى شعر عدد كبير من الشعراء المتقدمين رواة، كانوا يعدلون ما انحرف من شعره، ويهذبون ما يحتاج منه إلى تهذيب، وكانوا يروونه. وكان لجرير الشاعر الآخر، وهو خصم الفرزدق ومنافسه في قول الشعر، رواته ومعدلو شعره كانون يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السِّناد3. وإذا كان هذا شأن شعراء أيام الأمويين الذين ورثوا تقاليد الشعراء المخضرمين والجاهليين، وساروا على هديهم في الشعر، لا نستبعد إذن لجوء الشاعر الجاهلي ورواته إلى التحكيك والتعديل وإجراء التهذيب على شعره، لغفلة قد تكون وقعت له، وقد فاتت عليه، أو لمعنى فات عليه، أدركه رواته عند إنشاده له، أو غمز به خصومه فاضطر إلى إجراء تنقيح عليه لإخراجه بالشكل الذي رآه يصلح فيه.
__________
1 العمدة "1/ 133 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 61".
3 الأغاني "4/ 256 وما بعدها"، "دار الكتب".(17/339)
وقد حكك ونقح علماء الشعر ورواته، ما سمعوه وأخذوه من شعر، لأنهم وجدوا أنه في حاجة إلى تحكيك، أو أنهم رأوا أن فيه خللا، وأن عليهم واجب إصلاحه وتقويمه. أجروا مثل هذا التنقيح حتى في شعر الشعراء الإسلاميين، روي عن الأصمعي قوله: "قرأت على خلف شعر جرير، فلما بلغت قوله:
فيا لك يومًا خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصي عاذله
فقال: ويله! وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ قلت له: هكذا قرأته على أبي عمرو. فقال لي: صدقت وكذا قاله جرير، وكان قليل التنقيح، مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع. فقلت: فكيف كان يجب أن يقول؟ قال: الأجود له لو قال: فيا لك يومًا خيره دون شرِّه.
فاروه هكذا فقد كانت الرواة قديمًا تصلح من أشعار القدماء، فقلت: لا أرويه بعد هذا إلا هكذا"1.
وقد اضطر علماء الشعر إلى تنقيح ألفاظ في الشعر بسبب تصحيف أو تحريف وقع عليها بفعل النساخ، ومثل هذا التنقيح مستساغ الطبع، بل واجب لأنه فيه أعادة الشعر إلى الصواب، على أن ينص على الأصل الذي كان مكتوبًا به، والتصحيح الذي أدخل عليه، وعلى السبب الذي حمل العالم على إجرائه عليه.
__________
1 ديوان جرير "480"، المرزباني، الموشح "125"، بروكلمن "1/ 65".(17/340)
دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:
ودواوين الشعراء الجاهليين، الموجودة عندنا هي كلها وبغير استثناء من جمع علماء الشعر الإسلاميين. فلا يوجد من بينها ديوان واحد ذكر أنه كان من جمع أهل الجاهلية. وقد شرع بصنع هذه الدواوين في العصر الأموي. وبلغت العناية بها ذروتها في القرن الثالث للهجرة. وقد أبدى علماء العراق من موالي وعرب تفوقًا كبيرًا على غيرهم من علماء الأمصار الإسلامية في هذا الباب.
وقد نسب إلى ابن عباس قوله: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله،(17/340)
فاطلبوه في الشعر فإنه ديوان العرب"1. إذا صح أن هذا الكلام الذي رواه عكرمة عن عبد الله بن عباس هو من كلامه نكون قد حصلنا لأول مرة على لفظة "الديوان"، بالمعنى المفهوم من اللفظة في عرف علماء الشعر والناس. وذكر أن لفظة الديوان قد وردت في حديث: "لا يجمعهم ديوان حافظ"2. وإذ صح هذا الحديث وثبت، يكون ورود اللفظة فيه قبل ورودها في كلام ابن عباس، ومعنى هذا أنها كانت معروفة عند أهل الجاهلية، غير أن ورودها في هذا الحديث لا يعني ديوان شعر، وإنما الجمع والإحصاء، وبمعنى كتاب وسجل تدون فيه الأشياء.
وروي أيضًا أن الخليفة عمر سأل الصحابة عن هذه الآية: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3، فخاضوا في معناها، فخرج رجل ممن كان حاضرًا فلقي أعرابيًّا، فقال التخوف: التنقص، وكان ذلك الأعرابي من هذيل، فقال له: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:
تخوف الرحل منها تامكًا قردًا ... كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم4.
ويقال لمجموع الشعر المدون في دفتر أو كتاب "ديوان الشعر". فيقال "ديوان الشاعر" و"دواوين الشعراء"، و"ديوان فلان"، و"ديوان طيء"، و"ديوان الأنصار"، و"ديوان الشعراء الجاهليين"، إلى غير
__________
1 "وأخرج أبو بكر الأنباري في كتاب الوقف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب، المُزْهِر "2/ 302"، "2/ 470"، الأخبار الطوال "332"، "إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرا"، العمدة "1/ 30"، تاجُ العَروسِِ "9/ 204"، "دون".
3 [النحل الآية: 46] .
4 تفسير الطبري "14/ 77"، تفسير النيسابوري، "14/ 70 وما بعدها"، وورد فيه أن اسم الشاعر: زهير.(17/341)
ذلك. ويقصدون بذلك مجموعة أشعار جمعت في مجموع. وذكر بعض علماء اللغة أن الديوانَ الدفتر، ثم قيل لكل كتاب، وقد يخص بشعر شاعر معين مجازًا حتى جاء حقيقة فيه. فمعانيه خمسة: الكتبة ومحلهم والدفتر وكل كتاب ومجموع الشعر". والديوان في الأصل الكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية. وأول من وضعه عمر، ويرى علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن كسرى كان قد رتب الدواوين لكتّابه ولمعاملاتهم، فلما جاء الإسلام، وظهرت الحاجة إلى تنظيم العمل. أمر الخليفة عمر باتخاذ الدواوين1.
وإذا حملنا قول أهل الأخبار أنه قد كان عند النعمان بن المنذر "ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته"2، وقولهم إن النعمان ملك العرب كان قد أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج، وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار3، على محمل الأخبار التي ظهرت في أيام الأمويين، التي صنعها وروَّجها بين الرواة حماد الرَّاوية وأضرابه فإننا نثبت بذلك وجود الدواوين بالمعنى المفهوم من الديوان في أيام حماد، وقبل أيامه. ولدينا أخبار أخرى تفيد أن الدواوين قد عرفت قبل أيام حماد.
ويظهر من قول ابن سلام: "وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون. وقال ابن عوف عن ابن سيرين، قال: قال عمر بن الخطّاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب ... "4 أن الدواوين لم تكن موجودة، وأن الشعر لم يكن مكتوبًا في صدر الإسلام، ولهذا ضاع أكثر الشعر الجاهلي بسبب انهماك حفَّاظه في الحروب
__________
1 تاجُ العَروسِِ "9/ 204"، "دون "، غرائب اللغة "229".
2 طبقات الشعراء "10"، المُزْهِر "2/ 474".
3 الخصائص "1/ 393"، تاجُ العَروسِِ "2/ 70"، "طنج"، اللسان "3/ 142". "طنج".
4 ابن سلام، طبقات "10".(17/342)
وهلاك بعضهم فيها، ومنها حروب الردة، التي هلك فيها جمع من حفاظ الشعر من مسلمين ومن مشركين.
ويظهر مثل ذلك من رواية يرجع سندها إلى ابن سلام تذكر أنه "كان الرجلان من بني مروان يختلفان في الشعر فيرسلان راكبًا فينخ ببابه يعني قتادة بن دعامة، فيسأله عنه ثم يشخص"1، ويظهر من هذه الرواية إن صحت أن قتادة، كان من الحافظين للشعر، وقد عرف بأنه كان صاحب علم بأيام العرب وأنسابها وأحاديثها2، وله أخبار في تفسير القرآن3، ونعت بأنه كان من الحفاظ، قال عنه السيوطي: "ولم يأتِنا عن أحد من علم العرب أصح من شيء أتانا عن قتادة وهو من التابعين، روي عن أنس وابن المسيب، والحسن البصري، وروى عنه سعيد بن أبي عروبة5. وقد ضرب الجاحظ به المثل في الحفظ، إذ قال: "كان يقال، زهد الحسن، وورع ابن سيرين، وعقل مطرف، وحفظ قتادة، وكلهم من البصرة"6. ويظهر أنه كان يروي الإسرائيليات7. وجمع سليمان بن عبد الملك بين قتادة والزهري، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. فقال القحذمي8: لا، ولكنه8 تعصب للقرشية، ولانقطاعه كان إليهم، ولروايته فضائلهم9. وقد عرف بالنسب10، وهو أحد رواة رسالة عمرو بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في أصول القضاء11.
__________
1 ابن سلام، طبقات "17 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 334".
2 ابن سلام، طبقات "18".
3 المُزْهِر "1/ 29".
4 المُزْهِر "2/ 334".
5 المصدر نفسه "حاشية1".
6 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 242"، ثمار القلوب "90".
7 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 104، 258"، عيون الأخبار "2/ 179".
8 القحذمي: أبو عبد الرحمن بن هشام بن قحذم القحذمي، من أهل البصرة توفي سنة "222"، لسان الميزان "6/ 227".
9 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 243".
10 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 356"، الحيوان "3/ 210".
11 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 48".(17/343)
وروى الجاحظ "إن رجلا قتل أخوين في نقاب، أحدهما بعالية الرمح، والآخر بسافلته. وقدم في ذلك راكب من قبل بني مروان على قتادة يستثبت الخبر من قبله، فأثبته"1. وهو يروي عن ابن عباس2، وعن أبي موسى3، ويظهر من الأخبار المنسوبة إليه أنه من طراز القصاص والذين يروون الأخبار من دون نقد4.
وورد أن الخطاط الشهير خالد بن أبي الهيجا، وهو أول من كتب المصاحف في الصدر الأول، وكان من أحسن الخطاطين في زمانه، كتب "المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك"5. وإذا صح هذا الخبر، نكون قد وقفنا على جمع قديم للشعر وهو في مقدمة المجموعات القديمة للشعر.
لكننا نجد في رواية تذكر أن حمادًا الراوية سرق جزءًا من أشعار الأنصار، فقرأه فاستحلاه وحفظه، فمن ثم صار يطلب الأدب ويحفظ الشعر6. وهي رواية أشك في صحتها، يظهر أنها من موضوعات أعداء حماد، ولو صحت لكانت دليلا على وجود ديوان شعر ضم شعر الأنصار. كما نجد في خبر استدعاء الوليد بن يزيد له وإرساله إليه بمائتي دينار، وأمره عامله يوسف بن عمر أن يحمله إليه على البريد، وقوله في نفسه: "لا يسألني إلا عن طرفيه: قريش وثقيف: فنظرت في كتابي قريش وثقيف. فلما قدمت إليه سألني عن أشعار بلى"7، دلالة على وجود ديوانين كانا عند حماد أحدهما ديوان شعر قريش، والآخر ديوان شعر ثقيف. غير أننا لا نستطيع التأكد من صحة هذا الخبر، وإن كنت لا أستبعده أيضًا، لظهور التدوين قبل هذا العهد، في أيام معاوية مثلا.
وإذا صح ما ذكره ابن النَّديم من قوله: "قال أبو العباس ثعلب جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك ورد
__________
1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "3/ 27".
2 الحيوان "1/ 180".
3 الحيوان "1/ 296".
4 الحيوان "5/ 536، 537"، "4/ 293 وما بعدها".
5 الفِهْرِسْتُ "15"، "خطوط المصاحف".
6 الأغاني "5/ 163".
7 الأغاني "6/ 94".(17/344)
الديوان إلى حماد وجنّاد"1، فيكون معنى ذلك، أنه قد كان عند حماد وجناد ديوانان أو دواوين للشعر، استعارهما منهما الوليد، وجمع منهما ديوان العرب وأشعارهم، ثم أعاد الديوانين إلى صاحبيهما، وتكون بذلك قد وقفنا على وجود لفظة "ديوان" بالمعنى الاصطلاحي المعروف في أيام الأمويين ووثقنا من وجود دواوين الشعر في تلك الأيام.
ولم أجد في الدواوين التي وصلت إلينا في كتب الأدب إشارات إلى اقتباس رواة الشعر وحفظته وجماعه والمعنيين به من هذا الديوان ولا وصفًا لمحتوياته ولما كان بين دفتيه من قصائد وأشعار. ولو وصل إلينا شيء من هذا، لأفادنا ولا شك كثيرًا في التعرف على ذلك الديوان الملكي الذي يجب أن نعده أول ديوان شعر عربي وصل خبره إلينا بكل تأكيد حتى الآن.
ويذكر أن بعض شعراء العصر الأموي كانوا يملكون دواوين شعر لشعراء جاهليين. ذكر مثلا أن الفرزدق كان يمتلك نسخة من ديوان الشاعر زهير بن أبي سلمى"2.
وقد أطلق القدماء مصطلح "دفاتر أشعار العرب" على مدونات الشعر. والدفتر جماعة الصحف المضمومة3، وقسم البغدادي هذه الدفاتر إلى قسمين: دواوين ومجاميع. فالدواوين هي دواوين الشعراء، والمجاميع مثل أشعار بني محارب للشيباني والمفضليات للمفضل الضبي وأشعار الهذليين للسكري، وأشعار لصوص العرب للسكري، ومختار شعر الشعراء الست: امرئ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة وشرحها للأعلم الشنتمري وغيرها4.
ويظهر أن أول اختبار مدوّن للشعر عند العرب كان القصائد المعروفة بالمعلقات اختارها حماد الراوية، ثم سار من جاء بعده مثل المفضل الضبي، وأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، ثم من جاء بعدهما على منهجه في اختيار وانتقاء الشعر والقصائد وجمعها في مجموعات. وقد ذكر الجمحي أن حمادًا
__________
1 الفِهْرِسْتُ "140".
2 بلاشير "106".
3 تاجُ العَروسِِ "3/ 209"، "دفتر"، المصون "4".
4 خزانة الأدب "1/ 9 وما بعدها"، "بولاق".(17/345)
"كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها. وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار"1.
ولم أجد في الكتب المطبوعة التي تحدثت عن حماد ما يفيد اشتغال حماد بتدوين الشعر وإثباته في دواوين. وفي الفِهْرِسْت عبارة تقطع بعدم ورود كتاب ولا ديوان كان من تأليف حماد أو جمعه، إذ يقول: ولم ير لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس، وصنفت الكتب بعده"2. ويفهم بالطبع من كلام ابن النَّديم هذا أن حمادًا كان راوية حسب، يروي للناس ما حفظه من شعر دون أن يعتني هو نفسه بإثباته لما يحفظه في حروف وكلمات. غير أنه يجب الاحتراز كثيرًا في الأخذ برواية ابن النَّديم هذه، إذ لا يعقل إهمال حماد ترتيب ما كان يحفظه من شعر كثير، وتدوينه وإملاءه. وقد أهمل ابن النَّديم أسماء كتب عديدة لمؤلفين معروفين، كما ذكر أسماء علماء لم يشر إلى مؤلفات لهم، مع أن غيره أشار إلى مؤلفاتهم، وقد وصلت بعض منها إلينا وطبعت، فلا أستبعد أن يكون قول ابن النَّديم هذا من القبيل. ومما يقوي هذا الرأي ويؤيده، ما ورد في مختارات ابن الشجري عن أبي حاتم السجستاني من وجود كتاب لحماد الراوية، إذ قال: "قال أبو حاتم هذا آخرها وفي كتاب حماد الراوية زيادة، وقوله: قال السجستاني: وفي كتاب حماد الراوية زيادة بعد هذا البيت أربعة أبيات، كتبتها ليعرف المصنوع"3. وقد أورد ابن الشجري قولَي السجستاني عند إيراده شعر الحطيئة. وكان السجستاني قد أشار إلى كتاب حماد هذا، لوجود أبيات فيه لم يجدها في رواية الأصمعي التي اعتمد عليها لشعر الحطيئة. وقد أورد تلك الزيادات، ذاكرًا أنها مع ذكره لها من المصنوعات المردودات4.
وفي عبارة ابن النديم: "ولم يرَ لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس
__________
1 طبقات، لابن سلام "14".
2 الفِهْرِسْتُ "ص135"، "أخبار حماد".
3 مختارات ابن الشجري، القسم الثالث "ص12، 16"، "تحقيق حسن زناتي، "القاهرة 1926م".
4 الْمَورِدُ المذكورُ.(17/346)
وصنفت الكتب بعده"1، هفوة، فقد ذكر ابن النديم نفسه حين كلامه عن "عوانة"، أن الخليفة "الوليد بن يزيد" "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها.... ورد الديوان إلى حماد وجناد"2، وفي هذه الإشارة دلالة على أنه كان لحماد ديوان، ثم نجده يذكر أنه كان لعوانة بن الحكم كتاب التأريخ، وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وقد توفي عوانة سنة "147هـ" أي قبل حماد المتوفى سنة "156م"3، ونجده يذكر لعبيد بن شرية الجرهمي كتاب الأمثال، ويذكر لصحار العبدي كتابًا في الأمثال كذلك، وقد عاشا قبل عوانة وحماد4.
ودواوين الشعر أنواع: فقد يكون الديوان مجموع شعر شاعر واحد. وقد يكون مجموع شعراء قبيلة، أو مجموع شعر قبائل، أو شعر جماعة مثل الأنصار، وقد يكون مجموع شعر شعراء، جمعت أشعارهم على شكل طبقات، أو فن امتازوا به، أو اختيارات أو أسباب أخرى تذكر في مقدمة الدواوين. ومن النوع الأول دواوين بعض الشعراء الجاهليين، مثل ديوان امرئ القيس، وديوان النابغة الذبياني، وديوان عنترة، وديوان المتلمس وغيرهم. وقد يجمع ديوان شاعر واحد عدة علماء، فيرد الديوان بروايات مختلفة. وقد تختلف النسخ في ترتيب أبيات القصيدة، وفي عدد القصائد، وقد تزيد بعضها أشعارًا، وقد تنقص بعض منها أشعارًا، وقد تختلف نسخ الديوان الذي هو من جمع عالم واحد، بسبب أن العلماء كانوا يملون علمهم إملاء على تلامذتهم، في مجالس إملائهم، فيقوم تلامذتهم بتدوين ما يملى عليهم. ويحدث أن العالم يسمع كتابه من بعض طلابه أو من كتابه، فيصحح فيه، وقد يزيد عليه ما فات عن ذاكرته يوم إملائه في المرة الأولى، فيأمر بتدوينه، وقد يحذف منه شيئًا، لم يرض عنه، فتتعدد بذلك النسخ، ويحدث ذلك في الكتب الأخرى ومن هنا تتعدد الروايات للدواوين أو للكتاب، مع أن جامعه أو مؤلفه رجل واحد.
وقد يأخذ الطالب هذا الديوان، ثم يزيد عليه ما يسمعه من شيوخ آخرين،
__________
1 الفِهْرِسْتُ "ص135"، "أخبار حماد"، "140"، "الاستقامة".
2 الفِهْرِسْتُ "140"، "أخبار عوانة".
3 الفِهْرِسْتُ "140".
4 الفِهْرِسْتُ "138".(17/347)
وقد يعلق عليه ويزيد على شرحه، شروحًا سمعها من رجال آخرين، وبذلك تتولد نسخ جديدة، تختلف عن النسخ الأم1.
وقد جمع العلماء دواوين الشعراء، وقد وصل بعض منها، وفقد البعض الآخر. وقد ذكر "العيني" أنه كان حصل على ما ينيف على مائة ديوان شعر، من بينها ديوان امرئ القيس، وديوان النابغة الذبياني، وديوان علقمة بن عبدة التميمي، وديوان زهير بن أبي سلمى، وديوان طرفة بن العبد، وديوان عنترة بن شداد العبسي، وديوان الأعشى ميمون، وديوان الحطيئة، وديوان أبي دؤاد، وديوان كعب بن زهير، وديوان لبيد العامري، وديوان الشنفرى، وديوان الحارث بن حلِّزة، وديوان أبي ذؤيب الهذلي، وديوان أبي كبير الهذلي، وديوان ساعدة بن جؤية الهذلي، وديوان أبي خراش الهذلي، وديوان أبي المثلم، وديوان صخر الغي، وديوان المتنخل، وديوان أبي العيال، وديوان السموءل بن عادياء، وديوان سحيم عبد بني الحسحاس، وديوان عمرو بن قميئة، وديوان عمرو بن كلثوم، وديوان أوس بن حجر، وديوان النمر بن تولب، وديوان أبي الطمحان القيني2، وغير ذلك من دواوين لم أشر إليها. ومما يؤسف له أنه لم يذكر أسماء رواة هذه الدواوين.
ومن النوع الثاني، دواوين القبائل، أو أشعار القبائل، وقد ضمت شعر شعراء قبيلة أو شعر بعض من شعرائها، ممن اشتهر وعرف، وتحتوي الإضافة إلى الشعر كلامًا يتصل بالشعر وبالشاعر وبالمناسبة التي قيل الشعر فيها، وبنسب الشاعر وقبيلته، على نحو ما نجده في الدواوين الخاصة، فتكون بذلك وثائق مهمة جامعة لأمور شتى من حياة الجاهليين. وقد سميت هذه المجموعات بأشعار القبائل، مثل: أشعار الأزد، وأشعار حمير، وأشعار الرباب، وأشعار بني عامر بن صعصعة، وأشعار فهم، وشعر بني يشكر، وأشعار بني عوف بن همام، وشعر هذيل3. وأشعار تغلب للسكري، وقد رجع إليه البغدادي4.
__________
1 راجع في هذا الباب مصادر الشعر الجاهلي، الباب الخامس وما بعده. "ص479 فما بعدها".
2 "4/ 596"، "حاشية على الخزانة".
3 مصادر الشعر الجاهلي "ص543 وما بعدها".
4 خزانة "1/ 304".(17/348)
وقد هلك أكثر ما جمع من أشعار القبائل، ولم يصل إلينا مطبوعًا من هذه المجموعات إلا ديوان هذيل، وأكثر شعراء هذا الديوان إسلاميون. وقد نال شعراء هذيل بذلك حظًّا من العناية، كما نشرت لشعراء هذه القبيلة جملة دواوين1.
وقد أطلق ابن النديم جملة "أشعار العرب" على معنى ديوان أشعار العرب، فذكر مثلا أن الأصمعي، عمل "قطعة كبيرة من أشعار العرب ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"2، وذكر أن خالد بن كلثوم الكلابي، كان من رواة الأشعار والقبائل، وله صنعة في الأشعار والقبائل، وله من الكتب كتاب الشعراء المذكورين وكتاب أشعار القبائل، ويحتوي على عدة قبائل3. وذكر أن أبا عمرو الشيباني "206هـ" كان عالمًا بأشعار القبائل، وقد أخذ العلماء عنه دواوين أشعار القبائل، وكان قد جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة4. وذكر أيضًا أنه قد كان في بيت أبي عبيدة "210هـ" "211هـ" "208هـ" "ديوان العرب"5، ويظهر أنه قصد به ديوانًا ضم أشعار القبائل. فهو مجموع أشعار شعراء.
ومن النوع الثالث، أي الكتب التي جمعت أشعار طبقة معينة من طبقات الشعراء أو المجتمع، ما ذكره ابن النديم من أن أبا العباس ثعلب، صنع قطعة من أشعار الفحول وغيرهم، منهم الأعشى والنابغتان وطفيل والطِّرِمَّاح6. ومن أن أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري، وهو ممن أخذ عن ثعلب، كان قد عمل عدة دواوين من أشعار العرب الفحول، منه شعر زهير، والنابغة، والجعدي، والأعشى7. وقد عمل محمد بن حبيب قطعة من أشعار العرب، وكتابًا سمّاه: "كتاب أخبار الشعراء وطبقاتهم"8، وألف ابن سلام "231هـ"
__________
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 82 وما بعدها".
2 الفِهْرِسْتُ "89".
3 الفِهْرِسْتُ "104".
4 الفِهْرِسْتُ "107".
5 الفِهْرِسْتُ "85".
6 الفِهْرِسْتُ "117".
7 الفِهْرِسْتُ "118".
8 الفِهْرِسْتُ "161".(17/349)
كتابًا في طبقات الشعراء، عرف بـ "طبقات الشعراء"، وهو مطبوع معروف، ولعمر بن شبة كتاب في الطبقات اسمه: "كتاب طبقات الشعراء"1.
هذا ونقرأ في كتاب "الفهرست" لابن النديم، وفي مؤلفات أخرى أن من العلماء من ألف كتبًا في القبائل، مثل "كتاب الأوس والخزرج" لأبي عبيدة2. وكتاب إياد، وكتاب كنانة، وكتاب بني نهشل، وكتاب بني محارب، وكتاب بني الحارث، وكتاب بني مرة، وأشعار حمير، وكتاب بني القين بن حسر، وكتاب بني حنيفة وغيرها من كتب كان الآمدي قد رجع إليها وأخذ منها. وقد درست هذه الكتب، ولم يتحدث الآمدي بشيء عما احتوته، لذلك لا نستطيع أن نتحدث عن موضاعاتها، بيد أن الآمدي يشير أحيانًا، إلى مواضع اقتبس منها بعض الأشياء، لها صلة بالشعر والشعراء، مما يحملنا على القول بأن الكتب المذكورة كانت في الشعر: في شعر القبائل، وفيمن نبغ بينها من شعراء، كما يشير إلى أمور أخذها من هذه الموارد، التي لم يشر إلى أسماء مؤلفيها، تدل على أنها خاصة بأخبار القبائل وأنسابها، ونظرًا إلى ورود أسماء قسم من هذه المؤلفات التي لم يذكر الآمدي أسماء مؤلفيها في "الفهرست" لابن النديم، وفي موارد أخرى نقلت منها وأشارت إلى أسماء مؤلفيها، فإن في الإمكان التعرف بهذه الطريقة على أسماء مؤلفاتهم التي استقى أخباره منها في مواضع أخرى.
وعلى كثرة ما ألف من دواوين، فإننا لا نملك منها سوى قسم قليل من ذلك الكثير. ويرى "بلاشير" أن الدواوين القديمة المهمة لا تحتوي وسطيًّا أكثر من عشرين صفحة، وأن أطولها كدواوين النابغة وزهير وامرئ القيس لا تتجاوز أبدًا الثلاثين صفحة في الأصل، غير أن المتأخرين زادوا فيها قصائد ومقطعات عثروا عليها في موارد أخرى، فتضخمت تلك الدواوين حتى صارت أضعاف ما كانت عليه في الأصل3.
وجمع بعض علماء الشعر أشعار طوائف من المجتمعات مثل شعر اللصوص،
__________
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 44".
2 الفِهْرِسْتُ "86".
3 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "162".(17/350)
فللسكري ديوان دعاه: أشعار لصوص العرب. ومثل شعر الصعاليك، وشعر الشعراء المغتالين، وأخبار من نسب إلى أمه من الشعراء، وأخبار المتيمين من الشعراء في الجاهلية وفي الإسلام، إلى غير ذلك من مؤلفات في أخبار الشعراء وفي شعرهم1.
ويظهر أن مؤلفي الدواوين لم يحفلوا في أيامهم بموضوع شرح المناسبات التي من أجلها نظم الشعر، ولهذا جاءت خالية في الغالب من ذكر المناسبة، وهي إذا ذكرتها فإنما تذكرها بإيجاز واختصار. أما الشروح التي قد ترد في الديوان، فإنها شروح لغوية ونحوية في الغالب، لم تتمكن من تقديم صورة واضحة عن الشاعر وعن المناسبات التي من أجلها نظم الشعر. وقد انبرى علماء آخرون بشرح هذه الدواوين، إلا أن شروحهم لم تخرج أيضًا عن مألوف ذلك الزمن من الاهتمام باللغة والنحو وجمع الشواهد والنادر والغريب، فضاع التأريخ نتيجة لهذه الطريقة.
وقد ذكر ابن النديم أن شعر "امرئ القيس" قد عمله جملة علماء، منهم أبو عمرو الشيباني، والأصمعي، وخالد بن كلثوم، ومحمد بن حبيب، وأبو سعيد السكري الذي صنعه من جميع الروايات. وقد صنعه أبو العباس الأحول ولم يتمه وعمله ابن السكيت. ويلاحظ أن جامعي هذه الدواوين لم يشيروا إلى المورد الذي استقوا منه شعرهم. صحيح أن منهم من ذكر السند، إلا أنه لم يذكر كيف حصل المرجع الذي ينتهي السند عنده على هذا الشعر. ولم يحفل الرجال الذين تنتهي الأسانيد بهم بذلك، مع أن لذكر السند كاملًا أهمية كبيرة بالنسبة للمؤرخ. إذ نتمكن بهذا التشخيص من الوقوف على معين هذا الشعر.
وقد دوَّن ابن النديم جريدة بأسماء علماء الشعر الذين اشتغلوا بعمل دواوين الجاهليين. وقد استعمل لفظة "صنع" و "عمل", و "صنعة" في معنى "جمع" و "ألف" و "تأليف"، واستعمل جملة "صنعه من جميع الروايات" بعد اسم الجامع وقبل اسم الشاعر للإشارة إلى أن جامع الديوان قد اعتمد على المجموعات
__________
1 الخزانة "1/ 10"، "بولاق" راجع الفِهْرِسْت لابن النديم، حيث تراه يذكر أسماء مؤلفات عديدة بهذا الموضوع.
2 الفِهْرِسْتُ "229".(17/351)
الشعرية التي صنعت قبله، وأوجد من مجموعها ديوانه. فقد تقدم رواية قصيدة على قصيدة، وقد تؤخر أخرى قصيدة متقدمة، فتقدم عليها قصيدة متأخرة، وقد يقدم ديوان بعض أبيات قصيدة، وقد يرتبها ديوان آخر ترتيبا آخر، لاعتماده على مورد آخر، روى القصيدة بصورة أخرى، وقد يذكر ديوان: شعرًا وقطعًا وقصائد أو قصيدة لا تكون موجودة في الدواوين الأخرى أو في بعض منها، ولهذا يأتي جامع جديد، تقع عنده تلك الدواوين، أو تكون عنده كتب شواهد ونوادر وأخبار، فيها من شعر الشاعر ما لم يرد في ديوانه فيضمه إليه، ويكون من المجموع ديوانًا جديدًا، برواية جديدة، تنسب إليه، كما فعل السكري بالنسبة لشعر امرئ القيس.
ومن أعرف من اشتغل بجمع أشعار القبائل: أبو عمرو الشيباني، وخالد بن كلثوم، والطوسي، والأصمعي، وابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب1. ونظرًا لحفظهم أشعار القبائل، حفظوا بالطبع أشعار الشعراء الجاهليين، وحملهم ذلك على جمع أشعارهم في دواوين خاصة. وقد أضاف ابن النديم عليهم، اسم ابن السكيت، وثعلب2. وكان الطوسي عدوًّا لابن السكيت، لأنهما أخذا عن نصران الخراساني، واختلفا في كتبه بعد موته. وكانت كتب نصران لابن السكيت حفظًا وللطوسي سماعًا3.
ولم يرتب صناع الدواوين الشعر على حسب الترتيب الزمني، وإنما رتبوه على ترتيب القوافي، أي وفقًا لترتيب أبحدية القوافي. وقد يسر هذا الترتيب للقارئ الرجوع إلى الشعر الذي يريده، لكنه حرمه من شيء ثمين جدًّا، هو معرفة زمن نظم الشعر. وللزمن أثر كبير في الوقوف على تطور شعر الشاعر، وعلى مدى تقدمه أو تأخره في نظم الشعر، كما حرمه من الوقوف على العوامل التأريخية التي أثرت على الشاعر وعلى مجتمعه فدفعته إلى نظم شعره. ومع وجود بعض المراجع المساعدة من مثل كتب الأخبار والأدب والشواهد، فإن هناك أمورًا تأريخية تخص الشعراء الجاهليين والشعر الجاهلي، بقيت خافية علينا، بسبب عدم
__________
1 الفِهْرِسْتُ "229"، "المقالة الرابعة".
2 الفِهْرِسْتُ "230".
3 الفِهْرِسْتُ "112 وما بعدها".(17/352)
اهتمام علماء الشعر آنذاك بموضوع الشعر ترتيبًا زمنيًّا، ولعدم اهتمامهم بذكر أسباب نظم كل بيت أو قطعة أو شعر، أو قصيدة، مع بيان الزمن الذي نظم الشاعر فيه شعره.
وقد ظهر قوم دونوا الشعر في الصحف، وقرءوه منها، ونظرًا لمكانة الحفظ عند العلماء، ولقياسهم علم الإنسان بمقدار حفظه، لا بما كان يشرحه أو يفسره من الصحف والكتب، لذلك لم ينظر إلى مدوني الصحف نظرة تجلة وتقدير، لأنهم في نظرهم قراء صحف لا غير. قال ابن قتيبة: "يرويه المصحفون والآخذون عن الدفاتر"1، ذكر ذلك في معرض الاستخفاف بعلمهم، لكونهم لا يميزون بين الشعر الصحيح من الفاسد، والرديء من الجيد، لأنهم يقرءون عن صحف، وينطقون بحروف وكلم مكتوبة، لا عن فهم ودراية مثل رواة الشعر، الذين خزنوا علمهم في أدمغتهم، فإذا سئلوا عن شيء أجابوا عن روية وفكر، لا عن صحيفة مكتوبة.
وقد ساعدت الكتب المؤلفة في أخبار القبائل مساعدة كبيرة في جمع الشعر الجاهلي، ونجد في كتاب "الفهرست" لابن النديم أسماء مؤلفات كثيرة، في القبائل، وفي أمور أخرى لها صلة بالشعر، ذكرها أثناء تحدثه عن الأشخاص الذين ذكرهم في كتابه. وقد هلكت أكثر المؤلفات المذكورة، ولكننا نجد نقولًا منها في بعض الكتب التي كتب لها البقاء والتي قدر لها أن تطبع.
ولا أجد في نفسي حاجة إلى ذكر الموارد الأخرى التي أفادتنا كثيرًا في جمع الشعر الجاهلي وفي الوقوف عليه، لأن لقارئ هذا الكتاب إلمامًا بها، قد يزيد على إلمامي بها. وعلى رأس هذه الموارد كتب الأدب، مثل مؤلفات الجاحظ، وكتاب الأغاني للأصبهاني، وكتب الأمالي والمجالس وغيرها، ففي هذه الموارد مادة قد لا نجدها في كتب الشعر، وقد ذكرت أسماء مصادر قديمة نقلت منها لا نعرف اليوم من أمرها شيئًا.
ولا بد من الإشارة أيضًا إلى كتب النحو والشواهد، فقد جاءت بأشعار جاهلية استشهد بها على إثبات قاعدة نحوية، أو شاهد رأي جاء به عالم لإثبات
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 28".(17/353)
رأيه في موضوع لغوي أو نحوي، وقد نص على اسم أو أسماء الشعراء في بعض الأحيان، ولم ينص على الأسماء في أحيان أخرى. وقد يمكن معرفة بعض الأشعار التي لم ينص على اسم قائلها، بالرجوع إلى الموارد الأخرى التي نسبتها إلى قائليها، غير أن الحظ لا يساعد في أحيان أخرى على معرفة اسم قائل الشاهد، لعدم وجوده في موارد أخرى. وقد يكون شاهدًا مفتعلًا، فلا يمكن التوصل إلى أصله بالطبع.(17/354)
الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع
...
الفَصْلُ الخامِسُ والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: الشِّعْرُ المصنُوعُ
ليس البحث في معرفة المصنوع من الشعر، وفي أسباب وضعه، من البحوث الجديدة، التي أوجدها المستشرقون، أو من أخذ عنهم من الباحثين المحدثين، بل هو بحث قديم، أتقنه أهل الجاهلية، وأخذه عنهم أهل الإسلام. وفي هذا المعنى قال الشاعر الشهير الحطيئة: "ويل للشعر من الرواة السوء"1. فرواة الشعر، آفة بالنسبة للشعر وللشعراء، قد يزيدون فيه، وقد ينقصون، وقد يصحفون، وقد يفتعلون ويصنعون الشعر على ألسنة غيرهم، ولو لم يكن هذا المرض معروفًا في أيام الحُطَيئَة وقبلها لما ورد هذا القول عنه.
ومعنى انتحله وتنحله ادَّعاه لنفسه، وهو لغيره. يقال: انتحل فلان شعر فلان أو قوله ادعاه أنه قائله، وتنحله ادعاه وهو لغيره. قال الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوا ... في بعد المشيب كفى ذاك عارا
وقيدني الشعر في بيته ... كما قيد الأسرات الحمارا
"ويقال نحل الشاعر قصيدة، إذا نسبت إليه وهي من قبل غيره. ومنه حديث قتادة بن النعمان: كان بشير بن أبيرق يقول الشعر ويهجو به أصحاب
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 239"، "دار الثقافة، بيروت".(17/355)
النبي -صلى الله عليه وسلم- وينحله بعض العرب"1. ولم يكن بشير أول من فعل ذلك بالطبع من العرب، فهناك غيره ممن سبقه وممن عاش في أيامه صنعوا صنيعه في نحل الشعر وإضافته إلى الشعراء لمآرب مختلفة. ويظهر من الشعر المتقدم المنسوب إلى الأعشى، أنه قد اتهم بانتحال الشعر، بأخذ شعر غيره وادعائه لنفسه، فنفى عنه تلك التهمة.
ويروى أن النعمان بن المنذر، كان يرى به هذا الرأي، فقد ذكروا أنه قال له: "لعلك تستعين على شعرك هذا؟ فقال له الأعشى: احبسني في بيت حتى أقول، فحبسه في بيت، فقال قصيدته التي أولها:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطَّت على ذي هوى أن تزارا
ثم ذكر فيها البيتين المتقدمين2. وورد أن الذي قال له ذلك، هو قيس بن معد يكرب الكندي3.
وكان السطو على الشعر، معروفًا في الجاهلية كما كان معروفًا في الإسلام.
قال الفرزدق:
إذا ما قلت قافية شرودًا ... تنحلها ابن حمراء العجان
وقال ابن هرمة:
ولم أتنحل الأشعار فيها ... ولم تعجزني المدح الجياد4
يقال تنحل الشاعر قصيدة، إذا نسبها إلى نفسه، وهي من قبل غيره.
قال يزيد بن الحكم:
ومسترق القصائد والمضاهي ... سواء عند علام الرجال5.
__________
1 تاج العروس "8/ 129"، "نحل"، اللسان "11/ 651"، "نحل"
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 180 وما بعدها"، ديوانه "رقم41".
3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 180"، "حاشية رقم 6".
4 تاج العروس "8/ 129"، "نحل"، اللسان "11/ 651"، "نحل".
5 تاج العروس "8/ 405"، "علم".(17/356)
ويقال: إن "الأعشى"، وضع في شعره أن "هرم بن قطبة" حكم لعامر بن الطفيل على علقمة بن علاثة، وتزيد بذلك على "هرم"، وأشاعه بين الناس1. والتزيد تكلف الزيادة في الكلام وغيره. وورد أن من الشعراء الجاهليين من كان ينتحل شعر غيره، أو يجتلب منه. قال الراجز:
يا أيها الزاعم أني أجتلب ... وأنني غير عضاهي أنتجب
كذبت إن شر ما قيل الكذب2
فهو ينكر أنه يجتلب الشعر من غيره. واجتلب الشاعر، إذا استوق الشعر من غير واستمده. قال جرير:
ألم يعلم مسرحي القوافي ... فلا عيا بهن ولا اجتلابا
أي لا أعيا بالقوافي ولا اجتلبهن ممن سواي، بل أنا في غنى بما لدي منها3.
وقد نحل على الأعشى فنسب له الرواة ما ليس من شعره، مثل قصيدته التي قالها في مدح سلامة ذا فائش، فقد روى ابن قتيبة الأبيات الأربعة الأول منها، ثم قال: وهذا الشعر منحول، لا أعرف فيه شيئًا يستحسن إلا قوله:
يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسًا بكف من نجلا4
وروي عن الخليل قوله: "إن النحارير من العرب ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللبس والتعنيت"5. وحمل الكلام على الغير شيء مألوف، كما أن أخذ شخص كلام غيره وادعائه لنفسه شيء مألوف كذلك. وقد أشار جهابذة العلماء إلى أن في الشعر مصنوعًا وفيه مفتعل موضوع. وهو كثير لا خير فيه ولا حجة في عربيته. وقد أنبرى له العلماء فنقدوا الشعر.
__________
1 مصطفى صادق الرَّافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 365 وما بعدها".
2 المصدر نفسه "1/ 366".
3 تاج العروس "1/ 184"، "جلب".
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 15"، ديوان الأعشى "232 وما بعدها"، "القصيدة رقم 35".
5 المُزْهِرُ "1/ 171".(17/357)
لاستخراج الصحيح منه من الفاسد، وتمكنوا قدر إمكانهم من ضبط بعض الفاسد المنحول ومن الإشارة إليه1. قال "ابن سلام: "وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم، أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء، أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الإشكال"2.
وقد ذكروا أن قومًا تداولوا هذا الشعر المصنوع "من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي"3. فمقياس الصحة في نظرهم، هو الرواية والأخذ عن أهل البادية، وقول علماء الشعر في الشعر، أما الشعر المدون والمنقول من الصحف، فلا قيمة له، مع أن التدوين أصدق وأكثر صحة من النقل والرواية، وإذا كانوا قد خافوا التزوير في التدوين، فإن التزوير في الرواية لا يقل خطرًا عن التزوير في التدوين. وقد عدُّوا الصحفيين، قومًا لا علم لهم بالشعر، وإنما هم نقلة، يقرءون ما هو مكتوب، وليس في القراءة دليل على علم4، وذلك لأنهم كانوا يصحفون في القراءة، ويلحنون، بينما الراوية الذي اعتمد على علمه وعلى حافظته وعلى ذوقه وطبعه، لا يصحف ولا يقع في اللحن، ولهذا قيل لهؤلاء الصحفيين المصحفين.
"قال خلاد بن زيد الباهلي لخلف بن حيان أبي محرز -وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله- بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تروى؟ قال له: هل تعلم أنت منها ما أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعرفوا من ذلك ما لا تعرفه أنت. وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. فقال له: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته،
__________
1 المُزْهِرُ "1/ 171".
2 طبقات "14".
3 المُزْهِرُ "1/ 171".
4 المُزْهِرُ "1/ 174".(17/358)
فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟ "1.
وقد افتخر رواة الشعر بأنفسهم، وزعموا أنهم أكثر فهمًا في النقد من رواة الحديث، قال يحيى بن سعيد القطان: "رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يروون مصنوعًا كثيرًا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون: هذا مصنوع"2. يعيبون رواة الحديث على روايتهم الحديث المصنوع، مع أن وضعهم للشعر لا يقل عن وضع رواة الحديث للحديث على لسان الرسول، ونقدهم له لا يرتفع كثيرًا عن نقد رجال الحديث للحديث.
وقد تعرض ابن سلام لموضوع إفساد الشعر ونحله، فقال: "وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل كل غثاء: محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير، فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها. ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به، فأحمله ولم يكن ذلك له عذرًا، فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ ألوف من السنين؟ والله يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . وقال في عاد: {فهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . وقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} 3.
فهو يتهم ابن إسحاق بالجهل بالشعر، وهو جهل استغله صناع الشعر فجاءوا إليه بشعر غثاء فاسد، وبشعر مصنوع، فأدخله، وبشعر مفتعل وضع على ألسنة الماضين فقبله. فكان جهله من عوامل إفساد الشعر.
وهذا الشعر بيّن الفساد، يمكن لكل ذوي عقل رفضه، ولكن الذي أفسد الشعر وهجنه، هم علماء الشعر وصناعه من أصحاب الحرفة، الذين وضعوا على ألسنة الشعراء، شعرًا صعب حتى على نقدة الشعر رده إلى أصله، لأنهم وضعوه وصاغوه على ألسنة الشعراء صياغة محبوكة من نمط الشعر الصحيح المحفوظ عن أهل الجاهلية، ومن هنا هان عمل ابن إسحاق بالنسبة إلى عمل حماد الراوية وخلف الأحمر وغيرهما من صاغة الشعر.
__________
1 ابن سلام، طبقات "3 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 172 وما بعدها".
2 المُزْهِرُ "1/ 175"، ذيل الأمالي "105".
3 طبقات "3 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 173 وما بعدها".(17/359)
وقال ابن سلام: "فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال"1.
وروى ابن سلام خبرًا طريفًا من أخبار النَّحْل في الشعر، فقال: "أخبرني أبو عبيدة أن داود بن مُتَمِّم بن نُويرَة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي في الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته، فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا أنه يفتعله"2.
وتحاشيًا من الوضع، امتحنوا من كان يقدم عليهم، للأخذ منه، أو من كان يتصل بهم من الأعراب، حتى يتأكدوا من أمانتهم ومن علمهم بما سيسألونهم عنه. إذ ثبت عند العلماء بالشعر أن بعض الأعراب كانوا يفتعلون الشعر ويضعون الأخبار ويجيبون عن غير علم. وقد أفرد أبو العباس المبرد لبعض منهم بابًا خصصه بأكاذيب الأعراب. وبما كانوا يروونه من أساطير وخرافات3، ومع ذلك فقد فات عليهم الكثير من هذه الأكاذيب، ودخلت كتبهم، ويمكنك التعرف على البعض منه، من دون حاجة إلى بذل مشقة أو جهد.
وقد أورد علماء الشعر أمثلة على المصنوع من الشعر من ذلك ما ذكره أبو عبيدة من أنه أنشد بشار بن برد، البيت:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
__________
1 طبقات "14".
2 طبقات "14"، المُزْهِرُ "1/ 175".
3 المُزْهِرُ "2/ 504"، "أكاذيب الأعراب".(17/360)
وهو بيت وضعه أبو عمرو الشيباني على لسان الأعشى، فقال بعلمه بالشعر وبألفاظ العرب: "كأن هذا ليس من لفظ الأعشى"1، وقد كان بشار الشاعر المعروف حاذقًا بأشعار العرب ملمًا بأساليبهم، فأدرك بسليقته وبعلمه بشعر الأعشى أن هذا البيت ليس من شعره، وقد روى الرواة أن أبا عمرو هو الذي وضعه على لسان الأعشى، وأنه اعترف بصنعه له.
وقد جاء المعري في "رسالة الغفران" بأمثلة كثيرة من أمثلة الشعر المنحول الذي صنع على ألسنة الشعراء الجاهليين. كما أشار إلى التحوير والتغيير الذي أدخله "المعلمون في الإسلام" على الشعر "فغيروه على حسب ما يريدون"2.
وروي أن قريشًا كانوا أول من وضع الشعر من القبائل في الإسلام. نظروا إلى أنفسهم، فإذا حظهم في الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثروا منه في الإسلام. قال ابن سلام: "وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان"3. ولم يكتف القرشيون بإضافة الشعر إليهم، وباستكثاره، بل عملوا الشعر على لسان شعراء المدينة للغض منهم، وذلك لما كان بينهم وبين أهل يثرب من تحاسد يعود إلى ما قبل الإسلام. وقد ذكر أن "قتادة بن موسى" الجمحي هجا "حسان بن ثابت" ونحلها "أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"4، صنعوا الشعر الغث الضعيف وأضافوه إلى شعراء الأنصار للغض من منزلتهم في الشعر.
وقد أشار السيوطي إلى أشعار، ذكر أن علماء الشعر يروون أنها من صنع خلف الأحمر، صنعها على ألسنة الشعراء الجاهليين. من ذلك اللامية المنسوبة إلى الشنفرى5، والقصيدة التي فيها:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
__________
1 الزجاجي، مجالس العلماء "235 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "317 وما بعدها".
3 طبقات "62".
4 الإصابة "3/ 217"، "7077".
5 طبقات النحويين، للزبيدي "178 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 176".(17/361)
وقد نسبها للنابغة1. والقصيدة التي فيها:
قل لعمرو يا ابن هند ... لو رأيت القوم شنا
لرأت عيناك منهم ... كل ما كنت تمنى2
كما روى أبياتًا ذكر أنها من صنع حماد. من ذلك قصيدة نسبها لهند بنة النعمان، من أبياتها:
ألا من مبلغ بكرًا رسولا ... فقد جد النفير بعنقفير
وقد قال الأصمعي، إنها مصنوعة، لم يعرفها أبو بردة، ولا أبو الزعراء، ولا أبو فراس، ولا أبو سريرة، ولا الأغطش، وهي مع نقيضة لها أخذت عن حماد الراوية3.
وروي عن الأصمعي قوله: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا نتفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء"4.
ومرد نحل الشعر عند ابن سلام: إما إلى عصبية قبلية، وإما إلى رواة شعر. أما عصبية القبائل، فقد دوّنت رأيه في سببها. وأما عن رواة الشعر، فأول المزيفين للشعر في نظره حماد الراوية، الذي قال عنه: "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار. أخبرني أبو عبيدة عن يونس. قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئًا! فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحُطَيئَة في مديح أبي موسى. فقال: ويحك يمدح الحُطَيئَة أبا موسى، لا أعلم به، وأنا أروي للحطيئة. ولكن دعها تذهب بين الناس. وأخبرنا ابن سلام، قال: سمعت يونس يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد وكان يكذب ويلحن ويكسر"5. وحماد وأضرابه في نظر "ابن سلام"
__________
1 المُزْهِرُ "1/ 177".
2 المُزْهِرُ "1/ 179".
3 المُزْهِرُ "1/ 180".
4 مراتب النحويين "72"، شوقي ضيف، العصر الجاهلي "174".
5 طبقات "14 وما بعدها".(17/362)
مزيفون ماهرون يزيفون الشعر ويصنعونه، فهم أصحاب صنعة محترفون للتزييف. أما محمد بن إسحاق، فإنه في نظره نمط آخر، نمط رجل جاهل بالشعر، دفع إليه الناس المصنوع من الشعر وكل غثاء منه، فحمله، وأدخله في السيرة، وحمل الناس عنه الأشعار، وكان عذره أنه لا علم له بالشعر، إنما يؤتى به إليه فيحمله ويدونه، ولكنه لامه على هذا الاعتذار بقوله: "ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط. وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 1.....إلخ، وقد اتهمه غيره بأنه "كان يعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه السيرة فيفعل فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر، وأخطأ في النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتابه أهل العلم الأول "وأصحاب الحديث يضعفونه"2. وألحق بهذا الصنف من رواة الشعر ومدونيه جماعة الصحفيين، الذين لم يكونوا يميزون بين الشعر، ويحملون كل ما يعطى لهم، من شعر غث أو زائف، وقد يصحفون في تدوينه، لعدم وجود علم لهم به، فهم أيضًا في جملة من أفسد الشعر.
وابن سلام الجمحي، من علماء البصرة، وأكثر حملة الشعر البصريين يتحاملون عليه عصبية، منهم لمدينتهم، لأنه من أهل الكوفة، وكان أهل الكوفة يغضون أيضًا من شأن رجال العلم البصريين ويتحاملون عليهم. وكلٌّ ينسب إلى خصمه التزييف ونحل الشعر على ألسنة الشعراء المتقدمين، وكل منهم يتهم الآخر بالتهمة التي يوجهها لخصمه من التزييف والجهل.
ولم يكن ابن سلام أول من نبه إلى وجود النَّحْل في الشعر، ولم يكن هو أيضًا آخر من وضع رأيًا في النقد، فتوقف الناس بعده. فقد سبقه الأعشى وغيره إلى هذا الرأي. ثم جاء بعده علماء كانت لهم آراء قيمة في هذا الشعر وفي
__________
1 طبقات "14"، الفِهْرِسْتُ "142".
2 الفِهْرِسْتُ "142".(17/363)
شعرائه، نجدها مدونة في كتبهم، وفي الكتب التي اعتمدت عليها، وقد نبهت ملاحظات أولئك العلماء المستشرقين الذين ظهروا في القرن التاسع عشر فما بعد، فعمدوا إلى دراستها وتحليلها، واستنبطوا منها آراءهم التي أبدوها عن الشعر الجاهلي.
وقد نبه أبو العلاء المعري إلى وجود الشعر المصنوع في "رسالة الغفران" وأشار إليه وشخّص قسمًا منه، وذكر اسم صانعيه في بعض الأحيان، فذكر الشعر المنسوب إلى "آدم" مثلا:
نحن بنو الأرض وسكانها ... منها خلقنا وإليها نعود
والسعد لا يبقى لأصحابه ... والنحس تمحوه ليالي السعود
وقال على لسانه: "إن هذا القول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء، ولكني لم أسمع به حتى الساعة"1.
ويقول أبو العلاء مخاطبًا آدم: "وكذلك يروون لك -صلى الله عليك- لما قتل هابيلَ قابيلُ:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
وأودى ربع أهليها فبانوا ... وغودر في الثرى الوجه المليح
وبعضهم ينشد:
وزال بشاشة الوجه المليح2
ثم يضع الجواب على لسان آدم، فيقوّله: "أعزز عليّ بكم معشر أبيني! إنكم في الضلالة متهوّكون! آليت ما نطقت هذا النظيم، ولا نطق في عصري وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله! كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك إلى الأرض"3.
__________
1 رسالة الغفران "360".
2 رسالة الغفران "362 وما بعدها".
3 رسالة الغفران "ص364".(17/364)
وسأل المعري آدمَ عن لسانه، ثم أجاب عنه بقوله: "إنما كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نقل لساني إلى السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله -سبحانه وتعالى- إلى الجنة، عادت عليَّ العربية، فأي حين نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ "1.
ثم تراه يتحدث عن الشعر المنسوب إلى الجن، وإلى أشعار أخرى، فتراه يردها وينتقدها، ويشير إلى وجود شعر مصنوع وضع على الإنس والجن. تراه يقول: "وكنت بمدينة السلام، فشاهدت بعض الوراقين يسأل عن قافية عدي بن زيد التي أولها:
بكر العاذلات في غلس الصبـ ... ـح يعاتبنه أما تستفيق
ودعا بالصبوح فجرًا فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
وزعم الوراق أن ابن حاجب النعمان سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخ من ديوان عدي، فلم توجد. ثم سمعت بعد ذلك رجلًا من أهل استراباذ يقرأ هذه القافية في ديوان العبادي، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم"2. وقد تحدث أبو العلاء المعري في "رسالة الغفران" عن القصيد التي أولها:
ألِمّا على الممطورة المتأبدة ... أقامت بها في المربع المتجردة
مضمَّخة بالمسك مخضوبة الشوى ... بدرٍّ وياقوت لها متقلدة
كأن ثناياها -وما ذقت طعمها- ... مجاجة نحل في كُميت مبردة
ليقرر بها النعمان عينًا فإنها ... له نعمة في كل يوم مجددة
فقال إنها من الشعر المنحول، نحلت على النابغة ونسبت إليه. وقال على لسانه: "فيقول أبا أمامة: ما أذكر أني سلكت هذا القري قط. فيقول مولاي الشيخ زين الله أيامه ببقائه: إن ذلك لعجب، فمن الذي تطوع فنسبها إليك؟ فيقول إنها لم تنسب إلي على سبيل التطوع، ولكن على معنى الغلط والتوهم، ولعلتها
__________
1 رسالة الغفران "361 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "146 وما بعدها".(17/365)
لرجل من بني ثعلبة بن سعد1 فيقول نابغة بني جعدة: صحبني شاب في الجاهلية ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنه من ثعلبة بن عكابة، وصادف قدومه شكاة من النعمان فلم يصل إليه. فيقول: نابغة بني ذبيان: ما أجدر ذلك أن يكون! "2. فردّ هذا الشعر، وأنكر كونه من شعر النابغة، وبيّن بأسلوب جميل رأيه فيمن نحله عليه:
وتحدث عن الكلمة الشينية المنسوبة للنابغة الجعدي، التي يقول فيها:
ولقد أغدو بشرب أنف ... قبل أن يظهر في الأرض ربش
معنا زقٌّ إلى سمّهة ... تسق الآكال من رطب وهش
وبعد أن دوَّنها قال: "فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشين قط رويًّا، وفي هذا الشعر ألفاظ لم أسمع بها قط: ربش، وسمهة، وخشش"3.
وتراه يتحدث عن قصيدة نسبت للأعشى، فيقول على لسان سائل يسأل أعشى قيس في الجنة عن قوله:
أمن قتلة بالأنقاء ... دارٌ غير محلولةْ
كأن لم تصحب الحي ... بها بيضاء عطبولةْ
أناة ينزل القوسي ... منها منظر هوله
إلى أن يكمل القصيدة، ثم يقول: "فيقول أعشى قيس: ما هذه مما رصد عني وإنك منذ اليوم لمولع بالمنحولات"4.
وفي "رسالة الغفران" مواضع أخرى كثيرة تعرض فيها المعري لنقد الشعر، ولبيان الصحيح منه من الفاسد، تجعل الكتاب من الكتب الجيدة القديمة التي نبهت إلى وجود الصنعة والنحل في الشعر الجاهلي، والتي مهدت الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين والمحدثين فتكلموا عن هذا الموضوع بلغة العصر الجديد.
__________
1 رسالة الغفران "207".
2 رسالة الغفران "207 وما بعدها".
3 رسالة الغفران "208 وما بعدها".
4 رسالة الغفران "211 وما بعدها".(17/366)
وما ذكره المعري في رسالته يمثل رأيه ورأي من تقدم عليه من علماء الشعر في مواضع الانتحال في الشعر الجاهلي وفي نقد الشعر.
ونبه الجاحظ في كتبه إلى وجود شعر منحول، وقد نص عليه، وأشار إلى اسم من نسب له، من ذلك قوله:
"وفي منحول شعر النابغة:
فألقيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
وليس لهذا الكلام وجه، وإنما ذلك كقولهم كان داود لا يخون، وكذلك كان موسى لا يخون"1.
والنحل في الشعر ليس بأمر غريب، إذ وقع في غير الشعر كذلك، وقع ذلك طلبًا للغريب وللنادر، "ذكر بعض مشايخنا -رحمهم الله- أنه رأى مصحفًا منسوبًا إلى أُبي خالف بعض حروفه حروف هذا المصحف، لكنا لا نأمن أن يكون ذلك من جهة بعض من يحب الافتخار بالغريب، فإن هذه بلية قد أضرت بالدين وأخلت بمصالح المسلمين، وطرقت الملحدين إلى الطعن في أركان الإسلام، وسهلت عليهم الشغب في أمره، وقد نرى من المفتئتين نواب الملوك، وعبيد أرباب الأموال، وأبناء الدنيا إذا لم يجدوا للقرآن وعلوم الدين عندهم موقعًا فيتقربون إليهم بغرائب الكتب، وإذا أعوزهم الغريب الذي يستذرع به أخذوا بعض الكتب المعروفة يزيدون فيها وينقصون، ويقدمون ويؤخرون ويعنونونه بعنوان بعيد ليتسببوا بذلك إلى استخراج شيء منهم.
فعلى هذا النحو لا يؤمن أحدهم أن يعمد إلى مصحف فيقدم منه سورًا ويؤخر أخرى، ويحرف ألفاظًا، ثم يزعم أنه مصحف علي أو عبد الله أو مصحف أبي، وليس غرض البائس من ذلك إلا أن يحمله إلى بعض الملوك فيقول: إن خزانة مثلك يجب ألا تخلو من نسخة من كل مصحف ليستخرج من حطامه شيئًا، ولا يبالي بما كان من جناية على الدين وأهله"2.
__________
1 الحيوان "2/ 246".
2 مقدمتان في علوم القرآن "47 وما بعدها"، "أرثر جفري"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "15".(17/367)
ولم يقع نحل الشعر عند العرب وحدهم، وإنما وقع عند غيرهم كذلك. فقد وقع عند اليونان وعند الرومان وعند الفرس والعبرانيين، وهو آفة لا تزال حية، منهم من يضع على ألسنة المتقدمين، ومنهم من يسرق قول غيره فينسبه نفسه، وقد ضيقت وسائل النشر والإذاعة من سرقة آراء وأقوال الغير، وتسجيلها باسم سارق نسبها لنفسه، غير أن مشكلة تعيين أصول الشعر الجاهلي والنحل القديم، لا تزال من المشاكل المستعصية، لأن الوسائل الحديثة لا تتمكن من إحياء من في القبور واستنطاقهم عن المنحول والمسروق!
وقد وضع ابن سلام قاعدة في كيفية قبول الشعر والأخذ به، فقال: "قد اختلف العلماء في بعض الشعر، كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه" وبقوله: "وليس لأحد، إذا اجتمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي"1. وقد أبدى ملاحظات قيمة في نقد الشعر، فأشار إلى المزيف منه، وأظهر تحفظًا في قبول بعض الأشعار، لأنها منتحلة، فلما تطرق إلى شعر طرفة قال فيه: وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله:
أقفر من أهله ملحوبُ ... فالقطبيَّات فالذنوبُ
ولا أدري ما بعد ذلك"2. وذكر أن رواة الشعر وضعوا شعرًا كثيرًا على "طرفة" و "عبيد بن الأبرص"، وكانا من أقدم الفحول، وقد ضاع معظم شعرهما لذلك، فوضعوا عليهما الأشعار3.
وأنكر أن يكون النابغة قد قال:
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخونُ
وذكر أن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يقل هذا الشعر4، وله ملاحظات أخرى
__________
1 طبقات "6".
2 طبقات "116".
3 طبقات "23".
4 ابن سلام "49 وما بعدها".(17/368)
من هذا القبيل، تجدها في طبقاته، فقد شك في أكثر شعر عبيد بن الأبرص، ولم يثبت لديه من شعره إلا ثلاث قصائد1.
وطريقة ابن سلام في قبول الشعر وفي صحته، هو إجماع علماء الشعر واجتهادهم، فإذا قرر علماء الشعر قبول شعر ووثقوا به وثبتوه، صار مقبولًا في نظره، لأنهم هم الذي يميزون بين الصحيح وبين الفاسد، "وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون". فالعلماء هم صيارفة الشعر يستطيعون نقده، واستخراج الزائف منه ورميه، وهو لا يبالي بعد ذلك بما روى ابن إسحاق وأمثاله من شعر "لا خير فيه ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسب مستطرف"2.
أما ما روي من شعر على ألسنة ملوك حمير وأقيال اليمن وأذوائها، فإن العارفين بالشعر الجاهلي وبأساليبه وبروايته، يرون أنه شعر لا يطمأنّ إلى صحته، وضع على ألسنة من نسب إليهم. وقد رواه أناس من أهل اليمن عرف معظمهم برواية القصص والأساطير وعرف بعضهم بروايتهم القصص الإسرائيلي. أما المعروفون بأنهم حملة الشعر ورواته من القدامى، فلم يرووا شيئًا يذكر من ذلك الشعر، وأما رجال العلم بالنحو وبقواعد العربية، فلم يستشهدوا به في شواهدهم، مما يدل على أن لهم رأيًا فيه. وقد ذكر أهل الأخبار أن ابن مفرغ يزيد بن ربيعة، وكان يزعم أنه من حمير، وضع سيرة تبَّع وأشعاره3.
وكان أول من لفت الأنظار ومهد الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين الراغبين في دراسة الشعر الجاهلي العالم الألماني "نولدكه" "Theodor Noldeke" في كتابه، Beitrage zur kenntniss der poesie der Alten Araber" الذي طبعه سنة "1864م". وقد تطرق في مقدمته إلى تأريخ ونقد الشعر الجاهلي، وإلى ما ورد عن مبدأ هذا الشعر، وعن ابتدائه بالرجز. وقد ذهب إلى أن هذا الشعر الجاهلي الواصل إلينا، والمحفوظ في الكتب، لا يمكن أن يرتقي إلى أكثر من السنة "500" للميلاد. ثم تطرق إلى التطور الذي أحاق بالأفكار والآراء والمعاني الواردة في
__________
1 ابن سلام "76 وما بعدها، 116".
2 ابن سلام "5 وما بعدها، 40".
3 الأغاني "17/ 52".(17/369)
الشعر المقال في أيام الأمويين، فأبعده من هذه الناحية عن الشعر الجاهلي، فعزاه إلى الحياة الجديدة التي دخل فيها العرب في هذا العهد، وإلى التغير الروحي الذي ظهر بين العرب نتيجة خروجهم من البوادي ودخولهم أرضين خصبة، ذات عمران وحضارة، وهو تغير يفوق في نظره أثر الدين الجديد، أي الإسلام في العرب. فبينما كان الشعر الجاهلي، شعر بدوي، ظهر وترعرع بين الأعراب وفي البوادي، وكان أبطاله ورجاله، يراجعون الإمارتين الصغيرتين: إمارة المناذرة وإمارة الغساسنة، نرى هذا الشعر ينمو ويظهر في قصور الخلفاء والولاة والحكام، وهي كثيرة، فيها البذخ والمال والترف والنعيم، وحياة هذه طرازها لا بد وأن تؤثر على مشاعر الشاعر، فتجعل شعره يختلف في معانيه وفي شعوره عن معاني وشعور الشعر الجاهلي، وإن حاول الشعراء جهدهم المحافظة على القوالب الجاهلية للشعر، والتمسك بجزالة ذلك الشعر1.
ثم تحدث في مقدمته هذه عن الصعوبات التي يواجهها المرء حين يريد فهم هذا الشعر، ثم أشار إلى عمل المستشرقين الذين سبقوه في نشر وترجمة ذلك الشعر إلى لغاتهم، ثم تحدث عن تضارب الروايات واختلافها في نصوصها وعن رواة الشعر الجاهلي وعن تداخل الشعر بعضه في بعض في بعض الأحيان، بحيث يدخل شعر شاعر في شعر غيره، أو ينسب شعر شاعر لغيره2، ثم عن تغيير وتحوير الأشعار المقالة بلهجات القبائل لجعلها موافقة للعربية الفصحى، وإن كانت هذه الفروق التي كانت بين اللهجات الشمالية لم تكن كبيرة عند ظهور الإسلام. وتحدث بعد ذلك عن الشعر الوثني وعن ورود أسماء الأصنام فيه، وعن تجنب الرواة إيرادها، أو تحويرها بعض التحوير، ثم تحدث عن تعمد الرواة نحل الشعر، وحمله على ألسنة الشعراء الجاهليين، وعلى ألسنة الماضين، وعلى ألسنة الجن والملائكة.
وتطرق أيضًا إلى رأي علماء العربية في الشعر الجاهلي، وفي المعلقات، ورأي "النحاس" فيها، ثم تحدث عن تصنيف علماء الشعر للشعراء إلى طبقات، وعن
__________
1Beltrage, S. I. f..
2 المصدر نفسه "صv111".(17/370)
الأسس التي وضعوها في هذا التصنيف1.
وبعد هذه المقدمة التي أخذت "24" صفحة من الكتاب، ترجم الصفحات الأول من كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، إلى باب "العيب في الإعراب"، وانتهى منه بقول القائل:
قل لسُليمى إذا لاقيتها ... هل تبلغن بلدة إلا بزاد
قل للصعاليك لا تستحسروا ... من التماس وسير في البلاد
فالغزو أحجى ما خيلت ... من اضطجاع على غير وسادِ
لو وصل الغيثُ أبناء امرئ ... كانت له قبة سحق بجادِ
وبلدة مقفر غيطانُها ... أصداؤها مغرب الشمس تناد
قطعتها صاحبي حوشية ... في مرفقيها عن الزور تعاد2
ثم تطرق في كتابه إلى شعر يهود جزيرة العرب، ثم إلى شعر مالك ومُتمِّم ابنا نُويرة، فشعر الخنساء، ودوَّن بعض النماذج من الشعر.
وقد تهيأت للمستشرقين الذين جاءوا بعد "نولدكه" موارد جديدة لم تكن معروفة في أيامه، بفضل جهود العلماء الذين بعثوها، بإخراجها مطبوعة، بعد أن كانت مخطوطة، قابعة في زوايا النسيان، بعيدة عن متناول اليد، فزاد علمهم بالشعر الجاهلي، وأحاطوا بما فات وخفي عن علم ذلك المستشرق الكبير العالم، وكونوا لهم آراءهم عنه، نشروها في مقدمات الدواوين ومجموعات الشعر التي أخرجوها، أو في كتبهم التي وضعوها في الأدب الجاهلي، وفي مقالاتهم التي نشروها في المجلات. وقد ترجمت بعضًا منها إلى العربية، ولخصت بعض
__________
1 Beltrage, s, ix وما بعدها.
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "6/ 46". Beltrage, 1- 42.(17/371)
منها، في الكتب العربية التي تناولت الأدب الجاهلي1.
وللمستشرق "آلورد" "w. Ahlwardt" ملاحظات قيّمة عن الشعر الجاهلي من حيث الصحة والصنعة والأصالة2.
وقد تعرض "بروكلمن" لموضوع الشعر المنحول فأشار إلى أثر الرواية الشفوية في الوضع، وإلى موضوع التدوين وعدم وجوده في الجاهلية، وأثره في فقدانه على انتحال الشعر، ثم قال: "ومن ثم يعد خطأ من مرجليوث وطه حسين أن أنكرا استعمال الكتابة في شمالي الجزيرة العربية قبل الإسلام بالكلية، ورتبا على ذلك ما ذهبا إليه من أن جميع الأشعار المروية لشعراء جاهليين مصنوعة عليهم، ومنحولة لأسمائهم.
ولكن بديهيًّا أن الكتابة لم تقض قضاء كليًّا على الرواية الشفوية. فقد كان لكل شاعر جاهلي كبير على وجه التقريب راوية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس، وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده.
__________
1 للوقوف على آراء بعض المستشرقين راجع الفصل الثالث من كتاب: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، تأليف الدكتور ناصر الدين الأسد "ص352 وما بعدها"، وكتاب تأريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي، تأليف الدكتور ريجيس بلاشير، تعريب الدكتور إبراهيم كيلاني "بيروت: دار الفكر".
Th. Nolde'ke, Die Semltischen sprachen, S. 47. Th. Noldeke, Punf Mo'allaqat, Wien, 1899, 1900, D. S. Margoliouth, The Origlne of Arabic Poetry, In Journal Royal Asiatic Society, 1925, pp. 417-449, Encyclopaedae of Religion and Ethics, Vol., 8, p. 874, G. Richter, Zur Ent-stehungs Geschlchte der Altarablschen Quaside, In ZDMG., XCII, 1938, W. Mulr, Ancient Arabic Poetry, In JRAS, 1875, Krenkow, The Use of the Writing for the Preservation of Ancient Arabic Poetry, Cambridge, 1022, E. Braunlich, Versuch elner Literargeschichtlichen betrachtungs-weise Altarabischer Poesien, In Der Islam, XXIV, 1937, S. 201-269, G. Von Grunebaum, Die Wirklichkeite der Fruharabischen Dlchtung, Wien, 1937, G. Von Grunebaum, Zur Chronologle der Friiharabischen Dictitung, In Orlentalla, VIII, 1939, py. 328 ?45, Ahlwardt, TLJ Diwans of the Six Ancient's Arabic Poets, London, 1870, R. Geyer, Beitrage zur Kenntnis Altarabischer Dichter, in Wiener Zeltschrift fur die Kunde des Morgenlandes, XVIII, 1904, S. 5, Delitzsch, Judisch-Arabische Poesien aus Vormuham-
medanischer Zeit, Leipzig, 1874.
2 W Ahlwardt, Bemerkungen iiber die Echthelt der Alten Arabische Gedichte,
Greifswald, 1872.(17/372)
وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة إلا نادرًا.
وعن الرواة كانت تنتشر الدراية بالشعر في أوساط أوسع وأشمل، بعد أن يذيع في قبيلة الشاعر نفسه. ولهذا لم يكن التحرز عن السقط والتحريف، وإن لاحظنا أن ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحدّ على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث.
ولم يبدأ جمع الشعر العربي إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين، بيد أن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللُّغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرًا غريبًا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجمَّاع أنفسهم شعراء، قد ظنوا أنه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبًا عليهم أيضًا في بعض الأحيان أن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا أيضًا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد أراد حماد الراوية أن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لأصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم أنه وجد الشعر الذي كتب بأمر النعمان ودفن في قصره الأبيض بالحيرة، ثم كشف في أيام المختار بن أبي عبيد.
لقد غير الرواة بعض أشعار الجاهلية عمدًا، ونسبوا بعض الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أن يكون وضع أشعار قديمة، منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع إثباته.
على أنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دورًا ثانويًّا. وقد روى علماء المسلمين أشعارًا للجاهليين تشتمل على أسماء الأصنام وعبادتها، وإن أسقطوا أيضًا أبياتًا أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لأن الشعور الديني لم يكن غالبًا على نفوس العرب في الجاهلية"1.
وقد جاء المستشرق "كارلو نالينو" في محاضراته التي ألقاها بالجامعة المصرية في سنة 1910-1911م، بشيء جديد في طريقة التحدث عن الأدب العربي
__________
1 بروكلمن "1/ 64 وما بعدها".(17/373)
من الجاهلية حتى عصر بني أمية، فقد عرضه عرضًا جميلًا واضحًا، مستعملا ملاحظات أئمة العربية عنه، مع بيان ملاحظاته وآرائه فيه، وقد أحدثت محاضراته هذه أثرًا في كيفية دراسة الأدب العربي، لا بمصر وحدها، بل في الأقطار العربية التي كانت تتابع ما يحدث في مصر من تطور ثقافي1.
وهو وإن لم يأت في كتابه برأي جديد مثير، إذ كانت أفكاره وسطًا في الواقع بين القديم وبين الجديد، إلا أن طريقة عرضه لآرائه وأسلوبه في بحثه وفي تحدثه عن الشعراء، كانت طريقة جديدة غريبة بالنسبة لدارسي الأدب العربي في ذلك الوقت، ولَّدت شوقا في نفوس الدارسين للأدب العربي في ذلك الوقت إلى السير على الطريقة الغربية في نقد الأدب وفي تقبله وتحليله، وأولدت الشك في الوقت نفسه في الروايات القديمة المروية عن الأدب العربي، التي كان يتمسك بها القدماء تمسكهم بنصوص كتاب سماوي مقدس، باعتبار أنها رويات تتعلق بالماضي وبالتراث، ومن التجني على العربية والإسلام التعرض لها بأي سوء، وفي جملة ذلك الشك في صحتها والنيل منها وإلحاق الأذى بها.
وتطرق المستشرق الإنكليزي "مركليوث" في بحثه: "أصول الشعر العربي" "the Origins of Arabic poetry" إلى الشعر الجاهلي، وقد ذهب إلى أن أكثر هذا الشعر منحول، صنع في الإسلام ووضع على ألسنة الجاهليين. وقد أورد فيه الأدلة والبراهين التي استدل بها على إثبات رأيه. وقد لخصت آراؤه هذه ونقلت إلى العربية، فلا أجد حاجة إلى البحث عنها، ما دام غيري قد سبقني إلى هذا العمل2.
وقد رأى بعض المستشرقين أن علماء اللغة أدخلوا تغييرًا على نصوص الشعر الجاهلي، لما وجدوا أن قواعدها لا تتفق مع القواعد التي استنبطوها من القرآن والحديث، أي من لغة قريش، ولذلك عدلوها ليكون إعرابها ملائمًا لما وضعوه من قواعد النحو، وهو رأي يتناقض مع رأي المستشرقين القائلين بأن القرآن إنما نزل بلغة عربية مبينة كانت فوق اللهجات وفوق اللغات، ولم ينزل بلهجة قريش،
__________
1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية، "دار المعارف بمصر، سنة 1970م".
2 مصادر الشعر الجاهلي "352 وما بعدها"، ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "177 وما بعدها".(17/374)
ورأيهم أن ما ورد من نزول القرآن بلسان قريش، إنما هو رأي ظهر في الإسلام، ظهر ببروز النزاع الذي كان بين الأنصار والمهاجرين، أدى إلى التعصب لقريش وإلى تقديمهم على كل العرب بحجة أن الرسول منهم، وأنه ولد بينهم، فيجب أن تكون لغته لغتهم، وأن يكون نزول الوحي بلسانهم، فهو رأي برز عن نوازع دينية وسياسية، مجدت قريشًا، لأن في تمجيدهم تمجيد على رأيهم لرسالة الإسلام1.
ونظرية وقوع التعديل والتغيير والإصلاح في أصول الشعر الجاهلي، رأي قال به علماء العربية قبل المستشرقين، إذ نجد في كتبهم إشارات إلى تعديل أو تهذيب أو تغيير أحدثه أبو عمرو، أو الأصمعي أو غيرهما على لفظة أو بيت، لاعتقادهم بعدم انسجام أصل ما غيروه مع المعنى أو مع قواعد اللغة، أو لمخالفته للعروض، أو لوقوع تصحيف، فصححوا ما صححوه، بدافع عدم إمكان صدوره من شاعر جاهلي قديم. وفي رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري، أمثلة كثيرة على ذلك، وقد خطأ الأقدام على التعديل، ودافع عن وقوع الزحاف والإقواء في الشعر الجاهلي، معتبرًا ذلك شيئًا لم يكن عيبًا في الشعر عند الجاهليين، لأنه كان أمرًا مألوفًا عندهم، وقد ذكرت رأيه في مواضع من هذا الكتاب.
وتتبع المرحوم مصطفى صادق الرافعي، ما جاء في التراث العربي عن الأدب العربي، فدونه في كتابه "تأريخ آداب العرب" تدوينًا يدل على إحاطة جيدة بما جاء في كتب الأسلاف من أخبار عن الشعر وأصحابه وعن انتحاله والعوامل التي دعت إلى الغش فيه، وإدخال ما ليس منه فيه، وقد خالف رأي من قال بتعليق "المعلقات"، ومخالفته هذه تعد فتنة بالنسبة لرواد الشعر والمعجبين به بالنسبة لذلك اليوم2. ويعد كتابه من الكتب القيمة المدونة بالعربية بالنسبة لتلك الأيام، فهو رصين حوى خلاصة ما ذكره السلف عن أدب العرب، وإذا نظرنا إلى عمره يوم ألفه وإلى أسلوب دراسته، نجد أنه كان من نوادر المؤلفين في ذلك العهد.
وأحدث كتاب الدكتور طه حسين: "في الشعر الجاهلي" رجة عنيفة
__________
1 Nicholson, A Literary History of The Arabs, p. 134.
2 تأريخ آداب العرب "1/ 365-391"، "3/ 186 وما بعدها".(17/375)
في مصر وفي البلاد العربية، لما جاء فيه من آراء خالفت المألوف والمتعارف عليه عند علماء العربية آنذاك الذين كانوا يسيرون على الجادة القديمة في دراسة أدب العرب، ولما تضمنه من عبارات اعتبرت نابية فيها تهجم على المقدسات. فشكي إلى الحكومة، ورفع أمره إلى القضاء، فكان أن غيَّر عنوانه بعض التغيير فصار: "في الأدب الجاهلي"، وحذف منه فصل، وأثبت مكانه فصل، وأضيفت إليه فصول1. وقد لقي الكتاب نقدًا شديدًا في مصر وفي خارجها، من جانب المحافظين الحروفيين، إذ رأوا فيه هدمًا للتراث العربي وللمألوف المتوارث، بينما لقي قبولا حسنًا من جانب الشباب والجيل الجديد، الذين تأثروا بالمؤثرات الثقافية الحديثة وأخذوا يجاهرون بنقد الأوضاع القائمة الجامدة، وسرعان ما دخل هذا النقد ميدان العراك الذين كان قد وقع آنذاك بين المحافظين وبين المصلحين الذين كانوا يدعون إلى إصلاح المجتمع بصورة عامة وإيقاظ العقل من سباته، والذي كانوا ينادون بإصلاح كل ما يخص هذه الحياة من مادة وروح.
ووجود شعر جاهلي منحول، أو وجود شعر منحول، صنع وصيغ على ألسنة الجاهليين بتعبير أصح، قول لا يختلف فيه أحد، لا يختلف فيه علماء العربية عن المستشرقين، ولا القدماء عن المحدثين، ولا المحافظون المتزمتون عن المدعين بالتقدمية والتجديد، فكلهم مجمعون على وجوده، وكل منهم أثبت وجوده بطرقه وبأساليبه التي كانت متبعة في زمانه في طرق النقد، فهم في هذه القضية متفقون تمامًا ولا خلاف بينهم فيه، اللهم إلا في شيء واحد، هو: سعة حجم المصنوع بالنسبة إلى حجم الصحيح من الشعر، فمنهم من يزيد في نسبة حجم المصنوع حتى يغلبه على الصحيح، بل يجعل الصحيح منه شيئًا ضئيلًا، بالنسبة إليه، ومنهم من يقلل هذه النسب إلى درجات قد يصيرها بعضهم دون الشعر الصحيح بكثير.
وأول أسباب نحل الشعر: العصبية التي عبر عنها ابن سلام بقوله: "قال ابن سلام: فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم،
__________
1 "مقدمة الطبعة الثانية"، "القاهرة 1927م".(17/376)
ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار"1. من ذلك ما فعلته قريش، الذين كانوا -كما يذكر أهل الأخبار- أقل العرب شعرًا وشعراء، فلما نظروا فإذا حظهم من الشعر قليل في الجاهلية، استكثروا منه في الإسلام2.
ومن هذا القبيل ما نسب إلى قدماء أهل اليمن من شعر، وما أضافوه من شعراء وشعر، فجعلوا للتبابعة شعرًا فيه تبجح بأعمالهم وبما قاموا به من فتوح هزت الدنيا في يومها امتدت من أقصى طرف من الأرض إلى أقصى طرفها الآخر من الصين إلى روما، وإلى آخر المعمور الممتد على البحر المظلم، وفيه إيمان بالله وبملائكته، وتبشير بظهور الرسول، وأسف شديد لأنهم ولدوا قبل زمانه، فلم يسعدهم الحظ بإدراكه، وهم لو أدركوه لكانوا أول المؤمنين به، وأول المدافعين عنه، وحيث حرموا من هذه النعمة، نعمة ملاقاته لإعلان إيمانهم به أمامه، فهم يدعون من يأتي بعدهم ممن سيدرك أيامه إلى الذب عنه والدخول في دينه. فيقول "الرائش" منهم، وهو الحارث، في شعر له، ذكر فيه من يملك منهم ومن غيرهم:
ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبي لا يرخص في الحرام
يسمَّى أحمدًا يا ليت أني ... أعمر بعد مخرجه بعام3
وإذا عرفت أن هذا "الرائش"، كان قد حكم قبل "بلقيس"، وبلقيس معاصرة سليمان على زعم أهل الأخبار، وقد كان حكم سليمان في حوالي السنة "969"، قبل الميلاد4، أدركت كم سيكون إذن عمر هذا الشعر المنسوب إلى الحارث الرائش، الذي لقب بهذا اللقب، لأنه كان أول من راش الناس، أي أول من غزا من أهل اليمن، وأول من أصاب الغنائم والسبي، وأدخلها اليمن، فراش الناس5.
__________
1 طبقات "14".
2 ابن سلام، طبقات "62"، الرافعي "1/ 367"، في الأدب الجاهلي "122".
3 المعارف "627".
4 Hastings, p. 686.
5 المعارف "626".(17/377)
وبالمعنى المتقدم نطق التبع "تبع بن كليكرب"، حيث قال:
شهدتُ على أحمد أنه ... رسولٌ من الله باري النسم
فلو مدَّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرًا له وابن عم
ولم يكتف أهل الأخبار بكل هذا، بل زعموا أنه كان كسا البيت وأنه قال في ذلك:
وكسوت بيت الله غير كسائه ... حذر العقاب ليرحم الرحمن
ومقالة الحبرين واليوم الذي ... يتلى الكتاب وينصب الميزان1
وزعموا أن التبع "تبع بن حسان"، أو "تبع الأوسط" كسا البيت الحرام وأطعم الناس بمكة، وقوّلوه هذا البيت:
فكسونا البيت الذي حرم اللـ ... ـه ملاء معضدًا وبرودا2
فالتبابعة هم أول من كسا البيت، وأول من آمن بالله وبرسوله، كانوا مسلمين قبل ظهور الإسلام، وقبل ميلاد الرسول بعشرات المئات من السنين.
ونسبوا لذي جدن الحميري الملك شعرًا، ذكر فيه الموت، حيث يقول:
لكل جنبٍ اجتبى مضطجع ... والموت لا ينفع منه الجزع
اليوم تجزون بأعمالكم ... كل امرئ يحصد مما زرع
لو كان شيء مفلتًا حتفه ... أفلت منه في الجبال الصدع
ونسبوا له أشعارًا أخرى3. وذو جدن من أذواء اليمن، والأذواء بعضهم ملوك وبعضهم أقيال، والقيل دون الملك، والمقول: القيل أيضًا بلغة أهل اليمن. وقد ذكر صاحب "خزانة الأدب" أسماء عدد من الأقيال4. فذو جدن هذا شاعر، متفلسف يذكر الناس بالموت وبما بعد الموت، حيث تجزى كل نفس
__________
1 المعارف "631".
2 المعارف "635".
3 الخزانة "2/ 287 وما بعدها".
4 الخزانة "289 وما بعدها".(17/378)
بما كسبت، ويحصد كل امرئ ما زرعه بيديه في دنياه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ولن يفلت أحد من الموت، وهيهات له ذلك.
ونجد في شعر التبابعة أشعارًا في الحكم وفي الحث على مكارم الأخلاق، وفي حروبهم وفتوحات الإسكندر والفتوحات الإسلامية فيما بعد، فتوحات سبقت الفتوحات الإسلامية بمئات من السنين، حاول صانعوها المبالغة فيها، حتى صيروا الفتح الإسلامي وكأنه ذيل لتلك الفتوح القحطانية التي زرعت "حمير" في الصين وفي تركستان، صنعوا ذلك في الإسلام، لما تبجح عليهم العدنانيون بالإسلام وبلوغه الصين والمحيط الأطلسي.
وذكر أن الشاعر "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" الحميري1، كان ممن أذاع أسطورة "تبع"، وكان يتعصب إلى اليمن2، ولعله هو الذي وضع أكثر الشعر المنسوب إلى التبابعة، وكان عبيد بن شريَّة الجرهمي، ممن صنع الشعر على ألسنة التبابعة وغيرهم، وأضافه إليهم3. ونجد في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني وفي الإكليل، وهو من كتبه أيضًا، شعرًا كثيرًا يرويه على أنه من شعر التبابعة، ومن شعر عاد وثمود، وسادات حمير، وهو مصنوع من دون شك، صنعه المتعصبون لليمن من اليمانية، وقد كانت العصبية قد أخذت مأخذها في الإسلام. والهمداني نفسه من المتعصبين لليمن قبله. وأدخله في كتبه دون أن يسائل نفسه عن كيفية وصول ذلك الشعر من أفواه قائليه إليه، مع بعد الزمن وتقادم العهد، وتكلم أهل اليمن في القديم بكلام لا يشابه كلام الشعراء.
ويدخل في هذه العصبية الشعر المنسوب إلى الشعراء في هجاء قحطان أو عدنان أي في هجاء القحطانية أو العدنانية بتعبير أدق، من ذلك القصيدة التي صنعوها على لسان الأفوه الأودي الشاعر الجاهلي، الذي هو من مذحج، ومذحج من اليمن، التي أولها:
إن ترى رأسي فيه نزع ... وشواي خلة فيها دوار4
__________
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 276"، الأغاني "17/ 51"، الخزانة "2/ 210، 514".
2 الأغاني "17/ 52".
3 von Kremer, Die Sudarabische Sage, S. VII, 78, Nicholson, A Literary History of the Arabs, p. 19.
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 149"، العيني "1/ 421"، الأغاني "11/ 41"، معاهد التنصيص "2/ 159".(17/379)
وهي قصيدة فيها هجاء لبني نزار ولبني هاجر، صنعت ولا شك في الإسلام، وقد زعم أن النبي نهى عن روايتها. وإذا كانت القصيدة مصنوعة، أو أن أبيات الهجاء منها مصنوعة على الأقل، كان حديث النهي عن روايتها مصنوعًا أيضًا، لأن هذا الصنع إنما وقع في الإسلام.
ومن فرسان العصبية اليمانية الشاعر حسان بن ثابت، فقد كان من المتحاملين على قريش، ومن المتعصبين ليثرب ولليمن على قريش ومعد. مع أن الرسول نهى عن أمر الجاهلية، فكان يجالس قريشًا وهو في إسلامه، وينشد الناس ما قالته الأوس والخزرج في قريش ليشفي بذلك غليله. وكان الخليفة عمر قد نهى أن ينشد الناس شيئًا من شعر الهجاء الذي كان بين الأنصار ومشركي قريش حذر تجديد الضغائن، ومع ذلك فإن عصبية حسان لمدينته ولليمن كانت تدفعه على مخالفة ما أمر به1.
ومن هذا القبيل ما فعلته قريش بشعر حسان. فقد "حمل عليه ما لم يحمل على أحد، لما تعاضهت قريش واستبت، وضعوا عليه أشعارًا كثيرة لا تليق به"2، وقد وضعت قريش وأشياعها المتعصبون للعدنانية أشعارًا أخرى على ألسنة بقية شعراء يثرب، أرادت من وضعها الحط من شأنهم، وإلحاق السخف والركة بشعرهم وبهم، وفعل غيرهم فعلهم في إضافة الشعر إلى من كانوا يكرهونه، للنيل منه، فنسبوا إليهم شعرًا سخيفًا مشينًا، أو فيه تحامل وقدح على بعض الناس، للإساءة إليهم بظهور هذا الشعر وانتشاره.
وقد ذكر ابن سلام أن قدامة بن عمر بن قدامة الجمحي، نحل شعرًا على أبي سفيان بن الحارث للنيل منه، وأن قريشًا تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان3. وورد أن قتادة بن موسى الجمحي هجا حسان بن ثابت بأبيات ونحلها أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب4.
وكان الأنصار يقظون، واقفون لقريش بالمرصاد، وكانت قريش يقظة كذلك، إذا سمعت شاعرًا مدح الأنصار ولم يمدحها استاءت منه. فلما قدم كعب بن
__________
1 الاستيعاب "1/ 337 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
2 ابن سلام، طبقات "52".
3 ابن سلام، طبقات "62".
4 الإصابة "3/ 217"، "رقم 7077".(17/380)
زهير يثرب معتذرًا عن كفره، معلنًا إسلامه أمام الرسول، مدح قريشًا وعرّض بعض التعريض بالأنصار لغلظتهم كانت عليه، تجهمته الأنصار وغلظت عليه، ولانت له قريش، غير أنها لم ترض عن مدحه، إذ وجدته قليلًا، وأنكرت عليه ما قال، إذ قالت له: "لم تمدحنا إذ هجوتهم، ولم يقبلوا ذلك منه"1. ولما قدم الحُطَيئَة المدينة أرصدت له قريش العطايا، فعلت ذلك ليخلص لها في المدح، وليصرف مدحه عن الأنصار2.
وندخل في هذه العصبية، العصبية إلى البيوتات، فقد كان قوم سعيد بن العاص بن أمية يذكرون أن سعيدًا كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظامًا له، وينشدون:
أبو أحيحة من يعتم عمته ... يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد
ويذكر الزبيريون أن هذا البيت باطل مصنوع3.
ولم تتورع العصبية والخصومات من الكذب عمدًا على الناس ومن الطعن في الأنساب، فلما اعترض "مزرد" أخو الشمّاخ، وكان عريضًا، "كعب بن زهير" عزاه إلى "مزينة"، وكان "أبو سُلمى" وأهل بيته في غطفان، فقال كعب بن زهير شعرًا يثبت أنه من مزينة، "وقد كانت العرب تفعل ذلك، لا يعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها، إلا قال: أنا من الذين عنيت. كان أبو ضمرة يزيد بن سنان بن أبي حارثة لاحى النابغة فنمّاه إلى قضاعة"، فقال شعرًا يثبت أنه منها4. وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، أدت إلى وقوع النسابين في أخطاء بسبب هذه الأكاذيب.
وقد ساهم الخلفاء الأمويون في هذه العصبية، ساهموا حتى في التزام العلماء والشعراء. "جمع سليمان بن عبد الملك بن قتادة الزهري، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. فقال "القحذمي": لا، لكنه
__________
1 ابن سلام، طبقات "20 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "24".
3 المُزْهِرُ "1/ 181".
4 ابن سلام، طبقات "21 وما بعدها".(17/381)
تعصب للقرشية، ولانقطاعه كان إليهم، ولروايته فضائلهم"1.
وكان معاوية يتعصب لليمن على قيس، وذلك بسبب زواجه من "كلبية"، مع أنه من عدنان. حتى صار من فرط تعصبه لليمن لا يفرض إلا لهم، ولم يزل كذلك حتى كثرت اليمن وعزت قحطان، وضعفت عدنان، فبلغ معاوية أن رجلًا من اليمن قال: هممت أن لا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشام، ففرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس. وكان معاوية يغزي اليمن في البحر وتميمًا في البر، وفي ذلك يقول النجاشي شاعر اليمن:
ألا أيها الناس الذين تجمعوا ... بعكا أناس أنتم أم أباعر
أيترك قيسًا آمنين بدارِهم ... ونركب ظهرَ البحرِ والبحر زاخرُ
فوالله ما أدري وإني لسائلٌ ... أهمدان تحمي ضيمها أم يحابرُ
أم الشرف الأعلى من أولاد حمير ... بنو مالك أن تستمر المرائر
أأوصى أبوهم بينهم أن تواصلوا ... وأوصى أبوكم بينكم أن تدابروا
فرجع القوم جميعًا عن وجههم، فبلغ ذلك معاوية، فسكن منهم. وقال: أنا أغزيكم في البحر لأنه أرفق من الخيل وأقل مئونة، وأنا أعاقبكم في البر والبحر ففعل ذلك2.
وأوجدت هذه العصبية كثيرًا من الشعر المصنوع، روي على أنه من شعر التبابعة، صنع ولا شك في الإسلام، حين بلغت العصبية العدنانية القحطانية ذروتها في أيام الأمويين فما بعد. فلما نظر اليمانيون إلى أنفسهم، وإذا بالحكم لغيرهم. وقد كانت لهم دولة قبل الإسلام، ثم إذ بهم يحكمهم من كان دونهم في الجاهلية، أخذتهم العزة، ودفعتهم العصبية على الاحتماء بالماضي، وإعادة ذكرياته، وما كان لهم من مآثر، ولأجل توكيد ذلك وتثبيته، لجئوا إلى الشعر، ولم يكن لهم شعر في الجاهلية بهذه العربية التي نعرفها، لأنها لم تكن عربيتهم، فصنعوا شعرًا كثيرًا بهذه العربية، نسبوه إلى التبابعة، وارتفعوا به إلى عهود جاوزت الحد المألوف الذي حدده علماء الشعر، لتأريخ ظهور "القصيد" عند
__________
1 البَيَانُ والتَّبْييُن "1/ 243".
2 الخزانة "1/ 466 وما بعدها".(17/382)
الجاهليين، تجد الكثير منه مدونًا في الكتب التي تتعاطف مع اليمانية، مثل كتب الهمداني، ونشوان بن سعيد الحميري.
ولما كان هذا الشعر هو ذكريات أيام اليمن الماضية وأحوالها القديمة، وفي أخبار ملوك حمير وأعمالهم، اتخذ أسلوب القص والفخر، فكثرت أبيات القصائد أحيانًا، وارتبطت الأبيات في المعاني بعضها ببعض، نظرًا لاقتضاء طبيعة القص والأساطير ذلك، وهو يفيدنا من ناحية الوقوف على الأساطير اليمانية القديمة التي أوجدتها مخيلتهم عن تأريخهم القديم، وفي تطور أسلوب القص في الشعر.
ويظهر من عبارة الآمدي: "وهي أبيات تروى لامرئ القيس بن حجر الكندي، وذلك باطل، إنما هن لامرئ القيس الحميري، وهي ثابتة في أشعار حمير"1، أنه قد كان لحمير ديوان فيه أشعارهم، أو أن قومًا منهم أو من غيرهم جمعوا شعر حمير، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من أن يكون هذا الجمع قد وقع في الإسلام، وأن ما فيه من شعر جاهلي، هو من الشعر والمصنوع.
ومن العصبيات عصبية قريش على ثقيف. فقد كانت بين قريش وبين ثقيف خصومة، بسبب طمع أهل مكة في الطائف، وشراء سادات قريش الملك في الطائف لاستغلاله، مما جعل ثقيفًا يكرهون أهل مكة. ثم عامل آخر، ظهر في الإسلام، وهو كره أهل العراق للحجاج، مما جعلهم يذمونه ويذمون ثقيفًا معه. فزعموا أن قومه من بقايا ثمود، وذلك في أيام الحجاج. "رووا أن الحجاج قال على المنبر يومًا: تزعمون أنَّا من بقايا ثمود، وقد قال الله عز وجل: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 2. وذكر "الجاحظ"، زعم الناس هذا في أصل ثقيف، وذكر أن مثل ثمود كمثل بني الناصور، فقد هلكوا في الجاهلية، كما هلك غيرهم من الأمم البائدة، وذكر أن هناك من قال إن أصل "بني الناصور" من الروم3.
وقد وجدت العصبية مرتعًا خصبًا بين الموالي والعبيد، فساهموا فيها أيضًا، فلما رأى جرير "الحَيُقطان" يوم عيد في قميص أبيض وهو أسود، قال:
__________
1 المؤتلف والمختلف "9"، "عبد الستار أحمد فراج".
2 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 187 وما بعدها".
3 البَيَانُ والتَّبْييُن "1/ 187".(17/383)
كأنه لما بدا للناس ... أير حمار لُفّ في قرطاس
فلما سمع بذلك الحيقطان وكان باليمامة، دخل إلى منزله فقال شعرًا افتخر فيه بالنجاشي وبالسودان، وبلقمان وبأبرهة وذم قريشًا ومضر، وتحامل عليهما، ففرحت اليمانية به، وأخذت تحتج به على العدنانية، واحتج بها العجم والحبش على العرب1.
ويلاحظ أن الحبش قد تعصبوا أيضًا على العرب في الإسلام، وتفاخروا بملوكهم وبأبرهة، وقد كان لازدراء الأغنياء لهم، وتسخير أصحاب المال لهم في أداء الأعمال الحقيرة، ونظرتهم إليهم نظرة ازدراء وتحقير، فلم يصاهروهم، ولم يروا أنهم أكْفَاء لهم، مثل العجم على الأقل، أثر في إثارة هذه الضغينة في نفوسهم وفي وقوفهم موقف الضد من العرب. وقد تعرض الجاحظ لذلك، فقال: "وقد قالت الزنج: من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكْفَاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدًا". ثم روى على لسانهم ما قاله بعض الشعراء مثل النمر بن تولب، ولبيد من مدح أبرهة، ثم أعقب ذلك بذكر من برز وظهر من الزنوج2.
ومن أسباب النَّحْل دوافع نشأت عن عاطفة دينية، رأت أن في نحل الشعر على ألسنة الجاهليين، عملًا ليس فيه ضرر ولا إساءة، بل فيه منفعة من ناحية التوعية الدينية والحث على التدين والتزهد، وعمل الخير والإيمان بدين الله، فروت الأشعار على ألسنة المتقدمين في التبشير بظهور الرسول، قبل ميلاده بأمد، وفي الحث على نبذ الوثنية والإيمان بإله واحد. نظم على لسان القحطانيين وعلى لسان العدنانيين، الذين عاشوا قبل الإسلام، كما نظم على ألسنة الجن والهواتف والكهنة.
ومن هذا القبيل ما قيل من شعر في التوحيد وفي الذّبِّ عن الإسلام على لسان أبي طالب وغيره، وفي مدح قريش، وجعلها القبيلة المختارة التي اصطفاها الله من بين سائر العرب ففضلها على العالمين، بأن جعلها الصفوة، وجعل لسانها اللسان الذي نزل به القرآن، فعل أصحاب الصنعة ذلك لنوازع مذهبية، ولعصبية
__________
1 رسائل الجاحظ "1/ 182 وما بعدها"، "فخر السودان على البيضان".
2 رسائل الجاحظ "1/ 197 وما بعدها"، "فخر السودان على البيضان".(17/384)
قبلية سياسية، ذات صلة بالعواطف الدينية، فلم يكن ليهون على أهل يثرب مثلا التسليم بسيادة قريش عليهم، فكان ما كان من وضع قريش الحجج التي تؤيد قريشًا في الجاهلية، وتجعلهم أفضل العرب على الإطلاق، وما كان الأنصار ليقبلوا ذلك بالطبع، فأوجد صناعهم فخرًا وسبقًا لهم على قريش، بأن قالوا إنهم الأنصار وأنهم نصروا رسول الله منذ سمعوا بالإسلام، فلما سمع أبو قيس بن الأسلت وهو من الأوس، مقالة أبي طالب:
ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم ... وقد قطعوا كل العُرى والوسائل
حين أرادوا منه تسليمهم النبي، وأرسل إليهم قصيدة ينهى فيها قريشًا عن الحرب، ويأمرهم بالكفِّ عن رسول الله، إذ يقول:
يا راكبًا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب
وهي قصيدة طويلة دوَّنها ابن هشام في سيرته1، إذا قرأتها خرجت منها أن صاحبها إنما أراد من صنعها على لسان ابن الأسلت إظهار أن أهل يثرب كانوا أول من من دافع عن الرسول والإسلام، وأنهم كانوا أول المؤمنين به، إذ كفرت قريش بدين الله. مع أنه مات مشركًا، ولم يثبت أنه دخل في الإسلام2.
والقصيدة بعد من صنع أناس من الأنصار، لعلهم كانوا من صلبه، وجدوا أن من السهل وضع الشعر على لسانه، فقد كان شاعرًا معروفًا، وكان من سادة يثرب ومن الوافدين على مكة، وله فيها أصحاب ودالة، وفي صنع هذا الشعر فخر للأنصار عظيم، فنسبوا له تلك القصيدة، وجعلوها جوابًا لاستغاثة أبي طالب في قصيدته التي قال ما قال فيها في حق قريش وفي تعنتها تجاه الرسول والإسلام.
ومن هذا القبيل، تطويلهم القصيدة المنسوبة إلى أبي طالب التي قيل إنه قالها في النبي، وهي:
__________
1 سيرة "1/ 180"، "حاشية على الروض".
2 الإصابة "4/ 160"، "رقم 944"، الاستيعاب "4/ 159 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".(17/385)
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فقد زيد فيها وطوِّلت، بحيث صار لا يعرف أين منتهاها1. وقد أورد ابن هشام أشعارًا نسبها إلى أبي طالب منها قصيدته التي رد فيها على قريش حين عرضت عليه تسليم النبي لهم، على أن يعطوه في مقابله عمارة بن الوليد، وقد دوَّنها ابن هشام، وذكر أنه ترك منها بيتين أقذع فيهما2. ومنها قصيدة:
ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم ... وقد قطعوا كل العُرى والوسائل
وهي قصيدة طويلة، قال عنها ابن هشام: "وبعض أهل العلم ينكر أكثرها"3.
ومن هذا القبيل ما وضع من شعر في الأحداث التي وقعت بين المسلمين والمشركين في أيام الرسول، مثل معركة بدر وبقية المعارك، فقد وضع الناس شعرًا كثيرًا على لسان المسلمين والمشركين، ونجد ابن هشام يقول في تعليقه على شعر لأبي أسامة معاوية بن زهير، وكان مشركًا، وقد مر بهبيرة بن أبي رهم، وهو منهزم: "وهذه أصح أشعار بدر"4، ونجد ابن هشام، يعلق ويصحح ويشكك في صحة بعض هذا الشعر الذي أخذه من ابن إسحاق وقد طعن على ابن إسحاق لأنه أخذ مثل هذا الشعر فأدخله في السيرة، مع أنه شعر مصنوع5.
ومن هذا القبيل ما روي من أهل امرأة من حضرموت ثم من "تنعة" صنعت لرسول الله كسوة، أرسلتها مع ابنها كليب بن أسد بن كليب إلى رسول الله، فأتاه بها وأسلم، فدعا له، فقال حين أتى النبي:
من وشَزِ برهوت تهوى بي عذافرة ... إليك يا خير من يحفى وينتعل
تجوب بي صفصفًا غبرًا مناهله ... تزداد عفوًا إذا ما كلت الإبل
__________
1 ابن سلام، طبقات "60"، المُزْهِرُ "1/ 179".
2 ابن هشام "1/ 171 وما بعدها"، "حاشية على الروض".
3 ابن هشام "1/ 179"، "حاشية على الروض".
4 ابن هشام "2/ 115"، "حاشية على الرَّوض الأُنُف".
5 الرَّوضُ الأُنُفُ "2/ 107 وما بعدها".(17/386)
شهرين أعملها نصًّا على وجل ... أرجو بذاك ثواب الله يا رجل
أنت النبي الذي كنا نخبره ... وبشرتنا بك التوراةُ والرسل1
والذي نعرفه أن لسان أهل حضرموت لم يكن في هذا العهد على هذا البيان والعربية، وإنما كان على عربية حضرموت، ولا أدري إذا كان هذا الرجل يعرف شيئًا عن التوراة والرسل، أو سمع باسم التوراة وبالرسل حتى يذكرها ويذكر رسل الله في هذا الشعر.
ومن هذا النوع ما روي من شعر الجن والهواتف: من مثل الشعر المبشر بقرب ظهور نبي، كما في قصة راشد بن عبد ربه السُّلمي التي رواها عن سبب إسلامه، وما سمعه من هاتف يصرخ من جوف الصنم، بظهور نبي2، أو من شعر آخر، قيل على ألسنة الجن، في أغراض مختلفة وهو كثير، من ذلك قولهم:
وقبر حربٍ بمكانٍ قفر ... وليس قرب قبر حربٍ قبر
وقائله مجهول. فلما رأوا أن من الصعب إنشاده ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج، قيل لهم: إنه من شعر الجن. فصدقوا بذلك3.
وذكر أهل الأخبار اسم شاعر من الجن، قالوا له: "مالك بن مالك" الجني. فقد زعموا أن خريم بن فاتك الأسدي، خرج في بغاء إبل له، فأصابها بالأبرق، فقال: أعود بعظيم هذا الوادي، فإذا هاتف يهتف:
ويحك عذ بالله ذي الجلال ... منزل الحلال والحرام
فقال خريم:
يا أيها الداعي فما تحيل ... أرشد عندك أم تضليل
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 350"، "وفد حضرموت".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 317".
3 البَيَانُ والتَّبْييُنُ "1/ 65".(17/387)
فقال الهاتف:
هذا رسولُ الله ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات
محرمات ومحللات ... يأمرنا بالصوم والصلاة
فقال خريم: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا مالك بن مالك، بعثني رسول الله على جن أهل نجد1.
وروى أهل الأخبار شعرًا لشاعر آخر من الجن اسمه "مالك بن مهلهل بن إياد" ويقال "دثار"، زعموا أنه أحد من أسلم من الجن، رووا له قصة مع رافع بن عمير التميمي المعروف بـ "دعموص الرمل"، لأنه كان أعرف الناس لطريق وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، وقعت له برمل عالج، لما قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن أن أوذى أو أهاج. فهتف به هذا الجني الشاعر، وأمره أن يذهب إلى يثرب، ليسلم أمام الرسول2.
ومن ذلك ما روي من حديث عن قُسّ بن سَاعِدة، وما رواه صاحب الحديث من صوت هاتف يقول:
يا أيها الرَّاقدُ في الليل الأحم ... قد بعث الله نبيًّا في الحرم
من هاشم أهل الوقار والكرم ... يجلو دجنات الليالي البهم
ثم قول صاحب الحديث للهاتف:
يا أيها الهاتف في دجى الظُّلم ... أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بين هداك الله في لحن الكلم ... من الذي تدعو إليه تغتنم
ثم جواب الهاتف عن سؤاله بقوله:
الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبثا
ولم يخلنا سدى ... من بعد عيسى واكثرث
أرسل فينا أحمدا ... خير نبي قد بعث
صلى عليه الله ما ... حج له ركب وحثّ3
__________
1 الإصابة "3/ 333"، "رقم 7684"، "1/ 423"، "رقم 2246".
2 الإصابة "3/ 335"، "رقم 7692".
3 الخزانة "1/ 264"، "بولاق".(17/388)
وللجن أشعار، ولها مع الإنس حوار. وللأعراب خاصة في الجن قصص وحكايات، وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب يتزيدون في هذا الباب1. والحديث عن الجن من الأحاديث التي يميل لسماعها الناس لما فيها من غريب وطريف واختراع، مالوا إلى سماعها في الجاهلية وفي الإسلام، ونجد لأبي المطراد "المطراب" "عبيد بن أيوب العنبري"، وهو شاعر إسلامي، وكان لصًّا قد جنى جناية فنذر السلطان دمه وخلعه قومه، قصص وأشعار كثيرة عن الجن والوحوش، أخبر: "في شعره أنه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي، ويأكل مع الظباء"2. ونجد في كتاب "الحيوان" وفي كتب الأخبار والأدب والسير طرفًا من أشعار الجن والغيلان والسعالي، وطرفًا من أخبارهم وأحاديثهم مع الإنس.
ومن هذا القبيل ما نسب إلى "جذع بن سنان" من شعر زعم أنه جرى له من الجن، وهو:
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا صباحًا
نزلت بشعب وادي الجن لما ... رأيت الليلَ قد نشرَ الجناحا
أتيتهم وللأقدارِ حتم ... تلاقي المرءَ صبحًا أو رواحا
وجذع شاعر جاهلي قديم، من غسان، وهو الذي ضرب به المثل بقولهم: خذ من جذع ما أعطاك. والشعر المذكور من أكاذيب العرب3.
وللأعشى إشارة إلى الجن، بقوله:
وسخر من جن الملائك سبعة ... قيامًا لديه يعملون بلا أجر4
وفي شعره مواضع أخرى تعرض فيها إلى ذكر الجن.
وقد تحدث المعري عن "شعر الجن"، تحدث عنهم في رسالة الغفران
__________
1 الحيوان "6/ 164".
2 الشِّعْرُ والشُّعرَاءُ "2/ 668"، الخزانة "3/ 213"، الحيوان "6/ 165".
3 وهي من قصيدة تجدها في الخزانة "3/ 6"، "بولاق".
4 الخزانة "2/ 6"، "بولاق".(17/389)
فكلم أحدهم واسمه "الخيتعور"، أحد "بني الشيصبان"، فقال له: "أخبرني عن شعر الجن، فقد جمع منها المعروف بالمرزباني قطعة صالحة، فيقول ذلك الشيخ: إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وإنما لهم خمسة عشر جنسًا من الموزون قَلّمَا يعدوها القائلون، وإن لنا آلاف أوزان ما سمع بها الإنس"1. ثم يقول الجني له: إن في الجن شعراء، من لا يعدل "امرئ القيس" أضعفهم شعرًا، ثم يروي قصيدة للمتكلم معه، وهو "أبو هدرش"2.
وروى حديثًا في رسالة الغفران عن قصص تأبَّط شَرًّا مع الغيلان، ثم أجاب على لسانه، قال له: "أحق ما روي عنك من نكاح الغيلان؟ "، ثم أجاب على لسانه بقوله: "لقد كنا في الجاهلية نتقوَّل ونتخرَّص، فما جاءك عنا مما ينكره المعقول، فإنه من الأكاذيب". ثم روى الشعر المنسوب إليه، وهو:
أنا الذي نكح الغيلان في بلد ... ما طلّ فيه سماكيّ ولا جادا3
وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب يعتقدون بالجن، وقد تصوروهم -كما سبق أن تحدثت عن ذلك- مثلهم، قبائل وعشائر، لهم ملوك وسادات فما كانوا يروونه عنهم وعن اتصالهم بهم، يمثل حقيقة في نظرهم، وكما كان يضعه الوضاعون من شعر على ألسنتهم، يقبل ويصدق عندهم، ويسمع إليه بتلهف، ولا سيما القسم الغريب منه، إذ كانوا يتلذذون بسماعه، ويذكر معه في العادة قصص لشرح المناسبة التي قيل فيها الشعر، على طريقتهم في رواية أخبار "الأيام". فالقصص المتعلق بالجن، باب من أبواب التسلية التي كان يتسلى بها أهل الجاهلية، بل بقي من القصص المستملح المطلوب سماعه حتى اليوم.
ومن هذا القبيل، ما ورد في أيام العرب من شعر، ففي هذا الشعر ما شاء الله من المنحول. نُحِلَ تمجيدًا لقبيلة أو لبطل من أبطالها، أو للغض من شأن قبيلة معادية، اشتركت معها في قتال، وفي أخبار هذه الأيام تعصب وتحزب، ولذلك يجب النظر إليها بحذر شديد.
__________
1 رسالة الغفران "291".
2 رسالة الغفران "295 وما بعدها".
3 رسالة الغفران "359".(17/390)
وشعر الشواهد من الأبواب التي فتحت المجال لنحل الشعر. قال عنه الرافعي: "وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو"1. وقد كانوا يستشهدون بأشعار الجاهليين والمخضرمين. ونظرًا لوجود عنصر التفوق والتغلب على الخصوم وإظهار العلم، ولوجود العصبية اندفع البعض إلى افتعال الشواهد والإتيان بالغريب وبما هو غير معروف. وقد اتهم الكوفيون بأنهم كانوا أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها، لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولا يقاس عليها. ولهذا وأشباهه اضطروا إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم، وتجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر. ومن أجل هذا كان البصريون يغتمزون على الكوفيين. فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكواميخ2. على أن البصريين، لم يكونوا ملائكة بالنسبة إلى افتعال الشواهد، فقد أدلوا فيه بدلوهم كذلك، وإن قيل: إنهم كانوا أقل فعلًا في ذلك من الكوفيين. ذكر أن سيبويه سأل اللاحقي هل تحفظ العرب شاهدًا على إعمال "فعل" الصفة؟ قال اللاحقي، فوضعت له هذا البيت:
حذر أمورًا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأعداء3
ومن ذلك ما رواه الزجاجي في: "مجالس العلماء"، من نزاع وقع بين الطبري وبين أبي عثمان في السكين: مذكر أم مؤنث، ومن استشهاد أبي عثمان بشعر رواه الفراء، هو:
فعيث في السنام غداة قر ... بسكين موثقة النصاب
وجوابه: "لمن هذا ومن صاحبه؟ وما أراه إلا أُخرج من الكم، وأين صاحب هذا عن أبي ذؤيب حيث يقول:
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 370".
2 الرافعي "1/ 371".
3 المُزْهِرُ "1/ 180"، الرافعي "1/ 371 وما بعدها".(17/391)
فذلك سكين على الحلق حاذق"1.
ومن ذلك ما ذكره خلف الأحمر على ألسنة القدماء في ورود لفظة "عشار" في كلام العرب، إذ روى هذه الأبيات:
قل لعمرو يا ابن هند ... لو رأيت اليوم سنا
لرأت عيناك منهم ... كل ما كنت تمنى
إذ أتتنا فليق شهـ ... ـبا من هنا وهنا
وأتت دوسر والملـ ... ـحاء سيرًا مطمئنا
ومشى القوم إلى القو ... م أحادى ومثنى
وثلاثا ورباعًا ... وخماسًا فأطعنا
وسداسًا وسباعًا ... وثمانًا فاجتلدنا
وتساعًا وعشارًا ... فأصبنا وأصبنا
لا ترى إلا كميا ... قائلا منهم ومنا
"ودلائل الوضع في هذه الأبيات ظاهرة. وكان خلف الأحمر متهمًا بالوضع"2.
ويدخل في باب نحل الشعر عامل آخر، هو الاستشهاد بالشعر لتأييد الخلافات القائمة بين المذاهب في إثبات رأي، أو في تفسير آية، تفسيرًا يؤيد رأي ذلك المذهب. فقد زعم أن المعتزلة، قالت في تفسير الآية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} ، أي علمه، وأنهم جاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر:
ولا بكرسي علم الله مخلوق3
وهو قول وإن روي عنهم وقيل، لا أدري، إذا كان قد صدر منهم، أو أنه صنع عليهم، وقد ورد في خبر أن عبد الله بن عباس، كان يقول: الكرسي: العلم. وأنه فسر الآية بهذا المعنى. على كل فقد فسر المفسرون لفظة
__________
1 مجالس العلماء "ص129"، "الكويت 1962"، "عبد السلام محمد هارون".
2 الخزانة "1/ 82"، "بولاق".
3 الرافعي "1/ 373".(17/392)
"الكرسي" تفاسير مختلفة، وذلك تحاشيًا من الوقوع في التشبيه، من كونه تعالى يجلس على كرسي شبه كراسينا، ولذلك مالوا إلى التأويل. وذكر في رواية أخرى، أن "ابن عباس" كان يرى أن الكرسي موضع القدمين، "ومن روي عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل"1.
ونظرًا إلى ما كان للمذهبية من أثر في الناس في ذلك العهد، فلا أستبعد احتمال الوضع على ألسنة المذاهب، لذا يجب الحذر من الإسراع في التصديق بصحة الشواهد المقالة على لسان مذهب، ونقدها نقدا علميًّا دقيقًا، بالتفتيش عنها في كتب أهل ذلك المذهب، فقد يجوز أن تكون قد وضعت عليهم وضعًا، ومثل هذا الوضع شيء معروف.
ومن أبواب نحل الشعر ما قيل على لسان آدم فمن دونه من الأنبياء من شعر. فقد زعموا مثلا أن قابيل حين قتل أخاه هابيل رثاه أبوه آدم، فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم:
أبا هابيل قد قتلا جميعا ... وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرة قد كانك منها ... على خوف فجاء بها يصيح2
ثم ما قيل على لسان الأمم البائدة، والشعوب الهالكة مثل عاد وثمود وقوم تبع، وطسم وجديس، وزرقاء اليمامة، من أشعار زعم أنهم قالوها، وهي من نظم القصاصين وأصحاب السمر والحكايات، وعشاق الأساطير والخرافات، لما وجدوا ميلًا عند الناس إلى الاستماع لمثل هذه الأشعار. فكانوا "يأتون بمثل تلك الأشعار على وهنها وتداعيها ويعزونها إلى القدماء، ثم يزعمون إنهم أخذوها من
__________
1 تاج العروس "4/ 232"، "كرس".
2 تأريخ الطبري "1/ 145"، تفسير الطبري "1/ 122"، "طبعة بولاق".(17/393)
الصحف، ويروونها للأمم البائدة وغيرهم"1. من ذلك ما نسبوه من شعر إلى "معاوية بن بكر"، وكان في أيام عاد، مقيما بظاهر مكة خارجًا من الحرم، زعموا أنه قاله لما استثقل طول مكث وفد "عاد" وفيه "لقمان بن عاد" عليه، وألهمه إلى قينتيه لتغنيا به أمام الوفد، وهو:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إنّ عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نسائهم عياما
وإن الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتهم ... نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لُقُّوا التحية والسلاما
فأجابه جلهمة بن الخيبري:
أبا سعد فإنك من قبيل ... ذوي كرم وأمك من ثمود
فإنا لن نطيعك ما بقينا ... ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك آل رفد ... وزمل وآل صد والعبود
ونترك دين آباء كرام ... ذوي رأي ونتبع دين هود2
ومن ذلك ما نسبوه من شعر إلى "مرثد بن سعد بن عفير" زعموا أنه قاله حين سمع خبر هلاك عاد، إذ قال:
عصت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشًا ما تبلهم السماء
وسير وفدهم شهرا ليسقوا ... فأردفهم من العطش العماء
بكفرهم بربهم جهارًا ... على آثار عادِهِمُ العفاء
ألا نزع الإله حلوم عاد ... فإن قلوبهم فقر هواء
__________
1 الرافعي "1/ 375 وما بعدها"، الخزانة "4/ 202"، "بولاق".
2 الطبري "1/ 220 وما بعدها"، "ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم"، تفسير الطبري "8/ 154"، جمهرة أشعار العرب "41".(17/394)
من الخبر المبيّن أن يعُوه ... وما تغني النصيحة والشفاء
فنفسي وابنتايَ وأم ولدي ... لنفس نبينا هود فداء
أتانا والقلوب مصمدات ... على ظلم وقد ذهب الضياء
لنا صم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء
فأبصره الذين له أنابوا ... وأدرك من يكذبه الشقاء
فإني سوف ألحق آل هود ... وإخوته إذا جن المساء1
فلما هلكت هاد، فلم يبق منهم إلا "الخلجان"، قال:
لم يبق إلا الخلجان نفسه ... يا لك من يوم دهاني أمسه
بثابت الوطء شديد وطسه ... لو لم يجئني جئته أجسه2
ورووا شعرًا لأحد شعراء ثمود اسمه "مهوس بن عنمة بن الدميل" هو قوله:
وكانت عصبة من آل عمرو ... إلى دين النبي دعوا شهابا
عزيز ثمود كلهم جميعا ... فهم بأن نجيب ولو أجابا
لأصبح صالح فينا عزيزا ... وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكن الغواة من آل حجر ... تولوا بعد رشدهم ذنابا3
ويروي أهل الأخبار أنه قد كان لأهل الجاهلية شعر كثير قيل في عاد وثمود وأمورهم، يأتون به دليلًا على شهرة أمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام4. من ذلك ما أوردوه على لسان "أفنون" التغلبي، من قوله:
لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... غذيّ سخْل ولقمان وذا جدان5
ومن هذا القبيل ما نسب إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض" الجرهمي، وإلى "الحارث بن مضاض"، من شعر. وهو عند أهل الأخبار أحد المعمرين
__________
1 الطبري "1/ 223 وما بعدها".
2 الطبري "1/ 224".
3 تفسير الطبري "8/ 159"، "بولاق".
4 الطبري "1/ 232".
5 الزجاجي، مجالس العلماء "42".(17/395)
القدماء، زعموا أنه قال شعرًا لما أجلت "خزاعة" "جرهم" عن الحرم، هو:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
وزعموا أنه مد في عمره إلى أن أدرك الإسلام1.
ونجد في شعر "النمر بن تولب" ذكر "لقمان"2. ونجد في أشعار شعراء آخرين إشارات إلى هؤلاء وغيرهم ممن كانت تذكرهم الأساطير وتروي أخبارهم الناس، على نحو ما نسمعه من العجائز عن قصص الماضين، وقد أشرت إلى أسماء بعض منهم في ثنايا هذا الكتاب.
وقد سبق أن ذكرت أن هذا النوع من الأساطير، لم يفت على بال بعض العلماء النقدة، وأنهم أشاروا إلى أنه من صنع جماعة من صناع الأساطير والقصص، فقد قال "ابن سلام": "وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل منه كل غثاء محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير والمغازي، قبل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به فأحمله، ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء، فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة وليست بشعر إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ ألوف من السنين؟ والله تعال يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي لا بقية لهم. وقال أيضًا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . وقال في عاد: {هَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . وقال: وقررنا بين ذلك كثيرًا"3.
ولكن أوسع وأظهر أبواب نحل الشعر، هو ما وضعه رواة الشعر على ألسنة الشعراء الجاهليين، وهو ما دعاه "الرافعي": ب "الاتساع في الرواية".
__________
1 المرزباني، معجم "10"، ابن هشام، سيرة "1/ 82 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/80 وما بعدها".
2 الخزانة "4/ 441"، "بولاق".
3 المزهر "1/ 173"، "النوع الثامن: معرفة المصنوع".(17/396)
ونقصد به ما صنعه الرواة من وضعهم قطعًا وقصائد على ألسنة الشعراء الجاهليين لم يقولوها، ومن إضافتهم أشعارًا على قصائد الجاهليين، أو إدخال شعر شاعر في شعر غيره: هوى وتعنتًا1. فهذا الباب هو أخطر أبواب نحل الشعر وأوسعها وأهمها، ويغطي معظم الشعر المنحول. صنعوه، لرواج سوق الشعر الجاهلي في تلك الأيام وللطلب الكثير الذي كان إذ ذاك عليه. وللربح الذي كان يجنيه حامله من روايته، مما حمل الرواة على وضع الشعر بصوغه على قوالب الشعر الجاهلي وعلى مضامينه وطرقه في التنقل في القصيدة، وقد أجاد فيه أساتذة الصنعة من أمثال "حماد" الراوية و "خلف" الأحمر، وليس في الرواة جميعًا من يدانيهما في الصنعة وإحكامها، فهما طبقة في التأريخ كله2.
ومن أمثلة المصنوع أبيات مطلعها:
قل لعمرو يا ابن هند ... لو رأيت القوم شنا
أنشدها خلف الأحمر، وهي مصنوعة3.
ومن أمثلة التطويل في الشعر، ما فعلوه بأبيات الطيرة للحارث بن حلزة، وهي أربعة أبيات، ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة. والأبيات هي:
يا أيها المزمع ثم انثنى ... لا يشك الحادي ولا الشاحج
ولا قعيد أعضب قرنه ... هاج له من مربع هائج
بينا الفتى يَسْعَى ويُسعى له ... تاح له من أمره خالج
يترك ما رقح من عيشه ... يعيش منه همج هائج4
وروي أن قول الأعشى:
كتميل النشوان ير ... فل في البقيرة وفي الأزارة
__________
1 الرافعي "1/ 379".
2 الرافعي "1/ 383".
3 المزهر "1/ 178 وما بعدها".
4 الرافعي "1/ 384".(17/397)
هو من قصيدة مصنوعة1. وروى "أبو عبيدة" عن "أبي عمرو"، أنه قال: والله ما كذبت فيما رويته حرفًا قط، ولا زدت فيه شيئًا إلا بيتًا في شعر الأعشى، فإني زدته، فقلت:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا2
وروي أن "حمادًا كان يقول: ما من شاعر إلا وقد حققت في شعره أبياتًا فجازت عنه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت. قيل له: وما البيت؟ فقال:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت"3.
فأنت أمام روايتين متناقضتين، رواية تنسب وضع البيت إلى "أبي عمرو بن العلاء"، ورواية تنسب وضع ذلك البيت إلى "حماد". وسبب التناقض العصبية ولا شك.
ويجب أن نضيف على الشعر المصنوع على ألسنة الجاهليين، الشعر الذي وضع على ألسنة الصعاليك واللصوص، فقد كان الناس يتسقطون أخبار هؤلاء ويتلذذون بسماع مغامراتهم وسطوهم، شأن الناس في كل وقت ومكان من الميل إلى التلذذ بسماع مثل هذه الأخبار، وهذا ما حمل صناع الأخبار والأساطير على وضع الشعر على ألسنة الصعاليك واللصوص لتزيين أخبارهم وترصيعها به، على طريقتهم في رواية أيام العرب وأخبارهم، وفي شعر هذه الطبقة شعر كثير مصنوع.
وهناك شعر وضع للتسلية وللهو من ذلك شعر الفسق والمجون، من ذلك ما نسب إلى "ابنة الخس" من قول، هو:
سلوا نساء أشجع ... أي الأيور أنفع
أألطويل النعنع ... أم القصير المردع
أم الذي لا يرفع ... أم الأسك الأصمع
__________
1 الزجاجي، مجالس العلماء "130".
2 الزجاجي، مجالس العلماء "235".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 383 وما بعدها".(17/398)
في كل شيء يطمع ... حتى القريص يصنع1
وابنة الخس، في زعم أهل الأخبار، جاهلية قديمة من إياد، أدركت القلمس، أحد حكام العرب، "ولها أسجاع كثيرة وشعر قليل. وكانت تحاجي الرجال" إلى أن حاجها رجل، فقال لها قولًا بذيئًا أخجلها، فتركت المحاجاة2. وأورد الشريف "المرتضى" لها أجوبة عن أسئلة معضلة محيرة، لتحزر جوابها، وذكر أجوبتها، رواية عن "ابن الأعرابي"3.
والشعر الذي نسبه "أبو محمد ثابت بن أبي ثابت" إليها، هو من الشعر المصنوع بالطبع، وضع على لسان "ابنة الخس"، وقد نص "تاج العروس" على أن قائله "جارية كانت جلعة"4، وهو من وضع المُجّان، الذين كانوا يتلذذون بسماع هذا النوع من المجون.
وكان "ابن أبي كريمة"، يصنع الشعر وينحله بعض شعراء البادية، كما صنع في قصيدة له في وصف الفأر، نحلها "يزيد بن ناجية" السعدي، "وكان لقي من الفأر جهدًا، فدعا عليهن بالسنانير"، وكان يصطنع شعر الفكاهة، ويحاكي فيه "الحكم بن عبدل" الأسدي5. وهناك كثير من أضرابه، ممن وضع الشعر للتسلية وللتفكهة على ألسنة الأعراب والشعراء الجاهليين.
وقد وضع "خلف الأحمر قصائد عدة على فحول الشعراء، ذكروا منها قصيدة الشنفري المشهورة بلامية العرب. وروي عن الاصمعي قوله: سمعت خلقًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما6
__________
1 كتاب خلق الإنسان "279"، "لابن أبي ثابت"، المخصص "2/ 31"، اللسان "8/ 271"، "قرضع"، "لم يذكر اسم قائله"، "8/ 358"، "ولم يذكر اسم قائله كذلك"، تاج العروس "5/460"، "قرصع"، "قاله أبو عمرو، وأنشد لجارية كانت جلعة"، "5/ 527"، "نعنع".
2 بلوغ الأرب "1/ 239".
3 أمالي المرتضى "1/ 220".
4 تاج العروس "5/ 527"، "نعنع".
5 البخلاء "282 وما بعدها"، "الحكم بن عبدل" من شعراء أيام الأمويين.
6 الرافعي "1/ 381".(17/399)
ومما يدخل في هذا الباب أننا نجد بيتًا أو أبياتًا تنسب في أحد الموارد لشاعر، بينما نرى ديوانه خاليًا منه أو منها، من ذلك ما رواه "المعري"، من أنه لما كان ببغداد، شاهد بعض الوارقين يسأل عن قافية "عدي بن زيد" التي أولها:
بكر العاذلات في غلس الصبـ ... ـح يعاتبنه أما تستفيق
وزعم الوراق أن بعض طلاب شعر هذا الشاعر سأل عن هذه القصيدة، وطلبت في نسخ من ديوان "عدي" فلم توجد. ثم سمع بعد ذلك رجلًا من أهل "استرباذ" يقرأ هذه القافية في ديوان "العبادي"، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم1. وذكر أشياء أخرى من هذا القبيل، تراها في كتاب أو في نسخة من نسخ ديوان الشاعر، بينما لا تراها في نسخ الديوان الأخرى، مما يدل على أن الدواوين لم تكن متفقة في النص، وأنها رويت بروايات مختلفة، وأن في بعضها ما يزيد على البعض الآخر2.
ونحل الشعر، وإن وقع وحدث، غير أن أمره لم يفت على بال العلماء المهرة الحاذقين، ودليل ذلك، ما نجده في كتبهم من الإشارات إلى المنحول والمصنوع من الشعر، ومن نصهم عليه، وإن فات عليهم بعضه، ومن نصهم على المنحول ومن ملاحظاتهم تلك أخذ المستشرقون والمحدثون من العرب آراءهم في الشعر الجاهلي، فما أورده "ماركليوث" مثلا من نقد على الشعر الجاهلي، أو ما أورده "الدكتور طه حسين" من رأي فيه، ليس فيه شيء جديد، وجديده الوحيد، هو في التهويل بمقدار المغشوش من هذا الشعر، أما من حيث المبدأ، أي من حيث وجود شعر منحول فاسد، في الشعر الجاهلي، فالقدماء والمحدثون والمستشرقون متفقون في ذلك، وخلافهم الوحيد، هو في مقدار نسبة الفاسد من الشعر بالنسبة إلى الصحيح.
فما قيل عن نحل الشعر إذن هو قول قديم. روي عن الأصمعي أنه قال: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس، فهو من حماد الراوية إلا نتفا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء"3. وروي عن "حماد" الراوية قوله:
__________
1 رسالة الغفران "146 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "513".
3 مراتب النحويين، لأبي الطيب اللغوي "72".(17/400)
"دخل علينا ذو الرمة الكوفة، فلم نر أحسن ولا أفصح ولا أعلم بغريب منه. فغم ذلك كثيرًا من أهل المدينة، فأرادوا الكيد له بامتحانه، فصنعوا شعرًا على ألسنة بعض الجاهليين، وأنشدوه إياه، فعلم ذلك "ذو الرمة" بعلمه وبمعرفته للشعر الجاهلي، أنه شعر مصنوع، فقال لهم: "ما أحسب أن هذا من كلام العرب"1.
وقد زيد في شعر "امرئ القيس" كثيرًا، وقد عده علماء الشعر من المقلين، وجعل بعضهم الصحيح من شعره نيفًا وعشرين شعرًا بين طويل وقطعة2. وفي جملة ما نسب إليه القصيدة المسمطة، وهي:
توهمت من هند معالم أطلال ... عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصايف ... يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف ... وكل مسف ثم آخر مرادف
بأسحم من نوء السماكين هطال3
ونرى "ابن سلام" يقول: "ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد. والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك. فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير، ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة"4. ولما تحدث عن "عبيد بن الأبرص" قال: "عبيد بن الأبرص، قديم عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
__________
1 الأغاني "16/ 117".
2 العمدة "1/ 105".
3 العمدة "1/ 176".
4 طبقات "10 وما بعدها".(17/401)
ولا أدري ما بعد ذلك"1. فهو مع علمه الواسع بالشعر، واستشهاد العلماء بكلامه وبآرائه في الشعر، لا يعرف لعبيد غير هذا الشعر، مع العلم بأنه قد توفي سنة "231هـ"، وفي أيامه كان الناس يموتون في طلب الشعر الجاهلي. ونجد "ابن قتيبة" المتوفى بعده "270هـ"، يذكر له شعرًا مطلعه:
يا عين فابكي بني ... أسد هم أهل الندامة2
ثم قوله مخاطبًا امرأ القيس:
يا ذا المخوفنا بقتل أبيه إذلالا وحينا
أزعمت أنك قد تلت سراتنا كذبا ومينا3
ثم قوله:
هلا سألت جموع كندة يوم ولّوا هاربينا4
وقد ذكر "ابن سلام" أن الرواة قد وضعوا على "عدي بن زيد"شعرًا كثيرًا، وعلل ذلك بقوله: "وعبيد بن زيد، كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فلان لسانه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد. واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله أبع قصائد غرر روائع مبرزات، وله بعدهن شعر حسن"5. ولابن قتيبة هذا الرأي فيه، حيث يقول: "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جدًّا، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة. وله أربع قصائد غرر"6. وذكر نقلا عن "أبي عبيد" عن "أبي عمرو بن العلاء" أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانيًّا من عباد الحيرة، قد قرأ الكتب"7.
__________
1 طبقات "11، 31".
2 الشعر والشعراء "1/ 50"، ديوان عبيد "125".
3 الشعر والشعراء "1/52"، "ديوان عبيد "136".
4 الشعر والشعراء "1/58".
5 طبقات "31"، العمدة "1/ 104".
6 الشعر والشعراء "1/150".
7 الشعر والشعراء "1/ 154".(17/402)
وقد تعرض القدماء لموضوع الشعر المقال على ألسنة الأمم القديمة وملوكها، فرفض "ابن سلام" ذلك الشعر، بقوله: "وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف، وذلك يدل على إسقاط عاد وثمود وحمير وتبع"1. إذن فما أضيف إلى هؤلاء وإلى أهل اليمن هو شعر منتحل.
ومن أصحاب البصر والنظر في الشعر: "خلف الأحمر". "وقد كان أبو عمرو بن العلاء وأصحابه لا يجرون مع خلف الأحمر في حلبة هذه الصناعة، أعني النقد، ولا يشقون له غبارًا، لنفاذه فيها، وحذقه بها، وإجادته لها"2. وعلمه بالشعر، جعله من كبار الوضاعين له على ألسنة الجاهليين.
وبعد، فإننا لا نستطيع بالطبع التصديق بصحة الشعر المنسوب إلى آدم والجن والتبابعة وأهل العربية الجنوبية وغيرهم ممن لا يعقل قولهم الشعر العربي، وإن نص على صحة ذلك الشعر، ورواه العلماء. أما سبب رفضنا قبول الشعر المنسوب إلى أهل العربية الجنوبية من ملوك وأقيال ورؤساء، فلأنهم كانوا يتكلمون ويكتبون كما هو ثابت لدينا من نصوصهم بلغة تختلف عن لغة الشعر المألوفة، ولو تصورنا أنهم كانوا ينظمون الشعر بلغة الشعر المعروفة، ويكتبون ويتكلمون بلغة أخرى، فإننا نكون قد قلنا برأي مخالف للمعقول وللمنطق، ونكون قد أوجدنا لهم لغة للشعر ولغة للنثر، وهو افتراض لا يمكن لأحد إثباته، ثم إن لغة التدوين تكون في العادة لغة الأدب عامة من شعر ومن نثر، لذا فإذا قفلنا بوجود شعر جاهلي للعرب الجنوبيين، قلنا يجب أن يكون هذا الشعر بلغتهم، لا بلغة هذا الشعر الجاهلي الذي نتحدث عنه.
وبعد، فلعل قائلًا يقول: وما فائدة الشعر الجاهلي إذن، إذا كان هذا شأنه فيه المنحول والفاسد، وما يشك في أصله والجواب: إن العلماء، وإن اختلفوا فيه، مجمعون ومتفقون على أن رواة هذا الشعر وحملته كانوا من أعلم الناس بالجاهلية: بأخبارها وبأيامها وبأنسابها، وبأنهم كانوا من أمرس الناس بالشعر الجاهلي وبطرقه ودروبه، فهم إن وضعوا ولفقوا، أو كيفوا، فإنهم لا يضعون عن جهل وعمى، بل عن علم وفهم بالجاهليين وبمذاهبهم في نظم
__________
1 طبقات "11".
2 العمدة "1/ 117".(17/403)
الشعر والتفسير، ولا سيما أن العهد بينهم وبين الجاهلية لم يكن طويلًا، وأن الأخذ عمن شهد الجاهلية أو أخذ منهم وسمع كان ممكنًا يسيرًا، ومن هنا كان ما رووه من شعر جاهلي مادة مهمة للمؤرخ مهما قيل في أمره.
ثم إننا حين نروي الشعر الجاهلي، فلا نرويه أو ننشده، أو نحفظه لأنه شعر مقدس، لا يجوز أن يمسه أحد بسوء، وأنه تراث خالد، إذا تعرض له إنسان أو تحرش به، فإنما هو يتعرض لأثر تأريخي قديم من آثار هذه الأمة، وإنما نرويه على أنه من مرويات العلماء، وأنه مهما قيل فيه وفي أصله، فإنه يحاول أن يصور لنا أحوال زمن سبق الإسلام، وهو زمن مهم جدًّا بالنسبة لنا، لاتصاله بالإسلام، ولقيام الإسلام عليه، ولكونه فصولًا متقدمة مجهولة من كتاب ناقص، ضاعت فصوله الأولى، هو كتاب في تأريخ العرب منذ القدم إلى هذا اليوم، فإذا فقدنا الأصول، فلا بأس بالتسلي بما نسبه المتأخرون على الأقل إلى المتقدمين، مهما كان بعد هذا المنسوب عن الصحة والحق، ومهما كانت نسبة الباطل فيه كبيرة، وحتى إذا كانت النسبة مائة بالمائة، وهي نسبة نبالغ فيها بالطبع، لا أعتقد أن أحدًا سيراها، مهما بلغ به الشك والحذر بالنسبة إلى أصالة الشعر الجاهلي، ومن هنا فإن النزاع الجائر حول صحة الشعر الجاهلي، والذي سيبقى مثارًا قائمًا، حتى يظهر أثر جاهلي مكتوب، وعندئذ فقد يحسم شيئًا من مواضع الخلاف المؤلفة لهذا النزاع، يجب ألا يحملنا على الابتعاد عن هذا الشعر، باعتبار أنه لا يمثل الجاهلية تمثيلًا صحيحًا، وأنه شعر مكذوب منحول، وإنما يجب أن يدفعنا -على العكس- إلى الاهتمام به، باعتبار أنه من أقدم الآثار التي وصلت إلينا، المدون في الإسلام. وأنها إن كانت منحولة، فإن نحلها على ألسنة الجاهليين، نحل قديم، يعتبر تأريخيًا من أقدم المنحولات الواصلة إلينا في المدونات الإسلامية، وأنها تمثل صنعة وصناعة صناع، حاولوا تقليد الماضي، على ما وصل خبره إليهم، فصاغوه على تلك الصياغة، فهو أثر أصيل لأقدم مصنوعات ومحاكاة وتقليد لآثار قديمة لها صلة بتأريخ العرب القديم.
وأرى في الوقت نفسه أن من الضروري وجوب تقصي الأخبار عن الشعر المصنوع، وتتبع المراجع للوصول إلى أقدم مرجع ورد فيه كل شعر مصنوع، وتسجيل الأبيات والقطع والقصائد التي ترد لأول مرة في أقدم مورد من الموارد، والنص على اسم المورد، وعلى سنده إن كان مذكورا، لنتمكن بهذه الدراسة(17/404)
من الوصول إلى اسم صانع الشعر، أو الزمن الذي ظهر فيه ذلك الشعر إن كان الاسم مجهولًا، كما نقوم بتسجيل الموارد التي يرد فيها شعر الشعراء، وما اختلفت فيه بعضها عن بعض من حيث الألفاظ، أو ترتيب الأبيات، أو عددها، ثم أسماء من نسب إليهم تلك الأشعار، فقد ينسب الشعر الواحد إلى جملة شعراء، وتسجيل أسماء من روي ذلك، واسم المصدر، وبذلك نكون قد قمنا بدراسة علمية قيمة عن الشعر المصنوع وعن الشعر الأصيل الذي لم يشك في أصالته عالم من علماء الشعر، ثم نعرض النتائج للبحث بأساليب النقد الحديث لاستخراج الزائف منه، ولاستبعاد صدور بعضه من الشعراء الجاهليين، نفعل ذلك حتى في حالة عدم ورود رواية لعالم قديم تشك في صحة شعر، لأن سكوت العلماء عن الشك في شعر، لا يكون حجة على صحة ذلك الشعر.(17/405)
الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي
مدخل
...
الفَصْلُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمَائَةِ: أولية الشعر الجاهلي
لا نملك نصوصًا جاهلية مدونة عن مبدأ الشعر عند العرب، وعن كيفية ظهوره وتطوره إلى بلوغه المرحلة التي وصلها عند ظهور الإسلام. ولم يعثر العلماء على شعر مدون بقلم جاهلي، ليكون لنا نبراسًا يعيننا في تكوين صورة عن ذلك الشعر وعن هيكله ومادته التي تكون منها. وكل ما نعرفه عن هذا الشعر مستمد من موارد إسلامية، أخذت علمها به من أفوه الرواة، فلما جاء التدوين دوّن ما وعته الذاكرة مما أخذته عن المتقدمين بالرواية، فثبت واستقر، بعد أن كان المروي عرضة للتغيير والتحريف كلما تنقل من لسان إلى لسان، ومن وقت إلى وقت.
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع قدم الشعر العربي وتأريخه، فقال: "وأما امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة ... فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام"1. وذهب "عمر بن شبة" إلى أن "للشعر والشعراء أول لا يوقف عليه، وقد اختلف في ذلك العلماء، وادعت القبائل كل قبيلة لشاعرها أنه الأول. فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد ... وزعم بعضهم أن
__________
1 الحيوان "1/ 74".(17/406)
الأفوه الأودي أقدم من هؤلاء، وأنه أول من قصد القصيد، قال: وهؤلاء النفر المدعى لهم التقدم في الشعر متقاربون، لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها"1. وذهب "الأصمعي" إلى أن بين أول شاعر معروف، قال كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر، وهو "مهلهل"، وبين الإسلام أربعمائة سنة. "وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير"2.
وقال "الأصمعي" في رواية تنسب إليه، "إن أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة، رجل من بني كنانة، والأضبط بن قريع. قال: وكان بين هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة، وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير"3. "زعم أبو عمرو بن العلاء: أن الشعر فتح بامرئ القيس وختم بذي الرمة"4.
وذكر أنه "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات التي يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد، وطول الشعر على عهد عبد المطلب، أو هاشم بن عبد مناف"5.
وذكر "المرزباني"، أن "بكر بن وائل"، تزعم أن "عمرو الضائع" "أول من قال الشعر وقصد القصيد، كان امرؤ القيس بن حجر استصحبه لما شخص إلى قيصر يستمده على بني أسد، فمات في سفره ذلك فسمته بكر عمرًا الضائع"6. فعمرو الضائع، هو أول من قال الشعر وقصد القصيد على رأي بكر بن وائل على رواية "المرزباني".
وقد أورد: "ابن إسحاق" شعرا نسبه إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض" الجرهمي، زعم أنه قاله لما خرج بقومه من مكة إلى اليمن، أوله9:
وقائلة والدمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لها والقلب مني كأنما ... يلجلجه بين الجناحين طائر
__________
1 المزهر "2/ 477"، ابن سلام، طبقات "3"، المرزباني، الموشح "74".
2 المزهر "2/ 477".
3 المزهر "2/ 477".
4 البيان والتبيين "115"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".
5 المزهر "2/ 477".
6 معجم "4".(17/407)
إلى آخر القصيدة التي يتوجع فيها لمفارقته مع قومه مكة، ونسب له أبياتًا أخرى هي:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا
وقد ذكر "ابن هشام" أن "هذا ما صح له منها" وأن بعض أهل العلم بالشعر يقول إن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب1.
ودوّن "السهيلي" صاحب "الروض الأنف" شعرا أخذه من كتاب "أبي بحر سفيان بن العاصي" زعم أنه وجد في بئر باليمامة، وهي بئر طسم وجديس، في قرية يقال لها "معنق" بينها وبين الحجر ميل2، وكان مكتوبًا على ثلاثة أحجار، كتبها قوم من بقايا عاد، غزاهم تبع، كتب على الحجر الأول:
يا أيها الملك الذي ... بالملك ساعده زمانه
ما أنت أول من علا ... وعلا شئون الناس شانه
أقصر عليك مراقًبًا ... فالدهر مخذول أمانه
كم من أشمم معصب ... بالتاج مرهوب مكانه
قد كان ساعده الزما ... ن وكان ذا خفض جنانه
تجري الجداول حوله ... للجند مترعة جفانه
وقد فاجأته منية ... لم ينجه منها أكتنانه
وتفرقت أجناده ... عنه وناح به قيانه
والدهر من يعلق به ... يطحنه مفترشا جرانه
والناس شتى في الهوى ... كالمرء مختلف بنانه
والصدق أفضل شيمة ... والمرء يقتله لسانه
والصمت أسعد للفتى ... ولقد يشرفه بيانه
__________
1 ابن هشام، سيرة "1/ 82 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف".
2 الروض الأنف "1/ 82 وما بعدها".(17/408)
وكتب على الحجر الثاني:
كل عيش تعله ... ليس للدهر خله
يوم بؤس ونعمى ... واجتماع وقله
حبنا العيش والتكا ... ثر جهل وضلة
بينما المرء ناعم ... في قصور مظله
في ظلال ونعمة ... ساحبًا ذيل حله
لا يروى الشمس ملغضا ... رة إذ زال زله
لم يقلها وبدلت ... عزة المرء ذله
آفة العيش والنعـ ... ـيم كرور الأهله
وصل يوم بليلة ... واعتراض بعله
والمنايا جواثم ... كالقصور المدله
بالذي تكره النفـ ... ـوس عليها مطله
ووجد في الحجر الثالث مكتوبًا:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهرا فأنتم كما كنا تكونونا1
وقد أضاف "الأزرقي" زيادات على هذه الأبيات الأخيرة.
والأبيات التي زعم أنها وجدت مدونة على الحجر الثالث، هي نفس الأبيات التي نسبها "ابن إسحاق" إلى "عمر بن الحارث بن مضاض" الجرهمي كما رأيت. ويظهر أن واضع هذه الأبيات قد استعان بالأبيات التي وجدت في سيرة "ابن هشام"، أو أنه أخذها من سيرة "ابن إسحاق". ويلاحظ أنها في الحث على الزهد والترغيب في الآخرة، ولو لم يكن هذا الشعر من النوع المصنوع، لكان من أقدم ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي ولا شك.
و"العلماء من العرب الذين قالوا بمدة مائة وخمسين سنة تقريبًا للشعر الجاهلي،
__________
1 الروض الأنف "1/ 82 وما بعدها".(17/409)
لم يبعدوا عن الصواب إذا فرضنا أنهم إنما أرادوا بذلك ما وصل إلينا من الأشعار القديمة"1، بمعنى أن أقدم ما وصل إلى علمنا من ذلك الشعر بصورة لا يرتاب بصحتها، لا يمكن أن يرتقي عهده أكثر من قرن أو قرن ونصف عن الهجرة على أكثر تقدير، وأن أقدم اسم شاعر جاهلي وصل إلى سمعنا لا يرتقي عهده عن هذا التقدير. أما إذا كان قصدهم أن نظم القصيد كان قد بدأ في هذا الوقت، وأن الشعر بالمعنى الاصطلاحي المفهوم منه لم يظهر عند العرب، إلا قبل قرن أو قرنين عن الإسلام، فذلك خطل في الرأي، وفساد في الحكم. فالشعر أقدم من هذا العهد بكثير، وقد أشار المؤرخ "سوزيموس" "ZOSIMUS" إلى وجود الشعر عند العرب، وهو من رجال القرن الخامس للميلاد، وإلى تغني العرب بأشعارهم، وترنيمهم في غزواتهم بها2، وفي إشارته إلى الشعر عند العرب دلالة على قدم وجوده عندهم، واشتهاره شهرة بلغت مسامع الأعاجم، فذكره في تأريخه. وفي سيرة القديس "نيلوس" "nilus" المتوفى حوالي السنة "430" بعد الميلاد، أن أعراب طور سيناء كانوا يغنون أغاني وهم يستقون من البئر. "حينئذ ترنم إسرائيلي بهذا النشيد: اصعدي أيتها البئر أجيبوا لها، بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيهم"3، والأشعار المروية في كتب التواريخ والأدب عن حفر آبار مكة وغيرها من هذا القبيل، فقد روي أن "عبد المطلب" لما حفر بئر "زمزم"، قالت "خالدة بنت هاشم":
نحن وهبنا لعدي سجله ... في تربة ذات عذاة سهله
تروي الحجيج زعلة فزعله
وأن "عبد شمس" قال:
حفرت خما وحفرت رما ... حتى أرى المجد لنا قد تما
__________
1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "ص68 وما بعدها"، "الطبعة الثانية، القاهرة 1970م، دار المعارف بمصر".
2 إنحليزي
3 العدد، الإصحاح 21، الآية 17.(17/410)
وأن "سبيعة" بنت "عبد شمس" قالت في الطوى:
إن الطوى إذا شربتم ماءها ... صوب الغمام عذوبة وصفاء
وأن "الحويرث بن أسد"، قال في "شفية":
ماء شفية كماء المزن ... وليس ماؤها بطرق أجن
وأن "أميمة بنت عميلة بن السباق بن عبد الدار" قالت في حفر بئر "أم أحراد":
نحن حفرنا البحر أم أحارد ... ليست كبذر النذر والجماد
فأجابتها "صفية بنت عبد المطلب":
نحن حفرنا بذر ... تروي الحجيج الأكبر
من قبل ومدبر ... وأم أحراد بشر
فيها الجراد والذر ... وقذر لا يذكر
ولما حفر بنو جمع "السنبلة"، وهي بئر "خلف بن وهب" الجمحي، قال قائلهم:
نحن حفرنا للحجيج سنبله ... صوب سحاب ذو الجلال أنزله
وحفر بنو سهم الغمر، وهي بئر العاصي بن وائل، قال ابن الربعي أو غيره:
نحن حفرنا الغمر للحجيج ... تثج ماء أيما ثجيج
وحفرت بنو عدي "الحفير" فقال شاعرهم:
نحن حفرنا بئرنا الحفيرا ... بحرا يجيش ماؤه غزيرا1
وورد أن "قصيًّا" لما احتفر "العجول"، قال شاعرهم:
نروي على العجول ثم ننطلق ... إن قصيًّا قد وفى وقد صدق
__________
1 البلاذري، فتوح البلدان "60 وما بعدها"، "ذكر حفائر مكة"، الروض الأنف "1/ 101 وما بعدها"، ويرد الشعر بروايات مختلفة بعض الاختلاف.(17/411)
وأن قصيًّا لما احتفر "سجلة"، قال:
أنا قصي وحفرت سجلة ... تروي الحجيج زغلة فزغلة
وقيل بل حفرها "هاشم"، ووهبها "أسد بن هاشم" لعدي بن نوفل، فقالت: خلدة بنت هاشم:
نحن وهبنا لعدي سجلة ... نروي الحجيج زغلة فزغلة
ونجد في كتب السير شعرًا قيل في حفر بئر زمزم1، وفي آبار أخرى، مما يدل على أن العرب كانوا قبل هذا العهد، إذا حفروا بئرًا، قالو شعرًا فيها، وهو شعر يمكن أن نسميه شعر الآبار، وهو يعود ولا شك إلى عرف قديم، قد يتقدم على الميلاد بكثير، وهو يجب أن يكون من أقدم ما قيل من الشعر، لما للبئر من أهمية في حياة العرب.
ولم يقتصر التغني بالشعر على حفر الآبار وحدها، وإنما تغني به عند بنائهم بناء أو حفرهم خندقًا، أو إقامتهم سورًا، أو قيامهم بزرع أو حصاد، وفي أعمال أخرى يناط القيام بها إلى جماعة في الغالب، وكذلك في الغارات وفي الحروب. ولما شرع المسلمون يبنون مسجد الرسول بالمدينة، قال قائل منهم:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
فارتجز المسلمون وهم يبنون، يقولون:
لا عيش إلا عيش الآخرة ... اللهم فارحم الأنصار والمهاجرة
وقال "ابن هشام": هذا كلام وليس برجز2، وسبب ذلك كون قائله هو الرسول.
وقيل إنه قال:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
__________
1 ابن هشام، سيرة "1/ 97"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 97".
2 ابن هشام، سيرة "2/ 12"، "حاشية على الروض".(17/412)
وجعل يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر1
ويروي أهل الأخبار أن "المهلهل"، كان يتغنى في شعره حين قال:
طفلة ما ابنه المحلل بيضا ... ء لعوب لذيذة في العناق2
ورووا أن من الشعراء الجاهليين من كان يتغنى بشعره، وأن حسان بن ثابت أشار إلى التغني بالشعر بقوله:
تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار3
وقد قصد بذلك، ترنيم الشعر وإنشاده على نغم مؤثر، وهو الغناء. وما زال الشعراء، يترنمون بشعرهم، وينشدونه بأسلوب خاص يميزه عن أسلوب إلقاء النثر.
ونجد في أخبار غزوة أحد، أن هندًا بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، ونسوة من قريش كن يضربن على الدفوف ويتغنين بالشعر، حيث يقولون:
نحن بنات طارق ... إن تقبلوا نعانق
ونبسط السمارق ... أو تدبورا نفارق
فراق غير وامق
وتقول:
ويهًا بني عبد الدار ... ويهًا حماة الأدبار
ضربا بكل بتار4
ولا بد وأن تكون في الأهازيج وفي أشعار الحج، أنغام يرنم على وقعها الشعر،
__________
1 ابن سعد طبقات "1/ 240"، "صادر".
2 الأغاني "5/ 51".
3 العمدة "2/ 241".
4 الطبري "2/ 5110، 512".(17/413)
الذي هو شعر الغناء. فإننا نجد في النتف الباقية من الجمل التي كان يقولها الحجاج أثناء حجهم، آثار شعر قد كان مقرونا بالغناء.
ونظرًا لوجود تماس مباشر بين هذا الشعر وبين الحياة العامة، فإن في استطاعتنا القول، إنه قد يكون من أقدم أنواع الشعر عند العرب، وهو شعر لم ينبع من ألسنة الشعراء والمحترفين، وإنما خرج على كل لسان، وساهم فيه كل شخص: رجل أو امرأة، مثقف أو جاهل، حكيم أو سوقي. وهو بعد نابع من صميم الحياة، ومن باطن القلب، للترفيه عن النفس، ولتخفيف التعب، ولا زال الناس يتغنون عند وقوع مثل هذه الأمور لهم، وهو غناء لم يحظ ويا للأسف بالرعاية والعناية، لذلك لا نجد له ذكرًا في الكتب إلا بالمناسبات.
ويرى العلماء المشتغلون بموضوع الشعر من الغربيين، أن بين الشعر والسحر صلة كبيرة، بل رأى بعض منهم أن الغرض الذي قصد إليه من الشعر في الأصل هو السحر، ودليل ذلك أن الغناء عند الشعوب البدائية، ليس متسقا مع نغم العمل وإيقاع اليد العاملة، فنجد الغناء عند البناء أو الجر أو الحفر، أو الزرع لا يتسق مع نوع حركة العمل، وإنما كان يسلي العمال ويسعفهم بقوى سحرية، وهو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، أي تشجيع العمل بطريق سحري1.
وقد ذهب "بروكلمن" و "كولدتزيهر" إلى أن هذا الأثر السحري لا يظهر في الشعر العربي القديم إلا في شعر الهجاء، "فمن قبل أن ينحدر الهجاء إلى شعر السخرية والاستهزاء، كان في يد الشاعر سحرًا يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير سحري. ومن ثم كان الشاعر، إذا تهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، لبس زيًّا خاصًّا شبيهًا بزي الكاهن. ومن هنا أيضا تسميته بالشاعر، أي العلم، لا بمعنى أنه كان علاما بخصائص فن أو صناعة معينة، بل بمعنى أنه كان شاعرًا بقوة شعره السحرية، كما أن قصيدته كانت هي القالب المادي لذلك الشعر"2.
وكانت غاية الأغاني القصيرة، التي يرددها البدائي في المواقف الكبرى للحياة
__________
1 بروكلمن "1/ 45".
K. Th. Preuss, Die Geistige Kultur der Naturvolker, Leipzeg – Berlin 1914,S. 85.
2 بروكلمن "1/ 46". I. Goldziher, Abhand. Zur Arab. Philologie, I, I.(17/414)
الإنسانية، أن تحدث آثارًا سحرية، وكذلك كانت غاية الرثاء الأصلية أيضًا هي السحر، "فقد كان الغرض من المرثية أن تطفئ غضب المقتول وتنهاه أن يرجع إلى الحياة، فيلحق الأضرار بالأحياء الباقين، ولكن هذا المعنى تلاشى تقريبًا في الجزيرة العربية أمام الشعور الإنساني بالحزن الممض. على أن إظهار الحزن لم يكن يناسب رجال القبيلة كما كان لائقًا بنسائها، خاصة بالأخوات، ومن ثم بقي تعهد الرثاء الفني من مقاصدهن حتى عصر التسجيل التأريخي"1.
وقد لعبت الأغاني دورًا كبيرًا في الصيد والحرب، فقد رافقتهما منذ أوائل انشغال الإنسان بهما، ولم يكن الصيد متعة وتسلية ورياضة عند العرب حسب، بل كان لسد حاجة وللتغلب على شظف العيش أيضًا، ونجد في الشعر الجاهلي شعرًا جعل الصيد، نوعًا من الرياضة والتسلية، وإظهار الرجولة في التغلب على الوحش الكاسر، والحيوان المتوحش، وأكثر أصحابه من المترفين والمتمكنين، من أصحاب الخيل السريعة، مثل الملوك وسادات القبائل، والشعراء الذي يرافقونهم في رحلات صيدهم، أو يقومون هم أنفسهم برياضة الصيد.
ويلعب الغزو دورًا خطيرًا في حياة الجاهليين، فقد كان الغزو في الواقع نوعًا من أنواع الكفاح في سبيل الحياة، عليه معاشهم، وبواسطته يحافظون على حياتهم وأموالهم، وقد أنتج ضربًا من ضروب الشجاعة والمغامرة، يتجلى في الشعر الحماسي، الذي يقال قبل القتال وفي أثناء احتدامه. ونكاد لا نقرأ خبر يوم من أيام العرب أو غزو، أو قتال إلا ونجد للشعر فيه دورا ومكانا في هذه الأحدث. يستوي في ذلك شعر الجاهلية والشعر الذي قيل في الأحداث التي وقعت في صدر الإسلام.
ونجد للنسيب، والغزل مكانة في الشعر الجاهلي، وقد نجد فيه وصفا للجمال الحسي لأعضاء الجسد. وقد آخذ العلماء امرأ القيس والأعشى على مجاهرتهما بالفحش وبالزنا في شعرهما. والمجاهرة بالاتصال الجنسي بصورة عارية مكشوفة من الأمور التي لا ترد بكثرة في الشعر الجاهلي2.
ولا بد وأن يكون الشعر قد مر في مراحل، لعل أقدمها مرحلة السجع،
__________
1 بروكلمن "1/ 47 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 49 وما بعدها".(17/415)
أي النثر المقفى المجرد من الوزن، الذي تخصص فيه الكهان عند ظهور الإسلام وهو والد "الرجز"، أبسط الشعر، ومن الرجز نشأ بناء بحور العروض، التي يظهر أثر الموسيقى على صياغتها على رأي بعض المستشرقين1، وهو أثر يدل على ما كان للغناء من صلة بالشعر. ولعل هذه الصلة هي التي حملت العلماء على القول بأن بحور الشعر نشأت في الأصل من سير الإبل، من ترنيم الشاعر شعره على إيقاع سير الإبل. غير أن البحث عن هذا الموضوع وعن موضوع كيفية نشوء بحور العروض وصلتها بعضها ببعض لا تزال من الدراسات العويصة المشكلة الشائكة التي لا يمكن الاتفاق عليها، لعدم وجود أسس ثابتة يرتكز عليها الجدل القائم بين الباحثين في كيفية تطور الشعر الجاهلي2. أما أن هذه البحور، قد نشأت من سير الإبل3، فكلام لا يقوم على علم، وهو من باب حدس الحداس، فلدى الشعوب الأخرى شعر، له ترانيم وبحور، ومع ذلك فإنها لم تكن تركب الإبل، ولا تعرف إيقاع أرجلها عند المشي.
وقد قام المستشرقون بدراسة البحور التي نظم الشعراء الجاهليون بها شعرهم، فوجود أن بحر الطويل يأتي في المرتبة الأولى من البحور، يليه الكامل، فالوافر، فالبسيط. أما المتقارب فيوجد عند امرئ القيس، كما يوجد عنده المنسرح قليلًا. واستعمل "طرفة" الرمل في قصيدة يبلغ طولها "74" بيتًا، ترتيبها الخامس في ديوانه4، كما استعمل السريع في قصيدتين5، واستعمل كل من امرئ القيس وطرفة المديد في قصيدة واحدة6، وأما الخفيف، فقد وجد في شعر المرقشين، وعبيد بن الأبرص، وعامر بن الطفيل، والأعشى، ولا يوجد الهزج إلا في قطعتين منحولتين، واحدة لطرفة، وأخرى لامرئ القيس7.
وقد ذهب "غرونباوم" إلى أننا نجد تفننًا في شعر شعراء العراق وفي شعر من احتك بالحيرة من شعراء أكثر مما نجد في شعر أي مكان آخر. وذكر أن شعر
__________
1 بروكلمن "1/ 51 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 51 وما بعدها".
3 G. Jacob, Studien in Arabische Dichtem, II, S. 106.
4 بروكلمن "1/ 53".
5 رقم 2 و 3 من الديوان.
6 بروكلمن "1/ 53".
7 بروكلمن "1/ 53".(17/416)
"أبي دؤاد" الإيادي قد جاء على اثني عشر بحرًا، ثم يرى أن المدرسة العراقية قد أكثرت من بحر الرمل، ولا يستعمل هذا البحر في الشعر القديم إلا أبو دؤاد في ثلاث قصائد، وطرفة في ثلاث قصائد، وعدي في سبع قصائد، والمثقب في قصيدة واحدة، والأعشى في قصيدتين. واستعمله امرؤ القيس في قصيدة واحدة، ورأى في ذلك دلالة على تأثر امرئ القيس بأبي دؤاد، وتأييدًا للرواية التي ترى أنه كان راوية لأبي دؤاد1.
ويجيء امرؤ القيس وعدي والأعشى بعد أبي دؤاد في تنويع البحور التي نظموا بها، فقد نظم كل واحد منهم في عشر أوزان. وتدل الدراسات التي قام بها "فرايتاك" على قلة ورود النظم في بحري الرمل والخفيف بالنسبة إلى البحور الأخرى2. ويظن أن الشعر الوارد في كتاب: "البخلاء" للجاحظ، وهو:
واعلمن علما يقينا أنه ... ليس يرجى لك من ليس معك
المنسوب لعبيد بن الأبرص3، هو من الموضوعات.
ويرى "غرونباوم" أن من خصائص المدرسة العراقية نزوعها إلى بحر الخفيف، وعند أبي دؤاد الأيادي خمس عشرة قصيدة بهذا الوزن، وعند عدي سبع، وعند الأعشى خمس، "ولم يستعمل هذا البحر عند سائر الشعراء المعاصرين إلا على نحو عارض"4. فورد عند عمرو بن قميئة، وعند المرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وعامر بن الطفيل، والحارث بن حلزة اليشكري5.
ويظهر مما أورده المفسرون وأهل السير من قول "الوليد بن المغيرة" في الرسول وفي القرآن: "ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله: رجزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر"6، "فجعل الرجز والهزج من أوزان
__________
1 غرونباوم "265 وما بعدها".
2 E. Braunlich, in Der Islam, XXIV, 1937, S. 248. F, Freitag, Darstallung der Arabischen Verskunst, S. 15, J. Jacob, Altarabisches Beduinenleben, S. 190. f, 1897.
3 الجاحظ، البخلاء "190" "طه الحاجري"، غرونباوم "86".
4 غرونباوم "266".
5 غرونباوم "279"، بروكلمن "1/ 53".
6 ابن هشام، سيرة "1/ 173"، "حاشية على الروض الأنف".(17/417)
الشعر، وقرن بهما أسماء غير محددة، ويبدو أن تحديد هذه المعاني كلها عند العرب كان مختلفًا عن اصطلاحات العروضيين، وإلا فإن القبض في العروض من عيوب الزحاف، وهو حذف الحرف الخامس الساكن"1. وورد في رواية عن "أبي ذر": "لقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلا يلتئم على لسان"، وقد اختلفوا في المراد من الأقراء2، وفي هذين الخبرين وأمثالهما دلالة على أنه قد كان لأهل الجاهلية قواعد ثابتة بالنسبة للشعر، وأن الشعر كان يعتمد عندهم عليها. وأن علماء العروض: "الخليل بن أحمد" و "الأخفش" لم يتمكنا من ضبط كل بحور الشعر التي كانت عند الجاهليين، بدليل أننا نجد أبياتًا خارجة عن العروض الذي وضعاه، ويظهر أن هذا الخروج يمثل مرحلة من مراحل الشعر، لم نقف على كنهها بعد3. وقد وجد "العيني" أن في الأصمعية المرقمة ب "72" تشعيثًا، قال عنه "غرونباوم": "ومثل هذا لا يعد خطأ، بل هو مظهر من مظاهر التطور الفني في هذا الوزن، مظهر استنكر أو نسي مع الزمن، حين وضع علم العروض، بعد حوالي قرنين من وفاة أبي دؤاد"4، وقد ذهب "غرونباوم إلى أن "الخليل"، أقر "ستة عشر وزنًا، واطرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها"5، والواقع أننا لا نستطيع الزعم، بأن الخليل قد أحاط علما بكل أنوع العروض العربي الجاهلي.
ومن يفحص الشعر الجاهلي، يجد أن في بعضه اضطرابًا وخروجًا وشذوذًا على قواعد "العروض"، وقد وجد هذا الشذوذ في شعر شعراء يعدون من الفحول، مثل "امرئ القيس"، في القصيدة التي مطلعها:
عيناك دمعهما سجال ... كأن شأنهما أوشال
ومثل عبيد بن الأبرص في قوله:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
__________
1 اللسان "9/ 80"، بروكلمن "1/ 53".
2 النهاية، لابن الأثير "3/ 238"، بروكلمن "1/ 53".
3 بروكلمن "1/ 54".
4 غرونباوم "368".
5 غرونباوم "235".(17/418)
فقلما يخلو بيت من هذه القصيدة من حذف في بعض التفاعيل، أو زيادة، كما في الشطر الأول من هذا المطلع.
ومثل ما نسب إلى المرقش الأكبر، وعدي بن زيد العبادي، وغيرهم، من خروج على الوزن في بعض الشطور، وإخلال في الوزن حتى زعم بعض العلماء، أن في نونية "سلمى بن ربيعة" خروجًا عن العروض: عروض الخليل1. وقد أشرت في مكان آخر إلى وقوع الإقواء والإكفاء والزحاف في شعر بعض الشعراء، مثل امرئ القيس، والنابغة، وبشر بن أبي خازم، وهي أمور تلفت النظر، لا ندري أكانت قد وقعت من الشعراء حقًّا، أم من الرواية والرواة، أم أنها لم تكن عيبًا بالنسبة لعروض الجاهليين، وإنما عدت من العيوب بالنسبة إلى العروض الذي ضبط في الإسلام، أو أنه وقع بسب تعديل أو تبديل أدخله العلماء على الأصل، ليلائم قواعد العربية، فوقع من ثم ما قيل له عيبًا. وإنني لا أستبعد وقوع السهو في نظم الشعر من شاعر مهما كان فحلًا، فقد روي أن بعض الفحول من شعراء العصر الأموي كالكميت والفرزدق والأخطل، قد وقعوا في أخطاء، وأن رواتهم كانوا يجرون تنقيحًا وتغييرًا على أشعارهم، ليقوّموا بذلك ما انحرف في شعرهم وما فيه من الفساد2، ولكن وقوع ما نشير إليه يدل على أن ما نعده اليوم عيبًا أو خروجًا على القواعد والعروض، لم يكن ينظر إليه هذه النظرة عند الجاهليين وفي صدر الإسلام، وإلا دل ذلك على جهل أولئك الشعراء بقواعد اللغة وعلم الشعر، وحاشا وقوع ذلك منهم، وشعرهم نفسه كان في جملة المواد الأساسية التي استعان بها علماء القواعد والعروض في بناء النحو والعروض.
وقد قصر علماء الشعر فحولة الشعر في الجاهلية على الشعر المعروفين بالنظم بالبحور المشهورة، فيما عدا الرجز، أما قالة الرجز، فهم طبقة خاصة، عرفت عندهم بالرجاز. ويظهر من القول المنسوب إلى "الوليد بن المغيرة": "لقد عرفنا الشعر كله: رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه"3، أن الشعر في نظر أهل مكة: رجز، أو هزج، أو قريض، أو مقبوض، أو مبسوط، وأن من يقول الرجز، فهو راجز ورجاز، ولم يكن الرجز كما
__________
1 العصر الجاهلي، شوقي ضيف "184 وما بعدها".
2 الأغاني "4/ 256".
3 ابن هشام "1/ 173"، "حاشية على الروض".(17/419)
يقول علماء الشعر طويل النفس، وإنما كان أبياتًا، وقد بقي هذا حاله حتى أيام الأمويين، فطول ولقي عناية خاصة عند كثير من الشعراء، فأخذوا يذهبون به مذهب القصيد، فقصدوه، بأن جعلوه قصائد، وعمدوا إلى تخفيف ما تتركه بساطة العروض وسهولته في النفس من ملل، بأن لجئوا إلى استعمال العبارات البعيدة المأخذ، والألفاظ الغريبة، والاختراعات اللطيفة، حتى تمكنوا من إدخاله إلى قصور الخلفاء الأمويين، ومن نيل الجوائز والألطاف منهم1.
ويعود الفضل في رفع مستوى الرجز في الإسلام، إلى رجلين من "بني عجل"، هما: "الأغلب بن عمرو" العجلي، "21هـ"، و "أبو النجم الفضل بن قدامة" العجلي، وإلى رجال من "تميم"، على رأسهم: "العجاج" "97هـ" وابنه "رؤبة": المتوفى سنة 145هـ" وقيل "147هـ"، و "عقبة" ابن "رؤبة" هذا، و "أبو المرقال الزفيان"، و "دكين بن رجاء" الفقيمي، و "محمد بن ذؤيب" الفقيمي العماني2.
ولا نمك شعرًا يمكن أن يقال عنه إنه أقدم ما وصل إلينا من مراحل الشعر الجاهلي. حتى هذا الرجز، الذي ينظر إليه المستشرقون على أنه أول مرحلة من مراحل الشعر الجاهلي، لبساطته ولسهولته، ولكونه وسطا بين السجع والشعر، لا نملك نماذج منه، يمكن أن نطمئن إلى أنها كانت من الشعر القديم، الذي يصلح للاستشهاد به على أنه من قديم الشعر، إذ لم يحفل علماء الشعر بالرجز لاعتبارهم إياه دون الشعر، فلم يدونوا منه شيئا يذكر، ولذلك نجد نسبته بالنسبة إلى كمية الشعر الآخر "التقليدي" نسبة ضئيلة جدًّا، وهذا ما جعل علمنا بالرجز الجاهلي قليلًا جدًّا.
ولسهولة الرجز، ولقابليته على الخروج على كل لسان، أرى أنه كان أكثر نظمًا من الشعر المألوف، ودليل ذلك أننا لو درسنا أخبار الأيام وأخبار الغزو والمعارك نجد للرجز فيها مكانة كبيرة، فالمحارب الذي يقرع خصمه ويتجالد معه يرتجز رجزًا في الغالب لسهولته على اللسان ولمناسبته لمقرعة السيوف، وللوقت القصير الذي يكون عنده ليقضي فيه المحارب على من يحاربه، ثم إن في استطاعة
__________
1 بروكلمن "1/ 225".
2 بروكلمن "1/ 228 وما بعدها".(17/420)
غير الشعراء الارتجاز، وليس في استطاعتهم نظم الشعر، لذلك كان الرجز أكثر كمية من الشعر، ولكن كثرته هذه وسهولته، قصرتا في عمره، وربما صارتا من العوامل التي جعلت الناس لا تقدم على حفظه.
ولما كان الشعر تعبيرًا عن عواطف جياشة وعن حس مرهف، وعن نفس حساسة تريد التعبير عن نفسها بأي أسلوب كان، فإن في استطاعتنا القول إنه لازم البشرية منذ عرفت نفسها، وأخذت تعبر عن إحساسها بأية طريقة كانت: بطريقة بدائية أو بطريقة متطورة. فبدأ الشعر كما بدأ الإنسان نفسه، بداية بسيطة ساذجة بدائية، ثم تطور بتطور مدارك الإنسان، وتعددت طرقه وبحوره، بتطور العقل والمدارك، وبارتفاع مستوى الحياة، فكان لذة يلتذذ بها المسافر، وهو يقطع الطرق الصعبة، والصحارى الموحشة، يعبر عنها بغناء ذي نغم، وبألفاظ تناسب ذلك الغناء، كما كان يعبر عنها ففي التشوق والتحبب إلى الآلهة والقوى الطبيعية التي كان يرى أنها تؤثر في حياته، وفي مناسبات التقرب إلى الملوك والحكام، لينال منهم لقمة عيش، وشيئًا من مال، كما عبر عنها في الأفراح وفي الأتراح، وفي الفخر والمدح والذم، وهو الهجاء، وفي الظروف التي تؤثر عليه، فتجعله يفرح من رؤيتها ويرتاح، مثل المناظر الطبيعية الجميلة، والأصوات الجميلة وجمال الإنسان.
والشعر الجاهلي الصحيح، هو حاصل تطور طويل مستمر، لا يمكن تحديد أوله، إذ بدأ الشعر مذ بدأ الإنسان يشعر بالفرح وبالسرور بالتعبير عن عواطفه. وقد فقد القديم منه بسب عدم تدوينه في حينه، وبسب صعوبة بقائه في الذاكرة إلى أمد طويل، ولم يصل منه إلينا إلا هذا القليل الذي قيل في عهد لا يرتقي كثيرًا عن الإسلام، وهذا القليل الباقي، هو الصفحات القليلة الأخيرة من كتاب لا نستطيع أبدًا تقدير حجمه، هو كتاب الشعر الجاهلي، الذي ختم بتغلب الإسلام على الشرك، وبموت الجاهلية وظهور دين الله.
أما قول القائلين إنه لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا أبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد في عهد مهلهل، أو هاشم، أو عبد المطلب، فرأي لا يقوم على دليل، وليس له سناد تأريخي، وإنما هو مجرد رواية رواها رواة الشعر في الإسلام. إذ لا يعقل أن تكون قريحة الجاهليين الذين عاشوا قبل(17/421)
الإسلام بقرنين أو بقرن ونصف قرن، قريحة محبوسة محصورة، حددت بحدود لم تتعدها ولم تتخطها، فإذا هاجت وماجت بالأحاسيس وبالشعور المرهف، صاغت حسها هذا ببيت أو ببيتين أو ثلاثة، ثم توقفت عند هذا الحد لا تتجاوزه أبدًا. وإذا كان الشعر طبع في الإنسان كما يقولون ونقول، وهو نوع من أنواع التعبير عن الخاطر، وجب تصور أن صياغته في قوالب من أبيات شعر، إنما تكون صياغة منسجمة مع طول وعرض الخاطر صغيرًا، ضئيلًا، صيغ ببيت أو بأبيات، وإذا كان طويلًا مبعوثًا عن حس ملتهب جياش، صيغ بأبيات تزيد عن تلك يتناسب عددها مع حجم ذلك الخاطر. فمن هنا لا نستطيع أن نقول إن شعر قدماء الجاهليين كان أبياتًا لا تزيد على ثلاثة، وإنهم لم يكونوا يملكون القدرة على نظم ما يزيد على ذلك، إلى أن جاء "عدي بن ربيعة" التغلبي، الملقب بالمهلهل، فوسع الشعر وزاد الأبيات وقصد القصائد. نقول مثل هذا وإن قال به علماء هم أعلم منا بفنون الشعر وبدروبه، قول لا يمكن الأخذ به لما ذكرته. أفلم يكن للذين سبقوا المهلهل من العرب لسان مثل لسانه وحس مثل حسه؟ إذا كان لهم مثل ما كان له، فيفترض أن يكون تعبيرهم عن عواطفهم، مثل تعبيره عنها سواء بسواء، قد يكون قليلًا وقد يكون كثيرًا من غير تغيير أو تحديد ولا تفنين، لأن التحديد يتوقف على طول وقصر الحس الذي يستولي على الشاعر فيصوغه شعرًا.
أما إذا قصدوا من قولهم المذكور معنى أن المهلل كان أول شاعر وصل شعره إلينا أبياتًا زاد عددها على عدد ما وصل إلينا من شعر أي شاعر تقدم عليه، وأنه أول من رويت له كلمة بلغت ثلاثين بيتًا1، فذلك أمر آخر لا صلة له بدعواهم أن الشعر كان قبل المهلهل رجزًا وقطعًا، فقصده مهلهل، ثم امرؤ القيس من بعده. وظل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء حتى كان الأغلب العجلي، وهم على عهد النبي، فطوله شيئًا يسيرًا وجعله كالقصيد2.
وهذا معناه عندي أن شعر "المهلهل"، هو أول شعر طويل وصل إلى علماء الأخبار من شعر قدماء الشعراء الجاهليين، وأما شعر من سبقه، فقد فقد وضاع معظمه،
__________
1 الرافعي "3/ 14"، المزهر "2/ 477".
2 الرافعي "3/ 15".(17/422)
ولم تبق منه إلا بقية، هي بيت أو أبيات دون مرتبة القصيدة، لعدم تمكن الذاكرة من حفظ أكثر من ذلك لتقادم العهد.
والشعراء الجاهليون كثيرون، "لأنه قل أحد له أدنى مسكة من أدب، وله أدنى حظ من طبع، إلا وقد نال من الشعر شيئًا، ولاحتجنا أن نذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلة التابعين، وقومًا كثيرًا من حملة العلم"1، ويكاد يكون قول الشعر سجية في نفوس الجاهليين، ولهذا كثر عدده، فصعبت الإحاطة بهم، واكتفى علماء الشعر بذكر النابهين البارزين منهم، "الذين يعرفهم جل أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو، وفي كتاب الله، وحديث رسول الله"2. وقال: "ابن قتيبة": "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم واستفرغ جهده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"3. وقال "أبو عمرو بن العلاء": "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"4.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 10".
2 الشعر والشعراء "1/ 7".
3 الشعر والشعراء "8".
4 ابن سلام "23".(17/423)
تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:
ذكر "أبو عبد الله محمد بن سلام" الجمحي، وغيره من المؤلفين أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، ثم تحول في قيس، ثم استقر في "تميم"1. ومعنى هذا على لغة أهل الأنساب وعلماء الشعر، أن الشعر بدأ في ربيعة، ثم انتقل منها إلى "مضر"، فقيس من مضر، و "تميم" من مضر كذلك، وعن مضر نافست ربيعة في الشعر، وصار الحيان الشقيقان: ربيعة ومضر، أصحاب الشعر
__________
1 ابن سلام، طبقات "13"، العمدة "1/ 86 وما بعدها"، "باب الشعر في القبائل"، المزهر "2/ 476"، "تنقل الشعر في القبائل".(17/423)
وموجدوه، أما "اليمن"، فإنهم قد ساهموا فيه أيضًا، حسب زعم أهل الأخبار والأنساب، لكنهم لم يبلغوا فيه مبلغ ربيعة ومضر.
ويزعم أهل الأخبار، أن من شعراء ربيعة: "المهلهل"، والمرقشان، وسعد بن مالك، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، والمسيب بن علس. وأن من شعراء "قيس" النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ، وأخوه مرزد. وأن من شعراء "تميم" "أوس بن حجر" شاعر مضر في الجاهلية، ولم يتقدم منه أحد منهم، حتى نشأ "النابغة"، و "زهير" فأخملاه، وبقي شاعر "تميم" في الجاهلية غير مدافع1.
ولا يمثل هذا التنقل المزعوم ترتيبًا زمنيًّا، بمعنى أن الشعر بدأ بربيعة أولا، ثم انتقل منها إلى قيس، ثم انتقل بعدها إلى تميم، إذ يتعارض ذلك مع ما يرويه أهل الأخبار وعلماء الشعر من تعاصر أكثر الشعراء، ومن نبوغ معظمهم في وقت واحد، وإنما هو قول من أقوال أهل الأخبار المألوفة، أصله رأي رجل واحد، حمل عنه بالنص بذكر اسمه أحيانًا، وبدون ذكره أحيانًا أخرى، فلما توافر في الكتب، صار في حكم الإجماع، يقال دون نقد ولا مناقشة على هذا اليوم.
وما ذكرته عن تنقل الشعر يمثل رأي الرواة العدنانيين، أما اليمانية، فترى "تقدمة الشعر لليمن: في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت". "وقال آخرون: بل رجع الشعر إلى ربيعة فختم بها كما بدئ بها"2. وهو رأي يتعلق بالنسبة إلى النسب الأكبر للقبائل، وترى في الرأيين أثر العصبية للعدنانية أو لليمانية، فقد صعب على القحطانية المناهضة للعدنانية، الاعتراف بالتفوق عليها حتى في الشعر، فزعمت أن الشعر بدأ بها، وأنه كان من مكارمها القديمة، وكل مكرمة إنما بدأت بقحطان، وما عدنان إلا مستعربة أخذت عربيتها من "يعرب بن قحطان"، وهي دون القحطانية في كل شيء.
وحكم مثل هذا لا يمكن إصداره بالطبع إلا بسند علمي، وليس في يد أحد حتى يومنا هذا سند جاهلي، يؤيد رأي هذا أو ذاك، وقد لا يأتي يوم يمكن
__________
1 ابن سلام، طبقات "13"، العمدة "1/ 86"، المزهر "2/ 476".
2 العمدة "1/ 89".(17/424)
إعطاء رأي علمي فيه. أما ما ذكرته، فهو نقل لآراء أهل الأخبار، ورأينا في آرائهم في هذه الأمور معروف، فنحن لا نأخذ آراءهم مأخذ الجد، ولا نثق بها، وكلها في نظرنا حاصل عصبية، وقد لعبت العاطفة القبلية دورًا خطيرًا في ظهرها، ونحن لا نستطيع تقديم ربيعة على مضر في الشعر، ولا تقديم مضر على ربيعة فيه، لعدم وجود دليل لدينا نتخذه سندًا ومستمسكًا في أيدينا لإثبات أي رأي من هذه الرأيين. أما أن يكون قد بدأ باليمن، فالمسند، يعارضه ويناقضه، إلا إذا اعتبرنا اليمن، القبائل الساكنة في الشمال، أي خارج العربية الجنوبية، والتي يرجع النسابون نسبها عادة إلى اليمن، وهي قبائل كانت تتكلم بلهجات عربية شمالية، فذلك أمر آخر، وأمرها عندنا حينئذ مثل أمر ربيعة ومضر، لا نستطيع تقديمها على ربيعة ولا على مضر، ولا نستطيع تقديم ربيعة أو مضر، للسبب المتقدم، وهو عدم وجود أدلة لدينا تعيننا في الحكم بتقديم فريق على فريق، وإعطائه الأولية في قول الشعر.
والشعر في نظرنا موهبة إنسانية عامة، لم تختص بقوم دون قوم، ولا بأمة دون أمة، وهي على هذه السجية بين العرب، لم تختص بربيعة، حتى نقول إن الشعر بدأ أول ما بدأ بها، ولا بمضر حتى نقول إنه ظهر أول ما ظهر عندها ولا باليمن، حتى نقول إنه بدأ بها وختم بها. وإنما هو نتاج قرائح كل موهوب وذي حس شاعري من كل القبائل والعشائر. والشعر كما قلت مرارًا شعور وتعبير عن عواطف تخالج النفس، فكل إنسان يكون عنده حس مرهف، واستعداد طبيعي، وذوق موسيقي، يمكن أن يكون شاعرًا من أي حي كان، ولهذا كان الشعراء من قبائل مختلفة، وإذا تقدمت قبيلة على أخرى في كثرة عدد شعرائهم، فليس مرد ذلك أن تلك القبيلة كانت ذات حس مرهف واستعداد فطري لقول الشعر، وأن بقية القبائل كانت قبائل غبية بليدة الحس والعواطف، فلم ينبغ بينها مثل ذلك العدد من الشعراء، فقد تكون هنالك أسباب أخرى نجهلها في هذا اليوم جعلتنا نتصور أنها كانت متخلفة في الشعور، كأن تكون منازل تلك القبائل بعيدة منعزلة، لم يتصل بها أحد من جمّاع الشعر ورواته. وهم بين كوفي وبصري، فلم يصل شعرها إليهم، فانقطع نتيجة لذلك عنا، أو أن تلك القبائل كانت قبائل صغيرة، لم يكن لها شأن يذكر، فانحصر شعرها في حدودها ولم يخرج عنها، فخمل ذكره ولم ينتشر خبره بين القبائل الأخرى، فلما ظهر(17/425)
الإسلام، كان قد خفي ومات.
ودليلنا أننا إذا دققنا في هذا الشعر الجاهلي الواصل إلينا في الكتب، نجد أنه شعر قبائل كبيرة، لعبت في الغالب دورًا خطيرًا في مجتمع ذلك اليوم، مثل: كندة وبكر، وأسد، وتميم، وتغلب، ثم هو شعر شعراء كان لهم اتصال وثيق بالعراق في الدرجة الأولى، أي بملوك الحيرة، الذين كان نفوذهم يشمل أرضين واسعة، مثل البحرين ونجد واليمامة في بعض الأحيان، فكان لقبائل هذه الأرضين اتصال بحكام الحيرة، ولها مواقف معهم: حسنة أحيانًا وسيئة أحيانًا أخرى، وفي مثل هذ المواقف، يكون للشعراء دور خطير فيها، فهم بين مادح، أو ذام قادح، أو رسول قوم جاء إلى الملوك في وفادة لفك أسير، أو لإصلاح ذات بين، أو جاء لنيل عطاء، ونحن لا نكاد نجد شاعرًا من الفحول أو من الشعراء المشهورين، إلا وله صلة بملك أو أكثر من هؤلاء الملوك، حتى لا يكاد يفلت منهم شاعر. أما ملوك الغساسنة، فلهم بعد أولئك الملوك صلة بالشعراء، بل هم دونهم اتصالًا بالشعراء ومرجع ذلك في نظري أن حكم الغساسنة لم يتجاوز بادية الشام وحدود مملكة البيزنطيين، فلم يكن لهم لذلك اتصال بقبائل البادية البعيدة عن منطقة نفوذهم، ولا بقبائل الحجاز ونجد واليمامة والبحرين، فتقلص مجال اتصالهم بالشعراء، ولم يصل إليهم إلا الشعراء من أصحاب الحاجات، الذين كانوا يطوفون البلاد، ويقصدون الموسرين الكرماء أينما كانوا لنيل صلاتهم ثمنا لمدحهم لهم، وإلا الشعراء الذين غضب ملوك الحيرة عليهم، أو لم ينالوا منهم تحقيق مطمع وحل مشكل، أو فك أسير، فجاءوا لذلك إلى الغساسنة خصومهم نكاية بهم، وإلا بالشعراء الذين أغار قومهم على أرض الغساسنة، فوقع نفر منهم في أسرهم، فأرسلهم أهلهم وسطاء ورسلًا عنهم، للتوسل إليهم بفك أسراهم.
ونحن لو ثبتنا أسماء مواطن شعراء الجاهلية على صورة جزيرة العرب نرى أنها كانت في الحجاز ونجد واليمامة، والبحرين والعراق. أما بلاد الشأم فقد كانت فقيرة جدًّا بهم، بل لا نكاد نجد فيها شاعرًا لامع الاسم، ترك أثرًا في الشعر. ويلفت هذا الجدب في الشعر النظر إليه حقًّا، فقد عاشت ببلاد الشأم قبائل كبيرة كان لها شأن كبير في تلك البلاد قبل الإسلام وفي الإسلام، مثل غسان، وبهراء، وكلب، وقضاعة، وتنوخ، وتغلب، وقبائل أخرى لعبت دورًا خطيرًا في الحروب مع عرب الحيرة، وفي مساعدة الروم، كما لعبت دورًا خطيرًا في(17/426)
الفتوحات الإسلامية، فقد ساعدت الروم أولًا، ثم انضمت إلى المسلمين في قتالهم مع البيزنطيين، وقبائل هذا شأنها لا يعقل ألا يكون لها شعر وألا ينبغ من بينها شعراء لكثرة عددها ولمنافستها لعرب العراق، ولكون لسانها هذا اللسان العربي الشمالي، فهل كان عند تلك القبائل شعراء، لم يصل اسمهم إلى علماء الشعر، فلم يذكروهم لجهلهم بهم في عداد شعراء الجاهلية؟ فصرنا لذلك لا نعرف من أمرهم شيئًا! أو أنها كانت مجدبة حقًّا لأنها كانت بمنأى عن الشعر والشعراء، لتحضرها وتأثرها بالنصرانية وبثقافة بني إرم، فلم توائم تربتها الشعر، لذلك أجدبت فيه، ولم ينبت فيها شاعر لامع الاسم!
يقول علماء اللغة: والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعد الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
بالجملة، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، لا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطرافها بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم؛ فإنه لم يؤخذ من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان، وإياد، لمجاورتهم أهل الشأم، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب1. فالقبائل المذكورة، وإن كانت من القبائل العربية الكبيرة المرموقة، إلا أن إقامتها ببلاد الشام إقامة طويلة ومجاورتها أهل الشأم، وتأثرها بلسانهم، واعتناقها النصرانية، وأخذها ديانتها بالسريانية التي سماها أهل الأخبار العبرانية، وتحضرها وقرارها والتهائها بالزرع والرعي، صيرت كل هذه الأمور ومثالها لسانها عربيًّا مشوبًا برطانة، ولهذا عرفت ب "العرب المستعربة" وب "مستعربة الشأم"، عند المسلمين، حتى صارت تلك الرطانة سببًا لإعراض علماء اللغة عن الاحتجاج بلغتها في شواهد القرآن والشعر على نحو ما رأيت.
وقد يكون لتلك القبائل شعر، غير أن علماء اللغة قاطعوه للسبب المذكور، ولكني لا أستطيع الجزم بذلك، لعدم ورود إشارة إلى هذه الناحية في كتب أولئك
__________
1 المزهر "1/ 211 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 154".(17/427)
العلماء ولا في كتب أهل الأخبار. ثم إني لاحظت أن أخبار فتوح الشأم لا تذكر شيئًا من شعر القبائل المستعربة التي حاربت مع الروم المسلمين، أو التي حاربت مع المسلمين الروم، وحيث إننا نعرف أن من عادة العرب الاستعانة بالشعر والرجز أثناء غزوها وقتالها، لذلك تلفت هذه الملاحظة الأنظار، وتحمل المرء على البحث في سبب وجود هذا الفقر في شعر القتال في فتوح الشأم، بينما نجد شعرًا غزيرًا وافرًا أنتجته قرائح المتقاتلين في حروب العراق نظمه المحاربون المسلمون، ومحاربو القبائل العراقية الوثنية والمنتصرة التي حاربت مع الفرس، أو التي حاربت مع المسلمين أو تلك التي انضمت إلى المسلمين فيما بعد.
وسبب هذا الفقر في نظري، أن قبائل بلاد الشأم، كانت قد تأثرت بلغة وبثقافة أهل الشأم، وبالنصرانية المتأثرة بالسريانية وبالرومية وقد غلبت عليها نزعة الاستقرار، فاستقرت في حواضر حضرية كبيرة مثل دمشق وحمص وحلب، وقنسرين1، وغيرها، وهي حواضر معظم سكانها من السوريين والروم، لا من العرب، وكانت نصرانية، صلواتها بالسريانية، وثقافتها سريانية يونانية فتأثرت بثقافة من عاش بينهم، وانصرفت إلى الزراعة ورعي الماشية، وشابت لهجتها رطانة إرمية، ولم تحفل بالشعر احتفال بقية العرب به. لذلك لم يظهر من بينها شاعر فحل.
أما عرب العراق، فقد كانوا عربًا وأعرابًا، عربهم في قرى عربية، حكامها من العرب ورجال دينها نصارى، ولكنهم نصارى عرب أو مستعربة، علموا العربية في كنائسهم، ونشروا الخط العربي في خارج العراق، وتفقهوا في علوم العربية، وفي جملة هذه العربية الشعر. وأما أعرابهم، فقد كان قوم منهم نصارى والباقون على الشرك وعلى سمة الأعراب منذ وجدوا من الميل إلى الاستقلال وعدم الخضوع لحكم أحد، ومن الاعتزاز بالنفس والتعبير عن الأحاسيس المرهفة بقول الشعر، وأما حكامهم، وهم ملوك الحيرة، فكانوا على سنة كبار سادات القبائل من استقبال الشعراء والاستماع إلى إنشادهم، وتلبية طلباته، وكان من صالحهم اصطناع الشعراء لامتداد ملكهم إلى نجد واليمامة أحيانًا وإلى البحرين وهي من أهم مواطن الشعر في الجاهلية، والشعراء أبواق الدعاية في ذلك العهد، وقد
__________
1 فتوح البلدان "150".(17/428)
كان ملوك الحيرة شعراء، ينظمون الشعر، ولهم اطلاع ووقوف على شعر الشعراء، وكان من اتصل بهم من سادة الحيرة شعراء كذلك، لهم شعر مدوّن في كتب الأدب، وفيه ما قالوه في فتوح المسلمين للعراق، فمن هنا ظهر الشعر في العراق، على حين خمل في بلاد الشأم.
ولم تكن القبائل سواء في الشعر وفي عدد شعرائها، وهذا شيء طبيعي، لا يختلف فيه اثنان. وقد لاحظ ذلك علماء الشعر، فأشاروا إلى أسماء قبائل أنجبت في الشعر وأخصبت في الشعراء، وكان "الجاحظ" الكاتب الذكي ممن لاحظ ذلك، فقال: "وبنو حنيفة مع كثرة عددهم، وشدة بأسهم، وكثرة وقائعهم، وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرًا كلها، ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعرًا منهم. وفي إخوتهم عجل قصيد ورجز، وشعراء رجازون. وليس ذلك لمكان الخصب وأنهم أهل مدر، وأكالو تمر، لأن الأوس والخزرج كذلك، وهم في اشعر كما قد علمت. وكذلك عبد القيس النازلة قرى البحرين، فقد تعرف أن طعامهم أطيب من طعام أهل اليمامة.
وثقيف أهل دار ناهيك بها خصبًا وطيبًا، وهم وإن كان شعرهم أقل، فإن ذلك القليل يدل على طبع في الشعر عجيب، وليس ذلك من قبل رداءة الغذاء، ولا من قلة الخصب الشاغل والغنى عن الناس، وإنما ذلك عن قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز، والبلاد والأعراق مكانها.
وبنو الحاث بن كعب قبيل شريف، يجرون مجاري ملوك اليمن، ومجاري سادات أعراب أهل نجد، ولم يكن لهم في الجاهلية كبير حظ في الشعر. ولهم في الإسلام شعراء مغلقون.
وبنو بدر كانوا مفحمين، وكان ما أطلق الله به ألسنة العرب خيرًا لهم من تصبير الشعر في أنفسهم.
وقد يحظى بالشعر ناس ويخرج آخرون، وإن كانوا مثلهم أو فوقهم. ولم تمدح قبيلة في الجاهلية، من قريش، كما مُدحت مخزوم، ولم يتهيأ من الشاهد والمثل بالمادح في أحد من العرب، ما تيهأ لبني بدر.
وقد كان في ولد زرارة لصلبه، شعر كثير، كشعر لقيط وحاجب وغيرهما(17/429)
من ولده. ولم يكن لحذيفة ولا لحصن، ولا عيينة بن حصن، ولا لحمل بن بدر شعر مذكور"1.
وقال "يونس بن حبيب" الضبي، "ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس، وليس في هذيل إلا شاعر أو رام أو شديد العدو"2. وذكر "الجاحظ" أن "عبد القيس" بعد محاربة "إياد" تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين، وهم من أشعر قبيلة في العرب. ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي عدن الفصاحة3. ولابن سلام رأي في هذا الموضوع إذ يقول: "وبالطائف شعر وليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء. والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان"4.
وجاء أن أفصح الشعراء ألسنًا وأعربهم أهل السروات، وهن ثلاث، وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن، فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة السراة الوسطى، وقد شركتهم يقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد. أزد شنوءة، وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نضر بن الأزد5. وذكر أن قبيلة "هذيل" هي في طليعة القبائل عددًا في الشعراء، فقد روى العلماء لأربعين شاعرًا منهم في الجاهلية والإسلام، وهو عدد قياسي بالنسبة إلى عدد الشعراء الذين أنجبتهم القبائل الأخرى6، وقيل عنها إنها أعرقت في الشعر7. وروي أن سائلًا سأل "حسان بن ثابت": "من أشعر العرب؟ فقال: "أراحلًا أم حيًّا؟ قيل: بل حيًّا: قال: أشعر الناس هذيل"8. وكان "الشافعي" يحفظ
__________
1 الحيوان "4/ 381 وما بعدها".
2 الرافعي "3/ 20".
3 الرافعي "3/ 19".
4 ابن سلام "217".
5 الرافعي "3/ 18"، المزهر "2/ 483".
6 الرافعي "3/ 19".
7 تاج العروس "8/ 166"، "هذل".
8 المزهر "2/ 483".(17/430)
عشرة آلاف بيت من شعر هذيل بإعرابها وغريبها ومعانيها"1. وقد عدت "هذيل" أشعر القبائل في رأي بعض العلماء2.
وذكر الأخباريون أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم في كل شيء إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت له الشعراء بالشعر أيضًا ولم تنازعها3. وقالوا: إن قريشًا كانت أقل العرب شعرًا في الجاهلية، فاضطرها ذلك أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام4.
وروي عن "معاوية" أنه كان يقول: فضل المزنيون الشعراء في الجاهلية والإسلام. وكان يقول: أشعر أهل الجاهلية زهير بن أبي سلمى، وأشعر أهل الإسلام ابنه كعب، و "معن بن أوس". و "معن" شاعر مجيد من مخضرمي الجاهلية والإسلام5.
فبعض العرب مخصبين في الشعر، وبعضهم أقل خصبًا، وقد رجع "الجاحظ" سبب ذلك إلى الموهبة والطبع، فكما أن النبوغ يتفاوت بين إنسان وإنسان، كذلك يتفاوت الشعر بين قبيلة وقبيلة، ورجع "ابن سلام" ذلك إلى عامل البداوة، والحضارة، فالأعراب متشاجرون مكثرون من الغارات بغزو بعضهم بعضًا، والشعر يكثر بالحروب التي تكون بين الأحياء، أما الحضر، فإنهم لا يميلون إلى الحروب والمعارك، ولذلك يقل شعرهم على رأيه. ولهذا السبب قل شعر قريش لأنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا. فالحرب تهيج العواطف، وتحمل الناس على التحمس لها والدفاع عن أنفسهم وتكديس كل القوى للتغلب على العدو، والشعر من أهم وسائل تسعير نار الحرب.
وقد أشار أهل الأخبار إلى بيوت ذكروا أنها اشتهرت بقول الشعر، وبظهور المعرقين فيها. وضربوا أمثلة عليها ببيت "أبي سلمى". فقد كان شاعرًا واسمه ربيعة، وابنه زهير بن أبي سلمى، وله خؤولة في الشعر: خاله بشامة بن الغدير، وكان كعب وبجير ابنا زهير شاعرين، وجماعة من أبنائهما.
__________
1 المزهر "1/ 160".
2 بلوغ الأرب "3/ 140".
3 الأغاني "1/ 35".
4 طبقات الشعراء "10".
5 الإصابة "3/ 475"، "رقم 8452".(17/431)
وضربوا المثل ببيت "حسان بن ثابت"، فقد كان أبوه وجده وأبو جده شعراء، وابنه عبد الرحمن شاعر، وسعيد بن عبد الرحمن شاعر.
ومن البيوت التي عرفت بالشعر: بيت "نهشل بن حري بن ضمرة بن جابر بن قطن"، ستة ليس يتوالى في بني تميم مثلهم شعرًا، وكذلك بيت "النعمان بن بشير"، وكانت أمه "عمرة بنت رواحة" شاعرة، وخاله "عبد الله بن رواحة" أحد شعراء الرسول1.
ومن بيوتات الشعراء المعرقة في الجاهلية والإسلام، "آل الحارثي"، منهم "عبد يغوث بن الحارث بن وقاص" الحارثي. وكان شاعرًا من شعراء الجاهلية، فارسًا سيد قومه من "بني الحارث بن كعب"، وهو الذي كان قائدهم يوم "الكلاب" الثاني فأسرته "تيم" وقتلته. ومنهم "اللجلاج" الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه "مسهر" فارس شارع، وهو الذي طعن "عامر بن الطفيل" في عينه يوم "فيف الربح". ومنهم ممن أدرك الإسلام "جعفر بن علبة بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث" وكان شاعرًا صعلوكًا، أخذ في دم فحبس في المدينة ثم قتل صبرًا2.
وقد تعرض "جرجى زيدان" لموضوع تنقل الشعر في الأقاليم، فقال: "وإذا أحصبت شعراء الجاهلية الذين بلغنا خبرهم بالنظر إلى المواطن، رأيت نحو خمسيهم من نجد، والخمس الثالث من الحجاز، والرابع من اليمن والباقي من العراق، وفئة قليلة من البحرين واليمامة وتهامة"3، وذلك على اعتبار أن القبائل:
"كندة"، و "أسد"، و "مزينة"، و "عبس"، و "سلم"، و "عامر"، و "طيء"، و "جشم"، و "ضبيعة"، و "سعد"، و "ضبة"، و "جعدة"، و "باهلة"، و "تميم"، و "عكل"، و "بكر"، و "مرة"، و "نبهان"، من قبائل نجد، وأن "ذبيان"، و "هذيل"، و "الأوس"، و "الأزد" من الحجاز، وأن "يشكر"، و "تغلب"، و "العباد"، و "تميم"، و "بكر"، و "إياد"،
__________
1 العمدة "2/ 306".
2 الخزانة "2/ 202 وما بعدها".
3 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 74".(17/432)
من العراق، وأن "بكرًا"، و "ضبعًا"، من البحرين، وأن "بني ثعلبة" من اليمامة، وأن "فهمًا"، و "مزينة" من تهامة1. وهو تقييم لا يمكن الأخذ به في هذا اليوم، وفيه أخطاء، وقد بني على روايات لأهل الأخبار، تعارضها روايات أخرى لهم، لم يقابلها أو يطابق بعضها ببعض، فوقع لذلك في أوهام.
ونلاحظ أنه سار على رواية أهل الأخبار في تنقل الشعر في القبائل، فجعل "ربيعة" أول من نبغ في الشعر، ثم حوله على قيس فتميم. ثم ظهر اشعر بعد ذلك على رأيه في بطون مدركة من مضر، وهي: هذيل، وقريش، وأسد، وكنانة، والدئل وغيرهم. وكلهم من أهل البادية، وأما أهل المدن، فقلما نبغ بينهم شاعر فحل، وأشعرهم "حسان بن ثابت"2.
ومن أهم قبائل ربيعة وبطونها: بكر، وتغلب، وعبد القيس، والنمر بن قاسط، ويشكر، وعجل، و "جشم"، وحنيفة، وقيس بن ثعلبة، وضبيعة، وشبيان، وذهل، وسدوس. ومن أشهر شعراء هذه المجموعة المرقشان الأكبر والأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، خال طرفة، والأعشى، والمسيب بن علس وآخرون. وقد جعل "زيدان" عددهم "21" شاعرًا3.
وقد نزل بنو قيس بن ثعلبة وبنو حنيفة اليمامة. ومن بطون قيس بن ثعلبة: سعد بن ضبيعة، رهط الأعشى، ومن ديارهم "منفوحة". وكانوا بين الحياة الحضرية والحياة الأعرابية، يرعون الإبل والغنم، إلا أنهم أصحاب نخيل. أما حنيفة، فكانت تزرع وترعى، وقريتهم الكبرى "حجر"، وكانوا يزرعون الحبوب، ويمونون الأعراب ومكة بها. وكانت النصرانية قد وجدت سبيلها بينهم، وقد افتخر "الأعشى" بقومه على "إياد"، لأنهم أصحاب مال، أما "إياد"، فأصحاب زرع ينتظرون حصاد حبهم، وذلك في هجائه لهم بقوله:
__________
1 راجع "الصفحة 80 فما بعدها إلى انتهاء 84" من الجزء الأول.
2 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 74 وما بعدها".
3 العمدة "1/ 86 وما بعدها"، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 74 وما بعدها"، "تنقل الشعر في القبائل".(17/433)
لسنا كمن جعلت إياد دارها ... تكريت تنظر حبها أن يحصدا
جعل الإله طعامنا في مالنا ... رزقا تضمنه لنا أن ينفدا
مثل الهضاب جزارة لسوفنا ... فإذا تراع فإنها لن تطرد
ضمنت لنا أعجازهن قدورنا ... وضروعهن لنا الصريح الأجردا1
وقيس قبيلة كبيرة من بطونها: عبس، وذبيان، وعطفان، وعدوان، وهوازن، وسليم، وثقيف، وعامر بن صعصعة، ونمير، وجعدة، وقشير، وعقيل. وكانت هذه القبائل في نجد وأعالي الحجاز، وقد نبغ فيها جماعة من فحول الشعراء، منهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وكعب بن زهير ابنه، ولبيد، والحطيئة، والشماخ، وأخوه "مزرد"، وخداش بن زهير، وعنترة العبسي وغيرهم. وعندهم أن أشعر قيس الملقبون من بني عامر والمنسوبون على أمهاتهم من غطفان2. وقد جعل "زيدان" عدد شعراء الجاهلية بالنظر إلى القبائل، كانت قيس أكثرها شعراء، تلبها اليمن فرييعة، فمضر فقريش فقضاعة فإياد"3.
وأما "تميم"، فقبائل كثيرة من مضر، وأشهرها: مازن، ومالك، وسعد، ودارم، وبهدلة، ويربوع، وكعب، ومجاشع، وزرارة. وكانت منازلها في القديم تهامة، ثم نزحت إلى مواضع أخرى من جزيرة العرب، فسكن بعض منها في اليمامة، وبعض في العربية الشرقية، وقسم بنجد، ونزح قوم منهم إلى العراق، وأقاموا في البادية. وقد لعبت تميم شأن القبائل الكبيرة دورًأ خطيرًا في أحداث الجاهلية القريبة من الإسلام. ومن شعرائها: أوس بن حجر4.
وجعل "زيدان" عدد شعرائها "12" شاعرًا5. ولكنك لو سجلت أسماء الشعراء الذين وردت أسماؤهم في كتب الأدب والتأريخ، لوجدت أن عدد شعراء تميم
__________
1 ديوان الأعشى. القصيدة رقم 34، العصر الجاهلي "325".
2 الأغاني "2/ 92"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75"، العمدة "1/ 88".
3 تأريخ اللغة العربية "1/ 75".
4 العمدة "1/ 88".
5 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75".(17/434)
يزيد على العدد المذكور بكثير. فتميم من القبائل المخصبة بالنثر وبالنظم ولكلامها رأي ومقام عند علماء اللغة.
ومن مضر أيضًا: هذيل: وأسد، وكنانة، وقريش، والدئل. وهذيل من القبائل الساكنة في هضاب وجبال غير بعيدة عن مكة، وقد عد لسانها من الألسنة العربية الجيدة، واشتهرت بكثرة شعرها وبجودته، وقد جمعت في دواوين، وعني العلماء بجمعه وبشرحه، وبقيت منه بقية طبعت1.
وأما القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى اليمن، فهي: كندة، وطيئ، والأشعر، وجذام، والأزد، ولخم، ومذحج، ,وخزاعة، وهمدان، وغسان والأوس والخزرج2. ولبعض منها شعر وشعراء وردت أسماؤهم في ثنايا هذا الكتاب.
أما ميزات لغاتهم وخصائص نحوهم وصرفهم، فلا نعرف عنها غير قليل. لعدم تطرق علماء اللغة إلى هذه الميزات، خلا ما ذكروه من تفردهم في تفسير معاني بعض الألفاظ، مثل "التخوف" بمعنى التنقّص في لغة أزد شنوءة3.
ولدراسة شعر هذه القبائل، دراسة لغوية مقارنة، أهمية كبيرة بالنسبة للباحث في لغة العرب، إذ يستطيع بها الوقوف على مزاياها ومفارقاتها بالنسبة إلى العربية المعهودة، ومن الوقوف على الروابط اللغوية التي تجمع بين هذه اللغات التي يرجع أهل الأنساب والأخبار أصل المتكلمين بها إلى اليمن.
وأما مجموعة قضاعة، فجهينة، وضجعم، وتنوخ، وكلب4. وهي مجموعة لم تنجب عددًا كبيرًا من الشعراء، ولم يحفل علماء اللغة بلغتها، إذا لا نجد للهجتها ذكرًا خطيرًا في كتب اللغة، فلم يشيروا إليها في جملة القبائل التي ركنوا إلى الأخذ بلسانها للاستشهاد به في شواهد اللغة والنحو والصرف. ويظهر أن احتكاكها
__________
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 82 وما بعدها، 104".
2 تأريخ الآداب اللغة العربية "1/ 76".
3 تفسير الطبري "14/ 77"، "بولاق".
4 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 76".(17/435)
بالنبط وبالآراميين وأمثالهم، قد عرض لسانها إلى الأخذ من ألسنتهم وإلى التأثر بهم، حتى بان ذلك عليه، وهذا ما حمل علماء اللغة على عدم الاستشهاد به في جملة الشواهد. وأنا لا أستبعد احتمال وجود خصائص به، ميزته عن العربية القرآنية، بدليل أن أعراب الصفا "الصفاة"، وهم من أعراب بلاد الشأم، كانوا يتكلمون ويكتبون بعربية مباينة لعربيتنا، وقد تكلمت عن عربيتهم في الجزء السابع من كتابي القديم: تأريخ العرب قبل الإسلام، وأرض الصفا هي من مواطن تلك المجموعة.
وذهب "جرجي زيدان"، كما سبق أن قلت، إلى أن قيسًا أكثر القبائل عددًا في شعرائهم، تليها اليمن، فربيعة، فمضر، فقريش، فإياد. وقدر عدد شعراء الجاهلية الذين وصلتنا أخبارهم ب "125" شاعرًا، وزعهم على هذا النحو: ثلاثين شاعرًا في قيس، وثلاثة وعشرين شاعرًا في اليمن، وواحد وعشرين شاعرًا في ربيعة، وستة عشر شاعرًا في مضر، واثني عشر شاعرًا في تميم، وعشرة شعراء في قريش، وأربعة شعراء في قضاعة، وشاعرين في إياد. وشاعر واحد من أصل غير عربي، أي مولى1.
وقد سمى "أبو الفرج" لمضر سبعة وستين شاعرًا، ولليمن أربعين، وربيعة ثلاثة عشر: وسمى شعراء آخرين، منهم من يتصل بجديس، ومنهم من يتصل بجرهم2.
نرى مما تقدم أن الشعراء كانوا من مضر، ومن ربيعة، وهما من عدنان، كما كانوا في القبائل القحطانية ويذكر أهل الأخبار أن حظ القبائل المضرية من الشعر، كان أحسن حالًا من حظ ربيعة وقحطان، وأن حظ قبائل كل مجموعة من هذه المجاميع الثلاث كان متفاوتًا، فبينها المكثر، وبينها المقل. ولا نستطيع إرجاع سبب تفوق القبائل المضرية على قبائل ربيعة أو قحطان إلى اللغة، لأننا لا نملك حتى الآن صورة واضحة علمية عن اصل اللغة العربية التي نظم بها الشعر والتي نزل بها القرآن، حتى نستطيع البت بموجبها في موضوع هذا التفوق. وإذا جارينا أهل الأنساب في تقسيمهم العرب إلى عدنانيين وقحطانيين، جاز لنا حينئذ
__________
1 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75".
2 طه حسين: في الأدب الجاهلي "256".(17/436)
القول، بأن شعر القبائل القحطانية قد قل عن شعر عدنان من مضر وربيعة، بسبب استعراب هذه القبائل، أي أخذها لغة العدنانيين لغة لها، وتركها لغتها الأصلية لغة أهل اليمن، بسبب اتصالها بالقبائل العدنانية، فمن ثم قل شعرها بسبب هذا الاستعراب. ولكن ماذ يكون جوابنا عن تخلف ربيعة في الشعر عن مضر، وربيعة أخت مضر، في عرف النسابين، ولغتها مثل لغة مضر؟
والذي أراه، أن البت في مثل هذه المشكلات، هو أمر لا يمكن أن يكون علميًّا في الوقت الحاضر، فقد رأيت أن الأنساب حاصل تكتلات سياسية، وتجمعات قبلية، وأنها لم تكن حاصل نسب بالمعنى المفهوم من لفظة "نسب"، بمعنى الانحدار من صلب والدين، ورأيت أن العرب كانوا يتكلمون قبل الإسلام بلهجات متباينة، حصرناها في مجموعات استنبطناها من الكتابات الجاهلية، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنها تشمل كل لهجات العرب، فقد عثر حديثًا على كتابات جديدة لم تدرس بعد دارسة علمية كافية حتى نقول رأينا فيها، وقد يعثر في المستقبل على كتابات أخرى، قد تزيد في عدد ما نعرفه من المجموعات اللغوية العربية الجاهلية، وفي ظروف كهذه يكون من الصعب علينا الموافقة على ما يذهب إليه أهل الأخبار وما يذهب إليه التابعون لهم من المحدثين من تنقل الشعر في القبائل ومن توزع الشعراء بين مضر وربيعة وقحطان. والرأي عندي أن من الواجب علينا في الوقت الحاضر لزوم إجراء مسح عملي دقيق للهجات العرب في جزيرة العرب، بالبحث في كل مكان عن الكتابات الجاهلية وعن كتابات صدر الإسلام، وبدارسة كل ما كتبه علماء اللغة عن اللغات العربية في الكتب المعروفة وفي الكتب التي قد تكون مؤلفة بلهجات أهل العربية الجنوبية أو غيرها في الإسلام، وبدراسة اللهجات الباقية، ولا سيما اللهجات المنعزلة المتميزة بمميزات خاصة، واستنباط مزاياها وعلاقتها باللهجات القديمة، ثم غربلة كل هذه الدراسات لاستخلاص المجاميع اللغوية منها، وتحديد المواضع التي كانت تتكلم بهذه المجموعات، وبذلك نستطيع تكوين رأي عن لغة الشعر، وعن القبائل التي كانت تتكلم بها، وصارت لهجتها لهجة الشعر عند ظهور الإسلام.
وأغلب شعراء الجاهلية من أهل الوبر، أما شعراء أهل المدر فأقل منهم عددًا. ولم يظهر بين شعراء أهل المدر شاعر رفعه علماء الشعر وعشاق الشعر الجاهلي إلى(17/437)
مرتبة الشعراء الفحول من رجال الطبقة الأولى1 من طبقات الشعراء الجاهليين. وهم يقدمون شعراء البادية على شعراء الأرياف، ولا سيما شعراء الريف المتصل بالنبط والأعاجم، ولهذه النظرة التي تحمل طابع الغمز في صحة ألسنة عرب الأرياف، تحفظ أكثر علماء العربية في موضوع جواز الاستشهاد بشعر شعراء الحيرة مثلًا، لاتصال أهلها بالنبط ولاختلاطهم بالأعاجم.
__________
1 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75".(17/438)
فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:
الفصل الرابع والأربعون بعد المائة
الإعراب والعربية واللحن 5
الفصل الخامس والأربعون بعد المائة
النحو 35
الفصل السادس والأربعون بعد المائة
الشعر 62
الفصل السابع والأربعون بعد المائة
حدّ الشعر 123(17/439)
الفصل الثامن والأربعون بعد المائة
القريض والرجز والقصيد 169
الفصل التاسع والأربعون بعد المائة
العروض 192
الفصل الخمسون بعد المائة
البصرة والكوفة 213
الفصل الحادي والخمسون بعد المائة
العصبيَّة والشعر 228
الفصل الثاني والخمسون بعد المائة
تدوين الشعر الجاهلي 250(17/440)
الفصل الثالث والخمسون بعد المائة
أشهر رواة الشعر 277
الفصل الرابع والخمسون بعد المائة
تنقيح الشعر والدواوين 328
الفصل الخامس والخمسون بعد المائة
الشعر المصنوع 355
الفصل السادس والخمسون بعد المائة
أولية الشعر الجاهلي 406
الفهرست 439(17/441)
المجلد الثامن عشر
الفصل السابع والخمسون بعد المئة: أوائل الشعراء
...
الفصل السابع والخمسون بعد المائة: أوائل الشعراء
يقول علماء الشعر: "لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة"1. ثم تزايد عدد الأبيات وتنوعت طرق الشعراء في نظم الشعر، بتقدم الزمان، وبازدياد الخبرة والمران، وبتقدم الفكر، فظهرت القصائد المقصدة الطويلة، التي توّجت بالمعلقات. قال الأصمعي: "أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة، رجل من بني كنانة، والأضبط بن قريع". فهؤلاء هم أوائل الشعراء الجاهليين في نظر "الأصمعي"، ممن نظم كلمة بلغ عدد أبياتها ثلاثين بيتًا فما بعدها. "وقال ابن خالويه في كتاب ليس: أول من قال الشعر ابن خدام"2.
وذكر بعض العلماء أن القصائد إنما قصدت، والشعر إنما طول في عهد "عبد المطلب" أو "هاشم بن عبد مناف"، وذلك يدل على إسقاط عاد وثمود وحمير وتبع3. ولم يذكروا اسم أول من قصد القصائد وطوّل الشعر، ولكن رأي معظم علماء الشعر أن المهلهل هو أول من قصد القصائد وأول من قال كلمة تبلغ
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 48"، "دار الثقافة"، المزهر "2/ 474"، "أولية الشعر".
2 المزهر "2/ 477".
2 المزهر "2/ 474".(18/5)
ثلاثين بيتًا من الشعر. وزعم بعضهم أن "الأفوه الأودي" أقدم من المهلهل، وهو أول من قصد القصيد1. وإذا ذهبنا مذهب من يقول إن القصائد إنما ظهرت في أيام "عبد المطلب" أو "هاشم"، فيكون ذلك قبل الهجرة بمائة سنة على الأكثر1.
وزعمت بكر بن وائل أن أول من قال الشعر وقصد القصيد، هو "عمرو بن قميئة"، وكان في عصر "مهلهل بن ربيعة"، وعمر حتى جاوز التسعين. وكان "امرؤ القيس"، قد استصحبه لمّا شخص إلى قيصر، فمات في سفره ذلك3.
وذكر "ابن قتيبة" أن من قديم الشعر قول "دُويد بن نهد القضاعي":
اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدا كفيته ... يا رب نهب صالح حويته
وربّ عبل خشن لويته
وذكر من بعده اسم: "أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان"، ثم الحارث بن كعب4.
ولم يكن المذكورون أول من قصد القصيد، وتفنن في أبواب الشعر، وإنما هم أقدم من وصل اسمه إلى مسامع علماء الشعر، فصاروا من ثم أقدم شعراء الجاهلية. وقد نسب إلى "زهير بن أبي سلمى" قوله:
ما أرانا نقول إلا مُعارا ... أو معادًا من قولنا مكرورا
وإذا صح أن هذا البيت هو من شعره حقًّا، دلّ على اعتقاد الشاعر ومن كان في أيامه بقدم الشعر، وبتقدمه وبتطوره، وبتفنن الشعراء الذين عاشوا قبله، في طرق الشعر وذهابهم فيه كل مذهب، حتى صار من جاء بعدهم من الشعراء عالة عليهم فلا يقول إلا معارًا، أو معادًا من الشعر مكرورًا. وإلى هذا المعنى ذهب "عنترة" في قوله:
__________
1 المزهر "2/ 477".
2 الرافعي "3/ 14".
3 المرزباني، معجم "3 وما بعدها".
4 الشعر والشعراء "1/ 48 وما بعدها".(18/6)
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
فقد سبق الشعراء "عنترة" في قول الشعر، وفي الإبداع والتفنن به، حتى لم يتركوا له شيئًا جديدًا ليقوله.
ونجد الشاعر "لبيدًا"، يشير في شعره إلى الشعراء الذين تقدموا عليه، ويقول عنهم إنهم سلكوا طريق مرقش ومهلهل، حيث يقول:
والشاعرون الناطقون أراهم ... سلكوا طريق مرقش ومهلهل1
ولقد تعرض "الفرزدق" في قصيد له إلى من تقدم عليه من الشعراء فقال:
وهب القصائدَ لي النوابغُ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرولُ
والفحل علقمةُ الذي كانت له ... حلل الملوك كلامه لا ينحل
وأخو بني قيسٍ وهن قَتَلْنَهُ ... ومهلهل الشعراء ذاك الأول
والأعشيان كلاهما ومرقش ... وأخو قضاعة قوله يتمثل
وأخو بني أسد عبيدٌ إذ مضى ... وأبو دُؤاد قوله يتنخل
وابنا أبي سُلْمى زهيرٌ وابنه ... وابن الفريعة حين جد المقول
والجعفريُّ وكان بشر قبله ... لي من قصائده الكتابُ المجمل
ولقد ورثتُ لآل أوسٍ منطقًا ... كالسّمّ خالط جانبيه الحنظل
والحارثي أخو الحماس ورثته ... صَدْعا كما صدع الصّفاة المعول2
فهؤلاء هم من أقدم الشعراء العرب الذين وصل خبرهم إلينا على وفق هذه الأخبار والروايات. وهم ونفر آخر من أمثالهم قد عاشوا في أيام لا نستطيع أن نبتعد بها عن الإسلام بأكثر من قرن أو قرن ونصف قرن. وقد عسر على الذاكرة حفظ شيء عن أخبارهم وأيامهم، فلم تذكر عنهم غير أسمائهم وغير شيء يسير جدًّا عنهم، وخلا أبيات، لا ندري أهي من نظمهم حقًّا، أم هي من نظم
__________
1البيان والتبيين "2/ 183".
2 ديوان الفرزدق "720"، نقائض "200".(18/7)
من تحدث عنهم! وعلى موجب روايات أهل الأخبار تكون تلك الأبيات أقدم ما عندنا من شعر عربي.
وقد ولع بعض المحدثين بوضع سنين لتثبيت سنين مواليد ووفيات الشعراء، واكتفى بعضهم بوضع سنين لوفياتهم، وفعلهم هذا لا يستند إلى أساس علمي، لأننا لا نملك أدلة مقبولة صحيحة، تخولنا حتى وضع مثل هذه الأرقام، ثم إن في الكثير من هذا المروي عن حياة الشعراء ما هو غير صحيح، ولهذا فليس من المعقول أبدًا، وضع سنين لتحديد مواليد ووفيات أولئك الشعراء، والشيء الوحيد الذي نستطيع فعله هذا اليوم هو أن نشير إلى زمان من عاصروهم من الملوك كملوك الحيرة والغساسنة، فنحن على شيء من العلم بأوقات حكمهم، وأن نربط بين أيامهم وبين الحوادث الجسام التي أدركوها أو ساهموا فيها.
ونحن لا نستطيع ترتيب الشعراء ترتيبًا زمنيًّا يستند على سنوات الوفيات، فنقدم شاعرا على شاعر آخر استنادا إلى سنة الوفاة، لأننا لا نملك نصوصا فيها سني الوفاة. ثم إن حياة أقدم شاعر جاهلي لا يمكن أن تتجاوز المائة والخمسين سنة عن الإسلام على أكثر تقدير، وإن أكثرهم قد كانوا متعاصرين، وإن بين حياة الشاعر القديم منهم، وبين الشاعر المتأخر، فترات غير طويلة، تتطاول على العشرة سنين أو العشرين، وهي أزمنة لا تعد شيئًا بالنسبة إلى تأريخ هذا الشعر القصير الأجل.
ويجب ألا تخدعنا بعض العبارات التي نقرأها في كتب الأدب مثل قولهم: "وهو شاعر جاهلي قديم"، أو "هو شاعر قديم"، أو "هما قديمان"1، أو "وهو جاهلي قديم"2، وأمثال ذلك من تعابير تشير إلى قدم الشاعر أو الشعراء، فنأخذها على الصحة، ونقول بقدم الشاعر، أو الشاعرين، أو الشعراء، فإن أكثر من ذكر أهل الأخبار أنهم من الشعراء القدماء، هم من الذين كانوا في أيام حكم الملك "عمرو بن هند"، وقد كان حكم هذا الملك فيما بين السنة "554" والسنة "569" للميلاد. وإذا ما تذكرنا أن ميلاد الرسول كان في سنة "570" أو "571" للميلاد، عرفنا إذن أي قدم هو هذا القدم الذي توهموه
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 302".
1 الشعر والشعراء "1/ 192، 294".(18/8)
خذ ما قاله "ابن قتيبة" مثلا عن "زهير بن جناب" سيد "كلب" وهو في نظره من الشعراء المعمرين، تراه يقول: "وهو جاهلي قديم. ولما قدمت الحبشة تريد هدم البيت خرج زهير فلقي ملكهم، فأكرمه ووجهه إلى ناحية العراق يدعوهم إلى الدخول في طاعته ... "1. ولو جاريناه وأخذنا بصحة الخبر المزعوم، نكون قد جعلناه حيًّا في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، فقدوم الحبشة تريد هدم البيت، كان في عام الفيل، أي سنة "570" أو "571" للميلاد، أي العام الذي ولد فيه الرسول، فهل يعد "زهير بن جناب" إذن "جاهلي قديم"؟ وقد أدرك على حد قول "ابن قتيبة" ميلاد الرسول؟ ثم خذ ما قاله عن "ابني خذاق"، تراه يقول: "وهما قديمان، كانا في زمن عمرو بن هند"2، ثم خذ ما قاله عن "سلامة بن جندل"، إذ قال عنه: "جاهلي قديم"، وجعل أيامه في عهد "عمرو بن هند"3، وقد عرفنا أيام حكم "عمرو بن هند".
ثم خذ ما قاله عن "عبيد بن الأبرص"، تراه يقول: "وكان عبيد شاعرًا جاهليًّا قديمًا من المعمرين، وشهد مقتل حجر أبي امرئ القيس"4، أو خذ ما ذكره عن "عمرو بن قميئة"، حيث يقول: "وهو قديم جاهلي، كان مع حجر أبي امرئ القيس"5، بل خذ ما ذكره عن "امرئ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية" المعروف بـ "ابن حمام" أو "ابن حزام"، أو "ابن خذام"، الذي يقول عنه الشعراء إنه أول من بكى الديار عند العرب، وأنه عاش قبل امرئ القيس6، ترى أهل الأخبار يذكرون أنه كان معاصرا للشاعر "المهلهل"7، خال "امرئ القيس" الكندي. وإذا علمنا أن حكم ملوك كندة للحيرة، كان ما بين السنة "525" والسنة "528" للميلاد، وأن وفاة "الحارث" والد "حجر" والد "امرئ القيس" الشاعر الكندي، أي
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 294".
2 الشعر والشعراء "1/ 302".
3 الشعر والشعراء "1/ 192".
4 الشعر والشعراء "1/ 187".
5 الشعر والشعراء "1/ 292".
6 الشعر والشعراء "1/ 68 وما بعدها".
7 الخزانة "2/ 235"، "بولاق".(18/9)
جد الشاعر، قد كانت في سنة "528" للميلاد، وأن قتل "حجر" قد وقع بعده، استطعنا الحكم بأن أولئك الشعراء المذكورين قد عاشوا في النصف الأول من القرن السادس للميلاد، وأن حياة أقدم واحد منهم، لا يمكن أن تتجاوز قرنًا واحدًا قبل الإسلام، مهما بالغنا في التقدير.
وأما ما زعمه أهل الأخبار عن بعض أولئك الشعراء، من أنهم كانوا من المعمرين، وأن منهم من عمّر أكثر من ثلاثمائة سنة، وأن المعمر في نظرهم لا يعدّ معمرًا إلا إذا زاد عمره على المائة والعشرين عامًا، فأترك أمر تصديقه إلى القارئ، إن شاء أخذ به، متمنيًا له أيضًا عمر المعمرين وزيادة، وإن شاء رفضه، أما أنا، فلست من حزب الذين يعتقدون برأي أهل الأخبار في العمر وفي المعمرين، ولا أريد أبدًا أن أكون من أولئك المعمرين.
وقد قسم "محمد بن سلام" الجمحي المتوفى سنة "232" الشعراء إلى طبقات، ضمت كل طبقة جماعة من الشعراء، رأى أن بينها تشابهًا وتقاربًا فجمعهم لذلك في طبقة واحدة، أما "ابن قتيبة" فقد بدأ بأوائل الشعراء، وهم: "دويد بن نهد" القضاعي، ثم "أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان"، ثم "الحارث بن كعب"، وقد تحدث عنهم حديثا قصيرًا جدًّا، ثم تكلم عن بقية الشعراء وعلى رأسهم "امرؤ القيس" فزهير بن أبي سلمى، ولم يسر في كتابه على طريقة "ابن سلام" في عرضه الشعراء على طبقات، كما لم يسر على الترتيب الأبجدي لأسماء الشعراء أو على شهرتهم أو كناهم، كما سار غيره في مؤلفاتهم عن الشعراء.
وقد سار "جرجي زيدان" على مبدأ تقسيم الشعراء على وفق الأغراض التي نظموا شعرهم بها والتي غلبت طبائعهم عليها. فجعلهم: أصحاب المعلقات، وعددهم "10"، والشعراء الأمراء، وجمعهم في "14" رجلًا، والشعراء الفرسان، ومجموعهم "28"، والشعراء الحكماء، وحاصلهم "4"، والشعراء العشاق وعددهم "8"، والشعراء الصعاليك وهم "7"، والمغنون، وهم "1"، والنساء الشواعر، وعددهن "4"، والوصافون للخيل، وعددهم "4" والموالي، وعددهم "1"، وسائر الشعراء ومجموعهم "26"، ومجموع الجميع "121" شاعرا1.
__________
1 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 102".(18/10)
وقسم "كارلو نالينو" الشعراء الجاهليين إلى أربعة أصناف: الصنف الأول ما نسجه أهل البادية أو من تقرب منهم سواء كانوا وثنيين أم يهود من شعر، الثاني: أشعار الوثنيين الذين قصدوا ملوك الحيرة وبني غسان وجالسوهم، الثالث: أشعار النصارى بالحيرة أو في مملكة بني غسان، الرابع: أشعار أهل الحضر الوثنيين في مدن الحجاز1. وقد أدخل في الصنف الأول: تأبط شرًّا والشنفرى وأمثالهم، لأنهم رجال بادية عوائدهم أقرب للهمجية المحضة منها لأحوال أهل بلد ذات نظام اجتماعي، فسُمّوا "أولئك الرجال" الصعاليك2، وأدخل في هذا الصنف أيضًا أصحاب المعلقات، وحاتم الطائي، وعروة بن الورد، والأفوه الأودي، ودريد بن الصمة3. وأدخل في الصنف الثاني "زهير بن جناب" الكلبي، وطرفة بن العبد، وهو من أصحاب المعلقات، وأوس بن حجر، وبقية من كان لهم اتصال بملوك الحيرة والغساسنة4، وأدخل في الصنف الثالث: أبو دؤاد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي، وأدخل في الصنف الرابع قيس بن الخطيم، وأمية بن أبي الصلت5.
وأقدم من ذكرهم علماء الشعر من شعراء أهل الجاهلية: دويد بن نهد القضاعي، وأعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، والحارث بن كعب6، والعنبر بن عمرو بن تميم، والمستوغر بن ربيعة بن كعب بن نهد، وزهير بن جناب الكلبي، وجذيمة الأبرش، ولجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وابن حذام7، والأفوه الأودي، وذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، وضمرة، رجل من كنانة، والأضبط بن قريع. وقيل: "أول من قال الشعر ابن حذام"8.
ولهؤلاء البيت والبيتان والأبيات، ولم ترد لهم قصائد، لأن أول من قصد القصائد، ووضع القصيد هو المهلهل، على ما يزعمه أهل الأخبار.
__________
1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "71".
2 المصدر نفسه "ص72".
3 كذلك "ص74 وما بعدها".
4 كذلك "ص81".
5 كذلك "ص92 وما بعدها".
6 الشعر والشعراء "1/ 48 وما بعدها".
7 المزهر "2/ 475 وما بعدها".
8 المزهر "2/ 477".(18/11)
وقد قدم "ابن قتيبة" "دويد بن نهد" القضاعي على سائر الشعراء، وقال: "لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة. فمن قديم الشعر قول دويد بن نهد القضاعي:
اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدًا كفيته ... يا رب نهب صالح حويته
ورب عبل خشن لويته1
وقال بعد ذلك: وقال الآخر:
ألقي علي الدهر رجلًا ويدا ... والدهر ما أصلح يومًا أفسدا
يصلحه اليوم ويفسده غدا2
وهو رجز نسبه "ابن سلام" وغيره لدويد نفسه3.
وزعم أهل الأخبار أنه لما حضرته الوفاة، جمع آله، وقال يوصيهم: "أوصيكم بالناس شرًّا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوهم عثرة، قصّروا الأعنة وطوّلوا الأسنة، واطعنوا شزرًا، واضربوا هبرًا.." إلى آخر وصيته، ثم قال:
اليوم يبنى لدويد بيته ... يا رب نهب صالح حويته
ورب قرن بطل أرديته ... ورب غيل حسن لويته
ومعصم مخضب ثنيته ... لو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدا كفيته4
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 48"، "الثقافة"، ابن سلام، طبقات الشعراء "27"، السجستاني، المعمرون "19"، ابن سلام، طبقات "11" "طبعة ليدن"، المزهر "2/ 475".
2 الشعر والشعراء "1/ 48"، "حاشية رقم 3"، وورد:
يفسد ما أصلحه اليوم غدا
أمالي المرتضى "1/ 237".
3 الشعر والشعراء "1/ 48"، "حاشية رقم 3".
4 أمالي المرتضى "1/ 237"، وروي على هذه الصورة:
اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدا كفيته ... يا رب نهب صالح حويته
ورب غيل حسن لويته ... ومعصم مخضب ثنيته
تاج العروس "2/ 347"، "داد"، المزهر "2/ 475".(18/12)
وهو كلام يشعرك أنه نص لوصية الشاعر، ضبط ضبطًا، يشعرك أن ضابطه كان حاضرا إذ ذاك، وأنه سجله سجل المسجل للصوت، حتى وصل إلينا أصيلًا كاملًا لا تغيير فيه ولا تحوير، أما رأيي فيه، فهو أنه من هذه النصوص الكثيرة التي وضعها أهل الأخبار على ألسنة المتقدمين عليهم، والتي لا يمكن أن يركن إليها، ولا أن يؤخذ بها، ومن في استطاعته إثبات أنه نص أصيل، وليس لديه دليل قطعي يثبت تلك الإصالة.
ومن قدماء الشعراء: "أعصر بن سعد بن قيس عيلان"، وهو "منبه بن سعد" أبو باهلة وغني والطفاوة. وهو القائل:
قالت عميرة ما لرأسك بعدما ... نفد الزمان أتى بلون منكر
أعمير إن أباك شيَّب رأسه ... كره الغداة واختلاف الأعصر1
وذكر "ابن قتيبة" بعد "أعصر" اسم "الحارث بن كعب" وقال عنه: "وكان قديمًا"، وروى له هذه الأبيات:
أكلت شبابي فأفنيته ... وأفنيت بعد شهور شهورا
ثلاثة أهلين صاحبتُهم ... فبانوا وأصبحت شيخًا كبيرًا
قليل الطعام عسير القيا ... م قد ترك القيد خَطوي قصيرا
أبيت أراعي نجوم السماء ... أقلب أمري بطونا ظهورا2
والحارث بن كعب، هو "الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد" المذحجي، وهو من المعمرين، وقد نسبوا له وصية زعموا أنه لما حضرته الوفاة، جمع ولده، فخطبهم يوصيهم، وكان مما جاء فيها أنه على دين "شعيب" النبي، "وما عليه أحد من العرب غيري"، وغير "أسد بن
__________
1 المزهر "2/ 475"، الشعر والشعراء "1/ 48 وما بعدها"، "الثقافة"، ابن سلام، طبقات "28".
قالت عميرة ما لرأسك بعدما ... نفد الشباب أتى بلون منكر
أعمير أن أباك شيَّب رأسه ... مر الليالي واختلاف الأعصر
الشعر والشعراء "1/ 49".
2 الشعر والشعراء "1/ 49".(18/13)
خزيمة" و"تميم بن مرة"، ثم أوصاهم بوصية، على الطريقة المألوفة التي نراها في الوصايا التي تنسب في العادة إلى المعمرين، ثم ختمها بإنشاده الأبيات المذكورة1.
"والمستوغر بن ربيعة بن كعب بن نهد"، من قدماء المعمرين، بقي بقاء طويلًا حتى قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وازددت من عدد السنين مئينا
مائة أتت من بعدها مائتان لي ... وازددت من عدد الشهور سنينا2
وذكر "ابن دريد" أن "المستوغر" عاش ثلاثماية وعشرين سنة، ولقّب "المستوغر" لقوله:
ينش الماء في الرّبلاتِ منها ... نشيش الرضف في اللبن الوغير3
وذكر أنه أدرك الإسلام، أو كاد يدرك أوله. ونسبوا له قوله:
إذا ما المرءُ صمَّ فلم يكلّم ... وأودى سمعه إلا ندايا
ولاعب بالعشيّ بني بنيه ... كفعل الهرّ يحترش العَظايا
يلاعبهم وودّوا لو سقوه ... من الذيفان مترعةً ملايا
فلا ذاق النعيمَ ولا شرابًا ... ولا يشفي من المرض الشفايا4
وزعم "أن المستوغر مرّ مرة بعكاظ يقود ابن ابنه خرفًا، فقال له رجل:
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 232".
2
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وازددت من عدد السنين مئينا
مائة أتت من بعدها مائتان لي ... وازددت من بعد الشهور سنينا
هل ما بقى إلا كما قد فاتني ... يوم يمر وليلة تحدونا
الشعر والشعراء "1/ 300".
المزهر "2/ 475"، "وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن حر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر"، أمالي المرتضى، "1/ 234"، المعمرون "7"، المرزباني، معجم "313".
3 الاشتقاق "1/ 154"، الشعر والشعراء "1/ 300".
4 أمالي المرتضى "1/ 235"، ابن سلام، طبقات "30".(18/14)
يا عبد الله أحسن إليه، فطالما أحسنَ إليك! قال: أوتدري من هو؟ قال: نعم هو أبوك أو جدك، قال: هو والله ابن ابني! قال الرجل: لم أرَ كاليوم في الكذب ولا مستوغر بن ربيعة!! قال: فأنا المستوغر بن ربيعة". "قال أبو عمرو بن العلاء: عاش المستوغر ثلاثمائة سنة وعشرين سنة"1.
وقد ذكره "ابن حجر" في الصحابة، وقال عنه: "المستوعز، بعين مهملة ثم زاي، ابن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم السعدي، أبو بيهس، واسمه عمرو، والمستوعز لقب". وكان من فرسان العرب في الجاهلية، وقال "المرزباني" إنه عاش في أيام معاوية، ويقال مات في صدر الإسلام2. والأغلب أن وفاته كانت قبل الإسلام، وأنه لا يمكن لذلك عده في الصحابة.
والأفوه الأودي، هو "صلاءة بن عمرو بن مالك" من "مذحج"، ومذحج من اليمن، فهو من اليمانيين، وكان من سادات قومه وقائدهم في حروبهم، وكانوا يصدرون عن رأيه، والعرب تعده من حكمائها، بما اشتمل عليه شعره من الحكمة3. وقد اشتهر بقصيدته:
فينا معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومُهم ما أفسدوا عادوا
لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم ... فالجهل منهم معًا والغيّ ميعاد
أضحوا كقيل بن عمرو في عشيرته ... إذ أهلكت بالذي سدّى لها عاد
أو بعده كقدارٍ حين تابعه ... على الغواية أقوامٌ فقد بادوا
والبيت لا يُبتنى إلا له عمدٌ ... ولا عماد إذ لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتادٌ وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
وإن تجمع أقوام ذوو حسب ... اصطاد أمرهم بالرشد مصطاد
لا يصلح الناسُ فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تبقي الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقاد
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 301"، الإصابة "3/ 468"، "رقم 8407".
2 الإصابة "3/ 468"، "8407".
3 الشعر والشعراء "1/ 149"، الأغاني "11/ 41"، العيني "1/ 421"، تاج العروس "9/ 405"، "فوه"، معاهد التنصيص "2/ 159"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 117".(18/15)
إذا تولى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم فازدادوا
أمارة الغي أن يُلقى الجميع لذي ... الإبرام للأمر والأذناب أكتاد
حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا ... فيهم صلاح لمرتاد وإرشاد
فسوف أجعل بُعد الأرض دونكم ... وإن دنت رحمٌ منكم وميلاد
إن النجاء إذا ما كنت ذا نفر ... من أجّة الغيّ إبعادٌ فإبعاد
فالخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قلما زاد
وقد رويت بعض الأبيات بصور مختلفة. فلابن دريد قراءة، ولأبي بكر بن الأنباري قراءة. وقد نص "القالي" على القراءتين1 ومن أبياتها:
كيف الرشاد إذا ما كنت في نفرٍ ... لهم عن الرشد أغلال وأقياد
أعطوا غواتهم جهلًا مقادتهم ... فكلهم في حبال الغي منقاد2
وله قصيدة تعد من جيد شعره، أولها:
إن ترى رأسي فيه نزعٌ ... وشواي خلّة فيها دُوار
إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار
ولياليه إلالٌ للقوى ... ومدى قد تجتليها وشفار
وصروف الدهر في إطباقه ... خلفةٌ فيها ارتفاع وانحدار
بينما الناس على عليائها ... إذ هَوَوا في هوة منها فغاروا
حَتَم الدهر علينا أنه ... ظلفٌ ما نال منا وجبار3
وهو القائل:
والمرءُ ما يُصلح له ليلةٌ ... بالسعد تُفْسُدُهُ ليالي النحوس
والخير لا يأتي ابتغاء به ... والشر لا يفنيه ضرح الشموس4
__________
1 الأمالي "2/ 224 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 5"، الشعر والشعراء "1/ 149".
2 بلوغ الأرب "3/ 106".
3 بلوغ الأرب "3/ 105 وما بعدها".
4 الشعر والشعراء "1/ 149".(18/16)
وله ديوان مطبوع1.
وذكر أن النبي نهى عن إنشاد قصيدة الأفوه:
إن ترى رأسي فيه نزع ... وشواي خلة فيها دوار
وذلك لورود ذم فيها لبني هاجر مثل قوله:
يا بني هاجر ساءت خطة ... أن تروموا النصف منا ونجار
إن يجل مُهرى منكم جولة ... فعليه الكر فيكم والغوار
نحن أود ولأود سنة ... شرف ليس لنا عنها قصار
سنة أورثناها مذحج ... قبل أن ينسب للناس نزار2
وهي قصيدة يمانية، فيها تعصب ليمن، وتهجم على "نزار" أبناء هاجر، أي العدنانيين، ولهذا ذكر الرواة أن النبي نهى عن روايتها، وهي من موضوعات الصراع القحطاني النزاري المعروف، أرادت النزارية طمسها، فروت أن النبي نهى عن روايتها، والنهي والقصيدة -في نظري- من المصنوعات التي ظهرت بعد وفاة النبي، وأسلوب نظم القصيدة يتجسس على أصالتها، يتحدث أنه من النظم الإسلامي.
وأورد "المعري" له هذا البيت:
كشهاب القذف يرميكم به ... فارس في كفه للحرب نار
وهو بيت من "رائيته" التي يعدونها من أجود الشعر العربي3.
وهي قصيدة يقول عنها "الجاحظ": "وما وجدنا أحدًا من الرواة يشك في أن القصيدة مصنوعة"4. ونظرًا لإشارة "الجاحظ" إليها، فإن صنعها يجب
__________
1 طبعة عبد العزيز الميمني في الطرائف الأدبية، "القاهرة 1937م" بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 117".
2 راجع ديوانه، "القاهرة 1937م".
3 رسالة الغفران "297"، "رقم الحاشية 5".
4 الحيوان "6/ 280"، النوادر "1/ 169"، معاهد التنصيص "4/ 95".(18/17)
أن يكون قبل أيامه، في الإسلام على أثر ظهور العصبية النزارية في أيام الأمويين، فوضعها أحدهم على لسان الأفوه في التعريض بالنزاريين.
ونسب "الجاحظ" له قوله:
أضحت قُرينةُ قد تغير بشرها ... وتجهّمت بتحية القوم العدا
ألوت بإصبعها وقالت إنما ... يكفيك مما لا ترى ما قد ترى1
كما نسب له قوله:
تهنا لثعلبة بن قيس جفنة ... يأوي إليها في الشتاء الجوع
ومذانب لا تستعار وخيمة ... سوداء عيب نسيجها لا يرفع
وكأنما فيها المذانب حلقة ... وذم الدلاء على دلوج تنزع2
وقد نسبت إليه أبيات ورد فيها ذكر "التبابعة والمثامنة وأولاد نوح: سام وحام ويافث"، هي:
فلو دام الخلود إذن جدودي ... وأسلافي بنو قحطان داموا
ودام لهم تبابعهم ملوكا ... ولم تمت المثامنة الكرام
وعاش الملك ذو الأذعار عمرو ... وعمرو حوله اللجب اللهام
وخلد ذو المنار وما تردى ... أبوه الرائش الملك الهمام
ملوك أدت الدنيا إليها ... إتاوتها ودان لها الأنام
ولما يعصها سام وحام ... ويافث حيث ما حلت ولام3
ونسبت إليه أبيات في مدح "مذحج"، وفي الإشادة بكرمها، أولها:
نعظم النار إذ النار التي ... شبّها عنس خبت أو صعصعة4
والشعر المتقدم من الشعر المصنوع ولا شك، وضعه قوم من المتعصبين للقحطانية على النزاريين، أي العدنانيين.
__________
1 البيان والتبيين "1/ 197 وما بعدها".
2 البخلاء "223 وما بعدها".
3 تأريخ ملوك العرب الأولية "28 وما بعدها".
4 المصدر نفسه "ص137".(18/18)
ومن الشعراء القدماء: "زهير بن جناب" الكلبي، سيد بني كلب وقائدهم، وكان شجاعًا مظفرًا ميمون النقيبة في غزواته1. ذكر أنه لما قدمت الحبشة تريد هدم البيت خرج "زهير" فلقي ملكهم، فأكرمه ووجهه ناحية العراق يدعوهم إلى الدخول في طاعته، فلما صار في أرض "بكر بن وائل" لقيه رجل منهم فطعنه، لكنه نجا وفر هاربًا، وعمر طويلًا. وقد مات منتحرًا. شرب الخمر صرفًا حتى قتلته. وفي الشعر المنسوب إليه ما يشك بصحة نسبته إليه. وقد ذكر أنه كان في أيام "داود بن هُبالة"، الذي كان أول ملك للعرب في بلاد الشام، فغلبه ملك الروم على ملكه، فصالحه داود على أن يقره في منازله ويدعه فيكون تحت يده، ففعل. فكان يغير بمن معه، ثم تنصر وكره الدماء وبنى ديرًا، سمي "دير اللثق"، وأنزله الرهبان، ثم إن ملك الروم طلب منه أن يغزو بمن معه من العرب، ففعل وكان معه في جيشه زهير بن جناب. فقتل زهير بن جناب "هداج بن مالك" سيد عبد القيس، فتواعد رجلان من قضاعة على قتل "داود"، وكان إذا سار ليلًا، سار وأمامه شمعة، فقتلاه2.
"قال أبو حاتم: عاش زهير بن جناب مائتي سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتي وقعة، وكان سيدًا مطاعًا شريفًا في قومه، ويقال: كانت فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم -والطب في ذلك الزمان شرف- وحازي قومه -والحزاة الكهان- وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم.
ونسبوا له وصية، ذكروا أنه أوصى بها بنيه حين حضرته الوفاة، وذلك على طريقتهم عند تحدثهم عن المعمرين.
وقد أورد أهل الاخبار له شعرًا، في العمر وفي النساء وفي مخاطبة أولاده1. وقد نسبوا له هذا الشعر:
__________
1 الأغاني "21/ 93 وما بعدها"، ابن سلام "30"، جمهرة ابن حزم "426"، المؤتلف "130"، المحبر "250"، المعمرون "24"، الشعر والشعراء "1/ 294 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "82"، المزهر "2/ 475 وما بعدها".
2 أسماء المغتالين "127".
3 أمالي المرتضى "1/ 238 وما بعدها".(18/19)
لقد عُمّرت حتى لاأبالي ... أحتفي في صباحي أو مسائي
وحق لمن أتت مائتان عاما ... عليه أن يمل من الثواء
شهدت الموقدين على خزاري ... وبالسلان جمعا ذا زهاء
ونادمت الملوك من آل عمرو ... وبعدهم بني ماء السماء1
ومن جيد شعره قوله:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوما فتدركه عواقب ما جنى
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
وهو شعر نسبه "ابن قتيبة" إليه، غير أن من العلماء من نسبه لورقة بن نوفل، ومنهم من نسبه لغريض اليهودي، وقيل لابنه "سعية"، ومنهم من نسبه لشعراء آخرين2.
أما المهلهل، فهو امرؤ القيس بن ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير بن جشم، وإنما سمي مهلهلا لبيت قاله لزهير بن جناب الكلبي:
لما توعر في الكراع هجينهم ... هلهلت أثأر جابرا أو صنبلا
وقيل إن اسمه كان عديًّا، وقد ذكره "امرؤ القيس" في شعره3. ولقب مهلهلا لطيب شعره ورقته، أو لأنه أول من أرق المراثي، أو لأنه أول من قصد القصائد، وقال الغزل، فقيل: هلهل الشعر أي أرقه4. وفيه يقول الفرزدق:
__________
1 المعمرون "26 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 296"، "حاشية رقم 7".
3
رفعت رأسها إلي وقالت ... يا عديا لقد وقتك الأواقي
ضربت صدرها إلي وقالت ... يا عديا لقد وقتك الأواقي
"وقال الصاغاني في التكملة: وليس البيت لمهلهل وإنما هو لأخيه عدي، ويروى البيت: ضربت صدرها، "السيوطي شرح شواهد المغني 656"، "حاشية 4"، الخزانة "1/ 300"، "بولاق"، الأغاني "4/ 139".
ضربت صدرها إليّ وقالت ... يا امرأ القيس حان وقت الفراق
4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 656 وما بعدها".(18/20)
ومهلهل الشعراء ذاك الأول1
وزعم أنه كان به خنث. وهو أخو "كليب وائل" الذي هاجت بمقتله حرب بكر وتغلب. وهو جدّ "عمرو بن كلثوم"، أبو أمه "ليلى"، وخال امرئ القيس الشاعر3.
وقد تطرق "المعري" في "رسالة الغفران" إلى سبب اشتهار "المهلهل" بهذا النعت، فجعل أحد الأشخاص يسأله: "أخبرني لم سميت مهلهلا؟ فقد قيل: إنك سميت بذلك، لأنك أول من هلهل الشعر، أي رققه".
فيقول: إن الكذب لكثير. وإنما كان لي أخ يقال له امرؤ القيس، فأغار علينا زهير بن جناب الكلبي، فتبعه أخي في زرافة من قومه، فقال في ذلك:
لما توقل في الكراع هجينهم ... هلهلت أثأر مالكا أو صنبلا
وكأنه باز علته كبرة ... يهدي بشكته الرعيل الأولا4
وقد أورد "المعري" له بيتا، هو أول بيت من قصيدة تنسب إليه، هو:
أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذنائب طال ليل ... فقد أبكي من الليل القصير5
وأورد له بيتًا آخر هو:
أرعدوا ساعة الهياج وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا
وذكر أن "الأصمعي" كان ينكره ويقول: إنه مولد. وكان أبو زيد
__________
1 ديوان الفرزدق "72"، الشعر والشعراء "256"، "1/ 215"، "الثقافة"، ديوان الفرزدق "2/ 159".
2 الشعر والشعراء "1/ 215"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 164"، "هارون".
3 الشعر والشعراء "1/ 215"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 164"، "هارون"، ابن سلام، طبقات "33 وما بعدها"، الأغاني "4/ 140"، المرزباني، معجم "248"، اللآلئ "111"، الأغاني "5/ 34"، "دار الكتب"، الأصمعيات "174".
4 رسالة الغفران "354".
5 رسالة الغفران "353".(18/21)
يستشهد به ويثبته1.
"وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزًا وقطعًا، وأنه إنما قصد على عهد هاشم بن عبد مناف، وكان أول من قصده مهلهل وامرؤ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونيف وخمسون سنة. ذكر ذلك الجمحي وغيره"2.
وقيل إنه كان أول شاعر بلغت قصائده ثلاثون بيتًا من الشعر، فاحتذى من جاء بعده حذوه. وأن أول قصيدة قالها كانت في قتل أخيه كليب3. وأنه كان أول من كذب في شعره، بقوله:
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
ويذكرون أن هذا البيت هو من أول كذب العرب، وكانت العرب قبل ذلك لا تكذب في أشعارها، وكان بين الموضع الذي كانت فيه هذه الواقعة وهي بالجزيرة وبين حجر وهي قصبة اليمامة مسافة بعيدة، فأخرجه هذا الشاعر بقوة منّته ونفاذ فطنته إلى معنى أخر مستظرف في بابه4. وقد اتهمه البعض بأنه كان يتكثر ويدعي قوله بأكثر من فعله5.
وزعم أنه أحد البغاة، لقوله:
قل لبني حصن يردونه ... أو يصبروا للصيلم الخَنْفَقيق
من شاء دلى النفس في هوة ... ضنكٍ ولكن من له بالمضيق6
أمرهم أن يردّوا كليبا وقد قتل، وأعلمهم أنه لا يرضى بشيء غير ذلك.
__________
1 رسالة الغفران "354".
2 العمدة "1/ 189"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
3 زيدان تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 67",
ولولا الريح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
الشعر والشعراء "1/ 216"، "الثقافة"، البيان والتبيين "1/ 124"، الحيوان "6/ 418"، العمدة "2/ 50"، الأغاني "4/ 146"، المرزباني، معجم "331"، نقد الشعر، لقدامة "84"، الموشح "74".
4 زهر الآداب "1/ 234"، الشعر والشعراء "1/ 216"، الأغاني "14/ 152"، خزانة الأدب "1/ 302 وما بعدها".
5 السيوطي، شرح "2/ 657".
6 الشعر والشعراء "1/ 216"، "الثقافة".(18/22)
وهو أحد أصحاب المنتقيات السبع، المدونة في كتاب: "جمهرة أشعار العرب".
وقد ذكره "لبيد" في شعره، فجعله و "مرقشا" من الشعراء الذين مهدوا السبيل لمن جاء بعدهم في نظم الشعر، فالشاعرون الناطقون الذين جاءوا بعدهما إنما سلكوا دروبهما في نظم الشعر:
والشاعرون الناطقون أراهم ... سلكوا سبيل مرقش ومهلهل1
وكان مهلهل القائم بالحرب ورئيس تغلب، فلما كان يوم قضة، وهو آخر أيامهم، وكان على تغلب، أسر "الحارث بن عبّاد" مهلهلا وهو لا يعرفه، فقال له الحارث: تدلني على عدي بن ربيعة المهلهل وأنت آمن؟ فقال له "المهلهل": إن دللتك على عدي فأنا آمن ولي دمي؟ قال: الحارث: نعم، قال: فأنا عدي1 فجز ناصيته وخلاه، وقال: لم أعرف. وفي ذلك يقول الحارث بن عباد:
لهف نفسي على عدي ... ولم أعرف عديا إذ أمكنتني اليدان
طُلَّ من طُلَّ في الحرب ولم ... يطلل قتيل أبأته ابن أبان2
ثم خرج "مهلهل" فلحق باليمن، فنزل في "جنب"3، فخطب إليه رجل منهم ابنته، فقال: إني طريد غريب فيكم، ومتى أنكحتكم قال الناس اعتسروه، فأكرهوه حتى زوجها، وكان المهر أدما، فقال:
أنكحَهَا فَقْدُها الأراقمَ في ... جنب وكان الحباء من أدم
لو بأبانين جاء يخطبها ... رُمل ما أنف خاطبٍ بدم
ثم انحدر، فلقيه "عوف بن مالك بن ضبيعة"، وهو أبو أسماء صاحبة
__________
1 ديوان لبيد "276"، "39"، البيان والتبيين "2/ 183".
2 الشعر والشعراء "1/ 216 وما بعدها".
3 حي من اليمن.(18/23)
المرقش الأكبر، فأسره فمات في إساره1. وللأخباريين قصص عن كيفية موته2.
ونسبوا له قصيدة رثى بها أخاه كليبًا، بقوله:
أليلتنا بذي حُسُمٍ أنيري ... إذا أنتِ انقضيتِ فلا تحوري
وفيها:
على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا طرد اليتيم عن الجزور
على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا رجف العضاة من الدبور
على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلًا من كليب ... غداة تلاتل الأمر الكبير
على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا ما خام جار المستجير3
وأورد المرتضى "مرثية" لليلى الأخيلية رثت فيها: ثوبة بن الحمير، لها أسلوب خاص في الرثاء، حيث ترد جملة: "لنعم الفتى" و"نعم الفتى" في أوائل أربعة أبيات من القصيدة، تلتها "لعمري لأنت المرء أبكي لفقده" أربع مرات مكونة الأنصاف الأولى من الأبيات، ثم "أبى لك ذم الناس يا ثوب كلما" مرتين، ثم: "فلا يبعدنك الله يا ثوب إنما"، ثم "ولا يبعدنك الله يا ثوب إنها" مرة، ثم: "ولا يبعدنك الله يا ثوب والتقت". فخرجت من تكرار إلى تكرار لاختلاف المعاني4.
وروى قصيدة أخري لابنة عم للنعمان بن بشير رثت فيها زوجها، أنصاف أبياتها الأولى: "وحدثني أصحابه أن مالكا"، أما القافية فهي على اللام.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 216 وما بعدها"، الخزانة "2/ 173".
2 أسماء المغتالين "208".
3 أمالي المرتضى "1/ 132 وما بعدها".
4 أمالي المرتضى "1/ 124 وما بعدها".
5 أمالي المرتضى "1/ 126".(18/24)
ومن معاصري "مهلهل" الشاعر "امرؤ القيس بن حمام بن عبيدة بن هبل" ابن أخي "زهير بن جناب بن هبل"، وزعم بعضهم أنه الذي عنى "امرؤ القيس" بقوله: نبكي الديار كما بكى ابن حذام. وكان مهلهل تبعه "يوم الكلاب" ففاته ابن حمام بعد أن تناوله "مهلهل" بالرمح. وكان "ابن حمام" أغار على "بني تغلب" مع زهير بن جناب فقتل جابرًا وصنبلًا. وفيهما يقول مهلهل:
لما توعر في الكلاب هجينهم ... هلهلتُ أثأر جابرًا أو صنبلًا
و"امرؤ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية"، أو "امرؤ القيس بن حارثة بن خذام بن معاوية" على رواية أخرى، أو "ابن خذام"، أو "ابن حذام"، هو شاعر سبق "امرأ القيس" الكندي في البكاء على الديار وتذكر الأطلال، استنتجوا ذلك من شعر ينسب لامرئ القيس، هو:
يا صاحبيَّ قفا النواعجَ ساعة ... نبكي الديارَ كما بكى ابن حمام
أو "ابن خذام" في رواية "أبي عبيدة".
ومن بيت آخر هو:
عوجا على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام2
وابن "خذام"، و "ابن حمام"، و "ابن حزام" و "ابن حذام"، اسم الشاعر، وهو اسم واحد، تحرف بالرواية وبالنسخ، فصار على هذه الصور.
ومن شعراء ربيعة "سعد بن مالك"، الذي يقول:
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا3
__________
1 الخزانة "2/ 235"، "بولاق".
2 الشعر والشعراء "1/ 68 وما بعدها"، المزهر "2/ 238".
عوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام
الآمدي، المؤتلف "109"، ديوان امرئ القيس "114"، المزهر "2/ 477"، بروكلمان "1/ 60".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 657".(18/25)
قال هذا البيت في قصيدة يعرض فيها بـ "الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة" من حكام "ربيعة" وفرسانها المعدودين، وكان اعتزل حرب "بني وائل" وتنحى بأهله وولده وولد إخوته وأقاربه، وحل وتر قوسه، ونزع سنان رمحه، ولم يساهم في الحرب التي هاجت بين بكر وتغلب ابني وائل، وهي حرب البسوس.
وسعد، هو "سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل". وكان أحد سادات بكر بن وائل وفرسانها في الجاهلية. وكان شاعرًا، وله أشعار جياد في كتاب بني قيس بن ثعلبة1.
وفي رواية تنسب إلى "دغفل" النسّابة أنه كان جد "طرفة بن العبد"2. وطرفة، هو: "عمرو بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"3، وإذا أخذنا بهذا النسب نرى أن "سعد بن مالك"، هو جد "العبد" والد "طرفة". وإذا أخذنا برواية من جعل نسب الشاعر "عمرو بن قميئة" على هذه الصورة: "عمرو بن قميئة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، فيجب عده ابنًا من أبناء "سعد بن مالك"، أما إذا اعتبرنا نسبه على هذه الصورة: "عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك"، فنكون بذلك قد جعلناه حفيدًا له، ويكون "ذريح"، ابنًا من أبناء هذا الشاعر4.
ويظهر من نسب المرقش الأكبر، وهو "ربيعة بن سعد بن مالك"، ويقال: "بل هو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"5، أنه كان ابنًا، لسعد بن مالك، الشاعر الذي نتحدث عنه، وإذا ذهبنا مذهب من يقول إن المرقش الأصغر كان أخا للمرقش الأكبر، فيكون بذلك ابنًا من أبناء "سعد بن مالك"، وأما إذا أخذنا برواية من يذكر أنه كان ابن أخي المرقش الأكبر وأنه "عمرو بن حرملة"، أو "ربيعة بن سفيان" فيكون ابن ابن "سعد بن
__________
1 الخزانة "1/ 223 وما بعدها".
2 ذيل الأمالي "ص26".
3 شرح القصائد العشر "ص9"، "إخراج محمد محيي الدين عبد الحميد".
4 راجع نسبه في الخزانة "2/ 250" وفي المراجع الأخرى التي ذكرتها في أثناء حديثي عنه.
5 الشعر والشعراء "1/ 138"، "دار الثقافة".(18/26)
مالك"، أي حفيده، ويكون المرقش الأكبر عمه إذن ويكون بيت "سعد بن مالك" من البيوت التي عرفت بالشعر.
وروي أن الشاعر "خزز بن لوذان" السدوسي، كان قبل امرئ القيس. وقد نسب بعض أهل الأخبار له قوله:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحا
ونسب هذا الشعر لغيره من الشعراء1.
ونسب له قوله:
كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقًا فاذهبي
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون لونك مثل لون الأجرب
وكانت له فرس اسمها ابن النعامة، ورد ذكرها في هذا الشعر2.
ويجب أن نضيف إلى الشعراء المتقدمين شاعرًا يظهر من روايات أهل الأخبار، أنه لم يكن من فحول الشعراء، ولا من أوساطهم وإنما كان "شويعرًا"، ولذلك عرف ب "الشويعر". ويذكر أهل الأخبار أنه كان أحد من سمي "محمدًا" في الجاهلية، وهم سبعة، واسمه الكامل: "محمد بن حمران بن أبي حمران". وهو قديم3. كان "امرؤ القيس" أرسل إليه في فرس يبتاعها منه، فأبى فقال فيه:
أبلغا عني الشويعر أني ... عمد عين قلدتهن حربما
وحربم، هو جد الشويعر4. فقال الشويعر مخاطبا امرأ القيس:
أتتني أمور فكذبتها ... وقد نميت لي عامًا فعاما
بأن امرأ القيس أمسى كئيبا ... على آله ما يذوق الطعاما
__________
1 ونسب لعبد الله بن الزبعرى الخزانة "2/ 231 وما بعدها".
2 تاج العروس "9/ 83"، "نعم".
3 المؤتلف "141 وما بعدها"، "208"، "فراج".
4 البيان "2/ 10"، الآمدي، المؤتلف "141".(18/27)
لعمر أبيك الذي لا يهان ... لقد كان عرضك مني حراما
وقالوا هجوت ولم أهجه ... وهل يجدن هاج فيك مراما1
وذكر الشاعر "ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم"، بعد مهلهل في تقصيد القصائد، وهو "عمرو بن تميم"، وهو من تميم، قيل إنه كان شاعرًا قديمًا، وهو الذي يقول:
يا كعب إن أباك منحمق ... إن لم تكن بك مرة كعب
وهي أبيات قديمة يقول فيها:
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدى الصحاح مبارك الجرب2
والأضبط بن قريع، هو "الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم"، فهو من "بني تميم". وقد عدّ في المعمرين3. وقد أورد "الجاحظ" له شعرا منه:
لكلّ همّ من الهموم سَعَه ... والمسي والصبح لا فلاح معه
فصل حبالَ البعيد إن وصل الـ ... ـحبل وأقصِ القريب إن قطعه
وخذ من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينًا بعيشه نفعه
لا تحقرن الفقير عَلَّكَ أن ... تركع يومًا والدهر قد رفعه
قد يجمع المال غيرُ آكله ... ويأكل المالَ غير من جمعه4
وقد روي الشعر على هذا النحو:
يا قوم من عاذري من الخدعه ... والمسي والصبح لا فلاح معه
فصل حبال البعيد إن وصل الـ ... ـحبل واقص القريب إن قطعه
__________
1 تاج العروس "3/ 301"، "شعر".
2 الاشتقاق "124"، المزهر "2/ 477".
3 السجستاني، "8"، البيان والتبيين "3/ 341"، الأغاني "16/ 154 وما بعدها"، الأمالي "1/ 107"، الخزانة "4/ 589"، المثل السائر "1/ 26"، مجالس ثعلب "480".
4 البيان والتبيين "3/ 341".(18/28)
واقنع من العيش ما أتاك به ... من قرّ عينًا بعيشه نفعه
قد يجمعُ المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
ولا تهين الفقير علك أن ... تخشع يوما والدهر قد رفعه1
وقد أورد هذا الشعر القالي في أماليه عن "ابن دريد" عن "ابن الأنباري" عن ثعلب. وقد قال ثعلب: إنه قيل قبل الإسلام بدهر طويل. ورواه أيضا "ابن الأعرابي"، والجاحظ، وصاحب الحماسة البصرية، والشريف في حماسته، وابن قتيبة في كتاب الشعراء وصاحب الأغاني وغيرهم، بتقديم بعضها على بعض وطرح أبيات منها2.
وقال "السيوطي": "عزاه ابن الأعرابي في نوادره للأضبط بن قريع من أبيات هي:
لكل ضيق من الأمور سعة ... والمسي والصبح لا بقاء معه
لا تهين الفقير علك أن ... تركع يومًا والدهر قد رفعه
وصل حبال البعيد إن وصل الـ ... ـحبل واقص القريب إن قطعه
واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرَّ عينا بعيشه نفعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
ما بال من غيُّه مصيبك لا ... تملك شيئا من أمره فدعه
حتى إذ انجلت عمايته ... أقبل يلجي وغيّه فجعه
أذود عن نفسه ويخدعني ... يا قوم من عاذري من الخدعه
قيل إن هذه الأبيات قيلت قبل الإسلام بدهر طويل. وقال في الحماسة البصرية هي للأضبط بن قريع السعدي من شعراء الدولة الأموية"3.
وزعم أن هذا الشعر قيل قبل الإسلام بخمسمائة عام. "فقد نقل الشيخ خالد في التصريح أن هذا الشعر قيل قبل الإسلام بخمسمائة عام. وكان سبب هذا الشعر
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 298 وما بعدها"، الأغاني "16/ 159"، اللآلئ "326"، السمط "326"، بلوغ الأرب "3/ 118".
2 الخزانة "4/ 589".
3 السيوطي، شرح شواهد "453"، "شواهد عل".(18/29)
على ما في الأغاني عن أبي محلم: أن أم الأضبط كانت عجيبة "عجبة" بنت دارم بن مالك بن حنظلة، وخالته: الطموح بن دارم، فحارب بنو الطموح قومًا من بني سعد، فجعل الأضبط يدس إليهم الخيل والسلاح ولا يصرح بنصرهم خوفا من أن يتحزب قومه حزبين معه وعليه. وكان يشير عليهم بالرأي، فإذا أبرمه نقضوه وخالفوا عليه، وأروه مع ذلك أنهم على رأيه فقال في ذلك هذه الأبيات. وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وقريع، بضم القاف وفتح الراء، هو أبو جعفر، الملقب بأنف الناقة" "وهو جاهلي قديم"1.
وكان من فرسان العرب، "وكان أغار على بني الحارث بن كعب، فقتل منهم وأسر وجدع وخصى، ثم بنى أطمًا، وبنت الملوك حول ذلك الأطم مدينة صنعاء، فهي اليوم قصبتها"2. وهو شاعر قديم، يزعم بنو تميم أنه أول من رأس فيهم3.
وروي أنه هو صاحب المثل: "بكل واد بنو سعد". وهو شبيه بالمثل: "بكل واد أثر من ثعلبة". الميداني "1/ 84، 94"، وكان الأضبط قد تأثر من قومه بني سعد، فتحول عنهم إلى آخرين، فلما رأى ظلمهم وعسفهم قال: "بكل واد بنو سعد"4، أو أنه قال: "أينما أوجه ألق سعدا".
والمعمر في نظر العرب، هو من عاش فوق المائة. "ولا تعدّ العرب معمرًا إلا من عاش مائة وعشرين سنة فصاعدا"5. والعادة عندهم، أنهم إذا وصلوا إلى نهاية حياة المعمر ينصبون له مجلس توديع، يجمعون فيه ولده وآله وأقاربه وسادات قبيلته أحيانا، ليوصيهم بما حصل عليه من حكم الأيام وتجاربها، ثم قد يختمونها بشعر. وهي متشابهة في المعاني، لأنها في موضوع نصح وحكم،
__________
1 الخزانة "4/ 590".
2 الشعر والشعراء "1/ 298".
3 تاج العروس "5/ 175"، "ضبط".
4 البيان والتبيين "3/ 294"، والحيوان "1/ 358"، "3/ 104"، "4/ 394"، البخلاء "189"، والشعر والشعراء "1/ 298"، أمثال الضبي "6"، الأغاني "16/ 154"، شرح شواهد، للسيوطي "1/ 155"، الخزانة "4/ 588"، المحبر "182".
5 أمالي المرتضى "1/ 236".(18/30)
أما أسلوبها فهو السجع، الأسلوب المتبع عند الكهان والخطباء، وهو وسط بين الكلام المرسل وبين الشعر.
و"أوس بن حجر بن معبد بن حزن بن خلف بن نمير بن أسيد بن عمرو" التميمي من شعراء تميم كذلك، وقد جعله بعضهم من الطبقة الثالثة وقرنه بالحطيئة ونابغة بني جعدة. ذكر أنه كان شاعر بني تميم في الجاهلية غير مدافع، وكان فحل العرب فلما نشأ النابغة طأطأ رأسه. وله ديوان مشروح1. وورد عن "أبي عمرو بن العلاء" قوله: "كان أوس فحل مضر حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه"2. وقال عنه أبو ذؤيب: "وكان أوس عاقلًا في شعره كثير الوصف لمكارم الأخلاق، وهو من أوصفهم للحُمُر والسلاح ولا سيما للقوس، وسبق إلى دقيق المعاني وإلى أمثال كثيرة"3. وكان شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع4. وكان غزلًا مغرمًا بالنساء5، وكان قد بلغ الغاية في الصيد والقنص، يقضي الليل مع الوحش ليصطاد شيئًا منها، وفي ذلك يقول:
قصيٌّ مبيت الليل للصيد مطعم ... لأسهمه غار وبار وراصف6
ويظهر من الشعر المنسوب إليه، أنه كان على اتصال بالحضر وبالنصارى، وقد جاء في شعره بمعان وبتعابير وألفاظ لم يستعملها غيره من الشعراء الجاهليين. فقد ذكر "الهر" والديك والخنزير في شعره، مثل قوله:
كأن هرًّا جنيبًا عند غرفتها ... والتف ديكٌ برجليها وخنزير
__________
1 السيوطي، شرح الشواهد "1/ 113 وما بعدها، "399"، الموشح "63"، رسالة الغفران "274".
2 الشعر والشعراء "1/ 131"، الأغاني "10/ 5 وما بعدها"، الخزانة "2/ 235" الموشح "63"، "كان أوس شاعر مضر، حتى أسقطه النابغة وزهير"، الشعر والشعراء "1/ 134".
3 الشعر والشعراء "1/ 131".
4 الشعر والشعراء "1/ 134".
5 الخزانة "2/ 234 وما بعدها"، "بولاق".
6 ديوان أوس "ص71"، رسائل الجاحظ "1/ 72 وما بعدها، 76"، "مناقب الترك".(18/31)
وجمع ثلاثة ألفاظ أعجمية في بيت واحد، فقال:
وقارفت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنمي سفسير
وله أشعار جيدة. "قال الأصمعي: ولم أسمع قط ابتداء مرثية بأحسن من ابتداء مرثيته:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا1
وله شعر في مدح "أبي دليجة"، وهو "فضالة بن كلدة". وكان قد جبر كسرًا ألم به لما صرعته ناقته، فآواه وداواه حتى برأ، فتذكر منته عليه2. ومن شعره في مدح "فضالة بن كلدة":
أريب أديب أخو مأزق ... نقابًا يخبر بالغائب3
ولأوس شعر في "حليمة بنت فضالة بن كلدة" التي مرضته وعاونته مع والدها حتى شفي وبرأ. وهو من باب الشكر والحمد4.
وورد البيت على هذه الصورة:
نجيح مليح أخو مأقط ... نقاب يحدث بالغائب
ولما توفي "فضالة" رثاه "أوس بن حجر" في قصيدة جعلها "أبو الفرج الأصبهاني": "من فاضل مراثيه إياه ونادرها". ومما جاء فيها:
الألمعي الذي يظن لك الظـ ... ـن كأن قد رأى وقد سمعا6
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 135"، رسالة الغفران "339".
2 الخزانة "2/ 236"، "بولاق".
3 ديوان أوس "12"، رسائل الجاحظ "1/ 302"، "رسائل في نفي التشبيه". الحيوان "3/ 60".
4 الحيوان "3/ 71"، الأغاني "10/ 7"، البيان والتبيين "3/ 320"، ديوان أوس "27".
5 تهذيب الألفاظ "164".
6 ديوان أوس بن حجر "53"، البيان والتبيين "4/ 68"، الحيوان "3/ 59"، الأغاني "10/ 8"، رسائل الجاحظ "1/ 302"، "رسائل في نفي التشبيه"، رسالة الغفران "452".(18/32)
وهذا البيت من نفس القصيدة التي قال "الأصمعي" عنها: لم أسمع قط ابتداء مرثية أحسن من ابتداء مرثيته:
أيتها ا
لنفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا1
ومن شعر أوس بن حجر، قوله:
فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
يخفى وأحيانا يلوح كما ... رفع المشير بكفه لهبا
وقد علق الجاحظ عليه بقول: "وهذا الشعر ليس يرويه لأوس إلا من لا يفصل بن شعر أوس بن حجر، وشريح بن أوس"2. وشريح بن أوس، هو ابن هذا الشاعر، وقد ذكر الجاحظ له بيتًا يهجو فيه أبا المهوش الأسدي، وهو من الشعراء المخضرمين3، وهذا البيت هو:
وعيّرتنا تمر العراق وبره ... وزادُك أير الكلب شيطه الجمر4
وقد ذكر: "المعري" قصيدة حائية، ذكر أنها تروى لعبيد مرة، ولأوس أخرى. وتختلف في رواية المعري في الترتيب عما جاء في الديوان. ومما جاء فيها:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت ... أني لنفسي إفسادي وإصلاحي
أن أشرف الخمر أو أرزأ لها ثمنا ... فلا محالة يوما إنني صاح
ولا محالة من قبر بمحنية ... أو في مليع كظهر الترس وضاح5
وجاء فيه ذكر "يهودي"، إذ يقول:
قد نِمتَ عني وبات البرق يسهرني ... كما استضاء يهوديٌّ بمصباح6
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 135".
2 الجاحظ، الحيوان "6/ 274، 279".
3 الجاحظ، الحيوان "6/ 279"، بروكلمان "1/ 112".
4 الحيوان "1/ 268"، وورد "ونخله بدلا من وبره"، "1/ 319".
5 رسالة الغفران "274 وما بعدها"، ديوان عبيد "75"، الأمالي "1/ 177".
6 رسالة الغفران "276".(18/33)
وقد خلط الرواة بين شعر "أوسط" و "عبيد بن الأبرص"، ولكنهم نبهوا على ذلك وأشاروا إليه1.
وأوس بن حجر من معاصري الملك "عمرو بن هند"، وهو تميمي، قتل أبوه يوم "الحجار" المصادف لسنة "554م"، وكان مولده بالبحرين، وقد طاف بشعره نجدًا والعراق، فمدح ملوك الحيرة ونادمهم، ونال شعره شهرة في الصيد والسلاح2، وله وصف للصحارى والسهول المقفرة، ولمنابع المياه المتدفقة من الكهوف التي يكثر حولها ريش النعام، ولمسالك البادية4، والنجاد والروابي والجبال5، وللرياض6، كما اشتهر بوصفه للحمير: قال ابن الأعرابي: "لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دؤاد. ولا وصف الحمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، ولا وصف أحد نعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة"7. ولأوس شعر وصف فيه. ثورًا وحشيًّا بقوله:
فانصاع كالدُري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا8
ومن أمثاله السائرة قوله:
فإنكما يا ابني جناب وجدتما ... كمن دبَّ يستخفي وفي الحلق جلجل
وقوله:
ولست بخابئ لغدٍ طعامًا ... حذار غد لكل غد طعام9
وقد أشار "أوس بن حجر" في شعره إلى "المنخّل" اليشكري، الذي اتهم بالمتجردة، فزعم أن النعمان قتله أو حبسه، ثم غمض خبره، فلم يعرف
__________
1 رسالة الغفران "274 وما بعدها"، ابن سلام "76 وما بعدها".
2 بروكلمان "1/ 112".
3 غرونباوم "179 وما بعدها".
4 غرونباوم "162، 183".
5 غرونباوم "163، 184".
6 غرونباوم "166، 186".
7 الأغاني "15/ 96"، غرونباوم "277".
8 رسالة الغفران "298".
9 بلوغ الأرب "3/ 104".(18/34)
أمره، وضرب المثل به، فقيل: "حتى يئوب المنخل". يقال إن أوسًا قال:
فجئت ببيعي موليا لا أزيده ... عليه بها حتى يئوب المنخل1
وإذا صح أن هذا الشعر، هو من شعر "أوس" حقًّا، وأن "المنخل" هو "المنخل" اليشكري الشاعر لا غيره، فيجب أن يكون أوس قد عاش بعده، وأن يكون من المتأخرين عنه.
وإذا كان أوس بن حجر من شعراء مضر، ومن الوصافين، فقد كان: "علقمة بن عبدة" المشهور بالفحل من شعراء مضر كذلك، وهو مثل "أوس" من تميم، وقد اشتهر بوصف النعام، وكان ينادم "الحارث" الأصغر الغساني، والنعمان أبا قابوس اللخمي، وكان له أخ اسمه "شأس"، أسره "الحارث بن أبي شمر" الغساني المذكور مع سبعين رجلًا من تميم، فأتاه علقمة ومدحه بقصيدة أولها:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقُصْرَيَين وجيب
فلما بلغ هذا البيت:
وفي كل حي قد خبطتَ بنعمة ... فحق لشأسٍ من نداك ذنوب
فقال الحارث: نعم وأذنبة. وفك أسره ومن أسر معه من "بني تميم". ويقال إن شأسًا هو ابن أخي علقمة2.
قيل إنه إنما لقب بـ "الفحل"، لأنه احتكم مع امرئ القيس، إلى امرأته "أم جندب" لتحكم بينهما في أيهما أشعر، فقالت: قولا شعرا تصفان فيه الخيل على روي واحد، وقافية واحدة، فلما قالا وانتهيا، حكمت لعلقمة بأنه أشعر من زوجها "امرئ القيس" فغضب عليها وطلقها، فخلف عليها علقمة،
__________
1 رسالة الغفران "340".
2 الشعر والشعراء "1/ 147 وما بعدها"، "رسالة الغفران".(18/35)
فسمي بذلك: "الفحل"1. وهي أسطورة. وقيل إنه لقب بالفحل تمييزًا له عن "علقمة بن سهل" من رهطه، وكان يعرف بالخصي، ففرقوا بينهما بهذا الاسم. و "علقمة" الخصي ممن أدرك الإسلام. وكان يكنى "أبا الوضاح"، وقد أسلم، وكان شاعرا. وهو القائل:
يقول رجال من صديق وصاحب ... أراك أبا الوضاح أصبحت ثاويا
فلا يعدم البانون بيتًا يكنهم ... ولا يعدم الميراث مني المواليا
وخفت عيون الباكيات وأقبلوا ... إلى بالهم قد بنت عنه بماليا
حراصا على ما كنت أجمع قبلهم ... هنيئا لهم جمعي وما كنت آليا2
ومن شعره في النساء:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندن عجيب3
ومما ينسب إليه قوله:
وكل حصن وإن دامت سلامته ... على دعائمه لا بد مهدود
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بد مشئوم
ومعظم الغُنم يوم الغُنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم
وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا ... عريفهم بأثافي الشر مرجوم
وقد اشتهر "علقمة" بثلاث قصائد قال فيهن "ابن سلام": "ولابن عبدة ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شعر"5، منها قصيدته الميمية التي مطلعها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم6
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 145"، ابن سلام، طبقات "116"، الأغاني "21/ 172"، الخزانة "1/ 565".
2 الخزانة "1/ 565".
3 رسالة الغفران "328"، الشعر والشعراء "1/ 146".
4 بلوغ الأرب "3/ 113".
5 ابن سلام، طبقات "31".
6 رسالة الغفران "142".(18/36)
ومن الشعر المنسوب إليه قوله:
ويلم أيام الشباب معيشة ... مع الكثر يعطاه الفتى المتلف الندى
وقد نسبه بعضهم لابنه: خالد بن علقمة بن عبدة، ونسبه غيرهم لشعراء آخرين1.
وقد ذكر "ابن حجر" في كتابه "الإصابة" اسم رجل دعاه "علي بن علقمة بن عبدة" التميمي، قال عنه إنه ولد "علقمة" الشاعر المشهور الذي يعرف بعلقمة الفحل. وكان من شعراء الجاهلية من أقران امرئ القيس، ولعلي هذا ولد اسمه "عبد الرحمن" ذكره المرزباني في معجم الشعراء، فيلزم من ذلك أن يكن أبوه من أهل هذا القسم، لأن عبد الرحمن لم يدرك النبي، وعبد الرحمن هو القائل:
وشامت بي لا يخفي عداوته ... إذا حمامي ساقته المقادير
فلا يغرنك جرّ الثوب معتجرا ... إني امرؤ لي عند الجد تشمير2
وعد "العنبر بن عمرو بن تميم" من قدماء الشعراء. وجعل "ابن سلام" قوله:
قد رابني من دلوي اضطرابها ... والنأي في بهراء واغترابها
أن لا تجئ ملأى يجيئ قرابها
من قديم الشعر الصحيح3.
وكان سعد ومالك ابنا زيد مناة بن تميم، ممن قالوا الشعر4، وكذلك "حجر بن معاوية" آكل المرار. وقد أورد "الجاحظ" بيتين من الشعر لسعد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، ثم قال: "وهذا من قديم الشعر"، وذكر
__________
1 الخزانة "1/ 563".
2 الإصابة "3/ 111"، "رقم 6460"، الخزانة "1/ 566".
3 ابن سلام، طبقات "11".
4 ابن سلام، طبقات "11".
5 البيان والتبيين "3/ 328".(18/37)
في موضع آخر أنه "من قديم الشعر وصحيحه"1.
ومن شعراء تميم: "عبد القيس بن خفاف" "عبد قيس" البرجمي التميمي وكان معاصرًا لحاتم الطائي، فأتاه ذات يوم في دماء حملها عن قومه وعجز عنها، فأعطاه حاتم مرباعًا له من غارة على بني تميم2.
ويقال إنه قال شعرا على لسان النابغة في هجاء النعمان بن المنذر أبي قابوس ملك الحيرة، ليكيد به إلى النابغة، حسدًا له، وقد فعل فعله في هذا الدس شاعر آخر هو "مرّة بن ربيعة" السعدي3.
وينسب له قوله:
فالله فاتقِهِ وأوف بنذره ... وإذا حرفت مماريا فتحلل
واعلم بأن الضيف مكرم أهله ... بمبيت ليلته وإن لم يسأل
والضيف أكرمه فإن مبيته ... حق ولا تك لعنة للنزل
وصل المواصل ما صفا لك وده ... واحزز حبال الخائن المتبدل
واترك محل السوء لا تحلل به ... وإذ نبا بك منزل فتحول
دار الهوان لمن رآها داره ... أفراحل عنها كمن لم يرحل
وإذا هممت بأمر شر فاتئد ... وإذا هممت بأمر خير فاعجل
وإذا أتتك من العدو قوارص ... فاقرص هناك ولا تقل لم أفعل4
ومن شعراء تميم: "عوف بن عطية بن الخرع" التميمي. وكان سيد قومه يوم "رحرحان". ذكر "البغدادي" أنه كان له ديوان صغير موجود عنده5.
__________
1 البيان والتبيين "3/ 200، 341".
2 بروكلمان "1/ 116".
3 الشعر والشعراء "1/ 99 وما بعدها"، "النابغة الذبياني"، الأغاني"7/ 145"، المفضلية رقم 116 ورقم 117، الحيوان "4/ 379"، المرزباني، معجم "325"، الحماسة "1/ 113"، نوادر أبي زيد "13 وما بعدها، 126"، الأغاني "9/ 158"، "ساسي".
4 بلوغ الأرب "3/ 125".
5 الخزانة "3/ 83"، المرزباني "226"، بروكلمان "1/ 118".(18/38)
و "سلامة بن جندل" من شعراء تميم، ويظهر من قصيدة رثا بها "النعمان أبا قابوس" أنه عاش بعده. قال عنه "ابن قتيبة": هو شاعر جاهلي قديم من فرسان تميم المعدودين. وأخوه "أحمر بن جندل" من الشعراء والفرسان. وكان "عمرو بن كلثوم" أغار على حي من بني سعد بن زيد مناة، فأصاب منهم، وكان فيمن أصاب "أحمر بن جندل"1. ويدل شعره في رثاء "النعمان" أنه مات في عهد قريب من الإسلام. وله ديوان صغير مطبوع، أكثره في الحماسة والفخر، مع شيء جميل من الوصف والتشبيه2.
ومن قوله في الشيب:
ولّى الشباب وهذا الشيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب3
ومن شعره قوله:
ليس بأسفى ولا أقنى ولا سفل ... يعطي دواء قفي السكن مربوب4
وكان أحد من يصف الخيل، فيحسن، وأجود شعره قصيدته التي أولها:
أودي الشباب حميدا ذو التعاجيب ... ولى وذلك شأو غير مطلوب5
وقد زعم "آلورد" أنه أسلم، "لأنه ذكر اسم الله: الرحمن. وهذا بعيد الاحتمال. كما ظنه لويس شيخو من أنه كان نصرانيا"6. وقد طبع "شيخو" ديوانه في بيروت سنة "1910".
و"طريف بن تميم" العنبري، من الشعراء الفرسان، وكانت الفرسان لا تشهد عكاظ إلا مبرقعة مخافة الثؤرة، وكان طريف لا يتبرقع كما يتبرقعون،
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 192 وما بعدها"، الأصمعيات رقم 42، الخزانة "2/ 86"، بروكلمان" "1/ 119"، الأمالي للقالي "1/ 10".
2 كارلو نالينو "80"، طبعة "كليمان هوار"، في المجلة الأسيوية، وطبعة "لويس شيخو" في "بيروت" سنة 1921م.
3 الأمالي للقالي "1/ 185".
4 ذيل الأمالي "209"، ابن سلام، طبقات "131".
5 الشعر والشعراء "1/ 192 وما بعدها"، الخزانة "2/ 86".
6 بروكلمان "1/ 119".(18/39)
وكان قد أغار في "بني العنبر" "عائذة" حلفاء لبني "أبي ربيعة بن ذهل"، فرماه "حمصيصة بن شراحيل" الشيباني، فقتله. وهو القائل:
أوكلما وردت عكاظَ قبيلةٌ ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسم1
مفتخرا بشجاعته على أعدائه وعلي الذين كانوا يتعقبون خطاه لقتله، أخذا بالثأر منه.
و"الأسود بن يعفر بن عبد القيس بن نهشل" النهشلي، من الشعراء المتقدمين في الجاهلية. وهو تميمي دارمي، وقد عدّت قصيدته التي أولها:
نام الخلي وما أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وسادي
من أجود الشعر ومن مختار أشعار العرب. وقد عده "ابن سلام" في الطبقة الثانية من طبقات الشعراء2. وقد عرف بـ "ذي الآثار"، لما كان يتركه هجاؤه من أثر في المهجوين3. وقد وردت في قصيدته المذكورة شواهد نحوية وردت في كتب الشواهد، وتعد القصيدة من مختار أشعار العرب وحكمها المأثورة. وكان ينادم "النعمان بن المنذر"، وابنه الجرّاح وأخوه حطائط شاعران4، وكان يكنى بابنه، فعرف بـ "أبي الجرّاح"5.
ومن شعره قوله:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضُرِبَت عليّ الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لمدفع تلعة ... بين العذيب وبين أرض مراد
وفيها يقول:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
__________
1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة"، "ص218 وما بعدها" تاج العروس "6/ 178"، "طرف".
2 الشعر والشعراء "1768"، الأغاني "11/ 129"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 553"، المعارف "646 وما بعدها".
3 المفضليات "رقم 55، و 125"، الأغاني "13/ 14 وما بعدها"، "دار الكتب".
4 الخزانة "1/ 195"، "بولاق".
5 الشعر والشعراء "1/ 176".(18/40)
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
نزلوا بأنقمة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وأبن أم دواد
جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد1
وهو جيد العبارة، ليس بالمكثر، ينزع في شعره إلى الحكمة. يكثر التنقل في العرب، يجاورهم فيذم ويحمد2.
ومن شعر "حطائط" قوله:
أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أري ما ترين أو بخيلا مخلدا
ذريني أكن للمال ربًّا ولا يكن ... لي المال ربا تحمدي غبه غدا
ذريني يكن مالي لعرضي وقاية ... ففي المال عرضي قبل أن يتبددا3
والشاعر "عمرو بن قميئة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، وقيل: "عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك"، ويكنى "أبا كعب"، هو من "بني سعد بن مالك"، رهط "طرفة بن العبد" وهو من "بني قيس بن ثعلبة". وكان في عصر "مهلهل بن ربيعة". وقد نعت بأنه قديم جاهلي. وتزعم "بكر"، أنه أول من قال الشعر وقصد القصيد، وذكر أنه كان أول من بكى على شبابه. وكان مع "حجر" أبي "امرئ القيس"، فلما خرج "امرؤ القيس" إلى بلاد الروم يستمد قيصر على بني أسد، استصحبه، فمات في سفره ذلك، فسمته "بكر" "عمرا الضائع". وإياه عنى امرؤ القيس بقوله:
__________
1 المحاسن والأضداد "88"،الشعر والشعراء "1/ 176 وما بعدها"، طبقات ابن سلام "123"، ويوجد اختلاف في رواية بعض ألفاظ هذا الشعر.
2 البخلاء "66، 339"، الأغاني "11/ 134"، الآمدي، المؤتلف "16 وما بعدها".
3 الخزانة "1/ 195 وما بعدها".(18/41)
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا1
وهو ابن أخي المرقش الأكبر، وخال المرقش الأصغر، وجد طرفة لأمه. وذكر أنه عمر حتى جاوز التسعين، وقال:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة ... خلعت بها عني عذار لجام2
وذكر "الجاحظ" أنه هو القائل:
شركم حاضر وخيركم د ... رّ خروس من الأرانب بكر3
وذكر قبله أبياتا هي:
ليس طُعمي طُعم الأنامل إذ ... قلص در اللقاح في الصنبر
ورأيت الإماء كالجعثن البا ... لي عكوفا على قرارة قدر
ورأيت الدخان كالودع الأه ... جن ينباع من وراء الستر4
وذكر "ابن قتيبة"، أن "عمرو بن قميئة"، كان من خدم "حجر" والد "امرئ القيس"، وأنه بكى لما سار معه إلى بلاد الروم، وقال له: "غررت بنا"5. ولا يعقل أن يكون "عمرو" من خدم "حجر"، فهو وإن نشأ يتيما في كفالة عمه " مرثد بن سعد"، كما تذكر بعض الروايات6،
__________
1 المرزباني، معجم الشعراء "3 وما بعدها"، "القاهرة 1960"، "عبد الستار أحمد فراج"، الشعر والشعراء "1/ 292 وما بعدها"، الأغاني "16/ 158 وما بعدها"، طبقات الشعراء "59"، المؤتلف "868"، الجرجاني "129"، البيان والتبيين "2/ 18"، المعمرون للسجستاني "89"، الخزانة "2/ 249 وما بعدها"، البيان والتبيين "3/ 241".
2 المرزباني، معجم "3"، الشعر والشعراء "1/ 293"، المرزباني، معجم "ص200"، "القدسي 1354هـ"، بروكلمان "1/ 117"، أمالي المرتضى "1/ 45".
3 البخلاء "214" "الحاجري".
4 الحيوان "5/ 73"، "عبد السلام هارون".
بسر يطعم الأرامل إذ ... قلص در اللقاح في الصنبر
رسائل الجاحظ "2/ 357"، "كتاب البغال".
5 الشعر والشعراء "1/ 60"، "الثقافة".
6 الأغاني "16/ 158"، البخلاء "412"، "الحاجري".(18/42)
إلا أن أسرته لم تكن من طبقة وضيعة، حتى يصير "عمرو" من خدم "حجر".
بل روي أنه كان عاملا لحجر1.
وورد أنه في شعراء ربيعة الذين ابتدأ الشعر بهم قبل أن يتحول في قيس، كالمرقشين وطرفة بن العبد والحارث بن حلزة2. و "عمرو" هو القائل يبكي شبابه:
لا تغبط المرء أن يقال له ... أمسى فلان لعمره حكما
إن يُمْس في خفض عيشه فلقد ... أخنى على الوجه طول ما سلما
قد كنت في ميعة أسر بها ... أمنع ضيمي وأهبط العصما
يا لهف نفسي على الشباب ولم ... أفقد به إذ فقدته أمما3
وأورد الجاحظ من شعره قوله:
وأهون كف لا تضيرك ضيرة ... يد بين أيدٍ في إناء طعام
يد من قريب أو غريب بقفرة ... أتتك بها غبراء ذات قتام
وقد استشهد ببيت من شعر نسب إليه، هو:
ولما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها
والشعر هو:
قد سألتني بنت عمرو عن ... الأرض التي تنكر أعلامها
لما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها
تذكرت أرضا بها أهلها ... أخوالها فيها وأعمامها5
وأما قصة رحيله مع "امرئ القيس" إلى قيصر، ووفاته، وهو في سفر
__________
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 17".
2 طبقات الشعراء، لابن سلام "34"، "دار المعارف"، "1952"، البخلاء "412"، "الحاجري".
3 المرزباني، معجم "4"، "فراج".
4 البيان والتبيين "3/ 241".
5 الخزانة "2/ 247 وما بعدها".(18/43)
معه، فجزء من أسطورة سفر "امرئ القيس" إلى الروم1.
وكان "عبيد بن الأبرص" شاعر "بني أسد" من المعاصرين لامرئ القيس، وله شعر يخاطبه فيه، لما أظهره من تهديد ووعيد لبني أسد، ويرد فيه عليه2. وقد أنجبت "بنو أسد" جملة شعراء. وذكر أنه كان لدةً لـ "عبد المطلب" جد النبي، وأنه مات قبل "عبد المطلب" بعشرين سنة. قتله "المنذر" أبو "النعمان بن المنذر"3. وإذا أخذنا بهذه الرواية واعتبرناها صحيحة، ورجعنا إلى تأريخ وفاة "عبد المطلب" التي كانت بعد الفيل بثماني سنين4، وإذا جارينا المستشرقين واعتبرنا أن عام الفيل، يقابل السنة "570" للميلاد، تكون وفاة "عبد المطلب" في حوالي السنة "578" للميلاد، فيكون قتل "عبيد بن الأبرص" في حوالي السنة "558" للميلاد على هذا التقدير. ولكن الذي نعرفه من روايات أهل الأخبار أن "عبيد" هذا قد قتله "المنذر بن امرئ القيس" المعروف بالمنذر بن ماء السماء، الذي تولى الملك في حوالي السنة "508" للميلاد وقتل سنة "554" للميلاد5. فيجب أن يكون مقتل "عبيد" قبل السنة "554" للميلاد لا بعدها، على حسب تقدير الرواية السابقة.
وهو "عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم" من "بني ثعلبة بن دودان" من "بني أسد". قال عنه "ابن قتيبة": "وكان عبيد شاعرًا جاهليًّا قديمًا من المعمرين، وشهد مقتل حجر أبي امرئ القيس. وهو القائل لامرئ القيس:
يا ذا المخوفنا بقتـ ... ـل أبيه إذلالا وحينا
أزعمت أنك قد قتلـ ... ـت سراتنا كذبا ومينا6
ويجب أن يكون مقتل "حجر" بعد السنة "528" للميلاد. وهي السنة التي توفي فيها "الحارث" والد "حجر" على غالب الروايات7. ولا نعرف متى
__________
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 117".
2 الخزانة "1/ 222 وما بعدها"، "بولاق".
3 الروض الأنف "1/ 5".
4 تأريخ الطبري "2/ 277"، "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسبابه".
5 الجزء الثالث "ص219" من هذا الكتاب.
6 الشعر والشعراء "1/ 187"، الخزانة "1/ 322".
7 الجزء الثالث من هذا الكتاب "ص342 وما بعدها".(18/44)
قتل "حجر" على وجه صحيح، غير أننا نستطيع أن نقول إن حكمه لم يدم طويلا على "بني أسد" الذين انتهزوا فرصة وفاة "الحارث" وعودة الحكم إلى ملوك الحيرة، أيام "المنذر بن ماء السماء" الذي أخذ يتعقب آل الحارث، ليقتلهم، فثاروا على "حجر" وقتلوه.
وذكر أن "المنذر بن ماء السماء" هو الذي قتل عبيدا، قتله يوم بؤسه. وكان يقتل فيه أول من يطلع عليه. فلما رآه المنذر، قال له: هلا كان هذا لغيرك يا عبيد! أنشدني، فربما أعجبني شعرك! فقال له عبيد: حال الجريض دون القريض. قال: أنشدني: أقفر من أهله ملحوب، فأنشده عبيد:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
فسأله أي قتلة يختار؟ قال عبيد: اسقني من الراح حتى أثمل، ثم افصدني الأكحل، ففعل ذلك به، ولط بدمه الغريين. والغريان طربالان كان يلطخهما بدماء القتلى يوم بؤسه. وكان بناهما على نديمين له، وهما: خالد بن نضلة الفقعسي، وعمرو بن مسعود1.
وذكر الرواة أن الملك قال لعبيد: أي قتلة يختار؟ أنشأ يقول:
وخيرني ذو البؤس في يوم شؤمه ... خصالا أرى في كلها الموت قد برق
كما خيرت عاد من الدهر مرة ... سحائب ما فيها لذي خيرة أنق
سحائب ريح لم توكل ببلدة ... فتتركها إلا كما ليلة طلق2
وقد ذكر "ابن قتيبة" أن "قصيدته التي يقول فيها: أقفر من أهله ملحوب، وهي إحدى السبع"، هي من أجود شعره3.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 188"، وقد أخطأ "ابن قتيبة" إذ جعل قاتله "النعمان بن المنذر"، وقد ذهب إلى هذا المذهب أيضا في كتاب شمس العلوم "الجزء الأول، القسم الثاني ص320".
2 الخزانة "1/ 324".
3 الشعر والشعراء "1/ 188".(18/45)
ومن أمثاله السائرة قوله:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وكل ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب
وقوله:
الخير يبقى وإن طال الزمانُ به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وقوله:
الخير لا يأتي على عجلٍ ... والشر يسبق سيله مطره1
ويعد "عبيد" في جملة المعمرين، فقد جعل "ابن قتيبة" عمره أكثر من ثلاثمائة سنة2، وجعل "السجستاني" عمره مائتي سنة وعشرين، ويقال بل ثلاثمائة سنة3. ولتأييد رأيهم في أنه عاش هذا العمر حقًّا، أوجدوا شعرا زعموا أنه قاله، هو:
ولتأتينْ بعدي قرون جمة ... ترعى محارم أيكة ولدودا
فالشمس طالعة وليل كاسف ... والنجم يجري انحسار سعودا
حتى يقال لمن تعرق دهره ... يا ذا الزمانة هل رأيت عبيدا
مائتي زمان كامل وبضعة ... عشرين عشت معمرا محمودا
أدركت أول ملك نصر ناشئا ... وبناء شداد وكان أبيدا
وطلبت ذا القرنين حتى فاتني ... ركضا وكدت بأن أري داودا
ما تبتغي من بعد هذا عيشة ... إلا الخلود ولن تنال خلودا
وليَفنين هذا وذاك كلاهما ... إلا الإله ووجهه المعبودا4
وهو شعر يجعل عمر "عبيد" أكثر من ألف عام، لا مائتي سنة وعشرين
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 107".
2 الشعر والشعراء "1/ 188"،الخزانة "1/ 323".
3 الخزانة "1/ 323".
4 الخزانة "1/ 323".(18/46)
ويجعله فيمن ولد قبل الميلاد بزمان. وقد شاء صانعه أن يجعل شاعره من المؤمنين بالله الموحدين، على نحو ما ترى في البيت الأخير من الشعر المزعوم.
ويجب أن نضيف إلى الشعراء المذكورين الشاعر المعروف بـ "مرة بن الرواع الأسدي"، أحد بني "حيي بن مالك". وهو شاعر قديم يقول أهل الأخبار إنه كان في عصر "امرئ القيس"، وأن "امرأ القيس" كان يعلم قيانه أشعار "ابن الرواع"1.
وهو القائل:
أشاقك من فكيهتك ادّلاج ... وبُتَّ الحبل وانقطع الخلاج
من قصيدة طويلة. وقوله:
إن الخليط أجدّوا البين وادّلجوا ... وهم كذلك في آثارهم لجج2
و"المنقذ بن الطمّاح" الأسدي، شاعر جاهلي من الفرسان المعدودين. وقد أغار على إبل المنذر بن ماء السماء3. وقد عرف بـ "الجميح"، وينسب إليه قوله:
يأبى الذكاء ويأبى أن شيخكم ... لن يعطي الآن من ضرب وتأديب4
و"عبد يغوث بن صلاءة، وقيل ابن الحارث بن وقاص بن صلاءة بن المعقل" واسمه "ربيعة بن كعب" من شعراء الجاهلية فارس، سيد قومه من "بني الحارث بن كعب" من اليمن. وكان قائدهم في يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم وفي ذلك اليوم أسر فقتل. وله قصيدة قالها وهو في أسره أولها:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير ولا ليا
__________
1 المرزباني، معجم الشعراء "ص 382".
2 المرزباني، معجم الشعراء "294"، "عبد الستار فراج".
3 معجم الشعراء "329"، الأصمعيات "80" المفضليات "109"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 368".
4 المفضليات رقم 4 من القصيدة 4. بروكلمان "1/ 78".(18/47)
ذكر أن الذي أسره غلام أهوج من "بني عمرو بن عبد شمس"، فانطلق به إلى أهله، فقالت له أم الغلام: من أنت؟ قال: أنا سيد القوم! فضحكت وقالت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج، وإلى هذا أشار بقوله:
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا1
وذكر أنه خاطب الشيخة بقوله: أيتها الحرة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: أعطي ابنك مائة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم، فإني أخاف أن تنتزعني سعد والرباب منه، فضمن لها مائة من الإبل، وأرسل إلى "بني الحارث" فوجهوا بها إليها فقبضها العبشمي، وانطلق به إلى الأهتم، فقال عبد يغوث:
أأهتم يا خير البرية والدا ... ورهطا إذا ما الناس عدوا المساعيا
فمشت سعد والرباب إلى الأهتم فيه، فقالت الرباب: قتل فارسنا، وهو النعمان بن جساس، ولم يقتل لك فارس فدفعه إليهم، فأخذه "عصمة بن أبير" التميمي، فانطلق به إلى منزله، فقال عبد يغوث: يا بني تيم، اقتلوني قتله كريمة. فقال عصمة: وما تلك القتلة؟ قال: اسقوني الخمر ودعوني أنوح على نفسي، فجاءه عصمة بالشراب، فسقاه، ثم قطع عرقه الأكحل، وتركه ينزف، ومضى وجعل معه رجلين، فقالا لعبد يغوث: جمعت أهل اليمن، ثم جئت لتصطلحنا، كيف رأيت صنع الله بك فقال هذه القصيدة:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير ولا ليا2
ومما جاء في هذه القصيدة قوله:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا
وقد ذهب العلماء مذهبين في تفسيره، منهم من قال: إنه أراد افعلوا بي
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 676"، الخزانة "1/ 316"، "بولاق"، الأغاني "15/ 73"، زيدان تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 136 وما بعدها".
2 الخزانة "1/ 314".(18/48)
خيرا لينطلق لساني بشكركم، وأنكم ما لم تفعلوا فلساني مشدود لا أقدر على مدحكم، لأن اللسان لا يشد بنسعة، ومنهم من قال: إنهم شدوه بنسعة حقيقة، بأنهم ربطوه بنسعة مخافة أن يهجوهم وكانوا سمعوه ينشد شعرا، فقال: أطلقوا لي عن لساني أذم أصحابي وأنوح على نفسي، فقالوا: إنك شاعر، ونحذر أن تهجونا، فعاهدهم على أن لا يهجوهم، فأطلقوا له عن لسانه. "قال الجاحظ: وبلغ خوفهم من الهجاء أن يبقى ذكرهم في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدّوا لسانه بنسعة كما صنعوا بعبد يغوث"1.
وكان "عبد يغوث" شاعرا من شعراء الجاهلية، من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والإسلام، منهم: اللجلاج الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه: مسهر، فارس شاعر، وهو الذي طعن "عامر بن الطفيل" في عينه يوم "فيف الريح"، ومنهم من أدرك الإسلام: "جعفر بن علية بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث"، وكان شاعرا صعلوكا، أخذ في دم فحبس بالمدينة، ثم قتل صبرا2.
"قال الجاحظ في البيان والتبيين: وليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد، وعبد يغوث، فإن قسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما، فلم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية"3.
ومن الشعراء المعمرين "ذو الإصبع العدواني"، واسمه "حرثان بن محرث بن الحارث" أو "حرثان بن الحارث بن عمرو بن عبادة بن يشكر" اليشكري العدواني، لقب بذي الإصبع لأن حية نهشته على إصبعه فشلت، فسمي بذلك. زعم أنه عاش مائة وسبعين سنة، واستقل هذا العدد "أبو حاتم"، فجعله ثلاثمائة سنة، وهو عمر لا بأس به! وكان أحد حكام العرب، وله قصة مع بناته الأربع، في موضوع الزواج، وصفات الزوج، ورغبة المرأة في الازدواج، رووا أن "عبد الملك بن مروان" كان يحفظ شعره، وأنه سأل رجلًا من
__________
1 البيان والتبيين "4/ 45"، "عبد السلام محمد هارون"، الخزانة "1/ 316".
2 الخزانة "1/ 317"، "بولاق"، الاشتقاق "2/ 239".
3 البيان والتبيين "2/ 268"، الحيوان "7/ 157"، الخزانة "1/ 317"، السيوطي، شرح الشواهد "2/ 676".(18/49)
"عدوان" عن شعره وأخباره، فلم يعرف من أمره شيئا، فحط من عطائه ثلاثمائة" زادها في عطاء رجل آخر، كان يعرف شعره1. ومن شعره المزعوم في وصف حاله:
أصبحت شيخا أرى الشخصين أربعة ... والشخص شخصين لما مسني الكبر
لا أسمع الصوت حتى استدير له ... ليلا وإن هو ناغاني به القمر2
ومن شعر "ذي الإصبع" قوله:
جلبنا الخيل من بقران قبا ... تجوب الأرض فجا بعد فج
وقوله يذكر عدة من ديارهم:
إن داري بمرهب فبصعر ... فمعور فوخدة فالمرار
ولنا منزل برقبة لا ... يسمع فيه تهاذي الأخبار
منزل أحرز الحواضن فيه ... كل قرمٍ متوج جبار
ثم بالفرع قد نزلنا قبيلا ... دار صدق قليلة الأقذار
ذات حرز وعزة ونجاة ... وامتناع من جحفل جرّار
ماؤنا الفيض لا يُعذبنا القيظ ... ولا النزع بالرشاء المغار3
ومن شعره قوله:
لي ابن عم ما كان من خلق ... مخالف لي أقليه ويقليني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني
__________
1 "حرثان بن السموأل" "حرثان بن محارب" "حرثان بن الحارث بن محرث"، ابن الشجري "1/ 363". العقد الفريد "2/ 328، 363"، الأمالي للقالي "1/ 254"، الخزانة "3/ 222"، الأغاني "3/ 91 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 244 وما بعدها"، الاشتقاق "163"، المعمرون "90"، الخزانة "2/ 406 وما بعدها"، "بولاق"، "حرثان بن السموأل"، اللآلئ "289"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 430"، الأمالي "1/ 93".
2 الخزانة "2/ 408"، بولاق، المؤتلف، للآمدي "118"، الشعر والشعراء "2/ 597 وما بعدها".
3 الصفة "123".(18/50)
إنك إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
إني لعمري ما بيتي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون
ولا لساني على الأدنى بمنبسط ... بالفاحشات ولا فتكي بمأمون
عني إليك فما أمي براعية ... ترعى المخاض ولا رأيي بمغبون
لا يخرج الكره مني غير مأبية ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
وله قوله:
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
علا بعضهم بعضا ... فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
إذا ما ولدوا أشبوا ... بسر الحسب المحض1
ومن شعراء "بني يشكر": "المنخل بن عبيد بن عامر"، "وهو قديم جاهلي، وكان يشبب بهند أخت عمرو بن هند،.وذكر أنه اتهم بـ "المتجردة" "امرأة النعمان بن المنذر"، وهو الذي وشى إلى "النعمان" بالنابغة، لما وصف المتجردة، وكان أيضا يتهم بامرأة "عمرو بن هند". وكان جميلا، وقد يكون جماله هذا هو الذي أولد هذا القصص المقال حوله من اتصاله بأخت "عمرو بن هند"، وبزوجته، وبزوجة النعمان. ويذكر "ابن قتيبة" أن "عمرو بن هند" قتله، وأنه قال قبيل قلته:
طل وسط العباد قتلي بلا جر ... م وقومي ينتجون السخالا
لا رعيتم بطنا خصيبا ولا زر ... تم عدوا ولا رزأتم قبالا2
وهذا الخبر، يناقض الأخبار التي تذكر أنه كان يتهم بالمتجردة، وأنه وشى بالنابغة عند النعمان، وأن "النعمان" خرج يتصيد، فعمدت إلى قيد فجعلت رجلها في إحدى حلقتيه، ورجل المنخل في الآخرى شغفا به، وجاء النعمان
__________
1 الشعر والشعراء "2/ 597 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 318"، المؤتلف "178"، الأغاني "9/ 166".(18/51)
فألفاهما على حالهما، فأمر بالمنخل فقتل، فضربت به العرب المثل، فقال أوس بن حجر:
فجئت ربيعي موليا لا أزيده ... عليه بها حتى يئوب المنخل1
وقد أشار ذو الرمة إلى المنخل بقوله:
تقارب حتى يطمع النأي في الهوى ... وليست بأدنى من إياب المنخل2
وقد ورد اسمه على هذه الصورة في "تاج العروس": "والمنخل بن خليل اليشكري، كمعظم: شاعر. ومنه لا أفعله حتى يئوب المنخل. مثل للتأبيد، يضرب في الغائب الذي لا يرجى إيابه، كما يقال: حتى يئوب القارظ العنزي، واسمه عامر بن رهم بن هميم. وقال الأصمعي: المنخل رجل أرسل في حاجة، فلم يرجع، فصار مثلا في كل ما لا يرجى"3.
وقد اشتهر بقصيدته:
ولقد دخلت على الفتاة ... الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
وعطفتها فتعطفت ... كتعطف الظبي الغرير
فترت وقالت يا منخـ ... ـل ما بجسمك من فتور4
ومن المعمرين "معدي كرب" الحميري من آل "ذي رعين"، رووا له شعرا منه:
أراني كلما أفنيت يوما ... أتاني بعده يوم جديد
يعود بياضه في كل فجر ... ويأبى لي شبابي ما يعود5
__________
1 أسماء المغتالين "المجموعة السابعة من نوادر المخطوطات"، "239".
2 ديوانه "509"، الأغاني "18/ 153"، أسماء المغتالين "239".
3 تاج العروس "8/ 131"، "نخل".
4 الشعر والشعراء "1/ 317 وما بعدها".
5 أمالي المرتضى "1/ 253".(18/52)
و "بشر بن أبي خازم" شاعر جاهلي قديم، من بني أسد، شهد حرب أسد وطيء، وشهد هو وابنه نوفل بن بشر الحلف بينهما. وكان في أول أمره يهجو "أوس بن حارثة بن لأم" الطائي، فأسرته بنو نبهان من طيء، فركب "أوس" اليهم فاستوهبه منهم، وكان قد نذر ليحرقنه إن قدر عليه، فوهبوه له، ثم شفعت له أم أوس، ففك أسره، فجعل بشر مكان كل قصيدة هجاء قصيدة مدح، لأن الهجاء لا يمحى عند العرب إلا بمدح، يمحو أثره، في قصة يروونها عن كيفية وقوعه في الأسر1.
وروي أنه لما طعن، طعنه غلام من "بني وائلة" بسهم فأثخنه، وأخذ يجود بنفسه، قال قصيدة يخاطب بها ابنته عميرة:
أسائلة عميرة عن أبيها ... خلال الجيش تعترف الركابا
وهي قصيدة روى بعض أبياتها الشريف المرتضى في أماليه2. كان بشر قد أغار في مقنب من قوهم على "الأبناء" من بني صعصعة بن معاوية، وكل "بني صعصعة" إلا "عامر بن صعصعة" يدعون الأبناء، وهم وائلة، ومازن، وسلول، فلما جالت الخيل مر "بشر" بغلام من "بني وائلة" فقال له" بشر" استأسر، فقال له الوائلي: لتذهبن أو لأرشقنك بسهم من كنانتي، فأبي بشر إلا أسره، فرماه بسهم، فاعتنق بشر فرسه وأخذ الغلام فأوثقه، فلما كان في الليل أطلقه بشر من وثاقه وخلّى سبيله، وقال: أعلم قومك أنك قتلت بشرا، وهو قوله:
وإن الوائلي أصاب قلبي ... بسهم لم يكن نكسا لغابا3
ومن هذه القصيدة قوله:
تسائل عن أبيها كل ركب ... ولم تعلم بأن السهم صابا
فرجي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القارظ العنزي آبا
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 190 وما بعدها"، المفضلية "98"، أسماء المغتالين "214"، "المجموعة السادسة من نوادر المخطوطات"، رسالة الغفران "166".
2 أمالي المرتضى "1/ 341"، الخزانة "2/ 262"، مختارات ابن الشجري "81 وما بعدها"، الأغاني "11/ 10"، المؤتلف "60".
3 الخزانة "2/ 262"، "بولاق".(18/53)
والقارظان من عنزة، يقال إنهما خرجا في طلب القراظ يجتنيانه، فلم يرجعا فضرب بهما المثل فقالوا: "لا آتيك أو يئوب القارظان"، يضرب في انقطاع الغيبة. وفي هذا المثل قال أبو ذؤيب:
وحتى يئوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب ووائل1
وقد رُمي "بشر" بالإقواء في شعره2، وقد نشر ديوانه3. ومن أمثاله السائرة قوله:
ألم تر أن طول العهد يسلي ... وينسي مثلما نسيت جذام
وقوله:
يكن لك في قومي يد يشكرونها ... وأيدي الندى في الصالحين فروض4
وذكر أنه أوصى ابنته بأن تذري الدمع عليه، وأن تبكي عليه البكاء الذي يستحقه، وكان من عادة أهل الجاهلية، التأكيد بلزوم البكاء والنوح على الميت، ويؤكدون الوصية بفعله، وفي هذا المعنى قول طرفة بن العبد:
فإن مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليّ الجيب يا أم معبد5
و"عمرو بن حممة بن رافع بن حارث" الدوسي، أحد حكماء العرب من الأزد، شاعر قديم، ذكروا أنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة، وذكروا له شعرا، قالوا إنه قال فيه إنه جاوز الثلاثمائة من العمر، وأنه قد كبر، ولا بد وأن يأتيه يوم يموت فيه6. وفي رواية أنه وفد على النبي، وهي خطأ لأنه مات في
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 105".
2 الشعر والشعراء "1/ 190".
3 نشره الدكتور عزة حسن بدمشق، سنة 1960م.
4 بلوغ الأرب "3/ 104 وما بعدها".
5 أمالي المرتضي "1/ 340 وما بعدها".
6 المرزباني، معجم "17"، "فراج".(18/54)
الجاهلية1. وله ولد اسمه "جندب" أسلم، قتل يوم "أجنادين"2. وذكر أنه الذي كان يقال له: ذو الحكم، وضربت به العرب المثل في قرع العصا، لأنه بعد أن كبر صار يذهل فاتخذوا له من يوقظه فيقرع العصا، فيرجع إليه فهمه. وإليه أشار الحارث بن وعلة بقوله:
إن العصا قرعت لذي الحكم
ومن شعره الذي قاله في كبره:
أخبر أخبار القرون التي مضت ... ولا بد يوما أن أطار لمصرعي3
وقد أنجبت "دوس" جملة شعراء، منهم: "وهب بن عبد الله بن دوس بن أبي خالد بن زهير" الشاعر في أول الإسلام، و "جندب بن طريف" الشاعر الذي يقال له ابن الغامدية، ومنهم: "أبو غُنيش" الشاعر، جاهلي من بني مبدول "مندول؟ "4.
وقد اختلف في "جران العود" النميري، فذهب "كرنكو" إلى أنه من شعراء العصر الأموي، وأنه من معاصري عبد الملك بن مروان. وقد نص "البغدادي" على أنه شاعر جاهلي من "بني ضنة بن نمير بن عامر بن صعصعة". واسمه: "عامر بن الحرث بن كلفة"، وقيل "كلدة"، وإنما سمي "جران العود" لقوله يخاطب امرأتيه:
عمدت لعود فالتحيت جرانه ... وللَكيس أمضى في الأمور وأنجح
خذا حذرا يا ضرتيّ فإنني ... رأيت جران العود قد كان يصلح5
وجران العود أحد من وصف القوّادة في شعره6. وقد روى "السكري" ديوان هذا الشاعر، وقد تحدث في ديوانه عن "حمامة نوح"، وورد فيه شعر
__________
1 الإصابة "2/ 526"، "رقم 5821"، ابن دريد، الاشتقاق"2/ 296".
2 الإصابة "1/ 250 وما بعدها"، "رقم 1226".
3 الإصابة "2/ 527"، "رقم 5821".
4 الاشتقاق "2/ 296".
5 الخزانة "4/ 198"، الحيوان "1/ 40".
6 الشعر والشعراء "2/ 605 وما بعدها".(18/55)
للرحال، وكان خدن جران، وتزوج كل واحد منهما امرأتين، فلقيا منهما مكروها1. وقد طبع الديوان مع شرح عليه2.
ومن الشعر المنسوب إليه هذا الشعر:
حملن جران العود حتى وضعنه ... بعلياء في أرجائها الجن تعزف
وذكر "المعري" أنه ينسب أيضا "لسحيم"3.
ونجد في شعر ينسب إليه إشارة إلى الكتاب وإلى الوشوم، تكون بأيدي الروم، إذ يقول:
تُركْن برجلة الروحاء حتى ... تنكرت الديار على البصير
كوحي في الحجارة أو وشوم ... بأيدي الروم باقية النئور4
وذكر "الجاحظ" له قوله:
وكان فؤادي قد صحا ثم هاجه ... حمائم ورق بالمدائن هتف
كأن الهديل الظالع الرجل وسطها ... من البغي شريب يغرد مترف5
وله شعر في وصف "الذئب"6، وفي أصوات الطيور والحمام وبقية الحيوانات7، وفي الطيرة، إذ يقول:
جرى يوم رحنا بالجمال نزفها ... عقاب وشحاج من البين يبرح
فأما العقاب فهي منها عقوبة ... وأما الغراب فالغريب المطوح8
وقد أورد "الجاحظ" له أشعارا نثرها في كتابه "الحيوان"9.
__________
1 الشعر والشعراء "2/ 605".
2 بروكلمان "1/ 116".
3 رسالة الغفران "277".
4 الحيوان "1/ 40".
5 الحيوان "2/ 209".
6 الحيوان "2/ 213".
7 الحيوان "2/ 297"، "3/ 240".
8 الحيوان "2/ 441".
9 الحيوان "2/ 386".(18/56)
وقد وصف نفسه وعشيقته بقوله:
فأصبح من حيث التقينا غدية ... سوار وخلخال ومرط ومطرف
ومنقطعات من عقود تركنها ... كجمر الغضا في بعض ما تتخطرف1
ونجد شعره شعرا حضريا، فيه ذكر البقل، كما في هذين البيتين:
فنلنا سقاطا من حديث كأنه ... جَنى النحل أو أبكار كرم يقطف
حديثا لو أن البقل يُولى بمثله ... زها البقل واخضر العضاة المصنف2
ومن شعراء الجاهلية: "الحادرة" الذبياني، وهو "قطبة بن أوس بن محصن بن جرول" من "بني ثعلبة بن سعد" الغطفاني، وهو شاعر جاهلي مجيد مقل، كان يهاجي "زبان بن سيار" الفزاري، وقد بقيت أشعاره القليلة برواية "أبي عبد الله" اليزيدي، المتوفى سنة "310هـ"3. وكانت له صاحبة اسمها "سمية" تغزل بها في شعره:
بكرت سمية غدوة فتمتع ... وغدت غدوَّ مفارق لم يربع4
ومن شعراء الجاهلية: "سويد بن عامر" المصطلقي. ينسب له قوله:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... إن المنايا بكفَّي كل إنسان
واسلك طريقا تمشى غير مختشع ... حتى تبيَّن ما يمني لك الماني
فكل ذي صاحب يوما يفارقه ... وكل زاد وإن أبقيته فان
والخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان5
ونسب البيت الأول والثاني والرابع إلى أبي قلادة الهذلي، من قصيدة أولها:
__________
1 البخلاء "233".
2 البيان والتبيين "1/ 281".
3 رسالة الغفران "282"، الأغاني "3/ 82 وما بعدها"، بروكلمان "1/ 110"، البيان والتبيين "3/ 320"، الحيوان "3/ 475".
4 رسالة الغفران "282، 401".
5 أمالي المرتضى "1/ 368".(18/57)
يا دار أعرفها وحشًا منازلها ... بين القوائم من رهط فألبان
مع اختلاف في روايتها وترتيبها1.
ومن شعراء خزاعة: "مطرود بن كعب" الخزاعي، له شعر في رثاء عبد المطلب بن عبد مناف، أوله:
يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف
هبلتك أمك لو نزلت عليهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف
الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف
والمطعمون إذا الرياح تناوحت ... ورجال مكة مسنتون عجاف
والمفضلون إذا المحول ترادفت ... والقائلون هَلُمَّ للأضياف
والخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمُحُّ خالصة لعبد مناف2
ومن شعراء هذيل "أبو كبير". وهو "عامر بن الحليس"، وقيل "ابن جمرة". وهو جاهلي، تزوج أم "تأبط شرا"، ثم تركها في قصة يرويها أهل الأخبار3. قال "ابن قتيبة": وله أربع قصائد، أولها كلها شيء واحد، ولا نعرف أحدا من الشعراء فعل ذلك. إحداهن:
أزهير هل عن شيبة من مَعْدل ... أم لا سبيل إلى الشباب الأول
والثانية:
أزهير هل عن شيبة من مقصر ... أم لا سبيل إلى الشباب المدبر
والثالثة:
أزهير هل عن شيبة من مصرف ... أم لا خلود لباذل متكلف
__________
1 أمالي المرتضى "368 تعليق رقم 1".
2 أمالي المرتضى "2/ 268"، المرزباني، معجم "375"، ابن هشام "1/ 117"، "حاشية على الروض".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 231"، الخزانة "3/ 466"، السمط "387"، رسالة الغفران "334"، ديوان الهذليين"2/ 92".(18/58)
والرابعة:
أزهير هل عن شيبة من معكمِ ... أم لا خلود لباذل متكرم1
وتنسب له قصيدة فيها:
ولقد سريت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مهبل
ممن حملن به وهنَّ عواقد ... حبك النطاق فعاش غير مثقل
ونسبها بعض العلماء إلى "تأبط شرا" وتتناول قصة حب، وقعت بين صاحب القصيدة وامرأة، كان لها ابن ذكي، هددها بقتلها إن بقيت تواصل الرجل، فأشارت المرأة على الشاعر قتله، لأنها تحبه، ولا تريد مفارقته، وفضلت قتله على فراق الشاعر، في قصة جميلة من قصص الحب2. فالقصيدة إذن من الشعر القصصي الذي يتعلق بالحب والغرام.
وقد نسبها بعضهم إلى "أبي كبير"، وجعل الغلام "تأبط شرا" في قصة طريفة من قصص الحب3.
وقد روي أنه أدرك الإسلام، ثم أتى النبي، فقال له "أحل لي الزنا. فقال: أتحب أن يؤتى إليك مثل ذلك؟ قال: لا. قال: فارض لأخيك ما ترضى لنفسك. قال: فادع الله لي أن يذهب عني"4. والأصح أنه جاهلي لم يدرك الإسلام.
ولهذيل شعر جيد وشعراء مجيدين. وتعد من القبائل المخصبة في الشعر، ومن شعرائها: "المتنخل": "مالك بن عمرو بن عُثم بن سويد بن حنش بن خناعة" "مالك بن عويمر" من "لحيان"5. اشتهر بقصيدته التي يقول فيها:
__________
1 الشعر والشعراء "2/ 561"، الحماسة شرح التبريزي "1/ 42"، الأمالي "2/ 32".
2 الشعر والشعراء "2/ 562 وما بعدها"، "غير مثقل"، الخزانة "3/ 466".
3 الخزانة "3/ 467 وما بعدها"، شرح الحماسة، للتبريزي "1/ 42".
4 الخزانة "3/ 473"، "فقال: أحل لي الربا"، الإصابة "4/ 165 "، "رقم 961".
5 الشعر والشعراء "2/ 522"، الأغاني "20/ 145"، المؤتلف "178"، الخزانة "2/ 135"، السمط "724"، ديوان الهذليين "2/ 15".(18/59)
يا ليت شعري وهمّ المرء ينصبه ... والمرء ليس له في العيش تحريز
هل أجزينكما يوما بقرضكما ... والقرض بالقرض مجزيّ ومجلوز
"قال الأصمعي: ما قيلت قصيدة على الزاي أجود من قصيدة الشمّاخ في صفة القوس، ولو طالت قصيدة المتنخل كانت أجود"1. وهو من الجاهليين.
ومن شعره:
لا ينسئ الله منا معشر شهدا ... يوم الأميلح لا عاشوا ولا مرحوا
عقوا بسهم فلم يشعر له أحد ... ثم استفاؤوا وقالوا حبذا الوضح
التعقية: الاعتذار. وأصل هذا أن يقتل رجلًا من قبيلته، فيطلب القاتل بدمه، فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء المقتول بديه مكملة ويسألونهم العفو وقبول الدية، فإن كان أولياؤه ذوي قوى أبوا ذلك، وإلا قالوا لهم: بيننا وبين خالقنا علامة للأمر والنهي، فيقول الآخرون: ما علامتكم؟ فيقولون أن نأخذ سهما فنرمي به نحو السماء، فإن رجع إلينا مضرجا بالدم، فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد، فقد أمرنا بأخذها، وحينئذ مسحوا لحاهم وصالحوا على الدية، وكان مسح اللحية علامة للصلح. قال الأشعر الجعفي:
عقوا بسهم ثم قالوا ساهموا ... يا ليتني في القوم إذ مسحوا اللحى2
وأورد "المرتضى" له شعرا في رثاء أبيه وأخيه أوله:
لعمرك ما إنْ أبو مالك ... بوان ولا بضعيف قواه
ومنه:
أبو مالك قاصرة فقره ... على نفسه ومشيع غناه3
ومن شعره في الضيف:
ولا والله نادى الحي ضيفي ... هدوءا بالمساءة والعلاط
__________
1 الشعر والشعراء "2/ 522".
2 الخزانة "2/ 137".
3 أمالي المرتضى "1/ 306 وما بعدها".(18/60)
سأبدؤهم بمشمعة وأثني ... بجهدي من طعام أو بساط1
ومن شعراء "هذيل" "خويلد بن مطحل" الهذلي، أحد "بني سهم بن معاوية"، وكان سيد هذيل في زمانه، وابنه من بعده، "معقل بن خويلد". وكان شاعرًا معدودًا في شعراء هذيل، ووفد إلى أرض الحبشة، فكلم ملكهم في من عنده من أسرى العرب، فأطلقهم له. وهو القائل:
لعمرك لليأس غير المريث ... خير من الطمع الكاذب
وللريث تحفزه بالنجا ... ح خير من الأمل الخائب
يرى الحاضر الشاهد المطمئن ... من الأمر ما لا يرى الغائب2
وورد في "الإصابة" اسم "معقل بن خويلد بن وائلة بن عمرو بن عبد يا ليل" الهذلي، وكان شاعرا، وكان أبوه رفيق "عبد المطلب" إلى أبرهة، وكان بين أبي سفيان وبين معقل بن خويلد، خلاف في سلب رجل من قريش. فقال النبي: "يا معقل بن خويلد اتق معارضة قريش". وذكره "المرزباني" في الشعراء المخضرمين3.
ومن بقية شعراء الجاهلية "ذو الخرق" الطهوي، وهو "دينار بن هلال". ويقال إن اسمه "قرط"، وإنما سمي بذي الخرق لقوله:
جاءت عِجافًا عليها الريش والخرق4
وهو من الشعراء الفرسان5
و"سراج بن قرة" "سراج بن قوة" العامري، أحد بني الصموت بن عبد الله بن كلاب من الشعراء الجاهليين. ذكر "المرزباني" في معجم الشعراء له شعرا قاله في يوم من أيام الجاهلية، وقد نسب على هذه الصورة: "سراج
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 493".
2 الشعر والشعراء "2/ 556"، ديوان الهذليين "3/ 68 وما بعدها".
3 الإصابة "3/ 425"، "رقم 8137".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 162".
5 تاج العروس "6/ 329"، "خرق".(18/61)
ابن قرة "قوة" بن ربعي بن زرعة بن الكاهن بن عمرو بن عوف بن أبي ربيعة بن الصموت بن عبد الله بن كلاب". وقد زعم أن له وفادة على النبي، ولا يوجد دليل يؤيده1.
و"السندري بن يزيد الكلابي" شاعر كان مع علقمة بن علاثة، وكان "لبيد" الشاعر مع "عامر بن طفيل"، فدعى لبيدا إلى مهاجاته فأبى2.
ومن شعراء تغلب في الجاهلية "المهلهل" و "عمرو بن كلثوم" التغلبي، و"أفنون" التغلبي، واسمه "ظالم"، وقيل: "صريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن مالك" التغلبي. يقال إنه مات بموضع يقال له "إلاهة" بطريق الشأم، بلدغة حية، وأن كاهنا كان قد قال له: إنك تموت بمكان يقال له إلاهة، فمات به.
ومما ينسب له من الشعر هذا البيت:
مَنيتنا الود يا مضنون مضنونا ... أزماننا إن للشباب أفنونا3
وله مقطوعة أولها:
أبلغ حُبيبا وخلل في سراتهم ... إن الفؤاد انطوى منهم على حزن
قد كنت أسبق من جاروا على مهل ... من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني
قالوا عليّ ولم أملك فيالتهم ... حتى انتحين على الأرساغ والثنن
لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيت فيهم ولقمان ومن جدن4
ذكروا أنه إنما عرف بأفنون لقوله من قطعة:
منيتنا الود يا مضنون مضنونا ... أيامنا إن للشباب أفنونا
__________
1 الإصابة "2/ 16"، "رقم 3101".
2 تاج العروس "3/ 281"، "السندرة"، ديوان لبيد "14"، "مقدمة".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 146"، وقيل اسمه "ظالم" المؤتلف "151"، السمط "684 "، ألقاب الشعراء "317"، الاشتقاق "2/ 203".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 144 وما بعدها"، المفضلية رقم "66"، الأمالي "2/ 51"، أمالي ابن الشجري "1/ 37"، البيان والتبيين "1/ 23"، الخزانة "4/ 455 وما بعدها".(18/62)
وأنه لما قال له الكاهن تموت بمكان يقال له إلاهة، مكث ما شاء الله ثم سار إلى الشأم في تجارة، ثم رجع في ركب من "بني تغلب" فضلوا الطريق، ثم نزلوا "إلاهة"، قارة بالسماوة، فلما أتوها نزل أصحابه، وقالوا: انزل. فقال: والله لا أنزل! فجعلت ناقته ترتعي عرفجًا فلدغتها أفعى في مشفرها، فاحتكت بساقه والحية بمشفرها فلدغته في ساقه، فقال لأخ معه احفر لي قبرا فإني ميت، ثم رفع صوته بأبيات منها:
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
كفى حزنا أن يرحل الحي غدوة ... وأصبح في أعلى إلاهة ثاويا1
ومات من ساعته، فقبره هناك. وهو القائل:
لعمرك ما عمرو بن هند إذا دعا ... لتخدم أمي أمه بموفق2
ومن شعراء تغلب: "الأخنس بن شهاب" التغلبي، فارس العصا3 وينسب له قوله:
يظل بها ربد النعام كأنها ... إماء تزجى بالعشي حواطب4
وقد قال "الأخنس" في أول القصيدة:
لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب
وذكر "الأعلم الشنتمري" قبله:
فمن يك أمسى في بلاد مقامه ... يسائل أطلالا بها ما تجاوب
فلابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب
وفي جملة أبياتها:
فوارسها من تغلب ابنة وائل ... حماة كماة ليس فيها أشائب
__________
1 الخزانة "4/ 460"، "بولاق".
2 الشعر والشعراء "1/ 159، 331 وما بعدها"، الحيوان "3/ 135"، شرح النقائض "886".
3 الاشتقاق "2/ 203".
4 الشعر والشعراء "1/ 102"، المفضلية رقم "141، الموشح "44".(18/63)
وعدتها ما بين ثلاث وعشرين إلى ثلاثين بيتا، حسب اختلاف الروايات1.
و"البرج بن الجلاء بن الطائي" من شعراء طيء، وكان خليلا للحصين بن الحمام ونديمه على الشراب. ذكر أنه وقع على أخت له وهو سكران فافتضها فلما أفاق ندم واستكتم ذلك قومه، ثم إنه وقع بينه وبين الحصين فعيّره بذلك في أبيات، وجرت بينهما الحرب، فأسره "الحصين" ثم منّ عليه لتقدم صداقته، فلحق ببلاد الروم، وقيل بل شرب الخمر صرفا حتى قتلته2.
ومن شعراء "طيء" في الجاهلية: "عمرو بن عمّار" الطائي، وكان شاعرا خطيبا، فبلغ النعمان حسن حديثه فحمله على منادمته، وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، شديد العربدة، قتالا للندماء، فنهاه "أبو قردودة" عن منادمته، لكنه لم ينته، فغضب عليه النعمان وقتله، فرثاه "أبو قردودة" بقوله:
إني نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشعره
إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيرانهم شرره
يا جفنة كإزاء الحوض قد هدمت ... ومنطقا مثل وشي اليمنة الحبره3
وأبو "قردودة" الطائي، شاعر، رأى "سعد القرقرة" أكل عند النعمان مسلوخا بعظامه، فقال:
بين النعام وبين الكلب منبته ... وفي الذئاب له ظئر وأخوال4
وله قصيدة أولها:
كبيشة عرسي تريد الطلاقا ... وتسألني بعد وهن فراقا5
و"دريد بن الصمة" من سادات "جشم"، ويكنى "أبا قرة"، وهو أحد الفرسان الشجعان المشهورين، وذوي الرأي في الجاهلية، وشهد معركة "حنين"
__________
1 الخزانة "3/ 165"، "بولاق".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 280 وما بعدها".
3 الحيوان "4/ 243"، "5/ 332"، البيان والتبيين "1/ 222، 349"، المرزباني معجم "236"، محاضرات الراغب الأصبهاني "1/ 92".
4 الحيوان "1/ 147".
5 الحيوان "5/ 463".(18/64)
مع "هوازن"، وهو شيخ كبير، فقتل مع من قتل من المشركين1. وقيل إنه قال في هذه المعركة:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
ومن جيد شعره قوله:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلماعصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتدي
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وله أشعار أخرى، ذكر "ابن قتيبة" بعضا منها2.
وأمه "ريحانة" بنت "معدي كرب"، أخت "عمرو بن معدي كرب"3.
وله قصيدة في رثاء "معاوية" أخي الخنساء، مما جاء فيها:
فإن الرزء يوم وقفت أدعو ... فلم يسمع معاوية بن عمرو
رأيت مكانه فعطفت زورا ... وأي مكان زور يا ابن بكر
على إرم وأحجار ومير ... وأغصان من السلمات سمر
وبنيان القبور أتى عليها ... طوال الدهر من سنة وشهر
ولو أسمعته لأتاك ركضا ... سريع السعي أو لأتاك يجري
بشكة حازم لا عيب فيه ... إذا لبس الكماة جلود نمر
فإما تمس في جدث مقيما ... بمسهكة من الأرواح قفر
فعز عليّ هلكك يا ابن عمرو ... وما لي عنك من عزم وصبر4
__________
1 الأغاني "9/ 2 وما بعدها"، الخزانة "4/ 442 وما بعدها"، أسماء المغتالين "223"، المعمرون "20"، ابن هشام، سيرة "2/ 429"، المقريزي، إمتاع الأسماع "1/ 402"، عيون الأثر "2/ 188".
2 الشعر والشعراء "2/ 635 وما بعدها"، بروكلمان "1/ 164"، كارلو نالينو "80".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 938 وما بعدها".
4 الخزانة "4/ 444".(18/65)
وقد وصف بأنه شجاع فحل: "أول شعراء الفرسان، أول الفرسان الشعراء غزوا وأكثرهم ظفرا وأيمنهم نقيبة عند العرب وأشعرهم"1. غزا نحو مائة غزوة وما أخفق في واحدة منها، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وخرج مع قومه يوم حنين مظاهرا للمشركين ولا فضل فيه للحرب، وإنما أخرجوه تيمنا به وليقتبسوا من رأيه، فقتل على شركه. وكان قد رأس قومه: "مالك بن عوف". فلما سأله "دريد" عن خطته في الحرب، سفه رأيه وأشار عليه بالرجوع فخالفه "مالك"، فلما التقوا بالمسلمين حلت الهزيمة بهم. وقتل "دريد"2.
وكان "دريد" فارس بني "غطفان"، وقُتل أخوه "عبد الله"، فقَتَل به "ذوّاب بن أسماء بن زيد بن قارب"، وقال:
قتلت بعبد الله خير لداته ... ذواب بن أسماء بن زيد بن قارب3
و"عامر بن الطفيل" من "بني عامر بن صعصعة" من الشعراء الذين أدركوا الإسلام، وقد وفد على الرسول، وهو يريد الغدر به، ثم رجع كافرا فمات وهو في طريقه إلى دياره بالطاعون4. ورد في رواية أنه قال للرسول: "تجعل لي نصف ثمار المدينة، وتجعلني ولي الأمر من بعد وأسلم!؟ "5. وهو الذي نافر "علقمة بن علاثة" إلى "هرم بن قطبة" الفزاريّ، حين أهتر عمه عامر بن مالك ملاعب الأسنة.
وكان فارس قيس، أعور عقيما لا يولد له، ولم يعقب، مغرورًا فخورًا بنفسه: ومن شعره قوله:
فإني وإن كنت ابن فارس عامر ... وسيدها المشهور في كل موكب
__________
1 الخزانة "4/ 446".
2 الخزانة "4/ 446 وما بعدها".
3 الاشتقاق "2/ 178".
4 الطبري "3/ 144"، "وفد بني عامر"، ابن هشام، سيرة "1/ 337 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الخزانة "1/ 473"، المعمرون "60"، ابن كثير، تأريخ "5/ 56".
5 الشعر والشعراء "1/ 252".(18/66)
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب1
وله شعر يفخر به بقومه قيس عيلان، يجعل الأرض قيس عيلان وحدهم، لهم السهول والحزوم، وقد نال مجدهم آفاق السموات، ولهم الصحو منها والغيوم2.
وكان "عامر" شديدا قويا، يرى لنفسه الزعامة بفضل قبيلته، وبقوة شخصيته، وتذكر بعض الأخبار أنه لما وفد مع "بني عامر"، كان غليظا في كلامه، حتى إن الرسول امتعض منه، وكان يستهين أمر الرسول، ويقول: "لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأتبع أناعقب هذا الفتى من قريش؟ " يقولها لما كانوا يلحون عليه في الدخول في الإسلام، ولما سأل الرسول أن يجعل له ميزة فيتفق معه على أن يكون هو سيد أهل الوبر، وأن يكون الرسول سيد أهل المدر، وأبى الرسول ذلك عليه، خرج من يثرب غاضبا مهددا، قائلا للرسول: "لأملأنهاعليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا"، مما جعل الرسول يدعو الله أن يكفيه شره. وكان الرسول يقول: "والذي نفسي بيده لو أسلم فأسلمت بنو عامر لزاحموا قريشا منابرهم"3.
وبنو عامر بن صعصعة من القبائل القوية، وهي من "هوازن"، وقد كانت منازلها بنجد، وقد ساهمت في حروب عبس وذبيان، فساعدت عبس على ذبيان، ولعب عامر بن صعصعة دورا مهما فيها.
وقد طبع ديوانه، طبعه المستشرق "لايل" في سلسلة "جب" التذكارية سنة "1913" مع ديوان عبيد بن الأبرص4.
ومن شعراء "بني بارق": "معقر بن حمار" البارقي، واسمه "سفيان بن أوس بن حمار"، سُمّي معقرا بقوله:
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 253".
2 الشعر والشعراء "1/ 252".
3 الأغاني "15/ 131 وما بعدها".
4 بروكلمان "1/ 117".(18/67)
له ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر
وقوم "معقر"، وهم "بارق" من اليمن في الأصل، ينتهي نسبهم بالأزد. وكانوا قد حالفوا "بني نمير بن عامر" لدم أصابوه منهم، وشهدوا يوم "جبلة". وهو يوم كانت فيه وقعة بين "بني ذبيان" و "بني عامر"، فظهرت "بنو عامر" على "بني ذبيان". وكان "معقر" من فرسان قومه ومن شعرائهم يوم "جبلة" وقد حدد ذلك اليوم بوقوعه قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة، وبتسعة عشرة سنة قبل المولد النبوي1.
ومن شعره:
الشعرُ لبُّ المرء يعرضه ... والقول مثل مواضع النبل
منها المقصر عن رميته ... ونوافذ يذهبن بالخصل2
ومن شعره المشهور:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر3
ومن شعراء الجاهلية، شاعر لا نعرف من أمره شيئا يذكر، اسمه: "عمرو بن عبد الجن"4، "عمرو بن عبد الحق"5، وينسب له قوله:
أما ودماء مائرات تخالها ... على قنة العزى وبالنسر عندما
وما سبح الرهبان في كل بيعة ... أبيل الأبيلين المسيح بن مريما
__________
1 الخزانة "2/ 290 وما بعدها"، "ومعقر بن أويس" البارقي، كمحدث، شاعر. هكذا نسبه "ابن الكلبي". ويقال هو معقر بن حمار البارقي حليف بني نمير. وبارق هو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن عامر، تاج العروس "3/ 418"، "عقر".
2 الحيوان "3/ 61 وما بعدها".
3 المؤتلف "92"، المرزباني، معجم "204".
4 المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، للعيني "1/ 500"، "حاشية على الخزانة"، "بولاق"، اللسان "11/ 6 وما بعدها"، "أبل".
5 تاج العروس "7/ 198"، "أبل"، شيخو، النصرانية "2/ 1 ص186".(18/68)
لقد ذاق منا عامر يوم لعلع ... حساما إذا ما هز بالكف صمّما1
ومن شعراء "قيس" المجيدين في الجاهلية: "خداش بن زهير بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة"، قال "أبو عمرو بن العلاء": "خداش بن زهير أشعر في عَظْم الشعر، يعني نَفَس الشعر، من لبيد، إنما كان لبيد صاحب صفات".. وجده "عمرو بن عامر"، يقال له "فارس الضحياء"، والضحياء فرسه. وفيه يقول:
أبي فارس الضحياء عمرو بن عامر ... أبى الذم واختار الوفاء على الغدر
ومما يتمثل به من شعره قوله:
ولن أكون كمن ألقى رحالته ... على الحمار وخلّى صهوة الفرس
وقوله:
فإن يكُ أوس حية مستميتة ... فذرني وأوسا إن رقيته معي2
وذكر أنه كان من الصحابة، وأنه شهد حنينًا مع المشركين، ثم أسلم بعد ذلك. ويرى "المرزباني" أنه جاهلي لم يدرك الإسلام، وأغلب أهل الأخبار على هذا الرأي. وينسب إليه قوله:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم
و"سخينة" قريش. وكانت تعير بإكثارها من أكلها السخينة3.
ومن شعره:
فيا راكبا أما عرضت فبلِّغن ... عقيلا إذا لاقيته وأبا بكر
بأنكم من خير قوم لقومكم ... على أن قولا في المجالس كالهجر
__________
1 العيني "1/ 500"، واللسان "11/ 6 وما بعدها"، "أبل".
2 الشعر والشعراء "2/ 540"، المؤتلف "107"، السمط "701"، الخزانة "3/ 233""، "4/ 338".
3 الخزانة "3/ 233" الإصابة "1/ 455"، "2327".(18/69)
دعوا جانبًا إنا سنترك جانبًا ... لكم واسعا بين اليمامة والظهر1
و"الحصين بن الحمام" المريّ، شاعر جاهلي، وهو من "بني مرة"، يعد من أوفياء العرب2، وهو أحد الشعراء المقلين. "قال أبو عبيدة" واتفقواعلى أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، والحصين بن حمام المري"3. وقد أدخله بعضهم في الشعراء الجاهليين الذين أدركوا الإسلام.
وقد احتجوا بإسلامه بما نسب إليه من الشعر من قوله:
أعوذ بربي من المخزيات ... يوم تري النفس أعمالها
وخف الموازين بالكافرين ... وزلزلت الأرض زلزالها
والأصح أنه جاهلي لم يدرك الإسلام4.
وأما "المفضل بن معشر بن أسحم"، فهو من "نُكرة" من "لكيز"، فضلته قصيدته التي يقال لها "المنصفة"، وأولها:
ألم تَرَ أن جيرتنا استقلوا ... فنيتنا ونيتهم فريق5
وقد ولع بعض العلماء في وضع تواريخ للشعراء المتقدمين ولغيرهم، تحدد سني ميلادهم وسني وفاتهم، وسني الحوادث التي وقعت في أيامهم والمذكورة في أشعارهم. وهو ولع لا يستند على أسس علمية. لأن أغلب الروايات الواردة عن هؤلاء الشعراء هي غير ثابتة، وقد تتناقض أحيانا، وقد يثبت بطلانها بعد نقدها نقدا علميًّا، ثم إن فيها ما هو موضوع مصنوع ظاهر الصنعة، بيّن التكلف، ولهذا فأنا أحاول جهد إمكاني تجنيب نفسي من توريطها في وضع أرقام تمثل
__________
1 الخزانة "4/ 338".
2 الخزانة "1/ 9"، "بولاق"، الشعر والشعراء "1/ 115"، "2/ 542"، الخزانة "2/ 7"، "3/ 352"، الأغاني "12/ 118"، المؤتلف "91"، السمط "117".
3 الشعر والشعراء "1/ 115".
4 الإصابة "1/ 235"، "1732".
5 ابن سلام، طبقات "70".(18/70)
مواليد الشعراء الجاهليين أو سني وفاتهم، أو تواريخ الحوادث المذكورة في شعرهم، لعدم إمكانية التثبت من ذلك، بل إني أرى لزوم الابتعاد جهد الإمكان عن وضع التواريخ لسني حكم الملوك ولسني وفاتهم لصعوبة إثبات ذلك، والاكتفاء جهد الإمكان بتقريب أيامهم إلينا بصورة تقريبية. ولهذاالسبب لم أحفل في هذاالفصل بترتيب الشعراء ترتيبا زمنيا على وفق ما ذهب إليه المولعون بتدوين التواريخ بالسنين، إذ أرى صعوبة الأخذ بهذا الرأي في التأريخ.(18/71)
الفصل الثامن والخمسون بعد المئة: المعلقات السبع
...
الفصل الثامن والخمسون بعد المائة: معلقات السبع
ومن الشعر الجاهلي قصائد عرفت بين الناس باسم "المعلقات السبع" وبـ "المعلقات" وبـ "المذهبات" وبـ "السموط"، لزعم الرواة أن العرب اختارتها من بين سائر الشعر الجاهلي، فكتبتها بماء الذهب على القباطي، ثم علقتها على الكعبة إعجابا بها وإشادة بذكرها، وقد بقي بعضها إلى يوم الفتح، وذهب ببعضها حريق أصاب الكعبة قبل الإسلام.
والمعلقات السبع هي سبع قصائد طويلة اختيرت من الشعر الجاهلي، فعرفت لذلك بين الناس بـ "السبع" وبالسبع الطوال، وبالسبع الطول، وبالسبع الطول، وبالقصائد المختارة، وبالسبعيات، وعرفت أيضا باختيارات حماد، وبالسمط، وبالسموط، وبالمذهبات. ويظهر أن لفظة "السبع"، هي من الألفاظ القديمة التي أطلقت على اختيارات "حماد"، فقد ذكر "محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: أن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة. قال: وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمي السمط لأحد غير هؤلاء فقد
__________
1 المزهر "2/ 480"، الجزء الأول من تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 37"، العمدة "96"، العقد الفريد "6/ 169".(18/72)
أبطل"1. ولما تحدث "ابن قتيبة" عن معلقة "عمرو بن كلثوم"، قال: "وهي من جيد شعر العرب القديم، وإحدى السبع"2. فالسبع، تسمية أخذت من حقيقة أن القصائد المذكورة المختارة كانت سبع قصائد.
وأما تسمية المعلقات بـ "السبع الطوال" و "السبع الطول"، فلكون هذه القصائد السبعة، هي من أطول ما ورد في الشعر الجاهلي من قصائد. ونجد هذه التسمية واردة على لسان "المفضل" حيث نسب إليه قوله: "هؤلاء أصحاب السبع الطوال"3. وقد أطلقها "ابن كيسان" المتوفى سنة "299هـ" "911"4، "320هـ" "932"5، على شرحه لتلك القصائد حيث سماه بـ "شرح السبع الطوال الجاهلية"6، وأطلق "أبو جعفر احمد بن محمد" النّحاس "338" هذا العنوان عليها، إذ ذكرها بقوله: "إن حمادًا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"7، وأطلقه على شرحه لها8.
وعرفت أيضا بـ "القصائد السبع" وبـ "القصائد السبع الطوال" وبـ "القصائد"8. وبـ "القصائد التسع"، وبـ "القصائد التسع المشهورة"، وذلك بالنسبة لمن أضاف على القصائد المذكورة قصيدتين أخريين9، وبـ "القصائد العشر"، وذلك بالنسبة لمن أضاف ثلاث قصائد عليها10.
ويظهر أن مصطلح "السبع الطوال"، هو أنسب المصطلحات تعبيراعن هذه القصائد، لأنها تمثل في الواقع أطول ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي. فإن عدد أبيات أقصر قصيدة من قصائدها هو "64" بيتًا، أما عدد أبيات أطول
__________
1 المزهر "2/ 480".
2 الشعر والشعراء "1/ 158"، "عمرو بن كلثوم".
3 الجمهرة "45".
4 بلاشير "155".
5 بروكلمان "1/ 70".
6 ياقوت، إرشاد "4/ 140"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 37".
7 بلاشير "155".
8 الأغاني "11/ 8، 42"، بلاشير "155"، "شرح القصائد السبع الطوال" للأنباري، "تحقيق عبد السلام محمد هارون"، "القاهرة 1962م"، "دار المعارف".
9 بروكلمان "1/ 68".
10 شرح القصائد العشر، للتبريزي، بروكلمان "1/ 71".(18/73)
قصيدة منها، فهو "104"، ومعدل أبيات المعلقات "85" بيتا1.
وعرفت هذه القصائد بـ "القصائد المختارة" لطبيعة كونها قصائد اختيرت من قصائد الشعر الجاهلي، وانتخبت منه انتخابا2. ونجد مجموعة أخرى عرفت بـ "شعر الشعراء الست"، وهم امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة. وقد أشار "البغدادي" إلى كتاب دعاه: "مختار شعر الشعراء الست: امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة. وشرحها للأعلم الشنتمري"3.
ولم نجد في الكتب التي وصلت إلينا، الاسم الصحيح الأول الذي أطلقه جامع هذه القصائد ومختارها عليها. وقد ورد في مقدمة شرح التبريزي "502هـ" على "القصائد العشر": "سألتني -أدام الله توفيقك- أن ألخص لك شرح القصائد السبع، مع القصيدتين اللتين أضافهما إليها أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحوي، قصيدة النابغة الذبياني الدالية، وقصيدة الأعشى اللامية، وقصيدة عبيد بن الأبرص تمام العشر"4. فيظهر منها أن جملة "القصائد السبع"، كانت غالبة على تلك القصائد، من حقيقة كونها سبع قصائد في الأصل.
ولانعلم اسم أول من أطلق مصطلح "المعلقات السبع" على هذه القصائد، وفي أي وقت أطلقه عليها. ولا يستطيع أحد إثبات أن "حمادا" الراوية هو الذي أطلقه على منتقياته. وقد ذكر "بلاشير" أن "ابن قتيبة" لما تكلم عن قصيدة "عمرو بن كلثوم" التي تدخل في المعلقات قال عنها إنها "إحدى السبع المعلقات"5. وقد رجعت إلى النص فوجدته يقول: "وهي من جيد شعر العرب القديم، وإحدى السبع"6، ولماكنت لا أملك النسخة الفرنسية لكتاب "بلاشير"، لذلك لا أدري إذا كانت تلك النسخة قد استخدمت جملة "إحدى السبع المعلقات، كما وردت في الترجمة العربية، أم أن الترجمة العربية هي التي استعملتها تصرفا،
__________
1 ch. j. lyall, ancient arabian poetry, p. xx
2 "شرح القصائد المختارة للتبريزي"، السيوطي، شرح شواهد المغني "1/ 11"، "مقدمة".
3 الخزانة "1/ 10"، "بولاق".
4 شرح القصائد العشر "ص45"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
5 بلاشير "154".
6 الشعر والشعراء "1/ 159".(18/74)
وأنها لم ترد في النص الأصل. وإني استبعد احتمال أخذ "بلاشير" من نسخة أخرى استعملت جملة "إحدى السبع المعلقات" بدلًا من "إحدى السبع" الواردة في النص الذي اعتمدت عليه، المطبوع ببيروت سنة 1964م.
والعلماء مختلفون في القصائد التي تعد من المعلقات وفي عددها، ولكنهم متفقون على خمس منها، هي معلقات امرئ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم. أما بقيتها، فمنهم من يعد من بينها معلقة عنترة والحارث بن حلزة، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى. وقد أضاف بعض العلماء القصيدتين اللتين اختارهما المفضل الضبي، وهما قصيدتا النابغة والأعشى، إلى المعلقات السبع التي هي من اختيار حماد، فجعلها تسع معلقات. ويرى "نولدكه" أن لولاء حماد لبكر بن وائل علاقة بإدخال حماد قصيدة الحارث بن حلزة اليشكري في جملة المعلقات، وذلك أن حمادا كان مولى لبكر بن وائل، وكانت هذه القبيلة في عداء مع تغلب، ولما كانت قصيدة "عمرو بن كلثوم" التغلبي قد لقيت شهرة واسعة، لم يسع حماد أن يعدل عن اختيارها، فاختارها، واختار معها قصيدة الحارث إرضاء لمن انتمى إليهم بالولاء، مع قلة شهرتها بالنسبة إلى القصائد الآخرى1.
ونجد في "الفهرست" اسم كتاب ذكر "ابن النديم" أنه من مؤلفات "الأصمعي"، دعاه "كتاب القصائد الست"2. ولهذه التسمية أهمية كبيرة، لأنها تدل على أن "الأصمعي"، كان قد اختار من القصائد المعروفة ست قصائد، وضمها بين دفتي كتاب. ولم يشر "ابن النديم" إلى أسماء القصائد الست المختارة، ولكني لا استبعد احتمال إسقاطه قصيدة واحدة من بين القصائد السبع التي اختارها "حماد"، فصار العدد ست قصائد. كما أشار "البغدادي" إلى كتاب دعاه: "مختار شعر الشعراء الست: امرئ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة"، وإلى شرحها للأعلم الشنتمري3.
وأشار "السيوطي" أثناء حديثه في مقدمته لكتابه: "شرح شواهد المغني".
__________
1 Brockelmann, I, s. 18, char. Lyall, translations of ancient arabian poerty, london, 1885.
2 الفهرست "88"، "الأصمعي".
3 خزانة "1/ 10"، "بولاق".(18/75)
إلى "شرح المعلقات السبع، وما ضم إليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس، وشرح السبع العاليات للكميت، وشرح القصائد المختارة للتبريزي"1. وتلفت جملة: "وشرح السبع العاليات للكميت" النظر، لأنها جاءت في أثناء تحدث "السيوطي" عن الكتب التي رجع إليها في جمع مادة كتابه، وفي أثناء تحدثه على المعلقات السبع وما ضم إليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس، مما يدل على أنه قصد بشرح السبع العاليات للكميت، قصائد سبعًا مختارة لها صلة بهذه المعلقات السبع، ولا سيما وقد ذكر بعد هذا الشرح اسم شرح القصائد المختارة للتبريزي، التي هي المعلقات العشر، وأنه لم يقصد بالقصائد السبع "الهاشميات"، "هاشميات" الكميت وهي أيضا سبع قصائد، من شعر هذا الشاعر، عرفت بالهاشميات. ولو كان قصدها بالذات لدعاها باسمها الذي عرفت به، وهو "الهاشميات"2، وإنما قصد كتابا آخر، اسمه: "شرح السبع العاليات"، ولفظة "العاليات" نعت للقصائد السبع. ولم يتحدث السيوطي ويا للأسف عن هذا الشرح بأي شيء، فهل يكون الكميت المتوفى سنة "126هـ"، أي قبل "حماد"، قد اختار سبع قصائد جاهلية وضمها في ديوان عرف بـ "السبع العاليات" وقف عليها "حماد" أو صارت إليه، فأملاها فنسبت إليه، على عادة القدماء في ذلك الوقت، من أخذهم الكتب والروايات القديمة، ثم إملاءها على تلامذتهم، فتنسب إليهم، فتكون المعلقات إذن من جمع الكميت، رواية حماد!
ويفهم من خبر مذكور في "خزانة الأدب" أن الخليفة "عبد الملك بن مروان" أمر فطرح شعر أربعة من أصحاب المعلقات، وأثبت مكانهم أربعة. ومعنى هذا الخبر هو وجود المعلقات قبل أيام عبد الملك. وفي الكتاب خبر آخر هو أن بعض أمراء بني أمية أمر من أختار له سبعة أشعار، فسماها المعلقات3، وفي رواية أخرى: المعلقات الثواني ولم يعين المورد الشخص الذي أمر باختيار تلك الأشعار، ولا الشخص الذي قام بالاختيار. ولعله قصد الوليد وحمادا،
__________
1 السيوطي، شرح "11".
2 القصائد الهاشميات، للكميت "مطبعة الموسوعات بمصر، 1321هـ"، بروكلمان "1/ 243"، وطبعت بليدن سنة 1904م، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 316".
3 خزانة الأدب، للبغدادي "1/ 61".
4 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 187".(18/76)
فإليهما ينصرف الذهن، لما للوليد من ولع بالشعر، ولما لحماد من علم به.
ولم يشر "البغدادي" صاحب "خزانة الأدب" إلى اسم المورد الذي استقى منه خبره عن طرح "عبد الملك" شعر أربعة من أصحاب المعلقات، وإثباته أربعة مكانهم. كما أنه لم يشر إلى أسماء أصحاب المعلقات الذين طرحت معلقاتهم، ولا إلى أسماء الشعراء الأربعة الذين أثبتت قصائدهم مكان القصائد الأربع المطروحة.
وروي أن "معاوية"، تذكر قصيدة "عمرو بن كلثوم"، وقصيدة "الحارث بن حلزة" فقال "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، كانتا معلقتين بالكعبة دهرا"1.
والمعروف اليوم، أن حمادا الراوية، هو الذي جمع القصائد السبع المذكورة، وأذاعها بين الناس. وهو من حفظة الشعر ورواته وممن اشتهروا وعرفوا برواية الشعر القديم. وكان من المتكسبين بالشعر. وقد اتهم بالوضع وبالدس على الجاهليين وبالكذب عليهم: وهو نفسه لم ينكر ذلك، ولم يبرئ نفسه من الدس على الجاهليين والوضع عليهم. ولكنه كان بإجماع أنصاره وخصومه من أفرس الناس بالشعر، ومن أعلمهم بالشعر الجاهلي وبطرقه ودروبه وأساليبه، ولعل علمه هذا بالشعر، ورغبته في التفوق والتصدر على أقرانه المتعيشين مثله على رواية الشعر، كانا في رأس الأسباب التي حملته على الوضع والدس والافتعال.
ووضع "المفضل" الضبي قصيدتي النابغة والأعشى مكان قصيدتي عنترة والحارث بن حلزة اليشكري في الاختيارت الشهيرة للمعلقات. وضم "أبوجعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل" النحوي قصيدتي النابغة والأعشى على اختيارات "حماد" فصار العدد تسع معلقات، أضاف عليها بعض العلماء قصيدة "عبيد بن الأبرص" فصارت عشرا، وقد شرحها "التبريزي"2. وجعل بعضهم العدد ثمانية. ولكن المشهور المعروف بين علماء الشعر الجاهلي أنها سبع قصائد: وهي في رأيهم أفضل ما قيل من الشعر في زمان الجاهلية3.
ولأهل الأخبار قصص وحكايات عن سبب تسمية المعلقات بالمعلقات. فذكر
__________
1 الخزانة "3/ 162".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 68"، شرح التبريزي "45"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
3 العقد الفريد "3/ 93"، ابن خلدون "1/ 509".(18/77)
"أحمد بن عبد ربه" مثلا أن العرب كلفت بقصائد خاصة من الشعر الجاهلي وفضلتها على غيرها، وعمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها في أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، ويقال لها المعلقات1. وورد: يقال مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره. وقال "ابن رشيق": "وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته"2.
وذهب "السيوطي" هذا المذهب كذلك، إذ قال: "وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلّقت على الكعبة؛ فلذلك يقال: مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه لتكون في خزانته"3. وهو رأي أخذه من "ابن رشيق"، من كتابه "العمدة". وكتاب العمدة من الموارد التي استقى منها "السيوطي"، يشير إليه أحيانا، ولا يشير إليه أحيانا أخرى، كما هو الحال في هذه الجمل، التي هي عبارة "ابن رشيق" بحروفها كما جاء في العمدة. وقد توفي "ابن رشيق" سنة "456هـ".
وزعم بعض آخر أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه روي، وكان فخرا لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب. وقال أبو عمرو بن العلاء: "كانت العرب تجتمع في كل عام وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش4". وذهب "ابن خلدون" إلى أن العرب
__________
1 العقد الفريد "3/ 116"، "6/ 119"، "لجنة".
2 العمدة "1/ 96"، الخزانة "1/ 61".
3 السيوطي، المزهر "2/ 480".
4 خزانة الأدب "1/ 61".(18/78)
كانوا يعلقون أشعارهم بأركان البيت كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وإنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر1. وذكر أن "أول من علق شعره في الكعبة امرؤ القيس وبعده علقت الشعراء، وعدد من علق شعره سبعة. ثانيهم طرفة بن العبد. ثالثهم زهير بن أبي سلمى، رابعهم لبيد بن ربيعة، خامسهم عنترة، سادسهم الحارث بن حلزة، سابعهم عمرو بن كلثوم. هذا هو المشهور"2. وروي عن "معاوية" قوله: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب كانتا معلقتين بالكعبة دهرا"3.
وعن "ابن الكلبي" أنه قال: "أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحْدِرَ فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة"4.
ولا بد وأن يكون ظهور قصة التعليق قد حدث قبل أيام "ابن عبد ربه" المتوفى سنة "328 هـ"، لورودها في "العقد الفريد"5. و"ابن عبد ربه" من معاصري "أبي جعفر أحمد بن محمد" النحاس، المتوفى بعده بعشر سنوات، أي سنة "338هـ"، الذي ذكر القصة أيضا، لكنه أنكر تعليق المعلقات، فعنده "أن حمادا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"6. وذكر أنه قال في شرحه على المعلقات ما نصه: "واختلفوا في جمع القصائد السبع، وقيل إن العرب كانوا يجتمعون بعكاظ فيتناشدون الأشعار، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوا لنا هذه وأثبتوها في خزانتي"، وقال أبو جعفر: "وأما قول من قال إنها علقت بالكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة"، "وهو يستند في رأيه هذا، إلى أن حمادا الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر، جمع لهم هذه القصائد السبع، وقال هذه هي
__________
1 مقدمة ابن خلدون "511"، "1/ 509".
2 الخزانة "1/ 61".
3 الخزانة "1/ 519"، "بولاق".
4 الرافعي "2/ 187".
5 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 106".
6 ياقوت، إرشاد "4/ 140".(18/79)
المشهورات! فسميت القصائد المشهورة"1.
وقد مشت أسطورة التعليق هذه بين الناس، حتى صارت رأيا اعتقد به كثير من المحدثين، إلى درجة أن منهم من صار يغضب ويثور إذا قرأ رأيا يخالف هذا الرأي، لاعتقاده أن في هذا الإنكار غضا وتعريفا بأخلد تراث من تراث العرب القديم، وأن فيه انتقاصا من قدر الأدب العربي التليد.
وقد تعرض المستشرقون منذ أيام "بوكوك" لموضوع المعلقات، وقد رأى كثير منهم أن قصة التعليق قصة مصطنعة وأن الموضوع مصنوع موضوع ويرى "نولدكه" أن اختلاف رواة الشعر في ضبط أبيات تلك المعلقات، دليل في حد ذاته على عدم صحة التعليق، إذ لو كانت تلك القصائد معلقة ومشهورة وكانت مكتوبة لما وقع علماء الشعر في هذا الاختلاف. ثم يرى سببا آخر يحمله على الشك في صحة ما يقال عن المعلقات. هو أن كل الذين كتبوا عن فتح مكة مثل الأزرقي وابن هشام والسهيلي وغيرهم وغيرهم، أشاروا إلى أن الرسول أمر بطمس الصور وكسر الأوثان والأصنام، ولم يشيروا أبدا إلى المعلقات، ولو كانت المعلقات موجودة كلا أو بعضا لما غض أهل الأخبار أنظارهم عنها، ولما سكتوا عن ذكرها، لأهميتها عند العرب.
ثم يرى "نولدكه" أن هذه القصائد لو كانت معلقة حقا، وكانت على الشهرة التي يذكرها أهل الأخبار لما أغفل أمرها في القرآن الكريم وفي كتب الحديث وفي كتب الأدب مثل كتاب الأغاني وأمثاله، ولأشير إليها، ولهذا يرى أن ما يروى عن المعلقات هو من القصص الذي نشأ عن التسمية وعن اختيارات حماد لها، فلما أشاعها بن الناس، أوجد الرواة لها قصة التعليق3.
وقد استدل "نولدكه" من عبارة: "وقال المفضل: القول عندنا ما قاله
__________
1 محمد هاشم عطية، الأدب العربي وتأريخه "124".
2 theodor noldeke, beiktrage zur kenntntss der poeste der poeste der alten araber hannover, 1884, s. xviii. f
راجع وصف دخول الرسول الكعبة، وأمره بطمس الصور وكسر الأصنام والأوثان، إرشاد الساري "6/ 393 وما بعدها".
3 noldeke, beltrage, s. mvii, xx
بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 67".(18/80)
أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم: وهو أن أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات. وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد. قال المفضل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط، ومن زعم غير ذلك، فقد خالف جمهور العلماء"1، على أن الأدباء أوجدوا قصة تعليق المعلقات في الكعبة، نظرا إلى ما يقال من تفاخر الشعراء بعكاظ، وتحكيم المحكمين فيما بينهم، فرأى رواة الشعر أن يجعلوا المختار من الشعر، وهو القصائد السبع الطوال سيد الشعر الجاهلي، ولما كانت مكة ذات قدسية، وجدوا أنها أصلح مكان لأن يربط بينه وبين هذا المختار من عيون الشعر، فأوجدوا حكاية التعليق2.
وبين المستشرقين فريق ذهبوا مذهب "نولدكه" في رفض قصة التعليق، ورأوا أن القصة أسطورة لا أصل لها ولا فصل. وفريق أيد التعليق، وهم أقلية، وذهب مذهب المثبتين له من علماء الشعر الجاهلي. أما علماء العربية في أيامنا، فهم أيضا بين مؤيد وبين مخالف، ولكل رأي.
وقد تعرض "الرافعي" لموضوع تعليق المعلقات، فذهب إلى أن قصة التعليق على الكعبة قصة مفتعلة، وأن "ابن الكلبي" هو الذي ذكر خبر تعليقها على الكعبة، وأن مَنْ عدا ابن الكلبي ممن هم أوثق في رواية الشعر وأخباره لم يذكروا من ذلك شيئا، بل جملة كلامهم ترمي إلى أن القصائد لم تخرج عن سبيل ما يختار من الشعر، وأن المتأخرين هم الذين بنوا على خبر التعليق ما ذكروه من أمر الكتابة بالذهب أو بمائه في الحرير أو في القباطي؛ وأن العرب بقيت تسجد لها "150" سنة حتى ظهر الإسلام، تسجد لها كما يسجدون لأصنامهم3. و "ابن الكلبي" على رأيه "هو أول من افترى خبر كتابة القصائد السبع المعلقات وتعليقها على الكعبة"4.
وتعرض "الرافعي" أيضا إلى رأي من ينكر أن هذه القصائد صحيحة النسبة إلى قائليها، مرجحا أنها منحولة وضعها مثل حمّاد الراوية، أو خلف الأحمر،
__________
1 Bitrage, s. xx
2 Nldeke, beitrage, s. xxil
3 الرافعي "2/ 186، 192".
4 الرافعي "1/ 416"، "2/ 192".(18/81)
فرأى أنه رأي فائل، لأن الروايات قد تواردت على نسبتها، وتجد أشياء منها في الصدر الأول، غير أنه مما لا شك فيه أن تلك القصائد لا تخلوا من الريادة وتعارض الألسنة، قلّ ذلك أو كثر، أما أن تكون بجملتها مولدة فدون هذا البناء نقض التأريخ1.
ولم أجد بين الموارد التي وصلت إلينا من موارد مطبوعة أو مخطوطة موردا واحدا ذكر أن الرسول حينما فتح مكة، وأمر بتحطيم ما كان بها من أصنام وأوثان وبطمس ما كان بها من صور، وجد معلقة واحدة أو جزءا من معلقة أو أي شعر آخر وجد مكتوبا ومعلقا على أركان الكعبة أو على أستارها، كما أني لم أجد في أخبار بناء الكعبة خبرا يشير إلى أنهم علقوا المعلقات على الكعبة حينما أشادوها وبنوها من جديد. ولو كانت تلك القصائد قد علقت، لما سكت الرواة عنها وأغفلوا أمرها إغفالا تامًّا، ثم إن أهل الأخبار الذين أشاروا إلى الحريق الذي أصاب الكعبة، والذي أدي إلى إعادة بنائها، لم يشيروا أبدا إلى احتراق المعلقات كلها أو جزء منها في هذا الحريق، ولو كانت موجودة ومعلقة على الكعبة كما زعموا، لما سكتوا عن ذكر هذا الحدث الهام. ثم إني لم أسمع أن أحدا من حملة الشعر الجاهلي من الصحابة أو التابعين، ولا غيرهم من رواة شعر الجاهلية وحفظته، وكلهم كانوا يتلذذون بروايته وبسماعه، أشار إلى وجود معلقات ومذهبات وقصائد سبع مختارة، ولو كان لهم علم بها لما أخفوا ذلك عمن جاء بعدهم أبدا. وتعليق المعلقات قصة لا أستبعد أن تكون من صنع "حماد" جامعها، أو من عمل من جاء بعده، في تعليل سبب ذلك الاختيار.
وأما ما زعم من أن معاوية قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة، كانتا معلقتين بالكعبة دهرا"2، فخبر لا يوثق به.
ومن "السمط" جاءت فكرة تعليق المعلقات. فالسمط: خيط النظم لأنه يعلق، وقيل قلادة أطول من المخنقة، والخيط ما دام فيه الخرز، وجمعه "سموط"3. فالسمط يعلق، وقد دعيت القصائد المذكورة بـ "السمط"، وقالوا
__________
1 الرافعي "2/ 193".
2 الخزانة "1/ 519"، "بولاق".
3 اللسان "7/ 322".(18/82)
من ثم بتعليق تلك القصائد، وتعليقها عل الكعبة أو على أستارها هو خير مكان يناسب المقام الذي وضعوه لتلك المنظومات.
وتلفت جملة: "وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء، فقد أبطل" النظر حقًّا1. فقد استعمل لفظة "السمط"، فقط، وقصد بها المعلقات، وهذا الاستعمال يدل على نعت العلماء للقصائد المذكورة بأن كل قصيدة منها وكأنها خيط من اللؤلؤ منظوم يتلو بعضه بعضا، وأن تلك القصائد السبع قد اختيرت من بين قصائد الشعر الجاهلي، وأن من يزيد على ذلك العدد قصيدة، فقد أخطأ.
وقد روي أن العرب كانت تسمي القصائد الطويلة الجيدة المقلدات والمسمطات2. و "مقلدات الشرع وقلائده البواقي على الدهر"3. "وسمط الشيء تسميطا علقه بالسموط، وهي السيور"، ومن هذا المعنى أخذ اختراع تعليق المعلقات في رأي بعض الباحثين.
ويذكر علماء اللغة والشعر أن "المسمط" من الشعر، أبيات تجمعها قافية واحدة مخالفة لقوافي الأبيات. ويقال قصيدة مسمطة، شبهت أبياتها المقفاة بالسموط. وذكر بعضهم: الشعر المسمط الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة وتجمعها قافية مخالفة لازمة القصيدة حتى تنقضي. وهو الذي يقال له عند المولدين: المخمس، والمسبع، والمثمن. وذكر بعض علماء الشعر أن لامرئ القيس قصيدتان سمطيتان5.
وأرى أن الذي أوحى إلى أهل الأخبار بفكرة المعلقات السبع هو ما جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبَعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 6 وما جاء في الحديث من قوله: "أوتيت السبع الطول" 7. وقد ذكر علماء التفسير أن "السبع الطول" من سور القرآن: سبع سور، وهي سورة البقرة وسورة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، واختلف في السابعة، فمنهم من قال السابعة
__________
1 العمدة "ص96".
2 البيان والتبيين "2/ 9".
3 تاج العروس "2/ 475"، "قلد".
4 تاج العروس "5/ 161"، "سمط".
5 تاج العروس "5/ 161"، "سمط".
6 "الحجر" الآية "87".
7 اللسان "11/ 410".(18/83)
الأنفال، ومنهم من جعل السابعة يونس، ومنهم من قال إنها سورة "الفاتحة" وأنها "السبع المثاني"، لأنها تتألف من سبع آيات1. فمن السبع المثاني التي قصد بها السور السبع الطوال المذكورة، والتي ذكر المفسرون أنها خصت بهذه التسمية بسبب كونها أطول السور ولاحتوائها على أكثر الأحكام أخذ رواة الشعر في رأيي فكرتهم في المعلقات السبع، التي نعتوها أيضا بـ "الطوال" وبـ "السبع الطوال" وهو نعت جاء في الحديث وفي كتب التفسير للسبع المثاني، أي للسور المذكورة، إذ عبر عنها بـ "السبع الطوال"، وورد في الحديث: "أوتيت السبع الطوال".
ويلاحظ أن علماء الشعر مغرمون بعدد السبعة، وأن نظام انتقائهم للأشعار قائم على سبع. فالمعلقات سبع، ومنتقيات العرب والمذهبات التي للأوس والخزرج خاصة سبع كذلك، وعيون المراثي سبع، ومشوبات العرب وهي التي شابهن الكفر والإسلام سبع كذلك، والملحمات سبع أيضا، ومجموع هذه الاختيارات تسع وأربعون. وهي حاصل هذه المجموعات السبع التي تتألف كل مجموعة منها من سبعة أشعار.
وهذا التقسيم السبعي لا بد أن يكون له أساس، فليس من المعقول أن يكون اعتباطيا وعلى غير أساس. والمعروف أن التقسيم السبعي، أو النظام السبعي، تقسيم قديم يعود إلى سنين طويلة قبل الميلاد، فالسماوات والأرضون سبع، والكواكب السيارة سبعة، والأنغام الموسيقية سبعة، وأيام الأسبوع سبعة. والعدد سبعة هو عدد مقدس عند بعض الشعوب القديمة.
وقد سبق لي أن تحدثت في مجلة المجمع العلمي العراقي عن المعلقات السبع، وذكرت الأسباب التي حملت العلماء على تسميتها بالمعلقات.
__________
1 تفسير الطبري "14/ 35 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "2/ 557"، تفسير الطبرسي "3/ 334".
2 الرافعي "3/ 190 وما بعدها".(18/84)
الفصل التاسع والخمسون بعد المئة: أصحاب المعلقات
...
الفصل التاسع والخمسون بعد المائة: أصحاب المعلقات
أصحاب السبع الطوال، هم: امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة اليشكري. وهم الذين اختار "حماد" الراوية قصائدهم، فألف منها اختياراته. وقد رتبهم حسب الترتيب المألوف الذي يرد في دواوين المعلقات، وإن كان هذا الترتيب يتعارض مع الترتيب الزمني. فلبيد مثلا كان من الواجب علينا تأخيره، بجعله آخر الشعراء المذكورين، لأنه أدرك الإسلام، فهو من المخضرمين، وبعض منهم كان من اللازم تقديمه، ليأخذ مكانه المناسب له من الناحية الزمنية، بجعله في موضع من يؤخر لتأخره في الزمان.
وسأضيف على ما ذكرت الأعشى والنابغة وعبيد بن الأبرص، مجاراة لمن زاد على ذلك العدد شاعرا أو شاعرين أو ثلاثة، أو طرح منه شاعرين، ووضع في محلهما شاعرين آخرين. كما جرى الحديث عن ذلك حين تكلمت عن المعلقات. وسأبدأ لذلك بالكلام على أولهم، وهو بإجماع علماء الشعر: امرؤ القيس.
وامرؤ القيس، هو على رأس شعراء الجاهلية في الذكر والشهرة، وعلى رأس أصحاب "المعلقات السبع". وقد أوصله أهل الأخبار إلى "قيصر"، وجعلوا له معه حكايات ثم قبروه بـ "أنقرة" إلى جانب قبر ابنة بعض الملوك الروم1.
__________
1 نزهة الجليس "2/ 147 وما بعدها"، السيوطي شرح "21"، الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، "بولاق"، الخزانة "3/ 632".(18/85)
وختموا حياته بخاتمة مؤلمة مفجعة، وقالوا إنه عرف بـ "ذي القروح"، لأن ملك الروم كساه حلة مسمومة فقرحته1، أو لقوله:
وبدلت قرحًا داميًا بعد صحة ... لعل منايانا تحوَّلن أبؤسا2
ويرى "بروكلمان" أن قصة موت "امرئ القيس"، بسبب الحلة المسمومة، أسطورة تشبه الأسطورة التي حصلت لهرقل البطل اليوناني الشهير3.
ودعوه بـ "الملك الضلِّيل"، و "الملك المضلل"4. وذكروا أنه سعى وجدّ لإعادة ملك والده، ولكنه باء بالفشل، وكان آخر ما فعله في هذا الباب، أن ذهب إلى "القسطنطينية" لمقابلة "قيصر" لإقناعه بمساعدته في الحصول على حقه، وتقويته لينتقم من قتلة والده، وليعيد الحكم إلى كندة، فكان مصيره أن جاءه الموت وهو في طريقه، على نحو ما تقصه علينا قصص أهل الأخبار.
وما قصة موته من قروح أصيب بها من لبسه الحلة المسمومة، إلا أسطورة. ويرى "بروكلمان" احتمال ظهورها من سوء فهم الأبيات 12-14 من القصيدة "30" من ديوانه. ولعل هذه القصة هي التي أوجدت له اللقب الذي لقب به، وهو "ذو القروح". وأنا لا أستبعد احتمال إصابته بدمامل أو بمرض جلدي آخر، قرحت جلده، ومات منها، فعرف لذلك بـ "ذي القروح"، وأوجدت له قصة الحلة المسمومة على نحو ما أوجدته مخيلة أهل الأخبار.
ويذكر أهل الأخبار أن "امرأ القيس" لما احتضر بأنقرة، نظر إلى قبر فسأل عنه، فقالوا قبر امرأة غريبة، فقال:
__________
1 المستطرف "2/ 35"، سرح العيون، لابن نباتة "181"، "بولاق"، العمدة "1/ 41 وما بعدها، 97"، شرح القصائد العشر "7/ 46"، المؤتلف والمختلف، للآمدي "9 وما بعدها" قال الفرزدق:
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرول
ديوان الفرزدق "720 وما بعدها"، النقائض "200 وما بعدها".
3 شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها، للشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي "ص5" "طبعة دار الأندلس".
4 تاج العروس "7/ 412"، "ضلل"، الخزانة "1/ 160"، "بولاق".(18/86)
أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنّا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب
فإن تصلينا فالمودة بيننا ... وإن تهجرينا فالغريب غريب
وورد في كتاب: مقاتل الفرسان لأبي عبيدة، أن صخر بن عمرو الشريد أخا الخنساء، قال لما أدركه الموت:
أجارتنا إن الخطوب تنوب ... علينا وكل المخطئين مصيب
أجارتنا لست الغداة بظاعن ... وإني مقيم ما أقام عسيب
ومات فدفن بقرب عسيب. فلعلهما تواردا1.
وتذكر قصة، أن "امرأ القيس" دخل مع القيصر الحمام، فإذا قيصر أقلف، فقال:
إني حلفت يمينا غير كاذبة ... أنّك أقْلفُ إلا ما جنى القمر
إذا طعنت به مالت عمامته ... كما تجمع تحت الفلكة الوبر
وتذكر القصة أن ابنة القيصر نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وطَبِنَ "الطمّاح بن قيس" الأسدي لهما، وكان حجر قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرعا، فبعث إليه قيصر بحلة مسمومة، فتناثر لحمه وتفطر جسده. وكان يحمله "جابر بن حني" التغلبي، فذلك قوله:
فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني
فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعان فككت الغلّ عنه ففداني
إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بحزّان2
ولم ينس "ابن الكلبي" ذكر آخر كلمة قالها شاعرنا حين حضرته الوفاة، فقال إنه قال:
__________
1 السيوطي، شرح "715"، نزهة الجليس "2/ 147".
2 الشعر والشعراء "1/ 52 وما بعدها"، "الثقافة".(18/87)
وطعنة مسحنفرة وجفنة متعنجرة تبقى غدا بأنقرة
فكان هذا آخر شيء تكلم به، ثم مات1.
ورويت كلماته الأخيرة على هذه الصورة:
رب خطبة مسحنفره ... وطعنة مثعنجره
وجعبة متحيره ... تدفن غدا بأنقره
كما روى شعره الذي قاله يخاطب قبرا لامرأة زعم أنها من بنات ملوك الروم، على هذا النحو:
أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب2
وهكذا نجد الرواة يختلفون فيما بينهم في رواية هذه الأشعار التي صنعت على لسان الشاعر، لتكون مادة مقومة للقصة. وكان آخر ما صنعوه لإتمام القصة، أن أوجدوا له قبرا بأنقرة، اتخذوه إلى جانب قبر منفرد منعزل، هو قبر إحدى بنات ملك من ملوك الروم، أوصاهم به "امرؤ القيس" نفسه لما رأى دنو أجله. فكانت الخاتمة مؤلمة، وكان الاختيار موفقا جدا، فالقبر قبر امرأة، وكان صاحبنا متيما بحب النساء، وكانت المرأة بنتا لملك من ملوك الروم، فهي من طبقته، وتصلح أن تكون جارة له، وهو ابن ملك، وكان صديقا حميما لقيصر الروم، يدخل معه الحمام ويراه عاريا تماما، أقلف. فابنة ملك من ملوك الروم تصلح لأن تكون له جارة وصاحبة لهذا القبر، وهكذا قبروا الاثنين في قبرين متجاورين.
وقد زعموا أن امرأ القيس كان "مئناثا لا ذكر له، وغيورا شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنت وأدها، فلما رأى ذلك نساؤه غيبن أولادهن في أحياء العرب، وبلغه ذلك فتتبعهن حتى قتلهن"3.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 53"، "الثقافة"، نزهة الجليس "2/ 153".
2 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة".
3 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة".(18/88)
وزعموا أنه كان مع جماله ووسامته وحسنه "مُفركًا لا تريده النساء إذا جربنه. وقال لامرأة تزوجها: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. وسأل أخرى عن مثل ذلك فقالت: يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت بريح كلب! فقال: أنت صدقتني، إن أهلي أرضعوني بلبن كلبة. ولم تصبر عليه إلا امرأة من كندة يقال لها هند، وكان أكثر ولده منها"1.
وتزعم قصة أن قيصر وجه معه جيشا، ليعاونه على استعادة ملكه، فوشى به رجل من "بني أسد" يقال له "الطماح"، فهمّ بقتله، وأرسل إليه في أثره بحلة مسمومة مع رجل، أدخله الحمام وكساه إياها بعد خروجه، فلما لبسها تنفط بدينه2. وزعم "الجاحظ" أنه "راسل بنت قيصر وأراد أن يختدعها عن نفسها، وبلغ ذلك قيصر وأراد أن يقتله، فتذمم من ذلك، وأمر بقميص فغمس في السم، وقال لامرئ القيس: البس هذا القميص فإني أحببت أن أوثرك به على نفسي لحسنه وبهائه فعمل السم في جسمه وكثرت فيه القروح فمات منها، فسمي ذا القروح. وقد كان قيل لقيصر قبل ذلك إنه هجاه، فعندها يقول:
ظلمت له نفسي بأن جئت راغبا ... إليه وقد سيرت فيه القوافيا
فإن أك مظلوما فقدما ظلمته ... وبالصاع يجزى مثل ما قد جزانيا3
قال علماء الشعر: كان "امرؤ القيس" ممن يتعهر في شعره4، وقد سبق الشعراء إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ. وله تشبيهات مستجادة، وإجادة في صفة الفرس، وفي الوصف5. "واجتمع عند "عبد الملك" أشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرئ القيس:
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة".
2 نزهة الجليس "2/ 152".
3 المحاسن والأضداد "143".
4 الشعر والشعراء "1/ 53"، "الثقافة".
5 الشعر والشعراء "1/ 54"، "الثقافة".(18/89)
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل1
وقال "أبو عبيدة معمر بن المثنى": "من فضله، أنه أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا -رغبة عن المنسبة- فتبعوا أثره، وهو أول من شبّه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء الطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف"2.
وقال أبو عبيدة: هو أول من قيد الأوابد، يعني في قوله في وصف الفرس "قيد الأوابد" فتبعه الناس على ذلك.
وقال غيره: هو أول من شبه الثغر في لونه بشوك السيال فقال:
منابته مثل السدوس ولونه ... كشوك السيال وهو عذب يفيص
فاتبعه الناس. وأول من قال: "فعادى عداء" فاتبعه الناس. وأول من شبه الحمار "بمقلاء الوليد" وهو عود القُلة و "بكرّ الأندري"، والكر: الحبل. وشبه الطلل "بوحي الزبور في العسيب". والفرس بتيس الحلب3.
وأورد له علماء الشعر أشياء ذكروا أنه انفرد بها ولم يتمكن أحد من مجاراته بها4، وعابوا عليه أشياء، دافع عنها بعض العلماء، وردوا العائبين عليها. ومما عابوه عليه تصريحه بالزنا والدبيب إلى حرم النساء، وفجوره بالمتزوجات، والشعراء تتوقى ذلك في الشعر وإن فعلته5. وقد فضله "لبيد بن ربيعة" على جميع الشعراء، إذ قال: "أشعر الناس ذو القروح، يعني امرأ القيس".
وقد ذكر علماء الشعر أبيات شعر لامرئ القيس، قالوا إن غيره من الشعراء أخذوها أخذا، مع تغير بسيط وأدخلوها في شعرهم، أو أخذوا أكثر ألفاظها أو معانيها فأضافوا إلى شعرهم. ومن ذلك قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 56"، "الثقافة"، ديوانه "13".
2 الشعر والشعراء "1/ 68"، "الثقافة".
3 الشعر والشعراء "1/ 72 وما بعدها"، "الثقافة".
4 الشعر والشعراء "1/ 73 وما بعدها"، "الثقافة".
5 الشعر والشعراء "1/ 50"، "الثقافة".(18/90)
أخذه طرفة فقال:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ومثل قول امرئ القيس:
فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا ... على ظهر محبوك السراة محنّب
أخذه زهير، فقال:
فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله
إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها "ابن قتيبة" وغيره في مؤلفاتهم عن الشعر والشعراء1. إن صحت دلت على أن الشعراء الجاهليين كانوا يحفظون شعر من تقدم عليهم، وشعر المعاصرين لهم، وأنهم كانوا يتتبعونه ويستقصونه ليحفظوه، ولم يبالوا بعد ذلك إذا أخذوا شيئا من شعر غيرهم. وهذا يدل أيضا على أن الشعر الجاهلي كان محفوظا في الصدور، يحفظه الشعراء وغيرهم من عشاق الشعر، إلى أن جاء الإسلام فدون بالقراطيس.
يقول علماء الشعر لم يتقدم امرؤ القيس الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، أو لأنه كان أول من ابتدأ بالشعر ووضع جادته ومهد سبيله ووضحه لمن جاء بعده من الشعراء، لكنه سبق إلى أشياء طريفة فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها، لأنه كان أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه2. وقد ثمن "الباقلاني" شعره بقوله: "وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ولا ترتاب في براعته ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها من ذكر الديار والوقوف عليها إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه والتشبيه الذي أحدثه والتميح الذي يوجد في شعره والتصرف
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 69 وما بعدها"، "الثقافة".
2 الشعر والشعراء "1/ 69 وما بعدها".(18/91)
الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه من صناعة وطبع وسلاسة وعلو ومتانة ورقة وأسباب تحمد وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء يوازنون بشعره فلانا وفلانا" ثم هو يؤاخذ الشاعر على عيوب ذكر أنها عوار في معلقته1.
ووضع أهل الأخبار "امرأ القيس" في رأس زمرة عشاق العرب والزناة. وذكروا له عشقه لـ "فاطمة بنت العُبيد بن ثعلبة" العذرية، وعشقه لـ "أم الحارث" الكلبية، وعشقه لـ "عنيزة"، وهي صاحبة يوم "دارة جلجل"2، ورووا له قصة طريفة حدثت له مع صاحبة يوم "دارة جلجل"، تبين كيف مكر بابنة عمه "عنيزة"، فأجبرها على أن تتجرد من لباسها، لينظر إليها وهي تخرج من الغدير مقبلة ومدبرة، حتى يمتع نظره برؤية جسدها العاري، ثم كيف نحر ناقته، وشوى لحمها، وأخذ يطعم به البنات، وكيف توسل إلى ابنة عمه "عنيزة" لتحمله على غارب بعيرها بعد أن ذبح ناقته وشوى لحمها ليتخذ ذلك حجة له في مشاركة "عنيزة" بعيرها. ثم تروي القصة، كيف أنه صار يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، ثم تنتهي القصة بذكر الشعر الذي قاله في هذه المناسبة. حيث يقول:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل
يظل العذاري يرتمين بلحمها ... وشحم كهدّاب الدمقس المفتل
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخي زمامه ... ولا تبعدينا من جناك المعلل3
وراوي هذه القصة هو "محمد بن سلام"، سمعها كما يقول من "أبي شفقل" راوية "الفرزدق" الشاعر الشهير، وقد ذكر هذا الراوي أنه لم ير رجلا كان أروى لأحاديث امرئ القيس وأشعاره من الفرزدق، وذلك لأن "امرأ القيس"
__________
1 إعجاز القرآن "74 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 64".
3 الشعر والشعراء "1/ 64"، الثقافة.(18/92)
كان قد أقام في "بني دارم" رهط الفرزدق حينا، حين رأى من أبيه جفوة، فمن ثم أخذ "الفرزدق" علمه بأخبار "امرئ القيس" وأحاديثه وأشعاره1.
ويكثر "امرؤ القيس" من ذكر أسماء المواضع التي نزل بها، وقد أفادنا بذلك في معرفة تلك المواضع. وفي جملة ما ذكره موضع "الخص"، وقد اشتهر بالخمر. وهو قرية من أسفل الفرات:
كأن التجار أصعدوا بسبيئة ... من الخص حتى أنزلوها على يسر2
وقوله:
لمن الديار عرفتها بسحام ... فعمايتين فهضب ذي أقدام
فصفا الأطيط فصاحتين فعاسم ... تمشي النعاج بها مع الآرام3
وقد ذكر عشرة مواضع من أرض البحرين بقوله:
غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات
فغول فحليت فنفي فمنعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات4
وله أشعار أخرى كثر فيها ورود أسماء المواضع5.
ويذكر أن قوما من أهل اليمن أقبلوا يريدون النبي، فضلوا، ووقعوا على غير ماء، فمكثوا ثلاثا لا يقدرون على الماء، وأوشكوا على الهلاك، فأنشد أحدهم بيتين من شعر امرئ القيس، هما:
لما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
فقال أحدهم: ضارج عندكم، وأشار إليه فمشوا على الركب، فإذا ماء غدق،
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 64"، "الثقافة".
2 الصفة "129".
3 الصفة "151، 226".
4 الصفة "225".
5 الصفة "229 وما بعدها".(18/93)
وإذا عليه العرمض، والظل يفيء عليه، فشربوا وحملوا ولولا ذلك لهلكوا1.
ولما بلغوا النبي، أخبروه خبرهم، فقال: "ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار"2.
وروي عن "عمر" قوله في "امرئ القيس": "سابق الشعراء، خسف لهم عين الشعر"3. ونجد لهذا الشاعر ذكرا في كتب الحديث4.
وذكر أن "امرأ القيس" أشار إلى "ابن مندلة" "ملك العرب" بقوله:
فأقسمت لا أعطي مليكا ظلامة ... ولا سوقة حتى يئوب ابن مندلة
وروي أن هذا البيت، هو لعمرو بن جوين5.
وتذكر قصة رواها "أبو الحسين" النسابة، أن "حجرا" والد امرئ القيس نهى ابنه عن قول الشعر، فلما لم ينته عنه، أمر أحد غلمانه أن يقتله ويأتيه بعينيه، فانطلق به الغلام، فاستودعه جبلا منيفا، وعلم أن أباه سيندم على قتله. وعمد الغلام إلى جؤذر كان عنده فنحره وامتلخ عينيه، فأتي بهما حجرا، فانفجر حجر من الغضب والندم، حتى هم بقتل الغلام، فأخبره الغلام، أنه لم يقتله، وأنه لا زال حيا، وأنه كان يعلم أن والده سيندم على قتله. فأمره عندئذ بالذهاب إليه، والعودة به إلى بيته، فأتاه به. وكف امرؤ القيس عن قول الشعر حتى قتل أبوه6. وهي قصة نجد أمثالها في أساطير الأمم الأخرى. وإلى هذه القصة أشار "امرؤ القيس" بقوله:
فلا تتركني يا ربيع لهذه ... وكنت أراني قبلها بك واثقا
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 55"، "الثقافة".
2 الشعر والشعراء "1/ 67 وما بعدها"، "الثقافة".
3 الشعر والشعراء "168"، "الثقافة".
4 أحمد بن حنبل، مسند "2/ 228"، طبقات الشافعية، للسبكي "1/ 256"، "1964م".
5 تاج العروس "8/ 132"، "ندل".
6 شرح شواهد المغني، للسيوطي "21"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 98"، "دعا مولى له يقال له ربيعة"، الشعر والشعراء، "1/ 51"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 160 وما بعدها".(18/94)
وتذكر رواية أخرى أن أباه نهاه بعد عودته إليه من قول الشعر، ثم إنه قال:
ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي
فبلغ ذلك أباه فطرده1.
والمشهور بين علماء الشعر، أن امرأ القيس إنما طرد، لأنه كان يقول الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فزجره أبوه ومنعه عن قوله، فلما لم ينته طرده. فكان يسير في أحياء العرب ومع أخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام، فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فيصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمّون من أرض اليمن، فقال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر! ثم شرب سبعا، فلما صحا آلى أن لا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه حتى يدرك ثأره. وهكذا صيروا "امرأ القيس" من الصعاليك، وجعلوه في عدادهم، فاتكا كثير الغزل والولوع بالنساء، يتنقل في أحياء العرب ويغير بهم، فيصف الأوثان، ويبكي على الدمن، ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك2.
ويرجع سند أكثر الروايات المتقدمة والتي بعدها إلى "ابن الكلبي"، ولابن الكلبي كتاب يتصل بامرئ القيس اسمه: "كتاب تسمية ما في شعر امرئ القيس من أسماء الرجال والنساء"3، وله روايات مدونة في الأغاني وفي كتب أدب أخرى عن هذا الشاعر وعن ملوك كندة، ويظهر أنه قد اصطنع قصص امرئ القيس، وأضاف على القصص شعرا، ليكون له سندا وتفسيرا، وقد يكون أخذ القصص من أفواه الأعراب والرواة الذين حرفوا تأريخ امرئ القيس ووالده وحوروه وحولوه على طريقتهم المألوفة إلى قصص وأساطير، تميل نفوسهم إلى الاستماع إليها، فنقلها عنهم كما سمعها. غير أن "ابن الكلبي"، كان كما
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 52"، "الثقافة".
2 نزهة الجليس "2/ 147 وما بعدها".
3 الفهرست "148".(18/95)
نعلم من الوضاعين، وكان من العارفين بدروب الشعر، وكان أيضا مثل والده ممن يضع الشعر على ألسنة الناس.
وتذكر قصة "امرئ القيس" أنه انتقم من "بني أسد" قتلة والده، فقرت عيناه بأخذه الثأر منهم. وقد نظم ذلك في شعره1. وتذكر أنه خرج إليهم أول ما خرج مع بكر وتغلب، وهم الذين كانوامعه، فأدرك بين أسد ظهرا، فكثرت الجرحى والقتلى، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد، فلما أصبحت بكر وتغلب، أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدا؛ قالوا: بلى، ولكنك رجل مشئوم، وانصرفوا عنه، فمشى هاربا لوجهه، حتى أمده "مرثد الخير بن ذي جدن" الحميري، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر رجالا من القبائل، ثم خرج فظفر ببني أسد، وألح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه إليه الجيوش، فتفرق من كان معه ونجا في عصبته، فكان ينزل على بعض العرب ويرحل حتى قدم على السموأل، ثم على قيصر، على نحو ما ذكرت.
وتذكر رواية أن "امرأ القيس" لما مر ببكر بن وائل طالبا منهم النصرة، سألهم عن شاعر محسن فيهم، فأتوه بعمرو بن قميئة الضبعي، وقد أسن، فأعجب به "امرؤ القيس" فأخذه معه، حتى ذهب إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، طالبا منه النجدة، فقال له: إني لست أقدر على المسير إلى العراق في هذا الوقت، ولكني أسير معك إلى الملك قيصر، فهو أقوى مني على ما سألت، وكانت للحارث وفادة على الملك، فأوفده معه3. فالذي أخذ "امرأ القيس" إلى الروم هو "الحارث"، على هذه الرواية. والمعروف من الروايات الأخرى أن هذا الملك طالب "السموأل" بأسلحة "امرئ القيس" التي أودعها عنده، فلما أبى السموأل إلا إعطاءها إلى "آل امرئ القيس" الشرعيين وورثته، حاصره، وقتل ابنه، فضرب العرب بالسموأل المثل في الوفاء.
__________
1 تأريخ ملوك العرب الأولية "ص126 وما بعدها".
2 الرافعي "3/ 195 وما بعدها".
3 الخزانة "3/ 613 وما بعدها"، "بولاق".
4 نزهة الجليس "2/ 151".(18/96)
وكنية امرئ القيس "أبو يزيد"، ويقال: "أبو وهب"، ويقال: "أبو الحارث"، ويقال "أبو كبشة". وأما اسمه، فاختلف فيه، فقيل: "عدي"، وقيل "مليكة"، وقيل" حندج". وكان يقال له: "الملك الضلِّيل"، و"الضليل"، و "ذو القروح"1.
ويذكر أهل الأخبار أن "امرأ القيس" كان معناعريضا ينازع كل من قال إنه شاعر، فنازع "التوءم اليشكري"، "الحارث بن التوءم"2 فقال له: "إن كنت شاعرا فملط أنصاف ما أقول وأجزها". ونازع "عبيد بن الأبرص"3.
وإذا ما أخذنا بآراء بعض المستشرقين في سنة وفاة الشاعر "امرئ القيس" من أنها كانت بين السنة "530" والسنة "540" بعد الميلاد4، فيكون عصر أقدم شعر جاهلي وصل إلينا لا يزيد عمره على القرن السادس للميلاد، وأواخر القرن الخامس للميلاد. وهذا التقدير معقول يتناسب مع الأخبار المروية عن هذا الشاعر. روي أن رؤبة بن العجاج قال: حدثني أبي عن أبيه قال: حدثتني عمتي. قالت: سألت امرأ القيس، ما معنى قولك: كرك لأمين على نابل؟ فقال: مررت بنابل وصاحبه يناوله الريش لؤاما وظُهارا، فما رأيت أسرع منه ولا أحسن، فشبهت به5. ولو أخذنا بهذه الرواية وصدقناها، فلن نتمكن من الارتفاع بها من حيث الزمن إلى أكثر من هذا التقدير.
وذكر أن "امرأ القيس" لما هرب من "المنذر بن ماء السماء" صار إلى جبلي طيء: أجأ وسلمى، فتزوج أم جندب. وصادف أن جاءه "علقمة بن عبدة التميمي"، فتذاكرا الشعر، فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك، وقال علقمة: بل أنا أشعر منك! فتحاكما إلى أم جندب، فأخذ كل واحد منهما يقول شعرا وهي تسمع، وتعلق عليه، ففضلت أم جندب "علقمة" عليه، فغضب امرؤ القيس وطلقها، فخلف عليها علقمة، فسمي علقمة الفحل1.
__________
1 السيوطي، شرح "21 وما بعدها".
2 "قتادة بن التوءم اليشكري، اللسان "6/ 213"، "مجس"، "لقي التوءم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة"، العمدة "1/ 202".
3 اللسان "6/ 214"، "مجس"، السيوطي، شرح "25"، العمدة "1/ 176"، "2/ 87".
4 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 265".
5 التنبيهات على أغلاط الرواة "4".
6 السيوطي، شرح شواهد "92 وما بعدها".(18/97)
وجاء في كتاب "الشعر والشعراء": "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني. وهو الحارث الأكبر. والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أربعين سنة، كأنه ولد لثلاث سنين خلت من ولاية هرمز بن كسرى، ومما يشهد لهذا، أن "عمرو بن المسبح" الطائي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة في وفود العرب وهو ابن مائة وخمسين سنة وأسلم، وعمرو يومئد أرمى العرب. وهذا الذي ذكره امرؤ القيس"1.
و"عمرو بن المسبح" "المسيح؟ " الطائي، هو الذي عناه "امرؤ القيس" بقوله:
رب رام من بني ثعلب ... مخرج كفيه من ستره
وكان كما يزعم أهل الأخبار أرمى العرب يومئذ ومن فرسانهم المعروفين. ومن المعمرين. عمر على ما يقولون مائة وخمسين سنة، وجعلوه ممن أدرك أيام الرسول، بل زعموا أنه وفد عليه فأسلم. وجعل بعض أهل الأخبار وفاته في خلافة "عثمان". وتوقف "ابن قتيبة" في "المعارف"، فقال:"لا يدرى أقبض قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعده"2، "ولست أدري أقبض قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أم بعده"3.
وذكروا أنه هو القائل:
لقد عمرت حتى شف عمري ... على عمرو بن علة وابن وهب4
ولا يعقل خبر بقاء "عمر بن المسبح" الطائي إلى أيام النبي، ولا سيما خبر
__________
1 الشعر والشعراء "50 وما بعدها"، "1/ 66"، "الثقافة".
2 الإصابة "3/ 17"، "رقم 5964"، ابن دريد، الاشتقاق "232"، المعمرون "86"، الشعر والشعراء "1/ 67"، "الثقافة"، الاستيعاب "2/ 513"، "حاشية على الإصابة".
3 المعارف "314".
4 الإصابة "3/ 17"، "رقم 5964".(18/98)
من جعل موته في خلافة عثمان ولعل شخصا كان اسمه مثل هذا الإسم، فاشتبه أمره على الرواة، فظنوه صاحب امرئ القيس. ولو كان هو صاحبه لما سكت عشاق الشعر والباحثون عن شعر صاحبه عنه، ولوجدنا له خبرا مع الرسول أو عمر عن حياة امرئ القيس.
وقد أشير إلى "البريد" في شعر "امرئ القيس"، إذ ذكر أنه نادم "قيصر" وأركبه البريد:
ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكة ... سبقت الفرانق سبقا بعيدا1
وكانت البرد منظومة إلى كسرى، من أقصى بلاد اليمن إلى بابه، أيام وهرز، وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة، وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان وآبائه، وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى مشكاب، وإلى المنذر بن ساوى، وكذلك كانت برده إلى عمان، إلى الجلندى بن المستكبر، فكانت بادية العرب وحاضرتها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام، فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان إلى الروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم2.
ويرجع الفضل في تخليد شعر "امرئ القيس" إلى "حماد" الراوية، وإلى "أبي عمرو بن العلاء"3. وكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول: "فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة"4. وإلى "الفرزدق" الذي كان من أروى الناس لأحاديثه وأشعاره5، وإلى "ابن الكلبي" الذي نجد عنه نقولا في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، تخص "امرأ القيس"6، وفي كتاب الأغاني، وهو من أهم الأخباريين الراوين لأخبار كندة.
__________
1 ديوان "262"، رسائل الجاحظ "1/ 275، 290 وما بعدها"، "كتاب البغال".
2 رسائل الجاحظ "1/ 291 وما بعدها"، "كتاب البغال".
3 المزهر "2/ 253"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 99".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 142".
5 الشعر والشعراء "1/ 64"، "الثقافة".
6 الشعر والشعراء "1/ 53، 59، 67، 68".(18/99)
وذكر "الرياشي" أن كثيرا من الشعر الوارد في ديوان امرئ القيس، هو منحول عليه، وهو لجماعة من أصحابه، مثل عمرو بن قميئة1. وقد نص بعضهم على أنه لم يصح له إلا نيف وعشرون شعرا بين طويل وقطعة2. وقد عني علماء الشعر والأخبار بجمع أشعاره في ديوان، فجمعه غير واحد منهم، وشرحه كثيرون، وطبع جملة طبعات، وترجم إلى مختلف اللغات3.
وقد اختلف رواة الشعر في ضبط عدد أبيات معلقة امرئ القيس كما اختلفوا في تقديم وتأخير الأبيات، "وفي رواية بعض الألفاظ، بحيث لا تجتمع اثنتان منها على صورة واحدة"4. وذكر "البغدادي": أن قصيدة امرئ القيس التي مطلعها:
ألاعم صباحا أيها الطلل البالي
هي من عيون شعره، وعدتها ستة وخمسون بيتا، وأكثرها وقعت شواهد في كتب المؤلفين، وفي كتب النحو والمعاني5.
"وكان امرؤ القيس يروي شعر أبي دؤاد الإيادي ويتوكأ عليه. وهو فحل قديم كان أحد نعّات الخيل المجيدين". "ثم هو كان يعرف أن امرأ القيس بن حذام يبكي في شعره الطلول، فأخذ ذلك عنه كما أخذ صفة الخيل عن أبي دؤاد، وتراه يحاول أن يلحقه في إجادة نعتها والشهرة بذلك، حتى لا يخلو أكثر شعره من هذاالوصف"6.
وقد كان يعاصره من الشعراء المعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، والشنفرى، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرًّا، والتوءم اليشكري.
__________
1 الموشح للمرزباني "34"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 99".
2 العمدة "1/ 67"، الرافعي "3/ 203".
3 راجع التفاصيل في بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 100 وما بعدها"، ودائرة المعارف الإسلامية.
4 الرافعي "3/ 199".
5 الخزانة "1/ 28"، "بولاق".
6 الرافعي "3/ 204".(18/100)
وزعم أن "التوءم" اليشكري لقي "امرأ القيس" يوما فقال له: إن كنت شاعرا كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها: قال: نعم: فقال امرؤ القيس:
أحار ترى بريقا هب وهنا
فقال التوءم:
كنار مجوس تستعر استعارا
واستمرا على ذلك. ولما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في أيامه من يطاوله، آلى أن لا ينازع الشعر أحدا أبدا1.
ونجد للباقلاني صاحب كتاب "إعجاز القرآن" آراء في بعض أشعار "امرئ القيس"، حيث ينتقد بعض الأبيات ويبين ما فيها من عيوب2. وكما نجد في كتب "النقد" آراء في شعره، وهي بين مستحسن ومستهجن لبعض الأبيات أو القصائد. "ومن الخصائص العروضية في شعره كثرة استعمال الضرب المقبوض في الطويل، وكثرة الإقواء في القافية، وكثرة التصريع في غير أول القصيدة"3.
وللقدماء ملاحظات عن شعر "امرئ القيس"، وقد شك بعض منهم في كثير من شعره وذهبوا إلى أنه من الموضوعات، وقد أشاروا إليه، ثم جاء المستشرقون، فركنوا إلى ما قاله القدماء عنه، وأبدوا رأيهم فيه. وتحدث المحدثون من العرب عنه، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين، حيث أنكر شعره لحجج أوردها في كتابه في الأدب الجاهلي4.
وعاش في أيام "امرئ القيس" شاعر آخر عرف أيضا بامرئ القيس، هو "امرؤ القيس بن حمام بن عبيدة بن هبل بن أبي زهير بن جناب بن هبل"5.
و"طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك"، من قيس بن ثعلبة. وهو ابن أخي "المرقش الصغير"، وكان من المقربين إلى "عمرو بن هند" ملك
__________
1 الرافعي "3/ 288".
2 الباقلاني، إعجاز القرآن.
3 بروكلمان "1/ 99".
4 راجع أيضا شوقي ضيف: العصر الجاهلي "ص248 وما بعدها".
5 السيوطي، شرح شواهد "1/ 26".(18/101)
الحيرة، ومن المنادمين لأخيه "أبو قابوس". وهو ابن أخت "جرير بن عبد المسيح" المعروف بـ "المتلمس". وقد قال الشعر وهو صغير السن، ومات أبوه وهو وصغير، وأكل أعمامه ماله، وأبوا تقسيمه، فهجاهم، واشتهر بمعلقته التي عاتب فيها ابن عمه "مالكا" لأنه لم يعن أخاه "معبدا" في جمع شتات إبله. وقد قتل بالبحرين على ما يذكره أهل الأخبار في قصص متضارب، اختلف في سبكة الرواة1.
واسم "طرفة" عمرو، وإنما سمي طرفة لقوله:
لا تعجلا بالبكاء اليوم مطرفا ... ولا أميريكما بالدار إذ وقفا
وقيل إن كنيته "أبو عمرو"2. وقد فضل بعض علماء الشعر شعره على شعر سائر الشعراء الجاهليين3.
وكان "طرفة" أحدث الشعراء سنا وأقلهم عمرا، قتل وهو ابن عشرين سنة. فيقال له "ابن العشرين". وقيل بضع وعشرين سنة. وأمه"وردة" من رهط أبيه، وفيها يقول لأخواله وقد ظلموها حقها، بأن يعطوها حقها:
ما تنظرون بمال وردة فيكم ... صغر البنون ورهط وردة غيب4
ويقال إن أول شعر قاله "طرفة" أنه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخا، فلما أراد الرحيل قال:
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ماشئت أن تنقري ... قد رفع الفخ فماذا تحذري
لا بد يوما أن تصادي فاصبري5
__________
1 الخزانة "1/ 413" "بولاق"، الأغاني "21/ 185"، الموشح "57"، المرزباني، معجم "201"، طبقات ابن سلام "115"، الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها"، الخزانة "2/ 805"، المزهر "2/ 441".
3 المصدر نفسه.
4 الأبيات في ديوانه "11"، الشعر والشعراء "1/ 119"، "الثقافة".
5 الشعر والشعراء "1/ 120"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 417".(18/102)
وروي أن أخته رثته بقولها:
عددنا له ستًّا وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيدا ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال لا وليدا ولا قحما1
ورغم قلة ما نسب إلى "طرفة" من الشعر، فقد قدمه علماء الشعر على غيره من الشعراء بأن جعلوا ترتيبه بعد امرئ القيس، ولهذا ثنوا بمعلقته. ذكر "ابن قتيبة" أنه أجود الشعراء قصيدة2. وقد ذكر "ابن سلام" أن معظم شعر "طرفة" قد ضاع حتى لم يبق منه بأيدي المصححين لشعره إلا بقدر عشر قصائد، مع أنه كان من أقدم الفحول، وقد حمل عليه كثير من الشعر3.
وكان في حسب من قومه، جريئا على هجائهم وهجاء غيرهم. وكانت أخته عند "عبد عمرو بن بشر بن مرثد"، كان "عبد عمرو" سيد أهل زمانه، فشكت أخت طرفة شيئا من أمر زوجها إليه، فقال:
ولا عيب فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحا إذا قام أهضما
وأن نساء الحي يعكفن حوله ... يقلن عسيب من سرارة ملهما
فبلغ عمرو بن هند الشعر، فأبلغه إلى "عبد عمرو" وهو معه في صيد، فقال "عبد عمرو":أبيت اللعن، الذي قال فيك أشد مما قال في، قال: وقد بلغ من أمره هذا؟ قال نعم. فأرسل إليه، وكتب له إلى عامله بالبحرين فقتله. في قصة منمقة مدونة في أكثر كتب الأدب والأخبار. وقد تعرضت لها في مكان آخر من هذاالكتاب. ويقال إن الذي قتله "المعلى بن حنش العبدي"، والذي تولى قتله بيده "معاوية بن مرة الأيفلي"، حي من طسم وجديس4. وقيل "الربيع بن حوثرة" عامله على البحرين5. وقيل إن قاتله: "عبد هند
__________
1 الخزانة "1/ 416".
2 الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها"، الخزانة "2/ 419"، "هارون".
3 طبقات "23".
4 الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها".
5 الشعر والشعراء "1/ 121"، الخزانة "2/ 421 وما بعدها"، "هارون"، الأغاني "21/ 125"، نوادر المخطوطات "المجموعة السادسة" "ص212 وما بعدها".(18/103)
ابن جرد بن جري بن جروة بن عمير" التغلبي، عامل "عمرو بن هند" على البحرين. وأن "عمرو بن هند"، كان قد جعل "طرفة" و"المتلمس" في صحابة "قابوس" أخيه، فكان "قابوس" يتصيد يوما، ويشرب يوما، فكان إذا خرج إلى الصيد خرجا معه، فنصبا وركضا يومهما، فإذا كان يوم لهوه وقفا على بابه يومهما كله، فلما طال ذلك عليهما، هجا طرفة "عمرو بن هند" وأخاه، فبلغ الهجاء الملك، فقرر قتلهما1. وورد أن "عمرو بن هند"، كان قد رشح أخاه "قابوس بن المنذر" ليملك بعده، وأنه جعل "طرفة" و "الملتمس" في صحابة "قابوس" وأمرهما بلزومه، فكان قابوس شابا يعجبه اللهو، وكان يركب للصيد، فيركض يتصيد، وهما معه يركضان حتى يرجعا عشية وقد تعبا، فيكون قابوس من الغداة في الشراب فيقفان بباب سرادقه إلى العشي، فضجرا منه فهجواه وهجوا عمرا معه، فبلغ ذلك الهجاء "عمرا" ففعل بهما ما فعل2.
ويقال إن "طرفة" كان ينادم يوما "عمرو بن هند"، فأشرفت ذات يوم أخته، فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده، فقال:
ألا يا بأبي الظبي ... الذي يبرق شنفاه
ولولا الملك القاعد ... قد ألثمني فاه
فحقد ذلك عليه، وكان قال أيضا:
وليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تدور
لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
وقابوس هو أخو "عمرو بن هند". وكان فيه لين. ويسمى قينة العرس. فحقد "عمرو بن هند" عليه واستدعاه، وكتب له كتابا، وكتب بمثل ذلك "للملتمس"، وشكَّ المتلمس في أمر الصحيفة، ومزقها، ومضى "طرفة" إلى البحرين، فأخذه "الربيع بن حوثرة" فسقاه الخمر حتى أثمله، ثم فصد أكحله، فقبره بالبحرين. وكان لطرفة أخ يقال له "معبد بن العبد"، فطلب
__________
1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة"، "ص112 وما بعدها".
2 الخزانة "1/ 412 وما بعدها".(18/104)
بديته، فأخذها من الحواثر1.
ويرى "بروكلمان" أن "طرفة" لم ينادم أبا قابوس، وإنما نادم "عمرو بن مامة" أخا الملك من أبيه، باليمامة. وكان قد التجأ إلى "مراد" من عداوة أخيه. فعاقب الملك "طرفة" بأخذ إبله التي تركها في "تبالة" من ديار "لخم"، فهجاه طرفة2. وقد ذكر "المرتضى" رواية تذكر أن صاحب المتلمس وطرفة هو "النعمان بن المنذر"، وذلك أشبه بقول طرفة:
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأبو منذر، هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان3.
وذكر أن عائشة سئلت: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: لا، إلا لبيت طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. فقال أبو بكر: ليس هكذا. فقال: إني لست بشاعر، ولاينبغي لي"4.
وينسب إلى طرفة قوله:
عفا من آل ليلي السهـ ... ـب فالأملاح فالغمر
فعرق فالرماح فالـ ... ـلوىمن أهله قفر
وأبلي إلى الغرا ... ء فالماوان فالحجر
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 121" "الثقافة"، "فليت"، الخزانة "1/ 412 وما بعدها".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 92".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 804 وما بعدها".(18/105)
فأمواه الدنافالنجـ ... ـد فالصحراء فالنسر
فلاة ترتعيهاالعيـ ... ـن فالظلمان فالعفر
وينسب للخرنق أيضا1.
ويقدم علماء الشعر "طرفة" على غيره من الشعراء، بإجادته وصف الناقة في معلقته على نحو لم يسبق إليه2. وقد جعله "لبيد" بعد "امرئ القيس" في الشعر، وقال عنه "أبو عبيدة": "طرفة أجودهم واحدة، ولا يلحق بالبحور، يعني امرأ القيس وزهيرا والنابغة، ولكنه يوضع مع أصحابه: الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وسويد بن أبي كاهل".
وقد ذكر علماء الشعر أبياتا جيدة لطرفة سبق بها غيره من الشعراء، فأخذهاعنه الشعراء وضمنوها أو ضمنوا معناها شعرهم. وممن اقتبس منه: "لبيد" و "الطرماح" و "عدي بن زيد" العبادي، وعبد الله بن نهيك بن إساف الأنصاري وغيرهم3.
وتعد "معلقة" "طرفة" أطول المعلقات أبياتا، فهي تتألف من "105" أبيات في شرح القصائد العشر للزوزني4، وقد يزيد عليها بيت أو أكثر في بعض الروايات5. وتنتهي المعلقة بذكر الموت، وبالنصح، وبأن الأيام معارة فما استطعت من معروفها فتزود به، ثم ختمها بقوله:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وهي حكم، لا تصدر في العادة إلا من شيخ شارف على الموت ومن حكيم عرك الأيام، ومن رجل خبير مجرب. والقصيدة نفسها من نفس رجل، يجب أن يكون قد خبر الحياة، ومارس الشعر زمنا، فهل تكون من نظم شاب هو ابن عشرين سنة، أو بضع وعشرين؟
__________
1 الصفة "225".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 92".
3 الشعر والشعراء "1/ 121"، "الثقافة".
4 "ص133 وما بعدها".
5 نزهة الجليس "2/ 158 وما بعدها".(18/106)
وفي معلقة "طرفة" أبيات تشير إلى وقوفه على سفن الفرات ودجلة والبحر، إذ يقول فيها1:
كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد
عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طورا ويهتدي
يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفائل باليد
ويقول فيها أيضا2:
وأتلع نهاض إذا صعدت به ... كسكان بوصي بدجلة مصعد
وزهير بن أبي سلمى، من هذا الرعيل الذي عدت إحدى قصائده من المعلقات. وكان على ما يقال راوية لأوس بن حجر زوج أمه، وكان أوس راوية للطفيل الغنوي، وهو والد "كعب بن زهير" الشاعر الشهير الذي كساه الرسول بردة له، بعد أن كان قد أمر بقتله لما بلغه من هجائه له. فلما سمع "كعب" بذلك جاء إلى المدينة فأسلم، وطلب العفو، وقال قصيدته الشهيرة بحضرة الرسول فعفى عنه وأعطاه البردة. أما والده "زهير"، فقد توفي قبل المبعث، ولا صحة لما ذكره البعض من أنه لقي الرسول3. وقد كان يكنى بـ "أبي بجير"4. وأتى "بجير" النبي وأسلم. وقد زعم أنه رأي رؤيا في منامه، أن سببا تدلى من السماء إلى الأرض وكان الناس يمسكونه، فأوله بنبي أخر الزمان، وأن مدته لا تصل إلى زمن بعثه، وأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره. ثم توفي قبل المبعث بسنة5.
وهو "زهير بن أبي سلمى"، واسم "أبي سُلمى" ربيعة بن رياح المزني، من مزينة بن أد بن طابخة، وكانت محلتهم في بلاد "غطفان"، فظن الناس أنه من غطفان. وقد ذهب "ابن قتيبة" إلى أنه من "غطفان" ورد على
__________
1 المعلقة، البيت "3، 5".
2 المعلقة، البيت "28".
3 الأغاني "9/ 150"، الإصابة "3/ 279"، "رقم 7413"، الخزانة "1/ 436 وما بعدها".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 131".
5 الخزانة "2/ 325 وما بعدها".(18/107)
من زعم أنه من مزينة1. وهو أحد الشعراء الثلاثة الفحول، المتقدمين على سائر الشعراء بالاتفاق، وإنما اختلف في تقديم أحدهم على الآخر، وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني2. ويقال إنه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير3. وكان والد "زهير "شاعرا، وأخته "سلمى" شاعرة، وأخته "الخنساء" شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين وابن ابنه "المضرب بن كعب" شاعرا4، وقد عرف بأمه، وكان أخوه: "بشامة بن الغدير" شاعرا، كثير الشعر5.
ويظهر من شعر ينسب إليه أنه عاش أكثر من مائة سنة، إذ نراه يتأفف من هذه الحياة، ومن مشقاتها، حتى سئم منها، إذ يقول:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
ويقول:
بدا لي أن الله حق فزادني ... إلى الحق تقوى الله ما كان باديا
بدا لي أني عشت تسعين حجة ... تباعا وعشرا عشتها وثمانيا
أو:
ألم ترني عمرت تسعين حجة ... وعشرا تباعا عشتها وثمانيا6
ويظهر أن بيت بدا لي أن الله حق فزادني، وما بعده من الشعر المنحول عليه، ولم يرد في رواية أبي العلاء، والأصمعي، والمفضل الضبي، والسكري7.
__________
1 الخزانة "2/ 332"، "هارون"، "والناس ينسبونه إلى مزينة، وإنما نسبه في غطفان"، الشعر والشعراء "1/ 76"، الأغاني "9/ 146".
2 الخزانة "2/ 332 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "1/ 76".
4 الخزانة "2/ 333".
5 من نسب إلى أمه من الشعراء، نوادر المخطوطات، "المجموعة الأولى"، "ص91".
6 رسالة الغفران "182 وما بعدها".
7 رسالة الغفران "182 رقم 1".(18/108)
وفي شعر زهير، زهد ووعظ وتهذيب، حمل بعض الباحثين على اعتباره نصرانيا، ويشك "بروكلمان" في ذلك، إذ يرى أن أثر النصرانية وإن كان واسع الانتشار في جزيرة العرب في ذلك الوقت، بيد أنه لا توجد لدينا أدلة تحملنا على جعله نصرانيا1. وقد ذكر علماء الشعر أن "زهيرا" كان يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث وذلك قوله:
يؤخر فيودع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم2
ومن جيد شعره في تحديد اليمين قوله:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء3
وقد ثمن شعره وقدره العلماء. قال "الثعالبي" فيه: "إنه أجمع الشعراء للكثير من المعاني في القليل من الألفاظ"4. وفي معلقته أبيات في نهاية الحسن والجودة، وقد جرت مجرى الأمثال الرائعة5.
وورد أن "عمر بن الخطاب" كان لا يُقدّم عليه أحدا. وذكر أن "عمر" قال لابن عباس: أنشدني لأشعر شعرائكم. قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير. قيل بم كان ذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل بما لا يكون في الرجال. قال: فأنشدته حتى برق الصبح. وورد أن عمر كان جالسا "مع قوم يتذاكرون أشعار العرب إذ أقبل ابن عباس، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بالشعر، فلما جلس قال: يا ابن عباس، من أشعر العرب؟ قال: زهير بن أبي سلمى. قال فهل تنشد من قوله شيئا نستدل به على ما قلت، قال: نعم، امتدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال:
__________
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 95".
2 الشعر والشعراء "1/ 78"، "الثقافة".
3 الشعر والشعراء "1/ 79"، "الثقافة".
4 خاص الخاص "75"، الإعجاز والإيجاز "37".
5 كارلو نالينو "77".(18/109)
لو كان يقعد فوق الشمس من أحد ... قوم لأولهم يوما إذا قعدوا
محسَّدُون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا1
وورد في رواية أخرى، أن "عمر" قال لابن عباس: "أنشدني لشاعر الشعراء، الذي لم يعاظل بين القوافي، ولم يتبع وحشي الكلام، قال: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير"2.
وكان زهير أستاذ الحطيئة. وسئل عنه "الحطيئة" فقال: ما رأيت مثله في تكفّيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها، حيث شاء، من اختلاف معانيها، امتداحا وذما. قيل له: ثم من؟ قال: ما أدري، إلا أن تراني مسلنطحا واضعا إحدى رجلي على الأخرى رافعا عقيرتي أعوي في أثر القوافي.
قال أبو عبيدة: يقول من فضل زهيرا على جميع الشعراء: إنه أمدح القوم وأشدهم أسر شعر. قال وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: الفرزدق يشبه بزهير. وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأشبههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا به مذهب المطبوعين. قال: وكان زهير يسمي كُبْرَ قصائده الحوليات.
وكان جيد شعره في هرم بن سنان المري. وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم: "أنشدني بعض ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل! فقال عمر رضي الله عنه ذهب ما أعطيمتوه وبقي ما أعطاكم3" وقد عيب على "زهير" لأخذه عطايا "هرم بن سنان"، إذ عد أهل الأخبار ذلك نوعا من التكسب بالشعر، وهو مرذول عند العرب4.
وقد قدمه "الأخطل" كذلك، وقال "ابن الأعرابي": "كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، كان أبوه شاعرا وهو شاعر وخاله شاعر وأخته
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 131 وما بعدها" الشعر والشعراء "1/ 76".
2 الشعر والشعراء "1/ 81"، "الثقافة".
3 الشعر والشعراء "1/ 81 وما بعدها"، "الثقافة".
4 العمدة "1/ 49".(18/110)
سلمى شعرة، وابناه كعب وبجير شاعران، وأخته الخنساء شاعرة"1. "ومن قدّم زهيرا قال: كان أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح، وأكثرهم امتثالا في شعره"2. وقيل إن أمدح بيت قالته العرب، هو بيت زهير:
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولزهير قصيدة أولها:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
يقال إنه قالها لما طلب "كسرى" النعمان بن المنذر، ففر فأتى طيًّا، فسألهم أن يدخلوه جبلهم، فأبوا فلقيه بنو رواحة من عبس، فقالوا له: أقم فينا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فقال: لا طاقة لكم بكسرى، وأثنى عليهم خيرا. وورد أن "الأصمعي" أنكر كون هذه القصيدة لزهير. ونسبها بعضهم "لصرمة بن أبي أنس الأنصاري"، وهي لا تشبه كلام زهير4.
ولزهير شعر سبق به غيره، فأخذه الشعراء منه وضمنوه شعرهم. وقد ذكر العلماء أمثلة على ذلك5. "ويروى أن لزهير سبع قصائد نظم كلا منها في عام كامل، ومن ثم سميت: الحوليات"6.
ومن أولاد زهير بن أبي سلمى، كعب وبجير. وكان "بجير" قد أسلم قبل "كعب". فبلغ ذلك كعبا، فقال شعرا تعرض فيه للرسول فهدر الرسول دمه" فكتب "بجير" إليه شعرا يخوفه فيه ويدعوه إلى الإسلام، فجاء وأسلم7.
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 133".
2 المصدر نفسه "1/ 132".
3 الشعر والشعراء "1/ 77".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 282 وما بعدها"، ديوان زهير "283 وما بعدها"، الخزانة "2/ 588 وما بعدها"، "بولاق".
5 الشعر والشعراء "1/ 83 وما بعدها"، "الثقافة".
6 الخصائص، لابن جني "1/ 330"، بروكلمان "1/ 95".
7 السيوطي، شرح شواهد "2/ 524"، العمدة "1/ 165"، ابن هشام، سيرة "3/ 26"، الروض الأنف "2/ 305".(18/111)
و "لكعب" ولد يقال له "المضرب بن كعب". كان شاعرا1، واسمه: "عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى" لقب بالمضرب، لأنه شبب بامرأة من بني أسد، فضرب، فسمي المضرب. روى له الشريف "المرتضى" شعرا2.
وكانت لزهير بنت كانت شاعرة كذلك. ذكر أن بنت زهير دخلت على "عائشة"، وعندها بنت "هرم بن سنان"، فسألت بنت هرم: بنت زهير من أنت؟ قالت: أنا بنت زهير. قال: أوَمَا أعطى أبي أباك ما أغناكم؟ قالت: إن أباك أعطى أبي ما فني، وإن أبي أعطى أباك ما بقي، وأنشدت بنت زهير:
وإنك إن أعطيتني فمن الغنى ... حمدت الذي أعطيت من ثمن الشكر
وإن يفن ما تعطيه في اليوم أو غد ... فإن الذي أعطيك يبقى على الدهر3
والشاعر "لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب" العامري، ويكنى "أبا عقيل"، وهو من أشراف قومه في الجاهلية والإسلام، وكان سخيا من أسرة معروفة. وكان في شبابه من فرسان زمانه، وقد شارك قبيلته في غاراتها على أعدائها، وذب عنها بسيفه وبقلمه. وهو من الشعراء المترفعين الذين ترفعواعن مدح الناس لنيل جوائزهم وصلاتهم كما كان من الشعراء المتقدمين في الشعر4.
وقد عرف والده بـ "ربيعة المقترين"، "أو "ربيع المقترين"، لسخائه، وقد ذكره "لبيد" ابنه في شعره بقوله:
ولا من ربيع المقترين رزئته ... بذي علق فاقني حياءك واصبري
وتحدث عن كرمه، فقال:
وأبي الذي كان الأرا ... مل في الشتاء له قطينا5
__________
1 الخزانة "2/ 333"، المؤتلف "281".
2 أمالي المرتضى "1/ 458".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 754 وما بعدها".
4 الخزانة "2/ 246"، "هارون"، "1/ 337"، "بولاق".
5 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "17"، "شرح الدكتور إحسان عباس"، "الكويت 1962".(18/112)
وقد قتل والده وهو صغير السن، فتكفل أعمامه بتربيته. ويرى "بروكلمان" احتمال مجيء "لبيد" إلى هذه الدنيا في حوالي سنة "560م". أما وفاته، فكانت سنة أربعين، وقيل إحدى وأربعين، لما دخل معاوية الكوفة إذ صالح "الحسن بن علي" ونزل "النخيلة"، وقيل إنه مات بالكوفة أيام "الوليد بن عقبة" في خلافة عثمان، وقد رجح "ابن عبد البر" هذه الرواية، وورد أنه توفي سنة نيف وستين1.
وقد عرفت أم "ربيعة بن مالك"، أي والد "لبيد" بـ "أم البنين"، وهي بنت "عمرو بن عامر بن صعصعة"، وكانت تحت "مالك بن جعفر بن كلاب"، فولدت له منه "عامر بن مالك" مُلاعب الأسنة، و"طفيل بن مالك" فارس قُرزل، وهو أبو "عامر بن الطفيل"، و"ربيعة بن مالك" أبا لبيد، وهو ربيع المقترين، و "معاوية بن مالك" معود الحكام "معود الحكماء"، وإنما سمي "معود الحكام" "معود الحكماء" بقوله:
أعود مثلها الحكام بعدي ... إذا ما الحق في الأشياع نابا2
وقيل إنه لما مات دفن في صحراء "بني جعفر بن كلاب" رهطه، وأنه لما قدم الكوفة وأقام بها، رجع بنوه إلى البادية أعرابا3. وروي في خبر أنه مات بالكوفة أيام "الوليد بن عقبة" في خلافة "عثمان"، فبعث "الوليد" إلى منزله عشرين جزورا فنحرت عنه. وقد رجح "ابن عبد البر"، هذه الرواية. وورد في رواية أخرى أنه توفي في عهد "زياد" وفي خلافة معاوية4.
وقد ذكر من ترجم حياته أنه كان فارسا شجاعا سخيًّا، وقد جعله "ابن قتيبة"
__________
1 الاستيعاب "3/ 307"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 152 وما بعدها".
2 أمالي المرتضى "1/ 193".
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الحدثان نابا
اللسان "14/ 399"، "سما"، وورد "معوذ الحكماء"، بالذال المعجمة، تاج العروس "2/ 440"، "عود".
3 المعارف "332".
4 الاستيعاب "3/ 309"، "هامش على الإصابة"، الإصابة "3/ 308"، "رقم 7543".(18/113)
في جملة المائة فارس الذين وجههم "الحارث بن أبي شمر" الغساني، وهو "الأعرج" إلى "المنذر بن ماء السماء" لقتله، فلما صاروا إلى معسكر "المنذر"، أظهروا أنهم أتوه داخلين في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه، فقتل أكثرهم، ونجا لبيد، حتى أتى ملك غسان فأخبره الخبر. فحمل الغسانيون على عسكر "المنذر" فهزموهم، وهو يوم "حليمة". وقد ذكر "ابن قتيبة" في كتابه "الشعر والشعراء" أن "الحارث" كان قد أمر "الوليد" على المائة فارس1، وذكر في كتابه "المعارف"، أنه كان غلاما إذ ذاك2. وقد وقعت معركة "يوم حليمة" سنة "554م"، فيجب أن يكون مولد "لبيد" قبل هذا العهد. ولو أخذنا برأي أهل الأخبار القائل إنه عاش فوق المائة، وأنه كان يوم توفي ابن مائة وثلاثين سنة، أو مائة وأربعين، أو مائة وسبع وخمسين أو مائة وستين3، جاز لنا تصور اشتراك "لبيد" في ذلك اليوم، غلاما أو شابا. ولم يذكر "ابن قتيبة" كيف جاء "لبيد" إلى "الحارث"، وهو في هذا العمر، ولم اشترك مع من اشترك في اغتيال "المنذر". ولكننا نجد "الميداني"، يسمي لبيدا الذي اشترك في اغتيال المنذر "لبيد بن عمرو"4، أي شخصا آخر، وهي رواية أدعى إلى القبول من رواية "ابن قتيبة".
وتقول قصة يرويها أهل الأخبار عن سبب نظم لبيد لأرجوزته الشهيرة، التي أولها:
يا رُبَّ هيجا هي خير من دعة ... إذ لا تزال هامتي مقزعة
أن "لبيدا" كان غلاما آنذاك، وكان قد ذهب مع وفد "بني عامر" أبناء "أم البنين"، وعليه "أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، وقد وضعوه على رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم فيرعاها. وكان "النعمان" قد ضرب قبة على "أبي براء" وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل، وكان
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 194"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 337"، "بولاق".
2 "فوجه إليهم مائة رجل، فيهم "لبيد" الشاعر، وهو غلام"، المعارف "642".
3 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، الاستيعاب "3/ 306 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
4 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 295 وما بعدها".(18/114)
"الربيع بن زياد" العبسي ينادم النعمان ويتقدم على من سواه، وكان يدعى "الكامل"، وكان يعادي "بني جعفر"، فأوغر صدر "النعمان" عليهم، حتى صد عنهم ونزع القبة عن "أبي براء". فلما وقف "لبيد" على خبرهم، قال لهم: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غدا حين يقعد الملك فأرجز به رجزا ممضا مؤلما، لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا؟ قالوا وهل عندك ذلك؟ قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة، فقال فيها قولا أعجبهم.
فلما أصبحوا قالوا: أنت والله صاحبه، فحلقوا له رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه "الربيع" ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة بالوفد. فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريِّين فدخلوا عليه، والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد: وقد دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلا واحدة، على عادة الشعراء في الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم قال رجزه حتى إذا بلغ قوله:
مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه ... إن استه من برص مُلمعه
وإنه يدخل فيها إصبعه ... يدخلها حتى يواري أشجعه
كأنه يطلب شيئا ضيّعه
نفر "النعمان" من "الربيع" ورمقه شزرا، وكره مجالسته لتأثير هذه الأبيات فيه، وأعاد القبة على "أبي براء"1.
وقد أيد "ابن رشيق" رواية من ذكر أن "لبيدا" كان غلاما يوم قال قصيدته المذكورة بقوله: "والربيع بن زياد، كان من ندماء النعمان بن المنذر" وكان فحاشا عيابا بذيًّا سبابا لا يسلم منه أحد ممن يفد على النعمان، فرمي بلبيد وهو غلام مراهق فنافسه"2. فجعل "لبيد" غلاما مراهقا.
ويروي أهل الأخبار خبرا يؤيد الخبر المتقدم. يقول خبرهم: "نظر النابغة
__________
1 الفاخر "ص141 وما بعدها"، الأغاني "16/ 22"، نزهة الجليس "2/ 507 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 189 وما بعدها"، العمدة "1/ 27"، الخزانة "4/ 117"، مجالس ثعلب "449 وما بعدها".
2 العمدة "1/ 51".(18/115)
إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر، فسأل عنه فنسب له. فقال له: يا غلام، إن عينيك لعينا شاعر، أفتقرض من الشعر شيئا؟ قال: نعم يا عم، قال: فأنشدني شيئا مما قلته، فأنشده قوله: "ألم تربع على الدمن الخوالي" فقال له: يا غلام أنت أشعر بني عامر. زدني يا بني، فأنشده: طلل لخولة بالرسيس قديم. فضرب بيديه إلى جبينه وقال: اذهب فأنت أشعر من قيس كلها: أو قال: هوازن كلها". ويقال: إنه أنشده: عفت الديار محلها فمقامها، فقال: اذهب فأنت أشعر العرب1.
وإذا أخذنا بالروايتين المذكورتين القائلتين إن "لبيدا" كان صبيا أو غلاما في أيام حكم الملك النعمان، وجب علينا افتراض أن ميلاده لم يكن بعيدا عن سنة "580" أو "581" أو "582م"، السنة التي تولى فيها "النعمان" الملك. ومعنى هذا أنه لم يعمر طويلا، وهو خلاف ما يذكره أهل الأخبار. وإن كل ما يمكن أن نتصوره من عمره، أنه كان في حوالي الثمانين حين داهمته منيته.
وقد جعل "بروكلمان" مولده حوالي السنة "560م"، وجعل وفاته سنة "40هـ". حوالي السنة "660م"، ومعنى هذا أنه كان من أبناء المائة حين جاء أجله2.
وللبيد شعر في "النعمان بن المنذر"، وصف فيه مجلسه. فذكر أنه كان قاعدا كعتيق الطير يُغضي ويُجل، والهبانيق قيام، بأيديهم الأباريق، تحسر الديباج عن أذرعهم، ينتظرون أمرا يصدره إليهم. وهو شعر مدون في ديوانه يعد من جيد شعره.
وله قصيدة في رثاء "النعمان"، وتعرض فيها للموت ولزوال النعيم، ولعدم دوام الدنيا لأحد، ثم تحدث عن النعمان وعن أعماله وتجارته ختمها بقوله:
وأمسى كأحلام النيام نعيمهم ... وأي نعيم خلته لا يزايل
ترد عليهم ليلة أهلكتهم ... وعام وعام يتبع العام قابل4
__________
1 الأغاني "14/ 97"، شرح ديوان لبيد "21".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 145".
3 ديوان لبيد "195"، الشعر والشعراء "1/ 203"، "الثقافة".
4 القصيدة رقم "36" من الديوان، شرح ديوان لبيد "ص266"، الخزانة "1/ 339 وما بعدها"، "بولاق".(18/116)
وقد ذكر فيها "الله" بقوله:
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... بلى كل ذي لب إلى الله واسل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل1
وهي قصيدة أزيد من خمسين بيتا. وأولها:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل2
وروي أن لبيد أنشد النبي قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال له صدقت، فقال: وكل نعيم لا محالة زائل
فقال له: كذبت، نعيم الآخرة لا يزول. وروي أن ذلك كان مع "أبي بكر"، وروي في خبر آخر أنه كان مع "عثمان بن مظعون"3.
وللبيد شعر يرثي به أخاه لأمه "أربد"، وكان قد أصابته صاعقة فقتل. وكان "أربد" أكبر منه سنا. وأبوه "قيس بن جزء بن خالد بن جعفر" "أربد بن قيس بن مالك بن جعفر"4، وكان يعطف على "لبيد" كثيرا وعلى ذوي رحمه، فارسا كريما، فلما أصابته الصاعقة تألم "لبيد" مما ألم بأخيه كثيرا، فرثاه برجز وبقصيدة وقد وجدت في النسخة العربية لتأريخ الأدب العربي لبروكلمان هذا النص: "ولما استقام السلطان للنبي بالمدينة، سار لبيد يحمل رسالة إليه من عمه: أربد: فأعجبه دينه"5. وهو وهم فأربد هو أخوه لا عمه. قال
__________
1 القصيدة رقم "36"، البيت "8" وما بعده.
2 الخزانة "2/ 252"، "هارون".
3 الخزانة "2/ 255 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 144"، "وفد بني عامر بن صعصعة"، الخزانة "2/ 250 وما بعدها".
5 بروكلمان "1/ 145".(18/117)
الطبري: "وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه"1. وكان من خبره أنه قدم مع وفد "بني عامر بن صعصعة" على الرسول، وفيه "عامر بن الطفيل" وثلاثون من رءوس القوم وشياطينهم، وفي رأس "عامر" الغدر بالرسول، بأن يشاغله في الحديث، فيعلو "أربد" النبي بالسيف، فلم يتجاسر "أربد" على ضربه، ورجع الوفد إلى بلاده. فلما كان "عامر" ببعض الطريق أصيب بالطاعون فمات، ومات "أربد" بعد ذلك بقليل بالصاعقة2.
وذكر أن "عامر" لما مات نصبت "بنو عامر" نصابا ميلا في ميل حمى على قبره، لا تنتشر فيه راعية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش، وكان "جبار بن سلمى بن عامر بن مال" غائبا، فلما قدم قال: ما هذه الأنصاب؟ قالوا نصبناها حمى على قبر "عامر"، فقال ضيقتم على أبي علي. إن أبا علي بان من الناس بثلاث. كان لا يعطش حتى يعطش الجمل، وكان لا يضل حتى يضل النظم، وكان لا يجبن حتى يجبن السيل3.
وفي إصابة "أربد" بالصاعقة يقول "لبيد" يبكيه:
ما إن تعرى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد
فجّعني الرعد والصواعق بالفارس ... يوم الكريهة النجد4
وهي قصيدة دون أبياتها "ابن هشام"5.
وله قصيدة أخرى في رثاء "أربد" مطلعها:
ألا ذهب المحافظ والمحامي ... ومانع ضيمها يوم الخصام
__________
1 الطبرى "3/ 145"، ابن هشام، سيرة "2/ 372".
2 الطبرى "3/ 144 وما بعدها"، وروى "ابن سعد" خبر وفد "عامر بن صعصعة" بشكل آخر، ذكر أنه طلب من الرسول أن يجعل له ميزة على غيره إن أسلم، أو أن يجعل الأمر إليه من بعده فلما رفض الرسول ذلك، قال: لأملأنها عليك خيلا ورجالا، ابن سعد، الطبقات "1/ 310"، "وفد عامر بن صعصعة"، سيرة ابن هشام "2/ 337"، "حاشية على الروض الأنف"، "الروض الأنف "2/ 337".
3 الخزانة "1/ 474"، "بولاق".
4 الشعر والشعراء "198"، ابن هشام "2/ 338"، "حاشية على الروض الأنف"، تفسير الطبري "13/ 84 وما بعدها".
5 سيرة "2/ 338".(18/118)
وقد رواها "ابن هشام"1. وقصائد أخرى عديدة2، تدل على شدة تأثره بوفاة "أربد".
وقد اختلفت الروايات في زمن إسلام "لبيد". قيل إنه أسلم سنة وفد قومه "بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" فأسلم3. وقيل إن "لبيد بن ربيعة" و "علقمة بن علاثة" كانا من المؤلفة قلوبهم4. وقيل إنه وفد على الرسول بعد وفاة أخيه "أربد" فأسلم5.
وتجمع روايات أهل الأخبار وعلماء الشعر على إقبال "لبيد" على الإسلام من كل قلبه، وعلى تمسكه بدينه تمسكا شديدا، ولا سيما حينما بدأ يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه وبقرب دنو أجله، ويظهر أن شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقت في أيامه، فابتعد عن السياسة وانزوى في بيته، وابتعد عن الخوض في الأحداث، ولهذا لا نجد في شعره شيئا، ولا فيما روي عنه من أخبار، أنه تحزب لأحد أو خاصم أحدا.
وروي أن "لبيدا" ترك الشعر في الإسلام وانصرف عنه. فلما كتب "عمر" إلى عامله "المغيرة بن شعبة" على الكوفة يقول له: "استنشد من قِبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام"، أرسل إلى "الأغلب" الراجز العجلي، فقال له: أنشدني؟ فقال:
أرجزا تريد أم قصيدا ... لقد طلبت هينا موجودا
ثم أرسل إلى لبيد، فقال: "أنشدني ما قلته في الإسلام"، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها وقال: "أبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر" فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص من عطاء "الأغلب" خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد6. وروي أن "عمر" كتب إلى عامله بالكوفة: سل لبيدا والأغلب
__________
1 سيرة "2/ 338".
2 ابن هشام، سيرة "2/ 338 وما بعدها".
3 الاستيعاب "3/ 306"، "حاشية على الإصابة".
4 الاستيعاب "3/ 306"، الخزانة "2/ 246"، "هارون".
5 الأغاني "14/ 90".
6 الأغاني "14/ 97"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 120 وما بعدها".(18/119)
العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام؟ فقال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه1.
وروي الخبر المتقدم بشكل آخر. روي أن "عمر بن الخطاب" قال للبيد: أنشدني، فقرأ سورة البقرة، وقال: ما كنت لأقول شعرا بعد إذ علمني الله سورتي البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه خمسمائة، وكان ألفين. فلما كان في زمن "معاوية" قال له معاوية: هذان الفودان فما بال العلاوة؟ وأراد أن يحطه إياها، فقال أموت الآن وتبقى لك العلاوة والفودان! فرق له، وترك عطاءه على حاله، ومات بعد يسير2. وورد في رواية أخرى أن "معاوية" كتب إلى "زياد" أن اجعل أعطيات الناس في ألفين، وكان عطاء "لبيد" ألفين وخمسمائة. فقال له" زياد": "أبا عقيل هذان الخراجان، فما بال هذه العلاوة؟ قال: ألحق الخراجين بالعلاوة، فإنك لا تلبث إلا قليلا حتى يصير لك الخراجان والعلاوة! فأكملها "زياد" ولم يكملها لغيره. فما أخذ لبيد عطاء آخر حتى مات"3.
وقيل إن لبيدا لم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدا، هو:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء ينفعه القرين الصالح4
في رواية. وورد على هذه الصورة:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح5
في رواية أخرى.
وقيل هو هذا البيت:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى كساني من الإسلام سربالا6
__________
1 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543".
2 الشعر والشعراء "1/ 195 وما بعدها"، الاستيعاب "3/ 309"، "حاشية على الإصابة".
3 الإصابة "3/ 308"، "رقم 7543".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 155"، الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543".
5 الشعر والشعراء "1/ 195"، "الثقافة".
6 الشعر والشعراء "1/ 195"، "الثقافة".(18/120)
وذكر بعض العلماء أن البيت:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
ليس للبيد، بل هو لـ "قردة بن نفاثة"1.
ومن الشعر المستجاد المنسوب إلى لبيد، قصيدته:
إن تقوى ربنا خير نقل ... وبإذن الله ريثي وعجل
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير من شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وقد زعم بعض العلماء أنها قيلت في الجاهلية، ولكنها لا يمكن أن تكون من شعر الجاهلية، لما فيها من آراء إسلامية، ثم إنها قيلت بعد موت "أربد"، وكان لبيد مسلما آنذاك على ما جاء في بعض الأخبار2.
ومما جاء فيها:
اعقلي إن كنت لمّا تعقلي ... ولقد أفلح من كان عقل
إن تري رأسي أمسى واضحا ... سلط الشيب عليه فاشتعل
وقوله:
غير أن لا تكذبنها في التقى ... واخزها بالبر لله الأجل
وهي قصيدة تبلغ عدتها "85" بيتا3، بعض أبياتها لشعراء آخرين، وقد نسبها بعض العلماء إليه، فأدخلت في القصيدة4.
__________
1 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، الاستيعاب "3/ 307"، "حاشية على الإصابة".
2 ديوان لبيد "174 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 21".
3 الخزانة "2/ 28"، "بولاق".
4 ديوان لبيد "199 وما بعدها".(18/121)
ومما جاء فيها في حق "أربد" قوله:
من حياة قد مللنا طولها ... وجدير طول عيش أن يمل
وأرى أربد قد فارقني ... ومن الأرزاء رزء ذو جلل1
وقد عاب بعض العلماء عليه قوله:
ومقام ضيق فرجته ... بمقامي ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زال عن مثل مقامي وزحل
"وقالوا: ليس للفيال من الخطابة والبيان، ولا من القوة، ما يجعله مثلا لنفسه، وإنما ذهب إلى أن الفيل أقوى البهائم، فظن أن فياله أقوى الناس! قال أبو محمد، وأنا أراه أراد بقوله: لو يقوم الفيل أو فياله مع فياله، فأقام "أو" مقام الواو"2.
وفي هذه القصيدة إشارة إلى صلاة اليهود، حيث يقول:
يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل3
"قال أبو الحسن الطوسي: كأنه يهودي يصلي في جانب يسجد على جبينه. قال البغدادي: واليهودي يسجد على شق وجهه"4.
وقد تعرض "كارلو نالينو" لهذه القصيدة: فقال: "ومن المشهور ما في ديوانه من العبارات الدينية، بل الشبيهة بالعقائد الإسلامية"، ثم كر أبياتا منها، ثم قال: "ولكن ليس كل ما ينسب إليه في ديوانه من هذا الباب صحيحا، بل لا اختلاف في بعض الأشعار أنها مصنوعة"5.
__________
1 البيتان "79-80".
2 الشعر والشعراء "1/ 200 وما بعدها".
3 البيت رقم "32" من القصيدة "26" في ديوانه "ص183".
4 ديوان لبيد "183".
5 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "78".(18/122)
ونسب له قوله:
من يبسط الله عليه إصبعا ... بالخير والشر بأيّ أولعا
يملأ منه ذنوبا مترعا1
وقوله:
وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوا بلاقع
وقوله:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
وفي هذه الأبيات إشارات إلى رأي لبيد في الدنيا وفي الموت، وهي آراء يقولها في العادة المعمرون، فإذا صح أنها له، فلا بد وأن تكون من شعره الذي قاله بعد تقدمه في السن.
ويظهر أن الكبر هو الذي حمل "لبيدا" على ترك الشعر أو الإقلال منه، فالتقدم في السن يوقف القريحة ويجمد الذهن. فلما أرسل "الوليد بن عقبة" إليه شعرا، ومعه مائة بكرة، قال لبيد لابنته: أجيبيه فقد رأيتني وما أعيا بجواب شاعر4. وفي هذا الجواب دلالة على توقف قريحته عن قول الشعر، وأنه لم يعد باستطاعته نظمه، وليس السبب هو الإسلام.
وكانت مناسبة إرسال "الوليد بن عقبة" الشعر والهدية إليه أنه "لبيد" كان آلى في الجاهلية ألا تهب الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وألزمه نفسه في إسلامه. فهبت الصبا، ولم يكن عند "لبيد" ما يعينه على الإطعام، فخطب "الوليد" الناس بالكوفة، وقال: إن أخاكم لبيدا آلى ألا تهب له الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وهذا اليوم من أيامه، فأعينوه، وأنا أول من أعانه.
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 319".
2 أمالي المرتضى "1/ 453".
3 أمالي المرتضى "1/ 55".
4 الشعر والشعراء "1/ 196 وما بعدها"، "الثقافة".(18/123)
ونزل فبعث إليه بمائة بكرة وكتب إليه شعرا يمدحه فيه ويذكر له كرمه ونذره1.
ويشك "بروكلمان" في صحة ما ورد من ترك "لبيد" الشعر بعد دخوله في الإسلام. ويرى أن كثيرا من شعره مطبوع بطابع إسلامي، ويبعد أن يكون مما صنع عليه، وإن زيد عليه بعض الزيادات2.
ونجد في قصيدة "لبيد" الكبرى التي مطلعها:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها3
أسماء مواضع كثرة من نجد والحجاز4.
ولعلماء الشعر آراء في شعر لبيد، من ذلك ما قالوه في قوله:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
فقالوا: إنه شعر جيد المعنى والسبك، لكن ألفاظه قصرت عن معناه. فإنه قليل الماء والرونق5.
وقد ذكروا له أشعارا سبق بها غيره من الشعراء، أخذها غيره عنه، فأعادها علماء الشعر إلى أصلها. كما عابوا عليه بعض الأمور الصغيرة التي لا يمكن أن يفلت منها شاعر6.
و"عنترة بن شداد العبسي"، هو "عنترة بن عمرو بن شداد بن قراد" العبسي. وشداد جده أبو أبيه في رواية لابن الكلبي، غلب على اسم أبيه فنسب إليه. وقال غيره: شداد عمه، وكان عنترة نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه.
وكان يلقب بـ "عنترة الفلحاء" لتشقق شفتيه.
وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر، وذلك أنه كان لأمة سوداء يقال لها "زبيبة"،
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 196 وما بعدها"، "الثقافة"، الأغاني "15/ 298"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 155".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 145".
3 القصيدة رقم "48" في الديوان، شرح ديوان لبيد "ص297".
4 الإكليل "223".
5 الشعر والشعراء "1/ 114"، "الثقافة".
6 الشعر والشعراء "1/ 199 وما بعدها"، "الثقافة".(18/124)
وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبده، وكان لعنترة إخوة من أمه عبيد. وكان سبب ادعاء أبي عن عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من "بني عبس"، فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم، وعنترة فيهم، فقال له أبوه أو عمه في رواية أخرى: كر يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر، فكر وقاتل يومئذ حتى استنقذ ما بأيدي عدوهم من الغنيمة، فادعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه1.
وورد في رواية أن إخوته قالوا له: اذهب فارع الإبل والغنم واحلب وصر.
فانطلق يرعى وباع منها ذودا، واشترى بثمنه سيفا ورمحا وترسا ودرعا ومغفرا، ودفنها في الرمل. وكان له مهر يسقيه ألبان الإبل. وإن في الجاهلية من غلب سبا. وإنه جاء ذات يوم إلى الماء فلم يجد أحدا من الحي، فبهت وتحير حتى هتف به هاتف: أدرك الحي في موضع كذا، فعمد إلى سلاحه فأخرجه وإلى مهره فأسرج واتبع القوم الذين سبوا أهله فكر عليهم ففرق جمعهم وقتل منهم ثمانية نفر، فقالوا: ما تريد؟ فقال: أريد العجوز السوداء والشيخ الذي معها، يعني أمه وأباه، فردوهما عليه. فقال له عمه: يا بني كر، فقال: العبد لا يكر، ولكن يحلب ويصر. فأعاد عليه القول ثلاثا وهو يجيبه كذلك. قال له: إنك ابن أخي وقد زوجتك ابنتي عبلة. فكر عليهم فأنقذه وابنته منهم. ثم قال: إنه لقبيح أن أرجع عنكم وجيراني في أيديكم: فأبوا، فكر عليهم حتى صرع منهم أربعين رجلا قتلى وجرحى فردوا عليه جيرانه. فأنشد:
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم2
وروي أنه كان من معاصري "امرئ القيس"، وأنه اجتمع به3، وأن امرأة "شداد" أبي "عنترة" ذكرت لشداد أن عنترة أرادها عن نفسها، فأخذه أبوه فضربه ضرب التلف، فقامت المرأة فألقت نفسها عليه لما رأت ما به
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 171 ما بعدها"، "الثقافة"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 481 وما بعدها".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 479 وما بعدها".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 482".(18/125)
من الجراحات، وبكته. وكان اسمها: "سمية"، فقال عنترة:
أمن سمية دمع العين مذروف ... لو كان منك قبل اليوم معروف1
وذكر أنه كان من أشد أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان لا يقول من الشعر إلا البيتين والثلاثة، حتى سابّه رجل من عبس، فذكر سواد أمه وأخوته، وعيّره بذلك، وبأنه لا يقول الشعر، فاغتاظ منه ورد عليه، وهاجت قريحته فنظمت له قصيدة:
هل غادر الشعراء من متردم
وهي أجود شعره، وكانوا يسمونها "المذهبة"2.
وله كأكثر الشعراء أبيات شعر، استحسنها علماء الشعر، وقالوا إنه أجاد فيها وأحسن، وما سبق إليه ولم ينازع فيه في بعض ذلك الشعر3.
وهو أحد أغربة العرب، وهم ثلاثة: عنترة، وأمه زبيبة، سوداء، وخفاف بن عمير الشريديّ، من بني سلمى، وأمه ندبة، وإليها ينسب، وكانت سوداء، والسليك بن عمير السعدي "السيلك بن سلكة"، وأمه سلكة، وإليها ينسب، وكانت سوداء4. وذكر أنه كان يفخر بأخواله السود، رهط أمه، فدعاهم بـ "حام" حيث يقول:
إني لتعرف في الحروب مواطني ... في آل عبس مشهدي وفعالي
منهم أبي حقًّا فهم لي والد ... والأم من حام فهم أخوالي5
وإذا صح أن هذا الشعر هو لعنترة، دل على وقوف الجاهليين على اسم "حام"، الوارد في التوراة، على أنه جد السودان، ولا بد أن تكون التسمية قد وردت إلى الجاهليين عن طريق أهل الكتاب.
__________
1 المحاسن والأضداد "143".
2 الشعر والشعراء "1/ 172 وما بعدها"،"الزوزني "136"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 481".
3 الشعر والشعراء "1/ 174"، "الثقافة".
4 الشعر والشعراء "1/ 172"، "الثقافة".
5 الشعر والشعراء "1/ 175".(18/126)
وذكر أنه كان قد أغار على "بني نبهان" فرماه "وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع" النبهاني، فقطع مطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله فمات1.
ويعد "عمرو بن كلثوم" التغلبي من كبار شعراء الجاهلية، وكان معاصرا للملك "عمرو بن هند" "544-568م"، وهو قاتله في خبر سبق أن تحدثت عنه. وهو من الشعراء الذين مالوا إلى الحكم في نظم الشعر2. وقد عرف بـ "أبي الأسود"3. ويقال إن أخاه "مرة بن كلثوم" التغلبي، هو قاتل المنذر بن النعمان بن المنذر. وكان "عمرو بن كلثوم" سيد قومه، سادهم وهو ابن خمس عشرة، ومات وله مائة وخمسون سنة4. وكان خطيبا حكيما وشاعرا، أوصى بنيه عند موته بوصية بليغة حسنة5، ضبط نصها الرواة فيما بعد، وكأنهم كتبوها بخط يدهم.
وقصيدته الشهيرة التي هي إحدى السبع، هي من جيد شعر العرب القديم، ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها قال بعض الشعراء:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسئوم6
وفي قتل "عمرو بن كلثوم" "عمرا بن هند" يقول أحد شعراء تغلب، وهو "أفنون بن صريم" التغلبي:
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا ... وأمسك من ندمانه بالمخنق7
ويذكر في سبب نظم "عمرو بن كلثوم" قصيدته الشهيرة، أن قبيلة "تغلب"
__________
1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة من نوادر المخطوطات"، "ص210 وما بعدها".
2 بروكلمان "1/ 103"، الأغاني "9/ 175"، الخزانة "1/ 52"، الشعر والشعراء "1/ 157 وما بعدها"، المرزباني، معجم "6/ وما بعدها".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 121"، الخزانة "1/ 517 وما بعدها".
4 الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، المرزباني، معجم "7".
5 الأغاني "11/ 59"، "بولاق"، المرزباني، معجم "7".
6 الشعر والشعراء "1/ 159 وما بعدها"، "لشعر غير مسئوم"، الخزانة "1/ 517 وما بعدها"، الأغاني "11/ 54"، "دار الكتب"، الخزانة "1/ 519"، "بولاق".
7 المحبر "204"، الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، "11/ 54"، "دار الكتب".(18/127)
كانت من أشد الناس في الجاهلية، وكانت بينهم وبين "بكر" حزازة وعداوة، ويقال: جاء ناس من بني تغلب إلى بكر بن وائل يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الذي كان بينهم فرجعوا، فمات سبعون رجلا عطشا. فاجتمعت "تغلب" لحرب "بكر"، واستعدت لهم "بكر" حتى إذا التقوا، خافوا أن تعود الحرب بينهم كما كانت، فدعا بعضهم بعضا إلى الصلح، فتحاكموا في ذلك إلى "عمرو بن هند". فجاءت تغلب يقودها "عمرو بن كلثوم" وجاءت بكر، ومعها "الحارث بن حلزة اليشكري"، فألقى قصيدته:
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
وتأثر "عمرو بن هند" بها، فحكم لبكر، وأنشد: "عمرو" قصيدته:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا1
وفي جملة أبياتها:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا2
ويذكر بعض الرواة أن "عمرو بن كلثوم" ارتجل قصيدته الشهيرة ارتجالا، وأنها كانت تبلغ ألف بيت أو تزيد3. وأن ما وصل إلينا منها هو بعضها. وتبلغ "96" بيتا في كتاب "شرح القصائد العشر" للتبريزي4. يظهر من دراستها وإمعان النظر فيها أنها لم تنظم دفعة واحدة، وأنها لم تكن بهذا الطول يوم ألقاها الشاعر، بل زيدت فيما بعد حسب المناسبات، لأن فيها أبياتا تمس أمورا وقعت فيما بعد، في ظروف متأخرة.
ويروى أن "عمرو بن كلثوم"، جاء سوق عكاظ، فألقى معلقته هناك. وروي أن "معاوية بن أبي سفيان" قال "إن قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، وكانتا معلقتين بالكعبة دهرا"5.
__________
1 التبريزي، شرح القصائد العشر "379 وما بعدها".
2 أمالي المرتضي "1/ 57، 327"، "2/ 147".
3 شعراء النصرانية "197 وما بعدها".
4 "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "ص380-382".
5 الخزانة "1/ 517 وما بعدها"، "بولاق".(18/128)
ويلاحظ أن في معلقة "عمرو بن كلثوم" أبياتا خرجت على روي القافية، مثل قوله:
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا1
وقوله:
ندافع عنهم الأعداء قدما ... ونحمل عنهم ما حملونا2
وقوله:
نحز رءوسهم في غير بر ... فما يدرون ماذا يتقونا3
وقوله:
إذا ما عَيَّ بالإسناف حي ... من الهول المشبه أن يكونا4
وقوله:
برأس من بني جشم بن بكر ... ندق به السهولة والحزونا5
وقوله:
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا6
وقوله:
علينا كل سابغة دلاص ... ترى فوق النجاد لها غضونا
إذا وضعت عن الأبطال يوما ... رأيت لها جلود القوم جونا7
__________
1 البيت رقم "24" من المعلقة.
2 البيت رقم "31".
3 البيت رقم "36".
4 البيت رقم "39".
5 البيت رقم "45".
6 البيت رقم "50".
7 البيتان رقم "70 وما بعده".(18/129)
وقوله:
وأنا المانعون لما يلينا ... إذا ما البيض زايلت الجفونا1
ومواضع أخرى من هذا القبيل2. وكان من اللازم مسايرة القافية التى هي "الأندرينا".
ولعمرو أشعار، فيها هجاء للنعمان بن المنذر. فقد ذكر أن النعمان توعد "عمرو بن كلثوم"، فبلغه ذلك، فدعا كاتبا من العرب، فكتب إليه:
ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فمدحك حوليٌّ وذمك قارح
متى تلقني في تغلب ابنة وائل ... وأشياعها ترقى إليك المسالح
وهجاه في شعر آخر، ذكر فيه أمه، وعيره بها، وعيره في شعر آخر بأن خاله صائغ يصوغ القروط والشنوف بيثرب، ورماه فيه باللؤم3.
وتنسب لعمرو أبيات نظمها في البذل والسخاء وفي إعطاء المال، أولها:
لا تلومنّي فإني متلف ... كل ما تحوي يمني وشمالي
لست إن أطرفت مالا فرحا ... وإذا أتلفته لست أبالي4
ولعمرو بن كلثوم ديوان صغير، نشر في مجلة المشرق. وقد ترجمت معلقته إلى الألمانية5. وفي معلقة "عمرو" أشعار مضطربة وتكرار، وعدم تجانس في وحدة الموضوع. وقد يكون ذلك بسبب تلاعب الأيدي في القصيدة. وإذا عثر على نصها القديم، الذي زعم أنه كان ألف بيت أو يزيد، فإنها ستكون أطول قصيدة في تأريخ الشعر العربي نسبها علماء الشعر إلى أحد من الجاهليين.
وذكر أن "عمرو كلثوم"، أغار على "بني حنيفة" باليمامة، فأسره
__________
1 البيت رقم "77".
2 الأبيات "80-83"، "88".
3 الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، "11/ 58"، "دار الكتب".
4 المرزباني، معجم "7".
5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 57، 67 وما بعدها، 103"، المشرق "1922م"، "ص591 وما بعدها".(18/130)
"يزيد بن عمرو الحنفي"، ثم سقاه الخمر في قصر بـ "حجر" اليمامة، حتى مات. وذكر أن "يزيد" أراد المثلة به، بربطه بجمل، ثم ضرب الجمل، ليركض به، فصاح: "يا آل ربيعة! أمثلة"1.
وتذكر رواية أن نهاية "عمرو بن كلثوم" كانت انتحارا بشرب الخمر. وذلك أن الملوك كانت تبعث إليه بحبائه وهو في منزله من غير أن يفد إليها. فلما ساد ابنه "الأسود بن عمرو" بعث إليه بعض الملوك بحبائه كما بعث إلى أبيه.
فغضب "عمرو بن كلثوم" وقال: "ساواني بولي، فحلف لا يذوق دسما حتى يموت. وجعل يشرب الخمر صرفا على غير طعام. فلم يزل يشرب حتى مات2.
و"الحارث بن حلزة" اليشكري، هو من "بني يشكر"، من بكر بن وائل. وكان أبرص، وقد اشتهر بقصيدته التي هي إحدى المعلقات، كما اشتهر بمثلها "عمرو بن كلثوم" و "طرفة بن العبد". يذكر أنه ارتجلها بين يدي "عمرو بن هند" ارتجالا، في شيء كان بين بكر وتغلب بعد الصلح، وكان ينشده من وراء السجف، للبرص الذي كان به. وكان من عادة الملك أن يسمع الأبرص من وراء سبع ستور، وينضح أثره بالماء إذا انصرف عنه. فلما سمعت أم "عمرو بن هند" قصيدته، قالت: "تالله ما رأيت كاليوم قط رجلا يقول مثل هذا القول يكلم من وراء سبع ستور"، فقال الملك: "ارفعوا سترا وأدنوا الحارث"، كان كلما استحسن شيئا منها أمر برفع ستر، حتى رفعت الستور السبعة. وأقعده الملك قريبا منه استحسانا لها وتقديرا له. وكان الحارث متوكئا على عنزة فارتزت -كما يقول أهل الأخبار- في جسده وهو لا يشعر3. وقد زعم أنه قال قصيدته المشهورة وهو ابن مائة وخمس وثلاثين4.
والقصيدة من قصائد الفخر والتبجح بالمفاخر والمآثر، وقد عرض فيها بقبيلة "تغلب"، وعرض بـ "عمرو بن هند" كذلك. وقد ضرب المثل بالفخر
__________
1 الشعر والشعراء "224 وما بعدها".
2 المحبر "470 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "1/ 127"، الخزانة "1/ 158"، "بولاق".
4 الخزانة "1/ 158"،"بولاق"، "1/ 519"، "بولاق".(18/131)
فقيل: "أفخر من الحارث بن حلزة"1. ويرى "نولدكه" أن سبب اختيار "حماد" الراوية لهذه القصيدة وضمها إلى القصائد الأخرى المختارة، هو أن حمادا كان مولى لقبيلة "بكر بن وائل"، وكانت هذه القبيلة في عداء مع قبيلة "تغلب"، ولما كان "حماد" قد اختار قصيدة "عمرو بن كلثوم" التغلبي لشهرتها، لم يسع حمادا أن يعدل عن اختيارها، ولكنه اضطر إلى اختيار قصيدة أخرى إلى جانبها تشيد بمدح "بكر بن وائل" سادته، فاختار قصيدة "الحارث بن حلزة" الذي لم يبلغ في الشهرة شهرة الشعراء الآخرين2.
ويزعم أهل الأخبار أنه ارتجلها أمام الملك، بينما يذكرون أنه كان قد قال لقومه قبل ارتجاله لها أمام الملك: "إني قد قلت قصيدة، فمن قام بها ظفر بحجته وفلج على خصمه فرواها ناسا منهم. فلما قاموا بين يديه لم يرضهم فحين علم أنه لا يقوم بها أحد مقامه"، احتملها وأنشدها أمام الملك3. وقد قالها لتكون حجة لقومه في نزاعهم السياسي مع قبيلة تغلب، ودفاعا عنهم أمام الملك4.
ويرى "بروكلمان" أن شعر "الحارث" أقل أصالة من شعر "عمرو بن كلثوم". وهو قريب من شعر "زهير" في ميله إلى مذهب التعليم والتهذيب5. وقد قدم "أبو عبيدة" شعره وجعله أحد ثلاثة نفر اشتهروا بجودة قصائده، إذ قال: "أجود الشعراء قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن العبد"6.
وللحارث بن حلزة شعر يذكر فيه "ابن مارية"، وهو "أبو حسان" "قيس بن شراحيل بن مرة بن همام"، وكان ممن سعى في الصلح بين بكر وتغلب. وفي جملة ما قاله فيه:
وإلى ابن مارية الجواد وهل ... شروى أبي حسان في الأنس7
__________
1 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 125".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 67 وما بعدها".
3 الخزانة "1/ 519".
4 كارلو نالينو "75".
5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 103".
6 الخزانة "1/ 158"، "بولاق".
7 المفضليات "54".(18/132)
وفي قصيدة "الحارث بن حلزة" أسماء مواضع من محالهم ومحال حلالهم.
وهي قصيدته التي تبدأ بـ:
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء2
وللحارث بن حلزة ديوان صغير2، وأشعار منثورة في كتب الأدب والأخبار3.
و"الأعشى" "ميمون بن قيس بن جندل" من "سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، ويكنى أبا بصير. وهو ممن عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام.
ذكر "ابن قتيبة" أنه كان أعمى4. وهو وهم، وإنما عمي في أواخر أيامه، كما يفهم ذلك من شعره، بعد أن لعب به الكبر، وتحكمت به الشيخوخة، وصار عاجزا، يقوده قائد، يوجهه أنّى يشاء، تسيره عصاه، وهو يخاف العثار5. وقد وصف شيخوخته هذه وصفا مؤلما، صادرا من قلب منفطر حزين يبكي أيامه الأولى، أيام اللذة والمتعة، أيام اللهو والخمرة والنساء، أيام مضت، حلت محلها أيام سوء، لا يفرق فيها الأبيض من الأسود ولا الليل والنهار، ثم هو وحده لا خمر ولا امرأة ولا لحم دسم، عافته المرأة، لذهاب ماله وشبابه، وتركه الزنا على رغم منه، ولم يعد يرى في هذه الأيام إلا الهم والحزن والألم.
وأم الأعشى بنت "علس" أخت المسيب بن علس من بني "جُماعة"، ثم من بني "ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، ولد بقرية باليمامة يقال لها "منفوحة"، وفيها داره وبها قبره. ويقال إنه كان نصرانيا، وهو أول من سأل بشعره6.
ويسمى "صناجة العرب". لأنه أول من ذكر الصنج في شعره فقال:
__________
1 الصفة "220".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 103"، مجلة المشرق "1922م" "ص591 وما بعدها".
3 الأغاني "9/ 171 وما بعدها"، المفضليات رقم "25"، "62"، "127".
4 الشعر والشعراء "1/ 178"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 84 وما بعدها"، الأغاني "9/ 108"، رسالة الغفران "159".
5 القصيدة رقم "12" , "258" من ديوانه، المرزباني، معجم "401"، طبقات ابن سلام "15"، الأغاني "9/ 108"، المؤتلف "12"، رسالة الغفران "159".
6 المرزباني، معجم "325"، "فراج".(18/133)
ومستجيب لصوت الصنج تسمعه ... إذا ترجع القينة الفضل1
وذكر أنه إنما عرف بصناجة العرب لكثرة ما تغنت العرب بشعره، أو لجودة شعره، أو لأن العرب كانت تتغنى بشعره على صوت الصنج، إلى غير ذلك من شروح وتفاسير2.
وقد نشأ "الأعشى" راوية لشعر خاله "المسيب بن علس"، وهو من شعراء الجاهلية المقلين. ثم نبغ هو في الشعر، فعلا اسمه على اسم خاله، حتى حلق في سماء الشعر، ولا سيما في وصف الخمر، حيث حظي الخمر عنده بموقع ممتاز في شعره، فأجاد في وصفه وفي أثره في النفس. وتفنن في وصف الخمر، حتى سبق بوصفه هذا سائر شعراء الجاهلية، ولم يلحق به في هذه الناحية من الشعر أحد. وقد عدّه بعض علماء الشعر رابع الشعراء الأربعة، فهو يأتي بعد امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمي، والنابغة الذبياني3. وقد أجاد أيضا في وصف القيان.
قيل: كان الأعشى يفد على ملوك فارس، ولذلك كثرت الفارسية في شعره4، وزعم أن "كسرى" سمعه يوما ينشد، فقال: من هذا؟ آسْروذ كويذ تازى، أي مغني العرب، فأنشد:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
فقال كسرى: فسروا لنا ما قال! فقالوا: ذكر أنه سهر من غير سقم ولا عشق!
فقال كسرى: إن كان سهر من غير سقم ولا عشق فهو لص!! 5 إلى غير ذلك من قصص مصنوع.
__________
1 المرزباني، معجم "325"، "فراج"، الشعر والشعراء "1/ 179"، "الثقافة"، السيوطي، شرح شواهد "240".
2 المزهر "2/ 431"، الخزانة "1/ 85"، "بولاق".
3 المزهر "2/ 431"، الخزانة "1/ 85"، "بولاق".
3 رسالة الغفران "229"، "بنت الشاطئ".
4 الشعر والشعراء "1/ 179"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 85".
5 الشعر والشعراء "1/ 180"، "الثقافة".(18/134)
وكان يفد أيضا على ملوك الحيرة، ويمدح الأسود بن المنذر، أخا النعمان1. وقال له "النعمان بن المنذر": لعلك تستعين على شعرك هذا؟ فقال له الأعشى: احبسني في بيت حتى أقول، فحبسه في بيت، فقال قصيدته التي أولها:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن تزارا
وفيها يقول:
وقيدني الشعر في بيته ... كما قيد الآسرات الحمار2
وورد في شعر الأعشى قوله:
وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن3
وإذا كان ما نسب إلى الأعشى من قوله:
لسنا كمن جعلت إياد دارها ... تكريت تنظر حبها أن يحصدا
جعل الإله طعامنا في مالنا ... رزقا تضمنه لنا لن ينفدا
مثل الهضاب جزارة لسيوفنا ... فإذا تراع فإنها لن تطردا
ضمنت لنا أعجازهن قدورنا ... وضروعهن لنا الصريح الأجردا4
صحيحا، فإنه يشير إلى أرض يقال لها "تكريت". وقد ذكر بعض علماء اللغة أن "تكريت" بنواحي الموصل، سميت بتكريت بنت وائل، أخت "قاسط"5. ويظهر أن الساسانيين قد أبعدوا بعض بطون "إياد" إلى هذه الديار، فأجبروهم على الإقامة بها، وأما النسب المذكور، فقد وضع فيما بعد. ويظهر من هذا الشعر أن تلك البطون قد تعلمت الزراعة، فزرعت الحب، والزراعة مزدراة في نظر العرب، ولهذا تبجح الشاعر عليها وافتخر، بكون قومه أصحاب إبل
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 180"، "الثقافة".
2 الشعر والشعراء "1/ 180 وما بعدها"، "الثقافة".
3 أمالي المرتضى "1/ 31، 35"، ديوانه "22".
4 ديوان الأعشى رقم 34، تاج العروس "1/ 576"، "كريت".
5 تاج العروس "1/ 576"، "كريت".(18/135)
ضخمة، يعقرونها لمن ينزل بساحتهم من ضيوف، أما إياد فهم أصحاب زراعة وحصاد.
وكان الأعشى ينادم "هوذة بن علي" الحنفي، صاحب اليمامة، وكان نصرانيا على ما يقال. وذكر أن "الأعشى" كان نصرانيا كذلك، وكان يزور "الحيرة" كما كان يزور أسقف "نجران". وله راوية يروي شعره اسمه "يحيى بن متى" من عباد الحيرة، وقد أشار في شعره إلى أمور توراتية مثل حمامة نوح وأخبار سليمان. لا ندري إذا كان قد أخذها من التوراة، أو أنه سمعها من رجال الدين أو من قصص نصارى الحيرة1.
وله أشعار كثيرة في مدح "هوذة" "هوذة بن علي بن ثمامة" الحنفي، منها قصيدته التي مطلعها:
أحيتك تيًّا أم تركت بدائكا ... وكانت قتولا للرجال كذلكا
وأقصرت عن ذكري البطالة والصبا ... وكان سفيها ضلة من ضلالكا
إلى أن قال:
إلى هوذة الوهاب أهديت مدحتي ... أرجي نوالا فاضلا من عطائكا
تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما عمدت من أهلها لسوائكا
وهذه القصيدة تشبه أشعار المحدثين والمولدين في الرقة والانسجام2.
ومن شعره في مدح "هوذة" قوله:
له أكاليل بالياقوت زينها ... صواغها لا ترى عيبا ولا طبعا
وقوله:
وكل زوج من الديباج يلبسها ... أبو قدامة مجبورا بذاك معا3
__________
1 راجع قصائده 13، و34، و79 من ديوانه، وبروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 147"، الأغاني "16/ 76"، رسالة الغفران "174".
2 الخزانة "2/ 61 وما بعدها"، "بولاق".
3 أمالي المرتضى "2/ 172".(18/136)
وكان يزور اليمن، ويقف بأبواب أقيالها، لينال منهم هداياهم. وفي خبر يرجع سنده إلى "الأعشى"، أنه قال: "أتيت سلامة ذا فايش "فائش" فأطلت المقام ببابه حتى وصلت إليه، فأنشدته:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في شعر من مضى مثلا
استأثر الله بالوفاء وبالـ ... ـعدل وولى الملامة الرجلا
الشعر قلدته سلامة ذا ... فائش والشيء حيث ما جعلا
قال: صدقت، الشيء حيث ما جعل، وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللا وأعطاني كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا، فبعتها في الحيرة بثلاثمائة ناقة حمراء"1. والشعر المذكور هو من قصيدة رقمت برقم "35" في ديوانه وتقع في "24" بيتا، وفي ترتيب بعض أبياتها اختلاف. وقد شكك "ابن قتيبة" في صحة نسبتها إلى الأعشى، كما شك غيره في صحة نسبتها إليه، لأسباب ذكروها2. وقد نسبها "الهمداني" إلى الأعشى3.
ونسب "الهمداني" إلى الأعشى قصيدة أخرى في مدح "سلامة" أولها:
رأيت سلامة ذا فائش ... إذا زاره الضيف حيا وبش
وقال لهم مرحبا مرحبا ... وأهلا وسهلا بهم وابتهش4
وتنسب إلى الأعشى قصيدة أخري في مدح "سلامة ذو فائش"، وهو:
"سلامة ذا فائش" بن يزيد بن مرة بن عريب بن مرثد بن حُريم الحميري5، وقد ذكر "الهمداني" أن "ذا فائش" هذا، هو "ذو فائش الأصغر"، واسمه "سلامة بن يهبر" القيل. وأورد أبياتا في مدحه أولها:
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 239"، الأغاني "6/ 124"، ديوان الأعشى الكبير "ص68، رقم القصيدة 8"، "شرح وتحقيق الدكتور محمد حسين"، رسالة الغفران "175".
2 ديوان الأعشى الكبير "232"، الأغاني"8/ 85"، الأمالي "2/ 99".
3 الإكليل "2/ 198".
4 الإكليل "2/ 195".
5 هي القصيدة التي رقمت برقم "8" في ديوانه، "ص68 وما بعدها"، ديوان الأعشى "19"، "أوروبا"، رسالة الغفران "218".(18/137)
تؤم سلامة ذا فائش ... هو اليوم حم لميعادها
وكم دون بيتك من صفصف ... ودكداك رمل وأعقادها
وهي أبيات من القصيدة المرقمة برقم "8" في ديوان الأعشى، وتقع في "56" بيتا.
ودون "الهمداني" أبيات شعر زعم أنها في مدح "ذي فائش"، الذي هو "سلامة بن يهبر" القيل، ذكر أن "إبراهيم بن المحابي"، أنشدها إياه، أولها:
وذو فائش قد زرته في ممنع ... من النيق فيه للوعول مواردا1
وذكر "الهمداني" أبياتا من الشعر في مدح "زرعة بن عمرو" "زرع بن عمرو". وكان "زرعة بن عمرو" يتولى وآباؤه للتبابع أعمال "المعافر" و"مأرب" وحضرموت، وكان قد حارب "مذحجا"، وفيه يقول "الأعشى" وقد وفد على بعض أولاده ومدحهم، قصيدة أولها:
تسنم في العلا زرع بن عمرو ... وشيد ما بنى عمرو وزادا2
ودون "الهمداني" أبيات شعر في مدح "حجر بن زرعة" ذكر انها للأعشى، وقال إنه كثيرا ما يفد إلى المعافر، ثم قال: وقيل إنها للمسيب بن علس. وأولها:
حللت على حجر بن زرعة بعدما ... برى الجسم مني مشفقات العواذل3
ونسب "الهمداني" أبيات شعر في مدح "فهد بن النعمان"، وكان قيلا بالمعافر. وقد وفد عليه. وأول هذه الأبيات:
ونادمت فهدا بالمعافر حقبة ... وفهد سماح لم تشبه المواعد
__________
1 الإكليل "2/ 195".
2 الإكليل "2/ 115".
3 الإكليل "5/ 117".
4 الإكليل "2/ 363".(18/138)
ونسب الرواة إلى "الأعشى" قصيدة في مدح "مسروق بن وائل" الحضرمي. وهو ممن وفد إلى "النبي" في وفد حضر موت فأكرمه1. وهي قصيدة رقمت برقم "70" في ديوانه2.
وفي "يزيد بن صهر بن أبي ثابت" الشيباني، من سادة بني شيبان، وذوي الرأي فيهم، يقول الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وهي لاميته الشهيرة التي تعد من المعلقات3. ومما جاء فيها في وصف مجلس الشرب والخمر:
نازعتهم قضب الريحان مرتفقا ... وقهوة مزة راووقها خضل
لا يستفيقون منها إلا وهي راهنة ... إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجات لها نطف ... مقلص أسفل السربال معتمل
ومستجيب لصوت الصنج يسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل4
وكان يبغي من أسفاره هذه جمع المال للاستمتاع بلذة الحياة ولذة الحياة عنده: الخمر والطعام والنساء، وقد جمعها بقوله:
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بهن قدما مولعا
الخمر واللحم السمين مع الطلى ... بالزعفران ولا أزال مردعا5
وهو من الشعراء الذين تعهروا في شعرهم، على شاكلة "امرئ القيس". وقد أبدع في وصف صاحبته "قتيلة". وهو لا يخشى من التصريح بأنه إنما يحب النساء، لأجل الاستمتاع بهن. فليست المرأة إلا أداة اللذة في هذه الحياة. فهو يبحث عنها، ولا يبالي من أي نوع كانت، جارية أم حرة، عاهرة أم
__________
1 الإصابة "3/ 338"، "رقم 7935".
2 شرح ديوان الأعشى "328 وما بعدها"، الإكليل "2/ 376".
3 طبقات ابن سلام "23"، الأغاني "8/ 100"، رسالة الغفران "174"، "حاشية".
4 رسالة الغفران "171 وما بعدها"، تهذيب الألفاظ، لابن السكيت "227".
5 ديوان الأعشى "ص"، "دكتور م. محمد حسين".(18/139)
متزوجة، وهو على شاكلة "امرئ القيس" يطيب له أن يصور صاحبته متزوجة، تخون زوجها، وتقدم له الحب واللذة، لأن في الاتصال بالمتزوجة مجازفة من الرجل ومن المرأة، والمجازفة من سيماء العشاق الفرسان الشجعان.
وقد تمكن الأعشى باتصاله بملوك الحيرة والغساسنة، وبقيس بن معد يكرب، وسلامة ذي فائش وبسادة نجران، وبهوذة، وبأمثالهم من حكام وسادة، من الحصول على مال طيب، ومن التمتع بمشاهدة مجالس أولئك السادة، ومن الشرب بصحاف الذهب والفضة، ومن أكل أكلات الحضر، التي لا يعرفها إلا أصحاب المال والترف، ومن الاستمتاع بسماع الغناء العربي والأعجمي، ومن التأثر بالحياة الرفيعة التي يحياها أهل الحضر. فأثرت تلك الحياة فيه. وصار يقبل عليها ويبحث عنها في كل مكان. وما الحياة تلك إلا اللهو بالخمر والنساء والطعام الطيب، حتى كان يتلف ماله في سبيلها، إن عسر الحصول عليها بغير ثمن.
وهو في شعره صريح يعلن فيه حبه لجمع المال، لا يخشى من التصريح به أحدا، ولعله كان يريد الإعلان عن ذلك، ليرزقه الناس من عندهم، ويزيدوا في ماله. نراه يقول:
وطوفت للمال آفاقها ... عمان وحمص فأوريشَلَم
أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم
فنجران فالسرو من حمير ... فأي مرام له لم أرم
ومن بعد ذلك إلى حضر موت ... فأوفيت همي وحينا أهم1
ثم هو يعدد المواضع التي زارها فيقول:
ألم ترني جولت ما بين مأرب ... إلى عدن فالشأم والشأم عاند
وذا فائش قد زرت في متمنع ... من النيق فيه للوعول موارد
ببعدان أو ريمان أو رأس سَلْيَة ... شفاء لمن يشكو السمائم بارد
وبالقصر من أرياب لو بتَّ ليلة ... لجاءك مثلوج من الماء جامد
ونادمت فهدا بالمعافر حقبة ... وفهد سماح لم تشبه المواعد
__________
1 الصفة "224"، ديوان الأعشى القصيدة رقم "4"، والقصيدة رقم 63.(18/140)
وقيسًا بأعلى حضرموت انتجعته ... فنعم أبو الأضياف والليل واكد1
ويظهر من الشعر المتقدم أنه طاف بلادا كثيرة، فيها أرض العجم، وأرض النبط، وبلغ حمص و"أورشليم"، أي القدس، وعمان، وزار جزيرة العرب حتى وصل حضرموت واليمن، وعبر إلى "النجاشي" في داره. وهي أسفار بعيدة متعبة بالنسبة لذلك الوقت، وربما كان هذا الشعر مما أقحم عليه.
وله أشعار كثيرة في مدح "قيس بن معد يكرب"2، الذي كان يرزقه ويغدق عليه المال، وهو لا يجد غضاضة من التصريح في مدحه له أن لا يحرمه من نداه الجزيل. ولهذا عده علماء الشعر أول من سأل بشعره، وابتذل نفسه في السؤال، وأسرف في الترحال من أجل جمع المال. ومن شعره في "قيس" وفي الاستجداء منه، قوله:
ونبئت قيسا ولم أبله ... كما زعموا خيرا أهل اليمن
فجئتك مرتاد ما خبّروا ... ولولا الذي خبروا لم ترن
فلا تحرمني نداك الجزيل ... فإني إمرؤ قبلكم لم أهن
وهي قصيدة نونية، موجودة في ديوانه3.
وللأعشى قصيدة في مدح "أبي الأشعث بن قيس" الكندي. والأشعث اسمه "معد يكرب" كان أبدا أشعث الرأس فسمي الأشعث، وهو من الصحابة، وفد على النبي سنة عشرة وأسلم، وكان شريفا مطاعا جوادا شجاعا، وهو أول من مشت الرجال في خدمته وهو راكب، وكان من أصحاب "علي" في وقعة صفين. ومن شعر الأعشى في مدح "أبي الأشعث"، وهو "قيس بن معد يكرب" قوله:
__________
1 الصفة "100، 225" الإكليل "2/ 102".
2 تأريخ ملوك العرب الأولية "124".
3 ديوان الأعشى "15"، "أوروبا"، شرح ديوان الأعشى "ش"، رسالة الغفران "218"، وله قصيدة مطلعها:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن يزارا
في مدحه أيضا، راجع ديوانه "ص35"، "أوروبا"، رسالة الغفران "227".(18/141)
من ديار هضب كهضيب القليب ... فاض ماء الشئون فيض الغروب
أخلفتني بها قتيلة ميعا ... دي وكان للوعد غير مكذوب
وكان الأعشى، إذا زار اليمن تخرف بـ "أثافت"، وكان له بها معصر للخمر يعصر فيه ما أجزل له أهل "أثافت" من أعنابهم. وقد ذكرها "الأعشى" في شعره، إذ قال:
أحب أثافت وقت القطاف ... ووقت عصارة أعنابها
وكانت تسمى "درني" في الجاهلية. وإياها التي ذكرها الأعشى بقوله:
أقول للشرب في درني وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل2
وذكر غير "الهمداني" أن "درني" المذكورة في شعر الأعشى، هي ناحية من شق اليمامة. قال الأعشى:
حل أهلي ما بين درني فبادو ... لي وحلت علوية بالسخال
فهي ليست بـ "أثافت"، كما ذكر ذلك "الهمداني"3. نجد الهمداني يذكر "درنا" في مواضع اليمامة. ولما كان "الهمداني" من العلماء بمواضع جزيرة العرب، فلا أعتقد أنه وهم حين ذكر قول "الرئيس الكباري"، إن "درني" هي "أثافت"، فلعل "درني" غير "درنا" اليمامة4.
وقد هجا "الأعشى" "علقمة بن علاثة" من سادات "بني عامر" وأشرافهم. وكان سبب ذلك، أنه مدح "الأسود" العنسي، فأعطاه خمسمائة
__________
1 الخزانة "2/ 463 وما بعدها"، "بولاق".
2 ديون الأعشى "ف"، "دكتور م. محمد حسنين"، "وأثافت وتسمى أثافة بالهاء وبالتاء أكثر، وخبرني الرئيس الكباري من أهل أثافت قال: كانت تسمى في الجاهلية درني وإياها التي ذكرها الأعشى بقوله:
أقول للشرب في درني وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل
الصفة للهمداني "66".
3 تاج العروس "9/ 189"، "درن".
4 الصفة "137".(18/142)
مثقال ذهبا وخمسمائة حللا وعنبرا، فخرج، فلما مر ببلاد "بني عامر" وهم قوم "علقمة" و"عامر بن الطفيل"، خافهم على ما معه، فأتى "علمقة بن علاثة"، فقال له: أجرني! قال قد أجرتك من الجن والأنس. قال الأعشى ومن الموت. قال: لا فأتى "عامر بن الطفيل"، فقال له: أجرني! قال: قد أجرتك من الجن والأنس. قال الأعشى: ومن الموت! قال عامر: ومن الموت أيضا. قال: وكيف تجيرني من الموت؟ قال: إن مت في جواري بعثت إلى أهلك الدية. قال: الآن علمت أنك قد أجرتني. فحرضه عامر على تنفيره على علقمة، فغلبه عليه بقصائد. فلما سمع علقمة نذر ليقتلنه إن ظفر به. فقال الأعشى قصيدة مطلعها:
شاقك من قيلة أطلالها ... بالشط فالجزع إلى حاجر
ولما نذر "علقمة" دم الأعشى جعل له على كل طريق رصدا. فاتفق أن الأعشى خرج يريد وجها ومعه دليل فأخطأ به الطريق، فألقاه على ديار بنى عامر بن صعصعة، فأخذه رهط "علقمة" فأتوه به. فقال له علقمة: الحمد لله الذي مكنني منك، فقال الأعشى:
أعلقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما أنت لي منقص
فهب لي ذنوبي فدتك النفوس ... ولا زلت تنمي ولا تنقص
في أبيات، فعفا عنه، فقال الأعشى ينقض ما قال أولا:
علقم يا خير بني عامر ... للضيف والصاحب والزائر
والضاحك السن على همه ... والغافر العثرة للعاثر1
وكان "عامر بن الطفيل" لما نافر "علقمة" خرج مع لبيد الشاعر والأعشى، فحكما "أبا سفيان"، فأبى أن يحكم بينهما، فأتيا "عيينة بن حصن" فأبى، فأتيا "غيلان بن سلمة" الثقفي، فردهما إلى "حرملة بن الأشعر" المرّي، فردهما إلى "هرم بن قطبة" الفزازي، فحكم بتساويهما في الشرف والمنزلة.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 182"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 43 وما بعدها".(18/143)
ولم يفضل فانصرفا على ذلك1.
ويقال إن النبي قال لحسان: يا حسان أنشدنا من شعر الجاهلية ما عفا الله لنا فيه؟ فأنشده حسان قصيدة الأعشى في علقمة بن علاثة:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
فنهى النبي حسان عن تلاوتها. وذكر أن النبي رخص في الأشعار كلها إلا هاتين الكلمتين: كلمة أمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وكلمة الأعشى في علقمة بن علاثة2.
وقد اختلفت الروايات في "علقمة" فرواية تذكر أنه أسلم وصحب الرسول، ورواية تذكر أنه لم يسلم، وأنه كان عند "قيصر"، وأنه أثنى أمامه على الرسول حين كان عنده، بينما تناول أبو سفيان منه، ورواية تذكر أنه أسلم ثم ارتد ولحق بالشام، ثم عاد إلى الإسلام، ورواية تذكر أن "عمر" استعمله على "حوران"، فمات بها. وقد رثاه "الحطيئة" بقصيدة، وكان قد ذهب إليه لنيل نواه، فوجده قد مات، وقد أوصى له بجائزة في حياته، فأعطاه ابنه مائة ناقة يتبعها أولادها.
ولما كان الأعشى تاجرا من تجار الشعر، اتخذ الشعر متجرا يتاجر به، فيمدح من يعطيه، ويهجو من لا يحسن إليه ويصله، لذلك صار شعره في الرجال الذين اتصل بهم، بين مدح وبين هجاء.
وقد أفادنا "الأعشى" فائدة كبيرة في ذكر أسماء المواضع التي مر بها في شعره. وقد اقتبس "الهمداني" بعض شعره التعلق بهذا الموضوع التي مر بها في شعره. وقد اقتبس "الهمداني" بعض شعره المتعلق بهذا الموضوع. كما أورد شعرا لغيره يتعلق بالمواضع، انفرد به في بعض الأحيان. ومما ذكره من شعر الأعشى في بعض مواضع اليمامة، قوله:
قالوا نُمارٌ فبطن الخال جادهما ... فالعسجدية فالأبلاء فالرجل
__________
1 الإصابة "2/ 496 وما بعدها"، "5676".
2 الخزانة "2/ 43"، "بولاق"، الإصابة "2/ 496"، "رقم 5677".
3 الإصابة "2/ 497 وما بعدها"، "رقم 5677".(18/144)
فالسفج يجري فخنزير فبُرْقته ... حتى تتابع فيه الوتر والحبل1
ونجد في شعر الأعشى قصصا من قصص أهل الجاهلية، من ذلك ما رواه عن سد "مأرب" في قصيدته التي يقول فيها:
ففي ذلك للمؤتسي أسوة ... ومأرب قفّى عليه العرم
رخام بنته لهم حمير ... إذا جاءه ماؤهم لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم لم يرم2
وهي أبيات نظمت على طريقة ذلك الوقت في ذكر نكبات الماضي، وما حل بالقبائل والمدن والقرى من مصير سيئ، لاتخاذها درسا وعبرة للأحياء. وهي لذلك تكون ذات صبغة أدبية أخلاقية، لا يهتم فيها للتأريخ ولواقع الأحداث، وإنما للقص والتأثير في العواطف والقلوب.
ومنها قصيدته التي ذكر فيها من أهلكه الدهر من الجبابرة ومطلعها:
ألم تروا إرما وعادا ... أفناهم الليل والنهار
وقبلهم غالت المنايا ... طسما فلم ينجها الحذار
وحل بالحي من جديس ... يوم من الشر مستطار
وأهل جو أتت عليهم ... فأفسدت عيشهم فباروا
فصبحتهم من الدواهي ... نائحة عقبها الدمار
وقد روى أهل الأخبار قصص هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الأعشى في شعره، وقد رصعوها على عادتهم بالشعر، نسبوه إلى أبطال ذلك القصص3.
وأشار "أبو العلاء" المعري إلى شعر نسب للأعشى أوله:
أمن قَتْلَةَ بالأنقا ... ء دار غير محلوله
كأن لم تصحب الحي ... بها بيضاء عطبوله
__________
1 الصفة "137".
2 ديوان الأعشى البيت "67" وما بعده من القصيدة رقم 4.
3 الخزانة "1/ 347 وما بعدها"، "بولاق".(18/145)
أناة ينزل القوسى ... منها منظر هوله
وما صهباء من عانة ... في الذارع محموله
تولي كرمهاأصهـ ... ـب يسقيه ويغدو له
ثوت في الخرس أعواما ... وجاءت وهي مقتوله
بماء المزنة الغرا ... ء راحت وهي مشموله
بأشهى منك للظمآ ... ن لو أنك مبذوله
فنفى على لسان الأعشى أن يكون من شعره، أو أن يكون قد صدر عنه1.
وقد ورد في بعض الأخبار أن الأعشى كان نصرانيا. ويرى "بروكلمان" أن من الجائز أن يكون نصرانيا، غير أن نصرانيته لم تكن مؤثرة عليه، وهو إذا كان قد تحدث عن الله وعن البعث، وعن الحساب ويوم الدين، فقد تحدث غيره عن هذه الأمور أيضا ولم يكن من النصارى2. ونحن لا نكاد نجد في شعره ما يؤيد كونه نصرانيا صحيحا قويم الدين، له علم بأحكام شريعته ونواهيها، ولعل نصرانيته الوحيدة البادية عليه، هي في حلفه برهان دير هند، وإشارته إلى عيد الفصح وإلى طوفان نوح، وزيارته "بني الحارث بن كعب" سادة نجران، وهم نصارى، وتشبيهه "قيس بن معد يكرب" بالرهبان في عدله وتقواه3. وقوله:
وإني ورب الساجدين عشية ... وما صك ناقوس النصاري أبيلها4
وقوله:
ربّي كريم لايكدر نعمة ... وإذا يناشد بالمهارق أنشدا5
__________
1 رسالة الغفران "211 وما بعدها".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 147 وما بعدها، القصيدة رقم 15 حيث يحلف بثوب راهب اللج.
3 ديوان الأعشى "دكتور م. محمد حسين"، راجع القصيدة رقم 5 من مدح قيس بن معد يكرب الكندي، والقصيدة رقم 15.
4 القصيدة رقم 23.
5 القصيدة رقم 34.(18/146)
ولكننا نجده يقسم بالكعبة إذ يقول:
إني لعمر الذي خطت مناسمها ... تخدى وسيق إليه الباقر الغيل1
ويقول:
وإني وثوبي راهب اللّج والتي ... بناها قصيّ والمضاض بن جرهم
ويقول:
وما جعل الرحمن بيتك في العلا ... بأجياد غربي الفناء المحرم2
وورد أن الأعشى كان يقول بالقدر. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى، وكان نصرانيا عباديا، وكان معمرا، قال: كان الأعشى قدريا، وكان لبيد مثبتا، قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وقال الأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا
قلت: فمن أين اخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبيل العبادين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك"3. وقد جعله "المرتضى" في عداد من كان على مذهب أهل العدل من شعراء الطبقة الأولى لقوله البيت المذكور4.
وقد نسب الأعشى هلاك الإنسان وموته إلى فعل الدهر، إذ يقول:
فاستأثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني ولاأرمي
يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم
__________
1 القصيدة رقم "6".
2 قصيدة رقم "15".
3 الأغاني "8/ 79".
4 أمالي المرتضى "1/ 21"، ديوانه "155".
5 أمالي المرتضى "1/ 46".(18/147)
ومن شعره قوله:
وأرى الغواني لايواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا1
وهو شعر يظهر أنه قاله بعد أن عبث به الكبر، وفقد الشباب، فقاله على عادة الشعراء في ذمهم المرأة حين بلوغهم هذه المرحلة من العمر.
وروي أنه مر بأبي سفيان بن حرب فسأله عن وجهه الذي قدم منه فعرّفه، ثم سأله: أين يقصد؟ فقال: أريد محمدا. فقال: إنه يحرم عليك الزنا والخمر والقمار، فقال له: أما الزنا فقد تركني ولم أتركه، وأما الخمر فقد قضيت منه وطرا، وأما القمار فلعلي أن أصيب منه خلفا. قال: فهل لك إلى خير؟ قال: وما هو قال: بيننا وبينه هدنة فترجع عامك هذا وتأخذ مائة ناقة حمراء، فإن ظهر أتيته، وإن ظهرنا كنت قد أصبت عوضا من رحلتك.
قال: لا أبالي. فانطلق به أبو سفيان إلى منزله وجمع له أصحابه وقال: يا معشر قريش، هذا أعشى بني قيس بن ثعلبة، وقد عرفتم شعره، ولئن وصل إلى محمد ليضربن عليكم العرب بشعره، فجمعوا له مائة ناقة وانصرف، فلما كان بناحية اليمامة ألقاه بعيره فوقصه فمات2.
ويذكر علماء الشعر، أن الأعشى كان قد هيأ قصيدة لينشدها أمام النبي، في صلح الحديبية، فلما صرفه "أبو سفيان" عن الذهاب إلى يثرب لم يقرأها. ومطلع القصيدة:
ألم تغتمض عيناك ليلة أمردا ... وبتَّ كما بات السليم مسهدا3
وهي قصيدة نحلت عليه، ولا يمكن أن تكون من شعر هذا الشاعر الذي لم يتعود على التعمق في جزئيات أمور الدين، ثم إن القسم الخاص بمدح النبي من
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 612".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 240"، الخزانة "1/ 85"، رسالة الغفران "172 وما بعدها".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 576"، القطعة رقم 17 من ديوان الأعشى، الإكليل "2/ 259"، الخزانة "1/ 85 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 178 ما بعدها".(18/148)
هذه القصيدة وبأحكام الإسلام ضعيف الحبك، لا يتناسب مع المطلع ولا مع شعر الأعشى الآخر، ولهذا ذهب أكثر المعاصرين إلى أنها من الشعر المصنوع1. وفيها أمور من المجرمات لايمكن أن يكون الأعشى قد وقف عليها.
ومماجاء في هذه القصيدة:
ألا أيهذا السائلي أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولامن حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تُناخي عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... وأبصرت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا
ولا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا
نبي يرى ما لا يرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا2
وأنت إذا قرأت هذه الأبيات والأبيات الأخرى التي لم أذكرها، فستخرج جازما أنها من الشعر المصنوع المنحول على الأعشى. ففيها نهي عن أكل الميتة، وعن عبادة الأوثان، والحث على الصلاة، وعلى إيصال السائل المحروم وغير ذلك من آراء إسلامية، تجد جذوبها في القرآن.
وذكر أن الأعشى سمى قصيدته المحكمة حكيمة، أي ذات حكمة. فقال:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها3
وقال بعض علماء الشعر: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في
__________
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 148"، طه حسين، في الأدب الجاهلي "258"، فؤاد أفرام البستاني، مجلة المشرق "المجلد 30"، "ص763 وما بعدها"، ديوان الأعشى "134"، "الدكتور م. محمد حسين".
2 وفي رسالة الغفران بعض الاختلاف عما جاءت في ديوانه وفي كتب الأدب، رسالة الغفران "178 وما بعدها".
3 تاج العروس "8/ 255"، "حكم".(18/149)
بيت، وأشجع الناس في بيت، فأغزل بيت قوله:
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
وأخنث بيت قوله:
قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
وأشجع بيت قوله:
قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا ... أو ينزلون فإنا معشر نزل1
ومن جيد شعره قوله:
عهدي بها في الحي قد درعت ... صفراء مثل الهرة الضامر
لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر2
وكان الأعشى سليط اللسان، إذا هجا أقذع، شديدا في هجائه، لذلك كان الناس يخشون جانبه، ويرهبون لسانه، وكان مداحا، يمدح فينال عطاء الممدوحين. وله أسلوب خاص في نظم الشعر، وفي العرض والسبك، وموسيقى النظم، وفي شعره طلاوة، وفي أبياته حلاوة. وقد أبدع في أمور، منها وصف الخمر، ووصف الحمر الوحشية، ولا نجد في شعره مكانة للأطلال والديار، وهو يطيل في النسيب3.
ومن أمثلة ما يروونه عن أثر شعره في الناس، أن رجلا بائسا مسكينا اسمه "المحلق"، كان والد ثمان بنات، ولايملك شيئا سوى ناقة، سمعت زوجته بذكر الأعشى وبمروره منهم في طريقه إلى سوق "عكاظ"، فأشارت على زوجها أن يركض إلى الأعشى ليستضيفه، لعله يمدحه، فيزوج بناته وينال شرف مديحه.
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 967 وما بعدها"، الخزانة "3/ 518"، "بولاق".
2 أمالي المرتضى "1/ 451".
3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 148 وما بعدها".(18/150)
بين الناس. ففعل، وذبح ناقته الوحيدة وأكرمه مع بناته غاية الإكرام، فلما علم الأعشى بسوء حاله، أعد له قصيدة، ألقاها في عكاظ، مطلعها:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق
فلما رأى الناس "المحلق"، وقد حياه الأعشى، أقبل الناس يخطبون منه بناته، فما قام من مقعده حتى خطبت بناته جميعا1.
ولعل خفة عروض شعر الأعشى ومرونته، وما في شعره من ترنيم ورنين، وما فيه من سهولة، تدل على براعة في الشعر، هي التي حملت بعض علماء الشعر على تقديمه على غيره، أو على رفع مكانته بوضعه في طبقة الشعراء الفحول من الطبقة الأولى، غير أن من العلماء من انتقد شعره، وانتقد إكثاره من إدخال الألفاظ الأعجمية في نظمه2.
وكان للأعشى راوية اسمه "عبيد"، كان يصحبه ويروي شعره، وكان عالما بالإبل. ومنه أخذ الرواة أخبار الأعشى وشعره. وكان "سماك" أحد الرواة المتصلين به، وعنه أخذ "حماد" الراوية أخباره عن الأعشى. وعنه أيضا أخذ "شعبة بن الحجاج" أخباره عن "الأعشى". وعن "شعبة" روى "مؤرج بن عمرو السدوسي" "أبو فيد" أحد علماء البصرة المتوفى سنة "195هـ". وعنه أخذ "الرياشي" أخباره عن "الأعشى". و "الرياشي" هو "أبو الفضل" العباس بن الفرج مولى سليمان بن علي الهاشمي. وكان عالما باللغة والشعر كثير الرواية عن "الأصمعي". وقد توفي الرياشي سنة "257هـ"3.
وقد شك علماء الشعر في صحة نسب بعض الشعر إلى "الأعشى". فقد روى "أبو عبيدة" أن "أباعمرو بن العلاء" زاد بيتا على قصيدة:
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ...
واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا
وهو البيت الثاني من هذه القصيدة. وروى غيره أن "حماد" الراوية، هو
__________
1 الخزانة "3/ 211 وما بعدها"، "بولاق".
2 الموشح "49 وما بعدها"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 149".
3 الشعر والشعراء "1/ 181"، الفهرست "92".(18/151)
الفصل الستون بعد المائة: الشعراء الصعاليك
قال صاحب "اللسان": "الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري: ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك، قال حاتم طيء:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر1
"والتصعلك: الفقر. وصعاليك العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى: عروة الصعاليك لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه"2، وقيل: الصعلوك: الفقير، وهو أيضا المتجرد للغارات"3. والصعاليك، قوم خرجوا على طاعة بيوتهم وعشائرهم وقبائلهم، لأسباب عديدة، منهم عدم إدراك أهلهم أو قبيلتهم نفسياتهم، مما سبب نفورهم منهم، وخروجهم على طاعة مجتمعهم، وهروبهم منه، والعيش عيشة الذؤبان، معتمدين على أنفسهم في الدفاع عن حياتهم، وعلى قوتهم في تحصيل ما يعتاشون به، بالإغارة على الطرق والمسالك، وبمهاجمة أحياء العرب المبعثرة، أفرادا أو طوائف، وهم أبدا في خوف من متعقب يتعقبهم، لاسترداد ما أخذ أو سلب، أو متربص يتربص.
__________
1 اللسان "10/ 455 وما بعدها"، "صعلك"، "صادر".
2 اللسان "10/ 456"، "صعلك"، تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".
3 جمهرة أشعار العرب "115".(18/167)
بهم الدوائر ليأخذ منهم ما غنموه بالقوة من غيرهم أو ما قد يجده في أيديهم. ولهذا كانوا يتكتلون أحيانا، بانضمام بعضهم إلى بعض، مكونين جماعات، جمعت بينها وحدة الهدف، وغريزة حماية النفس، والمصلحة المشتركة بعد أن حرمهم أهلهم ومجتمعهم من تقديم أية مساعدة أو حماية لهم، وسحب منهم حق الأخذ بالثأر والانتقام ممن قد يعتدي عليهم، بحق "العصبية"، وبعد أن جعل دمهم هدرا، وتبرأ منهم ومن كل جريرة يرتكبونها، فلا يطالب أهلهم بدمهم، ولا يطالبونهم بأي دم قد يسفحه الصعلوك.
ولا أستبعد أن تكون للمغامرة ولإثبات الشخصية، دخل أيضا في حدوث الصعلكة وفي تمرد الشباب على مجتمعهم، على غرار ما نجده اليوم من تمرد على مجتمعاتهم، لإثبات وجودهم وشخصيتهم في هذه المجتمعات، بطريقة البعث بالعرف والعادات وبعدم المبالاة لأوامر العائلة والمجتمع، مما يجعلهم يسيرون سيرة الصعاليك في ذلك الوقت، فلو نظرنا إلى حالة الصعاليك نجد أن منهم من كان من أسرة متمكنة أو لا بأس بأحوالها المالية، ومع ذلك عاش صعلوكا، لما وجد فيها من مغامرات ومجازفات ومطاردة وهجوم ودفاع. فحب المغامرة، وإثبات الشخصية، من أسباب الصعلكة في الجاهلية كذلك.
والصعاليك بعد، حاقدون على مجتمعهم، متمردون عليه، للأسباب المذكورة، نبتت في أكثرهم عقد نفسية، تكونت عندهم من سوء معاملة المجتمع لهم، ومن سوء فعلهم وتصرفهم الخاطئ تجاه مجتمعهم، فهم حاقدون لا يبالون من شيء ولو كان ذلك سلبا ونهبا وقتل أبناء قبيلتهم وعشيرتهم، لأنهم خلعوا منها، وحرموا من حق الدم، فكان خلعها لهم سبب شقائهم وبؤس حياتهم، فأي حق بقي إذن يمنعهم من الحقد على القبيلة ومن مهاجمة العشيرة؟ ثم إنهم حاقدون على مجتمعهم، لأن منهم فقراء معدومين، لا شيء عندهم يعتاشون عليه، ولا ملابس لديهم تقيهم من الحر أو البرد أو المطر، وكل ما تقع أعينهم عليه، هو مفيد لهم نافع، ومن حقهم بحكم فقرهم انتزاعه من مالكه، وإن كان مالكه فقيرا معدما مثلهم، لأن النفس مقدمة على الغير، وهم يعيبون الخامل منهم الذي يعيش صعلوكا ذليلا قانعا بما كتب عليه من الذل والتشرد، عائشا على صدقات الناس، ويرون الخلاص من هذا الذل بالحصول على المال بالقنا وبالسيف، فمن استعمل سيفه نال ما يريد، لايبالي فيمن سيقع السيف عليه، وإلا عد(18/168)
من "العيال". قال "السليك":
فلا تصلي بصعلوك نَئوم ... إذا أمسى يعد من العيال
ولكن كل صعلوك ضروب ... بنصل السيف هامات الرجال1
"ولذلك كان صعاليك العرب ولصوصهم وأرباب الإغارة منهم يرون أن ما يحوونه من النعم بالغارة، وينالونه بالسرق والسلة، إنما ذلك مال منعت منه الحقوق، ودفع عنه بالبخل والعقوق، فأرسلهم الله إليه وسببه لهم رزقهم إياه، كما قال عروة الصعاليك:
لعل انطلاقي في البلاد وعزمتي ... وشدّي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوما إلى رب هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل2
"وكما أن فيهم من يتمدح ببذل القرى ومعاناة الطوى، وتحمل الكلفة ومواساة ذوي الخلة، فكذلك فيهم البخيل الجامع، واللئيم الراضع، ومن يؤثر التفرد بناره والاستئثار بزاده دون ضيفه وجاره، وينشد لبعضهم:
أعددت للأضياف كلبا ضاريا ... عندي وفضل هراوة من أرزن
وقال الآخر:
وإني لأجفو الضيف من غير بغضة ... مخافة أن يغري بنا فيعود
وقال الأصمعي: مر ابن حمامة بالحطيئة، فقال: السلام عليك. قال: قلت ما لا ينكر. قال: إني أردت الظل. قال: دونك، والجبل حتى يفيء عليك. قال: إني خرجت من عند أهلي بغير زاد. قال ما ضمنت لأهلك قراك. قال: إني ابن حمامة. قال: كن ابن نعامة. فمضى عنه آيسا.
قال: وخرج الحطيئة يوما من خبائه وبيده عصا، فقال له رجل: ما هذه؟ قال: عجراء من سلم. قال: إني ضيف. قال: للضيف أعددتها"3.
__________
1 الشعراء الصعاليك "235".
2 الجمان في تشبيهات القرآن "262 وما بعدها".
3 الجمان في تشبيهات القرآن "260 وما بعدها".(18/169)
والحطيئة من الملحفين في السؤال المستجدين الذين لا يخجلون من الاستجداء. فكان يلح في شعره بالطلب، ويحاول بكل الطرق جمع المال، حتى أهان نفسه، ولم يترك رجلا معروفا إلا ذهب إليه يسأله أن يعطيه مما عنده، فلما عين "عمر" "علقمة بن علاثة" على حوران، قصده "الحطيئة"، فوجده قد مات، فقال:
وما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلا ليال قلائل1
فأعطاه ولده مائة ناقة مع أولادها.
وقد عاب "الأعشى" "علقمة بن علاثة"، بقوله:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا2
وقد وجد الصعاليك في الأغنياء البخلاء، هدفا صالحا لهم. فهؤلاء أصحاب مال، وهم أصحاب جوع، ولا بد للجوعان من أن يعيش، فلم يجدوا في مباغتة الأغنياء أي حرج يمنعهم من السطو على أموالهم، لأنها زائدة عليهم، وهم في حاجة إليها، وبذلك يضمنون لأنفسهم ولإخوانهم الجياع الصعاليك أسباب الحياة، فالحاجة عندهم تبرر الواسطة، وإذا امتنع إنسان على صعلوك وأبى تسليم ما عنده إليه، فهو لا يبالي من قتله، فالقتل ليس بشيء في نظره، منظره مألوف، والفقر ذاته قتل للإنسان، بل أشد فتكا به من القتل، والصعلوك نفسه لا يدري متى يقتل، فلا عجب إذا ما رأى القتل وكأنه شربة ماء.
وكان "أبو عبيدة"، لا يستأنس بسماع شعر الصعاليك، لأنهم فقراء، قال "أبو حاتم": "جئت أبا عبيدة يوما، ومعي شعر عروة بن الورد، فقال: فارغ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير"3، فهو من المحبين للأغنياء، وما الذي يجنيه من الفقراء! وكان "أبو مالك عمرو بن كركرة" البصري، مثل "أبي عبيدة" في الابتعاد عن الفقراء، بل كان أشد منه تعصبا عليهم،
__________
1 الجمان في تشبيهات القرآن "288".
2 الجمان في تشبيهات القرآن "259".
3 أمالي المرتضى "1/ 638".(18/170)
قال الجاحظ: "كان أحد الطياب، يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء. ويقول إن فرعون عند الله أكرم من موسى"1. و "ابن كركرة" أعرابي، وكان مرجع الأعراب الوافدين إلى البصرة، وقد تحدث عنه "الجاحظ" في كتبه.
وقد عرف الصعاليك بـ "الذؤبان" وبـ "ذؤبان العرب"، "وذؤبان العرب لصوصهم وصعاليكهم وشطارهم الذين يتلصصون ويتصعلكون، لأنهم كالذئاب"2.
وعرفوا باللصوص لأنهم كانوا يتلصصون. واللص السارق، في لغة طيء3، وقيل لهم: "الشطّار". "والشاطر من أعيى أهله ومؤدبه خبثا ومكرا، جمعه الشطار كرمّان. وهو مأخوذ من شطر عنهم، إذا نزح مراغما. وقد قيل إنه مولد"4. وعرفوا بـ "الخلعاء"، والخليع الشاطر، "وهو مجاز سمي به، لأنه خلعته عشيرته وتبرأوا منه، أو لأنه خلع رسنه. ويقال: خلع من الدين والحياء"5.
"وكان في الجاهلية إذا قال قائل مناديا في الموسم: يا أيها الناس! هذا ابني قد خلعته، وذلك إذا خاف منه خبثا أو خيانة، أو من هو بسبيل منه، فيقولون: إنا قد خلعنا فلانا، أي فإن جر لم أضمن، وإن جر إليه لم أطلب. يريد تبرأت منه. وكان لا يؤخذ بعد بجريرته وهو خليع"6. و "الخلعاء" جماعتهم.
"واختلعوه إذا ذهبوا بماله"7. ولعل لهذا التفسير صلة بالصعلكة التي تعني الفقر، فالفقر والإملاق والجوع من أهم الملازمات التي لازمت ورافقت الصعاليك، وفي هذا المعنى أيضا ما جاء في كتب اللغة: "وشفر المال تشفيرًا: قل وذهب"8، ولعل للفظة "الشنفرى"، صلة بهذا المعنى، وقد تكون للفظة "الرجل" التي تعني البؤس والفقر9، صلة بهذا المعنى كذلك. فقد عرف الصعاليك بـ "الرجليين".
__________
1 الفهرست "72".
2 تاج العروس "1/ 248"، "ذاب"، الخزانة "3/ 532".
3 تاج العروس "4/ 432"، "لص".
4 تاج العروس "3/ 299"، "شطر".
5 تاج العروس "5/ 321"، "خلع".
6 تاج العروس "5/ 321"، "خلع".
7 تاج العروس "5/ 322"، "خلع".
8 تاج العروس "3/ 308"، "شفر".
9 تاج العروس "7/ 338"، "رجل".(18/171)
وبـ "الرجيلاء"، وعرف الواحد منهم بـ "الرجليّ"1، وقد تكون للفظة "الخلع" صلة بالفقر والإملاق كذلك، بدليل ما ذكروه في تفسير "المعيل" من قولهم: "المعيل: الذي قصر ماله وعليه عيال"2. وقد عرف الصعاليك بـ "الرجليين" لاستعمالهم أرجلهم في الإقدام والهروب، لأنهم فقراء لا يملكون غير أرجلهم تحملهم إلى المواضع التي يريدون سرقتها، إذ لا خيل لهم يركبونها لعجز أكثرهم عن شرائها، فلا يكون أمامهم غير الاعتماد على الرجل.
والجوع حليف ملازم للصعاليك، لم ينفر منهم، ولم يبتعد عنهم لذلك كثر الحديث عنه في شعرهم وفي أخبارهم. وقد كانوا يهربون منه، لكنهم لم يفلتوا منه. فقد كان ممسكا بهم، ملازما لهم، ما داموا صعالكة، فالجوع نفسه جزء من أجزاء الصعلكة. وفي شعر "عروة بن الورد" أن الجوع كان ينزل به، حتى يكاد يهلكه، أنزل به الهزال، وأراه الموت، لولا أنه كان يتهرب منه بالغارة، لينال منها البلغة، فالمنايا خير من الهزال المقيت المميت3. وفي شعر للسليك بن السلكة، أن الجوع كان يغشاه في الصيف، حتى كان إذا قام تولاه إغماء شديد، يريه الدنيا ظلاما من أثر الجوع4.
وما دامت حياة الصعلكة جوع وفقر، وإملاق وهروب من متعقب، فالموت خير للصعلوك من حياة يعيشها فقيرا، لا أقارب له تعطف عليه، ولا أهل يشفقون عليه، ولا قوم يراجعونه ويتعهدونه بالحماية5، حياته موحشة قاسية، تفور بالأخطار والتهلكة والمغامرات، لايدري متى يأتيه الموت ومن أين يأتيه، إذا نام، خاف من غادر قد يغدر به، ومن متعقب يتعقب أثره، ومن طالب ثأر يريد الأخذ بثأره، ومن حيوان صعلوك مثله، يريد أن يقضي على
__________
1 تاج العروس "7/ 339"، "رجل"، "أجارت السليك بن السلكة السعدي، وكان رجليًّا"، المحبر "433".
2 تاج العروس "5/ 321"،"خلع".
3
أقيموا بني لبني صدور ركابكم ... فإن منايا القوم خير من الهزل
ديوان عروة "106".
4 الأغاني "18/ 135".
5
إذ المرء لم يبعث سواما ولم يرح ... عليه ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من حياته ... فقيرا ومن مولى تدب عقاربه
ديوان عروة "150"، وينسبان لغيره، حماسة أبي تمام "1/ 166، 167".(18/172)
جوعه بافتراسه، وهو معذور في ذلك لأنه جائع لا طعام له، ومن هنا هان الموت في نظر الصعلوك، فهو معه يتبعه مثل ظله وملازم له، وتولدت في نفسه فلسفة "الآجال": فلسفة أن لكل نفس أجل، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الإنسان مهما عاش وعمر، فلا بد من أن يلاقي الموت ويستجيب له، لن ينجيه منه قصر "ريمان"، ولا حرس أبوابه المدججون بالسلاح، يمنعون الناس من دخوله، فالموت لايعرف جرس القصور ولا يحول بينه وبين من يريد الوصول إليه حائل مهما كان. قال أبو الطمحان القيني:
ولو كنت في ريمان تحرس بابه ... أرجايل أحبوش وأغضف آلف
إذن لأتتني حيث كنت منيتي ... يخب بها هاد بامري قائف1
ولقرب الموت من الصعاليك، ولتعقب أصحاب الثأر دوما لهم، لازموا سلاحهم، فكانوا لا ينامون إلا وسيفهم معهم. كما لازمهم الرقاد والسهر بالليل، خشية مباغتة غادر لهم، والليل رفيق الغدر، لذلك كان ليلهم قصيرا، ونومهم قليلا، من شدة قلقهم ومن تحسبهم لتعقب طلاب الثأر لهم، ونجد في شعرهم إشارات إلى مظاهر القلق الذي كان يستولي عليهم، فيحول بينهم وبين النوم.
ونجد في شعر للشنفرى توجع وتألم ومرارة، وإن صيغ بصورة الاستهتار بالموت وبالحياة، فهو إن جاءه الموت، فلن يبالي، ولمَ يبالي، وهو إنسان خليع بائس، إن مات لا يجد من يبكي عليه من أحد. فأي توجع أشد من هذا التوجع المصوغ في هذا البيت الساخر:
إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها ... ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي2
ولكن الحياة على ما فيها من مرارة وشقاء، مطلوبة محبوبة، فرب لحظة فيها حبور تنسي كل ما كابده الإنسان من تعاسة وشقاء، والموت مكروه ممقوت، وإن تمناه المتمني، وما تمنيه له إلا لثورة طارئة في النفس ولضيق في الصدر، فإذا بان الموت لمتمنيه ضاق صدره، وتمنى لو مد في عمره، يدفعه الأمل إلى
__________
1 الأغاني "11/ 133".
2 الأغاني "21/ 139"، الشعراء الصعاليك "33".(18/173)
التفكير في احتمال تغير الأوضاع، وتحسن الحال، والحصول على الغنى والمال، بشرط أن يسعى ويضرب في الأرض وأن يكون صادق العزيمة، لايخور أمام المصائب مهما كانت شديدة عاتية ولا ينهار منها:
فسِرْ في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا1
وقد كان عماد الصعلوك في حياته، قوته الجسدية وسلاحه الذي يحارب به، وجماعته الذين يأوي إليهم، وكان يقاتل بضراوة، قتال المستميت، لأنه إن لم يدافع عن نفسه، هلك، إذ لا أمل له في وجود عصبية تدافع عنه، أو أهل يقومون بافتدائه وتخليصه من أسر إن وقع فيه، وسبيله الوحيد لخلاصه عند قيامه بغارة: المباغتة والهرب بما قد يحصل عليه بسرعة، كي يأمن العاقبة، وعمل الحيلة في التخلص من المأزق، لكيلا يقع في أيدي متعقبه، فيكون بذلك هلاكه، وفي جملة ذلك الفرار، للنجاة بالنفس من موت محتم. وهو فرار يؤدي به إلى معاودة الغارة والتلصص، إذ لا مورد له في هذه الحياة يتعيش منه غير هذين الموردين. فحاله في هذا الفرار حال "أبي خراش" الهذلي حيث يقول:
فإن تزعمي أني جبنت فإنني ... أفر وأرمي مرة كل ذلك
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك2
ونظرا لفقر الصعاليك، وعدم وجود مال لديهم يكفل لهم شراء فرس يركبونها في غاراتهم، اعتمد أكثرهم على أرجلهم في طلب رزقهم، وفي الحصول على معاشهم، وعلى خفة حركاتهم، وسرعتهم في الهروب من تعقب المتعقبين لهم في حالتي الفشل أو النجاح. وكان من بينهم من ضرب به المثل في زمانه في شدة العدو، وفي سرعة الركض، ورويت عنه الأقاصيص في ذلك. منهم "سليك بن المقانب بن السلكة"، وهو عدّاء بالغ. يقال: أعدى من السليك3. وقد عرفوا لذلك بـ "العدائين" لشدة عدوهم4، جمع "عداء"، ومنهم أيضا
__________
1 ديوان عروة "191".
2 ديوان الهذليين "2/ 169"، الدكتور يوسف خليف، الشعراء الصعاليك "40".
3 تاج العروس "1/ 409"، "غرب".
4 الخزانة "2/ 17".(18/174)
"الشنفرى": "شاعر عداء. ومنه المثل: أعدى من الشنفرى"1، وكان من العدائين. وفي المثل: أعدى من الشنفرى"2. كما عرفوا بـ "الرجليين" وبـ "الرجيلاء"، وهم "قوم كانوا يعدون. كذا في العباب. ونص الأزهري: يغزون على أرجلهم، الواحد رجليّ محركة أيضا ... وهم سليك المقانب، وهو ابن سلكة، والمنتشر بن وهب الباهلي، وأوفى بن مطر المازني"3، "والرجلة بالفتح وبالكسر: شدة المشي، أو بالضم القوة على المشي، وفي المحكم: الرجلة بالضم المشي راجلا"4. وقد صار العدو من أهم صفاتهم ومميزاتهم التي امتازوا بها عن غيرهم، حتى قيل إن الخيل لم تكن تلحق بهم. ونعتوا بأنهم كانوا أشد الناس عدوا، وأنهم "لا يجارون عدوا"، و "لا يلحقون"5. ومن العدائين: "تأبَّط شرًّا"، و"عمرو بن البراق"، و "أسيد بن جابر"6. وورد أن العرب كانت تضرب بالسليك المثل في العدو، وتزعم أنه والشنفرى أعدى من رئي7.
وضرب المثل بسرعة عدوهم، واتخذ القصاص من شدة عدو الصعاليك مادة أدخلوها في قصصهم، وبالغوا فيها لتناسب طابع القص وأسلوبه، وقد وجد بعضه سبيلا إلى كتب الأخبار والأدب والعجائب والنوادر. وتؤلف المبالغات في سرعتهم وعدوهم أهم عنصر في القصص الذي يتحدث عنهم، نجد فيها أن الصعلوك يسابق الخيل، فيسبقها، هذا "أبو خراش" الهذلي، يدخل مكة، فوجد "الوليد بن المغيرة" المخزومي، يهم بإرسال فرسين له إلى "الحلبة" فيقول له: ما تجعل لي إن سبقتهما؟ قال: إن فعلت فهما لك، فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما"8. وهذا "تأبط شرا" يوصف بأنه: كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر
__________
1 تاج العروس "3/ 318"، "الشنفيرة".
2 تاج العروس "3/ 308 "، "شفر".
3 تاج العروس "7/ 339"، "رجل"، ثمار القلوب "135".
4 تاج العروس "7/ 336"، "رجل".
5 الأغاني "12/ 49"، "18/ 133 وما بعدها"، المرزباني "468"، الخزانة "2/ 16".
6 تاج العروس "3/ 308، 318"، "شفر"، "شنفر".
7 ثمار القلوب "134".
8 الأغاني "21/ 57".(18/175)
إلى الظباء، فينتفي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله"1. إلى غير ذلك من قصص وحكايات.
وقد فخر العداؤون بشدة عدوهم، وتباهوا بمقدرتهم على العدو السريع، حتى إنهم نسبوا سبب نجاتهم من الموت إلى عَدْوهم هذا، لا إلى قتالهم وشجاعتهم، وبالغوا في شعرهم به، حتى ذكروا أنهم كانوا يسبقون الخيل والظباء بل الطير2. هو نوع من "البطولة" في مفهوم الصعاليك، حتى إنهم -كما قلت- فضلوه على الشجاعة، وإذا كانت الشجاعة ضرب من الإقدام وإظهار المقدرة والرجولية؛ فالركض فرارًا نوع من البطولة أيضا، فيه مقدرة وشجاعة في ضبط الأعصاب وفي التصميم والإقدام على السلامة والنجاة بالنفس وبقاء الحياة وهكذا وجدوا لفرارهم عذرا اعتذروا به، فهم إن اختاروا الفرار وفضلوه على المعاركة والقتال فإنما اختاروه لأنه فيه أمل المعاودة إلى قتال جديد، ثم إنهم لا يرون سببا يدعو الإنسان إلى أن يرمي نفسه في المهالك، وأن يكون طعاما للوحوش الكاسرة3.
فليس في الهروب جبن، وليس في الإقدام شجاعة، والعاقل من اتعظ فنجى نفسه من الموت، وفي النجاة شجاعة.
وقد كان لسرعة عدو الصعاليك العدائين فضل كبير عليهم في النجاة من المهالك المحتمة، هذا "تأبط شرا"، يذكر في شعر له أنه وقع في فخ في موضع "العيكتين"، وكاد يهلك، لولا استعانته بالركض، ولا أحد أسرع منه، وبذلك نجا وخلص من الوقوع في داهية4. فلا عجب إذن، إذا ما افتخروا بسرعة عدوهم، وجاهروا بما لأرجلهم من فضل ومنة عليهم. فلولا العدو لما خرج "أبو خراش" سالما من موت كان قد أحاق به، ولكنه غلب الموت بشدة عدوه وهروبه منه، فعاد سالما إلى حليلته، فاستقبلته ابنته بقولها:
سلمت وما إن كدت بالأمس تسلم
وأنقذ بذلك ابنة "خراش" من الوقوع في اليتم5.
__________
1 الأغاني "18/ 210".
2 الشعراء الصعاليك "209 وما بعدها".
3 الشعراء الصعاليك "209 وما بعدها".
4 المفضليات "7 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "42".
5 الأغاني "21/ 56 وما بعدها"، ديوان الهذليين "2/ 148".(18/176)
فلا عجب إذن، إن رأينا"الحاجز الأزدي"، يفدي رجليه بأمه وخالته، وهو فداء في نظرنا غريب، لكنه ليس بغريب، بالنسبة إلى إنسان رجلاه رأسماله في هذه الحياة، بفضلهما سلم من المهالك، وحصل على قوته، ولولاهما لكان من الهالكين:
فدى لكما رجلي أمي وخالتي ... بسعيكما بين الصفا والأثائب1
وكان الصعاليك يغيرون فرسانا كذلك، كانوا يجيدون ركوب الخيل والإغارة عليها، وعد بعضهم من خيرة فرسان الجاهلية، ولعروة بن الورد فرس يسمى "قرمل"2، وللسليك فرس يسمي "النحام"3، وللشنفرى فرس يسمى "اليحموم"4، وقد عرفت هذه الأفراس بشدة عدوها.
والسلاح للصعلوك، هو الحماية التي يتقي بها أذى الناس، ويستعين بها في القضاء على خصمه، وهو السيف والقوس والرمح والدرع والمغفر، وكان لا يفارق سلاحه، لأنه لا يدري متى ينقض عليه عدو له فيقتله، فكان لا بد له من حمل سيفه معه، واعتناقه له حين نومه، وقد عد "عروة بن الورد"، و"عمرو بن براقة" السلاح رأسمالهما الذي يتكلون عليه في هذه الحياة5.
ولصعوبة تصعلك الرجل بمفرده، تكتل الصعاليك كتلا، وكونوا لهم فرقا، تكونت من أشتات وأنماط من الرجال، فيهم الحر الثائر، وفيهم الضال الغاوي، وفيهم الأسود العبد، وفيهم القاتل الفاتك. وهم بالطبع من قبائل مختلفة ومن بطون متنافرة. فلا تجمعهم عصبية القبيلة، ولا نخوة العشيرة، ومع ذلك فبينهم رابطة قوية، ووحدة جمعت بينهم، هي وحدة الدفاع عن النفس، والذب عنها، والكفاح في سبيل المعيشة، بأي سبيل، وبأية طريقة وجدت ووقعت، حتى بالقتل. فمن وجد شخصا ومعه مال؛ لا يجد الصعلوك والقاتل سببا أخلاقيا
__________
1 الأغاني "12/ 52".
2 قال عروة:
كليلة شيباء التي لست ناسيا ... وليلتنا إذ مَنَّ ما مَنَّ قرمل
تاج العروس "8/ 79"، "القرمل".
3 ذيل الأمالي، للقالي "188".
4 ديوان الشنفرى، تحقيق الميمني، "لجنة" "ص40".
5 ديوان عروة "207"، الأغاني "21/ 175".(18/177)
يمنعه من قتله للحصول على ماله. فلما كان "عروة بن الورد" في أرض "بني القين" يتربص المارة، فمرت به إبل، فيها ظعينة ورجل يحرسها، خرج إليه "عروة" فرمى الرجل بسهم في ظهره، أرداه قتيلا، واستاق الإبل والظعينة1.
ولما خرج "الأخينس" الجهني فلقي "الحصين" العمري، وكانا فاتكين، وسارا حتى لقيا رجلا من كندة في تجارة أصابها من مسك وثياب وغير ذلك، طمعا به، فاغتره "الحصين" فضرب بطنه بالسيف فقتله، واقتسما ماله، ثم ركبا، وطمع "الأخينس" في مال "الحصين" فتربص به الفرص حتى أخذه على غرة فقتله واستولى على ما كان عنده، في حكاية تروى، وفيه يقول الأخينس على لسان "صخرة" أخت "الحصين":
تساءل عن حصين كل ركب ... وعند جهينة الخبر اليقين2
فالفاتك لا يجد مانعا أخلاقيا يمنعه من الفتك بأي شخص إن وجد عنده المال ووجد له فرصة مواتية، ثم هو لا يمتنع من الفتك حتى بزميله وصاحبه وشريكه في الإغارة والفتك، والتاجر لا يأمن من حراسه ومن مرافقيه حتي يصل مقره، لأن الفقر لا يعرف أخا ولا صديقا وشريكا، قاتل الله الفقر ووقانا شره!
ونجد "تأبط شرا"، يتبجح في شعر ينسب له، فيقول إنه لا يبيت الدهر إلا على فتى أسلبه، أو على سرب أذعره3. ونجد صاحب "لامية العرب"، إن صح أنها للشنفرى، يصف غارة ملأت الرعب في قلب من وقعت عليهم، قام بها في ليلة باردة، عاد منها سالما معافى بغنائم، وهو فرح بما تركه من قتل وسلب وألم في نفوس النساء والأطفال، إذ يقول:
فأيمت نسوانا وأيتمت إلدة ... وعدت كما أبدأت والليل أليل4
ونجد "السليك" يخرج مع صعلوكين يريدون الغارة، فساروا حتى أتوا بيتا متطرفا، ووجد شيخا غطى وجه من البرد، وقد أخذته إغفاءة، ومعه إبله
__________
1 ديوان عروة "113"، "إخراج عبد المعين الملوحي".
2 عيون الأخبار "1/ 181 وما بعدها"، "طبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي".
3 الأغاني "18/ 217".
4 الشعراء الصعاليك "49".(18/178)
ترعى، فأسرع إليه وضربه بسيفه فقتله، ونهبوا إبله، وعادوا بها مسرعين فرحين، خشية شعور الحي بأمرهم وتعقبهم لهم. قتله دون أن يشعر بوخزة ضمير، لقتله إنسانا نائما طاعنا في السن يرعى إبله، وإن وجدناه يبرر فعلته هذه، بأنه لم ينل هذه الإبل إلا بعد أن صكَّه الجوع، واستولى عليه الفقر، فهو قد قام به مضطرا1، والضرورات تبيح المحظورات.
ونرى "صخر الغي" المزني، يقول في شعر له، إنه قتل رجلا من "مزينة" وسلبه ماله، ليقوى به مال رجل فقير، لا يملك مالا:
في المزني الذي حششت به ... مال ضريك تلاده النكد2
وعلى الرغم من هذا العنف، ومن هذه القساوة العنيفة، التي تصل إلى الوحشية نرى عند بعضهم، روحا إنسانية، فيها العطف على الضعيف ومساعدة المحتاج وبذل المال والنجدة، والبر للأهل والأقارب بل وللغريب أيضا. بل نجد هذه الروح أحيانا حتى عند القساة منهم، وسبب ذلك أن الصعالكة في ثورات نفسية، يعيشون عيشة قلقة مضطربة، فإذا كانوا في ثورة جامحة من جوع وحاجة وتألم بما حلّ بهم وبما هم فيه من سوء حال، هاجوا فكفروا بكل شيء، وثاروا على كل شيء وعلي كل أحد، وصاروا لا يبالون بعرف ولا سنة، يقتلون لأتفه الأسباب، لأنهم معرضون أنفسهم في كل لحظة للقتل. ثم إن القتل لا شيء بالنسبة إلى تلك الأيام، وإن تعاظم في نظرنا، فهم في ذلك مثل الأسود الجائعة، لا تعبأ بشيء، وكل همها الحصول على فريسة لتأكلها فتعيش عليها، فإذا وجد الصعلوك غنيمة، وعاد إلى مقره سالما ارتخت أعصابه، وهدأت سورته، وتذكر نفسه وما يقاسيه من ألم وجوع، فيعود إنسانا آخر، بارا بأصحابه حنونا عليهم، نادما على حياة يعيشها جعلته يعيش مثل الوحوش الكاسرة، كريما يعطي مما ناله بقوته وبسلاحه وبذكائه. هذا "عروة بن الورد" و "أبو خراش" الهذلي
__________
1
وما نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف
وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف
الشعراء الصعاليك "182 وما بعدها".
2 الشعراء الصعاليك "238".(18/179)
وغيرهما، فنجد فيهم النقيضين، نجد فيهم القسوة بل الوحشية، ثم نجد فيهم العطف والشفقة والرحمة والإشفاق على الضعفاء، وما الجمع بين النقيضين إلا من واقع هذه الظروف النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية التي كانوا يعيشون فيها.
وفي شعر ينسب إلى "أبي خراش" الهذلي، امتداح للكرم ولكرامة الإنسان في الحياة، وترفع عن المذلة وتباه بإيثار الغير على نفسه، مع أنه فقير صعلوك، فهو يقول:
وإني لأُثوي الجوع حتى يملني ... فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي
وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أرد شجاع البطن قد تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم
مخافة أن أحيا برغم وذلة ... وللموت خير من حياة على رغمِ1
وقد عاش هؤلاء على المباغتة والغارات، فكانوا يتسترون في المواضع الوعرة، في مفارق الطرق وشعاب الجبال حتى إذا مر بهم مار، ووجدوا أن في إمكانهم الحصول على غنيمة، باغتوه، وأخذوا منه ما هو عنده. وقد يغيرون على الأحياء ليلا، فيأخذون ما يجدونه أمامه، ثم يجرون بسرعة حتى لا يدركهم أحد، ليصلوا إلى مواضع آمنة بعيدة عن التعقيب، مثل الكهوف والمغاور والآكام، يأوون إليها ويعشون بها عيشة الخائف المتشرد الهارب من مجتمعه، الحاقد عليه، لأن في قلبه حقدا عليه، لأنه لم يفهمه ولم يفهم سبب نقمته على مجتمعه. وأكثرهم من الشباب الذين خرجوا على طاعة أوليائهم أو على عرف مجتمعهم، أو عوملوا معاملة أشعرتهم أنها أذلتهم وجرحت كرامتهم، فانفصلوا بذلك عن أهلهم وعشيرتهم أو فصلهم أهلهم عنهم، فلم يبق أمامهم من سبيل سوى التصعلك والتشرد.
وكان من هؤلاء مثل "عروة بن الورد" من جمع حوله الصعاليك، ولفّهم حوله، فكان يغزو بالقوي الجسر منهم، فإذا أصابوا مغنما جاءوا به إلى أصحابهم الضعفاء ممن لا يتمكنون أو لا يتجاسرون على الغارة، فيصيبونهم مما أصابوا ويعينونهم بما غنموا، وحياة على مثل هذا الطراز، هي حياة شديدة قاسية ولا شك.
__________
1 ديوان الهذليين "2/ 127"، "دار الكتب"، الأغاني "21/ 42".(18/180)
وقد كانت المرتفعات الصعبة المشرفة على المسالك والطرق الضيقة من أهم الأماكن المحببة إلى نفوس الصعاليك وقطاع الطرق، يجتمعون بالمواضع المشرفة منها على الطرق لمراقبة المارة، من "مرقبة" تخفى معالمها لئلا يراها أو يفطن لوجودها سلاك الطرق، فإذا مروا بها انقضوا عليها منها، وكأنهم هبطوا عليهم من السماء. ونجد لها ذكرا في شعر الصعاليك واللصوص وقطاع الطرق1. وقد اشتهر جبل هذيل بمرقباته، ورد: "والمرقبة جبل كان فيه رقباء هذيل"2.
ونجد في شعر "تأبط شرا" أنه كان يغير على "أهل المواشي" و "أهل الركيب" والحبّ، وعلى "أرباب المخاض"، فعند هؤلاء ما يطمع فيه الفقير الصعلوك من مال وحب يعتاش عليه، ومن نوق حوامل3. ونرى "الأعلم" الهذلي، يذكر أنه يغزو المترف السمين، الذي يعيش بين الستائر والكنيف، بينما هو وأمثاله لا يملكون شيئا، فإذا هاجموه، خاف وانهدّ كيانه4. ولهذا صار الساكنون في الأرضين الخصبة والتجار والسابلة من خيرة الأهداف التي كان يترصدها الصعالكة، لعلمهم بوجود شيء عند أصحابها، أكثر مما يجدونه عند الأعراف الضاربين في البوادي النائية المكشوفة.
ويطمع الصعاليك أيضا بعضهم في بعض، فالحياة جوع وفقر، والفقر كافر لا يعرف عرف "المهنة" ولا مجاملات الصنف، ثم هم أبناء البادية، ومن طبع البادية، أن يغير أبناؤها بعضهم على بعض، للحصول على لقمة العيش، فكان الصعاليك تبعا لهذه السنة يغير بعضهم على بعض، خاصة إذا كانوا صعاليك متعادية. فكان بين صعاليك هذيل وصعاليك فهم، عداء شديد، وحقد دفين، بسبب العداوة بين الحيين5، عداوة مرجعها تجاور الحيين، واختلاف مصالحهما الحيوية، وطمع القبيلتين في "بجيلة"، و "بجيلة" في جوار "الطائف"، وهي غير
__________
1 الشعراء الصعاليك "186 وما بعدها".
2 تاج العروس "1/ 276"، "رقب".
3
فيوما على أهل المواشي وتارة ... لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل
ولكن أرباب المخاض يشفهم ... إذا اقتفروه واحدا أو مشيعا
الأغاني "18/ 217"، حماسة أبي تمام "2/ 28".
4 الشعراء الصعاليك "237".
5 شرح أشعار الهذليين "1/ 233 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "48".(18/181)
بعيدة عن فهم، ولا تبعد منازلها بعدا كبيرا أيضا عن ديار هذيل1.
وكان بين "صخر الغي" الهذلي و "تأبط شرا" عداء شديد. وقد سمى "الهذليُّ" "تأبط شرا" بـ "ابن ترني" ازدراء به. ونجد في الشعر الوارد في هجاء الشاعرين بعضهما لبعض لونا طريفا من ألوان هذا الصراع الذي كان يقع بين الصعاليك2، وهو صراع أسبابه عديدة، صراع متولد من عصبية قبلية، أو من تنافس وتحاسد في الحرفة وعلى الرئاسة والزعامة والصيت والشهرة، أو في طمع كل واحد منهم في الآخر للاستيلاء على ما حصل عليه من مال ليتعيش به. وقد انتشر الصعاليك في كل موضع من جزيرة العرب، ففي كل مكان منها جوع وفقر وصعلكة، حتى صاروا قوة مرعبة مخوفة، لشد بأسهم في القتال، ولمعرفتهم بالمسالك وبمنافذ الطرق وبمداخلها وبأسرار البوادي وخفايا النجاد والجبال، فكانوا أن اتخذوا من الكهوف والمنحدرات والمسترات المشرفة على الأودية والطرق، مواضع رصد واختفاء، يراقبون منها حركات المارة، فإذا وجدوهم دخلوا موضعا صعبا، يمكن حصرهم به، انقضوا عليهم، فأخذوا منهم ما يكون عندهم من متاع هذه الدنيا، ثم هربوا بما غنموا إلى مخابئهم حيث لا يصل إليهم أحد، وإن وجدوا أن السابلة أقوى منهم وأشد بأسا، اتخذوا من الفرار وسيلة للسلامة والنجاة، فلا يلحقهم متعقب، ولايطمع أحد في إصابتهم بمكروه، وهم على علم واسع وخبرة عالية بمجاهل البوادي وبخبايا الأرض وهكذا يكونون في نأي عن التعقيب وفي منجاة من التعقب. ولما سدت السبل في وجه "النعمان بن المنذر" بعد أن غضب كسرى عليه، وأخذ ينتقل من مكان إلى مكان، لجأ إلى "هانئ بن قبيصة" الشيباني، فأجاره وقال: "لزمني ذمامك، وإني مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وأن ذلك مهلكي ومهلكك، وعندي رأي لست أشير به لأدفعك عما تريد من مجاورتي، ولكنه الصواب، فقال هاته، قال: إن كل أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه، إلا أن يكون بعد الملك سوقة. والموت نازل بكل أحد، ولأن تموت كريما خير من أن تتجرع الذل أو تبقى سوقة بعد الملك. امض إلى صاحبك واحمل عليه هدايا ومالا وألق نفسك بين يديه،
__________
1 شرح أشعار الهذليين "1/ 233 وما بعدها".
2 الشعراء الصعاليك "192".(18/182)
فإما أن يصفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن يصيبك، فالموت خير من أن تتلعب بك صعاليك العرب ويتخطفك ذئابها"1، وفي نصيحة هانئ للنعمان، وإشارته فيها إلى "صعاليك العرب" دلالة على انتشارهم في كل مكان. وأنهم صاروا خطرا على الأمن، يحسب له كل حساب.
ولما خلع "امرؤ القيس"، وصار ضليلا خليعا، "جمع جمعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها"2، وأخذ يغير بهم على أحياء العرب، وما كان "امرؤ القيس" ليجمع جمعهم ويحزبهم حزبه لو لم تكن في نفسه حاجة إليهم، فقد كانوا قوة، وقد صاروا رعبا يخيف الناس، كالذي كان في جبل "تهامة" من تكتل خليط من كنانة ومزينة والحكم والقارة والسودان، من تكتلهم وتحزبهم وأخذهم من كان يمر بالغارة والنهب والسلب، بقوا على ذلك أمدا ثائرين على مجتمعهم، حتى ظهر الإسلام، فكاتبهم الرسول، وأمنهم أنهم أن آمنوا وأقاموا الصلاة، وصدقوا، "فعبدهم حر، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يردّ إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"3. فهم قوم متمردون ثائرون لايعطون أحدا طاعة، إلا طاعة أنفسهم والمترئس فيهم. ولعل هذا هو الذي حدا بأهل النسب والأخبار أن يقولوا: "والخلعاء: بطن من بني عامر بن صعصعة ... كانوا لا يعطون أحدا طاعة"4.
وهكذا وضع "الصعاليك" أنفسهم في خدمة من يريد استخدامهم لتحقيق أهدافه التي يريدها، مقابل ترضيتهم وإعاشتهم، كما يفعل الجنود المرتزقة هذا اليوم من خدمة الدول الأجنبية، بانضمامهم إلى الفرق الأجنبية، كما هو الحال في "فرنسا" مثلا لاستخدامهم في القتال.
وقد جعلت حياة التشرد والغارات والهروب والفرار إلى مواضع بعيدة نائية وفي مجاهل البوادي، الصعاليك من أعلم الناس بدروب جزيرة العرب، وبالمواضع
__________
1 الأغاني "2/ 126"، الخزانة "1/ 185 وما بعدها".
2 الخزانة "3/ 532"، "جمع جمعا من بني بكر بن وائل وغيرهم من صعاليك العرب"، معاهد التنصيص "1/ 5".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 278"، "صادر".
4 تاج العروس "5/ 321".(18/183)
الصعبة منها بصورة خاصة. وقد وصف "السليك"، "البعيد الغارة" بأنه "أدل من قطاة"، ونعت الصعاليك جميعا بأنهم "أهدى من القطا"1، وافتخر الصعالكة أنفسهم بأنهم كانوا يعرفون عن خفايا البوادي والجبال ما لا يعرفه أحد غيرهم، وبذلك كانوا ينجون أنفسهم من تعقب المتعقبين لهم2.
ونجد لشذاذ العرب، ذكرا في أخبار الغزو في أخبار الأخذ بالثأر، وفي أخبار من كان يريد الانتقام من أعدائه، فلما غزا "زيد الخيل" الطائي "بني عامر" ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس، "جمع طيئا وأخلاطا لهم، وجمعوا من شذاذ العرب"3. ولما غزا "زهير بن جناب" الكلبي، بكرا وتغلب أخذ "من تجمع له من شذاذ العرب والقبائل" وغيرهم فغزا بهم4. وقد كان هؤلاء "الشذاذ" على استعداد لوضع أنفسهم في خدمة من يريد استخدامهم في مقابل أجر، أو يتكفل بإعاشتهم وإرزاقهم، أو من يرزقهم غنيمة من غارة يساهمون فيها، فلما أراد "أبو جندب" الهذلي، الأخذ بثأر جارين له قتلهما "بنو لحيان"، قدم مكة، فأخذ جماعة من خلعاء بكر وخزاعة، وخرج بهم على بني لحيان، وكان قد "قدم مكة، فواعد كل خليع وفتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا، فيصيب بهم قومه"، ليثأر لأخيه5.
وكانت مكة على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار، مكانا أوى إليه ذؤبان العرب وخلعاؤهم وصعاليكهم، حتى كثر عددهم بها، لما وجدوه فيها من حماية ومعونة، وكان أحدهم إذا جاءها، نادى قريشا نداء النخوة لتؤويه وتجيره، فيقوم أشرافها بحمايته وتقديم الجوار له، ومن هنا نجد الفتاك وأهل الغي والضلال يجوسون خلالها في أمن وسلام، لحرمة المدينة ولحرمة حقوق الجوار، ولعل المصالح الاقتصادية التي كانت تجنيها قريش من هذا الإيواء، كانت السبب الأول في جعل سراتها يقدمون العون والجوار لأولئك الذؤبان الفتاك الذين كانوا لا يتورعون عن الإقدام على أي عمل مهما كان شأنه خطيرا، حتى وإن كان فيه هلاكهم،
__________
1 الأغاني "18/ 134"، المرزباني "468"، الشعراء الصعاليك "54".
2 الأصمعيات "1/ 35".
3 الأغاني "16/ 52".
4 الأغاني "21/ 96".
5 الأغاني "21/ 62 وما بعدها"، شرح أشعار الهذليين "1/ 83 وما بعدها".(18/184)
أو جاء بالأذى على من أحسن إليهم وأجارهم، فهم قوم أصابهم طيش وركبهم التمرد والحقد على المجتمع، فهم لا يبالون بارتكاب أية موبقة ولو وقعت منهم في الحرم، فقد كان في وسع تجار قريش تأمين تجارتهم بالإحسان إلى هؤلاء الذين كان في استطاعتهم مهاجمة القوافل ونهب ما معها من أموال، كما كان بإمكانهم استخدامهم حراسا يخرجون مع قوافلهم لحراستها من بقية الصعاليك إلى وصولها إلى الأماكن التي تريدها، كما كان في استطاعتهم الاستفادة من الفتاك في الفتك بمن يناصبهم العداء، وفي القضاء على كل من يريد التحرش بقرشي أو بأموال قريش أو حلفائهم. وبذلك تمكنوا من حماية تجارتهم من الصعاليك ومن الأعراب الذين تمر تجارة قريش بهم، وإن كانت قريش قد أمنت جانبهم أيضا بعقد حبالها مع سادات القبائل بإيلاف عرف بـ "إيلاف قريش" في القرآن الكريم.
وكان "البراض"، وهو "رافع بن قيس" وهو من الفتاك، قد لجأ إلى مكة، فحالف "بني سهم" من قريش، فعدا على رجل من هذيل فقتله، فخلعه "العاص بن وائل" فأتى "حرب بن أمية" فحالفه، فعدا على رجل من خزاعة فقتله وهرب إلى اليمن، فخلعه "حرب"، فلما ضاقت به السبل ذهب إلى الحيرة، وطلب من النعمان أن يجير له "لطيمته"، فقال له "الرحال بن عروة": "أنت تجيرها على أهل الشيح والقيصوم؟ وإنما أنت كلب خليع! " فأعطاها "النعمان" إلى "عروة"، فخرج "البراض" في أثره، فلما انتهي إلى "أوارة" قتله وانتهب اللطيمة، فكان بسببه حرب الفجار بين كنانة وقيس1.
وبين الصعاليك قوم من "الغربان" "غربان العرب"، وأغربة العرب سودانهم. شبهوا بالأغربة في لونهم، وكلهم سرى إليهم السواد من أمهاتهم2. تصعلكوا لازدراء قومهم لهم، ولانتقاص أهلهم لشأنهم، وعدم اعتراف آبائهم ببنوتهم لهم، لأنهم أبناء إماء. أو لفقرهم، وظلم المجتمع لهم، وعدهم طبقة مملوكة، هم والحيوان المملوك سواء بسواء. ليس لأحدهم جسمه، ولا أهله ولا نسله، وكل ما يملكه وما يحصل عليه يكون ملك سيده، ومن خالف أمره منهم، جاز لسيده قتله، ولسيده حق الاستمتاع بمملوكته وبجواريه من غير
__________
1 المحبر "195 وما بعدها".
2 تاج العروس "1/ 409"، "غرب".(18/185)
قيد ولا شرط. وهذا ما جعل بعض الرقيق يهرب من سيده، فرارا من ظلمه، لينضم إلى الصعاليك، أو ليكون عصابة تلجأ إلى الجبال والكهوف، تهاجم المارة، والأحياء، لتحصل على ما تتعيش به. ولما ظهر أمر الرسول، كتب لجماعة كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة، وهم خليط من كنانة ومزينة والحكم والقارة، ومن فر من سادته من العبيد، كتابا، فيه أنهم "إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حر، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"1.
وأغربة العرب، أو أغربة الصعاليك بتعبير أصدق، كثيرون، فقد كانت عادة اتصال العرب بالزنجيات منتشرة في الجاهلية، وقد أولدت طبقة من الهجناء امتازت بسرعة العدو وبالشجاعة، وبتحمل المشقات، وكلها من مولدات الظروف. ولكن أشهر أغربة الصعاليك: السليك بن السلكة، وتأبط شرا. وقد جعل "ابن قتيبة" أغربة العرب ثلاثة: عنترة، وخفاف بن عمير الشريدي، والسليك بن عمير السعدي2، ولكن عددهم أكثر من ذلك بكثير، يدخل فيهم الصعاليك وغيرهم.
أما الباقون، فهم من شذاذ العرب، ومن الخلعاء المطرودين المنبوذين، الذين طردوا من أهلهم أو من عشيرتهم وقبيلتهم، وحرموا من "العصبية"، فلا أحد يسأل عنهم، ولا أحد يسأل عن جرائرهم وأعمالهم، فدمهم هدر، ومسئوليتهم على عاتقهم وحدهم. وهم من عشائر مختلفة، فلا ينتسبون إلى نسب واحد، ونسبهم الوحيد الذي يربط بينهم، هو الصعلكة، والتمرد على المجتمع والتشرد في البوادي والهضاب والجبال، ولهذا نجد الصعاليك من مختلف قبائل وعشائر جزيرة العرب، قد يتكتلون في مجموعات تضم صعاليك من قبيلة واحدة، وقد يتكتلون في جماعات مختلفة. وتكون الألفة بين صعاليك القبيلة الواحدة أشد وأقوى من الألفة التي تكون بين صعاليك القبائل المختلفة، لما يكون
__________
1 ابن سعد طبقات "1/ 278"، "ذكر بعثة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الرسل بكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وما كتب به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لناس من العرب وغيرهم".
2 الشعر والشعراء "1/ 172"، "دار الثقافة"، "عنترة"، الأغاني "8/ 240".(18/186)
للنسب والدم من أثر في نفوسهم، وإن كفروا بعرف القبيلة وخرجوا على طاعتها. ونجد في شعر شعرائهم إشادة بأخوة "الصنف" و "الحرفة" تحل محل أخوة العشيرة والقبيلة، إذا مات أحدهم وقتل، حزنواعليه، وإن مرض عالجوه، وإن جاع قدموا له ما عندهم من طعام1.
وقد يستجير الخليع بمجير، فيقبل جواره، إلى حين أو بغير أجل محدد، أو على شروط، ففي حديث خروج "امرئ القيس" مطالبا بدم أبيه، أنه لجأ إلى "عامر بن جوين" أحد الخلعاء الفتاك، وعامر يومئذ خليع، تبرأ قومه من جرائره وتنصل أهله منه2، وفي حديث "البراض بن قيس" الكناني وكان خليعا فاتكا سكيرا، لا ينزل بقوم، إلا عمل منكرا فيهم، أنه لجأ إلى بني "الديل"، فشرب وجرّ جريرة، استوجبت خلعه فخلعوه، فأتى مكة، فنزل على حرب بن أمية، فحالفه وأحسن جواره، ثم شرب بمكة وأساء على عادته، حتى هم حرب أن يخلعه3، وفي حديث "أبي الطمحان" القيني، وكان خليعا فاسقا، متهتكا، لايعرف خلقا ولا أدبا، أنه نزل بمكة في جوار "الزبير بن عبد المطلب"، "وكان ينزل عليه الخلعاء"4، ونزل "مطرود بن كعب" الخزاعي، في جوار "عبد المطلب"، فحماه وأحسن إليه، وكان قد لجأ إليه لجناية كانت منه5. ووجد "قيس الحدادية" من يؤويه، مع أنه كان صعلوكا خليعا، عجز هو وأهله عن دفع دية قتيل قتلوه، فخلعته قبيلته خزاعة، فنزل عند بطن من خزاعة، يقال لهم: "عدي بن عمرو بن خالد"، فأحسنوا إليه، كما نزل في بجيلة على "أسد بن كرز" فأحسن إليه والى قومه6.
ولا ينسى بعض الصعاليك ذكر من أحسن إليهم فأكرمهم ورعاهم وحماهم. هذا "أبو الطمحان" القيني، يثني على من آووه وساعدوه حتى صيروه واحدا
__________
1 الشعراء الصعاليك "203 وما بعدها".
2 الأغاني "9/ 95"، الخزانة "1/ 24".
3 الأغاني "19/ 75".
4 الشعر والشعراء "1/ 304"، الإصابة "1/ 381"، "رقم 2011"، الأغاني "11/ 125".
5 المرزباني، معجم "282".
6 الأغاني "13/ 2 وما بعدها".(18/187)
منهم، لا تتحرش به كلابهم، لأنها عرفت ثيابه، وتأكدت أنه واحد منهم، فلا تهر عليه1. وهذا "حاجز" الأزدي، يفخر بانتسابه إلى "بني مخزوم" من قريش، وهم قوم لا يخذلون أحدا إذا استنصر بهم، وجعل حلفه فيهم، إذا أصاب حليفهم مكروه، هرعوا إليه لنجدته، فهم أهل النجدة والكرم2. وهذا "قيس بن الحدادية" يثني على "آل عمرو بن خالد" أحسن ثناء، ويدعو الله أن يجزيهم خيرا لما فعلوا من حميد الفعال لصعلوك خليع3.
والصعاليك كثيرون، وقد خلدت أسماء جماعة منهم في كتب الأدب والأخبار، أشهرهم وأبزرهم: "عروة بن الورد"، و "الشنفرى"، و "تأبط شرا"، و "السليك بن السلكة"، وآخرون.
وللصعاليك بعد قصص في الكتب، وقد بولغ في قصصهم لتؤثر في المسامع، ولتكون لذة للسامعين ومتعة يستمتعون بها أوائل الليل في أوقات سمرهم، وقد رصعت بشعر، على عادة العرب في رواية الأخبار. وفي بعض هذا القصص والشعر أثر الوضع المتعمد، الذي صنع ليمثل الحالة الاجتماعية في ذلك الوقت، حيث كان الأغنياء متخمين بالمال، بينما جيرانهم يموتون جوعا، فكأن هذا القصص قد وضع ليتحدث عن ذلك الوضع. وقد عرف هذاالقصص عند الغربيين كذلك، حيث كان الغنى وكان الفقر، فظهر الصعاليك، وظهر قصصهم وبولغ فيه، وما "روبن هود" الإنكليزي الذي آثر التصعلك وغزو الأغنياء، لإنفاق مايحصل عليه على الفقراء لإعاشتهم، إلا صورة من صور غارة "عروة بن الورد" وأمثاله من الصعاليك، وقد دونت أخبارهم في قصص، وصيغ بعض منها على صورة أشرطة "سينمائية" عرضت ولا تزال تعرض في دور "السينما" وفي "التليفزيون"، لما فيها من بطولة ومروءة ومساعدة ضعفاء واستهتار في الحياة.
__________
1
وقد عرفت كلابهم ثيابي ... كأني منهم ونسيت أهلي
الحيوان "1/ 380"، الشعراء الصعاليك "229".
2
قومي سلامان إذ ما كنت سائلة ... وفي قريش كريم الحلف والنسب
إني متى أدع مخزوما ترى عنقا ... لا يرعشون لضرب القوم من كثب
الأغاني "12/ 49".
3 الشعراء الصعاليك "229".(18/188)
وأما "عروة بن الورد"، فهو من "عبس" وكان شاعرا فارسا وصعلوكا مقدما، عرف بـ "عروة الصعاليك" "لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مايغنمه"1. وهو شاعر بدوي قح، وكان أبوه ممن كان له ذكر في حرب داحس والغبراء، وقد مدحه "عنترة"، وكانت أمه من "نهد"، ولم تكن من أهل البيوتات. وكان لشعره أثر في قومه: حتى كانوا يرون أنه أشعر الشعراء2.
وذكر أنه إنما لقب بعروة الصعاليك لقوله:
لحى الله صعلوكا إذ جن ليله ... مصافي المشاش آلفا كل مجزر
يعدُّ الغنى من دهره كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر
ينام عشاء ثم يصبح قاعدا ... يحث الحصى عن جنبه المتعفر
ولله صعلوك صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور
مطل على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر3
ويظهر من شعر لعروة، أنه كان نحيلا، شاحب الوجه هزيلا، فكانوا يعيرونه بذلك، وكان يجيبهم بقوله:
وإني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى ... بجسمي شحوب الحلق والحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسوا قراح الماء والماء بارد4
ونحيف نحيل شاحب الوجه، لأنه يشرك الآخرين معه في أكله وشربه.
__________
1 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".
2 الأغاني "2/ 184 وما بعدها" "دار الكتب"، الخزانة "4/ 194"، بروكلمان، "1/ 109 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "2/ 566"، "الثقافة"، من قصيدة مطلعها:
أقلي عليّ اللوم يا بنت منذر ... ونامي وإن لم تشتهي النوم فاسهري
ديوان عروة بن الورد "66 وما بعدها"، "إخراج عبد المعين الملوحي"، "وزارة الثقافة والإرشاد. الجمهورية العربية السورية"، الأغاني "16/ 97 وما بعدها".
4 ديوان عروة "2"، الأغاني"3/ 72 وما بعدها"، الجمان في تشبيهات القرآن "257".(18/189)
أما الهازئ به، فهو أناني، لا يشرك أحد معه في أكله، وإناءه واحد، لايأكل به أحد غيره، ولذلك سمن وثخن من التخمة، أما هو، وهو الوهاب فكان يقتر على نفسه، ويجوع، ليأكل غيره أكله، فأصابه من ثم هذا الهزال.
فهو إنسان، يقسم ما عنده وما يأتيه على نفسه وعلى غيره، وقد يقدم غيره على نفسه. ومن هنا "كان يقال: من قال إن حاتما أسمح العرب، فقد ظلم عروة بن الورد"1.
ويذكرون أنه أصاب في بعض غارته امرأة من كنانة فاتخذها لنفسه، فأولدها، فلقيه قومها، وقالوا: فادنا بصاحبتنا، فإنا نكره أن تكون سبية عندك قال: على شريطة، قالوا: وما هي؟ قال: على أن نخيرها بعد الفداء، فإن اختارت أهلها أقامت فيهم، وإن اختارتني خرجت بها. وكان يرى أنها لا تختار عليه، فأجابوه إلى ذلك، وفادوا بها، فلما خيروها اختارت قومها، وتركته فنظم في ذلك شعرا2.
وذكر أن "معاوية" تذكر "عروة بن الورد"، فقال: "لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج منهم". وأن "عبد الملك بن مروان" تذكره يوما، فقال: "ما يسرني أن أحدا من العرب ممن ولدني لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله:
وإني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد3
وهو بيت يمثل خلق هذا الشاعر ومروءته التي أبت عليه ألا يشرك غيره من الضعفاء والمحتاجين فيما يحصل عليه ويناله من المتمكنين بالإكراه والقوة. إناؤه مليء لبنا، حتى يفيض ويكثر، فإن طرقه إنسان وجد اللبن أمامه، يشرب منه وهو شريكه فيه، شريكه في كل شيء عنده قل أو كثر، وهو يفتخر بذلك ويتبجح بإشراكه غيره إنائه على من حرص على ماله، وبخل بما عنده، مثل "قيس بن زهير"، الذي استأثر بما عنده، فلم يعط لمحتاج شيئا منه. فصار
__________
1 الروض الأنف "2/ 180".
2 الشعر والشعراء "2/ 567".
3 ديوان عروة "2"، الأغاني "3/ 72 وما بعدها".(18/190)
يسمن وغيره يجوع، على حين كان "عروة" يختار الجوع، ليأكل الجياع، لتعود إليهم القوة والحياة، ولا يبالي هو بنفسه إن جاع، وفي ذلك يقول:
وإني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحلق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
وكان قد قال هذه الأبيات ردا على أبيات "قيس بن زهير" التي خاطب بها "عروة" بقوله:
أذنب علينا شتم عروة خاله ... بغرة أحساء ويوما ببدبد
رأيتك ألَّافا بيوت معاشر ... تزال يد في فضل قعب ومرفد1
وللأخفش حديث عن مروءة "عروة" وعن إنسانيته فيقول: "عن ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: حدثني أبو فقعس، قال: كان عروة إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف؛ وكان عروة يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس، من عشيرته في الشدة، ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكنف، ويكسبهم، ومن قويَ منهم، إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته، خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا، وذهبت السنة، ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، وربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى، فلذلك سمي: عروة الصعاليك"2.
ومن هنا عد من أصحاب الكرم والسماحة والسخاء. حتى قيل إن عبد الملك قال: "من زعم أن حاتما أسمح الناس، فقد ظلم عروة بن الورد"3. وقيل إنه بلغه عن رجل من بني "كنانة بن خزيمة"، أنه من أبخل الناس وأكثرهم مالا، فبعث عليه عيونا، فأتوه بخبره فشد على إبله فاستقاها ثم قسمها في
__________
1 ديوان عروة "51 وما بعدها".
2 ديوانه "8 وما بعدها"، الأغاني "3/ 78 وما بعدها"، التبريزي، شرح حماسة أبي تمام "2/ 9"، جمهرة أشعار العرب "114 وما بعدها".
3 ديوان عروة "3"، الأغاني "3/ 74".(18/191)
قومه. فقال عند ذلك:
ما بالثراء يسود كل مسود ... مثر ولكن بالفعال يسود
بل لا أكاثر صاحبي في يسره ... وأصد إذ في عيشه تصريد
فإذا غنيت فإن جاري نيله ... من نائلي وميسّري معهود
وإذا افتقرت فلن أرى متخشعا ... لأخي غنى معروفه مكدود1
فالسيد بفعاله، وأعماله لا بالمال. وهو يقول في شعر له، إن فراشه فراش الضيف، وأن بيته بيت للضيوف، ويجالس الضيف ويحادثه، فالحديث جزء من القرى:
فراشي فراش الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
وفي خبر آخر، أن سنين شديدة أصابت الناس فأهلكتهم، وترك الناس الغزو لجدوبة الأرض، وكان عروة في تلك السنين غائبا، فرجع مخفقا، قد ذهبت إبله وخيله، وجاء "الكنيف"، أي الحظيرة والمأوى، فوجد أصحابه وقد سقطوا من الإعياء والشدة، فندب منهم رهطا، فنحر لهم بعيرا، وحملوا سلاحهم على بعير آخر، وقدد لهم بعيرا، فوزعه بينهم. وخرج بهم غازيا يلتمس الرزق. وهو يقول لهم: إن أصبنا رغبة فذلك الذي نريد، وإن رجعنا خائبين، كنا معذورين. قد أدينا ما علينا، ولن نقعد عن الطلب. فهو يحثهم على الرزق والطلب، دون تفكير في نجاح أو فشل، فالحياة: نجاح وفشل، ومن فشل، عليه المواظبة حتى ينجح ويستعيد قواه، وذلك قوله:
وقلت لقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عند ماوان رزح2
إلى آخر الأبيات:
وهو يصف في أبيات حالة الفقير وما يلقى من ظلم، وحالة الغني وما يلقاه
__________
1 ديوان عروة "48"، شرح ديوان عروة "181".
2 ديوانه "20، 39 وما بعدها".(18/192)
من إجلال. فيقول:
دعيني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
ويقصيه النديُّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
ويلفى ذو الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
وله شعر يحث فيه الناس على السير في البلاد، التماسا للزرق، لأن من لم يطلب معاشا لنفسه، وقعد في داره دون أن يعمل شكا الفقر، وصار كلا على غيره، حتى على ذوي قرباه، فيقول:
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلا وأوشكت ... صلات ذوي القربي له أن تنكرا
وما طالب الحاجات من كل جهة ... من الناس إلا من أجد وشمرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا2
ومن شعره في المال والورثة قوله:
متى ما يجئ يوما إلى المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر
يجد فرسا مثل القناة وصارما ... حساما إذا ما هز لم يرض بالهبر3
ويقول في شعر آخر:
أليس ورائي أن أدب على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
رهينة قعر البيت كل عشية ... يطيف بي الولدان أهوج كالرأل
يعني: أليس ورائي إن سالمت الناس، وتركت مخاطر التصعلك، أن يلحقني الكبر فأهون ويضجر مني أهلى4. فهو يعتذر بذلك عن التصعلك واتخاذه الصعلكة حرفة له.
__________
1 ديوانه "91 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 234"، وقد روي برواية تختلف عن رواية الديوان.
2 ديوانه "89".
3 كتاب العصا "206"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الثانية".
4 الحيوان "4/ 356".(18/193)
وقد زعم أن "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب"، قال لمعلم ولده: لا تروهم قصيدة عروة التي يقول فيها:
دعيني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
ويقول: هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم"1.
وهو يرى أن الموت خير للفتي من حياته فقيرا. وأن الأقارب إذا ضنواعليه ولم يساعدوه، فعليه بالرحيل عنهم، والتماس الفجاج فإنها عريضة، إذا ضاقت عليه السبل. وهو لا يترك إخوانه أبدا ما عاش، كما أن الإنسان لا يتمكن من ترك شرب الماء:
إذا المرء لم يبعث سواما ولم يرح ... عليه ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من حياته ... فقيرا ومن مولى تدب عقاربه
وسائله أين الرحيل وسائل ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه
مذاهبه أن الفجاج عريضة ... إذا ضن عنه بالفعال أقاربه
فلا أترك الإخوان ما عشت للردى ... كما أنه لا يترك الماء شاربه2
وهو يحث على المخاطرة بالنفس، فإن القعود مع العيال قبيح، حث عليها في أبيات نسبت إليه، وقيل إنها ليست له، بل هي للنمر بن تولب، هذا نصها:
قالت تماضر إذ رأت مالي خوى ... وجفا الأقارب فالفؤاد قريح
ما لي رأيتك في الندى منكسا ... وصبا كأنك في النديّ نطيح
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إن القعود مع العيال قبيح
المال فيه مهابة وتجلة ... والفقر فيه مذلة وفضوح3
والصعلوك الخامل، القعود الذي يعين نساء الحي، ولا يستعمل سيفه للحصول على رزقه، هو خليق أن يكون ممن يهان ويزدرى، والصعلوك العامل النشط،
__________
1 ديوانه "3".
2 ديوانه "29".
3 ديوانه "43".(18/194)
هو الرجل الذي يستحق الحياة، ويصلح أن يكون أنموذجا للرجال، صحيفة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور، مطلا على أعدائه، يهابونه ولا يستطيعون الاقتراب منه، إن لقي منيته لقيها حميدا، وإن عاش واستغنى فنعمة كبرى، ينفق منها على من يحتاج إليه من الناس1.
وتراه يقول في أبيات أخرى:
إذا آذاك مالك فامتهنه ... لجادية وإن قرع المراح
وإن أخنى عليك فلم تجده ... فنبت الأرض والماء القراح
فرغم العيش إلف فناء قوم ... وإن آسوك والموت الرواح2
ومعناه: لاتبخل بمالك، ولا تحرص عليه، أعط منه السائل والمحروم والمحتاج، ولا تخش الفقر، فإن أخنى عليك، وقل مالك، وتركك الأصحاب فلا تيأس ولا تخنع لأحد، ولا تجزع، ففي الأرض رزق لكل أحد، ومتسع لكل نفس، وإن كان ذلك نبات الأرض وماؤها، ولا تهن نفسك، وتذل كرامتك، فتعيش على موائد غيرك، من اللؤماء الحقراء، فأكلك منهم، هو الموت الرواح، بل هو شر من الموت، فلا تقرب موائد أصحاب المنة، وإن آسوك وساعدوك، فمؤاساتهم كاذبة، عن مظاهر ونفاق.
وفي أبيات شعر، يذكر"عروة" "أصحاب الكنيف" والتواءهم عليه، وكيف تمردوا عليه، مع فضله عليهم، وإشراكه لهم في كل ما كان يكسبه ويغنمه، فيقول:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم ... كما الناس لما أخصبوا وتموّلوا
وإني لمدفوع إليّ ولاؤهم ... بماوان إذ نمشي وإذ نتملل
وإذ ما يريح الحي هرماء جونة ... ينوس عليها رحلها ما يحلل
موقعة الصفقين حدباء شارف ... تقيد أحيانا لديهم وترحل
عليها من الولدان ما قد رأيتم ... وتمشي بجنبيها أرامل عيل
__________
1 ديوان عروة "78 وما بعدها".
2 ديوانه "42".(18/195)
وقلت لها يا أم بيضاء فتية ... طعامهم من القدور المعجل
مضيغ من النيب المسان ومسخن ... من الماء نعلوه بآخر من عل
بديمومة ما إن تكاد ترى بها ... من الظمأ الكوم الجلاد تنول
تنكر آيات البلاد لمالك ... وأيقن أن لا شيء فيها يُقوَّل1
وهي أبيات، تعبر عن مرارة نفسه، وعن ألمه مما لاقاه من أصحاب الكنيف، مع أفضاله عليهم، وتقديمه لهم على نفسه، وهو يواسي نفسه فيها، فيقول إنهم ناس، ومن شأن الناس أنهم إذا أخصبوا وتمولوا وتحسنت أحوالهم، تنكروا لمن كان صاحب الفضل عليهم، وتجاهلوا كل ما قام به من صنيع نحوهم. أخرجتهم وأجسامهم هزال من شدة الجهد، لا يقدرون على المشي من شدة الضعف من الجوع، وقمت بأمرهم، حتى إذا قووا، ودنوا من بلادهم وعشائرهم، وأقبلت أقسم فيهم ما غنمته من إبل، فأعطيتهم بالتساوي، وأخذت لنفسي نصيب أحدهم، تنكروا لي وصاروا كالأباعد، ليس لهم شكر، خاصموه عارضوه.
وكان من شأنهم: أنه خرج مع صعاليكه يبحثون عن غنائم، حتى نزل أرض "بني القين"، فأقام مع أصحابه يوما عند موضع ماء، بانتظار مجيء الرعاة لإسقاء إبلهم، ثم ورد عليهم فصيل، فقالوا: دعنا فلنأخذه، فلنأكل منه يوما أو يومين، فقال: إنكم إذن تنفرون أهله، وإن بعده إبلا. فتركوه ثم ندمواعلى تركه، وجعلوا يلومون عروة على الجوع الذي جهدهم. ثم وردت إبل بعده بخمس، فيها ظعينة ورجل، والإبل مائة، فخرج "عروة" ورمى صاحبها في ظهره بسهم، فخر ميتا، واستاق عروة الإبل والظعينة2. وأتى بالإبل الكنيف فجعل يحلبها لهم، ثم حملهم حتى إذا دنوا من بلادهم وعشائرهم، أقبل يقسمها فيهم، وأخذ مثل نصيب أحدهم، واستخلص المرأة لنفسه، فقالوا: لا والله لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبا فمن شاء أخذها من سهمه، فجعل عروة يهم أن يحمل عليهم فيقتلهم وينزع ما معهم، ثم يتذكر صنيعه بهم، وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان صنع، ففكر طويلا ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها امرأته، فأبوا إلا أن يجعلوا الراحلة لهم،
__________
1 ديوانه "119 وما بعدها".
2 ديوانه "113 وما بعدها".(18/196)
فانتدب رجل منهم فجعل الراحلة من نصيبه وأفقرها عروة، أي منحها إياه منيحة إذا استغنى عنها ردها؛ فقال عروة يذكر أصحاب الكنيف والتواءهم عليه تلك الأبيات المتقدمة1.
فهو في الأبيات المتقدمة يذكر أن الإنسان ذليل كسير ما دام فقيرا، يتقرب إلى القوي ويتبصبص له، ويتظاهر بحبه وإخلاصه له، فإذا نال حاجته، أو اغتنى تبطر على من كان محتاجا إليه، وتعاظم عليه، ونال منه.
وقد عرف "عروة" بـ "أبي الصعاليك" قيل إن الناس كانوا إذا أصابتهم السنة أتوه "فجلسوا أمام بيته حتى إذا بصروا به صرخوا وقالوا: يا أبا الصعاليك، أغثنا". فيخرج ليغزو بهم2. وقد كان يعد صعاليكه "عياله"3، وكان يرعاهم ويحدب عليهم حدب الوالد على عياله، ويخرج بالقوي منهم للغزو، بحثا عن غنيمة ينالها لإشباع أتباعه الجياع الصعاليك، بمال غني جمع غناه بالعقوق وبالبخل، لأنه لا يرضى أن يرى إخوانا له يهلكون من الجوع، ثم لا يجد ما يقدمه لهم لسد رمقهم4، وهو يطوف لذلك في البلاد باحثا عن غني ينفق منه على المعوزين وذوي الحاجات. وشر الناس في هذه الدنيا الفقير، يباعده القريب لفقره، وتزدريه حليلته، ولا يحترمه أحد؛ بينما يعظم الغني ويحترم، لا لسبب إلا لماله ولغناه، ذنبه قليل في نظر الناس، لأنه غني، وللغني رب غفور:
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وأدناهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
يباعده القريب وتزدريه ... حليلته ويقهره الصغير
ويلقى ذو الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد لاقيه يطير
قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور5
__________
1 ديوانه "118"، الأغاني "3/ 79 وما بعدها".
2 الأغاني "3/ 81".
3 ديوان عروة "99"، حماسة أبي تمام "2/ 7"، الشعراء الصعاليك "322".
4
أيهلك معتم وزيد ولم أقم ... على ندب يوما ولي نفس مخطر
ديوان عروة "83"، الشعراء الصعاليك "325".
5 العقد الفريد "3/ 29"، عيون الأخبار "1/ 241 وما بعدها"، البخلاء "183، 391"، البيان والتبيين "1/ 234"، وتختلف نصوص هذه القصيدة باختلاف الموارد.(18/197)
وفي قصيدته:
لحا الله صعلوكا إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفا كل مجزر
يعد الغنى من دهره كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر
ينام عشاء ثم يصبح طاويا ... يحبُّ الحصى عن جنبه المتعفر
قليل التماس الزاد إلا لنفسه ... إذا هو أمسى كالعريش المجور
يعين نساء الحي ما يستعنَّه ... فيمسي طليحا كالبعير المحسر
ولكن صعلوكا صحيفة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور
مطلا على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر
فإن يعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر
فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فأجدر1
معان سامية، تعبر عن نفسية إنسانية، وعن عطف على الفقير والمحتاج والنساء "وصف فيها فضيلة الفقير الحر الباسل وذم الذي يستأجر شغله"2.
وفي شعر "عروة" إشارة إلى الموت، فهو يرى أن الحياة أجل، وأن الإنسان غير خالد في هذه الدنيا، حياته قصيرة، ثم يكون أحاديث للناس. إذا جاء أجله خرجت منه هامة تعلو كل نشز:
أحاديث تبقى والفتى غير خالد ... إذا هو أمسى هامة فوق صير
تجاوب أحجار الكناس وتشتكي ... إلى كل معروف رأته ومنكر
ثم تجاوب هذه الهامة أحجار الكناس، وتشتكي إلى كل معروف تراه ومنكر. أي تصوت في كل حال إذا رأت من تعرف ومن تنكر3.
والموت ملازم للإنسان، وهو ثغر كل ثنية، ولامفر منه:
وأن المنايا ثغر كل ثنية ... فهل ذاك عما يبتغي القوم محصر
وغبراء مخشي رداها مخوفة ... أخوها بأسباب المنايا مغرر4
__________
1الخزانة "4/ 196"، "بولاق".
2 كارلو نالينو "79".
3 ديوانه "66 وما بعدها".
4 ديوان "77".(18/198)
وقد نسبت له قصيدة مطلعها:
لحا الله صعلوكا مناه وهمّه ... من الدهر أن يلقى لبوسا ومطعما
ينام الضحى حتى إذا الليل جنّه ... تبين مسلوب الفؤاد مورما
ولكن صعلوكا يساور همه ... ويمضي على الهيجاء ليثا مصمما
فذلك إن يلق الكريهة يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فربما
وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه القصيدة لحاتم الطائي، لأن قصيدة عروة رائية، وليست هذه، ولحاتم قصيدة على هذا الروي، وليس فيها هذه الأبيات، وفيها ما يشبهها، وهو:
وليل بهيم قد تسربلت هوله ... إذا الليل بالنكس الضعيف تجهما
ولن يكسب الصعلوك مالا ولا غنى ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما
يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة ... يبت قلبه من قلة الهم مبهما
ولكن صعلوكا يساور همه ... ويمضي على الأيام والدهر مقدما
يرى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب بين المهذة مخذما
وإحناء سرج قاتر ولجامه ... معدا لدى الهيجاء طرفا مسوما
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن يحي لا يقعد ضعيفا ملوما1
وفي كتاب "ذيل الأمالي والنوادر" للقالي، أبيات على هذا النمط غير معزوة لقائلها، أوردها على أثر تحدثه عن "الشيظم بن الحارث الغساني"، وكان قد قتل رجلا من قومه، فخافهم، فلحق بالحيرة متنكرا، وكان من أهل بيت الملك، فكان يتكفف الناس نهاره ويأوي إلى خربة من خراب الحيرة، فبينما هو ذات يوم في تطوافه إذ سمع قائلا يقول:
لحا الله صعلوكا إذا نال مذقة ... توسد إحدى ساعديه فهوما
مقيما بدار الهون غير مناكر ... إذا ضيم أغضى جفنه ثم برشما
يلوذ بأذراء المثاريب طامعا ... يرى المنع والتعبيس من حيث يمما
يضن بنفس كدر البؤس عيشها ... وجود بها لو صانها كان أحزما
__________
1 الخزانة "4/ 194 وما بعدها".(18/199)
فذاك الذي إن عاش عاش بذلة ... وإن مات لم يشهد له الناس مأتما
بأرضك فاعرك جلد جنبك إنني ... رأيت غريب القوم لحما موضما
فهي أبيات في المعاني المتقدمة، لم يعرف اسم صاحبها1.
وهو يزجر امرأته سلمى لأنها تلومه على غاراته وغزواته، لما تخشاه عليه من الوقوع في المهالك، ومن ملاقاته حتفه. ويقول لها: إنه إنما يجازف ويخاطر في سبيلها، حتى يغينها فلا تذل بعده أو تستجدي أحدا، ثم إن عليه حق الوفاء لأقاربه وللضعفاء ولإخوانه الصعاليك الذين يلوذون به، فعليه مساعدتهم، وهو لا يتمكن من تقديم المساعدات لهم، إلا بهذه الغارات2.
وروي أن "عروة" كان يتردد على "بني النضير" فيستقرضهم إذا احتاج ويبيع منهم إذا غنم، فرأوا عنده "سلمى" فأعجبتهم، فسألوه أن يبيعها منهم فأبى، فسقوه الخمر، واحتالوا عليه حتى ابتاعوها منه وأشهدوا عليه، وفي ذلك يقول:
سقوني الخمر ثم تكنّفوني ... عداة الله من كذب وزور
وروي أيضا أن قومها افتدوها منه وكان يظن أنها لا تختار عليه أحدا ولا تفارقه، فاختارت قومها فندم وكان له بنون منها، ثم تزوجها بعده رجل من بني النضير. وفيها يقول عروة:
أرقت وصحبتي بمضيق عمق ... لبرق في تهامة مستطير
وهي قصيدة أشار فيها إلى "سلمى"، ومفارقتها له، عند "بني النضير"، حيث يقول:
وآخر معهد من أم وهب ... معرسنا فويق بني النضير
وفي هذه القصيدة البيت المتقدم، الذي يشير إلى أنهم سقوه الخمر، واحتالوا عليه، حتى ابتاعوها منه3.
__________
1 ذيل الأمالي "179"، الخزانة "4/ 195".
2 الأصمعيات "35".
3 الروض الأنف "2/ 180 وما بعدها".(18/200)
وقد أشار "عروة" في شعر ينسب إليه إلى "التعشير"، وهو أن ينهق الإنسان عشر مرات إذا أراد دخول "خيبر" لكي لا تصيبه الحمى. فقال:
وقالوا احب وانهق لا تضيرك خيبر ... وذلك من دين اليهود ولوع
لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع1
وقد رفض عروة ذلك، وسخر من هذه الخرافة.
قال "الجاحظ": وكانوا إذا دخل أحدهم قرية خاف من جن أهلها، ومن وباء الحاضرة، أشد الخوف، إلا أن يقف على باب القرية فيعشر كما يعشر الحمار في نهيقه، ويعلق عليه كعب أرنب. ولذلك قال قائلهم:
ولا ينفع التعشير في جنب جرمة ... ولا دعدع يغني ولا كعب أرنب
وقد قال عروة بن الورد، في التعشير، حين دخل المدينة فقيل له: إن لم تعشر هلكت:
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع2
ولعروة شعر في يوم "ساحوق"، وهو يوم لبني ذبيان على "بني عامر"، إذ يقول:
ونحن صبحنا عامرا في ديارها ... علالة أرماح وعضبا مذكَّرا
بكل رقيق الشفرتين مهند ... ولدن من الخطي قد طر أسمرا
عجبت لهم إذ يخنقون نفوسَهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا
يشد الحليم منهم عقد حبله ... ألا إنما يأتي الذي كان حُذِّرا
أي أنهم كانوا ذوي غدر بين، لو أنهم جاهدوا في الحرب وقتلوا، أما الآن فلا عذر لهم بين الرجال في خنقهم أنفسهم. وكان "الحكم بن الطفيل" وأصحابه قد خنقوا أنفسهم، بشد الحبل حول العنق3، وذلك تحت شجرة بالمروراة،
__________
1 ديوانه "95"، الحيوان "6/ 359".
2 الحيوان "6/ 359".
3 الحيوان "2/ 273"، الخزانة "4/ 218"، العقد الفريد "2/ 318".(18/201)
خشية الوقوع في الأسر. و "الحكم بن الطفيل" هو أخو "عامر بن الطفيل"، وقد عرف يوم "المروارة" بيوم "التخانق"1.
وقد عدت قصيدته التي تبدأ بـ:
أقلي علي اللوم يا ابنة منذر ... ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري
من القصائد "المنتقيات"2.
وأما شعر "عروة"، فقد عد أشعر شعر "بني عبس" في رأي أبناء قبيلته. روي أن "عمر بن الخطاب" قال للحطيئة: كم كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف حازم. قال: وكيف؟ قال: فينا قيس بن زهير، وكان حازما وكنا لا نعصبه، وكنا نقدم بإقدام عنترة، ونأتم بشعر عروة بن الورد، وننقاد لأمر الربيع بن زياد"3.
ويرى "بروكلمان"، أنه كان بدويًّا قُحًّا، رويت له أشعار أكثر مما روى لتأبط شرا والشنفرى، لكنه كان دونهما في تصوير حياة الجاهلية4.
ولعروة ديوان برواية "ابن السكيت" "243هـ" "244هـ"، طبع جملة طبعات. وقد ترجم إلى الألمانية والفرنسية5، وقد جمع "الأصمعي" شعره في ديوان لم يصل إلينا6.
وفي شعر عروة شعر مصنوع، وضع عليه، وفيه كما رأينا ما ليس له، وقد نسبه بعض العلماء إلى غيره، ونجد في شعره شعرا يمثل طبيعة مجتمع حضري غلبت عليه التفرقة الطبقية، فيه غنى حضر، وفقر أهل مدن، يظهر أنه وضع على لسانه حكاية عن وضع الناس في ذلك الوقت، خشية ناظمه من تعرض الحكام
__________
1 الخزانة "4/ 216 وما بعدها".
2 الأغاني "2/ 190"، الشعر والشعراء "425"، الجمهرة. "114"، زيدان، تأريخ الأدب العربي"1/ 164".
3 ديوان عروة "3".
4 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 109".
5 راجع التفاصيل في بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 109"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 164".
6 الشعراء الصعاليك "158".(18/202)
أو الأغنياء له بسوء، فيما لو نشره باسمه، فآثر نظمه باسم "عروة".
و"الشنفرى"، وهو "ثابت بن أوس" الأزدي، وقيل بل "الشنفرى" اسمه لا لقب، وقيل: بل هو: "عمرو بن مالك" الأزدي، وقيل "عمرو بن براق"، وقيل غير ذلك، من "بني الأواس بن الحجر بن الهنء بن الأزد"1، من اليمانية في عرف أهل النسب. وهو من الصعاليك. ومن العدائين.
وكان من المرافقين للشاعر "تأبط شرا" في كثير من غزواته. وكان أكبر منه سنًّا، وتوفي قبله. وذكر أنه حلف يمينا أن يقتل من "بني سلامان" مائة رجل فقتل تسعة وتسعين، فأمسك به رجل عداء، هو "أسيد بن جابر" وهو عداء من العدائين وقتله. فمر به رجل من بني سلامان فركل جمجمته، فدخلت شظية منها في رجله فمات. فوفى الشنفرى بقسمه، وأتم العدد وهو ميت2. ويلاحظ أن أهل الأخبار يزعمون أن "عمرو بن هند" كان قد حلف يمينا أن يقتل من "بني دارم" مائة رجل، وأن يلقي بهم في النار، فسار إليهم فقتل تسعة وتسعين وأحرقهم بالنار، وبقي عليه أن يبر بقسمه بقتل واحد آخر منهم حتى يكمل العدد، فمر رجل من البراجم شم رائحة حريق القتلى، فحسبه قتار الشواء، فمال إليه، فلما رآه "عمرو"، قال له: ممن أنت؟ قال: رجل من البراجم، فقال: إن الشقي وافد البراجم، وأمر فقتل وألقي في النار. فبرت به يمينه3. وقد يكون للقصتين ولقصص آخر من هذا النوع علاقة بطقوس أو بأساطير جاهلية قديمة، تجعل الأبطال، ينذرون نذورا تختلف عن نذور سائر الناس، هي قتل مائة نفس قربى إلى الآلهة، بدلا من تقديم الضحايا من الحيوانات.
وكان "الشنفرى" يحقد على "بني سلامان" حقدا شديدا، وسبب حقده عليهم، أنه كان قد وقع أسيرا وهو صبي في "بني شبابة بن فهم"، فانتمى
__________
1 الخزانة "2/ 16 وما بعدها"، البيان والتبيين "3/ 224"، المفضليات "1/ 106 وما بعدها"، مجالس ثعلب "426"، الحيوان "3/ 108"، "6/ 244"، أمالي القالي "1/ 157"، رسالة الغفران "351 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 25 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 308، 318"، "شفر"، "الشنيفرة"، الأغاني "21/ 87"، الخزانة "2/ 14" "بولاق"، ذيل الأمالي "208 وما بعدها"، زيدان، تأريخ آداب "1/ 161".
3 الجزء الثالث من هذا الكتاب "ص251".(18/203)
إليهم، ثم وقع أحد "بني شبابة" أسيرا في "بني سلامان بن مفرج" من الأزد، ففدى "بنو شبابة" الأسير به. فصار "الشنفرى" فيهم، وحسب منهم، ثم إنه أراد الزواج من ابنة رجل منهم، فرده والدها ردا عنيفا، أثر فيه، فعاد إلى "بني فهم"، وأخذ يغير على "بنى سلامان" للإهانة التي لحقته من الرجل، والتي كانت سبب صعلكته1.
ويروى أن الشنفرى أغار مع "تأبط شرا" و "عمرو بن براق" على "بجيلة"، فوجدوا بجيلة قد أقعدوا لهم على الماء راصدا، وقد علم "تأبط شرا" أنهم يريدونه، فتآمر مع الشنفرى وعمرو بن براق، على إنقاذه إن وقع في أيديهم، فلما جاء الماء قبضوا عليه، فعمد الشنفرى وابن براق إلى حيلة كانوا قد اتفقوا عليها لغش بجيلة، فأنقذوه، وهربوا ساخرين من بجيلة التي خدعت بها2. وللعرب قصص ترويه عن بساطة "بجيلة"، وسرعة انخداعها بالحيل.
وهو كما سبق أن ذكرت، أحد أغربة العرب، ويظهر أن الملامح الإفريقية كانت بارزة عليه، بدليل تلقيبه بالشنفرى، و"الشنفرى" الغليظ الشفاه، ويظهر أنه أخذ ملامحه من أمه السوداء. وأخباره متناقضة متضاربة، يظهر منها أن أباه قد قتله قاتل من "الأزد"، قتله "حرام بن جابر"، وكان قد قدم "منى" فقيل له: هذا قاتل أبيك، فشد عليه فقتله3. فحقد على قتلة أبيه، وقرر الانتقام منهم شر انتقام، وأن لا يكف عنهم ما دام حيًّا، فكان يكثر من الغارة عليهم، يغير مع من معه من صعاليك، وقد يغير عليهم وحده4.
ويروى في قتله، أنه قتل من "بني سلامان بن مفرج" تسعة وتسعين رجلا، فأقعدت له رجالا يرصدونه، فلما دنا من ماء ليشرب، قبض عليه رجلان من "بني البقوم" من الأزد، فقبضا عليه، وأصبحا به في "بني سلامان". فربطوه إلى شجرة، فقالوا: قف أنشدنا، فقال الإنشاد على حين المسرة، ثم قال:
__________
1 بروكلمان "1/ 105"، الأغاني "21/ 134".
2 الخزانة "2/ 17".
3 الأغاني "21/ 137"، الخزانة "2/ 16".
4 الأغاني "21/ 135".(18/204)
فلا تدفنوني إن دفني محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر
إذا حملوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر1
وذكر "المرتضى" أن هناك من نسب هذا الشعر إلى تأبط شرا2. وقد نسبه "الجاحظ" إلى "تأبط شرا"، إذ قال: "وقال تأبط شرا:
فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر
إذا ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
هنالك لا أبغي حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر3
ويختلف نص هذا الشعر بعض الاختلاف عن النصوص الأخرى4.
ويذكر لما وقع بأيدي أعدائه، تفننوا في قتله، وأروه أصناف العذاب. قطعوا يده، وصاروا يسخرون منه، ويسألونه أين يدفنونه. فرد عليهم بمقطوعة رائعة، كما رثا يده بأرجوزة لما قطعوها، وقد ذكر أنه طلب منهم ألا يدفن، وإنما يلقى بجسده إلى الضباع. وروي أن رجلا من "بني سلامان" رماه بسهم في عينه فقتله، فقال "جزء بن الحارث" في قتله:
لعمرك للساعي أسيد بن جابر ... أحق بها منكم بني عقب الكلب6
__________
1 الشعر والشعراء، لابن قتيبة "1/ 25"، "دار الثقافة".
فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر
إذا ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
هنالك لا أبغي حياة تسرني ... سجيس الليالي مبسلا بالجرائر
حماسة أبي تمام "2/ 24 وما بعدها بولاق"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "73"، الخزانة "2/ 18"، أمالي المرتضى "2/ 72 وما بعدها"، "إذا احتملت رأسي"، أسماء المغتالين "232"، "المجموعة السادسة".
2 أمالي المرتضى "2/ 72 وما بعدها".
3 الحيوان "6/ 450".
4 راجع العقد الفريد "1/ 53"، "4/ 219"، الحماسة "1/ 188"، المخصص "3/ 258".
5 الشعراء الصعاليك "335".
6 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة"، "ص232".(18/205)
وقد ضاع أكثر شعر "الشنفرى". وقد طبعت لاميته، وللعلماء شروح وبحوث عليها. وهي في الفخر والحماسة، ولم يعرف كثير من قدماء علماء الشعر القديم هذه اللامية، ومن بينهم مؤلف كتاب "الأغاني". وقد تعرض "القالي" لموضوع "اللامية"، فقال: "حدثني أبو بكر بن دريد: أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول، فكان أقدر الناس على قافية"1. ويعود الضمير "له" إلى خلف الأحمر. أي أن القصيدة هي من صنعه وعمله. وعدة القصيدة ثمانية وستون بيتا. وممن شرحها: الخطيب التبريزي، والزمخشري، وابن الشجري، وابن أكرم وغيرهم2. وقد ورد في "تأريخ الآداب العربية" لكارلو نالينو: "أما الشنفرى الأزدي فصاحب اللامية المشهورة التي يفتخر فيها بانفراده من قومه ووحشة عيشه في البراري كأنه لم يعاشر إلا السباع. وهي قصيدة غاية في الجمال تنطق بلسان حال الشاعر وإن كان بعض النحويين يزعمون أنها من مصنوعات حماد الراوية المتوفى سنة 155"3. وفي قوله: "وإن كان بعض النحويين يزعمون أنها من مصنوعات حماد الرواية" وهم، لا أدري أوقع منه، أم من الترجمة، لأن غالبية العلماء تنسبها إلى خلف الأحمر، لا إلى حماد. كما أن وفاته كانت سنة "156هـ"4.
وقد ذهب بعض المستشرقين الذين بحثوا أمر هذه القصيدة، إلى أن القصائد التي نحلها "خلف الأحمر" احتفظت دائما بعمود الشعر القديم وطابعه، أما هذه القصيدة، فلها طابع خاص يجعل من الصعب تصور صدورها من "خلف الأحمر"5.
__________
1 الأمالي "1/ 156 وما بعدها"، الأغاني "21/ 84"، الخزانة "2/ 16"، زيدان، تأريخ أداب اللغة العربية "1/ 161 وما بعدها".
2 الخزانة "2/ 15"، "بولاق"، اللاميتان: لامية العرب ولامية العجم، من شروح الزمخشري والصفدي، علق عليهما وأعدهما: عبد المعين الملوحي، دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، رقم 13.
3 "ص73".
4 الفهرست "140".
5 بروكلمان "1/ 106 وما بعدها".(18/206)
وذهب بعض آخر إلى جواز كونها من نظم "الشنفرى"1، وذكر أنها من مصنوعات "حماد" الراوية2.
وفي "المفضليات" قصيدة طويلة له، هي قصيدة تائية، ومقطعات، وفي قصيدته وصف لحياته ولبعض غاراته، وكيف كان يقود صعاليكه في طرق وعرة، وهم على أرجلهم، ثم يصف حاله، فهي قصيدة فيها بعض تأريخ هذا الشاعر وقصص غزوه وتعامله مع رفاقه3.
وقد طبع الأستاذ "عبد العزيز الميمني"، ديوان الشنفرى في "الطرائف الأدبية"4، وتوجد أشعاره أيضا في "ديوان الهذليين"5. وقد كان عند العيني ديوان للشنفرى في جملة دواوين عديدة كانت في حوزته6. وقد كتب عدد من المستشرقين عن الشنفرى وشعره بمختلف اللغات7.
وأما "تأبط شرا"، وهو "ثابت بن جابر بن سفيان"، وقيل "ثابت بن عمسل" فهو من فهم، وكان من أغربه العرب، لأن أمه أمة سوداء. وكان من العدائين المعروفين عند العرب. وله أخبار كثيرة في ذلك، وله مغامرات تحمل طابع القصص والأساطير. وله قصيدة في وصف "الغول" ذكر فيها كيف طير بسيفه قحف ابنة الجن8. وكان أحد رآبيل العرب. وذكر علماء اللغة أن الرئبال هو الذي ولدته أمه وحده9، وبه سميت رآبيل العرب، ومن السباع الكثير اللحم الحديث السن، والذئب الخبيث، وترأبلوا: تلصصوا أو أغاروا على الناس
__________
1 بروكلمان "1/ 107".
2 تأريخ الآداب العربية "73"، الأغاني "13/ 5".
3 العصر الجاهلي "380 وما بعدها".
4 بروكلمان "1/ 105، 109"، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1937م.
5 الشعراء الصعاليك "159 وما بعدها".
6 العيني، كتاب المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية "48/ 596".
7 راجع بروكلمان "1/ 107".
8 الشعر والشعراء "174"، الأغاني "18/ 209"، "بولاق"، خزانة الأدب "1/ 66"، بروكلمان"1/ 104 وما بعدها"، شرح شواهد المغني، للسيوطي "19"، المفضليات "27 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 230 وما بعدها"، "دار الثقافة، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 104".
9 تاج العروس "5/ 100"، "أبط"، السيوطي، شرح شواهد المغني "1/ 50 وما بعدها"، "أحمد ظافر كوجان".(18/207)
وفعلوا فعل الأسد، أو غزوا على أرجلهم وحدهم بلا وال عليهم1. وهذا المعنى هو أقرب المعاني وأقرب إلى الصحة في تفسير "رآبيل العرب". فهم الصعاليك الذين نبحث عنهم.
ويظهر أن أباه مات وهو صغير، وأن أمه التي كانت أمة سوداء على أغلب الروايات، أو أمة حرة في رواية، تزوجت الشاعر "أبا كبير" الهذلي، وهو من الصعاليك، من صعاليك هذيل، وأن أبناء قبيلته كانوا يعيرونه بسواده، مما ترك أثرا في نفسه، فتصعلك، وأخذ يرافق الصعالكة، ومنهم صعلوك شهير آخر، هو "الشنفرى" الذي رافقه في كثير من غزواته. وقد نعت "تأبط شرا" بأنه كان شاعرا بئيسا، يغزو على رجليه2.
ومما يروى من قصصه أنه كان يشتار عسلا من جبل ليس له غير طريق واحد، فأخذت لحيان عليه ذلك الموضع، وخيروه النزول على حكمهم أو إلقاء نفسه من الموضع الذي ظنوا أنه لا يسلم، فصب العسل الذي معه على الصفا وشد صدره على الزق ثم لصق على العسل، فلم يبرح ينزلق عليه حتى نزل سالما، فنظم في ذلك قصيدة مطلعها:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر3
ولعلماء الشعر قصص في تفسير تسمية هذا الشاعر بـ "تأبط شرا"، فزعم بعض منهم أنه "إنما سمي تأبط شرا لأنه أخذا سيفا وخرج، فقيل لأمه أين هو؟ قالت: لا أدري، تأبط شرا وخرج. وقيل أخذ سكينا تحت إبطه وخرج إلى نادي قومه فوجأ بعضهم، فقيل تأبط شرا. وزعم بعض آخر أن أم تأبط شرا قالت له يوما: إن الغلمان يجنون لأهلهم الكمأة فهلا فعلت كفعلهم، فأخذ جرابه ومضى فملأه أفاعي وأتى متأبطا به، فألقاه بين يديها فخرجت الأفاعي منه
__________
1 تاج العروس "7/ 333"، "ربل"، الاشتقاق "162 ما بعدها"، اللآلئ "158 وما بعدها"، التيجان "242 وما بعدها"، أسماء المغتالين "215".
2 الشعر والشعراء "1/ 229"، "دار الثقافة"، الأغاني "18/ 215 وما بعدها"، BAUR. IN ZDMG, X, 7, 17, FF
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 975"، الأغاني "18/ 215"، شرح ديوان الحماسة "1/ 38"، المحبر 197 وما بعدها"، الخزانة "3/ 357".(18/208)
تسعى فولت هاربة. فقال لها نساء الحي: ما الذي كان ابنك متأبطا له؟ فقالت: تأبط شرا! وقيل: إنه رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت أبطه، فجعل يبول عليه طول طريقه، فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش، فرمى به، فإذا هو الغول. فقال له قومه: ما كنت متأبطا يا ثابت؟ قال: الغول. قالوا: لقد تأبطت شرا، فسمي بذلك. وإنه قال في ذلك:
تأبط شرا ثم راح أو اغتدى ... يوائم غنما أو يشيف على ذحل
وقيل سمّي بهذا البيت. قال رجل لتأبط شرا: "بم تغلب الرجال وأنت دميم ضئيل؟ قال: باسمي، إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل: أنا تأبط شرا، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت"1. وقيل إنما سمي "تأبط شرا"، لأن أمه رأته وقد تأبط جفير سهام وأخذ قوسا، فقالت له: هذا تأبط شرا، أو تأبط سكينا فأتى ناديهم فوجأ بعضهم، فسمي به لذلك، وكان لا يفارقه سيفه. قتلته هذيل في رواية، وقالت أخته ترثيه:
نعم الفتى غادرتم برخمان ... بثابت بن جابر بن سنان
وكانت تسمى "ريطة". وذكر أن أمه هي التي رثته. وقد ذكر في أشعار هذيل2.
وكان سبب قتله، أنه خرج غازيا في نفر من قومه، إذ عرض لهم بيت من هذيل، بين صدى جبل، فأراد مهاجمته، فمنعه من كان معه من مباغتته، لخروج ضبع اعتافوا منه، فلم يبال بتشاؤمهم، فلما قارب البيت رآه غلام، فهرب إلى الجبل، فهجم تأبط شرا مع جماعته على البيت، فقتلوا شيخا وعجوزا،
__________
1 الأغاني "21/ 146"، شرح حماسة أبي تمام "1/ 57"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 52".
2 تاج العروس "5/ 100"، "أبط" قال مليح الهذلي:
ونحن قتلنا مقبلا غير مدبر ... تأبط ما ترهق بنا الحرب ترهق
اللسان "7/ 254"، "أبط".
ويل أم طرف قتلوا برخمان ... بثامت بن جابر بن سنان
الشعر والشعراء "1/ 229"، "دار الثقافة"، الأغاني "18/ 209"، "بولاق"، المغتالين "215"، الخزانة "1/ 66".(18/209)
وحاز جاريتين وإبلا، ثم أبصر تأبط شرا بالغلام، فاتبعه فرماه الغلام بسهم أصاب قلبه، وحمل على الغلام فقتله، ثم مات هو من السهم، وترك جثة، فاحتملته هذيل، وطرحته في غار يقال له غار "رخمان". فرثته أخته "ريطة" بقولها:
نعم الفتى غادرتم برخمان ... ثابت بن جابر بن سفيان
قد يقتل القِرن ويَروي الندمان1
وفي بيت شعر ينسب إلى تأبط شرا، هو:
ولست أبيت الدهر إلا على فتى ... أسلبه أو أذعر السرب أجمعا2
معنى يفيد أنه كان يغير على القادم والآيب، يسلبه ويأخذ ما عنده، لا يبالي بشيء إلا بحصوله على غنيمة السلب، وهو إن قابل قافلة، فلم يتمكن منها، يكون قد رضي من فعله بما ألقاه من رعب وذعر في قلوب أصحابها، ويكون قد اشتفى بذلك منها. فهو رجل منتقم، يريد أن يفرج عما ولد في قلبه من غل، بأية طريقة كانت، غل، ولد فيه، من سواد لونه، ومن ازدراء قومه له، ومن فقره وسوء حاله في هذه الحياة، وذلك فيما لو صح أن هذا الشعر هو من قوله.
ونسب قوم من الرواة إلى "تأبط شرا" قصيدة مطلعها:
ولقد سريتُ على الظلام بمغشم ... جلد من التفيان غير مهبل
وهي قصيدة نسبها غيرهم إلى "أبي كبير" الهذلي، ووضعوا حولها قصة في شرح السبب الذي حمل "أبا كبير" أو "تأبط شرا" على نظمها3.
قال "الجاحظ" في كتابه "الحيوان ": "وقال تأبط شرا -إن كان قالها-:
__________
1 أسماء المغتالين "215 وما بعدها".
2 الأغاني "18/ 217".
3 الشعر والشعراء "2/ 562 وما بعدها"، "الثقافة".(18/210)
شامس في القر حتى إذا ما ... ذكرت الشعرى فبرد وظل
وله طعمان أريٌ وشريٌ ... وكلا الطعمين قد ذاق كل1
مما يدل على أنه في شك من أمر نسبة هذه القصيدة إليه.
وأشعار "تأبط شرا" متناثرة في كتب الأدب. ولم يطبع له ديوان بعد. ومن شعره أبيات، يذكر فيها أن "عذّالة" لامته حتى أكثرت من لومه، فكادت تخرق جلده أي تخراق، وقد عبر عن ذلك بقوله:
يا من لعذالة خذالة نشب ... خرقت باللوم جلدي أي تخراق
تقول أهلكتَ مالا لو ضننت به ... من ثوب عز ومن بز وأعلاق
سدد خلالك من مال تجمعه ... حتى تلاقي ما كل امرئ لاق
عاذلتا إن بعض اللوم معنفة ... وهل متاع وإن بقيته باق2
وهذه هي مشكلة أولئك الصعاليك، كانوا يخاطرون بحياتهم، للحصول على مال، فإذا حصلوا عليه، ونجوا من تعقب الناس لهم، أهلكوه. يتلفونه على ملذتهم، أو على أصدقائهم. وإذا بهم في حاجة إلى مال، وفي عسر وضيق.
ومن شعره قوله:
لتقرعنَّ عليّ السن من ندم ... إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي3
وله شعر يصف فيه حاله، بقوله:
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
يظل بموماة ويمسي بغيرها ... جحيشا وبَعْرُورِي ظهور المهالك
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدة المتدارك
إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئ من قلب شيحان فاتك
__________
1 الحيوان "3/ 68 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 230"، "دار الثقافة"، أبو تمام ديوان الحماسة "382 وما بعدها".
3 الحيوان "1/ 63".(18/211)
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخلق صائك
إذا هزه في عظم قرن تهللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك1
وهي قصيدة مدح بها عمه "شمس بن مالك"2.
وقد شك "الجاحظ" في نسبة هذه القصيدة إلى "تأبط شرا"، إذ قال: "ومن هذا الباب قول تأبط شرا، أو قول قائل فيه في كلمة له"3. وتنسب أيضا إلى "السليك بن السلكة" أحد غرابيب العرب4.
وله قصيدة ذكر فيها أنه التقى بالغول، وصار جارا للغيلان، وقد وصف حاله معها، حيث قال:
وأدهم قد جبت جلبابَه ... كما اجتابت الكاعب الخيعلا
إلى أن حدا الصبح أثناءه ... ومزق جلبابه الأليلا
على شيم نار تنورتها ... فبت لها مدبرا مقبلا
فأصبحت والغول لي جارة ... فيا جارتا أنت ما أهولا
وطالبتها بعضها فالتوت ... بوجه تهول فاستهولا
وهي قصيدة ذكرها "ابن قتيبة"، وقد اكتفيت منها بالأبيات المتقدمة5. وقد عمل "ابن جني" ديوان "تأبط شرا"6، ونشرت بعض أشعاره وترجمت بلغات أعجمية7.
__________
1 الحماسة، لأبي تمام "1/ 46 وما بعدها"، "بولاق"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "73"، "إذا خاص"، "إذا خاط"، الحيوان "6/ 467".
2 كارلو نالينو، "73".
3 الحيوان "6/ 255"، وتجد اختلافا بين نص الجاحظ لها، وبين نصها في الموارد الأخرى.
4 الحماسة "1/ 22"، القالي، أمالي "2/ 138"، التيجان "242"، زهر الآداب "2/ 18"، الصناعتين "279، 310"، ثمار القلوب "204"، الحيوان "6/ 256".
5 الشعر والشعراء "1/ 230 وما بعدها". إعجاز القرآن، للباقلاني "22"، مروج الذهب "2/ 134 وما بعدها"، "ذكر أقاويل العرب في الغيلان والتغول".
6 بروكلمان "1/ 104 وما بعدها".
7 Ch. Lyell, Four Poems by T. Sh. the Poet, brigand JRAS, 1918, 211-227(18/212)
وأما "السليك بن السلكة"، فهو من تميم. وأمه أمة سوداء، وكان يغير على القبائل، ولا سيما القبائل اليمانية وقبائل ربيعة. وكان من العارفين باقتفاء الأثر ومن العالمين بالمسالك وبالطرق وبالأرض. يذكرون أنه كان إذا جاء الشتاء استودع بيض النعام ماء السماء ثم دفنه، فإذا كان الصيف، وأغار واحتاج إلى الماء، جاء إلى مواضع البيض، فاستخرج البيض منها وشرب ما فيه من ماء1.
وقد نسب "سليك" على هذا النحو: سليك بن يثربي بن سنان بن عمير بن الحرث، وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن سلكة، وهي أمه. ولذا قيل: "ابن السلكة" وقيل اسم والده: "عمرو بن يثربي"، ويقال "عمير"، وهو شاعر لص فتاك عدّاء. يقال: أعدى من سليك"، ويقال له: "سليك المقانب". قال قران الأسدي، وقيل أنس بن مدرك:
لَخُطّاب ليلى يالَ برثن منكم ... على الهول أمضى من سليك المقانب2
وقال أهل الأخبار عنه، إنه أحد أغربة العرب وهجنائهم وصعاليكهم ورجيلاتهم، وكان له بأس ونجدة. وكان أدل الناس بالأرض وأجودهم عدوا على رجليه، وكان لا تعلق به الخيل. وتذكر قصة أنه خرج رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر عليه، فيذهب بإبله، وبينما هو نائم، وإذا برجل يجثم عليه، ويقول له: أستأسر، فتمكن منه السليك، ووجده صعلوكا فقيرا جاء مثله لعله يصيب شيئا، فاتفق معه على أن يغزوَا معا، فلما سارا وجدا رجلا صعلوكا انضم إليهما، واتفقوا على الغزو، ولما كانوا في جوف "مراد"، وجدوا نعما، فطلب "سليك" من رفيقيه الانتظار والتربص ريثما يذهب إلى الرعاء فيلهيهما، ثم يغيرا على النعم. فلما وصل إلى الرعاء، تودد إليهم، ثم قال لهم: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فأخذ يغني:
__________
1 زيدان، تأريخ آداب "1/ 163"، الأغاني "8/ 133"، الشعر والشعراء "213".
2 اللسان "10/ 443"، "سلك"، تاج العروس "7/ 144"، "سلك"، "السليك بن سنان بن سلكة"، تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه "105 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الأولى".(18/213)
يا صاحبي ألا لا حيّ بالوادي ... إلا عبيد وآم بين أذواد
أتنظران قليلا ريث غفلتهم ... أم تعدوان فإن الريح للعادي
فلما سمعا ذلك أطردا الإبل فذهبا بها1.
وذكر أن "بكر بن وائل" سارت للإغارة على "تميم". ورأته طلائعهما، فأرادت القبض عليه، حتى لا يذهب إليهم فيخبرهم بزحفهم عليهم. ولكنه ركض مسرعا، ففلت منهم، وأخبر قومه بغزوهم، فكذبوه، فقال في ذلك شعرا، وجاءت "بكر بن وائل" فأغارت عليهم2.
وقد وصفه "عمرو بن معدي كرب" في شعر منه:
وسيريَ حتى قال في القوم قائل ... عليك أبا ثور سليك المقانب3
ومر "سليك" في بعض غزواته ببيت من "خثعم"، أهله خلوف، فرأى فيهم امرأة بضة شابة، فتسنّمها ومضى، فأخبرت القوم، فركب "أنس بن مدرك الخثعمي" في أثره فقتله، وطولب بديته، فقال: والله لا أديه ابن إفال، وقال:
إني وقتلي سليكا يوم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر
غضبت للمرء إذ نيكت حليلته ... وإذ يشد على وجعائها الثغر4
وقد ورد البيتان على هذه الصورة:
إني وقتلي سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر
أنفت للمرء إذ نيكت حليلته ... وإذ يشد على وجعائها الثغر5
ومن بقية الشعراء الصعاليك، "حاجز" الأسدي، و "قيس بن الحدادية"
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 282 وما بعدها"، "الثقافة"، الأغاني "18/ 134".
2 الشعر والشعراء "1/ 284"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 17"، "بولاق".
3 الشعر والشعراء "1/ 284"، "الثقافة".
4 الشعر والشعراء "1/ 285"، "الثقافة" أسماء المغتالين "220، 226 وما بعدها"، الأغاني "18/ 133"، المؤتلف "137"، الخزانة "2/ 17".
5 الحيوان "1/ 18".(18/214)
الأزدي، و "أبو الطمحان" القيني، و "أبو خراش" الهذلي، وصخر الغي الهذلي1، وأخوه الأعلم الهذلي2، وعمرو ذو الكلب3.
فأما "قيس بن الحدادية"، فهو "قيس بن منقذ بن عبيد بن أصرم بن ضاظر بن حبشية بن سلول"، وله مع "عامر بن الظرب" حديث. وصفه "المرزباني" بـ "شاعر قديم كثير الشعر"4. وأمه من "بني حداد" كنانة، وقومها يجعلونها من حداد محارب. وكان صعلوكا خليعا5، ساهم مع جماعة من أهله في قتل رجل من قبيلتهم، وعجز قومه عن دفع ديته، فولوا هاربين، فنزلوا في "فراس بن غنم" ثم لم يلبثوا أن قتلوا منهم رجلا، فهربوا، فنزلوا على "أسد بن كرز" من "بجيلة"، فأحسن إليهم وتحمل عنهم ما أصابوه في خزاعة وفي فراس6. وقد نسب "قيس" إلى أمه الحدادية، وهي حضرمية من محارب7. وورد أن أمه من "محارب بن خصفة". و"حداد" من كنانة. ومن شعره:
أنا الذي أطرده مواليه ... وكلهم بعد الصفاء قاليه8
ولا نجد في بطون الكتب شعرا كثيرا لقيس بن الحدادية، بحيث تنطبق عليه جملة "كثير الشعر" التي أطلقها "المرزباني" على شعر هذا الشاعر، مما يبعث على الاحتمال بضياعه منذ عهد طويل.
وألف "قيس بن الحدادية"، عصابة ضمت "شذاذا من العرب وفتاكا
__________
1 شرح أشعار الهذليين "1/ 12"، الأغاني "20/ 19"، الشعر والشعراء "2/ 559"، ديوان الهذليين "2/ 57".
2 الشعر والشعراء "2/ 559".
3 الأغاني "20/ 19".
4 زيدان، تأريخ آداب "1/ 164".
5 المرزباني، معجم "202"، الأغاني "13/ 6".
6 الأغاني "13/ 2 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "96 وما بعدها".
7 كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء "86 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الأولى".
8 كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء "87"، الاشتقاق "277"، ألقاب الشعراء، لابن حبيب "139".(18/215)
من قومه" وأخذ يغير على عشيرته بسبب خلعها له، وبقي شريدا متمردا يغزو بصعاليكه، إلى أن قتل صعلوكا1.
وأما "أبو الطمحان" القيني، فهو "حنظلة بن الشرقي" من بني كنانة بن القين، وكان فاسقا، نازلا بمكة على الزبير بن عبد المطلب، وكان ينزل عليه الخلعاء، وكان نديما له في الجاهلية. اختلف فيه، فمنهم من قال إنه جاهلي، ومنهم من قال إنه أدرك الإسلام. وقد زعم بعضهم أنه عاش مائتي سنة، وأنه ندم على ما اقترفه من الذنوب كالزنا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والسرقة، ورووا له شعرا تبرأ فيه من الذنوب. ذكر أنه قيل له: ما أدنى ذنوبك؟ قال: ليلة الدير، قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت بديرانية، فأكلت عندها طفشيلا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت!؟ وكانت له ناقة يقال لها "المرقال"، وله إبل استقاها قوم نزلوا ضيوفا عليه وشربوا من ألبانها ثم أخذوها معهم، فقال في ذلك شعرا منه:
وأني لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبر2
وذلك أنه جاورهم. فكان يسقيهم اللبن؛ فقال أرجو أن تشكروا لي رد إبلي، على ما شربتم من ألبانها، وما بسطت من جلد أشعث أغبر، كأنه يقول: كنتم مهازيل فبسط ذلك من جلودكم3.
وروي أنه كان من المعمرين، عاش على حد قول بعضهم مائتي سنة. فقال في ذلك:
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنو لصيد
قصير الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد4
__________
1 الشعراء الصعاليك "97 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 304 وما بعدها"، الإصابة "1/ 381"، "رقم 2011"، الأغاني "11/ 125"، الخزانة "3/ 426"، المعمرون للسجستاني "62"، المؤتلف "149"، أمالي المرتضى "1/ 257 وما بعدها".
3 الحيوان "4/ 473".
4 أمالي المرتضى "1/ 257".(18/216)
ونسب "المرتضى" له قوله:
وإني من القوم الذين همُ همُ ... إذا مات منهم ميت قام صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال منهم حيث كان مسود ... تسير المنايا حيث سارت كتائبه1
وقد لاقى "أبو الطمحان" مصاعب عديدة، وكان لا يكاد يجد له مكانا يستقر فيه، حتى تقع له حادثة توقعه في مشكلات عويصة وفي شدة ومحنة، فكان ينتقل من جار إلى جار، ثم يهم بالعودة إلى أهله لولا خوفه من أداء الدية التي عليه أن يدفعها، فيحجم عن الذهاب إليهم، حتى استقر أخيرا في "بني فزارة" في جوار رجل يقال له "مالك بن سعد" أحد "بني شمخ"، وكان كريما، فآواه، وأعطاء إبلا لتكون دية جنايته وزاد عليها، وكان قد لمّح له أنه يريد العودة إلى أهله لولا هذه الدية، فلما وجد هذا السخاء من مالك، بقي عنده، وصار أحد عشيرته حتى هلك فيها، وهو طاعن في السن2. فذكره "السجستاني" لذلك في المعمرين، وأعطاه مائتي سنة من عمر مديد3!
ونسب إلى "أبي الطمحان" قوله:
إن الزمان ولا تفنى عجائبه ... فيه تقطع ألاف وأقران
أمست بنو القين أفراقا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان4
وله شعر في مدح "مالك بن حمار" الشمخي، وكان شريفا من أشراف العرب قتله "خفاف بن ندمة" السلمي5، يقول فيه:
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 257".
2 الأغاني "11/ 132 وما بعدها".
3 المعمرون "62".
4 البيان والتبيين "1/ 187".
5 الاشتقاق "2/ 172"، والبيان والتبيين "3/ 235"، وقد أخطأ السيد عبد السلام محمد هارون في الجزء الأول من كتاب الحيوان الذي حققه، إذ قال: "وهو يمدح مالك بن حماد الشمخي"، ثم علق عليه برقم "4" حاشية، ثم قال في الحاشية: "هو قاتل خفاف بن ندبة"،"ص380"، الأغاني "13/ 134".(18/217)
سأمدح مالكا في كل ركب ... لقيتهم وأترك كل رذل
فما أنا والبكارة من مخاض ... عظام جلة سدس وبزل
وقد عرفت كلابُكم ثيابي ... كأني منكم ونسيت أهلي
نمتكم من بني شمخ زناد ... لها ما شئت من فرع وأصل1
وله أيضا:
فكم فيهم من سيد وابن سيد ... وفيّ بعقد الجار حين يفارقه
يكاد الغمام الغر يزعب إن رأى ... وجوه بني لأم وينهل بارقه2
وله في "بني نمير" قوله:
مهلا نمير فإنكم أمسيتم ... منا بثغر ثنيّة لم تستر
سودا كأنكم ذئاب خطيطة ... مطر البلاد وحرمها لم يمطر
يحبون ما بين أجا وبرقة عالج ... حبو الضباب إلى أصول السخبر
وتركتم قصب الشريف طواميا ... تهوى ثنيته كعين الأعور3
وله في الاتعاظ والاعتبار بدروس الغابرين، قوله:
ألا ترى مأربا ما كان أحصنه ... وما حواليه من سور وبنيان
ظل العبادي يسقي فوق قلته ... ولم يهب ريب دهر حق خوان
حتى تناوله من بعد ما هجعوا ... يرقى إليه على أسباب كتان4
ولما في حياة الصعالكة من غرابة وطرافة ومغامرات، تستلذ لسماعها الآذان، وضع الوضاعون عليهم إخبارا كثيرة وأشعارا عديدة، تجد بعضها تحكي الأيام
__________
1 البيان والتبيين "3/ 235".
2 البيان والتبيين "3/ 237".
كم فيهم من سيد وابن سيد ... وفي بعقد الجار حين يفارقه
يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى ... وجوه بني لام وينهل بارقه
الحيوان "3/ 93".
3 الحيوان "6/ 113".
4 الحيوان "6/ 154".(18/218)
التي وضع الوضاعون فيه تلك الأشعار، من حيث الطعن في الأغنياء، وتفضيل الفقراء عليهم، وترجيح الفقير على الغني، لشعوره بشعور إنساني حرم منه الغني الذي لم يكن يفكر إلا بنفسه، كما أن في كثير من الشعر المصنوع طابع حياة المغامرات. وهو يختلف نصا من مؤلف إلى مؤلف، مما يدل على تعدد الروايات، وأنه أخذ من ألسنة متعددة، فتعدد بعددها.(18/219)
الفصل الحادي والستون بعد المائة: شعراء القرى العربية
والقرى العربية في نظر "ابن سلام" خمس هن: مكة والمدينة والطائف واليمامة والبحرين1. و "القرية" في تفسير علماء العربية المصر الجامع، وقيل كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا وتقع على المدن وغيرها2. وقد جاءت اللفظة في مواضع عديدة من القرآن. كما وردت فيه: "القريتين"، بمعنى مكة والطائف3، و"أم القرى"، بمعنى "مكة"4، و"أهل القرى"، و"القرى". ومكة والمدينة والطائف قرى، أما "اليمامة"، فمصر جامع، ضم قرى، وكذلك البحرين. ولم تدخل "الحيرة"، أو الأنبار، في القرى العربية لكونهما خارج حدود جزيرة العرب في عرف العلماء.
وذكر "ابن سلام" أن أشعر أهل القرى الخمس، أهل قرية "المدينة"، أي "يثرب". وقد أخرجت خمسة من الفحول: ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس. فمن الخزرج من "بني النجار": "حسان بن ثابت"، ومن "بني سلمة": "كعب بن مالك"، ومن "بلحارث بن الخزرج": "عبد الله بن رواحة".
__________
1 طبقات "52".
2 تاج العروس "10/ 290"، "قرى".
3 "الزخرف"، الرقم "43"، الآية "31"، تفسير الطبري "25/ 39".
4 "الأنعام"، الرقم "6"، الآية "92"، تفسير الطبري "7/ 180".(18/220)
ومن "الأوس": "قيس بن الخطيم"، من "بني ظفر"، و "أبو قيس بن الأسلت" من "بني عمرو بن عوف"1.
وروي عن "أبي عبيدة" قوله: "اجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدر: يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف، وعلى أن أشعر أهل المدر: حسان بن ثابت، ثم قال: "حسان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر اليمن في الإسلام، وهو شاعر أهل القرى". وروي أنه كان أشعر أهل الحضر2.
وقال "ابن سلام" في حديثه عن مكة: "وبمكة شعراء"3 ووصف أشعار قريش بأنها أشعار فيها لين4، وهي سهلة سلسة إذا قيست بأشعار أهل البادية، يتغلب عليها طابع الحضارة، وكذلك شعر باقي القرى. وقال عن "الطائف"، وبها شعراء وليس بالكثير. وعلل ذلك بقوله: "وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يُغيرون ويغار عليهم. والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة، ولم يحاربوا. وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف"5. وقال عن "البحرين": "وفي البحرين شعر كثير جيد وفصاحة"6. وقال عن "اليمامة": "ولا أعرف باليمامة شاعرا مشهورا"7.
ولم تنفرد أشعار قريش وحدها باللين، وإنما الليونة والسهولة في الشعر من طبائع الشعر الحضري أجمع. ففي طبيعة الحياة في الحاضرة سهولة غير موجودة في حياة البداوة، وراحة ودعة واستقرار، وهي أمور لا توجد في البادية، ثم فيها اجتماع واحتكاك بعالم خارجي، وميل إلى جمع المال والاستمتاع به، والابتعاد عن الغزو والحرب، وهي هينة رخيصة عند الأعراب، وما الذي يجعل الأعرابي يحرص على حياته حرص أهل الحواضر، وكل ما عنده جوع وفقر وطبيعة قاسية
__________
1 ابن سلام، طبقات "52".
2 الاستيعاب "1/ 338"، "حاشية على الإصابة".
3 طبقات "57".
4 طبقات "60".
5 المصدر نفسه "65 وما بعدها".
6 كذلك "66".
7 كذلك "70".(18/221)
تجعله لا يحصل على قوته إلا بالإغارة على غيره لاستلاب ما عنده من رزق. فلا غرابة إذا ما غلظ شعره وخشن شعوره المتمثل في نظمه، ولأن شعر الحضري في مقابله.
ولم يذكر "ابن سلام" السبب الذي جعل "اليمامة" فقيرة في الشعر، حيث يقول: "ولا أعرف باليمامة شاعرا مشهورا"1، ولا الأسباب التي حملته على القول بعدم وقوفه على شاعر شهير فيها، مع أن "الأعشى" منها، وهو شاعر شهير، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وهما شاعران مشهوران من "قيس بن ثعلبة"، و"قيس بن ثعلبة" من القبائل النازلة باليمامة، وقد ذكرها "ابن سلام" في طبقاته، كما ذكر "المتلمس"، في طبقاته، وهو شاعر معروف من شعراء اليمامة كذلك. ويظهر أنه نسي أسماءهم، لأنه كان يعلم أن الغلبة كانت لبني حنيفة على اليمامة عند ظهور الإسلام، ولم يحفظ الرواة -لسبب لا نعرفه- شعرا لشعراء من بني "حنيفة"، فعمم قوله على كل اليمامة، والحكم بالتعميم شيء مألوف بين أهل الأخبار.
وقد ذهب "الجاحظ" إلى أن "بني حنيفة" أهل اليمامة، كانوا أقل الناس شعرا، إذ يقول: "وبنو حنيفة مع كثرة عدهم، وشدة بأسهم، وكثرة وقائعهم، وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرا كلها، ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعرا منهم. وفي إخوتهم عجل قصيد ورجز، وشعراء ورجازون". وقد أنكر أن يكون ذلك بسبب مكان الخصب وأنهم أهل مدر، أي حضر، وإنما رجع ذلك إلى الطبع، وإلى "قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز، والبلاد والأعراق مكانها"2.
ويلاحظ أن علماء اللغة، جعلوا "اليمامة" في جملة الأرضين التي لم يرجعوا إلى لغاتها، فذكروا أنهم لم يأخذوا اللغة "لا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمجاورتهم تجار اليمن المقيمين عندهم"3، وذلك في الإسلام بالطبع، لأن تدوين اللغة لم يبدأ به إلا في هذا الحين. وهو رأي صحيح، لأن لغات أهل اليمامة متأثرة باللهجات العربية الجنوبية، كما كانت كتابتهم
__________
1 طبقات "70".
2 الحيوان "4/ 380 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 212".(18/222)
بالمسند، بدليل عثور المستشرقين على كتابات عديدة في مواضع من اليمامة، مدونة بهذا القلم، وبلغة عربية جنوبية متأثرة بلهجات خاصة بعض التأثر، ولهذا فنحن تستطيع أن نقول إن كتابات اليمامة التي عثر عليها الآن والتي سيعثر عليها في المستقبل، تكون مجموعة فريدة مهمة من الكتابات الجاهلية وقد تكون جسرا بين العربية الجنوبية القحة، وبين اللغات العربية الشمالية، وقد تكون هذه الخصائص اللغوية الفريدة هي التي جعلت "ابن سلام" يقول في طبقاته: "ولا أعرف باليمامة شاعرا مشهورا"1، إذ سمع أن شعراء اليمامة كانوا يقولون الشعر بلهجاتهم التي تختلف عن اللهجة التي نظم بها شعراء مجموعة "أل" فأهمل لذلك شعرهم، أو أن شعرهم لكونه شعرا محليا خاصا، لم ينتشر خارج قبائل اليمامة، فلم يصل إلى علمه منه شيء، فقال لذلك قوله المذكور، ولم يعده من الشعر المألوف، الذي تعورف عليه بين علماء الشعر، ولما كان "الأعشى" والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، والمتلمس، قد نظموا الشعر باللهجة المألوفة، ولكونهم من المتنقلة الذين تنقلوا بين العرب، وقضوا أكثر أوقاتهم خارج اليمامة، لم يدخلهم لذلك في شعراء اليمامة، لا جهلا منه بأصلهم، وإنما لما بينته من أسباب.
ولعل لكثرة وجود العبيد والموالي بها دخل في هذا الباب، فاليمامة أرض خصبة ذات مياه، استقر أهلها وأقاموا في القرى وزرعوا واستعانوا بالموالي وبالعبيد وبأهل اليمن لاستغلال أرضهم، فصاروا من أصحاب الزارعة في جزيرة العرب، كما استغلوا معادنها، واستعانوا في استغلالها بالأعاجم، فذكر أنه كان في معدن "شمام" ألف أو يزيد من المجوس، لهم بيت نار2. ولعل "آل كرمان"، و "الأحمر" في الحرملية، هم من الأعاجم الذين كانوا قد ولجوا هذه المواضع للعمل بها قبل الإسلام3، أضف إلى ذلك وجود عدد كبير آخر من الموالي في أكثر قرى اليمامة، شغلوا في الزراعة وفي استغلال المعادن وفي تصنيعها، وهي أمور يأنف منها الأعرابي ويزدريها. ولهذا قيل لهم أهل "ريف"، وقد وصفهم جرير بقوله:
__________
1 طبقات "70".
2 الصفة "142".
3 لغدة "302 وما بعدها، 356".(18/223)
صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها1
وذلك تعبيرا عن كثرة من كان في اليمامة من العبيد والموالي الذين لعبوا دورا كبيرا في اقتصاد اليمامة، حيث شغلوا في الزراعة وفي الرعي وفي استغلال المعادن والصناعة، وإنشاء القرى، حتى صارت أرضها بين قري وأرض استغلت بزرعها سيحا، أي على مياه الأمطار. وأما القرى، فقد أقيمت على الآبار والعيون والمياه الجارية وعلي حافات الأودية. وقد حفر الرقيق أكثر هذه الآبار، كما استغلت الآبار العادية، أي الآبار القديمة التي تنسب إلى ما قبل مجيء قبائل "ربيعة" إلى اليمامة. ونجد في الكتب التي وصفت اليمامة ذكرا لمواضع كثيرة، توفرت بها المياه، فصارت أرضين خصبة، مونت اليمامة وغيرها بالحنطة والتمور والخضر.
وكان جل أهل "اليمامة" عند ظهور الإسلام من "بكر بن وائل"، وبكر بن وائل من "ربيعة"، فهم ليسوا من "مضر" أذن، الذين أخذ عنهم علماء العربية اللغة في الإسلام. فقوم الأعشى، وهم "بنو قيس بن ثعلبة" من بكر بن وائل، وبنو حنيفة، وهم قوم "مسيلمة" من بني لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل"2، فإلى ربيعة كانت الغلبة في هذا العهد، وأما بطون "تميم" التي كانت تقيم في مناطق من اليمامة، فلم تكن تكوّن الكثرة إلى جانب ربيعة، وتميم من مضر في عرف أهل الأخبار.
واليمامة إقليم مشهور عرف بعذوبة مياهه، وبخصبه وبكثرة قراه، وباشتغال أهله بالزراعة، وزراعة النخيل والأشجار المثمرة والحنطة، كما عرف بتربيته للإبل والبقر والغنم، ولذلك وفرت اللحوم به، وقد استقر أهله، وصاروا حضرا وأشباه حضر، ولعل لصلتهم باليمن ولنزوح أهلها القدامى من اليمن، وهم أهل زرع وضرع، ثم توفر الماء والتربة الخصبة في اليمامة، جعلت كل هذه الأمور أهلها حضرا على مستوى عال من الحياة بالنسبة إلى من كان يقيم في البوادي من القبائل، اعتمدوا في الدفاع عن أنفسهم على الحصون والبتل التي لا تزال آثار بعضها قائمة إلى هذا اليوم، فكانوا إذا بوغتوا بهجوم، أسرعوا إلى بتلهم وقصورهم، فتحصنوا بها. وهي من أهم ما يميز أهل الحضر عن
__________
1 الخزانة "2/ 300"، "بولاق".
2 تاج العروس "6/ 78"، "حنيف".(18/224)
أهل الوبر. ولهذا نجد مستوطنات أهل المدر، مكونة من أطم كما تسمى في "يثرب"، وقصور كما تسمى في الحيرة وفي قرى عرب العراق، وبتل كما عرفت في اليمامة، وبفضل هذا النظام الدفاعي، حموا أنفسهم من هجمات الأعراب عليهم.
ولطابع الاستقرار الغالب على أهل اليمامة أثر في شعر شعراء اليمامة. يظهر في أساليب شعرائها السهلة وفي البحور التي نظموا بها شعرهم، وهم يقربون بذلك من شعراء عرب العراق أو الشعراء الذين تأثروا بالشعر العراقي، كما يظهر هذا الطابع في المعاني التي تطرقوا إليها، وسبب قربهم في المعاني وفي الصياغة من أهل العراق، هو تشابه الحياة بين عرب الحيرة مثلا وبين أهل اليمامة. فأهل الحيرة حضر أو أشباه حضر، وأهل اليمامة حضر مثلهم أو أشباه حضر، لهم زراعة، ولهم حرف قد احترفوها منذ أمد طويل، ثم إن النصرانية كانت قد انتشرت بين عرب العراق، وقد انتشرت بين أهل اليمامة كذلك، وجذورها وإن لم تكن عميقة راسخة في المحيطين، لكنها كانت قد تأثرت بعقلية أهلهما على كل حال.
ومن شعراء اليمامة المرقش الأكبر، وهو "ربيعة بن سعد بن مالك"، ويقال: بل هو عمرو بن سعد بن مالك، وقيل "عوف بن سعد بن مالك" من "بني قيس بن ثعلبة" من قبائل اليمامة المعروفة، وكان أبوه سيد قومه في حرب البسوس، وهو خال "عمرو بن قميئة"، وله صهر مع طرفة والأعشى ميمون1. ذكر أنه إنما عرف بالمرقش بهذا البيت:
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم2
ويعد "المرقش" الأكبر من الشعراء العشاق، وله قصة عن حبه ابنة عمه، وعن زواجها أثناء غيابه، ثم بحثه عنها، ونزوله كهفا أسفل "نجران"، ثم احتياله في الوصول إليها، ووفاته بعد ذلك، وهي قصة نجد لها مثيلا في قصص
__________
1 بروكلمان "1/ 102"، المزهر "2/ 476 وما بعدها، 481".
2 الشعر والشعراء "1/ 138"، "دار الثقافة"، المرزباني، معجم "201"، الأغاني "5/ 199"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 889"، اللسان "8/ 195" الأغاني "6/ 127"، المؤتلف"184"، المفضليات "111"، رسالة الغفران "337 وما بعدها، 351، 355، 560"، البيان والتبيين "1/ 374".(18/225)
وحكايات الأمم الأخرى1. وقيل إن صاحبته "أسماء بنت عوف بن مالك"، كان أبوها زوّجها رجلا من مراد، والمرقش غائب، فلما رجع أخبر بذلك، فخرج يريدها ومعه عسيف له من "غفيلة" فلما صار في بعض الطريق مرض، حتى ما يحمل إلا معروضا، فتركه الغفيلي هناك في غار، وانصرف إلى أهله، فخبرهم أنه مات، فأخذوه وضربوه حتى أقر، فقتلوه، ويقال إن أسماء وقفت على أمره، فبعثت إليه فحمل إليها، وقد أكلت السباع أنفه. فقال:
يا راكبا أما عرضت فبلغن ... أنس بن عمرو حيث كان وحرملا
وقد وصف في هذه الأبيات ما لاقاه في سفره، وهروب الغفيلي منه، وذهاب السباع بأنفه، ويقال إنه كتبها على خشب الرحل بالحميرية، وكان يكتب بها، فقرأها قومه، فلذلك ضربوا الغفيلي حتى أقر2. وفي أكل السباع أنفه يقول:
من مبلغ الفتيان أن مرقشا ... أضحى على الأصحاب عبئا مثقلا
ذهب السباع بأنفه فتركنه ... ينهشن منه في القفار مجدلا3
ونسب له قوله:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أخوك الذي إن أحرجتك ملمة ... من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت
... عليك أمور ظل يلحاك دائما4
وقد تعرض "المعري" لكلمة "المرقش":
هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان حيا ناطقا كلم
وقال بعد ذلك: "على أن مرقشا خلط في كلمته فقال:
__________
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 102".
2 الشعر والشعراء "1/ 138 وما بعدها"، "الثقافة".
3 رسالة الغفران "355"، الأغاني "6/ 127".
4 بلوغ الأرب "3/ 107 وما بعدها".(18/226)
ماذا علينا إن غزا ملك ... من آل جفنة ظالم مرغم
وهذا خروج عما ذهب إليه الخليل"1.
وتعرض بعد ذلك له، بأن تصور نفسه وهو يقول له وقد زاره في أطباق العذاب: إن قوما من أهل الإسلام كانوا يستزرون بقصيدتك الميمية التي أولها:
هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان حيا ناطقا كلم
وإنها عندي لمن المفردات. وكان بعض الأدباء يرى أنها والميمية التي قالها المرقش الأصغر ناقصتان عن القصائد المفضليات، ولقد وهم صاحب هذه المقالة. وبعض الناس يروي هذا الشعر لك:
تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند ولكن من يبلغه هندا
خليلي جورا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
وقولا لها ليس الضلال أجارنا ... ولكننا جرنا لنلقاكم عمدا
ولم أجدها في ديوانك فهل ما حكي صحيح عنك؟
فيقول: لقد قلت أشياء كثيرة، منها ما نقل إليكم، ومنها لم ينقل. وقد يجوز أن أكون قلت هذه الأبيات ولكني سرفتها لطول الأبد ولعلك تنكر أنها في هند، وإن صاحبتي أسماء، فلا تنفر من ذلك، فقد ينتقل المشبب من الاسم إلى الاسم، ويكون في بعض عمره مستهترا بشخص من الناس، ثم ينصرف إلى شخص آخر، ألا تسمع إلى قولي:
سفه تذكُّره خويلة بعدما ... حالت ذرا نجران دون لقائها2
ومن القصيدة الميمية المنسوبة إليه قوله:
النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم3
__________
1 رسالة الغفران "337 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "355 وما بعدها".
3 رسالة الغفران "560، أمالي المرتضى "2/ 255، 257".(18/227)
وقوله:
ليس على طول الحياة ندم ... ومن مراء المرء ما يعلم1
ولم يبق من شعر المرقش الأكبر إلا "12" قطعة، وفي بعض شعره اضطراب، والقطعة "54" من الأصمعيات من بحر عروض لم يهتد المتأخرون إلى تحديده2. ونجد بحر الخفيف عنده3.
وأما المرقش الأصغر، فهو "عمرو بن حرملة"، وقيل: "ربيعة بن سفيان"، وقيل "عمرو بن سفيان" وهو من بني سعد بن مالك بن ضبيعة، أحد عشاق العرب المشهورين. وورد في رواية أنه أخو المرقش الأكبر، ويقال إنه ابن أخيه، وقد اشتهر بقصة غرامه بفاطمة بنت المنذر الثالث ملك الحيرة4 وكانت لها خادمة تجمع بينهما، يقال لها "هند بنت عجلان"، وكان للمرقش ابن عم يقال له "جناب بن عوف بن مالك"، لايؤثر عليه أحدا، وكان لا يكتمه شيئا من أمره، فألح عليه أن يخلفه ليلة عند صاحبته، فامتنع عليه زمانا، ثم إنه أجابه إلى ذلك، فعلمه كيف يصنع إذا دخل عليها، فلما دنا منها أنكرت عليه مسه، فنحته عنها، وقالت: لعن الله سرا عند المعيدي. وجاءت الوليدة فأخرجته، فأتى المرقش فأخبره، فعض على إبهامه فقطعها أسفا وهام على وجهه حياء. وخلد القصة في شعر5.
وكان هرب من المنذر وأتى الشام، فقال:
أبلغ المنذر المنقب عني ... غير مستعتب ولا مستعين
لات هنا وليتني طرف الز ... ج وأهلي بالشأم ذات القرون6
__________
1 أمالي المرتضى "2/ 78".
2 بروكلمان "1/ 102".
3 غرونباوم "279".
4 الشعر والشعراء، لابن قتيبة "105 وما بعدها"، الأغاني "5/ 193 وما بعدها"، للمرزباني "201"، بروكلمان "1/ 103"، "4 وما بعدها"، "فراج"، المؤتلف "184"، المفضليات "114"، الأغاني"6/ 136 وما بعدها"، رسالة الغفران "357".
5 الشعر والشعراء "1/ 143"، "الثقافة".
6 الشعر والشعراء "1/ 144"، "الثقافة".(18/228)
وصاحبته بنت عجلان، أمة كانت لبنت "عمرو بن هند"، وفيه يقول:
يا بنت عجلان ما أصبرني ... على خطوب كنحت بالقدوم
ومن شعره المشهور هذا البيت:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما1
ويعد المرقش الأصغر أشعر من عمه، ويغلب على شعره الغزل، وهو أكثر صقلا، وأقرب مطابقة لأسلوب المتأخرين2.
ومن شعراء اليمامة: "المتلمس"، وهو "جرير بن عبد المسيح"، وقيل "جرير بن عبد العزى"، وقيل غير ذلك، وهو من بني ضبيعة، وأخواله "بنو يشكر". وهو خال" طرفة"، لقب بالمتلمس لبيت قاله، هو:
فهذا أوان العرض حيا ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
وقيل إن اسم أبيه "عبد العزى"، وهو من أسماء الوثنيين، ويظهر أنه تنصر فسمى نفسه عبد المسيح3.
وكان ينادم "عمرو بن هند" ملك الحيرة هو وطرفة بن العبد، فبلغه أنهما هجواه، فكتب لهما إلى عامله بالبحرين كتابين، أوهمهما أنه أمر لهما فيهما بجوائز، وكتب إليه يأمره بقتلهما، فاستراب "المتلمس" من الكتابين وعرض كتابه على غلام من أهل الحيرة، فقرأه فإذا فيه أمر بقطع يديه ورجليه، ودفنه حيا، فمزقه، ورماه في نهر الحيرة، وقال لطرفة: ادفع إليه صحيفتك يقرأها، فأبى وذهب إلى البحرين فقتله عامل "عمرو بن هند". وهرب المتلمس إلى بصرى
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 143 وما بعدها"، "فمن يلق خيرا"، أمالي المرتضى "2/ 246".
2 بروكلمان "1/ 103".
3 بروكلمان تأريخ الآداب العربية "1/ 93"، الشعر والشعراء "1/ 112 وما بعدها"، الخزانة "3/ 73"، "بولاق".
فهذا أوان العرض جن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
السيوطي، شرح شواهد "1/ 298"، الاشتقاق "1/ 193"، البيان "1/ 375".(18/229)
واستقر هناك إلى أن مات بها. وضرب المثل بصحيفة المتلمس1.
و"المتلمس" من "ضبيعة أضجم"، وقد نسبت إلى "الحارث الأضجم"، وكان قديم السؤدد فيهم، كانت تجبى إليه إتاوتهم2.
وقد ذكر "العيني" أن البيت المنسوب إلى "المتلمس"، وهو البيت الذي ضرب به المثل، فقيل صحيفة المتلمس، ونصه:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
ليس من نظم المتلمس، ولم يقع في ديوان شعره، وإنما هو لأبي مروان النحوي، قاله في قصة المتلمس حين فر من عمرو بن هند. وكان قد هجا "عمرو بن هند"، وهجاه أيضا طرفة بن العبد، فقتل طرفة وفر المتلمس. وبعد البيت المذكور:
ومضى يظن بريد عمرو خلفه ... خوفا وفارق أرضه وقلاها3
ويحتمل على رأي "بروكلمان" أن تكون قصة الصحيفة مختلفة، وكذلك القصيدة التي ورد فيها ذلك البيت4.
قال الشريف المرتضى: "ويقال إن صاحب المتلمس وطرفة في هذه القصة هو النعمان بن المنذر، وذلك أشبه بقول طرفة:
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأبو منذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 112 وما بعدها"، الأغاني"21/ 120"، الخزانة "1/ 446"، "بولاق"، الميداني، أمثال "1/ 270"، أمالي المرتضى"1/ 183 وما بعدها".
2 الاشتقاق "1/ 192".
3 العيني، المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية "4/ 134"، "حاشية على خزانة الأدب".
4 بروكلمان"1/ 94".(18/230)
طرفة النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان"1.
وفي شعر المتلمس ما يتعلق بأخبار القبائل، وفيه هجاء لعمرو بن هند. وهو من الشعراء المقلين. "قال أبو عبيدة: واتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، وحصين بن الحمام المري"2. وذكر أنه أخذ يهجو "عمرو بن هند" من منفاه، ويحرض قوم طرفة على الطلب بدمه. فمن جملة ما قاله قصيدته:
إن العراق وأهله كانوا الهوى ... فإذا نأى بي ودهم فليبعد
ولما تهدده "عمرو"، وحلف إن وجده بالعراق ليقتلنه وأن لا يطعمه حب العراق، قال المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
لم تدر بصرى بما آليت من قسم ... ولا دمشق إذا ديس الكراديس3
وبقى ببصرى حتى هلك بها، كان له ابن يقال له: عبد المدّان، أدرك الإسلام، وكان شاعرا، هلك ببصرى ولا عقب له4.
وكان طرفة بن العبد وخاله المتلمس وفدا على "عمرو بن هند" فنزلا منه خاصة ونادماه، ثم إنهما هجواه بعد ذلك، فكتب لهما كتابين إلى البحرين وقال لهما: إني قد كتبت لكما بصلة، فاشخصا لتقبضاها. فخرجا من عنده، والكتابان في أيديهما، فمرا بشيخ جالس على ظهر الطريق منكشفا يقضي حاجته، وهو مع ذلك يأكل ويتفلى، فقال أحدهما لصاحبه: هل رأيت أعجب من هذاالشيخ؟ فسمع الشيخ مقالته فقال: ماترى من عجبي؟ أخرج خبيثا، وأدخل طيبا، وأقتل عدوا، وإن أعجب مني لمن يحمل حتفه وهو لا يدري. فأوجس المتلمس في نفسه خيفة وارتاب بكتابه. ولقيه غلام من الحيرة فقال: أتقرأ يا غلام؟
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 185".
2 الشعر والشعراء "1/ 115".
3 الخزانة "3/ 75"، "بولاق".
4 الشعر والشعراء "1/ 115"، "دار الثقافة".(18/231)
قال: نعم. ففض خاتم كتابه ودفعه إلى الغلام فقرأه عليه، فإذا فيه: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه واصلبه حيا. فأقبل على طرفة فقال: تعلم والله، لقد كتب فيك بمثل هذا. فلم يلتفت إلى قول المتلمس، وألقى المتلمس كتابه في نهر الحيرة وهرب إلى الشام، وأخذ يهجو "عمرو بن هند"1.
ورويت القصة بشكل آخر خال من التزويق والتنميق نوعا ما. ذكرت أن "المتلمس وطرفة بن العبد هجوا عمرو بن هند، فبلغه ذلك، فلم يظهر لهما شيئا، ثم مدحاه فكتب لكل منهما كتابا إلى عامله بالحيرة "؟ "، وأوهم أنه كتب لهما فيه بصلة. فلما وصلا الحيرة، قال المتلمس لطرفة: إنا هجوناه، ولعله اطلع على ذلك، ولو أراد أن يصلنا لأعطانا! فهلم ندفع الكتابين إلى من يقرؤهما، فإن كان خيرا وإلا ندرنا. فامتنع طرفة، ونظر المتلمس إلى غلام قد خرج من المكتب فقال: أتحسن القراءة، قال: نعم. فأعطاه الكتاب ففتحه، فإذا فيه قتله. ففر المتلمس إلى الشام وهجا عمرا هجاء مقذعا. وأتى طرفة إلى عامل الحيرة بالكتاب فقتله"2. وقد حلت الحيرة في هذه القصة في محل البحرين، وصار العامل القاتل عامل الحيرة، وخلت من ذكر الشيخ.
وطرفة هو القائل في قصيدة له:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وكان النبي إذا استراث الخبر يتمثل بعجز هذا البيت من هذه القصيدة3.
ومن الشعر المنسوب إليه، قوله:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفساد
وحفظ المال خير من بغاه ... وجولٍ في البلاد بغير زاد
وقوله:
ولا يقيم على ذل يراد به ... إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا علي الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 295 وما بعدها"، المرزباني، معجم "5"، "فراج".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 371"، الشعر والشعراء "1/ 112".
3 المرزباني، معجم "6".(18/232)
وقوله:
ولو غير أخوالي أراد نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وما كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما1
وذكر أن النبي كتب لعيينة بن حصن كتابا، فقال: يا محمد أتراني حاملا إلى قومي كتابا كصحيفة المتلمس. أي لا أحمل إلى قومي كتابا لا علم لي بما فيه. وقد أشير إلى "صحيفة المتلمس" في شعر الفرزدق2، وفي شعر شعراء آخرين3.
ونسب إلى "المتلمس" قوله:
وأعلم علم حق غير ظن ... وتقوى الله من خير العتاد
لحفظ المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد4
وله شعر في الأقارب ذكره له الجاحظ في كتاب الحيوان5.
والمسيب بن علس، واسمه "زهير بن علس"، وإنما لقب بالمسيب بقوله:
فإن سركم ألا تئوب لقاحكم ... غزارا فقولا للمسيب يلحق6
و"المسيب بن علس بن مالك بن عمرو بن قمامة"، هو من "جُماعة"، وهم من "بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، ويكنى "أبا فضة"، وهو خال الأعشى، وكان الأعشى راويته. واسمه: "زهير بن علس". وإنما سمي "المسيب" لبيت قاله، هو:
فإن سركم ألا تئوب لقاحكم ... غزارا فقولوا للمسيب يلحق
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 112 وما بعدها".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 297".
3 الحيوان "2/ 85".
4 الحيوان "3/ 47".
5 "3/ 136".
6 الشعر والشعراء "1/ 108".(18/233)
وهو جاهلي لم يدرك الإسلام، من شعراء بكر بن وائل المعدودين، وكان امتدح بعض الأعاجم، فأعطاه، ثم أتى عدوا له من الأعاجم يسأله، فسمه فمات، ولا عقب له1.
وقد ذكر "الهمداني" أن الأعشى يحتذي في شعره على مثال "المسيب"، وكان الأعشى راويته2.
وله قصيدة قالها في "القعقاع بن معبد بن زرارة"، فيها:
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
أنت الذي زعمت معد أنه ... أهل التكرم والندى والباع3
وقد أورد "الهمداني" له قصيدة زعم أنه قالها في مدح "زيد بن مرب"، أو في مدح ابن ابنه "زيد بن قيس بن زيد" أولها:
كلفت بليلي خدين الشباب ... وعالجت منها زمانا خبالا
لها العين والجيد من مغزل ... تلاعب في القفرات الغزالا4
وقد ذكر "الجاحظ" شعرا قال إنه لغيلان بن سلمة الثقفي، هو:
في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع كأن متونه السحل
عقلا ورقما ثم أردفه ... كلل على ألوانها الخمل
كدم الزعاف على مآزرها ... وكأنهن ضوامرا إجل
وعقب عليه بقوله: "وهذا الشعر عندنا للمسيب بن علس"5.
وقد نشر ديوان "المسيب بن علس" في سلسلة نشريات "كب" GIBB بلندن سنة "1928م"6.
__________
1 الاشتقاق "316"، الخزانة "1/ 545"، الشعر والشعراء "1/ 107"، ابن سلام، طبقات "36"، ألقاب الشعراء "315"، الخزانة "2/ 9"، "بولاق".
2 الإكليل "2/ 307"، الشعر والشعراء "1/ 108"، أمالي المرتضى "1/ 560".
3 ابن سلام، طبقات "36".
4 الإكليل "2/ 304 وما بعدها".
5 الحيوان "6/ 335".
6 بروكلمان "1/ 151". GIBB, MEMORIAL, LONDON 1928(18/234)
ومن شعراء اليمامة: "ذو الكف الأشل"، واسمه "عمرو بن عبد الله بن حنيفة" من بني قيس بن ثعلبة، يكنى أبا جلان، فارس شاعر جاهلي، توعدته "بنو حنيفة" فقال فيها شعرا1.
و"الفند"، هو "سهل بن شيبان بن ربيعة بن زمّان بن مالك بن صعب" الزماني من شعراء الجاهلية. وله قصيدة في حرب البسوس2. وهو من "بني حنيفة". وكان أحد فرسان ربيعة المشهورين، شهد حرب بكر وتغلب، أي حرب البسوس، فكتب بنو بكر بن وائل إلى بني حنيفة يستنصروهم، فأمدوهم بالفند الزماني في سبعين رجلا، وكتبوا إليهم أنا قد بعثنا إليكم ألف رجل3.
ومن الشعر المنسوب إليه، قوله:
كففنا عن بني هند ... وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام ترجعهم ... جميعا كالذي كانوا
فلما صرح الشر ... وأضحى وهو عريان
شددنا شدة الليث ... عدا والليث غضبان
بضرب فيه تفجيع ... وتوهين وإرنان
وطعن كفم الزق ... وهى والزق ملآن4
وقد وردت هذه الأبيات في "الخزانة" بشيء من الاختلاف5.
و"عمرو بن عبد العزى بن سحيم بن مر بن الدئل" الحنفي، من بني حنيفة، وهو شاعر جاهلي6، وكذلك كان "عمرو بن الذراع" الحنفي من الشعراء الجاهليين7.
__________
1 المرزباني، معجم "14".
2 الحماسة "1/ 21"، الخزانة "2/ 57"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 944"، الأغاني "20/ 143 وما بعدها"، الاشتقاق "207"، الحماسة، للبحتري "74" الحماسة لأبي تمام "1/ 6".
3 الخزانة "2/ 57 وما بعدها".
4 الحيوان "6/ 415 وما بعدها"، الأمالي، للقالي "1/ 260".
5 الخزانة "2/ 58".
6 المعجم، للمرزباني "40".
7 المعجم، للمرزباني "41".(18/235)
ومن شعراء اليمامة أيضا "موسى بن حابر بن أرقم بن سلمة بن عبيد" الحنفي اليمامي. وكان جاهليا نصرانيا، يلقب بـ "أزيرق" اليمامة. ويعرف بـ "ابن ليلى"، وهي أمه. وهو شاعر كثير الشعر1، وعرف أيضا بـ "ابن الفريعة"2. وورد أنه كان من الشعراء الإسلاميين3.
ومن شعراء اليمامة: "مجاعة بن مرارة بن سلمى4 بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة" الحنفي اليمامي، وكان من رؤساء حنيفة، وأسلم ووفد، وأعطاه الرسول أرضا باليمامة يقال لها "العورة"، وكتب له كتابا بذلك، وكان بليغا حكيما، وكان ممن أسر يوم اليمامة، فأشير على "خالد" باستبقائه فأبقاه؛ وكان قد انضم إلى "مسيلمة"5.
ومن شعراء اليمامة "ثمامة بن أثال"، وكان من سادتها، ولما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة، وكانوا قد عتبوا عليه لدخوله في الإسلام، حتى شق عليهم ذلك، فكتبواإلى الرسول: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنا قد هلكنا، فكتب إلى ثمامة أن خل إليهم الحمل، فخلاه إليهم. وكان قد ثبت على الإسلام، ولم يرتد مع مسيلمة. وتوفي سنة "12" للهجرة6. وذكر من شعره قوله:
دعانا إلى ترك الديانة والهدى ... مسيلمة الكذاب إذ جاء يسجع
فيا عجبا من معشر قد تتابعوا ... له في سبيل الغي والغي أشنع7
وأشير إلى شاعرة من شاعرات "بني عجل" اسمها "حسينة"، وكان "عمرو بن الحارث بن أقيش" العكلي، قد أسرها، في يوم العذاب في الجاهلية، وهو يوم أغارت فيه "بنو عبد مناة بن أد بن طابخة" على عجل وحنيفة بأرض
__________
1 المرزباني "285"، شرح الحماسة، للمرزوقي "326".
2 الخزانة "1/ 146"، "بولاق"، المؤتلف "165"، الأغاني "10/ 107"، الحيوان "4/ 280".
3 الحيوان "4/ 280"، "حاشية 5".
4 وقيل سليم.
5 الإصابة "3/ 242"،"رقم 7724"، المرزباني، معجم "442"، خليفة بن خياط كتاب الطبقات "66".
6 الإصابة "1/ 204 "، "رقم 961"، الجمان في تشبيهات القرآن، لابن ناقيا البغدادي "283".
7 الاستيعاب "1/ 208"، "حاشية على الإصابة".(18/236)
جو باليمامة، ففاداها أخوها "أبجر بن جابر بن بجير بن شريط" العجلي بمائة من الإبل وخمسة أفراس1.
وإذا تجوزنا فأدخلنا "الحيرة" في جملة هذه القرى، وجب اعتبار "عدي بن زيد" العبادي ممثلها الأول، إذ لم يبلغ أحد مبلغه في الشعر من بين رجال هذه المدينة. فهو المقدم على جميع شعراء الحيرة التي كان يفد إليها الشعراء، ولأكثرهم ذكريات مع ملوكها، الذين كانوا يجملون العطاء لمن يمدحهم ويكيل لهم الثناء، لا لمجرد حب الاستماع إلى المدح والثناء والإطراء، بل لما لشعر المديح ولشعر الهجاء من أثر كبير في حياة ذلك اليوم، فالشعر هو من أهم وسائل الإعلام في ذلك الوقت، وللدعاية والإعلام وجلب الناس نحو الممدوح أهمية كبيرة بالنسبة إلى رجال الحكم والسياسة في كل زمان ومكان، إن كذبا وإن صدقا، فالسياسي يريد تحقيق سياسته، بأية وسيلة كانت، حتى إن كانت بالكذب والغش والتزوير، فالشعر من وسائل الخدمة السياسية التي استعان بها ملوك الحيرة في بسط نفوذهم في جزيرة العرب.
و"عدي بن زيد" العبادي هو ابن الحيرة، فهو لسان هذه المدينة، أما بقية الشعراء، فقد كانوا يأتون هذه المدينة، لنيل صلة أو لقضاء أمر، ثم يعودون إلى ديارهم، ومنهم من كان يطيل المقام بها، فيتأثر بثقافتها وبمحيطها حسب قابلياته وسرعة استجابته للمؤثرات الخارجية. ويظهر أنه كان لأهل الحيرة ولعرب العراق عامة ذوق خاص في الشعر، ولهم حب لتنويع البحور، والتزام البحور السهلة المؤثرة، وميل إلى التنوع في الوزن، والتعبير أحيانا عن بعض أفكار مستمدة من البداوة، والظهور بلون محدد من التراث المحلي2.
يقول "غرونباوم": "وليس من الغريب أن نجد التفنن في الأوزان الشعرية في العراق أغنى مما كان عليه في أي مكان آخر، وذلك لأن أجيالا كثيرة هي التي عاشت في المدينة وفي البلاط، ونزعت بطبيعة وضعها إلى التحسين في تلك الفنون، ولكن الغريب المدهش حقا أن نرى أبا دؤاد يعرض علينا أغنى تنوع عروضي في الشعر العربي القديم، لأن شعره جاء على اثني عشر بحرا. وإذا
__________
1 المرزباني، معجم "37".
2 غرونباوم "264".(18/237)
عدينا أمر التنويع في الأوزان، وجدنا هذه المدرسة قد أكثرت من بحر الرمل، ولا يستعمل هذا البحر في الشعر القديم إلا أبو دؤاد في ثلاث قصائد، وطرفة في ثلاث قصائد، وعدي في سبع قصائد، والمنقب في واحدة، والأعشى في اثنتين. ولا يستثنى من هذا الحكم أيضا إلا امرؤ القيس، القصيدة 18 وأقول إن هذه الحقيقة تقوي الرواية التي تقول إنه كان راوية لأبي دؤاد"1.
وقد لفت نظره وجود هذا البحر: بحر الرمل في العراق، ونموه بالحيرة بصورة خاصة، وعلل ذلك بقوله: "إن الرمل استعير من الوزن البهلوي ذي الثماني مقاطع كما صوره "بنفينيسته" "المجلة الآسيوية 2: 221، 1930"، وأنه عدل على نحو يلائم العروض العربي. والحق أن ليس من عقبة داخلية تقف دون القول بوجود أثر فارسي في النسق الشعري العربي، في المناطق المجاورة للدولة الفارسية والتابعة لها، ولأؤيد هذه النظرية أحيل القارئ على بحر المتقارب، فقد أثبت "بنفينيسته" أنه مشتق من البحر البهلوي hendekaayllabic ذي الأحد عشر مقطعا اثباتا يكاد لا يقبل الشك"2.
ولاحظ "غرونباوم" أن الخاصية العروضية الثانية لمدرسة الحيرة هي نزوعها إلى بحر الخفيف، وعند أبي دؤاد منه خمس عشرة قصيدة، وعند عدي سبع، وعند الأعشى خمس، ولم يستعمل هذا البحر عند الشعراء المعاصرين إلا على نحو عارض3. ولكننا نجد بحر الخفيف في شعر "عمرو بن قميئة"4، وفي شعر للمرقش الأكبر5، والمرقش الأصغر6، وفي شعر لعبيد7، وفي شعر ينسب لعامر بن الطفيل8، ومعلقة الحارث بن حلزة9.
ويعتبر "شوارتز" بحري الرمل والخفيف نوعا من الإيقاع الفارسي، انتقل إلى العربية. أما تأثير الشعر الساساني في الأعشى فيشهد به قطعة "بهلفية" طبعها
__________
1 غرونباوم "265 وما بعدها".
2 غرونباوم "265 وما بعدها".
3 غرونباوم "266".
4 القصيدة 6 و9 "لايل".
5 المفضليات "48".
6 المفضليات "59".
7 عبيد "11" و "27".
8 القصيدة "5"، والقطعة "14"، "لايل".
9 غرونباوم "277".(18/238)
"بنفينيسته" وترجمها، وقطعة أبي دؤاد "14"1، "18"2، وما فيهما من إشارة إلى البيزرة، تدلان على أثر الحضارة الساسانية في العراق.
وقد تعرض "بروكلمان" لموضوع تأثر الشعر الجاهلي بمؤثرات أجنبية، فأنكر ذلك، إذ قال: "وأما ما زعمه بعض العلماء من أن مؤثرات أجنبية أثرت في فن الشعر القديم، فليس هناك ما يؤيده، نعم يريد بورداخ أن يرجع النسيب العربي إلى شعر القصور اليونانية بالإسكندرية، لأن أكثر النسيب العربي يقال في عشق النساء المتزوجات، كما هو الحال عند شعراء ملوك الإسكندرية، ويتصور انتقال هذه الصناعة إلى العرب عن طريق شعراء الملوك في الشام والعراق. ولكن مثل هذه الأبيات الغزلية، التي تشبه النسيب في مطلع القصائد وإن لم تبلغ بعد نموا كاملا، يعرفها أيضا شعر التكرية في أوائل القصائد المطولة وفي أواخرها.
ولا شك أنه من قبيل المصادفة والاتفاق أن يبدو في قصيدة للمسيب بن علس، يتكرر فيها ست مرت هذ الخطاب: ولأنت، صدى ورنين لأسلوب الأنشودة القديم الذي يتميز به أكنوستوس تيوس. كما وضح ذلك الأستاذ نوردن3.
ونرى في الشعر العراقي وفي شعر سواحل الخليج، أي العربية الشرقية، ذكرا للبحر وللسفين. وفي شعر طرفة قوله:
كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد
عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طورا ويهتدي
يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد4
وصف للبحر ولسفن رجل يظهر أنه كان يهوديا صاحب سفن، ولا نجد هذا الوصف أو الالتفاتة إلى البحر في شعر الشعراء القاطنين البوادي، أو الذين لم يروا النهرين الكبيرين في العراق أو ساحل الخليج. فهذا الوصف هو من خصائص
__________
1
فانتحى مثل ما انتحى باز دجن ... جوعته القناص للدارج
الأغاني "15/ 95"، من الخفيف
2
إذا شاء فارسه ضمه ... كما ضم باز إليه الجناح
غرونباوم "302".
3 بروكلمان "1/ 62".
4 البيت رقم "3" وما بعده من معلقته.(18/239)
البلاد التي تكون على سواحل البحار.
وليس وجود السهولة في الشعر العراقي مثل شعر "عدي بن زيد"، أو في شعر أهل القرى، بأمر غريب. وقد عبر عنها بالليونة كذلك. فالحضارة، أي الحياة في القرية أو في المدينة. وحياة أهل المدر، هي ليونة وسهولة في حد ذاتها بالنسبة إلى حياة البوادي والبراري، حيث الخشونة والغلظة في الحياة، ومن ثم صار الأعرابي غليظا فظًّا خشنا، يتكلم بعنجهية لا يفهمها أهل المدر والاستقرار، فيتصورونها فظاظة منه وغلظة، وإنسان على هذا النحو من الطبع أو التطبع، لا بد وأن يكون شعره خشنا مثله، فالشعر تعبير عن إحساس نفسي، وعن انعكاس لثقافة المرء ولتربيته الناتجة عن محيطه، ولهذا نجد شعر شعراء القرى يختلف عن شعر أهل البوادي، بألفاظه وبأسلوب نظمه وبمعانيه وبروحه الحضرية.
وقد وصف شعر "عدي" بالليونة، ونسبوا ذلك إلى سكنه الحضر. "وأما عدي بن زيد فلقربه من الريف وسكناه الحيرة في حيز النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، وإلا فهو مقل"1. وقالوا عنه "وعدي من الشعراء مثل سهيل في النجوم: يعارضها، ولا يجري معها. هؤلاء أشعارهم كثيرة في ذاتها، قليلة في أيدي الناس، ذهبت بذهاب الرواة الذين يحملونها"2. وقيل عن شعره: "والعرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانيا من عباد الحيرة، قد قرأ الكتب"3. وقد أرادوا بالكتب، الكتب المقدسة التوراة والأناجيل والكتب النصرانية الأخرى. ولم يشيروا إلى لغتها، والأغلب أنها كانت بالآرامية التي كانت شائعة في العراق وبين نصارى المشرق، ولكني لا استبعد احتمال وجود بعض منها باللغة العربية، لأن غالبية أهل الحيرة كانت تتكلم بها، ولا سيما الطبقة الحاكمة التي هي من صلب عربي. فلا يستبعد احتمال ترجمة بعض الكتب لهم بالعربية، للوقوف عليها.
قال "أبو عبيدة" إن العرب لاتروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، لأن ألفاظهما ليست بنجدية، فلا بد أن يكون أساس الشعر عندهم على صميم العربية.
__________
1 العمدة "1/ 104".
2 العمدة "1/ 104"، الأغاني "2/ 18".
3 الشعر والشعراء "1/ 154"، "الثقافة".(18/240)
من لسان مضر، وما عدا ذلك فهو مما تبعث عليه فطرة صاحبه، ولكن العرب لا يبالون به ولا يروونه، وعلى هذا مشى المتأخرون في الاحتجاج بالشعر العربي، فالعلماء لا يرون شعر عدي بن زيد حجة. لأنه كان يسكن بالحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه؛ وهذا الاعتبار يحدد لنا منشأ الشعر"1. ولكننا لو تصفحنا شعر الشواهد، نجد أن فيه شعرا من شعر عدي، استشهد به في القواعد2، وقد ذكر "الجاحظ" أن "أبا إياس" النصري، وكان أنسب الناس، كان يقول: "كانوا يقولون: أشعر العرب أبو دواد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي"3.
والواقع أن شعر "عدي" أقرب إلينا من شعر أهل البادية، وأسهل فهما، وفيه معان حضرية لا نعثر عليها في شعر شعراء أهل الوبر، ونجد في شعره ألفاظا معربة، استشهد بها "الجواليقي" في كتابه المعرب، وذلك دليل على تأثره بمحيطه وببلدته التي كانت عربية نبطية فارسية، تلعب بها تيارات ثقافية متباينة، وهو يخالف شعراء البوادي، فابتعاده عن الأعاريض الطويلة، وميله إلى الأعاريض القصيرة، ثم في أسلوب خمرياته الشبيهة بخمريات الأعشى وحسان بن ثابت، ثم يخالف شعراء نجد في أفكار الزهد والتصوف التي ترد في شعره، والتي لا ترد ولا تخطر على بال الشاعر الأعرابي4.
وعدي بن زيد العبادي، هو "عدي بن زيد بن حماد بن أيوب"، وقيل: "عدي بن زيد بن حمار "حماز" بن زيد بن أيوب بن مجروف "محروف" بن عامر بن عصبة "عصية" بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم"، وقيل: عدي بن زيد بن أيوب بن حمار "حماد" "جمار"، أحد بني "امرئ
__________
1 الرافعي "2/ 8 وما بعدها"، الأغاني "15/ 97"، الشعر والشعراء "150 وما بعدها، 162".
2 شرح شواهد المغني، للسيوطي "2/ 658".
3 البيان والتبيين "1/ 323".
4 كارلو نالينو "90 وما بعدها".(18/241)
القيس بن زيد مناة بن تميم"1. وكان كاتبا لكسرى على ما يجتبى من الغور، وكان سبب ملك النعمان بن المنذر. وكان كسرى مكرما له محبا، وكان عدي أنبل أهل الحيرة وأجودهم منزلة ولو أراد أن يملكه كسرى على الحيرة ملكه، ولكن كان يحب الصيد واللهو، ولم يكن راغبا في ملك العرب2. وعرف بـ "أبي سوادة"3.
وجد عدي أول من سمي من العرب بأيوب، وجده "جمار" "حمار" "حماد" "حماز" أول من كتب من العرب، لأنه نزل الحيرة فتعلم الكتابة منها. وذكره الجمحي في الطبقة الرابعة من شعراء الجاهلية، وقال: هم أربعة رهط، فحول شعراء، موضعهم من الأوائل، وإنماأخل بهم قلة شعرهم بأيدي الرواة، طرفة وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد4. وذكر أن "حمازا"، كان أول من تعلم الكتابة "من بني أيوب" وكتب للنعمان الأكبر5.
وكان لعدي بن زيد عدو من أهل الحيرة يقال له: "عدي بن أوس" من "بني مرينا". سبق أن تحدثت عنه، أوغر صدر "النعمان" على عدي حتى حبسه بالصنّين، سجن بظاهر الكوفة، فقال عدي بن زيد شعره كله أو أكثره في الحبس حتى مات به6. وكان موته من جملة أسباب القضاء على حكم النعمان7.
__________
1 وتجد اختلافا بين النسخ المطبوعة في ضبط الأعلام، في مثل "حماد" و "مجروف" و "عصبة"، وذلك بسبب، اختلاف النسخ الخطية الأصلية في ضبط هذه الأسماء لتحريف وقع بها من النساخ، فأخذ كل محقق ما وجده في نسخته، أو في النسخ، وبسبب الأخطاء المطبعية، راجع الشعر والشعراء "1/ 150، 153"، "الثقافة"، "حماد"، و"حمار" في معجم الشعراء، للمرزباني "80"، "إخراج عبد الستار أحمد فراج"، "حمار"، "كذا في أوهي إحدى روايتين في اسمه، وجعلها الشنقيطي "حماد" بالدال، ويروى "حماز" و"خمار"، أسماء المغتالين "140"، "تحقيق عبد السلام هارون"، طبقات ابن سلام "117"، الأغاني "2/ 17"، الخزانة "1/ 184"، الموشح "72".
2 المرزباني، معجم "80 وما بعدها"، "فراج"، طبقات ابن سلام "31"، رسالة الغفران "146 وما بعدها".
3 رسالة الغفران "186، 203".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 471 ومابعدها".
5 الشعر والشعراء "1/ 153".
6 كتاب أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، لمحمد بن حبيب "140 وما بعدها"، "تحقيق عبد السلام هارون".
7 السيوطي، شرح شواهد "2/ 658 وما بعدها".(18/242)
وقد ذكر عنه علماء الشعر، أنه كان نصرانيا هو وأهله، وليس معدودا من الفحول، وعيب عليه أشياء. "وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم، يعارضها ولايجري معها. وكذلك عندهم أمية بن أبي الصلت. ومثلهما عندهم من الإسلاميين الكميت والطرماح"1. وقيل عنه إنه "كان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جدا، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة، وله أربع قصائد غرر إحداهن:
أرواح مودع أم بكور ... لك فاعمد لأي حال تصير
والثانية:
أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم فرماك الشوق قبل التجلد
والثالثة:
لم أر مثل الفتيان في غبن الـ ... ـأيام ينسون ما عواقبها
والرابعة:
طال ليلي أُراقب التنويرا ... أرقب الليل بالصباح بصيرا2
ومن شعره:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي
يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلمة نبي ألقيت على لسان شاعر: إن القرين بالمقارن مقتدي3
ومن الأخباريين من نسب القصيدة التي مطلعها:
طال ليلي أراقب التنويرا ... أرق الليل بالصباح بصيرا
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 471"، الخزانة "1/ 184"، "بولاق".
2 الشعر والشعراء "1/ 150 وما بعدها"، "الثقافة".
3 المرزباني، معجم "82"، "فرج".(18/243)
إلى "سوادة بن عدي" غير أن معظمهم يرى أنها لعدي1.
وذكر "أبو العلاء" المعري، أنه شاهد بعض الوراقين ببغداد، يسأل عن قافية "عدي بن زيد" العبادي، التي أولها:
بكر العاذلات في غلس الصبـ ... ـح يعاتبنه أما تستفيق
وأن "ابن حاجب النعمان"، وهو أبو الحسين عبد العزيز بن إبراهيم، سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخ من ديوان عدي، فلم توجد، ثم سمع بعد ذلك أن رجلا من أهل "استراباذ"، يقرأ هذه القافية في ديوان "العبادي"، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم2. وقد أورد "المعري" قصائد من شعره في رسالة الغفران3، وأشار إلى بعض ما نحل عليه، وإلى بعض ما نسب إليه، ونسب إلى غيره4.
"قال الأصمعي: كان عدي لا يحسن أن ينعت الخيل، وأخذ عليه قوله في صفة الفرس: فارها متتايعا. وقال: لا يقال لفرس "فاره" إنما يقال له جواد وعتيق، ويقال للكودن والبغل والحمار: فاره"5. ووصف الخمر بالخضرة، ولم يعلم أحد وصفها بذلك. وهو أول من شبه أباريق الخمر بالظباء6. وقالوا عنه إنه ممن أقر على نفسه بالزنا. وأوردوا له أبيات شعر في ذلك7.
وفي شعر "عدي بن زيد"، زهد الرهبان وتصوف المتصوفين، فيه تذكير بالآخرة وتزهيد في الدنيا، ووعظ بمصير محزن يلحق المغرورين العتاة المتجبرين كالمصير الذي لحق الملوك الطغاة والأقوام الخالية، ولا سيما في القصيدة التي يقول فيها:
__________
1 الخزانة "1/ 183 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "173 وما بعدها".
3 "ص186 وما بعدها".
4 رسالة الغفران "335".
5 الشعر والشعراء "1/ 154"، "الثقافة".
6 الشعر والشعراء "1/ 155"، "الثقافة".
7 الشعر والشعراء "1/ 156"، "الثقافة".(18/244)
أين كسرى كسرى الملوك أنوشَرْ ... وان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر ... وم لم يبق منهم مذكور
وأخو الخضر إذ بناه وإذ دجـ ... ـلة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلـ ... ـسا فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فبان الـ ... ـملك عنه فبابه مهجور
وتبين رب الخورنق إذ أشـ ... ـرف يوما وللهدي تفكير
سره ماله وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غبـ ... ـطة حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والنعـ ... ـمة وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور1
وورد أن "هشام بن عبد الملك"، كان في مجلس فخم، فحدثه "خالد بن صفوان" بحديث ملك الحيرة الذي اغتر بهذه الدنيا، ثم أنشد قصيدة "عدي بن زيد"، التي منها:
أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيـ ... ـام بل أنت جاهل مغرور
حتى أتم إنشادها عليه، فبكى وتأثر2. وورد في رواية أخرى أن قائل هذا الشعر هو: أحد بني تميم "عدي بن سالم" المري العدوي. وقد ذكر ذلك "السهيلي"، لكنه عاد بعد ذكره الشعر، فقال: "والذي ذكره عدي بن زيد في هذا الشعر هو النعمان بن امرئ القيس جد النعمان بن المنذر. وأول هذا الشعر:
أرواح مودع أم بكور ... لك فانظر لأي ذاك تصير
قاله عدي وهو في سجن النعمان بن المنذر وفيه قتل"3. وروي أن "يونس
__________
1 العقد الفريد "3/ 191"، ابن هشام، سيرة "1/ 56"، "حاشية على الروض".
2 الجمان في تشبيهات القرآن "304 وما بعدها".
3 الروض الأنف "1/ 58".(18/245)
النحوي"، كان يقول: "لو تمنيت أن أقول شعرا ما تمنيت إلا هذا"1، أي القصيدة المذكورة.
وفي شعره الذي قيل إنه قاله للنعمان بن المنذر، وكان قد نزل معه في ظل شجرة مونقة ليلهو النعمان هناك، مثال على الحث على الزهد والابتعاد عن الدنيا والإقناع بنبذها والترهب في هذه الحياة، تحدث فيه على لسان الشجرة، مخاطبا الملك، قائلا له بعد أن رأى ما عليه من الأنس والحبور: أيها الملك؟ أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: وما الذي تقول؟ قال: تقول:
من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال
وصروف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتي به صمُّ الجبال
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يمزجون الخمر بالماء الزلال
إلى أن يقول:
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالًا بعد حال
قالوا: فتنغص النعمان، ونزع ملكه، وخلعه عنه، وترهب إلى غير ذلك من أشعار له، فيها هذا المعنى من الترغيب في الزهد والإبعاد عن لذائذ الدنيا2.
و"حكي عن النعمان بن المنذر، أنه خرج متصيدا ومعه عدي بن زيد العبادي فمر بآرام -وهي القبور-، فقال عدي: أبيت اللعن أتدري ما تقول هذه الآرام؟ قال: لا. قال: إنها تقول:
أيها الركب المخفو ... ن على الأرض تمرون
لكما كنتم فكنا ... وكما كنا تكونون3
والشعر المنسوب إلى "عدي" الذي أدى على حد قول علماء الأخبار إلى
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 119".
2 المبرد، الكامل "1/ 294"، العمدة "1/ 223"، الجمان في تشبيهات القرآن "308"، المحاسن والأضداد "36".
3 المحاسن والأضداد "35".(18/246)
إعراض "النعمان" السائح عن ملكه، وهروبه إلى البراري ليعيش فيها عيشة الرهبان، هو شعر لا يمكن أن يكون من شعر "عدي"، لأن شاعرنا لم يكن كبير السن آنذاك حتى يصدر منه مثل هذا الشعر، كما أنه لم يكن على اتصال وثيق بذلك الملك في ذلك العهد، ولعله من الشعر المصنوع، الذي وضع عليه. وهو شيء كثير. ولو قالوا إنه نظمه، وهو في سجنه حكاية عن قصة قديمة، لكان كلامهم هذا أقرب إلى العقل وأسهل للتصديق، لأنه كان قد كبر في العمر، وفي موقف يمكن أن يصدر منه مثل هذا الشعر.
وهو شعر سلس سهل جميل ذو معان عميقة لطيفة، تتحدث عن تجارب رجل خبر الأيام، وعاش في نعيم ورفاه، حتى وصل مركزا عاليا في بلده، وإذا به يجد طريقه إلى المقابر، فيقبر بها وكأنه لم يكن شيئا مذكورا، فمن رأى الثاوين فيها، ومن نظر إلى القبور، فليحدث نفسه، أنه سيكون مثلهم، وأنه موف على قرن زوال، وصروف الدهر لا يبقى لها، ولا تدوم حال على حال، وقد صار أسلوبه هذا نموذجا لمن مال إلى الزهد والتصوف في الإسلام، وربما كان الشاعر "أبو العتاهية" ممن تأثر بهذا الشعر المنسوب إلى "عدي".
ولعل الأحداث التي وقعت له، والأيام التي قضاها في سجنه، حتى جاءته منيته، وهو فيه، قد أثرت في نفسيته فجعلته، يكثر من الزهد في هذه الحياة، ومن وعظ الإنسان، بأن يغتر ويتجبر ويتكبر، فالسعادة لا تدوم لأحد، والملك لا يخلد لملك أو مالك، والحياة مهما كانت سعيدة ناعمة، فإنها قصيرة تمر مر البرق خاطفة، فعلى المتجبر أن يتعلم العبر من حياة الماضين ومن الأمم العظيمة، ومن الجبابرة، من أمثال: الأكاسرة وملوك الروم، وصاحب الحضر، ومن حياة من شاد القصور، وإذا به يتركها لغيره، ثم يدفن في حفرة ضيقة، فيخاطب النعمان صاحبه والشامتين به، الحساد الذين وشوا به حتى أصابه ما أصابه، ويقول لهم جميعا، وهو قابع في سجنه1:
أيها الشامت المعير بالدهـ ... ـر أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيـ ... ـام بل أنت جاهل مغرور(18/247)
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أين قبله سابور
إلى أن ينتهي منها بقوله:
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور
وهي قصيدة نظمت بالبحر الخفيف.
قال "الجاحظ": "وقال عدي بن زيد العبادي، وهو أحد من قد حُمِل على شعره الحمل الكثير، ولأهل الحيرة بشعره عناية، وقال أبو زيد النحوي: لو تمنيت أن أقول الشعر ما قلت إلا شعر عدي بن زيد:
كفى زاجرا للمرء أيام عمره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
فنفسك فاحفظها من الغي والردى ... متى تغوها تغو الذي بك يقتدي
فإن كانت النعماء عندك لامرئ ... فمثلا بها فاجز المطالب أو زد
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي
ستدرك من ذي الجهل حقك كله ... بحلمك في رفق ولما تشدد
وظلم ذوي القربى أشد عداوة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر ... إذا خطرت أيدي الرجال بمشهد1
وورد أن "عمر بن الخطاب" تمثل بشعر عدي:
كدمى العاج في المحاريب أو كالـ ... ـبيض في الروض زهره مستنير2
ومن شعراء الحيرة "ابن بقيلة"، وله شعر ذكر فيه حال الحيرة بعد فتح المسلمين لها، إذ يقول:
أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصا بين مرة والحفير
__________
1 الحيوان "7/ 150".
2 البيان والتبيين "1/ 45".(18/248)
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كجرب المعز في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفخور
نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساءة أو سرور1
فهو يتأسف على ما وقع للحيرة، من تسلط قبائل "معد" عليها، ومن دخولهم في حكمهم، بعد أن كانوا يحكمون تلك القبائل، ويجبون الجبايات، ويظهر من ذكر "قريظة" والنضير في هذا الشعر، أن حكم الحيرة قد بلغ أرض هاتين القبيلتين، وذلك إن صح بالطبع أن هذا الشعر هو من شعره، وأنه أصيل غير مصنوع.
وهو "عبد المسيح بن بقيلة" الغساني، أو "عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة"، وبقيلة اسمه "ثعلبة"، وقيل: "الحارث". وقد حشر في جملة المعمرين الذين عاشوا ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام، فلم يسلم، وكان نصرانيا. وله حديث مع خالد، حين طلب من أهل الحيرة إرسال رجل من عقلائهم ليكلمه في أمر المدينة، فلما جاء إليه قال له: أنعم صباحا أيها الملك. فقال خالد: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، ثم سأله أسئلة أخرى، ثم قال له. أعرب أنتم أم نبيط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبيط استعربنا2، في حديث منمق، يرويه أهل الأخبار، وكأنهم كانوا مع خالد وابن بقيلة يسجلون حديثهما بالكلم والحروف.
وقد تطرق "الجاحظ" إلى خبر التقاء "عبد المسيح" بخالد بن الوليد، وروى حديثه معه3. وذكر "المرتضى" أنه لما بنى قصره المعروف بقصر ابن بقيلة قال:
__________
1 الطبري "3/ 362"، وتجد هذه الأبيات في أمالي المرتضى مع بعض الاختلاف "1/ 262".
2 الطبري "3/ 362"، أمالي المرتضى "1/ 260 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 147 وما بعدها".
3 البيان والتبيين "2/ 147 وما بعدها".(18/249)
لقد بنيت للحدثان حصنا ... لو أن المرء تنفعه الحصون
طويل الرأس أقعس مشمخرا ... لأنواع الرياح به حنين1
وروى "المرتضى"، أن بعض مشايخ أهل الحيرة خرج إلى ظهرها يختط ديرا، فلما احتفر موضع الأساس، وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله فإذا رجل على سرير من رخام، وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة:
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى بلغ المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أحفل بمعضلة كئود
وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود2
ومن شعره في الناس وفي تهافتهم والتفافهم حول الغنى قوله:
والناس أبناء علات فمن علموا ... أن قد أقل فمجفوٌّ ومهجور
وهم بنون لأم إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومخفور
وهذا يشبه قول أوس بن حجر:
بني أم ذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبدا سيد الأمر جحفلا
وهم لمقل المال أولاد علة ... وإن كان محضا في العمومة مخولا3
ومن شعراء "تنوخ" "عمرو بن عبد الجن بن عائذ الله بن أسعد بن سعد بن كثير بن غالب"، وكان فارسا في الجاهلية، و "بنو عبد الجن" أسرة معروفة، كان لها بقية في الكوفة. ومن شعره:
أما والدماء المائرات تخالها ... على قنة العُزّى وبالنسر عندما
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 262".
2 أمالي "263".
3 أمالي المرتضى "1/ 262 وما بعدها".(18/250)
ثم:
وما سبح الرحمن في كل ليلة ... أبيل الأبيلين المسيح بن مريما1
وأدخلوا في هذه الطبقة "جذيمة" الأبرش، و "لجيم بن صعب بن على بن بكر بن وائل"، وهو القائل:
من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية2
وجذيمة الأبرش، هو "جذيمة بن مالك بن فهم بن عمرو" ملك الحيرة، والأبرش لقب له، ويقال له الوضاح3، وهو خال "عمرو بن عدي"، وكان ينادم عديًّا، وكان له نديمان هما: مالك، وعقيل، بقيا معه أربعين سنة، ثم قتلهما وندم، ويضرب بهما المثل لطول ما نادماه. وقد قتلت الزباء جذيمة4. وقد شاء أهل الأخبار عده شاعرا من الشعراء وأوردوا له شعرا، كما سبق أن تحدثت عنه في أثناء حديثي عن مملكة الحيرة، وعن أسطورة صلته بالزباء. ولو جعلناه شاعرا: لوجب علينا تقديمه على كل الشعراء الجاهليين.
وقصة شعره أسطورة من أساطير أهل الأخبار، فلو كان له شعر، لوجب أن يكون بعربية أخرى، هي العربية التي دون بها شاهد قبر "امرئ القيس" ملك الحيرة، الذي توفي سنة "328" للميلاد أي بعد "جذيمة" بأمد، وشعره هو من شعر تبابعة اليمن وآدم والجن من صنع الرواة وأهل الأخبار.
وترى في شعر الأعشى، وأمية بن أبي الصلت، و "عدي بن زيد"، وكلهم من شعراء القرى، قصصا، لا تجده في الشعر المنسوب إلى غيرهم من الشعراء. قصصا نصرانيا وقصصا يرد عند اليهود، وقصصا من قصص الأساطير والخرافات، أو مما يتعلق بالأشخاص، كالذي ينسب إلى الأعشى من سرده حكاية السموأل وقصره في قصيدته التي يقول فيها:
__________
1 الخزانة "3/ 340 وما بعدها"، "بولاق".
2 المزهر "2/ 476"، أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، نوادر المخطوطات "المجموعة السادسة" "ص112 وما بعدها".
3 البيان والتبيين "1/ 262".
4 رسالة الغفران "170، 278".(18/251)
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار1
وقد وصف فيها السموأل وحصنه، وقصة وفائه، وما كان قد جرى من حوار بينه وبين الملك الغساني المطالب بأدرع الكندي، وترى من قراءتك لها أن النظم نمط غير مألوف في شعر غيره من الشعراء، الأبيات فيهما مكملة لما قبلها متصلة بعضها ببعض، بحيث لا يمكن أن تفصل بينها، وإلا اختل المعنى، وظهر فراغ فيه. وهو شيء غير مألوف عند غيره. فالبيت على حد قول علماء الشعر شعر مستقل قائم بنفسه، لا يؤثر حذفه أو تقديمه أو تأخيره على المعنى ولا على ارتباط الأبيات بعضها ببعض، أما في هذه القصيدة فكل بيت فيها تابع لسابقه، متصل معناه بمعناه، لأنه جزء منه، فلا يمكن حذف شيء من القصيدة دون أن يؤثر في معناها.
ونجد في شعره قصصا عن سد مأرب، وعن تهدمه وإغراقه من كان يسكن عنده بالماء، ذكر ذلك ليكون عبرة وأسوة للمؤتسي، وهو قصص بني على حادث تهدم ذلك السد2.
وفي شعر الأعشى قصص إرم وعاد وطسم وجديس، وأهل جوّ، ووبار3. وهو قصص رصعه الأخباريون بشعر نسبوه إلى "هزيلة" امرأة من "جديس"، وإلى "عميرة بنت غفار الجديسية"، في قصص عن الملوك القدماء، وكيف أنهم كانوا يدخلون على العذارى قبل إدخالهم على أزواجهم، في قصص ينسب إلى ملوك آخرين، مثل ملوك اليمن4. وهو قصص نجد له مشابه عند الأمم الأخرى.
ومن شعراء "غسان": "الشيظم بن الحارث" الغساني، وهو من الأسرة الحاكمة، كان قد قتل رجلا من قومه، وكان المقتول ذا أُسرة، فخافهم
__________
1 الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب "1/ 436".
2 راجع البيت "67 فما بعده" من القصيدة رقم "4"، وديوانه "ص43".
3 الخزانة "2/ 270 وما بعدها"، "هارون".
4 الخزانة "2/ 271 وما بعدها"، "هارون".(18/252)
فلحق بالحيرة، فكان يتكفف الناس نهاره ويأوي إلى خربة من خراب الحيرة، فبينا هو ذات يوم في تطوافه إذ سمع قائلا يقول:
لحا الله صعلوكا إذا نال مذقة ... توسد إحدى ساعديه فهوّما
مقيما بدار الهون غير مناكر ... إذا ضيم أغضى جفنه ثم برشما
يلوذ بأذراء المثاريب طامعا ... يرى المنع والتعبيس من حيث يمما
يضنُّ بنفس كدَّر البؤس عيشها ... وجود بها لو صانها كان أحزما
فذاك الذي إن عاش عاش بذلة ... وإن مات لم يشهد له الناس مأتما
بأرضك فاعرك جلد جنبك إنني ... رأيت غريب القوم لحما موضما
فكأنه نبهه من رقدة، فتحايل إلى صاحب خيل المنذر، وتقرب إليه، وأظهر له أنه رجل من أهل "خيبر"، أقبل إلى هذه البلدة بجارة فأصاب بها، وله بصر بسياسة الخيل، فضمه إلى بعض أصحابه، حتى إذا وافق غرة من القوم، ركب فرسا جوادا من خيل المنذر وخرج من الحيرة يتعسف الأرض، حتى نزل بحي من بهراء فأخبرهم بشأنه، فأعطوه زادا ورمحا وسيفا، وخرج حتى أتى الشام فصادف الملك متبديا، وكان إذا تبدى لا يحجب أحد عنه، فأتى قبة الملك فقام قريبا منه، وأنشأ يقول:
يا صاحب الخيل الجياد المقربه ... وصاحب الكتيبة المكوكبه
والقبة المنيعة المحجبه ... وواهب المضمرة المرببه
والكاعب البهكنة المؤتبه ... والمائة المدفأة المنتخبه
والضارب الكبش فويق الرقبه ... تحت عجاج الكبة المكتّبه
هذا مقام من رأى مطَّلَبَه ... لديك إذ عمّى الضلال مذهبه
وخال أن حتفه قد كربه
فأذن له الملك، فدخل عليه، وقص قصته، ثم بعث إلى أولياء المقتول فأرضاهم عن صاحبهم1.
__________
1 ذيل الأماني "179 وما بعدها".(18/253)
وفي شعر شعراء القرى، مزية امتازوا بها عن شعر شعراء أهل البوادي، هي أن أبيات القصيدة عندهم ليست على نحو أبيات القصيدة عند بقية الشعراء من استقلال الأبيات بنفسها، وقيامها بذاتها بحيث يمكن رفع الأبيات من مواضعها وتقديمها أو تأخيرها، أو حذفها، دون أن يؤثر ذلك على وحدة القصيدة أو المعنى. ففي شعر "الأعشى" مثلا، ترابط بين الأبيات واتصال بين البيت المتقدم والبيت الذي يليه، بحيث لا يمكن حذف أحدهما ورفعه، دون أن يؤثر حذفه على المعنى، كذلك يتعذر علينا في بعض شعره نقل البيت عن موضعه، وقد يأتي الأعشى بالفعل في بيت ثم يأتي بفاعله أو بمفعوله في البيت التالي، أو يأتي بفعل الشرط في بيت ويأتي بخبره بعد بيت أو بيتين1. ويرد التضمين في شعره، كما نجد "الاستدارة" فيه كذلك، والاستدارة توالي مجموعة متلاحمة من الأبيات تجري على نظام متسق، يقوم فيه كل بيت بنفسه في معناه، ولكن المعنى التام لا يتم إلا بالبيت الأخير منها. وهو أسلوب يثير السامع ويشوقه، ويجعله يتتبع الكلام حتى يبلغ منتهاه2.
وأشعر شعراء "البحرين" الذين ذكرهم "ابن سلام": المثقب العبدي، والممزق العبدي، والمفضل بن معشر3.
و"المثقب العبدي" واسمه "عائذ بن محصن بن ثعلبة"، من "بني عبد القيس"، من شعراء الجاهلية، وإنما سمي مثقبا لقوله:
ظهرن بكلّة وسدلن أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون4
وذكر "ابن قتيبة" أن اسمه "محصن بن ثعلبة"5، وقيل اسمه شأس بن عائذ
__________
1 ديوان الأعشى، المقدمة "ص ظ".
2 ديوان الأعشى، "غ".
3 طبقات "69".
4
رددن تحية وكنن أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون
الشعر والشعراء "356"، طبقات الشعراء "229"، الخزانة "4/ 431".
السيوطي، شرح شواهد "1/ 190 وما بعدها".
ظهرن بكلة وسدلن رقما ... وثقبن الوصاوص للعيون
تابع العروس "1/ 166"، "ثقب"، ألقاب الشعراء "316".
5 الشعر والشعراء "1/ 311"، "طبعة دار الثقافة".(18/254)
ابن محصن، وقيل اسمه نهار بن شأس، وكان يكنى أبا وائلة. وهو من شعراء البحرين1.
"وكان أبو عمرو بن العلاء يستجيد هذه القصيدة له، ويقول: لو كان الشعر مثلها لوجب على الناس أن يتعلموه، وفيها يقول:
أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألتك أن تبيني
ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تعاند في شمالي ... عنادك ما وصلت بها يميني
إذا لقطعتُها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني
فإما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني
فما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا ابتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني2
وتحدث عنه "ابن قتيبة"، فقال: "وهو قديم جاهلي، كان في زمن عمرو بن هند، وإياه عنى بقوله:
إلى عمرو ومن عمرو أتتني ... أخي الفعلات والحلْم الرزين
وله يقول:
غلبت ملوك الناس بالحزم والنهى ... وأنت الفتى في سورة المجد ترتقي
وأنجب به من آل نصر سميدع ... أغر كلون الهندوانيّ رونق3
ويرى "بروكلمان"، أن "ابن قتيبة" إنما أخذ رأيه المذكور من البيت المتقدم المذكور في المفضليات، ولكن الأصمعي يعارض ذلك، فقد مدح المثقب أبا قابوس النعمان بن المنذر4.
__________
1 المرزباني، معجم "167"، الخزانة "4/ 429 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 311 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "1/ 312"، المرزباني، معجم "303".
4 بروكلمان، "1/ 115"، البيت "41" من القصيدة "76"، المفضليات.
فإن أبا قابوس عندي بلاؤها ... جزاء بنعمى لا يحل كنودها
البيت "14" من القصيدة "28" في المفضليات.(18/255)
وللمثقب العبدي ديوان مطبوع، كما يوجد له شرح1. ومن شعره:
لا تقولن إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء نعم
حسن قول نعم من بعد لا ... وقبيح قول لا بعد نعم
إن لا بعد نعم فاحشة ... فبلا فابدأ إذا خفت الندم
فإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاح القول إن الخلف ذم2
واعلم بأن الذم نقص للفتى ... ومتى لا تتقي الذم تذم
أكرم الجار وراع حقه ... إن عرفان الفتى الحق كرم
لاتراني راتعا في مجلس ... في لحوم الناس كالسبع الضرم
إن شر الناس من يكشر لي ... حين يلقاني وإن غبت شتم
وكلام سيء قد وقرت ... عنه أذناي وما بي من صمم
فتعديت خشاة أن يرى ... جاهل أني كما كان زعم
ولبعض الصفح والإعراض عن ... ذي الخنى أبقى وإن كان ظلم3
وأما "الممزق" العبدي، فاسمه "شأس بن نهار بن أسود"، وإنما سمي "الممزق" ببيت قاله:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق4
وهو ابن أخي المثقب العبدي، وكان معاصرا لأبي قابوس النعمان بن المنذر5. قال عنه "ابن قتيبة": "وهو جاهلي قديم، قال البيت المذكور في قصيدة قالها لبعض ملوك الحيرة6. وذكر أنه قالها للملك عمرو بن هند، حين هم بغزو عبد القيس، فلما بلغته القصيدة انصرف عن عزمه7. وقيل: إنه عرف بالممزق ببيته:
__________
1 حققه الشيخ محمد حسن آل يسين، "بغداد 1956م، بروكلمان "1/ 115".
2 الخزانة "4/ 431"، "بولاق".
3 بلوغ الأرب "3/ 124".
4 ابن سلام، طبقات "70"، الاشتقاق "330"، الآمدي، المؤتلف "185"، ألقاب الشعراء "316"، المفضليات "2/ 232".
5 بروكلمان "1/ 119"، ألقاب الشعراء "316"، المرزباني "495"، المزهر "2/ 435 وما بعدها"، الحيوان "2/ 298"، "5/ 441".
6 الشعر والشعراء "1/ 314"، المرزباني، معجم "481"، الأصمعيات رقم "50".
7 البيان والتبيين "1/ 375 وحاشية رقم 4"، جمهرة ابن حزم "282".(18/256)
فمن مبلغ النعمان أن ابن أخته ... على العين يعتاد الصفا ويمزق1
وقد نسبه "السيوطي" على هذه الصورة: "شأس بن نهار بن الأسود بن جبريل بن عباس بن حي بن عوف بن سود بن عذرة بن منبه بن بكرة" العبدي، ثم البكري2. ومن شعره:
أحقا أبيت اللعن إن ابن فرتنا ... على غير إجرام بريقي مشرقي
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
فأنت عميد الناس مهما تقل نقل ... ومهما تضع من باطل لا يحقق
أكلفتني أدواء قوم تركتهم ... فإلا تداركني من البحر أغرق
فإن يعمنوا أشئم خلافا عليهم ... وإن يتهموا مستحقبي الحرب أعرق3
ومما ينسب إليه:
هل للفتى من بنات الدهر من واق ... أم هل له من حمام الموت من واق
وقوله:
هون عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي4
ونجده يذكر في شعره صراخ الديك، ولا نجد للديك ذكرا عند الأعراب؛ لأنهم لا يربون الدجاج، وتربية الدجاج من خصائص الحضر. تراه يقول:
وقد تخذت رجلاي في جنب غرزها ... نسيفا كأفحوص القطاة المطرق
أنيخت بجو يصرخ الديك عندها ... وباتت بقاع كادئ النبت سملق5
وذكر "المرتضى" أن من شعره قوله:
ألا من لعين قد نآها حميمها ... وأرقني بعد المنام همومها
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 124".
2 شرح شواهد "2/ 680 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "1/ 314".
4 بلوغ الأرب "3/ 125".
5 الحيوان "2/ 298".(18/257)
فباتت لها نفسان شتي همومها ... فنفس تعزيها ونفس تلومها
وذكر أن من العلماء من ينسبه لمعقر بن حمار البارقي1.
ومن شعراء "عبد القيس": "سويد" و "زيد" ابنا "خذاق". قال عنهما "ابن قتيبة": "وهما قديمان، كانا في زمن عمرو بن هند. ويزيد القائل:
نعمان إنك غادر خدع ... يخفي ضميرك غير ما تبدي
فإذا بدا لك نحت أثلتنا ... فعليكها إن كنت ذا جد
وهززت سيفك كي تحاربنا ... فانظر بسيفك من به تردي
وله شعر في الموت وفي ذم الدنيا، قال عنه "أبو عمرو بن العلاء" إنه "أول شعر قيل في ذم الدنيا"2.
وكان يزيد قد هجا "النعمان بن المنذر" فبعث إليه النعمان كتيبته "الدوسر" فاستباحتهم، فقال أخوه سويد:
ضربت دوسر فينا ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر
فجزاك الله من ذي نعمة ... وجزاه الله من عبد كفر3
ومن شعره قوله في "عمرو بن هند":
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البق والحُمّى وأسد خفية ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
وهو القائل أيضا:
جزى الله قابوس بن هند بفعله ... بنا وأخاه غدرة وأثاما
بما فَجَرا يوم العطيف وفرقا ... قبائل أحلافا وحيا حراما
لعل لبون الملك تمنع درها ... ويبعث صرف الدهر قوما نياما
وإلا تغاديني المنية أغشكم ... على عدواء الدهر جيشا لهاما4
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 325".
2 الشعر والشعراء "1/ 302".
3 الاشتقاق "2/ 200".
4 الشعر والشعراء "1/ 302 وما بعدها".(18/258)
وكانت عبد القيس وتميم على اتصال بملوك المناذرة الذين كان نفوذهم يمتد إلى البحرين واليمامة في بعض الأحايين، فكانت جيوش الحيرة في نزاع مستمر مع هذه القبائل التي كانت تنفر من دفع الإتاوة ومن الخضوع لآل لخم. ونجد أخبار هذا النزاع في شعر شعرائها، وهي أخبار لا نجدها في كتب التواريخ المألوفة، التي لم تحفل بالشعر، فضاع عليها قسط كبير من تأريخ الحيرة، حصلنا عليه لحسن حظنا من كتب الشعر والأدب التي دونت أخبار الشعراء ودونت المناسبات التي قيل فيها هذا الشعر.(18/259)
الفصل الثاني والستون بعد المائة: شعراء قريش
ويزعم أهل الأخبار أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت لها الشعراء بالشعر أيضا ولم تنازعها1. وذكر أن قريشا كانت أقل العرب شعرا في الجاهلية، فاضطرها ذلك أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام. ويؤيد هذا الرأي أننا نجد أكثر من ذكر الرواة أسماءهم وأشعارهم من الشعراء الجاهليين إنما هم من غير قريش2.
وذكر أهل الأخبار أن المنافسة التي كانت بين قريش والأوس والخزرج، أهل يثرب، دفعت أهل مكة إلى صنع الأشعار لتتغلب بها على الأنصار، "يروي الناس لأبي سفيان بن الحارث قولا يقوله لحسان:
أبوك أبو سوء وخالك مثله ... ولست بخير من أبيك وخالكا
وإن أحق الناس أن لا تلومه ... على اللوم من ألقى أباه كذلكا
أخبرنا أبو خليفة، أخبرنا محمد بن سلام، قال: وأخبرني أهل العلم من
__________
1 الأغاني "1/ 25"، ابن سلام، طبقات الشعراء "10".
2 مجلة المجمع العلمي العراقي، جواد علي، لهجة القرآن الكريم "المجلد الثالث" "الجزء الثاني 1955م"، "ص278".(18/260)
أهل المدينة أن قدامة بن موسى بن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي قالها ونحلها أبا سفيان. وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان"1.
وهناك أخبار أخرى في هذا المعنى تفيد نحل الشعر وضمه إلى شعراء مكة، لتتباهى به على يثرب.
ولا نجد بين الشعراء البارزين من أصحاب المعلقات شاعرا واحدا هو من قريش. كذلك لا نجد من بين شعراء الطبقات المتقدمة من فحول الشعراء الذين قدمهم علماء الشعر على غيرهم شاعرا هو من أهل مكة. وهذا هو تفسير قول أهل الأخبار المتقدم، الدال على تأخر قريش بالنسبة إلى باقي العرب في قول الشعر، أما لو أخذنا قولهم المذكور، وصرفناه على أهل القرى، فإننا نجد مكة متقدمة فيه، لأنها أنجبت عددا لا بأس به من الشعراء بالقياس إلى الطائف، التي اشتهرت بشعر شاعرها "أمية بن أبي الصلت"، ولكنها لا تداني مكة في عدد من ظهر بها من الشعراء، وبالقياس إلى "نجران" وإلى قرى اليمامة. أما بالنسبة إلى يثرب، فقد برز بيثرب شعراء، هم أكثر عددا وشهرة من شعراء مكة.
وقد وصف "ابن سلام" شعر قريش بقوله: "وأشعار قريش أشعار فيها لينٌ يشكل بعض الإشكال"2. وذلك حين تحدث عن شعر "أبي طالب" وعن شعر "الزبير بن عبد المطلب"، وعما وضع الناس من شعر عليهما.
ويذكر أهل الأخبار، أن قريشا كانت في الجاهلية دون غيرها من العرب، تعاقب شعراءها إذا هجا بعضهم بعضا، كما كانت ترمي من يروي المثالب ويقع في أعراض الناس بالحمق، فتسقط منزلته بين الناس، ولهذا قل فيها شعر الهجاء3. ويذكرون أن أهل مكة لما أصبحوا يوما وعلي باب الندوة مكتوب:
ألهى قُصيا عن المجد الأساطير ... ورشوة مثل ما ترشي السفاسير
وأكلها اللحم بحثا لا خليط له ... وقولها رحلت عير أتت عير
أنكر الناس ذلك، وقالوا ما قالها إلا "ابن الزبعرى" وأجمع على ذلك
__________
1 ابن سلام، طبقات "62".
2 ابن سلام، طبقات "60 وما بعدها".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 413".(18/261)
رأيهم، فمشوا إلى "بني سهم"، وكان مما تنكر قريش وتعاقب عليه أن يهجو بعضها بعضا، فقالوا لبني سهم: ادفعوا إلينا نحكم فيه بحكمنا. قالوا: وما الحكم فيه؟ قالوا قطع لسانه، قالوا: فشأنكم. واعلموا والله أنه لا يهجونا رجل منكم إلا فعلنا به مثل ذلك. وكان "الزبير بن عبد المطلب" يومئذ غائبا نحو اليمن، فخاف بنو قصي أن يقول شيئا من هجاء، فيؤتى إليه مثل ما أتى إلى ابن الزبعرى، وكانوا أهل تناصف، فأجمعوا على تخليته فخلوه1.
وقد أحصى "جرجي زيدان" عدد الشعراء الجاهليين بنحو من "120" شاعرا على اختلاف القبائل والبطون. وقد وجد أن عشرة شعراء منهم هم من قريش2. معظمهم إن لم نقل كلهم كان ممن عاش عند ظهور الإسلام، وقد اشتهر بالشعر وعرف به لموقفه المعادي من الإسلام، ولاضطراره إلى مهاجاة النبي والمسلمين دفاعا عن عقيدته، ولهذا كان معظم شعره في هجاء المسلمين، وفي الرد عليهم وفي الفخر بقومه وتعديد مآثرهم ومناقبهم والدفاع عنهم.
قال "ابن سلام: "وبمكة شعراء، فأبرعهم شعرا عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن ربيعة بن سعد بن سهم، وأبو طالب بن عبد المطلب، شاعر، وأبو سفيان بن الحارث، شاعر، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، شاعر، وضرار بن الخطاب، شاعر، وأبو عزة الجمحي، شاعر، واسمه عمر بن عبد الله، وعبد الله بن حذافة السهمي الممزق، وهبيرة بن أبي وهب بن عامر بن عائذ بن عمران بن مخزوم"3.
ونجد في كتب السيرة والأخبار شعرا لعبد المطلب، من جملته قوله:
لا هم إن العبد يمـ ... ـنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقبـ ... ـلتنا فأمرٌ ما بدا لك4
__________
1 ابن سلام، طبقات "57 وما بعدها".
2 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 275 وما بعدها"، "شعراء العصر الأموي".
3 طبقات "57".
4 ابن هشام، سيرة "1/ 44 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الحيوان "7/ 198 وما بعدها"، ويختلف النص في الموارد.(18/262)
ومن شعراء قريش "أبو لبيد بن عبدة بن جابر"، وكان أحد فرسانها في الجاهلية1.
و"أبو طالب"، عم النبي، وقد أدخلناه في عداد الشعراء، لوجود شعر ينسب إليه، ورد أكثره في سيرة "ابن إسحاق"، ولوجود ديون مطبوع نسب إليه. واسمه "عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي"، وقيل اسمه "عمران"، وقيل اسمه كنيته2. وقال عنه "ابن سلام": "وكان أبو طالب شاعرا جيد الكلام، وأبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل3
ولد قبل النبي بخمس وثلاثين سنة، ولما مات "عبد المطلب" وصي بالنبي إليه، فكفله، وسافر به إلى الشام، وهو شاب، ولما بعث الرسول كان لا زال حيا، وقد اختلف في إسلامه4، وتوفي في السنة العاشرة من المبعث5.
وقد ذكر "ابن هشام" قصيدة لأبي طالب، قال إنه قالها في "المطعم بن عدي" يعرض به، ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش منها قوله:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر
من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر6
وأورد "ابن هشام" له قصيدة أخرى، ذكر أنه قالها في مدح قريش، لما رأى "أبو طالب" من قومه ما سره في جهدهم معه وحدبهم عليه. فقال:
__________
1 الاشتقاق "71".
2 الإصابة "4/ 115 وما بعدها"، "رقم 685".
3 ابن سلام، طبقات "60".
4 الخزانة "2/ 75"، "عبد السلام محمد هارون"، "1/ 251 وما بعدها"، "بولاق".
5 الخزانة "1/ 261"، "بولاق".
6 سيرة ابن هشام "1/ 171"، "حاشية على الروض الأنف".(18/263)
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها
فإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها1
ونسبت له قصيدة ذكر أنه قالها لما خشي "أبو طالب" دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، تعوذ بها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم الرسول ولا تاركه أبدا حتى يهلك دونه. إذ يقول:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل2
وهي قصيدة طويلة، قال "ابن هشام" في آخرها: "هذا ما صح لي من هذه القصيدة وبعض أهل العلم ينكر أكثرها"3. ويظهر أنها وردت بصورة أطول في سيرة "ابن إسحاق"، إلا أن "ابن هشام" طرح منها ما شك في أصله وما لم يثبت عنده أنه من شعر "أبي طالب"، واكتفى بهذا القدر الذي دوّنه في سيرته.
وفي جملة ما جاء في القصيدة المذكورة قوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقد ذهب "ابن سلام" إلى أن الرواة زادوا في قصيدة أبي طالب وطولوها فأبعدوا آخرها عن أولها. وتعرض لها "الرافعي" فقال: "وقد يزيدون في القصيدة ويبعدون بآخرها متى وجدوا لذلك باعثا، كقصيدة أبي طالب التي قالها في النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مشهورة أولها:
خليلي ما أذني لأول عاذل ... بصغواء في حق ولا عند باطل4
__________
1 سيرة ابن هشام "1/ 172"، "حاشية على الروض".
2 سيرة ابن هشام "1/ 172 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الخزانة "2/ 57 وما بعدها"، وقد دون القصيدة وشرح أبياتها "عبد السلام محمد هارون".
3 سيرة ابن هشام "1/ 178 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف".
4 طبقات "60".(18/264)
قال ابن سلام: زاد الناس في قصيدة أبي طالب وطولت بحيث لا يدرى أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت صحيحة، فقال: أتدري أين منتهاها قلت لا، قلنا: وإنما طولت هذه القصيدة معارضة للطوال المعروفة بالمعلقات حتى لا يكون من شعر الجاهلية ما هو خير مما قال عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في أصلها أبياتا هاشمية تفي بكثير من الطوال"1.
وقد تعرض "ابن سلام" -كما قلت- لهذه القصيدة فقال: "وقد زيد فيها وطولت. رأيت في كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة: وقد علمت أن قد زاد الناس فيها، فلا أدري أين منتهاها. وسألني الأصمعي عنها، فقلت صحيحة. قال: أتدري أين منتهاها؟ قلت لا أدري"2.
ونسب أهل الأخبار لأبي طالب شعرا زعموا أنه قال لأبي لهب يحرضه فيه على نصرته ونصرة الرسول، فيه:
وإن امرأ أبو عتيبة عمه ... لفي روضة ما إن يسام المظالما3
ونسبوا له قصيدة "دالية" ذكروا أنه نظمها لما مزقت "الصحيفة": صحيفة قريش، التي كتبوها في مقاطعة "بني هاشم"، أولها:
ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
ترواحها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد4
وقد أورد "الزبيري" منها هذه الأبيات:
جزى الله رهطا من لؤي تتابعوا ... على ملأ يهدي لحزم ويرشد
قعودا لدى جنب الحطيم كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد
هم رجعوا سهل بين بيضاء راضيا ... فسر أبو بكر بها ومحمد
ألم يأتكم أن الصحيفة مزقت ... وإن كان ما لم يرضه الله يفسد
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 384 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "60 وما بعدها".
3 سيرة ابن هشام "1/ 230"، "حاشية على الروض".
4 سيرة ابن هشام "1/ 233 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف".(18/265)
أعان عليها كل صقر كأنه ... شهاب بكفي قابس يتوقد
جريٌّ على حل الأمور كأنه ... إذا ما مشى في رفرف الدرع أجود1
وهي من الشعر المصنوع.
ونسبوا له قوله:
ودعوتني وزعمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا2
وقوله:
ألا أبلغا عني على ذات بيننا ... لؤيا وخصا من لؤي بن كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العبادة مودة ... وخير فيمن خصه الله بالحب3
ولأبي طالب شعر، رثى به "أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكان قد خرج تاجرا إلى الشام، فمات في موضع يقال له: "سرو سحيم". وكان "أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله" من "أزواد الركب" في قريش، وهم ثلاثة: هو و "مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس"، و "زمعة بن الأسود بن عبد المطلب"، وكانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد4. وله شعر في رثاء "مسافر"5.
وفي الديوان المطبوع شعر يمكن أن يكون صحيحا، ولكن أكثره شعر منحول، ولا سيما القصيدة "اللامية" الطويلة. فإن القسم الأكبر منها، لا يمكن أن يكون من الشعر الأصيل. ويرى "بروكلمان" أن سبب الوضع، هو رغبة من وضعه في تزيين سيرة الرسول بمكة، وفي أوائل عهد النبوة، بكثير من الأشعار،
__________
1 نسب قريش "431".
2 الروض الأنف "1/ 221"، الخزانة "1/ 571 وما بعدها"، "بولاق"، "ودعوتني وزعمت أنك ناصح".
3 الروض الأنف "1/ 221"، الخزانة "2/ 76"، "عبد السلام محمد هارون".
4 الخزانة "3/ 446 وما بعدها"، "بولاق".
5 الخزانة "3/ 386 وما بعدها"، "بولاق".(18/266)
بعد أن كثرت الأشعار في سيرته بالمدينة، كما أن للشيعة يدا في وضع هذا الشعر على لسان "أبي طالب" لإظهاره بمظهر المعاون للنبي المؤيد له، المؤمن بدعوته في قلبه ولسانه، تأييدا للإمام "علي"، الذي هو ابن "أبي طالب"1.
ونسب "الجاحظ" له قوله:
أمن أجل حبل لا أباك علوته ... بمنسأة قد جاء حبل وأحبل2
ويروى لعلي بن أبي طالب شعر كثير3. ولا يوجد شك في أن عليا كان مطبوعا على قول الشعر، وأنه كان ذا شاعرية، وله مواهب تؤهله لنظمه، كما كان من الحفاظ للشعر، وقد أورد له أهل الأخبار والأدب شعرا ذكروه في المواضع المناسبة، كما جمع بعض الأدباء شعره في ديوان، فهو صاحب شعر، نظم في المناسبات، غير أنه لم يكن شاعرا بمعنى أنه اتخذ الشعر صناعة له، وإنما كان يقوله في المناسبة، ثم إن في المنسوب إليه، شعرا كثيرا، هو موضوع. صنع وحمل عليه. وأكثر ما جاء في الديوان الذي يحمل اسمه هو من هذا القبيل4.
ونظرا إلى ما لعلي بن أبي طالب من المكانة في نفوس المسلمين، ولوجود شيعة له، فقد اهتم الناس بأمر ديوانه، وشرحوه شروحا عديدة، وترجموه إلى لغات مختلفة، وطبع جملة طبعات، بحيث نستطيع أن نقول دون مبالغة، إن ديوان "علي" نال من المكانة والتقدير ما لم ينله أي ديوان آخر، ليس لما فيه من شعر أو من بلاغة، بل لحرمة ولمكانة صاحبه، ففي هذا الديوان غث كثير، وفيه ما لا يمكن إرجاعه إلى "علي" أبدا5. قال "أبو عثمان" المازني: لم يصح عندنا أن عليا تكلم من الشعر إلا هذين البيتين:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما برّوا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات روقين لا يعفو لها أثر6
__________
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 175".
2 البيان والتبيين "3/ 30".
3 المرزباني، معجم "130"، "عبد الستار أحمد فراج".
4 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 175 وما بعدها".
5 راجع التفاصيل في بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 175 وما بعدها".
6 الفائق "1/ 512".(18/267)
ونسبوا لعلي قصيدة في الأيام السبعة منها:
أرى الأحد المبارك يوم سعد ... لغرس العود يصلح والبناء
وفي الاثنين للتعليم أمن ... وبالبركات يعرف والرخاء
وإن رمت الحجامة في الثلاثا ... فذاك اليوم إهراق الدماء
وإن أحببت أن تسقي دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس طلاب رزق ... لإدراك الفوائد والغناء
ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء
ويوم السبت إن سافرت فيه ... وقيت من المكاره والعناء
وقد رويت القصيدة بروايات أخرى1.
ونسبوا "لورقة بن نوفل" شعرا، زعموا أنه قال حين رآهم يعذبون بلالا على إسلامه. منه:
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلاها غير خالقكم ... فإن دعيتم فقولوا دونه حدد
سبحان ذي العرش لا شيء يعادله ... رب البرية فرد واحد صمد2
وورقة، هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يجتمع مع النبي في جدّ جدّه. ذكر أنه كره عبادة الأوثان وطلب الدين في الآفاق وقرأ الكتب، وأنه كان حنيفا على ملة إبراهيم، وذكر أنه كان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس، ومات في فترة الوحي قبل نزول الفرائض والأحكام، وروى بعضهم أنه آمن بالرسول وجعله من الصحابة، وشدد الإنكار على من أنكر صحبته، وجمع الأخبار الشاهدة له بأنه في الجنة، وهكذا نجد الروايات تجمع على نبذه عبادة الأوثان، ثم تختلف في أنه كان حنيفا على ملة الأحناف، أو نصرانيا، أما زعم إيمانه بالرسول، وما رووه من الشعر من ذكره اسم الرسول وإيمانه به، ومن أخباره عنه، فإنه من الشعر الموضوع، الذي وضع على لسان غيره أيضا، بزعم إثبات نبوة الرسول، وفي أكثره ركة.
__________
1 نزهة الجليس "1/ 251".
2 الخزانة "2/ 37"، "بولاق"، نسب قريش "208".(18/268)
وقد نسب بعضه مثل قوله:
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد
إلى غيره، فقيل إنه لأمية بن أبي الصلت، وقيل إنه لزيد بن عمرو بن نفيل. غير أن "السهيلي"، و"أبا الربيع" الكلاعي، والبغدادي يرون أنه له1.
ومن الشعر المنسوب إليه قوله:
ارفع ضعيفك لا يَحُرْ بك ضعفه ... يوما فندركه العواقب قد نمى
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
وقد نسبا أيضا لزهير بن جناب2.
ولزيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد الأحناف شعر، وهو من المتألهين الذين حاربوا عن مكة طالبا للعلم والمعرفة والدين، ذهب إلى بلاد الشام. وهناك احتك بالنصارى، فتعلم منهم أمور الدين. ولعله تعلم السريانية والرومية بها ونظر في كتب النصرانية، لما يذكره أهل الأخبار من تعلمه للغتين. وفارق شأن بقية الأحناف قومه، وعاب الأصنام والأوثان، ونسب أهل الأخبار إليه أنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ثم يقول: يا معشر قريش، والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. وكان مثل بقية الأحناف أمثال ورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبيد بن جحش وغيرهم، قد خالفوا قريشا، وقالوا: إنكم تعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام وعابوا عليهم ما هم عليه من التقرب إلى الحجارة. وقد أورد من ترجم حياته شيئا من شعره، واستشهدوا ببعضه في الشواهد3.
ومن شعر "زيد بن عمرو بن نفيل" في الأصنام قوله:
تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابتغيها ... ولا صنمي بني غنم أزور
__________
1 الخزانة "2/ 38 وما بعدها"، "بولاق".
2 نسب قريش "207 وما بعدها".
3 الخزانة "3/ 97 وما بعدها"، "بولاق".(18/269)
ولا هبلا أزور وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير1
و"سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، المعروف بـ "أبي الأعور"، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الصحابة الذين أسلموا قديما، من الشعراء وهو ابن "زيد بن عمرو" المذكور. وكان إسلامه قديما وقبل عمر، وكان إسلام "عمر" عنده في بيته، لأنه كان زوج أخته فاطمة، وقد توفي سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، وقيل اثنتين وخمسين2. ومن شعره قوله:
تلك عرساي تنطقان على عمـ ... ـد لي اليوم قول زور وهتر
سالتاني الطلاق أن رأتا ما ... لي قليلا قد جئتماني بنكر
فلعلّي أن يكثر المال عندي ... ويعرى من المغارم ظهري
وترى أعبد لنا وأواق ... ومناصيف من خوادم عشر
ونجر الأذيال في نعمة زو ... ل تقولان ضع عصاك لدهر
وي كأن من لم يكن له نشب يحبب
...
ومن يفتقر يعش عيش ضر
ويجنب سر النجي ولكن أخا
...
المال محضر كل سر3
وكان "نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب" شاعرا، وكان هو وأخوه "منبه" من وجوه قريش وذوي النباهة فيهم، وقتلا ببدر كافرين، وكانا من المطعمين يوم بدر. وقد رثاهما "الأعشى بن نباش بن زرارة" التميمي، حليف بني عبد الدار، وكان مداحا لنبيه بن الحجاج4.
وقد أورد "الزبيري" له شعرا منه قوله:
تلك عرساي تنطقان بهجر ... وتقولان قول زور وهتر
تسألان الطلاق إذا رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر
__________
1 الخزانة "3/ 244 "، "بولاق".
2 الإصابة، "2/ 44"، "رقم 3261".
3 البيان "1/ 235"، الخزانة "3/ 99"، الشنتمري "2/ 170"، عيون الأخبار "1/ 242".
4 الخزانة "3/ 101"، "بولاق".(18/270)
فلعلّي أن يكثر المال عندي ... وتخلى من المغانم ظهري
وترى أعبد لنا وأواق ... ومناصيف من ولائد عشر1
وقال "الزبيري" إن له أشعارا كثيرة2. وقد رأينا أن هذا الشعر الذي نسب لنبيه، قد نسب أيضا لزيد. وقد نسب
صاحب "الخزانة" الشعر لزيد، ثم عاد فنسبه لنبيه.
وكان "أبو العاص" المعروف بـ "الأمين" من حكماء وشعراء قريش، ومما نسب إليه من شعر قوله:
أبلغ لديك بني أمية ... آية نصحا مبينا
إنا خلقنا مصلحين ... وما خلقنا مفسدينا
إني أعادي معشرا ... كانوا لنا حصنا حصينا
خلقوامع الجوزاء إذ ... خلقوا ووالدهم أبونا3
وهو العاص بن وائل، وكان من أشراف قريش، وفيه يقول ابن الزعبرى:
أصاب ابن سلمى خُلة من صديقه ... ولولا ابن سلمي لم يكن لك راتق
فآوى وحيا إذ أتاه بخلة ... وأعرض عنه الأقربون الأصادق
فإما أصب يوما من الدهر نصرة ... أتتك وإني بابن سلمى لصادق
وإلا تكن إلا لساني فإنه ... بحسن الذي أسديت عني لناطق
ثمال يعيش المقترون بفضله ... وسيب ربيع ليس فيه صواعق4
وعبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن ربيعة بن سعيد بن سهم القرشي السهمي، من "أشعر قريش"5، وكان شديدا على المسلمين، ثم أسلم في الفتح. وذكر أنه لما فتح رسول الله مكة، هرب إلى "نجران"، ثم أسلم ومدح النبي،
__________
1 الأغاني "16/ 62"، نسب قريش "403 وما بعدها".
2 نسب قريش "404".
3 نسب قريش "99".
4 نسب قريش "408 وما بعدها".
5 تاج العروس "3/ 234"، "زبعر"، العمدة "1/ 23".(18/271)
فأمر له بحلة1. وكان يهاجي "حسان بن ثابت" و "كعب بن مالك". وذكر أنه "كان من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه بلسانه ونفسه. وكان من أشعر الناس وأبلغهم. يقولون إنه أشعر قريش قاطبة. قال محمد بن سلام: بمكة شعراء فأبرعهم شعرا عبد الله بن الزبعرى، قال الزبير: "كذلك يقول رواة قريش إنه كان أشعرهم في الجاهلية. وأما ما سقط إلينا من شعره وشعر ضرار بن الخطاب، فضرار عندي أشعر منه، وأقل سقطا"2.
كان "ابن الزبعرى" من المؤذين للرسول، قام يوما فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي، فانفتل النبي من صلاته، ثم أتى "أبا طالب" عمه فقال: يا عم ألا ترى إلى مافعل بي؟ فأخذ "أبو طالب" فرثا ودما فلطخ به وجوه القوم الذين كان "ابن الزبعرى" بينهم. وبقي على عداوته هذه للرسول وفي هجائه له وللمسلمين إلى عام الفتح، فأسلم3.
وقد أشرت إلى ما ذكره "ابن سلام" من أمر البيتين اللذين وجدا مكتوبين على باب الندوة، وهما:
ألهى قصيا عن المجد الأساطير ... ورشوة مثل ما ترشى السفاسير
وأكلها اللحم بحتا لا خليط له ... وقولها رحلت عير أتت عير
وما كان من إجماع أهل مكة على أنها من قول "ابن الزعبرى" ليس غير. وذلك مما أهاج أولاد قصي خاصة، فمشوا إلى "بني سهم" رهط "ابن الزعبرى" طالبين منهم تسليمه لهم ليحكموا فيه حكمهم4.
وفي البيتين، هجاء مر لقصي ولآل قصي، الذين ألهتهم الأساطير عن المجد، وكانوا يرشون ويرتشون مثل ما ترشى السفاسير، وهم السماسرة، أولئك الذين يأكلون اللحم، ولا يعرفون إلا كلام: رحلت عير، أتت عير، كلام التجار. فلا يفهمون قولا غير هذا القول.
__________
1 الإصابة "2/ 300"، "رقم 4679".
2 الاستيعاب "2/ 300 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، كتاب نسب قريش "251، 300، 386، 402، 408 وما بعدها".
3 تفسير القرطبي "6/ 406 وما بعدها".
4 طبقات "58".(18/272)
ومن شعر "ابن الزبعرى" قصيدته في وقعة أحد، ومطلعها:
يا غراب البين أسمعت فقل ... إنما تنطق شيئا قد فعل
قالها وهو مشرك، فلما أسلم قال:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور1
وقد أشار في قصيدته في يوم أحد، إلى انتصاف أهل مكة من المسلمين بقوله:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
حين ألقت بقُباء بركها ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل2
وقصيدته في "أحد" من القصائد الجيدة، وقد دونها "ابن هشام في جملة ما دون من الشعر الذي قيل في هذه المعركة، وقد رد عليه "حسان بن ثابت" بقصيدة دونها "ابن هشام" بعدها3.
وله شعر في مدح النبي، فيه:
منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني ... فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين رسوم
إني لمعتذر اليك من الذي ... أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة ... سهم وتأمرني بها مخزوم
فاغفر فدى لك والدي كلاهما ... ذنبي فإنك راحم مرحوم
وعليك من أثر المليك علامة ... نور أضاء وخاتم مختوم
مضت العداوة فانقضت أسبابها ... ودعت أواصر بيننا وحلوم4
وهي أبيات نظمها معتذرا فيها عما كان منه من هجاء الرسول والمسلمين،
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 549 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "58".
3 سيرة "2/ 157"، "حاشية على الروض".
4 ابن سلام، طبقات "59 وما بعدها".(18/273)
ومن وقوفه مع المشركين في مواقفهم المعروفة، بعد أن سمع بما حل بغيره ممن هجا الرسول من قتل.
ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن الزعبرى" و "ضرار بن الخطاب" الفهري، قدما المدينة أيام "عمر بن الخطاب"، فأتيا "أبا أحمد بن جحش" الأسدي، وكان مكفوفا، وكان مألفا يُجتمع إليه ويتحدث عنه، ويقول الشعر، فقالا له: أتيناك لترسل إلى حسان بن ثابت فنناشده ونذاكره، فإنه كان يقول في الإسلام ويقول في الكفر، فأرسل إليه، فجاء فقال: يا أبا الوليد أخواك تطربا إليك: ابن الزبعرى وضرار يذاكرانك ويناشدانك. قال: نعم إن شئتما بدأت وإن شئتما فابدآ قالا: نبدأ. فأنشداه حتى إذا صار كالمرجل يفور قعدا على رواحلهما. فخرج حسان حتى لقي عمر بن الخطاب، وتمثل ببيت ذكره ابن جعدبة لا أذكره. فقال عمر: وما ذاك؟ فأخبره خبرهما. فقال: لا جرم والله لا يفوتانك. فأرسل في أثرهما فرُدا. وقال لحسان أنشد. فأنشد حسان حاجته. قال له: اكتفيت؟ قال: نعم. قال شأنكما الآن، إن شئتما فارحلا وإن شئتما فأقيما"1.
ومن شعره قوله:
ألا لله قوم و ... لدت أخت بني سهم
هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم
وذو الرمحين أشبال ... على القوة والحزم
فإن أحلف وبيت الله ... لا أحلف على إثم
لما أن إخوة بين ... قصور الروم والروم
بأزكى من بني ريطة ... أو أوزن في حلم2
وكان "الزبير بن عبد المطلب" من فرسان قريش ومن شعرائها3، وقد روى "ابن كثير" له شعرا، ذكر أنه قاله فيما كان من أمر الحية التي كانت
__________
1 ابن سلام، طبقات "60".
2 نسب قريش "300".
3 الاشتقاق "30".(18/274)
قريش تهاب بنيان الكعبة لها، هو:
عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت ... تهيبنا البناء وقد تهاب
فلما أن خشينا الرجز جاءت ... عقاب تتلئب لها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمه كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزا ... وعند الله يلتمس الثواب1
وقد وردت هذه الأبيات في سيرة "ابن هشام"2، أخذت من سيرة "ابن إسحاق". وهي ولا شك من ذلك الشعر المصنوع الذي انتحل على الشعراء، وأعطي إلى "ابن إسحاق" فأدخله في سيرته، أسلوبها يتحدث عن نفسه، ونظمها بعيد عن نظم شاعر عاش في ذلك الوقت.
وقد تعرض "ابن سلام" لشعر "الزبير"، فقال عنه: "وأجمع الناس على أن الزبير بن عبد المطلب شاعر، والحاصل من شعره قليل. فما صح عنه قوله:
ولولا الحبش لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا
ويقال إن:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حليما ولا توصه
للزبير3.
__________
1 تفسير ابن كثير "1/ 181".
2 سيرة ابن هشام "1/ 132"، "حاشية على الروض الأنف".
3 طبقات "61".(18/275)
وكان "الزبير شاعرا مفلقا شديد العارضة مقذع الهجاء، ولما جاء "عبد الله بن الزبعرى" السهمي "بني قصي" رفعوه برمته إلى "عتبة بن ربيعة" خوفا من هجاء "الزبير" فلما وصل "عبد الله" إليهم أطلقه "حمزه بن عبد المطلب" وكساه، فمدحه. وكان "الزبير" غائبا بالطائف أو باليمن، فلما وصل إلى مكة وبلغه الخبر قال:
فلولا نحن لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا
ثيابهم سمال أو طمار ... بها ودك كما دسم الحميت
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت1
وقد كان الخلعاء ينزلون على "الزبير بن عبد المطلب"، ومنهم "أبو الطمحان" القيني، وكان فاسقا ومن الشعراء2.
وكان "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم القرشي" الهاشمي، أن عم الرسول وأخيه في الرضاعة من شعراء قريش المطبوعين. وكان ممن يؤذي النبي والمسلمين، ويهجو رسول الله، وقد عارضه "حسان بن ثابت"، ثم أسلم. وكان إسلامه يوم الفتح قبل دخول رسول الله مكة3. قال "ابن سلام": "ولأبي سفيان بن الحارث شعر، كان يقوله في الجاهلية فقط، ولم يصل إلينا منه إلا القليل، ولسنا نعد ما يروي ابن إسحاق له ولا لغيره شعرا، ولإن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذلك لهم. قال أبو سفيان:
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد
أنا المدلج الحيران أظلم ليله ... بعيد أرجى حين أهدى واهتدي
هداني هاد غير نفسي وقادني ... إلى الله من طردت كل مطرد4
__________
ــ
1 العمدة "1/ 66".
2 الشعر والشعراء "1/ 304"، "دار الثقافة".
3 الإصابة "4/ 90"، "رقم 538"، الاستيعاب "4/ 83"، "حاشية على الإصابة"، الاشتقاق "2/ 260".
4 ابن سلام، طبقات "61"، المرزباني، معجم "271"، ابن سعد، طبقات "4/ 51"، "صادر"، وتجد فيه بعض الاختلاف في الشعر.(18/276)
وروي له شعر قاله يوم تعرض المسلمون لقافلة "أبي سفيان"، ويوم أحد، وفي المناسبات الأخرى1. وله شعر يوم أحد، وقد رد عليه حسان بن ثابت2 وبقية شعراء المسلمين حيث كان بينهم وبين شعراء مكة مساجلات.
وكان نديما لعمرو بن العاص السهمي، وكان الحارث بن حرب بن أمية، نديما للحارث بن عبد المطلب3، وكان الحارث بن عبد المطلب من المؤلفة قلوبهم4.
ولما توفي الرسول رثاه "أبو سفيان بن الحارث" بقصيدة مطلعها:
أرقت فبات ليلي لايزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كريت تسيل
نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول5
وقد وضعت أشعار على لسان "أبي سفيان" في هجاء "حسان بن ثابت". فقد هجا "قتادة بن موسى" الجمحي حسان بن ثابت بأبيات ونحلها "أبا سفيان". وقتادة من الشعراء المخضرمين6.
وضرار بن الخطاب بن مرداس بن كثير بن عمرو بن سفيان بن محارب بن فهر القرشي الفهري من ظواهر قريش، وكان لا يكون بالبطحاء إلا قليلا.
__________
1 ابن سلام، طبقات "61 وما بعدها".
2 ابن سلام "62"، أمالي المرتضى "1/ 632".
3 المحبر "177".
4 المحبر "473".
5 الروض الأنف "2/ 379 وما بعدها".
6 الإصابة "3/ 217"، "رقم 7077".(18/277)
وكان أبوه رئيس بني فهر في زمانه، وكان يأخذ المرباع لقومه. وقد قدمه بعض رواة الشعر من قريش على "عبد الله بن الزبعرى"، وعدوه من الشعراء المطبوعين المجودين، قاتل المسلمين في الوقائع أشد القتال، ثم أسلم في الفتح1.
وهو من الأشراف2. وذكر أنه: كان من فرسان قريش وشجعانهم وشعرائهم المطبوعين المجودين، حتى قالوا: ضرار بن الخطاب فارس قريش وشاعرهم. قال الزبير بن بكار: لم يكن في قريش أشعر منه ومن ابن الزبعرى. قال الزبير: ويقدمونه على ابن الزبعرى، لأنه أقل منه سقطا، وأحسن صنعة"3. وكان من فرسان قريش يوم الخندق.
ولضرار شعر قاله في يوم "بدر"4، وشعر في رثاء "أبي جهل"5. وأشعار أخرى في أحد الوقائع الأخرى تجدها في سيرة "ابن هشام".
وكان ضرار جمع من حلفاء قريش ومن مراق كنانة ناسا، فكان يأكل بهم ويغير ويسبي، ويأخذ المال. وكان خرج في الجاهلية في ركب من قريش فمروا ببلاد دوس، وهم يطالبون قريشا بدم "أبي أزيهر"، قتله "هشام بن المغيرة"، فثاروا بهم وقتلوا فيهم، فقاتلهم ضرارا، ثم لجأ إلى امرأة منهم، يقال لها: "إم غيلان" مقينة تقين العرائس، فساعدته وساعده بنوها وبناتها، فسلم. ولقي ضرار يوم أحد "عمر بن الخطاب"، فضربه بعارضه سيفه، وقال: انج يا ابن الخطاب، لأنه كان قد آلى أن لا يقتل يومئذ قرشيا، فلما ولي "عمر" الخلافة، وسمعت "أم غيلان" بذكر "ابن الخطاب" ظنته ضرارا، فقدمت المدينة، فتوسط لها "ضرارا" عند الخليفة فأثابها6.
__________
1 الإصابة "2/ 201"، "رقم 4173"، الاستيعاب "2/ 201"، "حاشية على الإصابة"، تاج العروس "3/ 234"، "زبعر" كتاب نسب قريش "126، 264، 433 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 350"، "ضرر".
3 الاستيعاب "2/ 201 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
4 سيرة ابن هشام "2/ 109"، "حاشية على الروض الأنف".
5 سيرة ابن هشام "2/ 113"، "حاشية على الروض الأنف".
6 ابن سلام، طبقات "63".(18/278)
وكان من مسلمة الفتح، ومن شعره في يوم الفتح، قوله:
يا نبي الهدى إليك لجاحي ... حي قريش وأنت خير لجاء
حيث ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القو ... م ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعدا يريد قاصمة الظهـ ... ـر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغيـ ... ـظ رمانا بالنسر والعواء
وغر الصدر لا يهم بشيء ... غير سفك الدماء وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت ... عنه هند بالسوءة السواء
إذ تنادى بذل حي قريش ... وابن حرب بدا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة اللواء أهل اللواء
ثم ثابت إليه من نهر الخز ... رج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطحاء قريش ... فقعة القاع في كف الإماء
فانهينه فإنه أسد الأسـ ... ـد لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يدير لنا الأمـ ... ـر سكونا كالحية الصماء1
ومن الشعراء الذين هجوا الرسول والإسلام "هبيرة بن أبي وهب" المخزومي. من فرسان قريش وشعرائها، وكان مثل "الزبعرى" ممن يؤذون الإسلام، فهدر النبي دمه، فهرب إلى "نجران" حتى مات بها كافرا. وكانت عنده "أم هانئ" ابنة "أبي طالب" فأسلمت عام الفتح، فقال حين بلغه إسلامها قصيدة من بينها هذه الأبيات:
أشاقتك هند أم نآك سؤالها ... كذاك النوى أسبابها وانفتالها
وقد أرقت في رأس حصن ممرد ... بنجران يسري بعد نوم خيالها
وإن كنت قد تابعت دين محمد ... وعطفت الأرحام منك حبالها
وهي قصيدة رويت في موارد متعددة مع شيء من الاختلاف2.
__________
1 الاستيعاب "2/ 26 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
2 كتاب نسب قريش "39، 344"، الشعر والشعراء "80"، الاشتقاق "95"، البيان والتبيين "2/ 203"، العمدة "1/ 23".(18/279)
وأورد "ابن هشام" قصيدة لـ "هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ" المخزومي، في معركة "أحد"1. وذكر "ابن سلام" أن "هبيرة"، كان شاعرا من رجال قريش المعدودين، وكان شديد العداوة لله ولرسوله، فأخمله الله ودحقه، وهو الذي يقول يوم أحد:
قدنا كنانة من أكتاف ذي يمن ... عرض البلاد على ما كان يزجيها
قالت كنانة أنى تذهبون بنا ... قلنا النخيل فأموها وما فيها
وله شعر كثير وحديث"2.
و"الحارث بن هشام بن المغيرة" المخزومي، أخو "أبي جهل" وابن عم "خالد بن الوليد"، كان من أشراف قومه، وقد مدحه "كعب بن الأشرف اليهودي، وكان فيمن شهد بدرا مع المشركين، وفر حينئذ وقتل أخوه أبو جهل، فعير بفراره، فمما قيل فيه قول حسان بن ثابت:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
فأجابه الحارث:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزيد
فعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولايبكي عدوي مشهدي
ففرت عنهم والأحبة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مرصد
ويرى علماء الشعر أن هذه الأبيات أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار3.
__________
1 ابن هشام، سيرة "2/ 155"، "حاشية على الروض".
2 طبقات "65".
3 الإصابة "1/ 293"، "رقم 1504"، "فاعتذر إليه الحارث بن هشام من فراره يومئذ، بما زعم الأصمعي أنه لم يسمع بأحسن من اعتذاره ذلك من فراره"، الاستيعاب "1/ 308"، "حاشية على الإصابة"، نسب قريش "301 وما بعدها"، وقد روى الشعر بصورة مختلفة.(18/280)
وكان الحارث يضرب به المثل في السؤدد حتى قال الشاعر:
أظننت أن أباك حين تسبني ... في المجد كان الحارث بن هشام
أولى قريش بالمكارم والندى ... في الجاهلية كان والإسلام1
وله أشعار في بدر وفي المناسبات الأخرى التي وقعت مع المسلمين، وله شعر في رثاء أخيه "أبي جهل". وذكر "ابن هشام" أن بعض أهل العلم بالشعر ينكر بعض هذا الشعر2.
وقد شهد "أحدا" مشركا حتى أسلم يوم فتح مكة، وكان من المؤلفة قلوبهم، وشهد مع النبي حنينا فأعطاه مائة من الإبل كما أعطى المؤلفة قلوبهم، وكان من المطعمين بمكة. وخرج إلى الشام في زمن "عمر"، فتبعه أهل مكة يبكون فراقه، وتوفي هناك بطاعون عمواس سنة ثمانية عشرة في رواية، أو بيوم اليرموك رجب سنة خمسة عشرة في رواية أخرى3.
ومن شعراء قريش: "مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار بن قصي" القرشي، وهو جاهلي، من معاصري "هشام بن المغيرة" المخزومي4.
ومن شعراء قريش الذين أدركوا الإسلام وصاروا عليه، "ابن خطل"، "عبد الله بن خطل"، أو "آدم" القرشي الأدرمي. وهو من ولد "تميم بن غالب". وكان ممن يهجو الرسول والإسلام، ويأمر قينتين له بأن تغنيا بهجاء الرسول. فأهدر النبي دمه ولو وجد تحت أستار الكعبة. وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلما، ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان: فرتني وأخرى معها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله، فأمر بقتلهما معه. فقتله "أبو برزة" الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة5.
__________
1 الإصابة "1/ 293"، "رقم 1504".
2 ابن هشام، سيرة "2/ 113"، "حاشية على الروض".
3 الإصابة "1/ 293"، "رقم 1504"، الاستيعاب "1/ 307"، "حاشية على الإصابة"، ابن سلام، طبقات "33 وما بعدها".
4 المرزباني، معجم "255".
5 الطبري "3/ 59"، "فتح مكة"، العمدة "1/ 23".(18/281)
ومن شعراء قريش "أبو العاصي بن أمية الأكبر بن عبد شمس"، كان يقال له "الأمين"، وكان من حكماء قريش. وينسب إليه قوله:
أبلغ لديك بني أمية ... آية نصحا مبينا
إنا خلقنا مصلحين ... وما خلقنا مفسدينا
إني أعادي معشرا ... كانوا لنا حصنا حصينا
خلقوا مع الجوزاء إذ ... خلقوا ووالدهم أبونا1
وكان "أبو عزة" واسمه "عمرو بن عبد الله بن عمير" شاعرا، كان مملقا ذا عيال، فأسر يوم بدر كافرا، فمن عليه الرسول على أن لا يهجو المسلمين، فعاهده وأطلقه. فلما كان يوم أحد، أطمعه "صفوان بن أمية بن خلف الجمحي"، وكان محتاجا، والمحتاج يطمع، فأخذ يحرض الناس على الإسلام، فقتل.
وقيل إنه برص بعد ما أسن، وكانت قريش تكره الأبرص، وتخاف العدوى، فكانوا لا يؤاكلونه ولا يشاربونه ولا يجالسونه، فكبر ذلك عليه، فصعد جبل حراء، يريد قتل نفسه، فطعن بها في بطنه، فسال ماء أصفر، وذهب ما كان به، فقال في ذلك شعرا2. وذكر "الزبير" أنه أسر يوم "بدر" وكان ذا بنات؟ فقال: "دعني لبناتي" فرحمه، وأخذ عليه ألا يكثر عليه بعدها، فلما جمعت قريش لرسول الله لتسير إليه، كلمه "صفوان بن أمية" وسأله أن يخرج إلى "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وهم حلفاء قريش، فيسألهم النصر، فأبى عليه، وقال: "إن محمدا قد من علي وأعطيته ألا أكثر عليه"، فلم يزل صفوان يكلمه حتى خرج إلى بني الحارث، يحرضهم على الخروج مع قريش والنصر لهم، فقال في ذلك:
أنتم بنو الحارث والناس إلهام ... أنتم بنو عبد مناة الرزام
أنتم حماة وأبوكم حام ... لا تعدوني نصركم بعد العام
لا تسلموني لا يحل إسلام
__________
1 كتاب نسب قريش "98 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "63 وما بعدها".(18/282)
فلما انصرفت قريش من أحد، تبعهم رسول الله حتى بلغ "حمراء الأسد"، فأصاب بها "عمرا"؛ فقال له: "يامحمد! عفوك! " فقال له الرسول، "لا تمسح سبلتيك بمكة، تقول: خدعت محمدا مرتين! " "لايلدغ مؤمن من جحر مرتين، وقتله صبرا"1.
ومن شعراء قريش "حرب بن أمية"2، وهو من بني أمية3، وكان رئيسا بعد المطلب4، وهو والد "أبي سفيان بن حرب"، وقد زعم أن الجن قتلته، وأنشدوا في ذلك شعرا ذكروا أن الجن قالته، هو:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر5
وقد زعموا أن الجن خنقته6. وقد نسبوا له هذه الأبيات:
أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكفيك الندامى من قريش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش
وتنزل بلدة عزت قديما ... وتأمن أن يزورك رب جيش
قالوا إنه قالها مخاطبا بها "أبا مطر" الحضرمي، يدعوه إلى حلفه ونزول مكة7.
ومن شعراء قريش الذين أدركوا الإسلام: "أبو زمعة"، واسمه "الأسود بن عبد المطلب". له شعر رثا به من قتل ببدر، منه:
تبكِّي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود
__________
1 نسب قريش "397 وما بعدها".
2 نسب قريش "157".
3 المحبر "132".
4 المحبر "165".
5 الحيوان "6/ 207"، معاهد التنصيص "1/ 12 وما بعدها"، المعارف "32".
6 الحيوان "1/ 302".
7 الحيوان "3/ 141".(18/283)
فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص ... ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبكّي إن بكيت على عقيل ... وبكي حارثا أسد الأسود
وبكي إن بكيتهم جميعا ... وما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا1
__________
1 نسب قريش "218 وما بعدها".(18/284)
الفصل الثالث والستون بعد المائة: شعراء يثرب
قال "ابن سلام": "شعراؤها الفحول خمسة: ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس. فمن الخزرج، من بني النجار حسان بن ثابت، ومن بني سلمة، كعب بن مالك، ومن بلحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، ومن الأوس: قيس بن الخطيم من بني ظفر، وأبو قيس بن الأسلت من بني عمرو بن عوف"1. وهناك شعراء آخرون لكنهم لم يبلغوا مبلغ هؤلاء الشعراء، منهم: "أحيحة بن الجلاح" و "سويد بن الصامت"، و "أبو قيس بن مالك بن الحارث" وآخرون.
ونسبوا لأبي آمنة جد النبي قوله:
وإذا أتيت معاشرا في مجلس ... فاختر مجالسهم ولما تقعد
ولكل أمر يستعاد ضراوة ... فالصالحات من الأمور تعود2
ويعد "مالك بن العجلان" الخزرجي في جملة شعراء يثرب، ذكر أنه القائل للربيع بن أبي الحقيق اليهودي من أبيات:
إني امرؤ من بني سالم ... كريم وأنت امرؤ من يهود
__________
1 طبقات "52".
2 المصون "189".(18/285)
فأجابه الربيع من أبيات أولها:
أتسفه قيلة أحلامها ... وحان بقيلة عثر الجدود1
وفيه يقول الشاعر "عمرو بن امرئ القيس" من بني الحارث بن الخزرج، من شعراء الجاهلية:
يا مال والسيد المعمم قد ... يبطره بعد رأيه السرف
نحن بما عندنا وأنت بما عندك ... راض والرأي مختلف2
وهو من مشاهير سادة "يثرب"، وله ذكر في نزاع أهل يثرب مع اليهود، وفي حرب "سمير" بين الأوس والخزرج. وهو قاتل" الفطيون"3.
وعمرو بن الإطنابة من شعراء "يثرب"، وهو من الخزرج، وهو شاعر فارسي قديم، خرجت الخزرج معه وخرجت الأوس وأحلافها مع "معاذ بن النعمان" في حرب كانت بين الأوس والخزرج، وذكر أن حسان بن ثابت جعله أشعر الناس، لقوله:
إني من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا بحق الله ثم النائل
المانعين من الخنا جيرانهم ... والحاشدين على طعام النازل
والخالطين فقيرهم بغنيهم ... والباذلين عطاءهم للسائل
لا يطبعون وهم على أحسابهم ... يشفون بالأحلام داء الجاهل
القائلين ولا يعاب خطيبُهم ... يوم المقامة بالكلام الفاصل
ومن شعره:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذ الحمد بالثمن الربيح
وإكراهي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
__________
1 المرزباني، معجم "256".
2 والشعر يختلط أبياته بأبيات قصيدة أخرى لقيس بن الخطيم، وأخرى لمالك بن العجلان، البيان والتبيين "3/ 100"، جمهرة أشعار العرب "127 وما بعدها"، الجمهرة "122"، ديوان قيس بن الخطيم "16 وما بعدها".
3 الاشتقاق "2/ 270".(18/286)
ويقال إن معاوية قال: لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين وهممت بالفرار، فما منعني من ذلك إلا قول "ابن الإطنابة" الشعر المذكور1.
ونسب "أبو الفرج" الأصبهاني إلى "أحيحة بن الجلاح بن الحريش "الجريش؟ " بن جحجبي بن كلفة" الأوسي قوله:
لتبكين قنية ومزمرها ... ولتبكيني قهوة وشاربها
ولتبكيني ناقة إذا رحلت ... وغاب في سربخ مناكبها
وهي أبيات قبلها:
يشتاق قلبي إلى مليكة لو ... أمست قريبا لمن يطالبها
ماأحسن الجيد من مليكة والـ ... ـلبات إذ زانها ترائبها
وقد نسبها بعض آخر لعدي بن زيد العبادي، ونسبها بعض آخر لبعض الأنصار2.
و"أحيحة بن الجلاح"، من سادات الأوس. وكان سيدهم في زمانه، وكان شاعرا. وكانت عنده "سلمى بنت عمرو" من بني النجار، وأولاده منها إخوة "عبد المطلب"3 وهو من أصحاب المذهبات.
وقد ذكر "ابن الشجري"، أنه وجد في كتاب لغوي أن الشعر المذكور منسوب إلى "عدي بن زيد"، وقد تصفح نسختين من ديوان عدي فلم يجده فيهما، وإنما وجد له قصيدة على هذا الوزن وهذه القافية أولها:
لم أر مثل الأقوام في غبن ال
...
أيام ينسون ما عواقبها
وذكر "البغدادي" أن "الأصبهاني" اقتبسه في "الأغاني" لأحيحة5.
وقد ذكر أهل الأخبار أن "أحيحة" كان في أيام التبع "أبو كرب بن حسان بن تبع بن أسعد" الحميري، وأن هذاالتبع لما عاد من العراق يريد
__________
1 المرزباني، معجم "8 وما بعدها".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 417".
3 الاشتقاق "262".
4 الأغاني "13/ 119"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 149".
5 الخزانة "2/ 20 وما بعدها".(18/287)
"يثرب" لقتل أهلها ابنا له بها، وهو مجمع على خرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية، نزل بسفح "أحد" فاحتفر بها بئرا، عرفت بـ "بئر الملك"، ثم أرسل إلى أشرافها ليأتوه، فكان ممن أتاه "زيد بن ضبيعة" وابن عمه "زيد بن أمية بن عبيد"، وكانوا يسمون "الأزياد"، و"أحيحة بن الجلاح: فلما جاء رسول التبع، ذهب الأزياد إليه، وكان "أحيحة" له تابع من الجن أخبره أنه يريد قتلهم جميعا، وكان لا يقول إلا صوابا، فلما قابل التبع تحدث معه عن أمواله وعن أموال المدينة، ثم خرج من عنده ودخل خباءه، وكان "تبع" قد أوكل حراسا به، فشرب وقرض أبياتا مطلعها:
يشتاق قلبي إلى مليكة ... أمسي قريبا لمن يطالبها
وأمر قينته أن تغنيه حتى استغفل الحرس، ففر منهم إلى أطمة "الضحيان"، وقيل "المستظل"، فجرد الملك كتيبة عليه، ثم حاصر المدينة، فلم يتمكن منها، إذ اعتصم أهلها من الأوس والخزرج واليهود بأطمهم، ثم أقنعه "حبران" من أحبار يهود بكف الحصار عنها، فرجع1.
وكان "أحيحة" سيد الأوس في الجاهلية، وكان كثير المال شحيحا عليه يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم، وكان له تسع وتسعون بعيرا كلها ينطح عليه، وكان له أطمان، أطم في قومه يقال له "المستظل"، وأطم يقال له "الضحيان" بالعصبة في أرضه التي يقال لها الغابة، بناه بحجارة سود، ويزعمون أنه لما بناه هو وغلام له أشرف، ثم قال: لقد بنيت حصنا حصينا ما بنى مثله رجل من العرب أمنع منه، ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع وقع جميعا. فقال غلامه: أنا أعرفه قال: فأرنيه يا بني؟ قال: هو ذا، وصرف إليه رأسه. فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم، فوقع على رأسه فمات2. وهي قصة تشبه قصة "سنمار"، ولها شبه عند اليونان. ويذكرون أنه لما بناه قال:
بنيت بعد مستظل ضاحيا ... بنيته بعصبة من ماليا
__________
1 الخزانة "2/ 21 وما بعدها"، "بولاق"، الأغاني "13/ 119".
2 الخزانة "2/ 23"، "بولاق".(18/288)
للستر مما يتبع القواضيا ... أخشى ركيبا أو رجيلا غاديا1
وينسب لأحيحة قوله:
استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عم ولا عم ولا خال
إني مقيم على الزوراء أعمرها ... إن الحبيب إلى الأخوان ذو المال
وقوله:
وما يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل2
و"سويد بن صامت" أخو "عمرو بن عوف" من الأوس ومن "الكملة" ومن الأشراف أصحاب النسب، ومن الشعراء. وكانت له أشعار كثيرة. وهو الذي ذهب إليه النبي يوم قدم مكة حاجا أو معتمرا ليدعوه إلى الإسلام، فلما كلمه النبي قال له "سويد" فلعل الذي معك مثل الذي معي! فقال رسول الله وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان. فقال له رسول الله: اعرضها علي! فعرضها عليه، فقال: إن هذا لكلام حسن والذي معي أفضل من هذا: قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هدى ونور. فتلا عليه رسول الله القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه. وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه. فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتله الخزرج3. ويشك في إسلامه4.
و"أبو قيس بن الأسلت" "أبو قيس بن عامر بن جشم" و "عامر" هو الأسلت، شاعر من الأوس. اختلف في اسمه، فقيل "صيفي" وقيل "الحرث" "الحارث"، وقيل "عبد الله"، وقيل "صرمة"، واختلف في إسلامه.
ذكر أنه كان يدعى "الحنيف" لتحنفه ولم يكن أحد من الأوس والخزرج أوصف لدين الحنيفية ولا أكثر مسألة عنها منه. وكان يسأل من اليهود عن دينهم،
__________
1 الخزانة "2/ 23"، "بولاق".
2 بلوغ الأرب "3/ 127".
3 الروض الأنف "1/ 265 وما بعدها"، ابن هشام، سيرة "1/ 265 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الأغاني "2/ 169".
4 الإصابة "2/ 132"، "رقم 3818"، الاستيعاب "2/ 593"، رسالة الغفران "137".(18/289)
فكان يقاربهم، ثم خرج إلى الشام فنزل على "آل جفنة" فأكرموه ووصلوه، وسأل الرهبان والأحبار، فدعوه إلى دينهم فامتنع، ثم خرج إلى مكة معتمرا، فبلغ "زيد بن عمرو بن نفيل" فكلمه، فكان يقول: "ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل" ولما قدم النبي إلى المدينة جاء إليه فقال: إلام تدعو؟ فذكر له شرائع الإسلام. فقال: ما أحسن هذا وأجمله! فلقيه "عبد الله بن أبي بن سلول"، فقال: لقد لذت من حزبنا كل ملاذ، تارة تحالف قريشا، وتارة تتبع محمدا. فقال: لا جرم لأتبعنه إلى آخر الناس. وقد اختلف في إسلامه، والأغلب أنه لم يسلم1. وذكر أنه كاد أن يسلم، لما اجتمع برسول الله، ولكن كلام "عبد الله بن أبي" أثر عليه، فقال: والله لا أسلم سنة. ثم انصرف إلى منزله، حتى مات قبل الحول، وذلك في ذي الحجة على رأس عشرة أشهر من الهجرة2.
وفي سيرة "ابن هشام" قصيدة نسبت إلى "أبي قيس بن الأسلت" زعم أنه وجهها لقريش ينهى فيها عن الحرب ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض، ويذكر فضلهم وأحلامهم، ويأمرهم بالكف عن رسول الله، ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الغيل وكيده عنهم. وأول القصيدة:
يا راكبا أما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النائي مخزون بذلك ناصب3
وهو من أصحاب المذهبات، ومطلع مذهبته:
قالت ولم تقصد لقول الخنى ... مهلا فقد أبلغت أسماعي4
ونسب له قوله:
ولو شا ربنا كنا يهودا ... وما دين اليهود بذي شكول
__________
1 الإصابة "4/ 160 وما بعدها"، "رقم 944"، الاستيعاب "4/ 159 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، ابن سلام، طبقات "56".
2 ابن سعد، طبقات "4/ 385".
3 سيرة ابن هشام "1/ 180"، "حاشية على الروض".
4 الأغاني "15/ 160"، الجمهرة "126"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 139".(18/290)
ولو شا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل جيل
نسوق الهدي ترسف مذعنات ... تكشف عن مناكبها الجلول1
وكان "أبو قيس بن الأسلت" الأنصاري يهاجي "حسان بن ثابت". وهو من الأوس، وحسان من الخزرج، فكانا يتهاجيان. وكان بين الحيين هجاء، فكان شعراء كل حي، يهاجون شعراء الحي الثاني، عصبية، لما كان بينهما من تحاسد وتنافر2.
والأسلت لقب "عامر بن جشم بن وائل بن يزيد" والد الشاعر المتقدم من الأوس، وهو شاعر من شعراء الجاهلية، وكانت الأوس قد أسندت أمرها في يوم "بعاث" إلى "أبي قيس بن الأسلت"، فقام في حربهم وآثرها على كل أمر آخر، حتى أنهكته وشحب لونه. وقال "ابن حجر" إن اسم "أبي قيس ابن الأسلت" "صيفي"، وقيل "الحارث"، وقيل "عبد الله"، وقيل "صرفة"، وقيل غير ذلك. واختلف في إسلامه. فمنهم من صيره مسلما، وجعله في عداد الصحابة، ومنهم من جعله متألها حنيفا على دين إبراهيم، وكان يقول: ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من زعم أنه قال: والله لا أسلم إلى سنة، فمات قبل الحول على رأس عشرة أشهر من الهجرة بشهرين، وذكر أنه هرب إلى مكة فأقام بها مع قريش إلى عام الفتح3. وللعصبية دور في هذه الروايات، ترد في رجال آخرين من أهل يثرب ومن أهل مكة، تقدم روايات منها رجالا في الإسلام، وتؤخرهم أخرى، وتنفي عنهم بعضها الدخول في دين الله، لما لهذا التأخير أو التقديم، أو البقاء على الشرك من أهمية كبيرة بالنسبة لهم في ذلك الوقت.
وذكر أن "أبا قيس بن الأسلت" كان يعدل بـ "قيس بن الخطيم" في الشجاعة والشعر4. وقيس بن الخطيم، شاعر فارس من الأوس. معدود من
__________
1 ابن سعد، طبقات "4/ 385".
2 الخزانة "4/ 68"، "بولاق".
3 الخزانة "2/ 47 وما بعدها"، "بولاق".
4 الإصابة "4/ 161"، "رقم 944"، "واسم الأسلت عامر فهو لقب له"، تاج العروس "1/ 544"، "سلت".(18/291)
أصحاب "المذهبات". وتبدأ مذهبته بقوله:
أتعرف رسما كاطراد المذاهب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب
وكان يلاحي الخزرج، قتل أبوه وهو صغير. قتله رجل من الخزرج، وعلم أن جده قتله رجل من "عبد القيس" فتعقب القاتلَين، حتى ظفر بقاتل والده بيثرب، وظفر بقاتل جده بذي المجاز فقتله1. أدرك الإسلام، ولكنه لم يسلم. ذكر أنه قدم على النبي بمكة قبل الهجرة، فعرض النبي عليه الإسلام، فقال: إني لأعلم أن الذي تأمرني به خير مما تأمرني به نفسي، وفيها بقية من ذاك، فاذهب فاستمتع من النساء والخمر وتقدم بلدنا فأتبعك. فقتل قبل أن يتبعه. أصابه سهم وهو راكب أمام أطم لرجل من الخزرج2.
وهو الذي يقول في حرب كانت بينهم وبين الخزرج:
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع
أسعى على جل بني ملك ... كل امرئ في أمره ساعي3
وذكر "المرزباني" أن قيس بن الخطيم، شاعر مجيد فحل، من الناس من يفضله على حسان شعرا. وقال حسان: إنا إذا نافرتنا العرب فأردنا أن نخرج الحبرات من شعرنا أتينا بشعر قيس بن الخطيم4. وله ديوان مطبوع5. وهو الذي يقول في يوم بعاث:
أتعرف رسما كاطراد المذاهب ... لعمرة قفر غير موقف راكب
وله أشعار جيدة أخرى6.
__________
1 الاشتقاق "264"، الأغاني "2/ 159 وما بعدها"، الخزانة "3/ 168"، المرزباني، معجم "196".
2 المرزباني، معجم "196"، ديوان الحماسة "3/ 104"، بروكلمان تأريخ الأدب العربي "1/ 114 وما بعدها".
3 ابن سلام، طبقات "56".
4 المرزباني، معجم "196"، ابن سلام، طبقات "56".
5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 115".
6 ابن سلام، طبقات "56 وما بعدها".(18/292)
وذكر أنه كان مقيما على شركه، وأسلمت امرأته، وكان يقال لها "حواء"، وكان يصدها عن الإسلام، ويعبث بها، وكان رسول الله وهو بمكة قبل الهجرة يخبر عن أمور الأنصار، وعن حالهم فأخبر بإسلامها وبما تلقى من قيس، فلما كان الموسم، وحضر مكة، أتاه النبي في مضربه، فلما رأى النبي رحب به وأعظمه، فأخبره النبي بما تلاقي امرأته منه بسبب إسلامها، وقال له: أحب أن لا تعرض لها، فكف عن أذاها1، ويقال إن النبي دعاه إلى الإسلام وتلا عليه القرآن، فقال: إني لأسمع كلاما عجبا فدعني أنظر في أمري هذه السنة ثم أعود إليك فمات قبل الحول2.
وذكر أنه كان سيدا شاعرا، فلما هدأت حرب الأنصار، تذاكرت الخزرج قيس بن الخطيم ونكايته، فتذامروا وتواعدوا قتله، فلما مر بأطم "بني حارثة"، رمي بثلاثة أسهم، فصاح صيحة أسمعها رهطه، فجاءوه فحملوه إلى منزله، فلم يروا له كفوا إلا "أبو صعصعة بن زيد" النجاري، فاندس إليه رجل حتي اغتاله في منزله فضرب عنقه، وجاء برأسه، ووضعه أمام "قيس" وكان به رمق، فما لبث أن مات3.
وله قصيدة متينة، قالها حين ظفر بقاتل أبيه وقاتل جده، فقتلهما، من أبياتها:
طعنتُ ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفيّ فانهر فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
يهون علي أن ترد جراحها ... عيون الأواسي إذا حمدت بلاءها
وكنت امرأ لا أسمع الدهر سبة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها
فإني في الحرب الضروس موكل ... بإقدام نفس ما أريد بقاءها
متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
ثأرت عديا والخطيم فلم أضع ... ولاية أشياخ جعلت إزاءها4
__________
1 ابن سلام، طبقات "57".
2 الإصابة "3/ 266"، "رقم 7350".
3 أسماء المغتالين، "المجموعة السابعة من نوادر المخطوطات"، "274".
4 حماسة أبو تمام "1/ 94 وما بعدها"، "بولاق"، الأغاني "2/ 60"، ديوانه "3 وما بعدها"، "طبعة لايبزك 1914".(18/293)
وله غزل، نابع من غزل أهل الحضر، تغزل فيه بعمرة بنت رواحة1.
و"أبو قيس" "مالك بن الحارث"، وقيل "صرمة بن أبي أنس بن مالك" من بني النجار، شاعر كذلك. كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها، ودخل بيتا فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه طامث ولا جنب. وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قدم الرسول يثرب أسلم فحسن إسلامه، وهو شيخ كبير. وكان قوالا بالحق معظما له. يقول في الجاهلية أشعارا حسانا. وقد ذكر "ابن إسحاق" أشعارا له، في الوصايا، وفيها حث على مكارم الأخلاق والأمر بالمعروف وفي إنصاف الأيتام وغير ذلك من شعر المواعظ2.
ومن شعراء يثرب: "عمرو بن امرئ القيس"، الذي سبق أن ذكرته، وهو جد "عبد الله بن رواحة" وهو شاعر خزرجي جاهلي. وله شعر في القتال الذي وقع بين الأوس والخزرج بسب "سمير" الذي عدا على "بجير" مولى "مالك بن العجلان" فقتله، فوقعت الحرب من أجل ذلك بين الحيين، فحكموا "عمرو بن امرئ القيس"، فحكم بدية المولى لمالك، فلما رفض الحكم هاجت الحرب. فلما طالت حكموا فيها "ثابت بن المنذر" والد حسان وبذلك انتهى النزاع3.
وحسان بن ثابت من المخضرمين، من شعراء الخزرج، واسمه حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام. وهو شاعر رسول الله وشاعر الإسلام. وأمه "الفريعة" بنت "خالد بن حبيش بن لوذان". وهي من الخزرج أيضا. أدركت الإسلام أيضا فأسلمت، وقيل هي أخت "خالد" لا ابنته، ويكنى "أبا الوليد"، وأبا المضرب، وأبا الحسام، وأبا عبد الرحمن. "قال أبو عبيدة: فضل حسان بن ثابت على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام. وكان مع
__________
1 كارلو نالينو "93".
2 الاستيعاب "4/ 157 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "2/ 179"، "رقم 4061".
3 الخزانة "2/ 188 وما بعدها"، "بولاق".(18/294)
ذلك جبانا"1. ولم يشهد مع النبي مشهدا لأنه كان يجبن2. وذكر أنه كان لسنا شجاعا، فأصابته علة أحدثت فيه الجبن، فكان بعد ذلك لا يقدر أن ينظر إلى قتال ولا يشهده3. وروي عن "أبي عبيدة" قوله: "اجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدر يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف. وعلى أن أشعر أهل المدر حسان بن ثابت". "وقال الأصمعي: حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء. فقال له أبو حاتم: تأتي له أشعار لينة. فقال الأصمعي: تنسب له أشياء لا تصح عنه"4.
وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شعر حسان بن ثابت، ولا كعب بن مالك، ولا عبد الله بن رواحة شعرا، ولكنه حكمة"5. وذكر أن "الحارث المري"، قال للنبي: "إني أعوذ بالله وبك من هذا، إن شعر هذا لو مزج بماء البحر لمزجه". وكان حسان قد رآه جالسا مع الرسول، فقال فيه شعرا مطلعه:
يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمدا لا يغدر6
ويروى أنه كان إذا عالج شعرا، وعصى عليه، ثم أحكمه وأعجبه، طرب به وربما صاح من الطرب ومن فرحة الانتهاء من الشعر. قال أحدهم: "سمعت حسان بن ثابت في جوف الليل وهو ينوه بأسمائه ويقول: أنا حسان بن ثابت، أنا ابن الفريعة، أنا الحسام، فلما أصبحت غدوت عليه فقلت له: سمعتك البارحة تنوه بأسمائك، فما الذي أعجبك؟ قال: عالجت بيتا من الشعر، فلما أحكمته نوهت بأسمائي! فقلت وما البيت؟ قال: قلت:
__________
1 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 334"، المحاسن والأضداد "48".
2 الشعر والشعراء "264"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 333"، "بغداد 1968".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 334".
4 الاستيعاب "1/ 338"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 334"، الأغاني "4/ 134"، المؤتلف "89"، المرزباني، معجم "401".
5 المصدر نفسه "1/ 335".
6 السيوطي، شرح شواهد "1/ 335".(18/295)
وإن امرأ يمسي ويصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد1
وروي أيضا أنه قام من جوف الليل فصاح: يا آل الخزرج، فجاءوه وقد فزعوا، فقالوا: مالك؟ قال: بيت قلته فخشيت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة خذوه عني، قالوا: وما قلت؟ قال: قلت:
رب حلم أضاعه عدم المال ... وجهل غطى عليه النعيم2
وقد حمل على "حسان" شعر كثير، بسبب تحامله على قريش، فأرادت قريش النكاية به، فوضعت شعرا على لسانه ليحط من مكانته. قال "ابن سلام": "وأشعرهم حسان بن ثابت، هو كثير الشعر جيده. وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد. لما تعاضهت قريش واستبت وضعوا عليه أشعار كثيرا لا تليق به"3.
وأكثر علماء الشعر أن شعر "حسان" في الجاهلية أقوى منه في الإسلام، قال "الأصمعي": "الشعر نكد يقوى في الشر ويسهل، فإذا دخل في الخير ضعف ولان. هذا حسان فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره. وقال مرة أخرى: شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر. وقيل لحسان لان شعرك أو هرم في الإسلام يا أبا الحسام! فقال للقائل: يا ابن أخي إن الإسلام يحجز عن الكذب، أو يمنع من الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب، يعني أن شأن التجويد في الشعر الإفراط في الوصف والتزيين بغير الحق وذلك كله كذب"4.
وقال "الثعالبي": "من عجائب أمر حسان أنه كان رضي الله عنه يقول الشعر في الجاهلية فيجيد جدا ويغبر في نواصي الفحول ويدعي أن له شيطانا يقول الشعر على لسانه كعادة الشعراء في ذلك ... فلما أدرك الإسلام وتبدل الشيطان الملك تراجع شعره وكاد يرك قوله، ليعلم أن الشيطان أصلح للشاعر وأليق به وأذهب في طريقه من الملك"5. وما قوة شعر "حسان" في الجاهلية، إلا بسبب قوة شبابه
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 335 وما بعدها".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 336".
3 طبقات "52".
4 الاستيعاب "1/ 338 وما بعدها"، أسد الغابة "2/ 5"، الشعر والشعراء "1/ 224"، بروكلمان "1/ 153".
5 خاص الخاص "80"، الموشح، للمرزباني "65".(18/296)
آنذاك، واندفاعه على الشراب وسماع القيان، فلما كبر وشاخ، وذهبت قوة شبابه، وامتنع من الشرب بسبب تحريم الإسلام له، لم تبق له قريحة الشباب، واندفاع ذلك الوقت، فضعف شعره لذلك، وللسن دخل في حيوية الإنسان وفي نتاجه العقلي، ومنه الشعر.
ونسب إلى "الحطيئة" قوله: "أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب حيث يقول:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
وقال عبد الملك بن مروان: أمدح بيت قالته العرب بيت حسان هذا"1. وكان حسان قد أدرك النابغة وأنشده، وأنشد الأعشى، وكلاهما قال له إنك شاعر2. وله حديث مع النابغة.
وُصِف بأنه كان صاحب لسان طويل، "وكان يضرب بلسانه روثة أنفه، من طوله، ويقول، ما يسرني به مقول أحد من العرب، والله لو وضعته على شعر لحلقه، أو على صخر لفلقه"3. وكانت له ناصية يسدلها بين عينيه4.
وكان أبو "ثابت بن المنذر" من سادة قومه وأشرافهم، وكان "المنذر" الحاكم بن الأوس والخزرج في يوم "سميحة"، وكانوا حكموا في دمائهم يومئذ "مالك بن العجلان بن سالم بن عوف"، فتعدى في مولى له قتل يومئذ، وقال: لا آخذ إلا دية الصريح، فأبوا أن يرضوا بحكمه، فحكموا "المنذر بن حرام". فحكم بأن أهدر دماء قومه الخزرج، واحتمل دماء الأوس5.
وكان حسان في أول أيامه يتنقل في الأرض طلبا للمال والعطايا والهبات، فكان يراجع ملوك الحيرة، ويعاود آل غسان وكان هواه مع الغساسنة أقوى منه مع آل لخم، حتى إنه كان يذكرهم بخير ويمدحهم وهو في الإسلام. وقد أكرموه كثيرا، وأنعموا عليه أكثر مما أنعم ملوك الحيرة عليه. والظاهر أن لبعد الشقة
__________
1 الاستيعاب "1/ 339".
2 الاستيعاب "1/ 342".
3 الشعر والشعراء "1/ 223"، الفائق "1/ 512".
4 الشعر والشعراء "1/ 223".
5 ابن سلام، طبقات "52".(18/297)
التي تفصل يثرب عن الحيرة، ولكثرة ما كان يفد من الشعراء على آل لخم، وفيهم من هو أشعر من حسان، وأكثر منه مكانة في الشعر بين العرب، دخل في انصرافه إلى مدح آل غسان وذهابه في الأكثر إليهم طلبا للمال في مقابل مدحه لهم.
ويروى عن "حسان" أن السعالى نصحته بمدارسة الشعر، فقد روي عنه أنه قال: "خرجت أريد عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما كنت في بعض الطريق وقفت على السعلاة صاحبة النابغة، وأخت المعلاة صاحبة "علقمة بن عبدة"، فقالت وإني مقترحة عليك بيتا، فإن أنت أجزته شفعت لك إلى أختي، وإن لم تجزه قتلتك. فقلت هات. فقالت:
إذا ما ترعرع فينا الغلام ... فما إن يقال هل من هوه
قالك فتبعتها من ساعتي، فقلت:
فن لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشييصبان ... فحينا أقول وحينا هوه
فقالت: أولى لك، نجوت، فاسمع مقالتي واحفظها عليك بمدارسة الشعر، فإنه أشرف الآداب وأكرمها وأنورها، به يسخو الرجل، وبه يتظرف، وبه يجالس الملوك، وبه يخدم، وبتركه يتصنع. ثم قالت: إنك إذا وردت على الملك وجدت عنده النابغة، وسأصرف عنك معرته، وعلقمة بن عبدة، وسأكلم المعلاة حتى ترد عنك سورته. قال حسان فقدمت على عمرو بن الحارث فاعتاض عليّ الوصول إليه فقلت للحاجب، بعد مدة: إن أذنت لي عليه، وإلا هجوت اليمن كلها. ثم انتقلت عنها. فأذن لي عليه، فلما وقفت بين يديه وجدت النابغة جالسا عن يمينه، وعلقمة جالسا عن يساره، فقال لي: يا ابن الفريعة، قد عرفت عيصك ونسبك في غسان، فارجع فإني باعث إليك بصلة سنية، ولا أحتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السبعين أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي، وأنت اليوم لا تحسن أن تقول:
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيّون بالريحان يوم السباسب
فقلت: لا بد منه. فقال: ذاك إلى عميك فقلت: أسألكما بحق الملك،(18/298)
الجواب: إلا ما قدمتناني عليكما؟ فقالا: قد فعلنا، هات، فأنشأت أقول والقلب وجل:
أسألت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجوابي فالبضيع فحومل
حتى أتيت على آخرها. فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن مجلسه سرورا حتى شاطر البيت، وهو يقول: هذه والله البتارة التي قد بترت المدائح، هذا وأبيك الشعر، لا ما تعلّلاني به منذ اليوم. يا غلام ألف دينار مرجوحة، فأعطيت ألف دينار، في كل دينار عشرة دنانير. ثم قال: لك علي مثلها في كل سنة. ثم أقبل النابغة فقال: قم يا زياد بني ذبيان فهات الثناء المسجوع، فقام النابغة فقال:
ألا انعم صباحا أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالدي فداؤك، والعرب وقاؤك، والعجم حماؤك، والحكماء وزراؤك، والعلماء جلساؤك، والمقاول سُمّارك، والعقل شعارك، والحلم دثارك، والصدق رداؤك، واليُمن حذاؤك، والبر فراشك، وأشرف الآباء آباؤك، وأطهر الأمهات أمهاتك، وأفخر الشبان أبناؤك، وأعف النساء حلائلك، وأعلى البنيات بنياتك، وأكرم الأجداد أجدادك، وأفضل الأخوال أخوالك، وأنزه الحدائق حدائقك، وأعذب المياه مياهك، وحالف الاضريح عاتقك، ولاءم المسك مسكك، وجاور العنبر تراتبك، العسجد قواريرك، واللجين صحائفك، والشهد إدامك، والخرطوم شرابك، والأبكار مستراحك، والعبير بنواسك، والخير بفنائك، والشر في ساحة أعدائك، والذهب عطاؤك، وألف دينار مرجوحة إيماؤك، وألف دينار مرهوجة إيتاؤك، والنصر منوط بلوائك، زين قولك فعلك، وطحطح عدوك غضبك، وهزم مقانبهم مشهدك. وسار في الناس عدلك، وسكَّن تباريح البلاد ظفرك. أيفاخرك ابن المنذر اللخمي؟ فوالله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولصمتك خير من كلامه. ولأمك خير من أبيه، ولخدمك خير من علية قومه. فهب لي أساري قومي، واسترهن بذلك شكري، فإنك من أشراف قحطان وأنا من سروات عدنان.
فرفع عمرو بن الحارث رأسه إلى جارية كانت على رأسه قائمة، فقال:(18/299)
مثل ابن الفريعة فليمدح الملوك، ومثل ابن زياد فليثن على الملوك"1. وهكذا دبج أهل الأخبار هذا الثناء في كتبهم، وكأن رواتهم قد سجلوه ساعة وقوعه على شريط مسجل.
وتعد قصيدة "حسان":
أسألت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجوابي فالبضيع فحومل
من جيد شعره، وأشهر قصائده، فهي لينة الألفاظ أسهل فهما من قصائد شعراء الصنف الأول، وفيها من المديح ما يليق بملوك أهل المدر، المتمتعين بأنواع الترف والرفاهية، ثم إن إطناب الشاعر في وصف الخمر يبعد عن أسلوب شعراء أهل البادية، كما يبعد عنه أيضا الافتخار بقومه المقصور في بلاغة خطابهم ووفدهم على أبواب الملوك. وقد أبدع فيها في وصف معيشة ملوك غسان، وفي حياتهم الحضرية التي كانوا يحيونها، كما افتخر فيها بعشيرته الخزرج2.
وخير شعر حسان هو ما قيل في مدح ملوك غسان. وكان هواه فيهم، وكانوا هم يغدقون عليه العطايا والأموال، ولا يؤخرونه من الدخول إلى مجالسهم، ويؤثرونه بالمودة، فخصص جيد شعره بهم. وقد مدح ملوك الحيرة أيضا، غير أن مدحه لهم، هو دون مدحه لمنافسيهم الغساسنة، الذين كان يكثر التردد عليهم، على حين لم يكن يقصد المناذرة إلا لحاجة شديدة ولطلب. ولعل ذلك بسبب بعد الحيرة عن يثرب، وكثرة ذهاب الشعراء إلى ملوك الحيرة، واستدراج هؤلاء الملوك للشعراء وإغداقهم عليهم، للاستفادة منهم في نشر الدعاية لهم بين الأعراب.
ومن جيد شعره في ملوك الغساسنة قوله:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون مَنْ ورد البريص عليهم ... بَرَدَى يصفق بالرحيل السلسل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
__________
1 الأغاني "15/ 123 وما بعدها"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 379 وما بعدها".
2 كارلو نالينو "87 وما بعدها".(18/300)
وابن مارية هو الحارث الأعرج بن أبي شمر الغساني، وكان أثيرا عندهم، ولذلك يقول:
قد أراني هناك حق مكين ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني1
وذلك أنه دخل يوما على "جبلة بن الأيهم" الغساني، فأذن له، فجلس بين يديه وعن يمينه رجل له ضفيرتان، وعن يساره رجل، وكان الأول هو النابغة، وكان الثاني، هو "علقمة بن عبدة" فاستنشهدهم جبلة، فأنشد النابغة قوله:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
قال حسان فذهب نصفي. ثم قال لعلقمة أنشد، فأنشد:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
قال حسان، فذهب نصفي الآخر. ثم قال "جبلة" لحسان، أنت أعلم الآن إن شئت سكت، وإن شئت أنشدت، فأنشد:
أبناء جفنة عند قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الجواد المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم ... كأسا تصفق بالرحيل السلسل
فأدناه منه، ثم أمر له بثلاثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد. وقال: هذا لك عندنا في كل عام. وذكر "أبو عمرو الشيباني" هذه القصة لحسان مع "عمرو بن الحارث" الأعرج2. ونجد الرواة يختلفون في مثل هذه القصص، بسبب ركونهم إلى رواة مختلفين، لم يدونوا الأخبار وإنما سمعوها سماعا، وأكثرها من المخترعات.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 224".
2 الخزانة "2/ 240 وما بعدها"، "بولاق".(18/301)
عرف بـ "فارع"1. وكان الرسول إذا خرج لغزوة أو معركة أودع أهله حصن حسان، لأنه كان حصنا حصينا. وتذكر "صفية بن عبد المطلب"، أن "حسان" كان في حصنه مع النساء والصبيان فمر يهودي به، وجعل يطيف حوله، فقالت "صفية" لحسان إن هذا اليهودي لا آمنه أن يدل على عوراتنا فانزل إليه فاقتله! فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، فنزلت صفية وأخذت عمودا وقتلت اليهودي. فقالت: يا حسان انزل فاسلبه! فقال ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب2. وقد دفع بعض العلماء الجبن عن حسان، بحجة أنه لو كان جبانا على نحو ما يقولون لما سكت عن تعييره به خصومه ممن كان يهاجيهم كضرار وابن الزبعرى، وعللوا عدم نزوله من حصنه لقتل اليهودي بحجة أنه كان معتلا في ذلك اليوم. وأنكر بعضهم أن يكون هذا الخبر صحيحا3. على كلٍ، صح هذا الخبر أم لم يصح فإنا لا نجد لحسان ذكرا في مغازي الرسول ولا في سراياه. بل نجد العلماء مجمعين على أنه "لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهدا، لأنه كان جبانا"4.
ولحسان شعر في رثاء "المطعم بن عدي" والد "جبير بن مطعم"، مات ولم يسلم. وكان "معطم" أجار النبي حين قدم الطائف لما دعا ثقيفا إلى الإسلام، وهو أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني المطلب. وكان فيما قاله في رثاء "المطعم":
فلو كان مجدا يخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبى مهل وأحرما5
ومن شعره:
أهوى حديث الندمان في فلق الصـ ... ـبح وصوت المغرد الغرد
__________
1 الإصابة "2/ 325"، "رقم 1704"، "فارع حصن بالمدينة، يقال إنه حصن حسان بن ثابت"، تاج العروس "5/ 449"، "فرع".
2 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704"، سيرة ابن هشام "2/ 193"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "2/ 193".
3 الروض الأنف "2/ 194".
4 الشعر والشعراء.
5 السيوطي، شرح شواهد "2/ 875".(18/302)
ذكر أن بعض أهل المدينة يقول: ما ذكرت ببيت حسان هذا إلا عدت في الفتوة1.
وذكر أن الناس كانوا يتمثلون بـ "فشركما لخيركما الفداء"، وهو عجز بيت لحسان. هو:
أتهجوه ولست له بندّ ... فشركما لخيركما الفداء2
وهو من قصيدة يقول بعض الرواة إن مطلعها:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء
هجا فيها "أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب". "قال مصعب الزبير: هذه القصيدة، قال حسان صدرها في الجاهلية وآخرها في الإسلام"3.
وينسب إلى "حسان" قوله:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا فصرتم معربين ذوي نفر
وهو بيت تليه أبيات أخرى في الفخر بيعرب، وبفضله على العرب، لأنه هو صاحب العربية، ومنه تعلم العرب عربيتهم. وقد دونت هذه الأبيات في كتاب: تأريخ ملوك العرب الأولية للأصمعي4. وقد دون هذا الكتاب أبياتا من قصيدته الشهيرة في مدح الغساسنة5. وأبياتا في مدح "جبلة بن الأيهم" الذي فر إلى بلاد الروم، وواصل مع ذلك بره لحسان6. وهو شعر أراه مصنوعا، ولا يتفق مع مذهب "حسان" في النظم.
وقد ذكر "حسان" قصر دومة، أي دومة الجندل في شعره، إذ قال:
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 225".
2 الشعر والشعراء "1/ 226"، "أتهجوه ولست له بكفء" الاستيعاب "1/ 336".
3 الاستيعاب "1/ 336".
4 "ص8".
5 "ص102".
6 "ص113".(18/303)
أما ترى رأسي تغير لونه ... شمطا فأصبح كالثغام المجول
فلقد يراني صاحباي كأنني ... في قصر دومة أو سواء الهيكل1
وورد أن الرسول لما "قدم المدينة، فهجته قريش، وهجوا الأنصار معه، فأتى المسلمون "كعب بن مالك" "؟ " فقالوا: أجب عنا، فقال: استأذنوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادعوه، فأتى حسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف أن تصيبني معهم تهجو من بني عمي"، فقال حسان: لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين، ولي مقول ما أحب أن لي به مقول أحد من العرب، وإنه ليفري ما لا تفريه الحربة. ثم أخرج لسانه فضرب به أنفه كأنه لسان حية بطرفه شامة سوداء، ثم ضرب به ذقنه، فأذن له رسول الله"2. وورد "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، تناولته قريش بالهجاء، فقال لعبد الله بن رواحة: "رد عني". فذهب في قديمهم وأولهم، ولم يصنع في الهجاء شيئا. فأمر كعب بن مالك" "ولم يصنع في الهجاء شيئا، فدعا حسان بن ثابت فقال: "اهجهم، وائتِ أبا بكر يخبرك بمعايب القوم". فأخرج حسان لسانه حتى ضرب به صدره، وقال: والله يا رسول الله، ما أحب أن لي به مقولا في العرب، فصب على قريش منه شآبيب شر. فقال رسول الله: "اهجهم، كأنك تنضحهم بالنبل" 3.
وروي أن الرسول لما هجاه "عبد الله بن الزبعرى"، و"أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و "عمرو بن العاص"، و "ضرار بن الخطاب" قال: "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ " فقال حسان: أنا لها وأخذ بطرف لسانه، وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ " فقال: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له: "ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك". فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم. وكان
__________
1 الإصابة "1/ 132"، "رقم 549".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 334"، "كعب بن مالك" "هكذا"، بينما الحال يستدعي ذكر "حسان بن ثابت".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 354 وما بعدها".(18/304)
يقول: كف عن فلانة وفلانة واذكر فلانة وفلانة، فجعل حسان يهجوهم. فلما سمعت قريش شعر حسان، قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، أو متى شعر ابن أبي قحافة.
فمن شعر حسان في أبي سفيان بن الحارث:
وإن سنام المجد في آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام ولم يقرب عجائزك المجد
ولست كعباس ولا كابن أمه ... ولكن لئيم لا يقوم له زند
وإن امرأ كانت سمية أمه ... وسمراء مغمور إذا بلغ الجهد
وأنت هجين نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان، قال: هذا كلام لم يغب عنه ابن أبي قحافة"1.
وذكر أن الرسول جعله شاعره الناطق باسمه إذا جاءته الوفود، وتبارى الشعراء أمامه، قام هو للرد عليهم، فحين قدم وفد "بني تميم" بخطيبهم وشاعرهم، ونادوه من الحجرات أن خرج إلينا يا محمد، خطب خطيبهم مفتخرا، ثم قام شاعرهم وهو "الزبرقان بن بدر" فقال:
نحن الملوك فلا حي يقاربنا
...
فينا العلاء وفينا تنصب البيع
قال رسول الله لحسان: قم، فقام وقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
...
قد بينوا سنة للناس تتبع
إلى آخر الأبيات. "فقال التميميون عند ذلكم: وربكم إن خطيب القوم أخطب من خطيبنا، وإن شاعركم أشعر من شاعرنا"، ويعد شعره هذا من جيد شعره2.
وقد روي أن النبي كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائما يهجو
__________
1 الاستيعاب "1/ 334 وما بعدها".
2 الاستيعاب "1/ 341".(18/305)
الذين كانوا يهجون النبي1. وقد شك "كيتاني" وكذلك "بروكلمان" في صحة هذا الخبر. ولكن الروايات تؤكد أن الرسول كان يستدعيه أحيانا للرد على شعراء الوفود، وأنه كان يجلس في المسجد ينشد الشعر، والرسول يسمعه. وأن "عمر" مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك، فما يغير عليّ ذلك، فقال عمر: صدقت2. أو أن "عمر" مر على "حسان" وهو ينشد الشعر في المسجد، فقال أفي مسجد رسول الله تنشد الشعر؟ فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك. أو ما أشبه ذلك3. وروي أن "عمر"، نهى أن ينشد الناس شيئا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي والميت وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام4.
وذكر أن أول شعر قاله "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو قوله:
فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أهل خيبر5
ولما أسرت "هذيل" بعض المسلمين وباعتهم من قريش، هجاهم "حسان" هجاء مرا، وصفهم فيه باللؤم، واللؤم عند العرب من أقبح المعيبات، إذ قال فيهم:
لو خلق اللؤم إنسانا يكلمهم ... لكان خير هذيل حين يأتيها
ترى من اللؤم رقما بين أعينهم ... كما لوى أذرع العانات كاويها
تبكي القبور إذا ما مات سيدهم ... حتى يصيح بمن في الأرض داعيها
مثل القنافد تخزي أن تفاجئها ... شد النهار ويلقي الليل ساريها6
__________
1 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704"، السيوطي، شرح شواهد المغني "114".
2 العمدة "1/ 28".
3 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704".
4 الاستيعاب "1/ 338".
5 تاج العروس "5/ 278".
6 ديوان حسان "67"، "لندن 1910".(18/306)
وهي أبيات شديدة الهجاء، موجعة، تفنن فيها الشاعر وأبدع في وصف من هجاهم باللؤم وبالأمور المخزية الأخرى.
ويشك بعض المستشرقين في صحة الشعر المنسوب إلى "حسان" الوارد في التفجع على مقتل "عثمان" وفي الحث على الأخذ بثأره. وذلك أن هذا الشعر شعر ملتهب فيه قوة وحيوية ونفس شباب، فيبعد أن يكون من شعر شيخ قد تقدمت به السن1.
وروي "عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج وقد فرش حسان فناء أطمه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سماطين وبينهم جارية لحسان يقال لها "شرين" ومعها مزهر تغنيهم، وهي تقول في غنائها:
هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "لا حرج" 2.
و"شرين" لفظة فاسية بمعني "حلو" و "جميلة"، فيكون اسم الجارية من الأسماء الفارسية، معناه في العربية "حلوة" و "جميلة". ولا يستبعد أن تكون من أصل فارسي، وإن نص أهل الأخبار على أنها قبطية.
و"شرين"، هي "سيرين" جارية أعطاها رسول الله لحسان لذبه بلسانه عنه في هجاء المشركين، وقيل لضربة "صفوان بن المعطل" به بالسيف. وهي أخت "مارية" القبطية. وذكر أن الرسول أعطى حسان الموضع الذي بالمدينة، وهو قصر بني "جديلة"3.
وقد اختلف الناس في وفاة "حسان" الذي كان قد عمي لما تقدمت به السن. فقيل: توفي قبل الأربعين، وقيل سنة أربعين، وقيل خمسين، وقيل أربع وخمسين من سني الهجرة، والجمهور على أنه عاش مائة وعشرين سنة، ولكن منهم من ذهب إلى أنه عاش دون المائة أو ما بين المائة والمائة والعشرين.
__________
1 بروكلمان "1/ 153" TH.NOLDECKE, DIE GHASSAN., S. 41
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 334 وما بعدها".
3 الاستيعاب "1/ 340".(18/307)
وقد قال "ابن سعد" إنه عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين، ومات وهو ابن عشرين ومائة1. وذكر أنه مات في أيام معاوية2.
وقد كان حسان ممن مشى بين الناس بحديث الإفك، وهو ممن نزلت بحقه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3، لأنه مشى بالإفك مع من مشى به. وهم "عبد الله بن أبي" رأس المنافقين بالمدينة، ومسطح، وحمنة بنت جحش. وقال بعضهم إن الذي تولى كبره منهم "حسان بن ثابت". قيل لعائشة، وقد دخل عليها "حسان بن ثابت: "أليس الله يقول: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم. أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف! "4. وروي أنه جلد مع "مسطح" بسبب الإفك5.
واعتذر "حسان" من قوله في الإفك بقوله:
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
ثم يقول:
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكن قول امرئ بي ماحل6
وقد أسرف "حسان" في إفكه بحديث الإفك، حتى آلم النبي، ويظهر أنه لم يكن من أولئك الأشخاص الذين كانوا يتحرجون من الهجوم على أقرب الناس إليهم، في حالة تسرعه وتأثره، فهو شاعر، ومن عادة الشعراء عدم الاستقرار. وكان عليه أن يدافع عن "عائشة"، باعتباره شاعر نبيه، لا أن يساهم مع
__________
1 الإصابة "1/ 325"، "1704"، الاستيعاب "1/ 342".
2 الشعر والشعراء "1/ 223"، "الثقافة".
3 سورة "النور"، "الرقم 24"، الآية "11".
4 تفسير الطبري "18/ 68 وما بعدها"، تفسير الآلوسي. "18/ 100"، تفسير ابن كثير "3/ 235".
5 رسالة الغفران "235".
6 العمدة "1/ 24 وما بعدها".(18/308)
من استغل الحادث لإيلام الرسول من المنافقين والذين لم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم، وأن يمعن في الإفك وفي إيلام الرسول، وقد اعتذر بعد ذلك كما رأينا بعذر بارد، حاول أن يتنصل فيه مما قاله في الإفك، مع أنه كان صنوا لعبد الله بن أبي في ذلك الحديث.
ولما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، قال حسان قصيدته:
بطيبة رسم للرسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد1
وقال قصيدة أخرى مطلعها:
ما بال عينك لا تنام كأنها ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعت على المهدي أصبح ثاويا ... يا خير من وطأ الحصى لا تبعد
وقال قصائد أخرى في رثائه2.
وكان حسان من المتعصبين ليثرب على مكة، ونجد في شعره عصبية لليمن، وتفاخر شديدا بالأزد، والأزد من اليمن، وبنو غسان من الأزد. وهي عصبية قديمة، تعود إلى ما قبل الإسلام. يظهر أن سببها اختلاف ما بين المديتنين في الطباع وفي الطبيعة والأحوال الاقتصادية والزعامة، وقد فرح ولا شك حين كلفه الرسول بالرد على شعراء قريش، وهو حاقد عليهم منذ أيام الجاهلية. وقد بقيت هذه العصبية كامنة في نفسه حتى في الإسلام، وكاد أن يؤجج نارها مرارا بين الأنصار والمهاجرين، وقد نهاه عمر عن التعرض لأمور الجاهلية وأيامها ومن إنشاد ما كان قد قيل من شعر الجاهلية بين أهل يثرب وقريش، حذر الفتنة، وعودة العصبية الجاهلية الأولى. وكان "عمر" قد نهى أن ينشد الناس جميعا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي والميت وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام3. ويظهر أنه لم يكن مثاليا بدليل هذه النزوات التي صدرت منه وهو في الإسلام وكادت تثير فتن الجاهلية.
__________
1 ابن هشام، سيرة "2/ 378"، "حاشية على الروض".
2 سيرة ابن هشام "2/ 379 وما بعدها".
3 الاستيعاب "1/ 337 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".(18/309)
وكان حسان يهجي "أمية بن خلف" الخزاعي. وكان خلف قد هجا حسان بقوله:
أليس أبوك فينا كان قينا ... لدى القينات فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشد كيرا ... وينفخ دائبا لهب الشواظ1
وكان قد قال:
ألا من مبلغ حسان عني ... مغلغلة تدب إلى عكاظ
فأجابه حسان:
أتأني عن أمية زور قول ... وما هو في المغيب بذي حافظ
سأنشر إن بقيت لكم كلاما ... ينشر في المجنة مع عكاظ
قوافي كالسلاح إذا استمرت ... من الصم المعجرفة الغلاظ
تزورك إن شتوت بكل أرض ... وترضخ في محل بالمقاظ
بنيت عليك أبياتا صلابا ... كأمر الوسق قعض بالشظاظ
مجللة تعممه شنارا ... مضرمة تأجج كالشواظ
كهمزة ضيغم يحمي عرينا ... شديد مغارز الأضلاع خاظي
تغض الطرف أن ألقاك دوني ... وترمي حين أدبر باللحاظ2
وقد هاجى "حسان بن ثابت" النجاشي، واسمه "قيس بن عمرو" من رهط "الحارث بن كعب"، وكان قد هجا الأنصار فرد عليه "حسان بن ثابت"، ثم أمر بأن يكتب رده غلمان الكتاب، ليوزع على الناس. وقد كان النجاشي قد هاجي "عبد الرحمن بن حسان"، واشتد هجاؤه عليه فأعانه والده عليه3. وكان مما قاله حسان في "الحارث بن كعب" رهط النجاشي قوله:
لا بأس بالقوم من طول ومن عرض ... جسم البغال وأحلام العصافير4
__________
1 اللسان "7/ 446"، "شوظ"، تاج العروس "5/ 253"، "تشاوظ".
2 تاج العروس"5/ 254"، "عكظ".
3 الخزانة "2/ 105 وما بعدها"، "بولاق".
4 ديوان حسان "214"، رسائل الجاحظ "2/ 343"، "كتاب البغال".(18/310)
ويلاحظ أن أهل الأخبار نسبوا إلى ابنه "عبد الرحمن"، وإلى حفيده "سعيد بن عبد الرحمن" مثل هذا الذي نسبوه إلى "حسان". إذ ذكروا أن "عبد الرحمن" أوقد نارا حتى اجتمع إليه الحي، ثم قال: قد قلت بيتا، فخفت أن يسقط بحدث يحدث عليَّ فجمعتكم لتسمعوه، وأن ابنه "سعيد" فعل فعله1. ويلاحظ أن الأبيات التي ذكروها هي على وزن واحد وعلى قافية واحدة. وقد تكون من وضع الرواة.
وأم "عبد الرحمن بن حسان"، أخت مارية القبطية أم إبراهيم ابن الرسول. وكانت تسمي "سيرين" "شيرين" "شرين". وكان عبد الرحمن شاعرا كذلك. ذكر أن والده أشار إليه بقوله:
فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت2
ونسب إلى حسان أو ابنه عبد الرحمن قوله: قلت شعرا لم أقل مثله، وهو:
وإن امرأ أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد3
وكانت لحسان بنت شاعرة، أرق حسان ذات ليلة فعن له الشعر فقال:
متاريك أذناب الأمور إذا اعترت ... أخذنا الفروع واجتثثنا أصولها
ثم أجبل فلم يجد شيئا، فقالت له بنته: كأنك قد أجبلت يا أبه؟! قال: أجل، قالت، فهل لك أن أجيز عنك؟ قال: وهل عندك ذلك! قالت: نعم، قال، فافعلي، قالت:
مقاويل بالمعروف خُرس عن الخنا ... كرام يعاطون العشيرة سولها
فحمي حسان فقال:
وقافية مثل السنان رزئتها ... تناولت من جو السماء نزولها
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 336".
2 الإصابة "3/ 67 وما بعدها"، رقم "5206".
3 الشعر والشعراء "1/ 226".(18/311)
فقالت:
يراها الذي لا ينطق الشعر عنده ... ويعجز عن أمثالها أن يقولها
فقال حسان: لا أقول بيت شعر وأنت حية، قالت: أوأومنك؟ قال: وتفعلين؟ قالت نعم، لا أقول بيت شعر ما دمت حيا1.
ولحسان ديوان شعر مطبوع. طبع جملة مرات. وقد شرح أيضا، وطبعت الشروح كذلك2.
وكعب بن مالك من شعراء يثرب كذلك. ويكنى أبا عبد الله وقيل أبا عبد الرحمن، وهو ممن شهد العقبة، وكان أحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يردون الأذى عنه، وكان مجودا مطبوعا قد غلب عليه في الجاهلية أمر الشعر. وذكر أنه كان أحد الثلاثة الأنصار الذين قال الله فيهم: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ} 3 وهم كعب بن مالك الشاعر هذا، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة تخلفوا عن غزوة "تبوك" فتاب الله عليهم وعذرهم، وكانوا كلهم من الأنصار4.
وكعب بن مالك من أسرة أظهرت جملة شعراء، فمالك والد كعب كان شاعرا، وعمه قيس كان شاعرا كذلك. وكان أولاد كعب وأحفاده شعراء "مجيدون مقدمون في الشعر"5.
وقد ذكر "ابن سيرين" أن كعبا قال بيتين كانا سبب إسلام دوس وهما:
قضينا من تهامة كل وتر ... وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
تخبرنا ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 226".
2 للوقوف على مواضع طبع الديوان والشروح راجع بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 153 وما بعدها".
3 "التوبة"، الآية "118".
4 تفسير الطبري "11/ 41"، الإصابة "3/ 285 وما بعدها"، "رقم 7435"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 337"، الخزانة "1/ 200"، "بولاق"، البيان والتبيين "3/ 26".
5 الأغاني "15/ 37".(18/312)
فلما بلغ دوسا، قالوا: خذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف1.
وقال "ابن سيرين" أيضا: "كان شعراء المسلمين: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. فكان كعب يخوفهم الحرب، وعبد الله يعيرهم بالكفر، وكان حسان يقبل على الأنساب"، وأما شعراء المشركين: فعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث، وضرار بن الخطاب2.
ولكعب شعر في يوم أحد، فيه:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية ... ثلاث مئين إن كثرنا أو أربع
فراحوا سراعا مرجعين كأنهم ... جهام هراقت ماءه الريح مقلع
ورحنا وأخرانا بطاء كأننا ... أسود على لحم ببيشة ظلع
وله شعر في أيام الخندق، وفي يوم بدر وفي المعارك الأخرى3.
ومن شعر كعب بن مالك قوله:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... فليغلبن مغالب الغالب
وفي رواية:
جاءت سخينة كي تغلب ربها ... فليغلبن مغالب الغلاب4
كانت العرب تعير قريشا بها، لأنهم كانوا يكثرون من أكلها، ولذا كانت تعير بها. والسخينة حساء يؤكل في الجدب. مازح "معاوية" الأحنف بن قيس فقال: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: هو السخينة يا أمير المؤمنين. والملفف في البجاد وطب اللبن يلف به ليحمى ويدرك، وكانت تميم تعير به.
__________
1 الإصابة "3/ 286"، "رقم 7434".
2 الاستيعاب "3/ 272 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 ابن سلام، طبقات "53 وما بعدها"، الخزانة "1/ 200 وما بعدها"، "بولاق".
4 الاستيعاب "3/ 274".(18/313)
فلما مازحه معاوية بما يعاب به قومه، مازحه الأحنف بمثله1. وروي أن رسول الله قال لكعب: أترى الله نسي قولك:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبنّ مغالب الغلاب2
وجاء في رواية يضعفها العلماء، أن "حسان بن ثابت" وكعب بن مالك، والنعمان بن بشير، دخلوا على "علي" فناظروه في شأن "عثمان" وأنشده كعب شعرا في رثاء عثمان، ثم خرجوا من عنده، فتوجهوا إلى معاوية فأكرمهم. وروي أنه كان ممن رثى عثمان، ولم يرد في الأخبار أنه ساهم في حرب علي ومعاوية3. وذكر أنه فقد بصره في آخر عمره. وتوفي في زمن معاوية سنة خمسين، وقيل ثلاث وخمسين4.
و"عبد الله بن رواحة" من الخزرج، وهو أبو محمد، ويقال "أبو رواحة"، ويقال "أبو عمرو"، وكان من شعراء يثرب المعروفين: وهو أحد النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا، وكان ممن يكتب للنبي، وكان ممن يكتب في الجاهلية، وهو الذي جاء ببشارة وقعة بدر إلى المدينة، وبعثه رسول الله في ثلاثين راكبا إلى "أسير بن رقرام" "يسير بن رزام" اليهودي بخيبر فقتله. وقد استشهد بمؤتة سنة سبع5. وليس له عقب. وهو خال "النعمان بن بشير" الأنصاري. وكان عظيم القدر في قومه، سيدا في الجاهلية، وليس في طبقته أسود منه. وكان في حروبهم في الجاهلية يناقض قيس بن الخطيم6.
وهو يختلف عن حسان في كونه محاربا، اشترك مع الرسول في معاركه، ومات قتيلا محاربا7.
__________
1 تاج العروس "9/ 232"، "سخن".
2 ابن سلام، طبقات "54".
3 الإصابة "3/ 286"، "رقم 7434"، الأغاني "15/ 28 وما بعدها".
4 الاستيعاب "3/ 272"، "حاشية على الإصابة".
5 الإصابة "2/ 298 وما بعدها"، "رقم 4676"، شرح شواهد، للسيوطي "1/ 288"، أعلام النبلاء "1/ 166"، ابن حبيب، كنى الشعراء "289"، "أسير بن زارم"، المحبر "119".
6 ابن سلام، طبقات "54"، الخزانة "2/ 304 وما بعدها"، "هارون".
7 المخبر "119، 121، 123، 269، 271، 279، 287، 421".(18/314)
وأكثر ما روي من شعره، هو من الشعر الذي قاله في الإسلام. ولا سيما في معركة "مؤتة". وروي أن الرسول قال له يوما: قل شعرا تقتضيه الساعة وأنا أنظر إليك. فانبعث مكانه يقول:
إني تفرست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبي ومن يحرم شفاعته ... يوم الحساب لقد أزرى به القدر
فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
وفي رواية ابن هشام:
إني تفرست فيك الخير نافلة ... فراسة خالفت فيك الذي نظروا
أنت النبي ومن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر1
وروي أن الرسول دعاه، فقال له: كيف تقول الشعر إذا قلت؟ قال أنظر في ذلك ثم أقول. قال: فعليك بالمشركين. فأنشده:
فخيروني أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر
فظهرت الكراهة في وجه الرسول، أن جعل قومه أثمان العباء، فقال:
نجالد الناس من عرض فنأسرهم ... فينا النبي وفينا تنزل السور
وقد علمتم بأنا ليس يغلبنا ... حي من الناس إن عزوا وإن كثروا
يا هاشم الخير إن الله فضلكم ... على البرية فضلا ما له غير
إني تفرست فيك الخير أعرفه ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا
ولو سألت أو استنصرت بعضهم ... في جل أمرك ما آووا ولا نصروا
فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
فتبسم الرسول وسر به2.
وروى "هشام بن عروة" عن أبيه. قال: ما سمعت بأحد أجرأ ولا أسرع شعرا من عبد الله بن رواحة، يوم يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
1 الاستيعاب "2/ 287"، "حاشية على الإصابة".
2 ابن سلام، طبقات "55".(18/315)
"قل شعرا تقتضيه الساعة وأنا أنظر إليك"، ثم أبدّه بصره، فانبعث عبد الله بن رواحة يقول:
إني تفرست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم ما إن خانني بصر1
وروي أن الرسول قال: لعبد الله بن رواحة: "ما الشعر"؟ قال: شيء يختلج في صدر الرجل، فيخرجه على لسانه شعرا2. وقد ذكر "ابن سلام" البيت المذكور وما بعده في قصيدة مطلعها:
فخبروني أثمان العباء متى ... كنتم بطارق أو دانت لكم مضر
ذكره في ضمن القصيدة، ولم يجعله مطلعها3.
ولما دخل رسول الله مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة بن يديه وهو يقول:
خلو بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام من مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
قال عمر: يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر؟ فقال النبي: "خل عنه يا عمر، فوالذي نفسه بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل" 4. وقد كانت عمرة القضاء سنة ست من الهجرة5.
وقد روى هذه الرجز بزيادة واختلاف6. وقد ذكر "ابن هشام "، بعد إيراده هذه الأبيات هذه الملاحظة: "نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الأبيات: لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم، والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقروا بالتنزيل، وإنما يقتل على التأويل من أقر بالتنزيل"7.
__________
1 شرح شواهد، للسيوطي" 1/ 293".
2 المصدر نفسه "1/ 289".
3 ابن سلام، طبقات "55".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 290".
5 ابن هشام سيرة "2/ 254"، "حاشية على الروض".
6 ابن هشام سيرة "2/ 255"، "حاشية على الروض"، ابن سيد الناس "2/ 149"، أعلام النبلاء "1/ 169"، ابن سعد، طبقات "3 القسم الثاني 80". الروض الأنف "2/ 255".
7 ابن هشام، سيرة "2/ 255".(18/316)
وكان "النعمان بن العجلان" الزرقي لسان الأنصار وشاعرهم، وكان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العين، وكان سيدا، له شعر يفخر بقومه على قريش من جملته:
فقل لقريش نحن أصحاب مكة ... ويوم حنين والفوارس في بدر
نصرنا وآوينا النبي ولم نخف ... صروف الليالي والعظيم من الأمر
وقلنا لقوم هاجروا مرحبا بكم
... وأهلا وسهلا قد أمنتم من الفقر
نقاسمكم أمولنا وديارنا ... كقسمة أيسار الجزور على الشطر
ثم تعرض لموضوع الخلافة، وقصة انتخاب "سعد" لها، وتعيين قريش أبا بكر خليفة، ثم تعرض لحق علي فيها1.
وكان "علي بن أبي طالب" استعمل "النعمان" هذا على البحرين، فجعل يعطي كل من جاء من "بني زريق"، فقال فيه "أبو الأسود" الدؤلي:
أرى فتنة قد ألهت الناس عنكم ... فندلا زريق المال ندل الثعالب
فإن ابن عجلان الذي قد علمتم ... يبدد مال الله فعل المناهب2
__________
1 الاستيعاب "3/ 521"، "حاشية على الإصابة".
2 الإصابة "3/ 532"، "رقم 8748".(18/317)
الفصل الرابع والستون بعد المائة: شعراء ثقيف
وثقيف من القبائل التي لم تنجب عددا يذكر من الشعراء. وشاعرهم الوحيد الذي نال شهرة، وظهر أمره هو "أمية بن أبي الصلت" الثقفي. وقد علل "ابن سلام" قلة الشعر بالطائف بقوله: "وبالطائف شعراء، وليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف"1.
وقد عرفت ثقيف بفصاحة لسانها، وبمقدرتها في الكتابة، ولهذا ورد ذكرها في حادث تدوين القرآن.
ومن شعراء ثقيف "أبو الصلت بن أبي ربيعة"، وهو والد "أمية بن أبي الصلت"، وغيلان بن سلمة، وكنانة بن عبد يا ليل2، وأبو محجن الثقفي. وكانت زوجة "أبي الصلت": "رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف"، فهي من قريش. وهي والدة "أمية"3.
ونسبت إلى "أبي الصلت" قصيدة زعم أنه مدح فيها أهل فارس حين
__________
1 ابن سلام، طبقات "65 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "66".
3 الشعر والشعراء "1/ 396".(18/318)
قتلوا الحبشة، ومدح "سيف بن ذي يزن"، وهنأه فيها لتوليه الملك1، وقد أشار فيه إلى قصة "سيف"، وكيف ذهب إلى "هرقل" يستنجده على الحبشة، فلم يجد عنده ما طلب، ثم كيف ذهب إلى "كسرى"، وبقي عند بابه تسع سنوات حتى أمده بالجنود وعلي رأسهم باذان ووهرز، إلى أخر القصة التي ترد في كتب الأخبار والتواريخ. وقد نسبها بعض الرواة إلى ابنه "أمية".
وأمية بن أبي الصلت من الشعراء الذين رغبوا عن عبادة الأوثان وآمنوا بالله والبعث، ووقف على كتب أهل الكتاب فتأثر بها، وكان يجالسهم ويختلط بهم. وكان أبوه شاعرا، وروى رواة الشعر شيئا من شعره، وكان ابنه "القاسم بن أمية بن أبي الصلت" شاعرا كذلك وله صحبة. وذكر أن العرب اتفقت على أن "أمية" كان أشعر ثقيف2.
ذكر أنه كان في الجاهلية نظر الكتب وقرأها ولبس المسوح وتعبد أولا بذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر وتجنب الأوثان. ولما ظهر الإسلام حسد النبي، فلم يسلم، لأنه كان طمع في النبوة، أو أنه أراد أن يسلم، فلما سمع بقتلى بدر، توقف ورثى قتلى المشركين، وذهب إلى الطائف فمات بها. وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل إنه توفي سنة تسع من الهجرة، وقيل قبل ذلك. وورد في رواية أنه مات في الجاهلية ولم يدركه الإسلام. وقد صدقه النبي في بعض شعره، وقال: قد كاد أمية أن يسلم3. وقد كان يكنى بـ "أبي عثمان" وبـ "أبي القاسم"4.
وورد في بعض الروايات أن في حقه نزلت الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} 5. ويرجع سند القائلين بذلك إلى "عبد الله بن عمرو" وإلى "ابن الكلبي"6.
__________
1 ابن سلام، طبقات "66"، ابن قتيبة، الشعر "1/ 371".
2 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552"، الأغاني "3/ 179 وما بعدها"، "16/ 69"، خزانة "1/ 118"، بروكلمان "1/ 13 وما بعدها".
3 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552"، الخزانة "1/ 119 وما بعدها"، الجمان في تشبيهات القرآن "84، 384".
4 كنى الشعراء ومن غلبت كنيته عليه "289"، "نوادر الخطوط".
5 سورة "الأعراف"، الآية "175".
6 تفسير الطبري "9/ 82"، تفسير الآلوسي "9/ 98".(18/319)
وروي أن النبي سأل "الرشيد بن سويد" أن ينشده من شعر أمية، فأنشده إياه، فقال: "كاد ليسلم". وأن النبي أنشد قول أمية:
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال: "صدق، وهذه صفة حملة العرش". وذكر أن معظم شعر أمية كان في الآخرة، كما كان معظم شعر عنترة بذكر الحرب1.
وقد دون "ابن هشام" قصيدة "أمية" التي نظمها يرثي من أصيب من قريش يوم بدر، ومطلعها:
ماذا ببدر بالعقنـ ... ـقل من مرازبة جحاجح
ألا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولي المدائح
كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح2
وذكر أن النبي نهى عن روايتها لما ورد فيها من رثاء قتلى بدر3، ولكني أشك في صحة صدور هذا النهي من الرسول، إذ لو كان الرسول قد نهى عن إنشادها، فكيف دونها "ابن هشام" وغيره، ولا تزال مدونة، وقد قال "ابن هشام" إنه دون القصيدة إلا بيتين نال فيهما من أصحاب الرسول4.
ودون "ابن هشام" قصيدة أخرى لأمية قالها يرثي ويبكي "زمعة بن الأسود" وقتلى "بني أسد"5 من أبياتها:
عين بكى بالمسبلات أبا العا ... ص ولا تذكري على زمعه
لبني مسلم لهم خرت الجو ... زاء لا خاتة ولا خدعه
وهم الهامة الوسيطة من كعـ ... ـب ومن هم كذروة القمعه
__________
1 الخزانة "1/ 120 وما بعدها".
2 ابن هشام، سيرة "2/ 114"، "حاشية على الروض الأنف"، البيان والتبيين "1/ 291".
3 الحيوان، للجاحظ "1/ 291" "عبد السلام محمد هارون"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 113".
4 ابن هشام، سيرة "2/ 114".
5 ابن هشام، سيرة "2/ 114"، "حاشية على الروض الأنف".(18/320)
أنبتوامن معاشر شعر الرأ ... س وقد بلغوهم المنعه
وهم المطعمون إن قحط القطـ ... ـر وأصحت فلا ترى قزعه
أمسى بنو عمهم إذا جلس النا ... دي عليهم أكبادهم وجعه1
ومن شعره الذي قاله في التحريض على رسول الله قوله:
لله در بني علي ... أيِّم منهم وناكح
إن لم يغيرواغارة ... شعواء تحجر كل نابح
بزهاء ألف أو بألـ ... ـف بين ذي بدن ورامح
وروي أنه كان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب3. وكان يسمي السماء في شعره: "صاقورة" و "حاقورة"، و "برقع". ويقول في الله عز وجل:
هو السليط فوق الأرض مقتدر
ويقول: وأبديت الثغرورا، ويريد الثغر4.
وفي شعر "أمية" إشارة إلى قصة أصحاب الفيل، إذ قال:
إن آيات ربنا بينات ... لا يماري بهن إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يمشي كأنه معقور5
كل دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفة زور6
ونسبت إلى "أمية" قصيدة طويلة عدتها تسعة وسبعون بيتا، ذكر فيها شيئا من قصص الأنبياء: داود، وسليمان، ونوح، وموسى، وذكر قصة إبراهيم
__________
1 نسب قريش "206".
2 نسب قريش "10 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "1/ 369"، "دار الثقافة".
4 الشعر والشعراء "1/ 371".
5 الجمان في تشبيهات القرآن، لابن ناقياالبغدادي. "384".
6 رسالة الغفران "542".(18/321)
وإسحاق، وزعم أنه هو الذبيح، وقد وردت في ديوانه الذي جمعه "محمد بن حبيب"، وفي أبياتها بيت هو:
ربما تكره النفوس من الأمـ ... ـر له فرجة كحل العقال1
وقد وجد هذا البيت في قصيدة رواها "الأصمعي" لأبي قيس اليهودي، وقيل هي لابن صرمة الأنصاري مطلعها:
سبحوا للمليك كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال
ووجد أيضافي أبيات لحنيف بن عمير اليشكري، قالها لما قتل محكم بن الطفيل يوم اليمامة في أبيات هي:
يا سعاد الفؤاد بنت أثال ... طال ليلي بفتنة الرحال
إنها يا سعاد من حدث الدهر ... عليكم كفتنة الدجال
إن دين الرسول ديني وفي القو ... م رجال على الهدى أمثالي
أهلك القوم محكم بن طفيل ... ورجال ليسوا لنا برجال
ربما يجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال2
وقد تحدث "أمية" في قصيدته اللامية عن الخلق وعن كيفية تكون الأرض وظهور الأنهار والعيون، ثم عن الموت والبعث والنشر، وهي قصيدة أرى أنها منحولة، وهي لا يمكن أن تكون من شعر تلك الأيام، وقد نحلت على لسان "أمية" وأظن أن ذلك في أيام الحجاج، الذي كان يتعصب له لكونه شاعر ثقيف، وهو منها3.
ومما نسب إلى أمية هذا الشعر:
والأرض معقلنا وكانت أمنا ... فيها مقامتنا وفيها نولد
__________
1 ربما تكره النفوس من الشر له فرجة كحل العقال.
2 الخزانة "2/ 543 وما بعدها"، "بولاق".
ربما تكره النفوس من الأمـ ... ـر له فرجة كحل العقال
أمالي المرتضى "1/ 486".
3 راجع ديوان أمية طبعة "شولتس" SHULTHES""، وطبعة بشير يموت.(18/322)
وبها تلاميذ على قذفاتها ... حبسوا قياما فالفرائص ترعد
وهذا الشعر:
صاغ السماء فلم يخفض مواضعها ... لم ينتقص علمه جهل ولا هرم
لا كشفت مرة عنا ولا بليت ... فيها تلاميذ في أقفائهم دغم
وهذا البيت، الذي هو من الشعر الأول:
فمضى وأصعد واستبد إقامة ... بأولى قوى فمبتل ومتلمد1
وروى أهل الأخبار قصصا عنه، وهو من نوع القصص الذي يروى وقوعه للأنبياء، مثل تكليم الجن له، ووقوع طير على صدره، وشقه له، لتنظيف قلبه، في قصة أخذت من خبر غسل قلب الرسول ولا شك. ثم حكاية شعوره بدنو أجله، ووفاته2. وقد حاول وضاع هذا القصص تبجيل "أمية" وإعطائه قدسية خاصة وإظهاره بمظهر الصالحين حتى كاد الوحي ينزل عليه لولا ظهور الرسول. وقد حاول بعض أهل الأخبار تخفيف أثر ما روي عن معارضة "أمية" للإسلام، ومنهم من أماته قبل الإسلام، وبذلك خلصه من تهمة اشتراكه مع المشركين في محاربة الإسلام. وهي روايات يظهر أنها ظهرت في أيام الحجاج، وبتأثير منه.
وأكثر ما نسب إليه من شعره محمول عليه، ونجد في كتاب "البدء والتأريخ" لمطهر بن طاهر المقدسي شعرا فيه عبارات وألفاظ قرآنية، لا شك في أنها مصنوعة، وقد حملت عليه. وقد ذهب "كليمان هوار" إلى أن شعره كان من مصادر القرآن، ومعنى هذا أنه شعر صحيح قاله "أمية" قبل الإسلام، فتعلمه الرسول منه، ونزل به الوحي. وقد عارضه "بروكلمان" وآخرون من طائفة المستشرقين، وهم يرون أن هذاالشعر قد صنع ونسب إليه في عهد مبكر، ربما كان في القرن
__________
1 رسالة التلميذ، لعبد القادر بن عمر البغدادي "222 وما بعدها"، من "نوادر المخطوطات"، "تحقيق عبد السلام هارون"، "المجموعة الثانية، القاهرة 1951م".
2 الإصابة "1/ 135".(18/323)
الأول للهجرة، وقد أدخل فيه قصص أخذ من القرآن1.
وتعد قصيدة "أمية" التي مطلعها:
عرفت الدار قد أقوت سنينا ... لزينب إذ تحل بها قطينا
في المجمهرات.
ونسب لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، والد أمية قوله:
لن يطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... لجج في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده القول الذي قالا
ثم انتحي نحو كسرى بعد تاسعة ... من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحمله ... أنك عمري لقد أسرع قلقالا
من مثل كسرى وباذان الجنود له ... ومثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
غلبا جحاجحة بيضا مراجحة ... أسدا تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن عتل كأنها غبط ... بزمخر يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحي شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
ثم أطل المسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم من بُرديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادوا بعد أبوالا2
وهي قصيدة زعم أنه قالها في "سيف بن ذي يزن"، وزعم أنها لابنه "أمية بن أبي الصلت". وقد رواها "الطبري" في تأريخه، على هذه الصورة:
__________
1 CI HUART, IN JA., SER., X, I, IV, "1904", P.125, TOR ANDRAE, DER URSPRUNG D. ISLAM UND D. CHRISTENTUM, STOCKHOLM, "1926", S. 48
بروكلمان. تأريخ الأدب العربي "1/ 113".
2 الشعر والشعراء "1/ 371 وما بعدها"، التيجان "305"، الأغاني "16/ 73"، الروض الأنف "1/ 52"، ابن سلام، طبقات "218"، البحتري، حماسة "16".(18/324)
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... ريَّم في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامتهم ... فلم يجد عندهم بعض الذي قالا
ثم انتحي نحو كسرى بعد سابعة ... من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إنك لعمري لقد أطولت قلقالا
من مثل كسرى شهنشاه الملوك له ... أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
غر جحاجحة بيض مرازبه ... أسد تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن شدف كأنها غبط ... في زمخر يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... ضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج متكئا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
وأطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا1
وقد نسبها لوالد أمية.
وقد ذكر "ابن هشام"، أن "ابن إسحاق" نسب هذه القصيدة لأبي الصلت بن أبي ربيعة، ويروي أنها لامية. وقد رواها على هذا النحو:
ليطلب الوتر أمثال بن ذي يزن ... ريم في البحر للأعداء أحوالا
يمم قيصر لما حان رحلته ... فلم يجد عنده بعض الذي سالا
ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إنك عمري لقد أسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غلبا أساورة ... أسدا تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن شدف كأنها غبط ... بزمجر يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هينئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
__________
1 الطبري "2/ 147 وما بعدها".(18/325)
وقد ذكر "ابن هشام" أن "هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها، إلا آخرها بيتا: تلك المكارم لا قعبان من لبن. فإنه للنابغة الجعدي"1.
وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا، ولا له إلمام بأمور التأريخ، فالقصيدة التي مطلعها:
لك الحمد والمن رب العبا ... د أنت المليك وأنت الحكم
هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا:
محمد أرسله بالهدى ... فعاش غنيا ولم يهتضم
ثم خذ الأبيات التالية له وفيها:
عطاء من الله أعطيته ... وخص به الله أهل الحرم
وقد علموا أنه خيرهم ... وفي بيتهم ذي الندى والكرم
يعيبون ما قال لما دعا ... وقد فرج الله إحدى البهم
به وهو يعدو بصدق الحديـ ... ـث إلى الله من قبل زيغ القدم
أطيعوا الرسول عباد الإلـ ... ـه تنجون من شر يوم ألم
تنجون من ظلمات العذاب ... ومن حر نار على من ظلم
دعاني النبي به خاتم ... فمن لم يجبه أسر الندم
نبي هدى صادق طيب ... رحيم رءوف بوصل الرحم
به ختم الله من قبله ... ومن بعده من نبي ختم
يموت كما مات من قد قضى ... يرد إلى الله باري النسم
مع الأنبياء في جنان الخلود ... هم أهلها غير حل القسم
وقدس فينا بحب الصلاة ... جميعا وعلّم خط القلم
كتابا من الله نقرأ به ... فمن يعتريه فقدما أنم2
__________
1 ابن هشام "1/ 52 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الشعر والشعراء، لابن قتيبة "1/ 371".
2 ديوان أمية، قصيدة رقم 23 في طبعة "فردرش شولثيس"، "ص23 وما بعدها"، و"ص55 وما بعدها" من "طبعة بشير يموت"، الخزانة "1/ 122"، "بولاق".(18/326)
اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول إنه كان شاعرا مغاضبا للرسول، وأنه مات كافرا، وأن صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر، وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبدا، فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، هو واعظ ومبشر يخطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: "آمن شعره وكفر قلبه"، أو "آمن لسانه وكفر قلبه"، ولم يقصد الرسول إيمان أمية بالله وبرسوله، وإنما إيمان لسانه وشعره بالله، وكفره برسوله، إذ لم يؤمن به، فمات على كفره وعنده وبغضه للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، ويريد تثبيت الناس على الإيمان به بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، فظهر من تزلزل إيمانه بسبب وفاته، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، أي قبل وفاة الرسول، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها1؟
أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلا على وجود أيدٍ لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صناعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلواعلى مقاتل النظم.
وروي أن بعض الرواة نسبوا إلى أمية بيتا في قصيدة هو:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
وفي القصيدة ضروب من التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار غير أن العارفين بالشعر ينكرون أن تكون لأمية، وإنما نسبوها إلى النابغة الجعدي، وذكروا أن هذا البيت هو من شعر النابغة الذي كان يتأله في الجاهلية وأنكر الخمر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر دين إبراهيم2.
ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت:
__________
1 "وكانت وفاة أمية بن أبي الصلت قبل ذلك بيقين سنة تسع من الهجرة"، الإصابة "1/ 493"، "رقم 2590".
2 ابن سلام "106"، الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641".(18/327)
جهنم لا تبقي بغيا ... وعدن لا يطالعها رجيم
ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم أنعم النظر في عبارات هذه الأبيات:
فذا عسل وذا لبن وخمر ... وقمح في منابته صريم
ونخل ساقط الأكتاف عد ... خلال أصوله رطب قميم
وتفاح ورمان وموز ... وماء بارد عذب سليم
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
وحور لا يرين الشمس فيها ... على صور الدُّمى فيها سهوم
نواعم في الأرائك قاصرات ... فهن عقائل وهم قروم
على سرر ترى متقابلات ... ألا ثم النضارة والنعيم
عليهم سندس وجياد ريط ... وديباج يرى فيها قتوم
وحلوا من أساور من لجين ... ومن ذهب وعسجد كريم
ولا لغو ولا تأثيم فيها ... ولا غول ولا فيها مليم
وكأس لا تصدع شاربيها ... يلذ بحسن رؤيتها النديم
تصفق في صحاف من لجين ... ومن ذهب مباركة رذوم1
ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات. لقد حاول ناظمها إدخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوبا جاهليا، ولإظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظما لوصف الجنة والنار في الإسلام. وما بي حاجة إلى أن أحيلك على الآيات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر وصفه من القرآن.
ومن الغريب أن بعض الباحثين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلا أن العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وأن منهم
__________
1 تجد اختلافا في كلمات هذه القصيدة وأبياتها، وكذلك في قصائد هذا الشاعر الأخرى، فارجع في ذلك إلى طبعات ديوانه وإلى كتب الأدب لمعرفة مواضع الاختلاف، كتاب البدء والتأريخ "1/ 202 وما بعدها"، ثم ديوانه.(18/328)
من نظر في الكتب وكان مُقرًّا بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية، مع أنها من الشعر المزيف المصنوع!
ثم خذ قصيدته في "عيسى بن مريم" وحمل أمه به1، وسائر قصائده الأخرى، تجد عليها هذه المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة، ومن الممكن إدراك هذا المصنوع المزيف بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين.
ولأمية شعر في الموت، حيث يقول:
من لم يمت عبطة يمت هرما ... وللموت كأس والمرء ذائقها2
ويروى له قوله في الله:
وأشهد أن الله لا شيء فوقه ... عليًّا وأمسى ذكره متعاليا3
وزعم أن أمية، قال عند موته:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك إلا ألما
وقد تمثل به النبي وصار من جملة الأحاديث. قالوا في ذلك: يجوز إنشاد الشعر للنبي، وإنما المحرم إنشاؤه. وقد زعم أن البيت لأبي خراش الهذلي، وذكر أنه لا يعرف قائله ولا بقيته، وقد أخذه أبو خراش وضمه إلى بيت آخر، وكان يقولهما، وهو يسعى بين الصفا والمروة4.
ومن شعر أمية قوله:
زعم ابن جدعان بن ... عمرو أنني يوما مدابر
ومسافر سفرا بعيدا ... لايئوب له مسافر5
__________
1 ديوان أمية "58"، "بشير يموت".
2 أمالي المرتضى "1/ 533".
3 أمالي المرتضى "2/ 196".
4 الخزانة "2/ 295"، "هارون".
5 اللسان "4/ 275"، "دبر".(18/329)
ومن ولد "أمية بن أبي الصلت": عمرو، وربيعة، ووهب، والقاسم. وكان ربيعة والقاسم شاعرين1. وذكر أنه نظم شعرا رد به على أبيه في انتسابه، منها:
وإنا معشر من جذم قيس ... فنسبتنا ونسبتهم سواء2
وهو القائل:
وإن يك حيا من إياد فإننا ... وقيسا سواء ما بقينا وما بقوا
ونحن خيار الناس طرا بطانة ... لقيس وهم خير لنا إن هم بقوا3
ولا نعرف من أمر "القاسم بن أمية بن أبي الصلت" شيئا يذكر. وقد أورد له "المرزباني" شعرا في مدح "بني دهمان"4. وذكر أنه رثى "عثمان بن عفان" في قصيدة منها:
لعمري لبئس الذبح ضحيتم به ... خلاف رسول الله يوم الأضاحي
فطيبوا نفوسا بالقصاص فإنه ... سيسعى به الرحمن سعي نجاح5
وأورد له "ابن قتيبة" أربعة أبيات مطلعها:
قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان6
ورويت له مرثية في عثمان بن عفان منها:
لعمري لبئس الذبح ضحيتم به ... خلاف رسول الله يوم الأضاحي
فطيبوا نفوسا بالقصاص فإنه ... سيسعى به الرحمن سعي نجاح7
__________
1 رسائل الجاحظ "1/ 258".
2 الإصابة "1/ 493"، "رقم 2590".
3 رسائل الجاحظ "1/ 258"، الأغاني "3/ 179 وما بعدها"، "ربيعة بن أبي الصلت، صاحب ربيعتان نهر بقرب الأبلة، ومن ولده: كلدة بن ربيعة، كان من رجال أهل البصرة"، الاشتقاق "1/ 185".
4 الشعر والشعراء "1/ 372"، "دار الثقافة"، المرزباني، معجم "213"، الأغاني "3/ 179"، الحيوان، للجاحظ "1/ 64".
5 الإصابة "3/ 213"، "رقم 7052".
6 الشعر والشعراء "1/ 372".
7 الإصابة "3/ 213"، "7052".(18/330)
وله موعظة في أسلوب يشبه أسلوب الأعشى بن ربيعة، نشرها "كاير" في ديوان الأعشى1.
ومن شعراء ثقيف "عوف بن عامر بن حسان بن مالك بن حطائط بن جشم بن ثقيف" الكاهن، وكان جاهليا كاهنا شاعرا2، و "كنانة بن عبد يا ليل بن سالم بن مالك بن حطائط بن جشم بن ثقيف"، وكان يمدح النعمان بن المنذر3. و "كنانة بن عبد يا ليل بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غِيَرة بن عوف بن ثقيف"، وهو شاعر ذكره "ابن سلام"4.
ومسعود بن معتب بن مالك الثقفي من شعراء ثقيف، وهو جاهلي. وابنه عروة بن مسعود، الذي دعا قومه إلى الإسلام، فقتلوه. وكان "مسعود" غنيا، وكان يخشى عليها من أن تباع إلى قريش بعد وفاته، وكانت قريش تشتري الأرض والأموال بالطائف، فخشي أن يبيع ورثته ملكه لقريش5.
و"أبو محجن الثقفي" واسمه مالك، وقيل عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف، وقيل اسمه كنيته، هو من الشعراء المطبوعين، وكان كريما منهمكا في الشراب لا يكاد يقلع عنه، أسلم مع ثقيف. جلده "عمر" مرات ثم نفاه إلى جزيرة، وبعث معه رجلا فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص، يوم القادسية فكتب عمر إلى "سعد" أن يحبسه فحبسه. فأرسل إلى امرأة سعد من يقول لها: أطلقيني ولك علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم مني. فأطلقته، فوثب على فرس لسعد، ثم أخذ رمحا ثم خرج يهاجم الفرس، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون هذا ملك، لما يرونه يصنع، فلما هزم الفرس، رجع فوضع رجله في القيد، وترك الخمر قائلا: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، فأما الآن
__________
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 114".
2 المرزباني، معجم "125".
3 المرزباني، معجم "246".
4 المرزباني، معجم "246".
5 المرزباني، معجم "283".(18/331)
لا والله لا أشربها أبدا1
ومن شعره:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
أباكرها عند الشروق وتارة ... يعاجلني عند المساء غبوقها
وللكأس والصهباء حق معظم ... فمن حقها أن لا تضاع حقوقها
وحدث من رأى قبر "أبي محجن" أنه نبتت عليه ثلاثة أصول كرم وقد طالت وأثمرت وهي معرشة على قبره. ولكنهم عندما تحدثوا عن موضع قبره، اختلفوا فيه، فقال بعض منهم إنه في نواحي أذربيجان، وقال قوم بجرجان2.
ويظهر أنهم اختلقوا قصة ظهور الكرم على قبره من الشعر المتقدم.
ذكر بعض الرواة أن "أبا محجن" هوي امرأة من الأنصار، يقال لها "شموس" فحاول النظر إليها، فلم يقدر، فآجر نفسه من بناء يبني بيتا بجانب منزلها فأشرف عليها من كوة فأنشد:
ولقد نظرت إلى الشموس ودونها ... حرج من الرحمن غير قليل
فاستعدى زوجها عمر فنفاه، وبعث معه رجلا يقال له أبو جهراء، فلما رأى "أبو جهراء" من أبي محجن سيفا هرب منه إلى عمر، فكتب "عمر" إلى "سعد" يأمره بسجنه فسجنه3.
وذكر "بروكلمان" أن "أبا محجن" لم يزل يشرب الخمر حتى نفاه "عمر" إلى "باصع"، وهي مدينة "مصوع" على ساحل الحبشة. وتوفي بها بعد مدة.
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 101 وما بعدها"، الأغاني "21/ 137"، الخزانة "3/ 550" ابن سلام، طبقات "225"، المؤتلف "95"، الإصابة "4/ 173" "رقم 1017"، الشعر والشعراء "1/ 336 وما بعدها"، طبقات ابن سلام "68 وما بعدها".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 103"، "إلى أصل كرمة"، ديوانه "ص14"، "ليدن 1887"، "تحقيق ABEL"، عيون الأخبار، لابن قتيبة "1/ 38"، "القاهرة 1324"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "109"، الاستيعاب "4/ 181 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 الإصابة "4/ 174"، "رقم 1017".(18/332)
وجيزة1. وهو خبر غريب، يخالفه كل من تعرض لأمر هذا الشاعر. فقد ذكروا جميعا أنه ترك الخمر منذ يوم "القادسية" ولم يعد إليها، ولم يذكر أحد أنه عاد إليها، حتى نفترض أنه عاد بعد ذلك إلى المدينة وعاد إليها فنفاه، وقصة نفيه إلى جزيرة في البحر، ترد قبل ذهابه إلى العراق، بعد أن فر منه حارسه، وكان قد أحس أنه يريد قتله، فأمر "عمر" سعدا عندئذ بحبسه فحبس، ثم خرج فقاتل، فلما انتصر المسلمون، رجع إلى محبسه، ففك "سعد" قيوده وأطلقه.
وقد جمع شعر "أبي محجن" في ديوان طُبع، كما نجد له قطعا من أشعاره في مختلف كتب الأدب ومن تعرض لسيرته من رجال الأخبار2.
وكان "غيلان بن سلمة" من الأشراف، ذكر "الجمحي"، أنه كان قسم ماله كله بين ولده وطلق نساءه، فنهاه "عمر" عن ذلك، ففعل بما أمر به3.
__________
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 167".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 167 وما بعدها".
3 ابن سلام، طبقات "69".(18/333)
الفصل الخامس والستون بعد المائة: الشعراء اليهود
لا نعرف نصا جاهليا جاء فيه خبر عن شعر يهودي، وعن شاعر يهودي عاش في بلاد العرب. وكل ما ورد إلينا عن شعر يهود، مستقى من الموارد الإسلامية حسب. وكذلك لا نعرف مصدرا عبرانيا أو غير عبراني، تعرض الأمر شعر اليهود في جزيرة العرب. ولهذا فحديثي عن شعر يهود في أيام الجاهلية مستمد من الموارد الإسلامية وحدها.
ومن يلقِ نظرة على أشعار اليهود لا يجد فيها أي أثر لليهودية، ولا أية مصطلحات تشعر أن صاحبها يهودي. فلا نجد فيها شيئا من قصص التوراة أو التلمود أو المشنا أو "الكمارة" أو أي شيء له صلة بعقيدة يهودية. مع أننا قد وجدنا شيئا من قصص العهد القديم في شعر "أمية بن أبي الصلت"، وهو غير يهودي. فهل يعني هذا أن شعراء اليهود لم يكن لهم ميل إلى التحدث في أمور الدين، والنظر في أحكام الشريعة، وفي التفكير في خلق السماوات والأرض والإنسان وفي الموت والفناء، أو أنهم كانوا في جهل بها، وكان أمرها عندهم إلى رجال دينهم، هم يبحثون فيها، ولهذا لم يحملوا أنفسهم مشقة التعرض لها والبحث فيها، أو أنهم كانوا قد تطرقوا فعلا إلى هذه الأمور، وجاءوا في شعرهم بأشياء مما يختص بدينهم ويميزهم عن غيرهم، وتطرقوا إلى عاداتهم وأشادوا بذكر أنبيائهم، غير أن الرواة المسلمين لم يحفلوا بشعرهم لأنه شعر يهودي،(18/334)
فضاع، كما ضاع شعر الوثنيين إذ لم يرو منه القليل1.
وقد ذهب "ولفنسون" إلى أن السبب في قلة ما وصل إلينا من شعر اليهود في الجاهلية ومن أسماء شعرائهم، إنما يرجع إلى ضعف إقبال اليهود على اعتناق الإسلام. والذي حافظ على القليل الذي وصل إلينا هم اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، ومن تناسل منهم تخليدا لما كان لأجدادهم من مجد أثيل وشرف عظيم. ولو لم يسلم بعض الأفراد من ذرية السموأل، لكان من الجائز عدم وصول أي شيء من شعره إلينا2.
وذهب "الدكتور طه حسين" إلى أن اليهود قالوا كثيرا من الشعر في الدين وهجاء العرب، وأنهم انتحلوا وصنعوا شعرا لإثبات وجود لهم في الشعر، فنسبوه إلى شعراء يهود، ولكن الرواة العرب لم يحفلوا به فضاع3.
وقد أدخل "كارلو نالينو" الشعراء اليهود مع الشعراء الوثنيين، وجعلهم في الصنف الأول من أصناف طبقات الشعراء على حسب تصنيفه لهم إلى أربع طبقات وقال: "لا تستغربوا عدم الفرق بين الوثنيين واليهود من أهل البادية ووجوده بين الوثنيين والنصارى من أهل الحضر، لأنكم إذا اطلعتم على ما وصل إلينا من أشعار اليهود قبل الإسلام ما ألفيتم فيها شيئا أو عبارة يميزها عن سائر أهل البادية. فمن طالع مثلا أبيات "السموأل بن عادياء" "مع قطع النظر عن قصيدة واضحة التزوير منسوبة إليه لم تعرف ولم تطبع إلا حديثا" لما توهم أن صاحبها تابع لدين اليهود. والأمر كذلك أيضا في سائر أشعار يهود جزيرة العرب مثل شعبة بن غريض، والربيع بن أبي الحقيق وغيرهما التي اعتنى بجمعها "نولدكه" و "فرانز دلتش" ليس من المستحيل أن ما فقد من أشعارهم "وهو كثير بالإضافة إلى ما حفظ"، قد حوى أشياء مما يختص بدينهم وليس من المحال أيضا أن الرواة المسلمين امتنعواعن نقلها لهذا السبب، ولكن لايجوز لنا الحكم إلا في الموجود المعروف الذي لا يختلف عن شعر أهل البادية الوثنيين لا لغة ولا أسلوبا ولا مأخذا، كأن دينهم لم يؤثر في شعرهم البتة4.
__________
1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "71".
2 تأريخ اليهود في بلاد العرب "24 وما بعدها".
3 المصدر نفسه.
4 كارلو نالينو "ص71".(18/335)
ولكنني أجد من مطالعتي لشعرهم نفسا يختلف عن النفس الذي نجده في شعر شعراء البادية، ذلك هو ميل هذا الشعر إلى التحدث عن المثل الأخلاقية، كالإنصاف والحكم بالعدل، والحلم، والصداقة، واحترام حق الصديق، والاتعاظ بالموت وبحوادث الدهر، وبوجوب الوفاء، خذ الأبيات المنسوبة إلى "الربيع بن أبي الحقيق"، وهي:
سائل بنا خابر أكمائنا ... والعلم قد يُلقى لدى السائل
لسنا إذا جارت دواعي الهوى ... واستمع المنصت للقائل
واعتلج القوم بألبابهم ... بقائل الجود ولا الفاعل
إنا إذا نحكم في ديننا ... نرضى بحكى العادل الفاصل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلط دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل1
ففيها إشارة إلى دين يأمر بالعدل والإنصاف، وبعدم مزج الباطل بالحق، ينهى عن الظلم ويأمر بالحق وفيها -إن صح بالطبع أنها من شعرهم- منطق واستماع إلى صوت متظلم، يعمد إلى رفع شكواه إلى المنصفين لإنصافه، فينصف، فأخذ الحق هنا هو بحكم الدين وقواعد العدالة لا بالسيف وبحكم العصبية والأخذ بالثأر، ونجد مثل ذلك في بقية شعرهم، وتحمل هذه الظاهرة المرء على التفكير في سبب ظهور هذا النوع من الشعر، وهل هو شعر جاهلي يهودي أصيل، أم أنه شعر مصنوع، وضع عليهم في الإسلام، لمآرب مختلفة، مثل المأرب الذي حمل الرواة على نسبة القصيدة المشهورة:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
إلى السموأل، وكذلك بعض الأشعار الأخرى!
وقد ذكر "ابن سلام" أسماء فحول شعراء يهود، فجعلهم: السموأل بن الغريض بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشُرَيح بن عمران، وشُعية بن غريض، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيّال، ودرهم
__________
1 ابن سلام، طبقات "71".(18/336)
ابن زيد1. وأضاف غيره إليهم: أوس بن دنى، وسماك، والغريض بن السموأل2 و "سلام بن مشكم" و "كنانة بن أبي الحقيق"3.
والسموأل، هو أشهر شاعر يهودي. وهو على ما يقوله لنا الأخباريون يهودي ثري شاعر، عرف بـ "السموأل بن عاديا"، وبـ "السموأل بن عادياء" الأزدي، وبـ "السموأل بن غريض بن عاديا "عادياء" اليهودي"4، وبـ "السموأل بن حيان بن عادياء"5، وبـ "السموأل بن عادياء بن حيا"6، وبـ السموأل بن حيا بن عادياء بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"7، وبـ "السموأل بن أوفى بن عادياء"8، و "السموأل بن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة"، وبـ "السموأل بن غريض بن عاديا بن حباء". واختلفوا في نسب "عادياء" "عاديا"، فقالوا: "عادياء بن حباء"، وقالوا: "عادياء بن رفاعة بن جفنة"، وقالوا: إنه من ولد "الكاهن بن هارون بن عمران"9، وقالوا إنه من "بني غسان"، ونسبه "دارم بن عقال"، إلى "رفاعة بن كعب بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وهو نسب أنكره "أبو الفرج الأصبهاني" حيث قال: "وهذا عندي محال، لأن الأعشى أدرك شريح بن السموأل، وأدرك الإسلام، وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة ولا أكثر ... وقد قيل إن أمه كانت من غسان"10. ونسب السموأل أيضا إلى الأزد 11. وذكر "ابن دريد" أن السموأل
__________
1 طبقات، ابن سلام "70".
2 الأغاني "19/ 94 وما بعدها".
3 الاستيعاب "4/ 337"، "حاشية على الإصابة".
4 "عادياء" الأغاني "19/ 89"، ابن سلام، طبقات "235"، "طبعة دار المعارف"، "تحقيق محمود محمد شاكر"، تاج العروس "7/ 382"، "سمل"، شرح شواهد المغني "2/ 535"، ENCY., IV, P. 133
5 الميداني، الأمثال "2/ 276"، المشرق، السنة الثانية عشرة، 1909م، العدد3 آذار "ص162".
6 المعرب، للجواليقي "188".
7 ابن دريد، الاشتقاق "259".
8 المشرق، العدد المذكور "162"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 531"، الأغاني "3/ 12".
9 معاهد التنصيص "1/ 131"، المشرق، العدد المذكور.
10 الأغاني "19/ 98"، المشرق، العدد المذكور.
11 المعرب "188".(18/337)
من "بني غسان"، ولكنه ذكر أيضا أنه كان يهوديا1، ونسبه "محمد بن حبيب" إلى غسان كذلك، ولم يشر إلى تهوده2. وقد جعل "ابن قتيبة" السموأل ملكا على تيماء3.
والسموأل جد "صفية بن حيي بن أخطب" لأمها. وهي يهودية، وقد تزوجها الرسول4. وقد نسبها "ابن عبد البر" على هذه الصورة: صفية بن حيي بن أخطب بن سعنة بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن تخوم من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران. وأمها "برة بنت سموأل"5. وكانت عند "سلام بن مشكم"، وكان شاعرا، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وهو شاعر، فقتل يوم خيبر، وتزوجها رسول الله، في سنة سبع من الهجرة.
وقد اشتهر السموأل بالوفاء، أكثر من اشتهاره بالشعر، ولا زال العرب يتبجحون بوفائه ويضربون به المثل في الوفاء. واشتهر بقصره الذي ضرب به المثل بالضخامة والجسامة، وهو "الأبقل" بـ "تيماء"، أو على مقربة منها. حتى زعم أهل الأخبار أنه من أبنية "سليمان بن داود" بناه بتيماء، واستشهدوا على صحة دعواهم ببيت شعر زعموا أنه من شعر الأعشى، هو:
ولا عاديا لم يمنع الموت ماله ... وورد بتيماء اليهودي أبلق
بناه سليمان بن داود حقبة ... له أزج حم وطي موثق6
لكنهم يذكرون أيضا أنه من بناء "عاديا" والد السموأل، ويستشهدون على صحة روايتهم بشعر ذكروا أنه للسموأل نفسه، يقول فيه:
__________
1 الاشتقاق "259".
2 المحبر "349".
3 الشعر والشعراء "1/ 60، 61".
4 الإصابة "4/ 337 وما بعدها"، "رقم 650".
5 الاستيعاب "4/ 337"، "حاشية على الإصابة".
6 تاج العروس "6/ 298"، "بلق"، راجع قصيدة الأعشى رقم 25 في ديوانه، "له جندل صم وطي موثق"، "له أزج عال وطي موثق"، الحيوان "6/ 118"، "تحقيق عبد السلام هارون"، المشرق، الجزء المذكور "193".(18/338)
بنى لي عاديا حصنا حصينا ... وعينا كلما شئت استقيت
وأطما تزلق العقبان عنه ... إذا ما ضامني أمر أبيت1
وقد زعموا أنه عرف بـ "الأبلق الفرد". أخذوا ذلك من شعر نسبوه إلى السموأل، هو:
هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول2
وذكروا أنه إنما عرف بالأبلق، لأنه كان في بنائه بياض وحمرة، وقيل لأنه بني من حجارة مختلفة الألوان3. وقد ذكر في شعر الأعشى:
وحصن بتيماء اليهودي أبلق4
وفي شعر آخر له أيضا هو:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير ختار5
وزعم أهل الأخبار، أن الزباء "ملكة الجزيرة" قصدته فعجزت عنه وعن مارد، فقالت: "تمرد مارد وعز الأبلق"، فسيرته مثلا6. ولا أستبعد كون حصن السموأل من الحصون أو القصور القديمة التي كانت بتيماء. ورثه "السموأل" من آبائه وأجداده، فقد كان البابليون قد بنوا بها قصورا وحصونا، لما اتخذت عاصمة لهم، وسكنها ملكهم، ثم إنها كانت من المدن القديمة العامرة، وقد كانت الأسر الكبيرة الغنية تبني القصور الفخمة في المدن للتحصن بها من الغزو ومن غارات الأعداء عليها، كما كانت الحكومات، ولا سيما حكومات المدن تقيم الحصون القوية المنيعة في المدن، للدفاع عنها، ولتكون مقرا للحكام، وتشاهد إلى اليوم آثار القصور والأبنية الضخمة التي كانت في تيماء. ومما يؤيد
__________
1 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".
2 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".
3 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".
4 اللسان "10/ 26"، "بلق".
5 "غير غدار"، اللسان "10/ 26"، "بلق".
6 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".(18/339)
رأيي في أن قصر "السموأل"، أي حصنه من الحصون القديمة هو ما ورد في شعر "الأعشى" من أنه من أبنية "سليمان" ومن ورود لفظة "عاديا" في شعر الأعشى كذلك، وفي شعر السموأل:
بنى لي عاديا حصنا حصينا ... وعينا كلما شئت استقيت
ولفظة "عاديا"، وإن صيرت اسم علم لرجل، لكني أعتقد أنها ليست علما، وإنما تعني القدم، فالعادي عند العرب القديم جدا، ولو كان "عاديا" جد "السموأل"، فكيف نوفق بين الشعر المذكور المنسوب إلى الأعشى الذي يزعم أنه من أبنية سليمان، ثم قولهم إن "عاديا" من أجداد السموأل، ثم قولهم إنه من الحصون القديمة، وأنه تعزز على "الزباء" لما أرادت فتحه، في الأسطورة التي يرويها أهل الأخبار، والتي تدل على قدم الحصن. ولكن ليس من المستبعد أن يكون أحد أجداد السموأل، قد جدد في بنائه ورممه لإصلاح ما أفسده الزمان منه، وأما الحصن نفسه فربما كان من بقايا أبنية البابليين بتيماء، فقد كانت "تيماء" معروفة في أيام "البابليين"، وموجودة في أيامهم، بدليل أن "نبونيد" ملك بابل جاء إليها فاتخذها أمدا عاصمة له.
وقصة وفاء السموأل قصة مشهورة، وقد تحدثت عنها، وذكر أن السموأل لما أبى دفع الدروع إلى الملك، وشاهد منظر ذبح ابنه، قال في ذلك:
وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت
وقالوا عنده كنز رغيب ... فلا وأبيك أغدر ما مشيت
بنى لي عاديا حصنا حصينا ...
وبئرا كلما شئت استقيت1
وتعد قصيدة السموأل التي مطلعها:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
من أجمل القصائد السلسة المنظومة في الوفاء وفي الفخر. وقد سجلت ثمانية أبيات منها في الكتاب المسمى: "تأريخ ملوك العرب الأولية من بني هود وغيرهم"
__________
1 المحاسن والأضداد "36 وما بعدها".(18/340)
المنسوب لـ "أبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي"، رواية "أبي يوسف يعقوب بن السكيت". وقد تم استنساخا في عاشر شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين1. وهو كتاب لم يشر "ابن النديم" إليه، لا في أثناء حديثه عن "الأصمعي" ولا في أثناء كلامه على "ابن السكيت".
وأول هذه الأبيات المدونة فيه:
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل2
وقد اختلف العلماء في قائل القصيدة، فمنهم من نسبها إلى السموأل، ومنهم من نسبها لابنه "شريح"3، ومنهم من جعلها لدكين4، ومنهم من نسبها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي5، ومنهم من جعلها للجلاح الحارثي6. ورجح "بروكلمان" نسبتها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، وهو شاعر إسلامي7. ويقول "التبريزي" في شرحه للبيت:
فإن بني الديان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول
وهو من أبيات هذه القصيدة، يذكر أنه لعبد الله الحارثي لا للسموأل8.
ويلاحظ أن "أبا الفرج الأصبهاني"، قد نسب القصيدة المذكورة للسموأل ثم نسبها إلى "شريح"، الذي هو ابن السموأل في موضع آخر، ثم نسبها إلى
__________
1 نشره الشيخ محمد حسن آل ياسين، بعنوان: تأريخ العرب قبل الإسلام "بغداد 1959م"، وتجد القصيدة في ديوان الحماسة "ص39"، طبعة أوروبة"، وفي نزهة الجليس "2/ 149 وما بعدها".
2 طبع ديوانه مرارا، وطبع ببغداد سنة 1955م، راجع عن شعره، شرح شواهد المغنى "2/ 531 وما بعدها"، الحماسة "1/ 108"، الأمالي "1/ 269"، البيان والتبيين "3/ 185"، ديوان الحماسة "1/ 27"، أمالي القالي "1/ 269 وما بعدها"، الأغاني "6/ 76 وما بعدها"، عيون الأخبار "3/ 173".
3 ديوان الحماسة "39"، "طبعة أوروبة"، الحماسة "1/ 108"، الأمالي "1/ 269".
4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 531"، الأغاني "9/ 253".
5 شرح شواهد "2/ 531".
6 السيوطي، شرح شواهد "2/ 531".
7 بروكلمان "1/ 121".
8 ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "27".(18/341)
"دكين العذري" في موضع ثالث1، مما يدل على أنه أخذ من مصادر مختلفة، اختلفت فيما بينها في نسبة القصيدة إلى صاحبها2. كما نجد الرواة يختلفون فيما بينهم في ترتيب أبيات القصيدة، فمنهم من يقدم فيها، ومنهم من يؤخر، ويبعث هذا الاختلاف الريبة في صحة نسبة القصيدة إلى السموأل3.
ولما تحدث "ابن قتيبة" عن الشاعر "دكين بن رجاء" من بني فُقيم الراجز، وهو من شعراء العصر الأموي، ومن المتصلين بـ "عمر بن عبد العزيز"، قال عنه: إنه هو القائل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يضرع عن اللؤم نفسه ... فليس إلى حسن الثناء سبيل4
ويرى "ونكلر" أن قصة الوفاء هذه هي أسطورة استمدت مادتها من أسفار "صموئيل الأول" في التوراة، ومن الأساطير العربية القديمة نظمت على هذه الصورة فجعل بطلها شخصين هما: "السموأل"، و "امرؤ القيس"5.
وإذا تتبعنا الروايات الواردة في قصة وفاء السموأل، وذبح ابنه، وامتناعه عن تأدية الأمانة المودعة لديه، إلا لأصحابها الشرعيين، نجد أنها ترجع إلى موردين رئيسين: قصة "دارم بن عقال" وشعر الأعشى.
وذكر "ابن سلام"، أن للسموأل "كلمة له طويلة"، يقول فيها:
إن حلمي إذا تغيب عني ... فاعلمي أنني عظيما رزيت6
وقد وردت في الأصمعيات7، وهي تتحدث عن نشأة الإنسان وحياته وبعثه بعد
__________
1 الأغاني "6/ 67"، "8/ 155".
2 ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "31".
3 المصدر نفسه.
4 الشعر والشعراء "2/ 508 وما بعدها".
5 H. WINCKLER, ARAABISCH-ORIENTALISCH., IN MITTEI, VORDER. ASAI. GESELLSCHAFT, "1901" 6 JAHRGANG, S., 112
6 طبقات "71".
7 الأصمعيات "84"، "دار المعارف".(18/342)
موته، ويظن أنها مصنوعة1. وفي جملة ما قاله:
ميتا خلقت ولم أكن من قبلها ... شيئا يموت فمت حين حييت2
وقد طبع الأب "لويس شيخو" ديوان السموأل برواية "نفطويه" "323هـ"، وقد ترجم "ابن النديم" نفطويه، وذكر أسماء كتبه، ولكنه لم يذكر من بينها اسم هذا الديوان3، وترجمه غيره، ولم ينسب له هذا الديوان4. ويرى "بروكلمان" احتمال كون الشعر المرقم "1-6" من الديوان من الشعر الأصيل، أي من شعر السموأل، أما الشعر الباقي المنشور في الديوان، فهو لشعراء يهود متأخرين5. ويرى غيره أصالة قصيدتين فقط من شعر هذا الديوان. وذكر بعضهم أن القصيدة رقم "7" ليست للسموأل، وإنما لأحد يهود المدينة6.
وقد تحدث المستشرقون عن شعر "السموأل" ولهم فيه كلام، فمنهم من يؤيد أصالة أكثره، ومنهم من لا يعترف إلا بأصالة القليل منه7. والواقع أن موضوع وجود "السموأل" نفسه قضية فيها نظر، ولا أستبعد أن تكون هذه القصة من وضع "دارم بن عقال"، وهو من ولد "السموأل"، أو من وضع أناس آخرين رووا عنه. و "دارم" هو راوي خبر قصة الوفاء، والأشعار المنسوبة إلى "امرئ القيس" المتعلقة بهذا الموضوع. وقد أشار إلى ذلك مؤلف كتاب "الأغاني" في أثناء كلامه على قصيدة نسبت إلى "امرئ القيس"، ابتداؤها:
طرقتك هند بعد طول تجنّب ... وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق
__________
1 العصر الجاهلي "389".
2 البيان والتبيين "3/ 127".
3 الفهرست "127"، شيخو، ديوان السموأل، بيروت 1909م، المشرق، السنة الثانية، العدد 3 آذار 1909م "ص161 وما بعدها".
4 نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لابن الأنباري "178 وما بعدها"، "تحقيق: إبراهيم السامرائي"، ابن القفطي، الإنباه "1/ 180".
5 بروكلمان "1/ 122".
6 بروكلمان "1/ 122 وما بعدها".
7 Margoliouth, the(18/343)
فقال: "وهي قصيدة طويلة، وأظنها منحولة، لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بين، وما دونها في ديوانه أحد من الثقات، وأحسبها مما صنعه دارم، لأنه من ولد السموأل، ومما صنعه من روي عنه من ذلك فلم تكتب هنا"1.
ويلاحظ أن في شعر الأعشى كثيرا من أخبار السموأل، ومن شعره أخذ الأخباريون "تيماء اليهودي"2 و "الأبلق الفرد"، حيث يقول:
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كقريع الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزلة ... حصن حصين وجار غير غدار
خيّره خطتي خسف فقال له ... مهما تقولن فإني سامع حار
فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر فما فيها حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري3
ومن ولد السموأل "شريح" و "الغريض بن السموأل"، وكانا شاعرين كذلك4. و "برة" في رواية من جعلها ابنة للسموأل، ووالدة "صفية" زوج الرسول5.
وللأعشى الشاعر الشهير شعر يرويه الرواة في مدح "الشريح بن السموأل" "شريح بن السموأل". وقد ورد في قصيدته الرائية اسم ولدين للسموأل، هما: "حوط" و "منذر"6. ولم يذكر الأخباريون اسم الولد الذي زعم أن "الحارث بن أبي شمر"، أو "الحارث بن ظالم" قتله لرفض السموأل دفع أدرع الكندي إليه، على نحو ما يذكره الرواة في قصة الوفاء. ونجد مضمون هذه القصة في هذه القصيدة المذكورة للأعشى، الموجودة في ديوانه. وهي قصيدة تتألف من واحد وعشرين بيتا، يروي الرواة أنه قالها مستجيرا بـ "شريح بن
__________
1 الأغاني "8/ 70".
2 البلدان "3/ 442"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 272".
3 نزهة الجليس "2/ 151"، المحاسن والأضداد "37".
4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 531"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 122".
5 الاستيعاب "4/ 337"، "حاشية على الإصابة".
6 المشرق، العدد المذكور "163".(18/344)
السموأل" ليفكه من الأسر. وكان الأعشى على ما يقوله الرواة قد هجا رجلا من "كلب"، فظفر به الكلبي وأسره، وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموأل وأحسن ضيافته، ومر بالأسرى، فناداه الأعشى بهذه القصيدة، فجاء شريح إلى الكلبي، وتوسل إليه بأن يهبه، فوهبه إياه، فأطلقه. وقال له: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك، فقال له الأعشى: إن تمام إحسانك إلي أن تعطيني ناقة ناجية، وتخليني الساعة، فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهبه لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه، فقال: قد مضى، فأرسل الكلبي في أثره، فلم يلحقه"1.
وقد اختلف في اسم "شريح" الذي خلص "الأعشى" من الأسر، فقد ذكر أنه "شريح بن حصن بن عمران بن السموأل"، وذكر أنه "شريح بن عمرو الكلبي" لا كما دعاه بذلك "ابن قتيبة"2.
وذكر "بروكلمان" اسم شاعر آخر من شعراء "آل عاديا"، هو الشاعر "سعيد بن الغريض" "سعيد بن غريض"، أخو السموأل. كما ذكر اسم "شعبة" حفيد السموأل3. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن "الغريض" لم يكن أخا للسموأل، بل ابنا له، وأن ما ذهب إليه "أبو الفرج الأصبهاني"، من أن "غريضا" كان أخا له، خطأ، لأن "شعبة"، كان قد اعتنق الإسلام وعاش إلى زمان الخليفة "معاوية"، أي إلى زمن بعيد عن "السموأل"، بل لا بد من أن يكون حفيدا له. أي أن الغريض كان ابنا للسموأل، وقد جعله يعيش في حوالي السنة "600" للميلاد، وجعل أيام "السموأل" في حوالي السنة "550" للميلاد4.
__________
1 الأغاني "19/ 99 وما بعدها"، ديوان الأعشى "126 وما بعدها"، "تحقيق رودلف كاير"، "rudolf geyer"، لندن 1928م"، ديوان الأعشى الكبير "179"، "تحقيق الدكتور م. محمد حسين".
2 الشعر والشعراء "1/ 182 وما بعدها".
3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 122" تأريخ دمشق، لابن عساكر "4/ 157".
4 Th. Noldeke, Beitrage Zur Kenntniss der Poesie der Alten Araber, S. 64, Hannouver, 1864(18/345)
ونسبت لشعبة بن غريض بن السموأل قصيدة هي:
لباب يا أخت بني مالك ... لا تشتري العاجل بالآجل
لباب داويني ولا تقتلي ... قد فضل الشافي على القاتل
لباب هل عندك من نائل ... لعاشق ذي حاجة سائل
عللته منك بما لم ينل ... يا ربما عللت بالباطل
إن تسألي بن فاسألي خابرا ... فالعلم قد يكفي لدى السائل
ينبيك من كان بنا عالما ... عنا وما العالم كالجاهل
أنا إذا جارت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل
واعتلج القوم بألبابهم ... في المنطق الفاصل والقائل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلطّ دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل1
كما نسبت له أبيات أولها:
يا دار سعدى بمفضى تلعة النعم ... حييت دارا على الإقواء والقدم2
ونسبوا له أبياتا في الخلان هي:
أرى الخلان لما قل مالي ... وأجحفت النوائب ودعوني
فلما أن غنيت وعاد مالي ... أراهم لا أبا لك راجعوني
وكان القوم خلانا لمالي ... وإخوانا لما خولت دوني
فلما مر مالي باعدوني ... ولما عاد مالي عاودوني3
روى أهل الأخبار أن "شعبة بن غريض"، عاش فأدرك أيام معاوية، وأن معاوية لما حج رأى شخصا يصلي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا؟ فقالوا: شعبة بن غريض، فأرسل إليه يدعوه، فأتاه رسوله، فقال: أجب أمير المؤمنين! قال: أو ليس قد مات! قيل فأجب معاوية. فأتاه فلم يسلم عليه بالخلافة. فقال له معاوية: ما فعلت بأرضك التي تكسي منها العاري
__________
1 Noldeke, beitrage, s, 65. f
2 المصدر نفسه "ص66".
3 المصدر نفسه "ص67".(18/346)
ويرد فضلها على الجار؟ قال: باقية. قال: أتبيعها؟ قال: نعم. قال: بكم؟ قال: بستين ألف دينار ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها. قال: لقد أغليت! قال: أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف، ثم لم تبال. قال: أجل. قال: فإذا بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك الذي يرثي به نفسه. قال: قال أبي:
يا ليت شعري حين أندب هالكا ... ماذا تؤبنني به أنواحي
أيقلن لا تبعد فرب كريهة ... فرجتها بشجاعة وسماح
لقد ضربت بفضل مالي حقه ... عند الشتاء وهبة الأرواح
ولقد أخذت الحق غير مخاصم ... ولقد رددت الحق غير ملاحي
وإذا دعيت لصعبة سهلتها ... أدعى بأفلح مرة ونجاح1
فقال: أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك! قال: كذبت ولولا مت. قال: أما كذبت فنعم. وأما لولا مت فكيف ولِمَ؟ قال: لأنك أنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الإسلام. أما في الجاهلية فقاتلت النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبت الوحي حتى جعل الله تعالى كيدك المردود. وأما في الإسلام، فمنعت ولد النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة وما أنت وهي! وأنت طليق. فقال معاوية: قد خرف الشيخ فأقيموه. فأخذ بيده فأقيم2.
وقد ذكر "ابن حجر" موجز هذه القصة، أخذه من "ابن أبي طيء" وقد رواها "عمر بن شبة" بسنده إلى "الهيثم بن عدي"، وذكر أن اسمه "سعنة بن عريض بن عاديا" التيماوي، نسبه لتيماء، وهو ابن أخي السموأل. ثم قال: "وحكى الخلاف في سعنة هل هو بالنون أو الياء؟ ووردت له أشعار في مجالس ثعلب، وروي أن من شعره قوله:
معتقة كانت قريش تعافها ... فلما استحلوا قتل عثمان حلت3
وقد نسب "ابن نباتة" في شرحه لرسالة "ابن زيدون" القصيدة المذكورة
__________
1 تجد هذه الأبيات بشكل آخر في طبقات ابن سلام "72".
2 th. Noldeke, beitrage
3 الاصابة "2/ 41"، "رقم 3245"، "2/ 112"، "3686".(18/347)
للسموأل1. وأثبت "ابن سلام" الأبيات المذكورة في طبقاته، على أنها من شعر "شعبة بن غريض"2.
و"شعبة" تصحيف "سيعة"، و "سيعة" من أسماء يهود3.
وأشير في حماسة "البحتري" إلى رجل من هذه الأسرة دعي "عريض بن شعبة"، وذكرت له هذه الأبيات:
ليس يعطي القوي فضلا من الرز ... ق ولا يحرم الضعيف الخبيث
بل لكلٍّ من رزقه ما قضى الله ... ولو كد نفسه المستميت4
ومن شعراء يهود "الربيع بن أبي الحقيق"، وهو من "بني قريظة" على ما جاء في كتاب الأغاني، غير أننا نجد "ابن هشام" صاحب السيرة، يذكر: "سلام بن أبي الحقيق"، وهو شقيق "الربيع"، و "كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق"، وهو أحد أبناء "الربيع" في جملة سادات "بني النضير". مما يدل على أن "الربيع بن أبي الحقيق" هو من "بني النضير". وقد قتل ابن أبي الحقيق بعد "الخندق"، وذلك أن "الأوس" لما أصابت "كعب بن الأشرف"، قالت الخزرج، والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا، فاستأذنوا النبي في قتل "ابن أبي الحقيق"، وهو بخيبر، فأذن لهم فقتلوه6. وقد جعله "ابن سلام" من بني النضير، ونسب له أبياتا دونتها في أول هذا الفصل7.
وذكر أن "الربيع بن أبي الحقيق" كان على رأس قومه يوم "بعاث" وذكر أنه كان قد التقى مع النابغة، وقد تسابقا في نظم أنصاف الأبيات8
__________
1 شرح رسالة ابن زيدون "54"، ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "31".
2 طبقات "72".
3 Levi Della Vida, in Rivista degli Orientali, VIII Roma, 1919-1921, and Levi Della Vida, A Proposito di AS_Samaw'al, In Rivista degli Orientali, XIII, 1931-1932, p. 52
4 الحماسة "232". Th. Noldeke beitrage, s. 71
5 ابن هشام، سيرة "2/ 178"، "حاشية على الروض الأنف"، الأغاني "21/ 61"، البيان "1/ 213"، "هارون".
6 ابن هشام، سيرة "2/ 209 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "2/ 209 وما بعدها".
7 طبقات "71"، "ليدن".
8 الأغاني "21/ 61".(18/348)
ونسب إلى "الربيع بن أبي الحقيق" شعر، هو:
سئمت وأمسيت رهن الفرا ... ش من جرم قومي ومن مغرم
ومن سفه الرأي بعد النهى ... وعيب الرشاد ولم يفهم
فلو أن قومي أطاعوا الحليـ ... ـم لم يتعدوا ولم يظلم
ولكن قومي أطاعوا الغوا ... ة حتى تعكس أهل الدم
فأوى السفيه برأي الحليـ ... ـم وانتشر الأمر لم يبرم1
وقد نسب "المرزباني "هذا الشعر إلى "كنانة بن أبي الحقيق"2، ومن بني النضير، وهو أخ الربيع.
ومن شعر الربيع قوله:
فلا تكثر النجوى وأنت محارب ... تؤامر فيها كل نكس مقصر
قاله يخاطب "أبا ياسر" النضيري، وهو أخو حيي بن أخطب، وكان من العلماء بالتوراة. وفيه وفي عبد الله بن صوريا، ووهب بن يهودا، نزل قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} 3.
ومن الشعر المنسوب إليه قوله:
إذا مات منا سيد قام بعده ... له خلف يكفي السيادة بارع
من أبنائنا والعرق ينصر فرعه ... على أصله والعرق للفرع فارع
وقوله:
يرمي إليّ بأطراف الهوان وما ... كانت ركابي له مرحولة ذللا
أنا ابن عمك إن نابتك نائبة ... ولست منك إذا ما لعبك اعتدلا
__________
1 الأغاني "21/ 92"، وهناك بعض الاختلاف في الروايات.
2 المرزباني، معجم "246"، "فراج".
3 البيان والتبيين "2/ 14".(18/349)
وقوله:
ترجو الغلام وقد أعياك والده ... وفي أرومته ما ينبت العود
وله أشعار أخرى في بني النجار1.
ولكعب بن الأشرف، وهو من سادة يهود الذين كانوا يحرضون قريشا وغيرهم على الرسول، أشعار في الحث على الانتقام من المسلمين لما أوقعوه بأهل مكة من قتل يوم بدر. ذكرت في سيرة "ابن هشام"2. وله أشعار أخرى افتخر بها بأهله وبماله وبنخيله التي تخرج التمر كأمثال الأكف، جاء فيها:
رب خال لي لو أبصرته ... سبط المشية إباء أنف
لين الجانب في أقربه ... وعلى الأعداء كالسم الزعف
وكرام لم يشنهم حسب ... أهل عز وحفاظ وشرف
يبذلون المال فيما نابهم ... لحقوق تعتريهم وعرف
وليوث حين يشتد الوغى ... غير أنكاس ولا ميل كسف3
ومن شعره في رثاء قتلى بدر قوله:
طحنت رحى بدر لمهلك أهله ... ولمثل بدر تستهل الأدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم ... لا تبعدوا إن الملوك تصرع4
ويشك "ولفنسون" في صحة نسبة هذه الأبيات إلى "كعب" ويرى احتمال كونها من الشعر المحمول عليه5.
__________
1 beitrage, s.75. ff
2 ابن هشام، سيرة "2/ 123 وما بعدها"، الأغاني "19/ 106"، الجمان في تشبيهات القرآن "131/ 333"، ديوان المعاني "2/ 39"، نهاية الأرب "11/ 125"، ابن هشام "2/ 125"، "حاشية على الروض الأنف".
3 الروض الأنف "2/ 125"، "الزعف"، ابن سلام، طبقات "71"، "وعلى الأعداد سم كالزعف"، ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "32"، المرزباني، معجم "231"، ابن الأثير "2/ 53".
4 ابن هشام "2/ 338"، ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "33"، ابن هشام "2/ 123"، "حاشية على الروض الأنف".
5 ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "33".(18/350)
وقد رد على شعر "كعب" هذا حسان بن ثابت، وامرأة من المسلمين، قالت:
تحنن هذا العبد كل تحنن ... يبكي على قتلى وليس بناصب
بكت عين من بكى لبدر وأهله ... وعلت بمثليها لؤي بن غالب
إلى آخر الأبيات.
فأجابها كعب بن الأشرف بقوله:
ألا فازجروا منكم سفيها لتسلموا ... عن القول يأتي منه غير مقارب
أتشتمني أن كنت أبكي بعبرة ... لقوم أتاني ودهم غير كاذب
فإني لباك ما بقيت وذاكر ... مآثر قوم مجدهم بالجباجب1
ويقال إن والده من "طيء". أما أمه، فمن بني النضير، وأنه شبب بنساء النبي ونساء المسلمين، فأمر الرسول بقتله، فقتله محمد بن مسلمة ورهط معه من الأنصار. وله مناقضات وهجاء مع "حسان بن ثابت" وغيره في الأيام التي وقعت بين الأوس والخزرج3.
ومن شعره الذي شبب فيه بأم الفضل بنت الحارث قوله:
أراحل أنت لم تحلل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم
صفراء رادعة لو تعصر انعصرت ... من ذي القوارير والحناء والكتم
يرتج ما بين كعبيها ومرفقها ... إذا تأتت قياما ثم لم تقم
أشباه أم حكيم إذ تواصلنا ... والحبل منها متين غير منجذم
إحدى بني عامل جن الفؤاد بها ... ولو تشاء شَفَتْ كعبا من السقم
فرع النساء وفرع القوم والدها ... أهل التحلة والإيفاء بالذمم
لم أرَ شمسا بليل قبلها طلعت ... حتى تجلت لنا في ليلة الظلم4
__________
1 ابن هشام "2/ 123"، "حاشية على الروض".
2 ابن سلام، طبقات "71"، المرزباني، معجم "231"، المقريزي، إمتاع الأسماع "1/ 107 وما بعدها".
3 الأغاني "19/ 106".
4 الطبري "2/ 488".(18/351)
ونسب له شعر في مدح "الحارث بن هشام"، هو:
نبئت أن الحارث بن هشام ... في الناس يبني المكرمات ويجمع
ليزور أثرب بالجموع وإنما ... يبني على الحسب القديم الأرفع1
ومن شعراء يهود "أوس بن دنى" القرظي. وذكر أن زوجته اعتنقت الإسلام في حياة الرسول، وطلبت منه اعتناقه كذلك، فقال:
دعتني إلى الإسلام يوم لقيتها ... فقلت لها لا بل تعالي تهودي
فنحن على توراة موسى ودينه ... ونعم لعمر الدين دين محمد
كلانا يرى أن الرشادة دينه ... ومن يهد أبواب المراشد يرشد2
وله أبيات أخرى ذكرها "نولدكه" في أثناء حديثه عن الشعراء اليهود3.
ولا نعرف من أمر "شريح بن عمران" شيئا يذكر، وقد روى له "ابن سلام" أربعة أبيات في المؤاخاة والصداقة، والبخل والمال4. وروى "نولدكه" له بيتين من قافية أخرى في الصداقة والصديق وحفظ العهد، هما:
آخ الكرام إذا وجد ... ت إلى إخائهم سبيلا
واشرب بكأسهم وإن ... تشرب به السم الثميلا5
وروى له قوله:
بجلي منك إذا ما خنتني ... ليس لي في وصل خوان إرب
لا أحب المرء إلا حافظا ... ربقة العهد على كل سبب6
__________
1 نسب قريش "301".
2 الأغاني "19/ 94"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 165"، NOLDEKE, & BEITRAGE,S.76.
3 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 77
4 ابن سلام، طبقات "72".
5 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 79. F
6 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 80(18/352)
وروى "ابن سلام" أبياتا من قصيدة تنسب إلى "أبي قيس بن رفاعة"1، قال "البكري": اسمه دينار، وقيل إنه: "أبا قيس بن رفاعة" الأنصاري، فهو ليس من يهود. ومن شعره:
منا الذي هو ما إن طر شاربه ... والعانسون ومنا المرد والمشيب
ونسب لأبي قيس بن الأسلت الأوسي2.
وروى "ابن سلام" قصيدة على قافية الدال مطلعها:
هل تعرف الدار خف ساكنها ... بالحجر فالمستوى إلى الثمد
دار لبهنانة خدلجة ... تبسم عن مثل بارد البرد
ذكر أنها لأبي الذيّال3. وأورد "البكري": له هذه الأبيات:
لم تر مثل يوم رأيته ... برعبل ما احمر الأراك وأثمرا
وأيامنا بالكبس قد كان طولها ... قصيرا وأيام برعبل أقصرا
فلم أر من آل السموأل عصبة ... حسان الوجوه يخعلون المعذرا4
ودرهم بن زيد الذي يقول:
هجرت الرباب وجاراتها ... وهمك بالشوق قد يطرح
يمانية نازح دارها ... تقيم بغمدان لاتبرح5
وأورد "ابن هشام" قصيدة لرجل من يهود سماه "سمال" اليهودي، يذكر فيها "بني النضير" مطلعها:
غداة غدوتم على ختفه ... ولم يأت غدار ولم يخلف
بقتل النضير وأحلافها ... وعقر النخيل ولم تقطف
__________
1 طبقات "72".
2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 716"، الأمالي "2/ 67".
3 طبقات "73"،NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 77. F
4 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 79
5 ابن سلام، طبقات "74".(18/353)
وقد رد بها على قصيدة نسبت لعلي بن أبي طالب على رأي ابن إسحاق، أو لغيره من المسلمين على رأي "ابن هشام" مطلعها:
عرفت ومن يعتدل يعرف ... وأيقنت حقا ولم أصدف1
ولما قال "كعب بن مالك" شعرا في إجلاء "بني النضير" وقتل "كعب بن الأشرف" مطلعه:
لقد خزيت بغدرتها الحبور ... كذاك الدهر ذو صرف يدور
أجابه "سمال" اليهودي، بقوله:
أرقت وضافني هم كبير ... بليل غيره ليل قصير
أرى الأحبار تنكره جميعا ... وكلهم له علم خبير
وكانوا الدارسين لكل علم ... به التوراة تنطق والزبور
قتلتم سيد الأحبار كعبا ... وقدما كان يأمن من يجير
تدلى نحو محمود أخيه ... ومحمود سريرته الفجور2
وكان "مرحب" اليهودي من الشعراء، ولما حاصر المسلمون "خيبر" خرج من حصنهم قد جمع سلاحه، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذ الليوث أقبلت تحزب
إن حماي للحمى لا يقرب3
ونسب إلى أحد اليهود بيت شعر، خاطب فيه "مالك بن العجلان" بقوله:
تسقيت قبله أخلافها ... ففيمن بقيت وفيمن تسود
فأجابه "مالك" بقوله:
إني امرؤ من بني سالم بن ... عوف وأنت امرؤ من يهود
__________
1 ابن هشام "2/ 179"، "حاشية على الروض".
2 ابن هشام "2/ 180"، "حاشية على الروض الأنف".
3 ابن هشام "2/ 238"، "حاشية على الروض الأنف".(18/354)
ولماهرب اليهود إلى بيعهم وكنائسهم، قال مالك:
تحانى اليهود بتلعانها ... تحاني الحمير بأبوالها
فماذا علي بأن يلعنوا ... وتأتي المنايا بإذلالها1
وفي المفضليات قصيدة لرجل يهودي لم يذكر اسمه مطلعها:
سلا ربة الخدر ما شأنها ... ومن أي ما فاتنا تعجب
فلسنا بأول من فاته ... على رفقة بعض ما يطلب
ومن شعراء يهود "أبو أثاية" القرظي3، و "أبو ياسر" النضيري4، وأبو القرثع اليهودي5. و "عمرو بن أبي صخر بن أبي جرثوم" اليهودي، "أبو حمضة". وله شعر في الجيران6، و "كعب بن أسد بن سعيد" القرظي اليهودي، من بني قريظة، جاهلي، له مع قيس بن الخطيم في يوم "بعاث" مناقضات7، و "مالك بن عمر النضيري"، وهو جاهلي8.
وذكر "المعري" اسم شاعر يهودي، ذكر أن اسمه "بُسمير بن أدكن"، "سمير بن أدكن"، من أهل خيبر، قال شعرا لما أمر "عمر" بإجلاء أهل الكتاب من جزيرة العرب، هو:
يصول أبو حفص علينا بدرة ... رويدك إن المرء يطفو ويرسب
كأنك لم تتبع حمولة ما قط ... لتشبع إن الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقا ما ظهرتم ... علينا ولكن دولة ثم تذهب
__________
1 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 83. FF
2 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 84. F
3 المرزباني، معجم "507".
4 المرزباني، معجم "515".
5 المرزباني، معجم "513".
6 المرزباني، "59".
7 المرزباني، معجم "232".
8 المرزباني، معجم "261".(18/355)
ونحن سبقناكم إلى اليمن فاعرفوا ... لنا رتبة البادي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا ... وبغيتكم أن تسودوا وترهبوا1
وذكر أن "جبل بن جوال بن صفوان بن بلال بن أصرم بن إياس بن عبد غنم بن جحاش بن مجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان" الشاعر الذبياني ثم الثعلبي، كان يهوديًا مع "بني قريظة" وكان قد رثى "حيي بن أخطب" بأبيات منها:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل
وقال بعض الناس إنها لحيي بن أخطب نفسه. وذكر أنه من ذرية "العطيون بن عامر بن ثعلبة" "الفطيون؟ "، وكان يهوديا فأسلم، وهو القائل لما فتح النبي خيبر:
رميت نطاة من النبي بفيلق ... شهباء ذات مناقب وفقار
وذكر أنه هو القائل:
ألا يا سعد سعد بني معاذ ... لما فعلت قريظة والنضير
تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حامية تفور
وزاد المرزباني فيها:
ولكن لا خلود مع المنايا ... تخطف ثم تضمنها القبور
كأنهم غنائم يوم عيد ... تذبح وهي ليس لها نكير
فأجابه حسان:
تعاهد معشرا نصرو علينا ... فليس لهم ببلدتهم نصير
هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... فهم عمي عن التوراة بور
كذبتم بالقرآن وقد أبيتم ... بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير2
__________
1 رسالة الغفران "441 وما بعدها"، "بنت الشاطئ".
2 الإصابة "1/ 23 وما بعدها"، "رقم 1071".(18/356)
وأورد "أبو الفرج الأصبهاني" أبيات شعر، نسبها إلى شاعرة يهودية سماها "سارة" القريظية، ذكر أنها قالتها في رثاء قومها بعد أن قتل "أبو جبيلة" أشراف اليهود:
بنفسي أمة لم تغن شيئا ... بذي حرض تعفيها الرياح
كهول من قريظة أتلفتها ... سيوف الخزرجية والرماح
رزئنا والرزية ذات ثقل ... يمر لأهلها الماء القراح
ولو أربوا بأمرهم لجالت ... هنالك دونهم جأوى رداح1
وذكر "الجاحظ" بيتين نسبهما لشاعرة يهودية، قالتهما في نفث الرقية والعثار، هما:
وليس لوالدة نفثها ... ولا قولها لابنها دعدع
تداري غراء أحواله ... وربك أعلم بالمصرع2
وقد جمع "ديلتج" أشعار يهود وتحدث عن أصحابها3.
__________
1 الأغاني "19/ 96"، ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "34".، NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 52. FF
2 الحيوان "6/ 359".
3 Delitzsch, Judisch – Arabische Poesien aus Vormuhammedanischer Zeit, Lepzig, 1874(18/357)
الفصل السادس والستون بعد المائة: الشعراء النصارى
وحديثنا عن الشعر النصراني، مستمد من الموارد الإسلامية. أما النصوص الجاهلية، فليس فيها أي شيء عن هذا الموضوع، وأما النصوص الأعجمية، فلم تحفل به أيضا، ولم تتطرق الموارد الإسلامية إلى الشعر النصراني نفسه، من حيث طبيعته ومادته، وما امتاز به عن الشعر الوثني، أو شعر الشعراء اليهود، وما سنذكره عن الشعراء النصارى، مستمد من أسماء آبائهم ومن أسمائهم التي تدل على كونهم من النصارى ومن الشعر المنسوب إليهم.
والشعراء النصارى الذين نص على نصرانيتهم أهل الأخبار، مثل "عدي بن زيد" العبادي، أو لم ينص على نصرانيتهم، وإنما يفهم من شعرهم ومن مواطنهم أنهم كانوا نصارى، هم من الحضر، من سكان القرى ومن قبائل اشتهرت بتنصرها، وقد وجدت النصرانية سبيلها إلى مواطن الحضر والأعراب فأقامت "بيعا" وكنائس للتبشير بالنصرانية، ولتعليم أتباعها أمور الديانة، وللإشراف على إدارة شئونهم الدينية، وقد كان أكثر من قام بالتبشير من غير العرب في بادئ الأمر، من روم ومن "بني إرم"، ثم انضم إليهم رجال دين عرب، كانوا قد تعلموا النصرانية في المدارس، وأظهروا فهما ونباهة فيها، فعينوا مبشرين ومعلمين لتعليم العرب والأعراب أصول النصرانية، ولنشرها في جزيرة العرب، وكان من المبشرين من يتنقل مع الأعراب، لهم خيامهم، يرتحلون بها من مكان إلى مكان، فعرفوا لذلك برهبان الخيام.(18/358)
"وكانت تنوخ في المرتبة الأولى بين عرب البادية الذين عرفوا بالنصرانية قبل الإسلام بزمن طويل. وقامت جماعة تنوخ على أساس حلف عقده بنو فهم وبنو تيم اللات مع قبائل من النزاريين وغيرهم. ومن شعراء تنوخ أسد بن ناعسة التنوخي الذي كان معاصرا لعنترة، وكان مولعا بالإكثار من الألفاظ الغريبة في قصائده، حتى كان الخليل نفسه يتشكك في تفسيرها في كتاب العين"1.
وقد كانت النصرانية واسعة الانتشار على عهد الرسول، في قضاعة، وربيعة وتميم، وطيء، وكان لها أتباع في القرى العربية، وبين الأعراب، وبواسطتهم عرف العرب شيئا عن النصرانية وعن رجالها الذين كانوا يقيمون في البيع، أو يسيحون في البلاد، ويرتحلون مع الأعراب طمعا في تنصيرهم، وفي تعليم المتنصرين منهم أمور الدين. فقد كان بمكة نفر من التجار النصارى، وجماعة من الرقيق الأسود والأبيض، كانوا على النصرانية2، وكان بيثرب بعض النصارى كذلك، وكذلك بالطائف. أما نجران، فكانت من مراكز النصرانية المهمة في ذلك العهد.
وقد ورد أن "طلق بن علي بن طلق بن عمرو" السحيمي الحنفي، وهو من سادة بني حنيفة باليمامة، كان نصرانيا، فلما ذهب إلى المدينة وشاهد الرسول أسلم أمامه، فلما أراد العودة أخبر رسول الله أن بأرضهم بيعة، فقال له الرسول ولمن معه: "إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم وابنوها مسجدا"، فكسروا بيعتهم واتخذوها مسجدا، ونضحوها بماء فضل طهور رسول الله، وكانواقد جاءوا به في إداوة، وكان يدير البيعة راهب من طيء، فارتحل عنهم.
وإذا صح هذا البيت المنسوب إلى حسان:
فرحت نصارى يثرب ويهودها ... لما توارى في الضريح الملحد3
فإن فيه دلالة على وجود نصارى ويهود بالمدينة عند وفاة الرسول.
ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر التحدث عن مدى تغلغل النصرانية في قلوب
__________
1 بروكلمان "1/ 124".
2 الاستيعاب "2/ 231"، "حاشية على الإصابة"، "طلق بن علي بن المنذر بن قيس ... "، خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "65"، ابن سعد، طبقات "5/ 402"، أسد الغابة "3/ 63".
3 ديوان حسان "59"، "هرشفلد".(18/359)
النصارى العرب. ولكننا نستطيع أن نقول قياسا على ما نعرفه من أحوال الأعراب وأحوال أهل القرى، أي الحضر، أن النصرانية كانت أوضح وأعمق جذورا في نفوس أهل المدر، منها في نفوس أهل الوبر. أما الأعراب فكانت نصرانيتهم اسمية في الغالب شأنهم شأن أعراب هذا اليوم، وأعراب كل زمان، متدينون بدين، ولكنهم لا يعرفون من دينهم إلا الاسم، دينهم الصحيح، الذي يغلب على نفوسهم هو دين الفطرة، أعني العرف الذي ولدوا ونشأواعليه. ولكن الرهبان ورجال الدين كانوا يتنقلون بين القبائل لتنصيرهم، حاولوا جهدهم تعليمهم قواعد النصرانية وأصولها، ومنها: عدم إغارة بعضهم على بعض، والعيش بعضهم مع بعض بسلام، حتى إنهم أثروا على بعض ساداتهم فحملوهم على الزهد والدخول في الرهبنة وكره الدماء، فذكر مثلا أنهم أثرواعلى "داود بن هبالة" سيد "بني سليح"، من قضاعة، فأدخلوه في النصرانية، "وكره الدماء وبنى ديرا، فكان ينقل الطين على ظهره والماء فسمي اللثق، فنسب الدير إليه، وأنزله الرهبان"، واعتزل الغزو إلى أن أمره ملك الروم به، فلم يجد بدا من أن يفعل، وقد كانت العرب تتهم القبائل العربية المتنصرة بعدم قدرتها على القتال، وتستهين بها إذا ما التحمت بها في قتال.
والشعر النصراني، شعر سهل لين بالنسبة إلى شعر الشعراء الأعراب، وقد علل علماء الشعر ذلك بكون هؤلاء الشعراء من سكنة القرى والأرياف، ومن سكن القرية أو الريف لان لسانه ورقّ كلامه، ولهذا قالوا إن في شعر شعراء القرى لا مثل أهل مكة ويثرب ليونة، لأنهم لم ينبتوا في البوادي، ولم يقاسوا ما يقاسيه الأعراب من خشونة وشدة وضنك في الحياة، بل عاشوا في استقرار وأمان في حياة ناعمة بالقياس إلى حياة الأعراب، ولهذا لان لسانهم، وسهل شعرهم، وصار من السهل على صناع الشعر ومزوريه صنع الشعر على ألسنتهم، كالذي فعلوه من وضع شعر كثير على لسان "عدي بن زيد" العبادي النصراني، وعلى شعر أمية بن أبي الصلت، وهو من شعراء ثقيف، وعلى شعر "حسان بن ثابت"، وهو من شعراء يثرب.
ولا يختلف الشعر النصراني عن شعر الشعراء الوثنيين بشيء، اللهم في تطرق
__________
1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة من نوادر المخطوطات" "ص127".(18/360)
شعر "عدي بن زيد" وأضرابه إلى معان دينية، وإلى إشارات إلى بعض معالم نصرانية. أما فلسفة نصرانية، أو حديث عن التثليث أو عن العقائد النصرانية الأساسية التي تميز النصراني المتدين عن غيره، فلا تجد لها ولا لأمثالها موضعا في هذا الشعر. نعم لقد تطرق "عدي بن زيد"، وكذلك الأعشى إلى قصص مستمد من أصول نصرانية، كما تطرق إلى أعياد نصرانية، ولكننا نجد في شعر غيرهم إشارات إلى الأديرة والكنائس والرهبان والرهبنة ومصطلحات نصرانية وأشياء أخرى عرفوها من احتكاكهم بالنصارى، ومن سماعهم شيئا عن النصرانية من النصارى العرب، تجعل من الصعب على الباحث أن يجد فرقا كبيرا بين شعر الشعراء النصارى وشعر الشعراء الوثنيين. ولهذا ذهب بعض المستشرقين إلى أن من الصعب التحدث عن وجود نصراني عربي له ميزات امتاز بها عن الشعر الوثني قبل الإسلام1.
ومن النصارى "العباد"، وهم عرب تنصروا، ولم يكونوا من قبيلة واحدة، وإنما كانوا من مختلف العرب. ولفظة "العباد" لفظة خصصت بنصارى الحيرة خاصة. ويذكر في الحديث المسند: "أبعد الناس عن الإسلام: الروم والعباد"2. ويظهر أن مرد ذلك، هو أن الروم والعباد، كانوا أصحاب ديانة ورجال دين ومؤسسات دينية منظمة، ومدارس، وثقافة، فكان من الصعب عليهم وكلهم نصارى، نبذ دينهم والدخول في الإسلام، لاعلى نحو العرب الوثنيين، الذين لم تكن لهم كتب دينية، ولا منظمات دينية، وكل ما كان عندهم عرف وعادات وتمسك بأصنام جبلوا على عبادتها، ولهذا كان تحولهم عنها أسهل من تحول العباد عن دينهم. وفي جملة "العباد" "بنو امرئ القيس بن زيد مناة" وإليهم ينسب "عدي بن زيد"3.
وقد أدخل "كارلو نالينو" "أبا دؤاد" الإيادي في عداد الشعراء النصارى4،
__________
1 George Graf, Geschichte der Christlichn Arabischen Literatur, I, S. 32, Siegmund Frankel, Die Aramaischen Fremdworter im Arabischen, Leiden, 1886, S. 267, Tor Andrae, Der Hrsprung der Islams, S. 32. ff
2 الروض الأنف "1/ 53".
3 سيرة ابن هشام "1/ 53"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/ 53".
4 كارلو نالينو "89".(18/361)
ولكني لم أجد في شعره ما يشير إلى تنصره، فلعله أدخله في النصرانية، لما عرف عن انتشارها بين إياد، وهو "أبو دؤاد جارية بن الحجاج"، ويقال: "جويرية بن الحجاج بن يحمر بن عصام بن منبّه بن حذافة بن زهر بن إياد بن نزار بن معد"، وقيل: "حنظلة بن الشرقي" شاعر قديم من شعراء الجاهلية، وكان وصّافا للخيل، وأكثر أشعاره في وصفها. ذكر أهل الأخبار أن "ثلاثة كانوا يصفون الخيل لا يقاربهم أحد: طفيل، وأبو دؤاد، والنابغة الجعدي. فأما أبو دؤاد، فإنه كان على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر، وأما طفيل فإنه كان يركبها، وأما الجعدي فإنه سمع من الشعراء فأخذ عنهم". وقال "أبو عبيدة": "أبو دؤاد أوصف الناس للفرس في الجاهلية والإسلام، وبعده طفيل الغنوي والنابغة الجعدي"1. وله شعر في المدح والفخر، لكن شعره في الخيل أكثر2. ومما يلفت النظر، أن يكون أكثر شعر أبي دؤاد في وصف الخيل، ثم يكون مدحه لقومه بأنهم "أهل البغال". حيث ورد في شعر هو:
نشدتكم بالله يا أهل البلد ... هل سابق فيكم لمجد من أحد
إلا إياد بن نزار بن معد ... أهل البغال والقباب والعدد
ما سامهم في الدهر ملك بعقد3
وإني أشك في هذاالشعر، فأسلوبه لا يدل على أنه من أساليب شعراء الجاهلية، ولا سيما الشطر الأول من البيت الأول، ثم إن هذا النسب المسطور في الشطر الأول من البيت الثاني، هو نسب ظهر في الإسلام، وعرف في أيام الأمويين.
وذكر أن "الحجاج" كان معروفا بـ "حمران". ولذلك قيل لأبي دؤاد: "جارية بن حمران". وقيل له: "حارثة بن الحجاج"، كماقيل له: "جريرة"، و"حوثرة"، ويظهر أن مصدر هذا الاختلاف هو وقوع النساخ في أخطاء في أثناء تدوين الأسم، فاختلط الأمر عليهم بين "جارية" و "حارثة".
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 359"، تاج العروس "2/ 347"، "داد"، الأغاني "15/ 91"، الخزانة "4/ 190"، المؤتلف والمختلف "115"، الموشح "73"، الأغاني "16/ 91 وما بعدها"، "ساسي"، الشعر والشعراء "1/ 161 وما بعدها"، العيني "2/ 391".
2 الأغاني "15/ 95"، غرونباوم "262".
3 غرونباوم "302"، وهو من الرجز، منقول من جمهرة ابن الكلبي، الورقة أ3.(18/362)
وبين "جويرية"، و "جريرة"، و "حوثرة"1، وهو اختلاف طالما نجده في أسماء وألقاب الأشخاص الجاهليين، يقع بسبب التصحيف.
وهو من "بني حذاقة"، كما يظهر من شعر ينسب لطرفة، وقد أشار "أبو دؤاد" في القصيدة الميمية التي تنسب إليه إلى "حذاق" بقوله:
من رجال من الأقارب فادوا ... من حذاق هم الرءوس الكرام2
وحذاق قبيلة من إياد.
وكان شاعرنا من إياد، وقد تزوج امرأة من قبيلته، ماتت بعد أن تركت له صبيا اسمه "دؤاد"، فتزوج امرأة أخرى، طلقها لأنها كانت تمقت ابنه، وكان ابنه شاعرا، رثى والده يوم وفاته. وقد تزوج "أبو دؤاد" امرأة أخرى هي "أم حبتر" لكنها طلقته لتبذيره وإسرافه، وللخصومات التي كانت تقع بينهما3. ويظهر أنه ترك ابنة اسمها "دؤادة"4.
وقد ذهب "بروكلمان" إلى أنه كان من المعاصرين للمنذر بن ماء السماء، الذي قدر وقته فيما بين حوالي "506" و "554" للميلاد5. وذهب "فون غرونباوم" إلى أنه كان حيا من سنة 480 إلى حوالي "540-550" للميلاد6.
وقد ورد اسم "أبو دؤاد" في شعر "طرفة"، كماذكره "الأسود بن يعفر"، الشاعر نديم "النعمان بن المنذر"، حيث يقول:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
__________
1 "وأبو دؤاد الإيادي، وهو حوثرة بن الحارث بن الحجاج"، اليعقوبي "1/ 223"، "طبعة النجف"، العيني "3/ 445"، غوستاف فون فرغونباوم، دراسات في الأدب العربي "ص255".
2 الشعر والشعراء "1/ 162"، الخزانة "4/ 191"، "بولاق".
3 الأغاني "15/ 95 وما بعدها"، غرونباوم، دراسات "258"، الآمدي، المؤتلف "116".
4 الأغاني "15/ 98 وما بعدها"، غرونباوم، دراسات "258 وما بعدها".
5 بروكلمان "1/ 118".
6 دراسات في الأدب العربي "256 وما بعدها".(18/363)
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد1
وكعب بن مامة من إياد، وابن أم دواد، هو الشاعر أبو دؤاد "أبو داود" الإيادي. و "أنقرة" موضع بالعراق على مقربة من الحيرة2. ويظهر من هذا الشعر، أن "إيادا" أو فرعا منها، نزلوا بأنقرة، بزعامة كعب بن مامة والشاعر "أبو دؤاد".
وكان في عصر "كعب بن مامة" الإيادي، الذي آثر بنصيبه من الماء رفيقه "النميري" فمات عطشا، فضرب به المثل في الجود، وبلغه عنه شيء فقال:
وأتاني تقحيم كعب إلى المنـ ... ـطق إن النكيثة الأقحام
في نظام ما كنت فيه فلايحـ ... ـزنك قول لكل حسناء ذام
ولقد رابني ابن عمي كعب ... إنه قد يروم ما لا يرام
غير ذنب بني كنانة مني ... إن أفارق فإنني مجذام
وكان بعض الملوك أخافه، فصار إلى بعض ملوك اليمن فأجاره فأحسن إليه، فضرب المثل بجار أبي دؤاد، قال طرفة:
إني كفاني من هم هممت به ... جار كجار الحذاقي الذي انتصفا
والحذاقي هو "أبو دؤاد"، والحذاق قبيلة من إياد.
ويقال: إنما أجاره الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وذلك أن قباذ سرح جيشا إلى إياد، فيهم الحارث بن همام، فاستجار به قوم من إياد فيهم أبو دؤاد، فأجازهم.
وذكر أن جار "أبي دؤاد" هو كعب بن مامة3، وكان "أبو عبيدة"
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 176"، "الأسود بن يعفر".
2 تاج العروس "2/ 582 "، "نقر".
3 الشعر والشعراء "1/ 161 وما بعدها"، الخزانة "1/ 408 وما بعدها"، "بولاق".(18/364)
يذكر أن جار "أبو دؤاد"، هو "كعب بن مامة"، وأنشد لقيس بن زهير بن جذيمة في ربيعة بن قُرط:
أحاول ما أحاول ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دؤاد1
ويظهر أن "قباذ" لما أرسل جيشاعلى "إياد" هربت من مواطنها فأجازها "الحارث بن همام". وورد في رواية أن جدبا حل بإياد، فاضطرت بطونها إلى الارتحال إلى مواضع أخرى، وكانت لهم ناقة اسمها "الزباء"، كانوا يتبركون بها، فخرجت تلتمس لهم الخصب والمرعى، حتى بركت بالحارث بن همام، فنزلت إياد عنده، وأجارهم2.
وتذكر رواية أن "الحارث بن همام" ودى ابنا لأبي دؤاد. غرق حين كان أبو دؤاد في جواره، فمدحه. فحلف الحارث أنه لا يموت لأبي دؤاد ولد، إلا وداه، ولا يذهب له مال إلا أخلفه عليه3.
ويرى "غرونباوم" أن "أبا عبيدة"، هو الذي صير "كعب بن مامة" الإيادي جار "أبي دؤاد"، وقد تابعه من جاء بعده على ذلك، فصار "كعب" بذلك مجير شاعرنا، بينما هو "الحارث بن همام"4. وسبب ذلك أن "كعبا" كان قد اشتهر بالكرم والإيثار وتقديم الغريب على نفسه، حتى إنه ضحى بنفسه في سبيل صاحبه "النميري" حتى فضله بعض أهل الأخبار على "حاتم" الطائي في الجود5. ثم إن كعبا من إياد، فربما فضل بنو إياد أن يكون منهم أسخى وأكرم رجل في العرب، على أن يكون من غيرهم، ولذلك افتخروا به، فنسبوا الجوار له، وحذفوه من "الحارث بن همام"، وهو من "بني شيبان".
وهناك رواية تجعل "المنذر" جارا لأبي دؤاد، لأنه ودى أبناء "أبي دؤاد"، ودى كل ابن بمائتي بعير، حينما قتلهم "رقبة بن عامر" البهراني، وكان رقبة
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 162".
2 غرونباوم، دراسات "259".
3 المصدر نفسه "259".
4 غرونباوم، دراسات "259 وما بعدها".
5 البخلاء، للجاحظ "158، 218، 382"، ثمار القلوب "98 وما بعدها"، المحاسن والأضداد "54"، الحيوان "2/ 37"، البيان والتبيين "1/ 112".(18/365)
في جوار المنذر1. وذكر "البغدادي"، أن أحد المملوك أحسن إلى "أبي دؤاد" وأجاره، فضرب المثل بجار "أبي دؤاد"، ولم يذكر اسم الملك. قال طرفة:
إني كفاني من أمر هممت به ... جار كجار الحذاقي الذي انتصفا2
وقد ذكر "البغدادي" في الجزء الأول من الخزانة في تفسير بيت قيس بن زهير بن جذيمة:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دواد
"وأبو داود، هو أبو دواد الإيادي الشاعر المشهور، وجاره كعب بن مامة الإيادي، الجواد المشهور، وقيل: بل هو الحارث بن همام بن مرة، وكان أسر أبا دواد ناس من قومه فأطلقهم وأكرم أبا دواد وأجاره فمدحه أبو دواد وأعطاه، وحلف أن لا يذهب له شيء إلا أخلفه له. ويقال إن ولد أبي دواد لعب مع الصبيان في غدير فغمسوه فمات، فقال الحارث: لا يبقى صبي في الحي إلا غرق. فودى ابنه بديات كثيرة"3.
ونسب بعض رواة الشعر إلى القصيدة التي أولها:
أعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيا في شماريخ بيض
وهي قصيدة تنسب أيضا إلى "امرئ القيس".
ونسب "الأصمعي" له قوله:
ويصيخ أحيانا كما اسـ ... ـتمع المضل دعاء ناشد5
وقد تمثل بشعره، ومما تمثل به قوله:
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونارا تحرق بالليل نارا
__________
1 الأغاني "15/ 99"، غرونباوم "260".
2 الخزانة "4/ 191".
3 الخزانة "1/ 408"، "بولاق".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 403".
5 رسالة الغفران "409".(18/366)
وقوله:
الماء يجري ولا نظام له ... لو وجد الماء مخرقا خرقه1
ومن شعره:
ترى جارنا آمنا وسطنا ... يروح بعقد وثيق السبب
إذا ما عقدنا له ذمة ... شددنا العناج وعقد الكرب
أخذه الحطيئة، فقال:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وكان الحطيئة من المقدرين لشعره. قيل له من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول:
لا أعد الإقتار عدما ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
من قصيدة تعد من أجود شعره2.
ومن شعره قطعة هجا فيها رجلا اسمه "امرؤ القيس بن أروى"، إذ يقول فيه:
امرأ القيس بن أروى موليا ... إن رآني لأبوأن بسبد
قلت بجلا قلت قولا كاذبا ... إنما يمنعني سيف ويد3
وقد وضع "غرونباوم" قبل هذين البيتين: بيتا هو:
وفتو حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد4
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 163"، "الثقافة".
2 الشعر والشعراء "1/ 162"، "الثقافة".
3 اللسان "3/ 202"، "بحرا"، "سبد"، "بجرا"، تاج العروس "2/ 370"، "سبد". وقد ورد البيتان على هذه الصورة: قال أبو دؤاد الأيادي:
امرؤ القيس بن أروى مقسم ... إن رآني لأبوأن بفند
قلت بجلا قلت قولا كاذبا ... إنما يمنعني سيف ويد
تاج العروس "7/ 231"، "بجل".
4 غرونباوم، دراسات "305".(18/367)
وقد ورد في "اللسان" وفي "التاج" على هذه الصورة:
في فتو حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن مضر1
وعندي أن هذا البيت من الشعر المصنوع، لأن هذا النسب، لم يعرف إلا في الإسلام، ولا يوجد دليل يثبت وقوف الجاهليين عليه. وهو على الصورة التي ورد عليها في لسان العرب وفي تاج العروس خطأ، لأن نزارا ليس ابن مضر في عرف أهل الأنساب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك في باب العرب المتعربة.
وقد نسب هذا البيت إلى "الحارث بن دوس الإيادي"2.
ونجد الشاعر يرثي رجلا اسمه "أبو بجاد"، نعته بـ "أبي الأضياف في السنة الجماد"، وهذا الوصف هو من الأوصاف الدالة على غاية الكرم، إذ يلجأ الناس إليه في أيام الجوع وانحباس المطر وحصول القحط، حيث يجب أن يبخل الإنسان بماله من الإسراف في إنفاقه، أما هو فلكرمه لا يحفل بسنة المحل سنة الجماد، بل يعطي وينفق على كل من يلجأ إليه مستجيرا. ولا نعلم من خبر "أبي بجاد" هذا شيئا يذكر3. وقد ورد في "تاج العروس": وأبو البجاد شاعر سمي ببيت قاله:
فويل الركب إذ آبوا جياعا ... ولا يدرون ما تحت البجاد4
ولكن هل توجد صلة بين "أبي بجاد" الممدوح، وبين "أبي البجاد" الشاعر؟ وجوابي: لا.
وقد أشار "أبو دؤاد" إلى قتال وقع بين "بني شهران" وبين قوم آخرين لم يشر إلى اسمهم، وذلك في هذا البيت:
ولت رجال بني شهران تتبعها ... خضراء يرمونها بالليل من شمم5
__________
1 اللسان "3/ 77"، "أيد"، تاج العروس "2/ 293"، "آد".
2 العمدة "2/ 79".
3 تاج العروس "5/ 99"، "هض"، اللسان "9/ 116"، "هض".
4 تاج العروس "2/ 264"، "بجد".
5 غرونباوم، دراسات "56".(18/368)
وينسب رواة الشعر له شعرا زعم أنه قال فيه:
ضربنا على تبع جزية ... جياد البرود وخرج الذهب
وولى أبو كرب هاربا ... وكان جبانا كثير الكذب
وأتبعته فهوى للجبين ... وكان العزيز لها من غلب1
وتبع، لقب يطلقه العرب على ملك حمير، فيقولون تبابعة اليمن، يريدون ملوك اليمن. والتبع "أبو كرب" هو الملك: "أبو كرب أسعد" وهو ابن الملك "ملك كرب يهأمن"، الذي حكم من سنة "385" حتى السنة "420" للميلاد2. ولكن كيف ضرب "إياد" الجزية على "تبع"، وكيف وصل الشاعر إلى اليمن البعيدة عن إياد؟ قد يقال إنه أشار إلى غزو قام به أحد ملوك الحيرة على "أبي كرب أسعد"، تبع اليمن، انتصر فيه ملك الحيرة على التبع، وكان هو وقومه قد ساهموا فيه، ولكننا لا نستطيع التأكد من ذلك، إذ من يثبت لنا أن هذا الشعر هو شعر صحيح، لم تصنعه العدنانية على لسانه في الإسلام حتى نصدق بصحة الخبر!
ونجد في شعره إشارة إلى "قباذ"، والي "الحضر"، إذ يقول:
أين ذو التاج والسرير قباذ ... خبنته الأيام فباد إحدى الخبون
ولقد عاش آمنا للدواهي ... ذا عتاد وجوهر مخزون
وأرى الموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون
صرعته الأيام من بعد ملك ... ونعيم وجوهر مكنون
ملك الخضر والفرات فما دجلة ... شرقا فالطور من عابدين
ولقد كان في كتائب خضر ... وبلاط يشاد بالآجرون3
و"قباذ" ملك من الساسانين حكم من سنة "483-531" بعد الميلاد، وأما"الساطرون" فقد تحدثت عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب4.
__________
1غرونباوم، دراسات "291".
2 راجع الجزء الثاني من هذاالكتاب "ص 574".
3 حماسة البحتري "87"، تاج العروس "2/ 261"، "9/ 214"، الأمالي، للشجري "1/ 100، 361"، غرونباوم، دراسات "345".
4 "615 وما بعدها".(18/369)
ولدينا قطعة من الشعر نسبت إليه، وردت فيها أسماء مواضع مثل: "هضب ذي الأسناد"، و "السيلحين"، و"برقة الأثماد"، ثم أشار إلى معركة وقعت بين "إياد" قومه وبين "تنوخ" انتصفت فيها "إياد" من تنوخ إذ يقول:
ولقد صببن على تنوخ صبة ... فجزيتهم يوما بيوم قحاد1
وكان علماء العربية لايستشهدون بشعر "أبي دؤاد" ولابشعر "عدي بن زيد العبادي"، لأن ألفاظهما ليست بنجدية2.
ذكر "الجاحظ" أن "أبا إياس" النصري، وكان أنسب الناس، كان يقول: "كانوا يقولون: أشعر العرب أبو دواد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي"3. ويروي "الأصمعي" أن الرواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد، لأن ألفاظهما ليست بنجدية، ولمخالفتهما مذاهب الشعراء4، ولم يكن "الأصمعي" ممن يهوى إليه كثيرا، بدليل أنه جعل شعره صالحًا غير أنه لم يجعله في عداد فحول الشعراء5.
وورد في الأخبار أن "الحطيئة"، كان يرى أنه أشعر الناس. فقد ورد أن "سعيد بن العاص" سأل "الحطيئة": أي الناس أشعر؟ قال: الذي يقول:
لا أعد الإقتار عدما ولكن ... فقد من قد رزئته الأيام
وقائل هذا البيت، هو أبو داود الإيادي6.
وكان "أبو الأسود الدؤلي"، وهو من الحذاق العالمين بالشعر، يتعصب له7.
__________
1 غرونباوم "310 وما بعدها"، وقد أشار إلى الموارد التي أخذ منها تلك الأبيات.
2 الشعر والشعراء "120"، الأغاني "16/ 91 وما بعدها"، الموشح، للمرزباني "73"، الجرجاني، الوساطة "47"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 119، 126"، الشعر والشعراء "1/ 162"، "دار الثقافة".
3 البيان والتبيين "1/ 323".
4 الأغاني "15/ 97"، "الخزانة "4/ 191"، الموشح "73".
5 غرونباوم "261".
6 رسالة الغفران "575"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 360".
7 غرونباوم "261".(18/370)
وكانت "إياد" تفخر بشاعرها "أبي دؤاد"، وتقول: منا أجود العرب: كعب بن مامة، ومنا أشعر الناس: أبو دؤاد، ومناأنكح الناس: أبو الغز1. وقد ادعت إياد أن الشعر بدأ بها، لأنه بدأ بأبي دؤاد2.
وقد استشهد علماء شواهد النحو ببيت له، هو:
ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهن المهار
وقد ذكر السيوطي أنه من قصيدة طويلة عدتها ثمانية وسبعون بيتا3.
وقد عده بعض أهل الأخبار في الشعراء المقلين4. ونجد له شواهد في الاتعاظ والأمثال وفي الشعر الجيد وفي أمور النحو، وفي البديع5. "ولدينا أحد عشر مطلعا لإحدى عشرة قصيدة من قصائد أبي دؤاد وكلها مصرّعة"6. ويرى "غرونباوم" قلة ما في شعر "أبي دؤاد" من الإقواء، فلم يقف في شعره إلاعلى إقواءين، ووجد بيتين، أحدهما من الرجز والآخر من الوافر، يبدو فيهما شيء من عدم الاستواء. وله مزايا خاصة استعملها في تفعيلات الخفيف. وأرى أن التشعيت الذي لاحظه "العيني" في الأصمعية "72"، "لا يعد خطأ، بل هو مظهر من مظاهر التطور الفني في هذاالوزن، مظهر استنكر أو نسي مع الزمن حين ظهر علم العروض، بعد حوالي قرنين من وفاة أبي دؤاد"7.
وقد شرح ديوان "أبي دؤاد" العالم "ابن السكيت"، وقد نقل منه "البغدادي" في الخزانة8. وقد ذكر "البغدادي" أن "لأبي دؤاد" ديوانا وقف عليه وأخذ منه، غير أنه لم يذكر اسم جامعه9. وفي الشعر المنسوب إليه
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 359"، الأغاني "15/ 97 وما بعدها".
2 المزهر "2/ 477"، "تنقل الشعر في القبائل".
3 الخزانة "4/ 189 وما بعدها"، "بولاق".
4 المزهر "2/ 486"، "المقلون من الشعراء".
5 راجع البيت الخامس عشر من الأصمعية 29، والبيت الثالث من القطعة "48"، غرونباوم "262"، الباقلاني، إعجاز "79"، النويري "7/ 112".
6 غروناوم "266".
7 غرونباوم "267 وما بعدها".
8 الخزانة "4/ 190".
9 الخزانة "1/ 9".(18/371)
شعر مصنوع، وقد ذكر أن "خلف الأحمر" صنع على أبي دؤاد أربعين قصيدة1. ونجد في الشعر الذي جمعه "غرونباوم" لأبي دؤاد شعرا لا يصح أنه من شعره، كما أن في شعره ما نسب لغيره، ومنهم شعراء من إياد، مثل "أبي المنذر" الإيادي2.
ومن شعراء "إياد": "لقيط بن يعمر"، وقيل "معمر" الإيادي. وإياد من قبائل "نزار"، ومن أكثر قبائل هذا الحلف عددا، قيل إنهم كانوا لقاحا لا يؤدون خرجا، وهم أول معدي خرج من تهامة، فنزلوا السواد، وغلبواعلى ما بين البحرين إلى "سنداد" و "الخورنق". وكانوا أغارواعلى أموال لأنوشروان فأخذوها، فجهز إليهم الجيوش، فهزموهم مرة بعد مرة، ثم إن إيادا ارتحلوا حتى نزلوا الجزيرة، فوجه إليهم كسرى بعد ذلك ستين ألفا في السلاح، وكان "لقيط" متخلفا عنهم بالحيرة، فكتب إليهم:
سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد
بأن الليث كسرى قد أتاكم ... فلا يشغلكم سوق النقاد
أتاكم منهم ستون ألفا ... يزجون الكتائب كالجراد
فاستعدت إياد لمحاربة جنود كسرى، ثم التقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، أصيب فيه من الفريقين، ورجعت عنهم الخيل، ثم اختلفوا بعد ذلك، فلحقت فرقة بالشام، وفرقة رجعت إلى السواد، وأقامت فرقة بالجزيرة. ونسبوا له قصيدة أخرى، ذكروا أنه نظمها في هذه القصيدة3. من جملة ما ورد فيها:
قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا
هيهات ما زالت الأموال من أبد ... لأهلها إن أصيبوا مرة تبعا
ومنها قوله في اختيار الرئيس وتدبير الحرب والانصياع للقائد:
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
__________
1 غرونباوم "260"، الموشح "252".
2 غرونباوم "281 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "1/ 129 وما بعدها"، الأغاني "20/ 23"، بروكلمان "1/ 112".(18/372)
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به جزعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم السن لا قحما ولا ضرعا1
وأنا إذ أذكر "لقيط بن يعمر" في هذا الفصل، فلا أريد بذلك إثبات أنه كان من الشعراء النصارى، لأني لا أملك نصا بذلك، إنما أدخلته هنا لمجرد أنه شاعر من شعراء إياد، كما أدخلت "أباد دؤاد" الإيادي فيه لما ذهب "نالينو" إلى أنه من النصارى، وقد كانت النصرانية متفشية في إياد وتغلب، وقبائل أخرى من قبائل العراق وبلاد الشام، والبادية التي بينهما.
أما "عدي بن زيد" العبادي، فهو نصراني من غير شك، فالعباديون، نصارى، وأطلقت اللفظة عند العرب على النصارى، نصارى الحيرة، كما نص أهل الأخبار على تنصره. وقد كان شعره سهلا لينا، بعيدا عن شعر شعراء نجد، قال الأصمعي": "كانت الرواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"2 أو "لأن ألفاظهما ليست بنجدية"3. وقد روى "الجواليقي" له شعرا في كتابه "المعرب"، وهو كتاب ألفه في المعربات، وفي استشهاده بشعره دلالة على تأثره بالآرامية وبالفارسية التي درسها في "الكتاب"4.
وإذا أخذنا بمذهب "الأصمعي" من أن الرواة كانت لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زياد، لمخالفتهما مذاهب الشعراء، وما ذكره غيره لأن ألفاظهما ليست نجدية، ولأن عديا سكن الريف، فلأن شعره وبان ذلك على لسانه، ولأنه تأثر بلغة أهل الحيرة، واستعمل ألفاظهم، وما شاكل ذلك من حجج، وجب علينا رفض الاستشهاد بشعر "أمية بن أبي الصلت" كذلك، فقد كان من أهل قرية، وقد استعمل في شعره ألفاظا لم تعرفها العرب، وقرأ الكتب، كما يجب إدخال الأعشى معهما أيضا، لأنه خالط أهل الريف، واتصل بالحضر وبالأعاجم، واستعمل في شعره ألفاظا معربة، كما اختلف مذهبه في الشعر عن
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 114 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 130".
2 الأغاني "2/ 18"، "15/ 91 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "1/ 162".
4 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "90".(18/373)
مذهب شعراء البادية الأعراب، فضلا عن كونه من أهل اليمامة، وأهل اليمامة ممن اختلط لسانهم بلسان أهل اليمن، وتأثر بهم.
ويخالف شعر "عدي" شعر شعراء نجد في ابتعاده عن الأعاريض الطويلة وميله إلى الأعاريض القصيرة، كما يخالفهم في أسلوب خمرياته، فهو في وصفه الخمر قريب من أسلوب "الأعشى" في الخمريات. وله أوصاف بديعة للخمر، تعبر عن مع أن حضري، نابعة من طبيعة القرى والريف، وبهذا الوصف اختلف عن وصف امرئ القيس أو غيره من الشعراء للخمر. كما امتاز بوصفه القيان ومجالس الشرب، وما كانت تولده له من نشوة وطرب، واتخذ "عدي" من الخمر، فلسفة دفعته إلى الزهد ونبذ الغرور، لأن الدنيا زائلة، وكل شيء فيها لا بد وأن ينتهي إلى زوال. وهو شعر انبثق من طبيعة "عدي بن زيد" ثم من الأحوال التي مرت عليه، والتي انتهت به إلى السجن، بعد أن وصل أعلى ما يصل إليه إنسان في زمانه وفي مكانه.
واتخذ "عدي" من القصص القديم عبرا وجهها من سجنه إلى "النعمان" وإلى الشامتين به، الحاسدين له، الذين كانوا سبب نكبته، بأن قال:
أيها الشامت المعير بالدهـ ... ـر أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك ... أنو شروان أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم ... لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذا ... دجلة تجبي إليه والخابور
شاد مرمرا وجلله كلـ ... ـسا فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد المـ ... ـلك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ شـ ... ـرف يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه فقال وما غبطة ... حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والأ ... مة وأرتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورق جـ ... ـف فألوت به الصبا والدبور1
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 150 وما بعدها".(18/374)
وله شعر آخر أوله:
أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم فرماك الشوق قبل التجلد
قال فيه:
أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
ذريني فإني إنما لي ما مضى ... أمامي من مالي إذا خف عودي
وحمت لميقات إلي منيتي ... وغودرت قد وسدت أو لم أوسد1
وهو شعر نبع من واقع حاله الذي صار إليه، فهو لا يدري متى وفي أية ساعة ستأتيه منيته. ومن زج في سجن مثل سجنه، وصار في حال مثل حاله، يكون قلقا لا يدري ما الذي سيكون مصيره، فهو شعر يعبر عن شعور إنساني ينتاب الإنسان في مثل هذه الموقف، ليس له علاقة بنصرانية أو بدين.
والشعر المذكور إن صح أنه من شعر "عدي"، وأنه غير مصنوع ولا معمول عليه، يكون قد قدم لنا قصصا قديما من قصص أهل الجاهلية، وحكايات كانوا يروونها من حكايات التأريخ، ويكون بذلك شاهدا على أن أهل الحيرة، والمثقفين منهم بصورة خاصة كانوايعرفون تأريخ الماضين وقد وقفوا على تأريخ الفرس وتأريخ الروم، والحضر، وتأريخ غيرهم من شعوب معاصرة لهم، ومن شعوب غابرة، وردت أخبارها في الكتب القديمة، ولا سيما في الكتب المقدسة وفي كتب التواريخ. فنحن نجد له قصيدة أشار فيها إلى خطيئة آدم، وهذه الخطيئة تلعب دوراخطيرا في كل الأديان السماوية المعروفة التي أقرت بالكتب المقدسة، وقد صاغ قصتها على هذا النحو.
قضى لستة أيام خليقته ... وكان آخرها أن صور الرجلا
دعاه آدم صوتا فاستجاب له ... بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا
ثمت أورثه الفردوس يعمرها ... وزوجه صنعه من ضلعه جعلا
لم ينههُ ربه عن غير واحدة ... من شجر طيب أن شم أو أكلا
فكانت الحية الرقشاء إذ خلقت ... كما ترى ناقة في الخلق أو جملا
فعمدا للتي عن أكلها نهيا ... بأمر حواء لم تأخذ له الدغلا
كلاهما خاط إذ بُزا لبوسهما ... من ورق التين ثوبا لم يكن غزلا(18/375)
فلاطها الله إذ أغوت خليقته ... طوال الليالي ولم يجعل لها أجلا
تمشي على بطنها في الدهر ما عمرت ... والترب تأكله حزنا وإن سهلا
فأتعبا أبوانا في حياتهما ... وأوجدا الجوع والأوصاب والعلالا
وأوتيا الملك والإنجيل نقرؤه ... نشفي بحكمته أحلامنا عللا
من غير ما حاجة إلا ليجعلنا ... فوق البرية أربابا كما فعلا
والشعر هذا مذكور في كتاب "الحيوان" للجاحظ، وفي ذكره له، دلالة على أنه قد كان معروفا في أيامه، وهو يستند على ما ورد في "سفر التكوين" السفر الأول من أسفاره التوراة، وفيه قصة الخليقة، ونجد قصة "الحية" في شعر "أمية بن أبي الصلت"، حيث يقول:
كذي الأفعى ترببها لديه ... وذي الجني أرسلها تساب
فلا رب البرية يأمننها ... ولا الجني أصبح يستتاب
وقد دون هذين البيتين "الجاحظ" كذلك في كتابه: "الحيوان"، مما يدل على أنهما كانا معروفين، وهما من قصيدة ذكرها الجاحظ قبلهما في رطوبة الحجارة، وأن كل شيء قد كان ينطق، ثم عن منادمة الديك الغراب، واشتراط الحمامة على نوح2.
وقصة "عدي" قصة أوضح وأقرب إلى الأصل المذكور في الإصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التكوين، من القصة المذكورة في الشعر المنسوب إلى "أمية". يظهر أن ناظمها قد صاغها عن مطالعة وعن إلمام عام بها. فهي في الواقع قصيدة شملت قصة دينية، ضمت أسطورة الخلق كما جاءت في الإصحاحات المذكورة، مع بعض "الرتوش" والإصلاحات التي اقتضتها طبيعة نظم الشعر، وقد لخصها تلخيصا حسنا قريبا من الأصل، يدل على إحاطة به، ولعله من وضع شاعر أحب صوغ هذه القصة في شعر، فنظمها ونسبها إلى "عدي بن زيد".
وقد ظل العباد يتغنون بخمريات وبشعر "عدي" أمدا طويلا بعد وفاته. وقد كان "القاسم بن الطويل" العبادي، أحد ندماء "الوليد" الثاني ممن يروون
__________
1 الحيوان "4/ 197 وما بعدها".
2 الحيوان "4/ 197".(18/376)
شعره، وحبذه إلى الخليفة، الذي كان شاعرا يحب الخمر، وينظم الشعر فيها، مما صار بابا من أبواب الخمريات في الشعر الإسلامي1. ومن شعره قوله:
أيها القلب تعلل بددن ... إن همي في سماع وأذن2
ومن الشعراء النصارى الذين نص أهل الأخبار على تنصرهم: "موسى بن جابر بن أرقم بن سلمة بن عبيد" الحنفي اليمامي، المعروف بـ "أزيرق اليمامة"، وبابن ليلى، وهي أمه، وكان نصرانيا. قال عنه "المرزباني" إنه شاعر كثير الشعر، وقد أورد له نتفا من شعره3، ويمتاز ما ذكره بالبساطة والسهولة والليونة وهو يختلف بأسلوبه عن شعر الأعراب.
أما "الأعشى"، وقد تحدثت عنه، فهو من اليمامة، وقد كان معظم أهل اليمامة على النصرانية عند ظهور الإسلام، ولذلك فقد يكون على النصرانية، غير أننا لا نستطيع أن نأتي بدليل مقبول يثبت تنصره، وقد رأينا أن أهل الأخبار كانوا قد جعلوه في عداد "القدرية" و"أهل العدل"، زعموا أنه أخذها من "الحيرة"، وكانوا عبادا، وكان يزورهم بشرب الخمر عندهم، كما كان راويته "يحيى بن متى" نصرانيا، ولكن النصرانية لا تعني القدرية، وكون راويته نصرانيا، لا يعني أنه كان نفسه نصرانيا، وأما ما جاء في شعره من قصص وأمور معروفة عند النصارى، فلا يكون دليلا على تنصره، فقد وردت مثل هذه الأمور في شعر غيره، ولم ينص أحد على تنصرهم، ثم إن شعره لا ينم على تعمق في نصرانية4، ولكني لا أريد أن أثبت أنه كان وثنيا، فوثنية الأعشى أو نصرانيته تخصه وحده، وأنا لا أريد أن أنقص عدد النصارى، وأن أزيد في عدد الوثنيين، وإنما هو رأي واستنتاج ليس غير.
ومن شعره الذي تطرق فيه إلى أمور نصرانية قوله:
فما أيبلى على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا
__________
1 بروكلمان "1/ 125".
2 أمالي المرتضى "1/ 33".
3 المعجم "285"، "فراج"، شرح الحماسة، للمرزوقي "326"، "عبد السلام محمد هارون"، الأغاني "10/ 113"، الخزانة "1/ 126".
4 G. Graf, Geschichte der Christlichen Arabischen Literatur, I, S. 33(18/377)
يراوح من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جوارا
بأعظم منك تقي في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا
وهي من قصيدة مدح فيها "قيس بن معد يكرب" الكندي. وقد اتخذ "المعري" هذا الشعر دليلا على إيمان الأعشى بالله وبالحساب وبالبعث، مما استوجب إدخاله في الجنة1.
وهناك أفكار نصرانية نجدها في شعر "النابغة" وفي شعر "زهير"، و "لبيد"، غير أننا لا نستطيع أن نقول إنهم كانوا نصارى، لوجود هذه الأفكار في شعرهم، فمن الجائز أن يكون ورودها في شعرهم نتيجة لاختلاطهم بالنصارى، وقد كانوا يكثرون من الذهاب إلى الحيرة، لمدح ملوكها طمعا في نيل عطاياهم، فاحتكوا بذلك بنصاراها، وورود قصص نصراني في شعر أو نثر لا يدل حتما على تنصر الناثر أو الشاعر، كما أن وقوف شخص على دين من الأديان، لا يدل حتما على اعتناقه لذلك الدين. ومن هنا أخطأ الأب "لويس شيخو" في دعواه بتنصر أكثر الشعراء الجاهليين2.
ونجد في شعر امرئ القيس إشارات إلى معالم نصرانية، مثل الرهبان وصلواتهم وسهرهم، وإلى مصابيحهم، مثل قوله:
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال3
ولكننا لا نستطيع إثبات أنه كان من النصارى.
و"حاتم الطائي" من شعراء طيء، وقد مات قبل الإسلام، وقبر بـ "عوارض" جبل فيه قبره ببلاد طيء4. وهو "حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي"، ويكنى "أبا سفانة" بابنته، وابنه "عدي بن حاتم" من الصحابة. وإليه ينسب المثل "لو غير ذات سوار لطمتني". وسبب قوله إياه -كمايقول ذلك الراوي- أن حاتم الطائي كان أسيرافي "عنزة"،
__________
1 رسالة الغفران "181".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 127"، "الطبعة الثانية".
3 الخزانة "1/ 33"، "بولاق".
4 تاج العروس "5/ 48"، "عرض"، الحيوان "1/ 229".(18/378)
فقالت له امرأة يوما: قم فافصد لناهذه الناقة! وكان الفصد عندهم أن يقطع عرقا من عروق الناقة، ثم يجمع الدم فيشوى. فقام حاتم إلى الناقة فنحرها فلطمته المرأة. فقال حاتم: "لو غير ذات سوار لطمتني" فذهب قوله مثلا1.
وروي أيضا أنه قال: "هذا فصدي"، يريد أنه لا يصنع إلا ما تصنع الكرام. وقد نسب هذا المثل لكعب بن مامة، وذلك أنه كان أسيرا في عنزة فأمرته أم منزله أن يفصد لها ناقة، فنحرها، فلامته على نحره إياها، فقال: هكذا فصدي2.
ويلاحظ أن "الجاحظ" وغيره يقدمون "كعب بن مامة" على حاتم الطائي في الجود، "لأن كعبا بذل نفسه في أعطية الكرم وبذل المجهود فساوى حاتما من هذا الوجه، وباينه ببذل المهجة"3. كما نلاحظ أن بعض أخبار الجود المنسوبة إلى "حاتم" تنسب إلى "كعب بن مامة" كالذي رأيته في تفسير المثل: "هكذافصدي".
ولما بلغ حاتم قول المتلمس:
قليل المال يصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وحفظ المال خير من فناء ... وعسف في البلاد بغير زاد
قال: قطع الله لسانه، حمل الناس على البخل فهلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل ذهابه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس مالا بعيش مقتر ... لكل غد رزق يعود جديد
ألم تر أن الرزق غاد ورائح ... وأن الذي أعطاك سوف يعيد4
وذكر أن "زيد الخيل" عير حاتما الطائي في خروجه من طيء ومن حرب
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 209"، الخزانة "1/ 494" الأغاني "16/ 96"، الشعر والشعراء "1/ 164 وما بعدها"، الأمالي للقالي "3/ 154 وما بعدها"، بروكلمان "1/ 111 وما بعدها".
2 الميداني، أمثال "2/ 317"، الحيوان "4/ 274"، الأغاني "16/ 102"، الحيوان "5/ 33"، البخلاء "158، 382 وما بعدها"، ثمار القلوب "98 وما بعدها".
3 الحيوان "2/ 107 وما بعدها".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 209"، وتجد بعض الاختلاف في الروايات الأخرى، المحاسن والأضداد "41".(18/379)
الفساد التي وقعت بين جديلة والغوث إلى "بني بدر" حيث يقول:
وفر من الحرب العوان ولم يكن ... بها حاتم طبا ولا متطببا
وريب حصنا بعد أن كان آبيا ... أبوة حصن فاستقال وأعتبا
أقم في بني بدر ولا ما يهمنا ... إذا ما تقضت حربنا أن تطربا1
وقد أسره "ثوب بن شحمة" العنبري، وكان شريفا في قومه، وكان يقال له "مجير الطير"، لأنه أجار الطير في أرضه، فكان لا يثار ولا يصاد بأرضه2.
فقال حاتم:
إذا ما بخيل الناس هرت كلابه ... وشق على الضيف الغريب عفورها
فإني جبان الكلب بيتي موطأ ... جواد إذا ما النفس شح ضميرها
ولكن كلابي قد أقرت وعُوّدت ... ليل على من يعتريها هريرها3
وظل "حاتم" أسيرا عنده زمانا، وقد عير "ثوب بن شحمة" بأنه وقومه أكلوا لحم المرأة، فقال شاعر:
عجلتم ما صادكم علاج ... من العنوق ومن الدجاج
حتى أكلتم طفلة كالعاج4
وقد وصفت ابنته أباها للرسول، وكان قد سألها عن أبيها على هذه الصفة: "كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط".
ووصفه "ابن الأعرابي" بقوله: "كان جوادا يشبه شعره جوده، ويصدق قوله فعله ... إذا غنم أنهب وإذا سئل وهب ... وإذا أسر أطلق"5. ويجب أن تكون وفاة "حاتم" غير بعيدة عن ظهور الإسلام.
__________
1 الحيوان "1/ 329".
2 الحيوان "1/ 269".
3 الحيوان "1/ 383".
4 البخلاء "235، 374".
5 الأغاني "16/ 97 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "79"، الخزانة "1/ 494 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 28".(18/380)
ولأهل الأخبار قصص عن جود حاتم وكرمه، ويبدأون به غلاما، يرعى إبل والده، فمر به "عبيد الأبرص"، و "بشر بن أبي خازم"، و "النابغة الذبياني"، وهم يريدون "النعمان" فنحر لهم ثلاثة من الإبل، وهو لا يعرفهم، ثم سألهم عن أسمائهم، فتسموا له، ففرق فيهم الإبل كلها، وبلغ أباه ما فعل، فاعتزله. ثم يروون أنه ذبح فرسه، لما جاءته جارة له، فشوى لحمها لها ولأولادها الجياع، ثم استدعى بقية جيرانه فأطعمهم، وبقي هو وأهله جياعا، ولم يكن لديه آنذاك غير فرسه هذه. ثم يروون قصصا آخر مشابها، يمتد إلى ما بعد وفاته، حيث يذكرون قصة رجل اسمه "أبو خيبري"، ذكروا أنه مر بقبر "حاتم"، وأخذ يناديه: "يا أبا عدي اقر أضيافك! فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: وا رحلتاه! فقال له أصحابه: ما شأنك؟ فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا تنبعث، فقالوا: قد والله قراك، فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه وانطلقوا، فبينا هم كذلك في مسيرهم، طلع عليهم "عدي بن حاتم" ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره، فقال: إن حاتما جاءني في المنام فذكر لي شتمك إياه، وإنه قراك وأصحابك راحلتك، وقد قال في ذلك أبياتا، ورددها عليّ حتى حفظتها:
أبا خييبريّ وأنت امرؤ ... حسود العشيرة لوامها
فماذا أردت إلى رمة ... بداوية صخب هامها
تُبغّي أذاها وإعسارها ... وحولك عوف وأنعامها
وأمرني بدفع جمل مكانها إليك، فخذه، فأخذه1.
ولأهل الأخبار قصة في كيفية تزوج "حاتم" "ماوية بنت عفزر"، وكيف وجد عندها "النابغة"، ورجلا من النبيت، يريدان الزواج منها، لما وصل إليها، وكيف امتحنتهم بقولها لهم: انقلبوا إلى رحالكم، وليقل كل رجل منكم شعرا يذكر فيه فعاله ومنصبه فإني متزوجة أكرمكم وأشعركم، ثم تذكر القصة تفصيل ما وقع بأسلوب منمق مقرونا بشعر وقرار "ماوية" بتفضيل حاتم
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 170"، الخزانة "1/ 494 وما بعدها"، "بولاق"، المحاسن والأضداد "41 وما بعدها".(18/381)
عليهما1. وتذكر قصة أخرى أن "ماوية" كانت ابنة من بنات ملوك اليمن، وكانت ذات جمال وكمال ومال، فآلت ألا تزوج نفسها إلا من كرام الناس، فقدم عليها حاتم، وزيد الخيل، وأوس بن حارثة لأم، فتقدم كل واحد يخطبها، فقالت ليصف كل واحد منكم نفسه في شعره، فلما أنشدوا فضلت "حاتم" الطائي عليهما. فزوجت نفسها منه. وذكر أن "معاوية" كان يهوى حديث "ماوية"2.
وهم يذكرون أن جود "حاتم" جاء إليه من أمه "عنبة"، التي كانت سخية إلى حد الإسراف، حتى حبسها إخوتها سنة في بيت لعلها تكف عما كانت عليه، إذا ذاقت طعم البؤس وعرفت فضل الغنى، ثم أخرجوها ودفعوا إليها صرمة من مالها، فأتتها امرأة فسألتها، فقالت لها: دونك الصرمة، فقد والله مسني الجوع ما آليت معه ألا أمنع الدهر سائلا شيئا! ثم أنشأت تقول:
لعمري لقدما عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
فقولا لهذا اللائمي الآن أعفني ... وإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
ولا ما ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا3
ونسب لحاتم قوله:
وإني لأستحي حياء يسرني ... إذا اللؤم من بعض الرجال تطلعا
إذا كان أصحاب الإناء ثلاثة ... حييا ومسحيا وكلبا مجشعا
فإني لأستحيي أكيلي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
أكف يدي من أن تمس أكفهم ... إذا نحن أهوينا وحاجتنا معا
وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا4
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 167 وما بعدها"، الخزانة "2/ 164 وما بعدها"، "بولاق".
2 الخزانة "2/ 164 وما بعدها"، "بولاق".
3 الشعر والشعراء "1/ 165 وما بعدها".
4 البيان "3/ 307 وما بعدها".(18/382)
إلى أن يقول:
ولن يكسب الصعلوك حمدا ولا غنى ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما
لحا الله صعلوكا مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوسا ومغنما
ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ... تنهب مثلوج الفؤاد مورما
مقيما مع المثرين ليس ببارح ... إذا نال جدوى من طعام ومجثما
ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعة إن نالها عد مغنما
يرى الخمص تعذيبا ولم يلق شبعة ... يبت قلبه من قلة الهم مبهما1
وهي أبيات أرى أنها من هذا الشعر الذي يشك في أكثره، مثل الشعر المَقُول على لسان عروة والصعاليك، يظهر أن الظروف الاجتماعية جعلت الأدباء ينظمون على لسانهم، يتشكون فيها من ظلم الأغنياء، لما كانوا يرونه من قسوة أصحاب المال على المعدمين والبائسين.
ويشك في كثير من شعر حاتم. وقد صار حاتم بالقصص الوارد عنه من الأبطال المعروفين عند غير العرب أيضا، فنجد له ذكرا في الفارسية وفي التركية، وألف فيه في اللغات الأوروبية، وطبع ديوانه جملة طبعات2. وكان يشبه شعر النمر بن تولب بشعر حاتم الطائي، وكانا يشتركان في الجود وإتلاف الأموال وأريحية الطبع والتغني بذلك في الشعر3.
وكان "حاتم" على النصرانية على ما يظن، وقد كان ابنه "عدي" عليها4.
و"جابر بن حني بن حارثة بن عمرو بن بكر" من شعراء تغلب. وله قصيدة مطلعها:
ألا يا لقومي للجديد المصرم ... وللحلم بعد الزلة المتوهم
وللمرء يعتاد الصبابة بعدما ... أتى دونها ما فرط حول مجرم
__________
1 الخزانة "1/ 492".
2 بروكلمان "1/ 111 وما بعدها".
3 البخلاء "384".
4 الإصابة "2/ 460"، "رقم 5477".(18/383)
ذكر أن سبب قوله لها، أن "المنذر بن ماء السماء" كان يبعث "عمرو بن مرثد بن سعيد بن مالك"، و "قيس بن زهير" الجشمي، على إتاوة ربيعة، وكانت ربيعة تحسدهما، فجاء "عمرو" يوما، فقال جلساء الملك حسدا له: إنه يمشي كأنه لا يرى أحدا أفضل منه! فجاء فحيا الملك بتحية، فقال جابر هذه القصيدة1. وقد أدخله "بروكلمان" في عداد الشعراء النصارى2.
ويذكر أنه هو "جابر" المذكور في البيت المنسوب لامرئ القيس، وهو:
فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني3
وكان امرؤ القيس آنذاك مريضا، فكان "جابر" و "عمرو بن قميئة"، يحملانه على الرحالة، وهي خشبات، وهي الحرج.
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 562 وما بعدها"، اللآلي "842"، المفضليات "208".
2 بروكلمان "1/ 73".
3 من قصيدة:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... ورسم عفت آياته منذ أزمان
ديوان امرئ القيس "89 وما بعدها"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 274"، الشعر والشعراء "1/ 53".(18/384)
الفصل السابع والستون بعد المائة: آراء الشعراء الجاهليين
والشعر الجاهلي مادة مهمة تعيننا في الوقوف على آراء الجاهليين، على الرغم من كون أكثره قد ورد في أمور لا صلة مباشرة لها بالرأي، أعني بالتفكير في خلق الكون وفي الإنسان نفسه، لم جاء ولم يموت، وما هي الغاية من ظهوره على هذه الأرض، وعن الخلق والخالق، من إثبات أو عدم، وعن النظم وأصول الحكم والمجتمع والمعرفة والثقافة وما شاكل ذلك من أمور لها صلة بالتأمل والتفلسف. ومع ذلك فإن في هذا الشعر المذكور، ما يكفي لاستنباط شيء منه عن الرأي عند الجاهليين.
لقد حمل خلو الشعر الجاهلي من العاطفة الدينية، بعض المستشرقين على الحكم بأن الجاهليين لم يكونوا يملكون حسًّا دينيا، وأن دينهم سنتهم، وسنتهم ما ألفوه عن آبائهم وأجدادهم وأعراف قبيلتهم، وهي أعراف ورثوها وحافظوا عليها، محافظتهم على حياتهم، وقاوموا كل من كان يخرج عليها أو يتطاول عليها. ونجد الشعراء يمجدونها ويذكرونها على حين لا نشعر بوجود حس ديني في شعرهم، اللهم إلا في شعر عدد قليل من الشعراء1.
والشعر الجاهلي خلو من الشعر الديني الذي يجب أن ينظم في المناسبات الدينية، مثل الحج. ولما كان الحج من المناسبات المؤثرة المثيرة، التي تجمع الناس،
__________
1 Goldziher, History of Classical Arabic Literature, p. 25(18/385)
فتثير في الشاعر شعورا بروعة المناسبة وبروعة الاجتماع، فلا بد وأن ينظم الشعراء شعرا فيه، لإنشاده على المتجمعين حول الصنم، غير أننا لا نملك أي شعر قيل فيه ولا في المناسبات الدينية المماثلة التي تدفع الإنسان إلى إظهار شعوره فيها. وهو أمر يلفت إليه النظر حقا، ويجعلنا نفكر في الأسباب التي أدت إلى عدم ظهور الروح الدينية في هذاالشعر، هل هي طبيعة العربي في عدم اهتمامه بأمور الدين أم هي بسبب كره الإسلام رواية وحفظ ذلك الشعر الوثني!
لقد نسب بعض المستشرقين خلو الشعر الجاهلي من الوثنية، إلى ترك المسلمين تعمدا رواية ذلك الشعر، بسبب دخولهم في الإسلام واجتثاث دين الله لمعالم الشرك فلم يجد المسلم أن من الهين عليه، حفظ شعر فيه تنويه بما أبطله وحرمه كتاب الله، فرموا منه ما كان ثقيل الوثنية، وهذبوا منه ما كان خفيف الوزن، بأن رفعوا أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله إن ناسب الاسم المعنى، أو شذبوا فيه وأضافوا شيئا عليه لإزالة معالم الوثنية منه. لأن من الصعب تصور إعراض الشاعر الجاهلي عن ذكر أصنامه في شعره، بينما هو يتوسل ويتقرب إليها، وينذر لها. فالوثني مهما كان رقيق الدين، بعيدا عن التفكير فيه، فإنه لا بد وأن يلجأ إليه ساعة الشدة وأيام المحن، حيث يبحث عمن يساعده للخروج من محنته، شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر، حين تتنزل به النوازل، فيلجأ حينئذ إلى إلهه أو آلهته وأصنامه وإلى القوى الطبيعية يستمد منها المساعدة والعون1.
وأنا لا أستبعد احتمال موت هذا النوع من الشعر الوثني بسبب الإسلام، فليس من المعقول إبقاء الإسلام له، وفيه ما فيه من أمر الأصنام والوثنية المناهضة لدين الله. وعندي أن الجاهلي، مهما قيل عنه من إعراضه عن الدين ومن عدم احتفاله به، ومن بعده عنه، إلا أنه كان مع ذلك شديد التمسك به في الأمور التي تمس حياته، مثل التوسل إلى الآلهة بأن تبارك في إبله، وأن تمنحه الغيث، وأن تشفيه من مرضه، إلى غير ذلك من أمور، ذات صلة بالمصالح الشخصية للإنسان.
ودليل ذلك، هو أن معظم ما نجده في نصوص المسند من كتابات، خلدت أسماء الأصنام، إنما دونت فيها الأسماء لمثل هذه الأمور فإذا كان الأمر كذلك فنحن لا نستطيع استثناء الشعر الجاهلي من ذكر الأصنام في أمثال هذه المناسبات
__________
1 Goldziher, History of Classical Arabic Poerty, p. 25(18/386)
على الأقل، فالشاعر مثل أي إنسان آخر، لا بد وأن يشعر في يوم ما بعجزه وبحاجته إلى مخاطبة أربابه وأن يتوسل إليها لتنفعه أو لتمن عليه بالصحة والعافية وبالمال، يتوسل إليها شعرا، فيمدحها ويشيد بذكرها، ويسترضيها، اقتداء بفعله مع الملوك وسادات القبائل، حيث يكيل المدح لهم شعرا لأنهم أحسنوا إليه.
وقد ورد اسم "الله" في الشعر وفي النثر الجاهليين، على نحو ما ذكرت في الجزء السادس من هذا الكتاب. لقد ذكرت هناك أن غالبية المستشرقين شكت في صحة ورود اسم الله في هذا الشعر، ورأت أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك أنهم حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم الله وهكذا1.
وذلك لاعتقادهم أن الوثنيين لم يكونوا يؤمنون بالله، فلا يعقل ورود اسمه في شعرهم. وهو رأي لا أقرهم عليه، لأن الجاهليين كانوا يؤمنون بالله، ولم يكونوا ينكرون وجوده أبدا، بدليل ما نجده في القرآن من تأكيد بأنهم كانوا يؤمنون به، وأنهم كانوا إذا سألهم سائل من خلق الكون ليقولون الله. وقد ذكرت في حينه كل الآيات الواردة في القرآن الكريم عن هذا الموضوع2. وبينت أن أهل مكة وغيرهم من العرب الشماليين، كانوا يؤمنون بإله واحد هو الله، ولم يكن بينهم وبين الإسلام خلاف فيه، وخلافهم معه هو في تقربهم إلى الأصنام والأوثان، لتشفع لهم، بزعمهم، إلى الله زلفى. مع أنها أجسام جامدة وأحجار لا حياة فيها، فمن هنا حمل الإسلام عليها، وأعتبرها شركا بالله، لأنهم بتقربهم إليها يكونون قد أشركوها مع الله في ألوهيته، وهذا هو الكفر والضلال في نظر الإسلام، ولذلك أمر بالابتعاد عنها وبنبذها وبنبذ كل ما يتصل بها من عبادة، كما أمر بطمس الصور، ومحوها لأنها من دلائل هذه الوثنية ومن معالمها.
وقريش نفسها لم تنكر على الرسول تعبده لله، ولم تمنعه من الصلاة في بيت الله، ومن ذكره وحمده له، لأنها لا تختلف معه في عبادته، وإنما اختلفت معه، فيما هو دون الله من أصنام وأوثان، وذلك حين عابها وسفَّه أحلامهم بتقربهم إليها وهي جامدة مخلوقة ومصنوعة، عندئذ هاجت وماجت واشتكت إلى أعمام رسول
__________
1 "ص 102 وما بعدها".
2 "ص 103 وما بعدها".(18/387)
الله وإلى ذوي رحمه، ومن هنا كان عناد قريش وكفرها وعدواتها للرسول. كما نص على ذلك صراحة في القرآن وفي كتب السير1. وأخذت تؤذيه وتؤذي المسلمين كلما ازداد هجوم الإسلام على الأصنام والأوثان.
ويشبه هذا النزاع ما وقع في النصرانية من هجوم على تقديس التماثيل والصور التي تمثل "الثالوث"، و "المسيح"، حيث اعتبرها البعض شركا، مما سبب وقوع شقاق في الكنيسة. فقد اعتبر بعض رجال الدين الـ "أيقونات" شركا، ولذلك حاربوا التماثيل والتصاوير. وقد كانت هذه المشكلة قد بدأت في الكنيسة نتيجة الصراع الذي وقع بين رجال الدين حول طبيعة المسيح.
ولو أخذنا بصدق ما نسب إلى الجاهليين من شعر ورد فيه اسم الله، وجب إدخال عدد من شعراء الجاهلية في المتألهين، القائلين بوجود إله، هو "الله". ففي شعر ينسب إلى "عروة بن الورد"، نجد اسم الله مذكورا فيه، إذ يقول:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا2
ويجب عد "امرئ القيس" من المتألهين أيضا، فقد زعموا أن العرب كانت لا تعد الشاعر فحلا، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلما قال:
والله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرجل
عدوه فحلا3. وهكذا أدخلوه بهذه الحكمة في جملة الفحول.
وقد ورد اسم الله في معلقته، في البيت:
فقالت يمين الله مالك حيلة ... وما إن أرى عنك الغواية تنجلي4
ونجده يحلف بالله، فيقول: "يمين الله"، و "حلفت لها بالله"، وتقول
__________
1 ابن هشام، سيرة "1/ 170"، "حاشية على الروض".
2 ديوان عروة "191".
3 الشنقيطي، شرح المعلقات "61".
4 الشنقيطي، شرح المعلقات "82".(18/388)
له صاحبته: "سباك الله"1، مما يدل على أنه كان مؤمنا معتقدا به. ونجده يذكر الله في أشعاره الأخرى2.
وزعم أهل الأخبار أن "الأفوه بن مالك" الأودي، كان من المتألهين كذلك، وأنه لما شعر بدنو أجله، أوصى قومه: مذحج، بتقوى الله، وصلة الأرحام، وحسن التعزي عن الدنيا بالصبر3.
وورد في معلقة "عبيد بن الأبرص" قوله:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب4
ويجب إدخال زهير في جملة المتألهين أيضا، فقد ذكر أنه كان يتأله ويتعفف في شعره ويؤمن بالبعث، ونسبوا له قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم5
وهو يقسم في معلقته بالبيت، فيقول:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم6
فهو مؤمن بالله العلام بما في نفوس الناس، فلا تخفى عليه خافية، ومهما حاول الإنسان كتمان سره في قرارة نفسه، فإن الله لايخفى عليه سره، ولا يفوته أبدا7.
وتنسب لزهير قصيدة مطلعها:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ... وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 341".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 375".
3 المزهر "1/ 164".
4 رسالة الغفران "186".
5 الشنقيطي، شرح المعلقات "28 وما بعدها، 116".
6 الشنقيطي، شرح المعلقات "114".
7 الخزانة "1/ 436 وما بعدها".(18/389)
وهي قصيدة ذكر فيها أنه عاش أكثر من مائة سنة، ثم ذكر الله، وأنه حق، وأنه كان مؤمنا به، وأن أيامنا معدودات، ولا يدوم ويبقى إلا الله الذي أهلك تبعا ولقمان بن عاد وعاديا، وأهلك ذا القرنين، وفرعون، ثم ذكر النعمان، وكيف حكم، ثم جاء يوم غير كل شيء. وقد قال الأصمعي، إنها ليست لزهير، ويقال هي لصرمة الأنصاري، ولا تشبه كلام زهير1. وربما كانت من المصنوعات، صنعها من صنع من أمثالها من شعر الوعظ والإرشاد، فنسبه إلى الجاهليين.
ونجد "أبا طالب" يقسم بالله في شعره، فيقول في قصيدة له، يخاطب بهاالرسول، إنك جئت بدين سمح، هو من خير أديان البرية دينا، ولولا الملامة، أو حذار سبة، لوجدتني سمحا بذاك مبينا2.
وروي أن "لبيد بن ربيعة" الشاعر المخضرم، كان من المتألهين في الجاهلية وأنه نظم قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
قبل الإسلام، أو عند ظهوره. وأن الرسول قال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" 3.
وروي أن له أبياتا تشير إلى التوحيد والصلاح، والخير، هي:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل
وقوله:
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
وقوله:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل4
__________
1 الخزانة "3/ 588 وما بعدها"، "بولاق".
لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
السيوطي، شرح شواهد "2/ 686 وما بعدها".
3 الشنقيطي، شرح المعلقات "35، 38".
4 رسالة الغفران "267".(18/390)
و "النابغة" الذبياني من المتألهين كذلك، فقد نسبوا له شعرا، ذكر أنه اعترف فيه بوجود الله، إذ قال:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب1
ونجده في معلقته يقول:
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند2
ونراه يذكر مكه في شعره:
والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسعد3
وورد اسم الله في قوله:
أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
أي ما يريد الله إلا عدل النعمان بن المنذر، وإلا وفاءه، فلا يدعه أن يجور ولا أن يغدر، فلا النكر يعرفه النعمان، ولا الجميل يضيع عنده4. ومعنى هذا أن النابغة كان يرى أن الله هو الذي يقدر الأمور للناس، وأن الإنسان مسير بأمر الله.
و"الحارث بن حلزة" اليشكرى من هذا الفريق كذلك، لقوله:
فهداهم بالأسودين وأمر الله ... بلغ تشقى به الأشقياء5
ولقوله:
وفعلنا بهم كما علم الله ... وما إن للحائنين دماء6
__________
1 الشنقيطي، شرح المعلقات "64".
2 الشنقيطي، شرح المعلقات "208".
3 كذلك "ص213".
4 الخزانة "2/ 486"، "هارون".
5 الشنقيطي، شرح المعلقات "177".
6 الشنقيطي، شرح المعلقات "179".(18/391)
وإذا صدقنا بمعلقة "عبيد بن الأبرص"، وأخذنا بصدق الأبيات:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب1
بل يجب عده من الأحناف الموحدين، الذين آمنوا بإله واحد لا شريك له.
وهو في نظري شعر إسلامي، ويبعد أن يكون من نظم ومن نفس شاعر جاهلي. وقد ذهب "ابن الأعرابي"، إلى أن البيت الأول هو لشاعر آخر، هو: يزيد بن ضبة الثقفي2.
و"عمرو بن الإطنابة" سيد الخزرج في أيامه من هذا الرعيل الذي ذكر اسم الله في شعره، إذ ذكره بقوله:
إني من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا بحق الله ثم النائل
وانتدوا: جلسوا في النادي. فهو يبدأ بذكر الله، وبحقه، إذا ما جلس في النادي3.
وورد اسم "الله" في شعر لخداش بن زهير:
تقوه أيها الفتيان إني ... رأيت الله قد غلب الجدودا4
ونجد ذكر الله في شعر "صريم بن معشر بن ذهل" التغلبي، وكان قد لقي كاهنا، فسأله عن موته، فقال له: إنك تموت في موضع يقال له "الإهة"، فمكث زمانا ثم سار إلى الشام في تجارة ثم رجع في ركب من "بني تغلب"، فضلوا الطريق، ثم أتوا موضعا اسمه "الإهة" قارة بالسماوة، فلدغته حية، ثم تذكر قول الكاهن، فقال:
__________
1 شرح القصائد العشر، للتبريزي "541 وما بعدها"، البيت"18 وما بعده" من المعلقة، الحيوان "3/ 89"، الشنقيطي، شرح المعلقات "221"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 266".
2 الشنقيطي "221"، الخطيب التبريزي، شرح القصائد العشر "541".
3 المرزباني، معجم "8"، "فرج".
4 العمدة "2/ 271".(18/392)
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
كفى حزنا أن يرحل الحي غدوة ... وأصبح في أعلى الإلاهة ثاويا1
وهو شعر إن صح أنه له، دل على أن صاحبه كان يؤمن بأن لكل إنسان أجل، وأنه إذا جاء الأجل، فلا مرد له، وأنه لا مرد لقضاء الله وقدره.
وفي شعر "قيس بن الحدادية"، إيمان بالله، وأن الله هو الذي يقدر الأمور، إذ يقول:
فقلت لها والله يدري مسافر ... إذا أضمرته الأرض ما الله صانع
ويروى:
فقلت لها والله ما من مسافر ... يحيط بعلم الله ما الله صانع2
وفي شعر "النمر بن تولب"، وهو من المخضرمين قوله:
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
والعرب تقول: "سبحان الله وريحانة، أي: واسترزاقه"3.
ونجد في شعر الأعشى أنه كان يؤمن بالرحمن، إذ يقول:
وما جعل الرحمن بيتك في العلى ... بأجياد غربي الصفا والمحرم4
ويقول:
وإن تقى الرحمن لا شيء مثله ... فصبرا إذا تلقى السحاق الغراثيا
ثم يبين بعده إيمانه بإله واحد لا شريك له، إذ يقول:
وربك لا تشرك به إن شركه ... يحط من الخيرات تلك البواقيا
__________
1 الخزانة "4/ 460"، "بولاق".
2 المرزباني، معجم "202".
3 الجمان في تشبيهات القرآن "383".
4 القصيدة رقم 15، البيت 36، ديوانه "123".(18/393)
بل الله فاعبد لا شريك لوجهه ... يكن لك فيما تكدح اليوم راعيا
وإياك والميتات لا تقربنها ... كفى بكلام الله عن ذاك ناهيا1
ونجده في القصيدة رقم "15" التي فيها البيت الأول، يحلف، برب الراقصات إلى منى، ثم يذكر "ماء زمزم"، أي مكة، بينما نجده في القصيدة الثانية مؤمن بالرحمن، مؤله له، موحد، لا يشرك بربه أحدا. وهو شعر روي عن "أبي عمرو الشيباني"، ركيك ضعيف، موضوع عليه2.
وروي أن "الشنفرى" كان ممن آمن بالرحمن، وذكره في شعره، إذ قال:
لقد لطمت تلك الفتاة هجينها ... ألا بتر الرحمن ربي يمينها
ولكنه بيت يشك في صحته، ولم ينقله الثقات3.
وقد سبق لي أن تحدثت في الجزء السادس من هذا الكتاب عن عبادة الرحمن، وقلت إن قريشا قالت للرسول لما نزل الوحي بـ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} : "أتدرون ما الرحمن الذي يذكره محمد، هو كاهن باليمامة"4، وأنها قالت: "دق فوك" إنما تذكر مسيلمة رحمن اليمامة"، وكان قد تسمى بالرحمن قبل مولد عبد الله والد الرسول.
وقد زعم أهل الأخبار أن الأعشى كان قدريا، وأنه أخذ رأيه هذا من أهل الحيرة. واستشهدوا على رأيه بالقدر بقوله:
استأثر الله بالوفاء وبالعدل ... وولى الملامة الرجلا6
__________
1 القصيدة رقم 66، البيت رقم 8 وما بعده، ديوانه "ص329".
2 ديوانه "328".
3 الاشتقاق "37".
4 الاشتقاق "37".
5 الحيوان "4/ 89"، تفسير الطبري "1/ 57"، مغازي، الواقدي "1/ 82"، ابن كثير، البداية "6/ 326"، تاج العروس "8/ 307"، "رحم"، الروض الأنف "2/ 340"، ابن سعد، طبقات "جـ1، ق1، ص109".
6 راجع ديوان الأعشى "155"، أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي"، شرح ديوان الأعشى "233"، "القصيدة رقم 35"، وورد "وبالحمد" بدلا من "وبالعدل"، الأغاني "8/ 76".(18/394)
وأبي الشريف "المرتضى" إلا أن يجعله على مذاهب أهل العدل، أي على مثل ما ذهب إليه "المعتزلة" والشيعة الإمامية الاثنى عشرية في الإسلام. وعلل بعض أهل الأخبار سبب تحول الأعشى إلى القدرية، أنه كان يأتي أهل الحيرة في الجاهلية، وكانوا نصارى، يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك2. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى وكان نصرانيا عباديا، وكان معمرا، قال: كان الأعشى قدريا، وكان لبيد مثبتا. قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وقال الأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبالعدل ... وولى الملامة الرجلا
قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، وكان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك"3.
والبيت المذكور هو من قصيدة مدح فيها "سلامة ذا فائش" مطلعها:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر ما مضى مهلا
استأثر الله بالوفاء وبالـ ... ـعدل وولى الملامة الرجلا4
شك في صحتها "ابن قتيبة"، فقال: "وهذا الشعر منحول"5، والصنعة في الواقع بينة على القصيدة، وإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يكون القدري صاحبها، ذلك الرجل الذي نحلها الأعشى، لا الشاعر الأعشى.
ويذكر أهل الأخبار أن الأعشى كان ممن أقر بالملكين الكاتبين في شعره، إذ يقول:
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي".
2 الأغاني "8/ 76".
3 الأغاني "8/ 79".
4 "وبالحمد"، ديوان الأعشى، القصيدة رقم "35"، "ص223"، ابن قتيبة، الشعر "1/ 15".
5 ابن قتيبة، الشعر "1/ 15".(18/395)
فلا تحسبني كافرا لك نعمة ... على شاهدي يا شاهد الله فاشهد
وشاهدي، يعني لساني، ويا شاهد الله، يريد الملك الموكل به. وكان هذا من إيمان العرب بالملكين. وقد نسبواهذه العقيدة إلى بقية من دين إسماعيل1، وزعموا أن العرب ممن أقام على دين إسماعيل، إذا حلفت تقول: وحق الملكين، فكان الأعشى ممن أقام على دين إسماعيل والقول بالأنبياء. "والأعشى ممن اعتزل وقال بالعدل في الجاهلية"2.
ونسب إلى "لبيد" العكس، أي القول بالجبر، واستدل من نسبه إلى الجبر، بقوله:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل3
وقد قال بعض العلماء: إن هذه الأبيات لا تشير حتما إلى مذهب لبيد في الجبر، وأنها لا تكون سببا في نسبة الجبر إليه، وقد تأولها، وأوجد لها مخارج في إبعاد القول بالجبر عنه. ثم قال: "اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفا بغير هذه الأبيات، فلا يتأول له هذا التأويل، بل يحمل على مراده على موافقة المعروف من مذهبه"4.
وينسب إلى "زهير بن أبي سلمى" قوله:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم5
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 186"، الشنقيطي، شرح المعلقات "61".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 241".
3 أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي"، ديوان لبيد "174"، "رقم 26"، وورد:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
الأغاني "8/ 76"، ديوان لبيد "13"، "رقم 39"، رسالة الغفران "267".
4 الخزانة "2/ 30"، "بولاق"، الأمالي للمرتضي "1/ 21".
5 ديوان زهير "18".(18/396)
وذكر أنه كان يتأله ويتعفف في شعره ويدل شعره المذكور على إيمانه بالبعث وبالحساب وبالثواب وبالعقاب1.
ومن رأي الجاهليين أن الموت مكتوب على جبين الإنسان، ولا بد له من أن يواجهه في يوم محتوم مكتوب عليه. ومن لم يمت عبطة، مات هرما. وفي ذلك يقول أمية:
من لم يمت عبطة يمت هرما ... وللموت كأس والمرء ذائقها2
ويقول الأعشى:
ولو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم3
ونجد رأي الجاهليين في الروح واضحا في أشعارهم وفي أقوالهم عن الموت، فالموت -كماسبق أن تحدثت عنه- في نظرهم مفارقة الروح للجسد، فإذا فارقته صارت "هامة" ترفرف فوق قبر صاحبها. هذا "عروة بن الورد"، يذكر الموت، ثم يذكر ما سيقوله الناس عنه، بقوله:
أحاديث تبقى والفتى غير خالد ... إذا هو أمسى هامة فوق صير4
وقد أشير إلى "العتائر" التي تقدم في "رجب"، في شعر "طرفة":
عنتا باطلا وظلما كما تعـ ... ـتر عن حجرة الربيض الظباء5
وكان الرجل من العرب ينذر نذراعلى شائه إذا بلغت مائة أن يذبح عن كل عشرة منها شاة في رجب، وكانت تسمى تلك الذبائح الرجبية، وهي العتائر.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 78"، الخزانة "1/ 376"، "بولاق".
2 أمالي المرتضى "1/ 533".
3 رسالة الغفران "571".
4 ديوانه "64"، "قال أبو عمرو: بالهزر ألف صير، يعني قبورا من قبور أهل الجاهلية"، اللسان "4/ 477"، "صير"، تاج العروس "3/ 346"، "صير".
5 مجالس العلماء "18 وما بعدها"، شرح القصائد العشر، للتبريزي "463 وما بعدها".(18/397)
وكان الرجل منهم ربما بخل بشائه فيصيد ظباء فيذبحهاعن غنمه في رجب ليوفي نذره1.
ومن الشعراء من غلبت عليه نزعة التبرم من هذه الدنيا، وذكر الموت والاتعاظ به، وعلى رأس هؤلاء "عدي بن زيد" العبادي، النصراني، وهو خير من يمثل هذه النزعة التصوفية، التي ترى أن اللذة لا تدوم، وأن السعادة مؤقتة زائلة، وأن على الإنسان أن يتعظ بمن عاش قبله من الملوك العظام، والأمم القوية، وممن نزع هذا المنزع وإن كان دون "عدي" بكثير "الأسود ين يعفر"، في قوله:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
إلى أن قال:
أين الذين بنوا فطال بناؤهم ... وتمتعوا بالأهل والأولاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد
وآخرها:
فإذا وذلك لا نفاد لذكره ... والدهر يعقب صالحا بفساد2
غير أن هذه النزعة، لم تكن ناتجة عن رأي وعن فلسفة ودراسة تأمل لهذه الحياة، وإنما هي نزعة نجدها عند من أصيب بنكبة وعند من حلت به مصيبة، وعند المسنين الذين غلب العمر عليهم، فجعلهم حطاما وكومة عظام، لا يستطيعون الوقوف على أرجلهم، فهم متعبون لا يجدون من يصغي إليهم أو من يعطف عليهم، أو من يساعدهم في الخروج من المأزق التي وقعوا فيها، فتبرموا لذلك من الحياة، وأخذوا يذمونها، وإنما هم يذمونها لأنهم صاروا في حال لا يتمكنون
__________
1 مجالس العلماء "20".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 138"، "2/ 552 وما بعدها" المفضليات "216" الأغاني "11/ 129"، ابن سلام "119"، الشعر والشعراء "1/ 176 وما بعدها" الجمان في تشبيهات القرآن "308".(18/398)
فيها من التلذذ بها ومن التمتع بنعم الحياة التي هي هي لا تتغير وإنما الذي يتغير هو الشخص، الذي كبر وعجز فصار يذم الدنيا، لأنه لم يعد قادراعلى فعل ما كان يفعله أيام كان شابا قويا يحب الدنيا، فتقبل الدنيا عليه.
ونجد في شعر ينسب للأعشى إشارة إلى التطير، إذ يقول:
ما تعيف اليوم في الطير الروح ... من غراب البين أو تيس برح1
وكان "النابغة" الذبياني من المتطيرين. خرج مرة مع "زبان بن منظور" الفزازي غازيا، فسقطت عليه جرادة، فتطير منها، فجرع من الغزو، ومضى زبان فظفر وغنم، فقال:
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهي الثبور
بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير
وقال خرز بن لوذان، ويقال مرقش السدوسي:
لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم
لا والتشاؤم بالعطا ... س ولا التيامن بالمقاسم
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
وإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم2
وفي شعر "عبيد بن الأبرص" القائل:
نبئت أن بني جديلة أوعبوا ... نفراء من سلمي لنا وتكتبوا
ولقد جرى لهم فلم يتعيفوا ... تيس قعيد كالهرواة أعضب
وأبو الفراخ على خشاش هشيمة ... متنكب إبط الشمائل ينعب
طعنوا بمران الوشيج فما ترى ... خلف الأسنة غير عرق يشجب
وتبدلوا اليعبوب بعد إلههم ... صنما ففروا يا جديل وأعذبوا3
__________
1 العمدة "260".
2 العمدة "261 وما بعدها".
3 الحيوان "3/ 100"، العمدة "2/ 202"، الخزانة "3/ 256".(18/399)
كلام عن العيافة، فأشار إلى تيس قعيد من الظباء، والقعيد الذي يأتي من الخلف، والأعضب المكسور القرن، وهو مما يتشاءم به العرب. وأبو الفراخ عنى به الغراب، واليعبوب صنم لجديلة، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد، رهط "عبيد بن الأبرص"، فتبدلوا اليعبوب بدله.
وقد أشير إلى التشاؤم بالغراب في شعر ينسب لعلقمة الفحل:
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بد مشئوم1
ونجد في شعر "أبي ذؤيب" الهذلي، وهو من الشعراء المخضرمين، إشارة إلى تشاؤم العرب بطير الشمال، إذ يقول:
زجرتُ لها طير الشمال فإن تكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها2
والعرب تتشائم من "طير الشمال"، على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء السادس من هذا الكتاب.
وكان "خزز بن لوذان" السدوسي على مذهب من ينكر الطيرة ولا يعتقد بها، وينسب إليه قوله:
لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم
قد خط ذلك في الزبو ... ر والأوليات القدائم3
وفي شعر "عبيد بن الأبرص" إشارة إلى رأي العرب في الحمامة، فالعرب تقول: "أخرق من حمامة"، وعبيد يقول في ذلك:
عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة
جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامة
__________
1 رسالة الغفران "478".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 27".
3 المؤتلف والمختلف "102"، تاج العروس "4/ 34"، "خزز"، الخزانة "3/ 11".(18/400)
قال ذلك تعبيرا عن حمقها، فالنشم شجر من أشجار الجبال تتخذ منه القسي، والثمامة نبت قصير يضرب به المثل في الضعف، وذلك حمقها: أن تجمع بين ضعيف وقوي، فيتكسر عشها ويقع البيض فينكسر1.
وقد تطرق "العباس بن مرداس" إلى ذكر "الغول"، فقال:
أصابت العام رعلا غول قومهم ... وسط البيوت ولون الغول ألوان
وهو يشير بذلك إلى تلون الغول2.
وفي شعر "زيد الخيل" إشارات إلى عادة تعليق الحلي، وخشخشة الخلاخيل على السليم، ليبرأ ويشفى، إذ يقول:
أيم يكون النعل منه ضجيعه ... كما علقت فوق السليم الخلاخل
ونجد مثل ذلك في أشعار شعراء آخرين3.
ومن مذاهب أهل الجاهلية المذكورة في الشعر، أنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم، ويستنبتون لمواقع حفرهم الزهر والرياض، قال النابغة:
فلا زال قبر بين تبنى وجاسم ... عليه من الوسمي طل ووابل
فينبت حوذانا وعوفا منورا ... سأتبعه من خير ما قال قائل
وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام4.
وفي شعر بعض الشعراء أن الحياة لا تدوم، وأن المال وإن كان أساس هذه الحياة، لكنه متاع أيام وكل ذاهب. فبينما هو يجمعه ويحرص عليه، إذا به يعيث همج هامج، وما المال إلا عارة فاخلف وأتلف، فكله مع الدهر ذاهب، هذا "الحارث بن حلزة" اليشكري، يقول:
__________
1 الحيوان "3/ 189"، "حاشية رقم 4"، أدب الكاتب "55"، ثمار القلوب "369"، الميداني، أمثال "1/ 234"، عيون الأخبار "1/ 72".
2 الحيوان "6/ 161"، المعارف "36".
3 الحيوان "4/ 247 وما بعدها".
4 أمالي المرتضى "1/ 54".(18/401)
بينا الفتى يَسعى ويُسعى له ... تاج له من أمره خالج
يترك ما رقح من عيشه ... يعيث فيه همج هامج
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
وهذا تميم بن مقبل يقول:
فاخلف وأتلف إنما المال عارة ... وكله مع الدهر الذي هو آكله1
ونجد في شعر الشعراء الجاهليين، ذما للأغنياء الذين يملكون ولا يعطون شيئا منه للفقير والبائس والمحتاج، وللذين يكبرون من شأن الكبير بماله، ويبتعدون عن الفقير لفقره، ويعظمون الغني على كثرة عيوبه ونواقصه، ولا لشيء إلا لماله وغناه، فنرى "عروة بن الورد"، يقول:
ذريني للغنى أسعي فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
يباعده النديّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل عيبه والعيب جم ... ولكن الغني رب غفور2
وللشعراء الجاهليين رأي في النساء. رأي أغلبهم أن المرأة متعة للرجل، يلهو بها، ويقضي حاجته منها، خلقت للبيت وللولادة، وهي دون الرجل. وهي تحب الشاب القوي، والغني الكثير المال. ونجد هذا الرأي عند أكثر الشعراء اتصالا بالمرأة، وعند أكثرهم لهوا بها مثل "امرئ القيس" حيث يقول:
فيا رب يوم قد أروح مرجلا ... حبيبا إلى البيض الأوانس أملسا
أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا3
__________
1 البخلاء "164 وما بعدها".
2 أمالي المرتضى "1/ 50"، ديوان عروة "198"، العقد "1/ 212"، "ولكن للغنى"، وتجد اختلافا في الألفاظ وفي ترتيب الأبيات حسب المراجع، البيان "1/ 234"، "عبد السلام محمد هارون".
3 ديوانه "106 وما بعدها"، رسائل الجاحظ "1/ 98، 114" "مفاخرة الجواري والغلمان".(18/402)
ونجد الأعشى يقول:
وأرى الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا1
وفي شعر علقمة بن عبدة ترديد لرأي امرئ القيس وزيادة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب2
__________
1 ديوانه "151"، رسائل الجاحظ "1/ 98"، "مفاخرة الجواري والغلمان".
2 ديوانه "131 وما بعدها"، البيان والتبيين "3/ 239"، المفضليات "131 وما بعدها"، رسائل الجاحظ "1/ 99، 114"، "مفاخرة الجواري والغلمان".(18/403)
الفصل الثامن والستون بعد المائة: شعر المخضرمين
المخضرم هو الذي أدرك الجاهلية والإسلام1. والشعراء المخضرمون هم الذين عاشوا في الجاهلية وفي الإسلام ونظموا الشعر في العهدين: الجاهلية والإسلام. والمخضرم من يدرك عهدين متناقضين.
والشائع بين الناس أن الإسلام قد سبب في انصراف الناس عن الشعر وعن روايته "بما شغلهم من أمور الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره. وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه"2. وقد نسب إلى "عمر" قوله: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته"3، "لما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأن العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم
__________
1 تاج العروس "8/ 281"، "الخضرم"، الخزانة "1/ 129"، "بولاق".
2 مقدمة ابن خلدون "581"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "103".
3 ابن سلام، طبقات "10"، المزهر "2/ 473".(18/404)
كثير"1. والشائع بينهم أيضا أن الشعر قد أصيب بسبب ما تقدم بنكسة، فذبل وضعف وذهبت عنه قوة وسورة وجزالة وشدة الشعر الجاهلي، وأعرض بعض الشعراء مثل "لبيد" عن الشعر، إذ رأوا أن في كلام الله ما يغنيهم عنه، وقل بذلك عدد الشعراء ولا سيما الشعراء الفحول بالنسبة إلى أيام الجاهلية، وغلبت الليونة على الشعر الجديد، فصار شعر "حسان" الذي قاله في الإسلام ضعيفا لينا بالنسبة إلى شعره الجزل المتين الذي قاله في جاهليته.
وجوابي على هذه الدعاوى: صحيح أن الشعر الجاهلي قد نقص حجمه وضاع قسم كبير منه، ولكن ضياعة ذلك لم يكن بسبب الإسلام، وإنما بسبب الأحداث والتطورات التي طرأت على جزيرة العرب، بسبب دخولها في الإسلام، كحروب الردة مثلا والفتوح، وانفتاح أرض الله الواسعة أمام المسلمين، وفرار الكثير من أهل جزيرة العرب نحو الخارج بحثا عن أرض أخصب وماء أوفر، وجو أطيب وثراء وعيشة راضية. أما حروب الردة، فقد أكلت من المسلمين ومن المرتدين جماعة عرفت برواية الشعر وبحفظها له، وبنظم الشعر أيضا، فقل بهلاكهم عدد حفاظ الشعر، كما قل في الوقت نفسه عدد حفاظ القرآن. وأما الفتوح، فقد قتل فيها قوم من الشعراء ومن حفاظ الشعر، فهلك بموتهم شطر من الشعر الجاهلي، وتقلص عدد العلماء به. كما ألهت الناس عن الشعر، بما فتحت لهم من آفاق الأرض وبما درت عليهم من أموال وأشغال قلصت من فراغهم الذي كان يكوّن معظم حياتهم في البوادي، فجعلتهم في الأرضين الجديدة يصرفون معظم وقتهم في استغلال الأرضين التي صارت من نصيبهم، وفي إحياء الموات، وفي تربية المواشي، والاشتغال بالزراعة، وهي أشغال تستبد بوقت الإنسان، وتصرف ذهنه إليها لمعالجتها، فلا يشعر في مثل هذه الحالة بما كان يشعر به يوم كان في بواديه فارغ البال، يقضي وقته بالتعبير عن نفسه بشعر يقتل به فراغه، ويسلي به نفسه بالتغني به لأصدقائه، ثم هو قد يتيعش منه، بما يناله من قبيلته من مال واحترام، وبما قد يحصل عليه من مدحه للملوك وللسادات من عطايا وهبات ثمنا للمدح. ومحيط فيه شغل وعمل، وفيه تعب جسماني وعقلي لا يساعد على نمو الشعر فيه، ومن هنا كان إقبال أهل الحضر مثل أهل مكة وأهل يثرب
__________
1 المزهر "2/ 474".(18/405)
وأهل الطائف وأهل اليمامة على الشعر، ونبوغهم فيه أقل من إقبال أهل البوادي عليه، بسبب انشغال أهل القرى والحضر عامة بتدبير أمور الحياة، وبالحرف وباستغلال الأرض والمال والإتجار، وبسبب تكتلهم وتجمعهم وتلاصق بيوتهم بعضها ببعض، مما يجعلهم يطلعون على أحوال جيرانهم وعلى عوراتهم، ويقفون على أسرار حياتهم في الشعب وفي القرية، فلا يكون للهجاء عندهم لهذا الأثر الذي يكون له عند الأعراب، ولا يكون للمدح عندهم ما يكون له من أثر عند أهل البادية. ومن هنا نجد دولة الشعر وقد قل نفوذها في العالم العربي في هذا اليوم عما كان عليه نفوذها قبل ثلاثين سنة أو أكثر، بسبب التطور الحضاري الذي أخذ يغزو العالم العربي، وهو تطور يقلص من فراغ الإنسان ويستبد به، جاء له بهموم وبمشاكل نفسية وبأمراض الحضارة التي تريد المزيد من التمتع بمتع الحياة من جنسية ومادية، ليتمتع بها الإنسان في هذه الحياة التي لن يعود إليها مرة ثانية، فصار يفكر في الحصول على المادة جهد طاقته، ولو عن طريق إماتة أعصابه، ليستمتع بأقصى حد ممكن باللذة الحسية، التي صار يراها أنها سبب هذا الوجود، وذلك قبل فواتها منه، بموت يخترمه منها، فزاد الإقبال على المتعة، وعلي رأسها الاستمتاع باللذة الجنسية، وبلذة الشرب والتدخين، وقل الإقبال على الاستمتاع باللذات النفسية، وفي جملتها الشعر، فلا تجد اليوم له في أوروبة ما كان له من مكانة قبل عشرات السنين، وغلب النثر عليه، وقل عدد من كان يحفظ شعر الشعراء الماضين والمعاصرين، وعلي هذا النحو صار حالنا اليوم، فتناقص عدد حفاظ الشعر في النجف مثلا تناقصا كبيرامن حيث العدد والكم، والنجف في الشعر أو الأدب كوفة العراق بالأمس أيام الأمويين والعباسيين. فالإعراض الذي لاقاه الشعر في صدر الإسلام، لم يكن بسبب كره الإسلام له، وإنما بسبب التطور الذي طرأ على حياتهم، فغيرها من جميع الوجوه، نتيجة لخروجهم من جزيرتهم، ولاختلاطهم بأمم أعجمية ذات نظم أخرى، ونظرات متباينة مع نظرات العرب إلى مفهوم الحياة.
أما إعراض "لبيد" عن قول الشعر بعد اعتناقه الإسلام، فليس مرده اعتقاده بكره الإسلام للشعر، وإنما هو في رأيي بسبب تقدمه في السن، والإنسان متى تقدم في العمر خفتت مواهبه وبرد إحساسه، ووهنت عواطفه التي تكون متقدمة في أيام المراهقة والشباب، أو قد يكون هذا العامل وعامل آخر، هو سلطان(18/406)
الدين الذي استولى عليه وهو في سن الشيخوخة، بحيث صيره يشعر بوجوب الانصراف نحو العبادة وحفظ ودراسة كتاب الله، ومع ذلك فهناك روايات روت أن معظم شعره الذي فيه تدين وزهد وحث على العمل الصالح، هو شعر قاله في الإسلام، وأن ما زعم من أنه ترك الشعر، وانكب كلية على قراءة القرآن زعم غير صحيح.
وأما إعراض "بشار بن عدي بن عمرو بن سيود" الطائي عن الشعر، فيظهر أنه عن وازع نفسي ديني، حمله على التفرغ لدراسة كتاب الله، وعلى الزهد، وقد يكون ذلك بسبب تقدمه في السن. وفي تركه الشعر يقول:
تركت الشعر واستبدلت منه ... كتاب الله ليس له شريك
وودعت المدامة والندامى ... إذا داعى منادي الصبح ديك1
وأما إعراض "مالك بن عمير" السلمي عن الشعر2، فهو حادث فردي كذلك، لا يعلم مبلغ درجته من الصحة، ومع ذلك، فإن كل من ترك الشعر من الشعراء لا يصل عددهم إلى عشرة، وهم قلة بالنسبة إلى عدد الشعراء المخضرمين الذين استمروا في نظمه في الإسلام.
وأما ما قالوه عن الضعف الذي ألم بشعر "حسان" الذي قاله في الإسلام، وعن متانة شعره وجزالته في الجاهلية، فلا يعقل إرجاع سببه إلى الإسلام، فقد اتخذ الرسول "حسانا" شاعرا له، يجبُّ عنه وعن الإسلام المشركين، كما شجع غيره في الرد على شعراء الشرك، وكان الرسول يستصوب الشعر الصلد الجزل المتين ذا المعاني الجيدة العميقة، ومصدر ضعف "حسان" في شعره في الإسلام، هو بسبب تقدمه في السن، والتقدم في السن -كماسبق أن قلت- يضعف المواهب، ومنها الشاعرية، ويخمل العواطف، فقد كان حسان في جاهليته شابا ورجلا، قوي الجسم ككل رجل، متقيد الحس، متألق الحس، متألق العاطفة، ذا شاعرية حساسة ثائرة، يشرب ويلهو ويسمع الغناء ويحضر مجالس الطرب، فلما جاء الإسلام، ودخل فيه مع من دخل، كان قد تقدم في السن،
__________
1 الإصابة "1/ 174"، "رقم 767".
2 الإصابة "3/ 331"، "رقم 7672"(18/407)
فبرد حسه، وضعف شعره في المعاني التي قالها في الجاهلية، وفي الدروب التي سلكها من دروب الشعر الجاهلي، ولكنه تألق في معان أخرى تنسجم مع عمره ومع المثل التي اعتنقها، فمن ثم صار شعره يختلف عن شعره في الجاهلية. ولم يقع ذلك لحسان وحده وإنما وقع هذا الحادث لكل شاعر هجم عليه العمر، واستبدت به الأعوام.
ومما وقع للشعر في الإسلام، أن الزعامة انتقلت فيه من البوادي إلى الحواضر، فبعد أن كان شعر الأعراب، بجزالته وبخشونته وبصلادته، هو المقدم عند علماء الشعر والمحبين له، وبعد أن كانت القبائل هي التي تنجب الفحول، صارت الحواضر هي التي تنبت الفحول، لتبدل الزمن، ووقوع تغير في الذوق، ولتغلب الحضارة على البداوة، ولاهتمام الناس بالمعاني، أكثر من اهتمامهم بالشكل وبمظهر القوالب فقل شعر الشعراء الأعراب الفصحاء، ثم انحسر الشعر من موطنه، كما انحسر أكثر سكان البوادي عن بواديهم، ليلحقوا بخير الحضر، وصار الشعر العربي الفصيح من حصة الحضر في هذه الأيام. كما حلت الكوفة ثم "دمشق" ثم بغداد فبقية الحواضر محل "الحيرة" وقصور الغساسنة ومضارب سادات القبائل في استقبال الشعراء وفي الإنعام عليهم بالهدايا والألطاف. ولتغير الذوق بتغير المجتمع، تغير الشعر كذلك، ولا سيما في أيام بني العباس.
وفي شعر المخضرمين شعر قيل في الرسول وفي حوادث الإسلام، وفي الرد على المشركين وتسفيه مقالتهم وفي دينهم ونيلهم من دين الله. قاله الشعراء بعد دخولهم في الإسلام. وعلي رأس هؤلاء من ذكرت من شعراء يثرب، يتقدمهم "حسان بن ثابت" شاعر الرسول، الذي كان يستدعيه الرسول في المناسبات ليجيب على شعر الشعراء الوافدين عليه، كالذي كان من أمره مع شاعر وفد "تميم" الزبرقان بن بدر.
وكان لرد شعراء يثرب على شعراء قريش ومن لف لفهم، أثر كبير في نفوس المشركين. يروى أن النبي قال لحسان بن ثابت: "اهجهم، يعني قريشا، فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس"1. وقد كان هجاؤه شديدا عليهم، له وقع في نفوسهم أشد
__________
1 العمدة "1/ 12"، الأغاني "4/ 7"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "107".(18/408)
من وقع شعر بقية الشعراء عليهم. فقد كان لسانه حادا قاطعا، لا سيما إذا ما تناول ناحية الهجاء وما يتعلق منه بالوقائع والأيام والنزاع القديم الذي كان بين أهل مكة ويثرب. فيجيد في ذلك كل الإجادة، ويتفوق بهذه الناحية على شعراء قريش.
وكان حسان وكعب يعارضان شعراء قريش بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر، فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب، وأهون شيء عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة1.
وأما شعر شعراء مكة إلى عام الفتح، فكان في إيذاء الرسول والإسلام، وفي هجاء المسلمين، وتمجيد قريش ورثاء من قتل من المشركين وتعظيم أمر الجاهلية وسنة الآباء وما ألفوه عن آبائهم من أمور، وقد حفظت كتب السير والمغازي والتواريخ شيئا من شعرهم، من النوع الذي لم يتضمن قذعا شديدا بالإسلام، ولا شتما عنيفا وهجاء غليظا بالرسول وبالمسلمين. أما النوع الثاني الذي أفحش فيه أولئك الشعراء، وجاءوا فيه بشتائم وسباب، فقد أنف أصحاب السير والمغازي والتأريخ من روايته، فتركوه، ولو جمع الباقي من شعرهم مع ما رد عليه، لكُوّن منه ديوان ثمين في المعارضة التي كانت بين المشركين والمسلمين في مبدأ ظهور الإسلام، ولكان سجلا قيما لتأريخ ذلك الصراع، ولكيفية تغلب الإسلام على الشرك. فهو وثائق تأريخية من الدرجة الأولى، على أن يغربل ويفحص فحصاعلميا للتيقن من درجة صفائه ونقائه بالطبع.
ونوع آخر من أنواع الشعر كان عند المخضرمين، هو شعر القتال. القتال الذي وقع بين المسلمين والمشركين واليهود، إلى أن انتصر الإسلام. فاختفى صوت الشرك وصوت يهود، وبقي صوت الإسلام وحده، لا يعارضه أحد، ولا يجابهه صوت. فقد كان من عادة العرب، أنهم إذا تقاتلوا أنشدوا شعرا يفتخرون فيه بأنفسهم وبقبيلتهم وبشجاعتهم، ولا سيما حين يخرج فارس لمبارزة فارس آخر، وقد يقف الشعراء في صفوف المحاربين يحرضونهم على القتال والاستبسال.
__________
1 الأغاني "15/ 29".(18/409)
ونجد في بطون كتب السير والمغازي والتواريخ، نماذج طيبة من هذا الشعر: شعر القتال. قال المحاربون عند خروجهم من صفوف المقاتلين لمقابلهم من سيخرج من الجانب الثاني.
وتولد من هذا النوع من الشعر شعر آخر قيل في معارك الفتوح. في المعارك التي وقعت مع عرب الحيرة، ثم مع الفرس، وفي المعارك التي حدثت بين المسلمين وبين الغساسنة، وبين المسلمين والروم، ثم في الفتوحات الأخرى. فقد ساهم في هذا القتال شعراء مخضرمون، حاربوا في الجاهلية، وحاربوا في الإسلام. وحافظوا على تقاليدهم وأعرافهم القديمة التي كانت لهم في الجاهلية عند القتال، من التحمس في القتال والاندفاع من الصفوف إلى الأمام لمبارزة من قد يبرز لهم لمقاتلتهم، ومن التغني بالقتال ومبارزة العدو. ونجد في كتب الفتوح والتأريخ والأخبار، نماذج من هذا الشعر. ونجد في شعر "قيس بن مكشوح" المرادي وصفا ليوم القادسية، وفخرا بسيره مع جمع من قومه من "صنعاء" إلى وادي القرى فديار كلب، إلى اليرموك، فالشام، ثم القادسية بعد شهر، ثم مقابلته جمع كسرى وأبناء المرازبة، وهجومه على رأس الفرس1، ولو جمعنا هذا الشعر الذي قيل في هذا القتال لكوّنّا منه ديوانا2، يصور هجرة القبائل العربية من مواطنها إلى البلاد المفتوحة، ويتحدث عن الأبطال الذين ساهموا في جمع هذا الديوان، والملحمة الشعرية التي تروي قصص الفتوح، وما قام به المحاربون الشجعان في حروب الفتح3.
وهناك شعراء أسلموا، لكن قلوبهم بقيت على ما كانت عليه قبل الإسلام من عدم الاهتمام بأمور الدين، فلم يحفلوا بالإسلام، ولم يذكروا الرسول، وهم شعراء أهل البادية الأعراب.
وطالما كان يأتي الشعراء إلى "يثرب" على طريقتهم في الجاهلية في إنشاد شعرهم أمام رجل منهم عظيم، مثل ملوك الحيرة أو الغساسنة، أو سادات القبائل. فيقف الشاعر أمام الرسول لينشده شعره الذي أعده لهذه المناسبة، أو ليقول شعرا
__________
1 الإصابة "3/ 261"، "رقم 7315"، الاستيعاب "3/ 235".
2 كارلو نالينو، تأريخ الأداب العربية "116".
3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 173".(18/410)
بالمناسبة. ولما قدم وفد "تميم"، المدينة، ودخلوا المسجد، وقالوا: "يا محمد، جئناك لنفاخرك، فائذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أذنت لخطيبكم فليقل، فخطب: "عطارد بن حاجب"، فلما انتهى قال الرسول لثابت بن قيس بن شماس، أجبه، فأجابه. ثم قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
فلما انتهى، أجابه حسان، فحكموا أن خطيب المسلمين أخطب من خطيب تميم، وأن شاعر الرسول أشعر من شاعرهم1.
وعادة التفاخر في مجالس الملوك وسادات القبائل، وإنشاد الشعر في ذلك، ورد الشعراء بعضهم على بعض، دفاعا عن قومهم، من العادات الجاهلية القديمة، التي بقيت في الإسلام كذلك، ولما أخذت الوفود تفد على الرسول بعد فتح مكة، كان في أعضائها من يخطب على طريقتهم في الخطابة، ومنهم من ينشد الشعر، ثم يعلنون إسلامهم، ومنهم من يشترط شروطا، وكان من بين المسلمين من يتولى الرد عليهم، وقد يجيبهم الرسول بنفسه.
وقد كره الإسلام من الشعر الجاهلي الشعر الذي يتعرض بالأعراض ويتحرش بعورات الناس، والشعر الذي يهيج الفتن، ويلقي البغضاء بين الإخوة، فيعيدها فتنة جاهلية، ومن هنا جاء النهي عنه في قوله: "لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا" 2، ولم يأت في عامة الشعر. وأخذ الخلفاء الشعراء الهجائين متى أقذعوا في شعرهم، وتحاملوا فيه على الناس، تحاملا يغض منهم. وهنا حبس "عمر" الحطيئة، وكان يقف بالمرصاد لمن يفعل فعله في نهش أعراض الناس. ولذلك تخوف المخضرمون في شعرهم من شعر الهجاء واحترسوا فيه امتثالا للمثل الإسلامية التي تأمر بالابتعاد عن ذكر المثالب والامتناع عن إيذاء الناس، وخوفا من تأديب الخلفاء لهم إن نهشوا أعراض المسلمين.
__________
1 الطبري "3/ 115"، "قدوم وفد تميم ونزول سورة الحجرات".
2 البخاري، "كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، وفي أبواب أخرى، شرح النووي على صحيح مسلم "9/ 100 وما بعدها"، "حاشية على إرشاد الساري"، زاد المسلم "1/ 350 وما بعدها".(18/411)
والقديم من شعر المخضرمين، ولا سيما شعر المتقدمين منهم في السن، هو استمرار في الواقع للشعر الجاهلي، نظم على طريقة أهل الجاهلية وأساليبهم في نظم الشعر وعلى معانيهم التي كانوا يتطرقون إليها في شعرهم في الغالب، فقد ولدوا في الجاهلية وقضى بعض منهم أكثر سني حياته فيها، ونظموا أكثر شعرهم في تلك الأيام وفي الأحداث التي وقعت فيها. ولذلك صار شعرهم يختلف عن شعر الشعراء الإسلاميين، لأنهم لم يشهدوا الجاهلية ولم يدركوها، وهم من ثَمّ لم يتأثروا بعقليتها كثيرا، ومن هنا يجب علينا أن نوجه لشعر الشعراء المخضرمين المسنين الذين قضوا أكثر أيام حياتهم في الجاهلية عناية خاصة، وأن نقوم بدراسته دراسة نقد دقيقة، إذ نتمكن بها من الوقوف على تطور الشعر الجاهلي ومكانته عند ظهور الإسلام.
ومن الشعراء المخضرمين من لقي الرسول وصحبه ومدحه وروى عنه، ومنهم من صحبه، لكنه لم يرو عنه، ومنهم من لم يره لكنه دخل في الإسلام. وقد ذكر بعض العلماء أسماء الشعراء الذين صحبوا الرسول ورووا عنه، منهم "حسان بن ثابت"، و"كعب بن مالك"، و"عبد الله بن رواحة"، و "عدي بن حاتم" الطائي، و "عباس بن مرداس" السلمي، و "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و "حميد بن ثور" الهلالي، و "أبو الطفيل عامر بن وائلة"، و "أيمن بن خريم" الأسدي، و "أعشى" بني مازن، و "الأسود بن سريع"، و "الحارث بن هشام"، و "عمرو بن شاس"، و "ضرار بن الأزور"، و "خفاف بن ندبة"، و "لبيد بن ربيعة"، و "ضرار بن الخطاب"، و "عبد الله بن الزبعرى"، ولم تكن للبيد، ولا لضرار ولا لابن الزبعرى رواية عنه. وكذلك "أبو ذؤيب" الهذلي، و "الشماخ بن ضرار"، وأخوه "مزرد بن ضرار"1.
وقد عد "ابن سلام" "النابغة" الجعدي، والشماخ بن ضرار، ولبيد، وأبو ذؤيب الهذلي طبقة، وقال: وكان الشماخ أشد متونا من لبيد، ولبيد أحسن منه منطقا2.
__________
1 الاستيعاب "3/ 561"، "حاشية على الإصابة".
2 الاستيعاب "3/ 561"، "حاشية على الإصابة".(18/412)
و "النابغة" الجعدي، هو: "أبو ليلى عبد الله بن قيس"، أو "قيس بن عبد الله بن عدس"، وقيل: "حبّان بن قيس"، "حيان بن قيس"، وغير ذلك. قيل له "النابغة"، لأنه كان يقول الشعر ثم تركه في الجاهلية، ثم عاد إليه بعد أن أسلم، فقيل: نبغ. قيل إنه كان قديما شاعرا مفلقا طويل العمر في الجاهلية وفي الإسلام، حتى زعم أنه كان أسن من النابغة الذبياني، واستدلوا على طول عمره بأبيات زعموا أنه قالها هي:
ألا زعمت بنو أسد بأني ... أبو ولد كبر السن فاني
فمن يك سائلا عني فإني ... من الفتيان أيام الختان
أتت مائة لعام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتان
وقد أبقت صروف الدهر مني ... كما أبقت من السيف اليماني1
وذكر "السجستاني" في كتاب المعمرين، أنه عاش مائتي سنة. وهو القائل:
قال"؟ " أمامة كم عمرت زمانه ... وذبحت من عنز على الأوثان
ولقد شهدت عكاظ قبل محلها ... فيها وكت أعد من الفتيان
والمنذر بن محرق في ملكه ... وشهدت يوم هجائن النعمان
وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى ... وقوارع تتلى من القرآن
ولبست في الإسلام ثوبا واسعا ... من سيب لا حرم ولا منان2
وهو عند الأخباريين أسن من النابغة الذبياني وأكبر، واستدلوا على أنه أكبر من النابغة الذبياني، بأن النابغة الذبياني كان مع النعمان بن المنذر، وكان النعمان ابن المنذر بن محرق. وقد أدرك النابغة الجعدي المنذر بن محرق ونادمه، ولكن النابغة الذبياني مات قبله، وعمر بعده عمرا طويلا. ذكر بعضهم أنه عمر مائة وثمانين وذكر بعضهم أنه عمر أكثر من ذلك حتى ذكر بعض منهم أنه عمر مائتين
__________
1 تختلف هذه الأبيات في النظم وفي الترتيب في كتاب الإصابة عنها في الاستيعاب وفي الكتب الأخرى، الإصابة "3/ 508 وما بعدها"، "رقم 8641"، الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، ابن هشام "1/ 53"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 53".
2 الإصابة "3/ 508"، "رقم 8641"، البخلاء "202 وما بعدها، 208 وما بعدها، ومواضع أخرى راجع ص612".(18/413)
وعشرين سنة. وذكروا أن "عمر" قال له: كم لبثت مع كل أهل؟ قال ستين سنة. وأنشده قوله:
لقيت أناسا فأفنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا
ثلاثة أهلين أفنيتهم ... وكان الإله هو المستآسا1
وجعل بعضهم عمره "240" سنة، وكان أكثرها في الجاهلية2.
وهو من "الفلج" جنوب نجد، وكان يزور بني لخم في الحيرة. وكان شاعرا مغلبا، ما هاجى قط إلا غلب، هاجى أوس بن مغراء، وليلى الأخيليلة، وكعب بن جميل فغلبوه جميعا، وذكر أنه مكث إلى أيام "عبد الله بن الزبير"3.
وذكروا أنه كان يذكر في الجاهلية دين إبراهيم والحنيفية ويصوم ويستغفر. وقال في الجاهلية كلمته التي أولها:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
وفيها ضروب من دلائل التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار وصفة بعض ذلك على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إن هذا الشعر له، ولكنه قد صححه علماء الشعر مثل: يونس بن حبيب، وحماد الراوية، ومحمد بن سلام، وعلي بن سليمان الأخفش للنابغة الجعدي4.
وروي أنه كان ممن فكر في الجاهلية وأنكر الخمر والسكر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان وذكر دين إبراهيم5.
__________
1 الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، الأغاني "4/ 128"، الخزانة "1/ 512"، السيوطي، شرح شواهد "208"، الموشح "64"، ابن سلام، طبقات "26"، مجالس ثعلب "663"، الاشتقاق "338".
2 الروض الأنف "1/ 53"، "لبست أناسا"، أمالي المرتضى "1/ 264".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 614 وما بعدها"، الأغاني "5/ 1 وما بعدها"، "دار الكتب"، الجمحي، طبقات "26 وما بعدها"، الشعر والشعراء "158 وما بعدها"، المعجم، للمرزباني "321"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 614"، المعمرون للسجستاني "66"، الخزانة "1/ 512"، أسد الغابة "5/ 2 وما بعدها"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 232"، البخلاء "243".
4 الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، الخزانة "1/ 514 وما بعدها"، رسالة الغفران "202".
5 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641".(18/414)
وذكر أن "النابغة" قدم على "عثمان" يستأذنه في السفر إلى البادية، لأن نفسه اشتاقت إليها، ليشرب من ألبانها، وليشرب من شيح البادية، فقال له عثمان: "أما علمت أن التعرب بعد الهجرة لا يصلح؟ قال: لا والله ما علمت وما كنت لأخرج حتى أستأذنك، فأذن له، وضرب له أجلا". ثم دخل على "الحسن بن علي" فودعه، فقال له: أنشدنا من بعض شعرك، فأنشده:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
فقال: يا أبا ليلى ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت؟ قال: يا ابن بنت رسول الله، والله إني لأول الناس قالها وإن السروق من سرق أمية شعره"1.
وذكر أنه كان من أصحاب "علي" وحارب معه يوم صفين، وله مع "معاوية" أخبار. ومات معمرا بأصبهان سنة "65هـ" "684م". وكان معاوية سيره إليها مع "الحرث بن عبد الله بن عوف بن أصرم". وكان ولي أصبهان من قبل علي2.
وقد وفد النابغة على النبي وأنشده قصيدته الرائية التي فيها:
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتابا بالمجرة نيرا
إلى أن بلغ قوله:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا3
فقال رسول الله: "إلى أين أبا ليلى"؟ فقال: إلى الجنة. فقال رسول الله: "نعم إن شاء الله" 4.
__________
1 ابن سلام، طبقات "27".
2 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 232"، الإصابة "3/ 510".
3 تختلف الروايات في ضبط هذه الأبيات، ولعلماء الشعر روايات مختلفة عنها، رسالة الغفران "228"، أمالي المرتضى "1/ 226"، الأغاني "4/ 593".
4 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641"، الاستيعاب "3/ 552 وما بعدها".(18/415)
ولما أنشده:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فاستحسنه الرسول وقال: "لا يفضض الله فاك". وذكر أن كلمة النابغة هذه قصيد مطول نحو مائتي بيت أوله:
خليلي غضا ساعة وتهجرا ... ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
وهو من أحسن ما قيل من الشعر في الفخر بالشجاعة سباطة ونقاوة وجزالة وحلاوة1. وقد تعرض فيها بأمور الجاهلية والإسلام.
وأسلم وحسن إسلامه وكان يرد على الخلفاء ورد على عمر ثم على "عثمان".
ويظهر أن القصيدة قد طولت على "النابغة" فيما بعد، وأنها لم تكن على هذا النحو من الطول لما أنشدها على الرسول. وقد روى بعض العلماء منها أربعة وعشرين بيتا2، لعلها هي الأبيات التي أنشدها أمام النبي.
وذكر أنه كان بالبصرة، فرعت "بنو عامر" في الزرع، فبعث "أبو موسى" الأشعري في طلبهم، فتصارخوا يا آل عامر! فخرج النابغة الجعدي ومعه عصبة له. فضربه أسواطا. فقال النابغة في ذلك:
رأيت البكر بكر بني ثمود ... وأنت أراك بكر الأشعرينا
فإن تك لابن عفان أمينا ... فلم يبعث بك البر الأمينا
فيا قبر النبي وصاحبيه ... ألا يا غوثنا لو تسمعونا
ألا صلى إلهكم عليكم ... ولا صلى على الأمراء فينا3
وقد مدح "النابغة" الجعدي عبد الله بن الزبير، ويظهر أنه كان في ضيق. وعسر، إذ يقول فيها:
__________
1 الاستيعاب "3/ 555 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، وتجد أبياتا منها في الاستيعاب، الأغاني "5/ 8".
2 الإصابة "3/ 510"، "رقم 8641".
3 الاستيعاب "3/ 556 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".(18/416)
أتاك أبو ليلى تجوب به الدجى ... دجى الليل جوّاب الفلاة عرمرم
لتجبر منه جانبا دعدت به ... صروف الليالي والزمان المصمم
فأعطاه قلائص سبعا وفرسا وخيلا، وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا1.
ومن جيد شعره قوله:
فتى كملت خيراته غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا2
قال العلماء في شعر "النابغة": "خمار بواف، ومطرف بآلاف. يريدون أن في شعره تفاوتا، فبعضه جد مبرز وبعضه رديء ساقط"3. ونسب إلى "الفرزدق" قوله في النابغة الجعدي: صاحب خلقان، يكون عنده مطرف بألف دينار، وخمار بواف"4.
وقد ذكر "أبو العلاء" المعري قصيدة النابغة التي يقول فيها:
ولقد أغدو بشرب أنف ... قبل أن يظهر في الأرض ربش
فقال على لسان "النابغة" الجعدي: "ما جعلت الشين قط رويا، وفي هذا الشعر ألفاظ لم أسمع بها قط"5.
وروى "المعري" له قصيدة، استحسن منها قوله:
طيبة النشر والبداهة والـ ... ـعلات عند الرقاد والنسم6
ومن شعره قوله في "زياد بن الأشهب بن أدد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة" العامري الجعدي:
مقام زياد عند باب ابن هاشم ... يريد صلاحا بينكم ويقرب
__________
1 الاستيعاب "3/ 558"، "حاشية على الإصابة".
2 الاستيعاب "3/ 558"، "حاشية على الإصابة".
3 الشعراء والشعراء "1/ 210"، "دار الثقافة"، البيان والتبيين "1/ 206".
4 أمالي المرتضى "1/ 269".
5 رسالة الغفران "209".
6 رسالة الغفران "219 وما بعدها"، تهذيب الألفاظ "631"، السمط "431".(18/417)
وكان قد مشى في الصلح بن علي ومعاوية. وكان من أشراف أهل الشام ومن المقربين إلى معاوية1.
و"الطفيل بن عمرو بن طريف" الدوسي، من الشعراء الأشراف. كان شاعرا لبيبا. تذكر رواية أنه أسلم حين كان الرسول بمكة، وأنه لما أتى مكة ذكر ناس من قريش أمر النبي، وسألوه أن يختبر حاله، فأتاه فأنشده من شعره، فتلا النبي الإخلاص والمعوذتين فأسلم في الحال وعاد إلى قومه. وتذكر رواية أنه عاد مرة أخري إلى مكة، ثم عاد إلى قومه حتى هاجر الرسول إلى المدينة، فجاء على رأس وفد من دوس ممن أسلم، فوصل والرسول محاصر "خيبر"، فمكث بالمدينة حتى إذا فتحت مكة، بعثه الرسول إلى "ذي الكفين" صنم "عمرو بن حممة" حتى أحرقه. وقد أورد "المرزباني" شيئا من شعره2.
وأعشى بن مازن، أو الأعشى المازني، هو "عبد الله بن الأعور"، وقيل إن اسم "الأعور" "رؤبة بن فزارة بن غضبان بن حبيب بن سفيان بن مكرز بن الحرماز بن مالك بن عمرو بن تميم". يكنى "أبا شعيثة". "وقال أهل الحديث: يقولون المازني وإنما هو الحرمازي، وليس في بني مازن أعشى". وذكر أنه أتى النبي فأنشده:
يا مالك الناس وديّان العرب ... إني لقيت ذربة من الذرب
وفيه قصة امرأته وهربها3.
فكتب النبي إلى "مطرف بن نهصل"، وكانت امرأته عنده، أن يعيدها إليه، فأعادها، فقال:
__________
1 الإصابة "1/ 562"، "رقم 2985".
2 الإصابة "2/ 216 وما بعدها"، "رقم 4254"، الاستيعاب "2/ 221 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، سيرة ابن هشام "1/ 234 وما بعدها".
3 الإصابة "2/ 267 وما بعدها"، "رقم 4535". ورويت الأبيات على هذا النحو:
يا سيد الناس وديان العرب ... أشكو إليك ذربة من الذرب
كالذئبة العسلاء في طل السرب ... خرجت أبغيها الطعام في رجب
فخالفتني بنزاع وهرب ... أخلفت العهد ولطت بالذنب
وهن شر غالب لمن غلب
الاستيعاب "2/ 257"، "حاشية على الإصابة"، "1/ 122".(18/418)
لعمرك ما حبي معاذة بالذي ... يغيره الواشي ولا قدم العهد
ولا سوء ما جاءت به إذ أزلها ... غواة رجال إذ ينادونها بعدي1
وذكر صاحب "الاستيعاب"، أن اسم والد "أعشى" مازن، هو "الأطول". وقيل اسم الأطول أو الأعور: "عبد الله".
وروي أن اسمه "عبد بن لبيد" الأعور. وقيل: "الأعور بن قراد بن سفيان". وكان قد خرج في "رجب" يمير أهله من هجر، فهربت امرأته بعده ناشزا عليه، فعاذت برجل منهم. فجاء "الأعشى" إلى الرسول وعاذ به. وأنشأ يقول قصيدته3.
ومن شعره:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود
أنت الجواد ابن الجواد المحمود ... نبتَّ في الجود وفي بيت الجود
والعود قد ينبت في أصل العود4
و"الحطيئة"، وهو "جرول بن أوس بن مالك بن "حيوة" جؤية بن مخزون بن مالك" العبسي، ويكنى "أبا مليكة" "من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم، وكان يتصرف في جميع فنون الشعر من مدح وهجاء وفخر ونسب ويجيد في جميع ذلك. وكان ذا شر وسفه، وكان إذا غضب على قبيلة انتمى إلى أخرى، زعم مرة أنه ابن عمرو بن علقمة من بني الحارث بن سدوس.
وانتمى مرة إلى ذهل بن ثعلبة، وأخرى إلى بني عمرو بن عوف. وله في ذلك أخبار مع كل قبيلة وأشعار مذكورة في ديوانه. وكان كثير الهجاء حتى هجا أباه وأمه وأخاه وزوجته ونفسه، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وكان أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ثم أسر وعاد إلى
__________
1 الاستيعاب "2/ 258"، "حاشية على الإصابة".
2 الاستيعاب "2/ 256"، "حاشية على الإصابة".
3 الفائق "1/ 422 وما بعدها".
4 الإصابة "2/ 268"، "رقم 4535".(18/419)
الإسلام1. وكان ملحفا شديد البخل، لا يقف إلحافه في السؤال عند حد، ولا يخجل من التصريح في الاستكداء وفي إذلال نفسه في الحصول على مال. طاف في الآفاق يمتدح الأمائل ويستجديهم. وقد عد في البخلاء. "قيل بخلاء العرب أربعة: الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدؤلي، وخالد بن صفوان"2. وقيل عنه إنه كان "دنيء الطبع، لئيم النفس، كثير الطمع، جعل الشعر متجرا، فكان له من الهجاء معاش ومكسب لأن الناس كانوا يهدون له الهدايا خوفا من شره. فقال الأصمعي: كان الحطيئة جشعا سئولا ملحفا دنيء النفس، كثير الشر قليل الخير، بخيلا قبيح المنظر، رث الهيئة مغموز النسب، فاسد الدين، وما تشاء أن تقول في شعر شاعر ما من عيب إلا وجدته فيه، وقلما تجد ذلك في شعره"3، كان لا يبالي من هجو من سبق أن مدحه وأثنى عليه، لإغداقه المال عليه، بل يظهر أنه كان من ذلك الفريق من الناس المرضى النفوس الذين كانوا يسيئون إلى من أحسن إليهم، بل كانوا أول من يسيء إلى من أحسن إليهم، لعقد مستعصية في النفس.
وكان قصير القامة، ولقصره هذا لقب بالحطيئة. وكان ذميما، قبيح الوجه، سيئ الهيئة، ولعل هذه الأمور هي التي صيرته سيئ الطبع، هجاء لكل أحد، فلا يسلم من لسانه أحد. فلما هجا أباه، بأبيات قاسية شديدة منها:
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حياك ربي ... وأبواب السفاهة والضلال
قيل: "كان الحطيئة يرعى غنما له، وفي يده عصا. فمر به رجل فقال: يا راعي الغنم ما عندك؟ قال: عجراء من سلم. يعني عصا. قال: إني ضيف. فقال الحطيئة للضيفان أعددتها"4.
__________
1 الإصابة "1/ 377 وما بعدها"، "رقم 1991"، العمدة "1/ 81 وما بعدها"، البيان "2/ 13 وما بعدها"، الخزانة "1/ 408"، الأغاني "2/ 41 وما بعدها"، "16/ 38"، الطبقات، لابن سلام "92 وما بعدها"، ديوان الأعشى "القاهرة 1958م"، "نعمان أمين طه"، الخزانة "2/ 406"، "هارون"، "1/ 409"، "بولاق".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 477 وما بعدها".
3 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "109 وما بعدها".
4 البيان والتبيين "2/ 147"، "3/ 80".(18/420)
وهجا أمه بشعر موجع منه قوله:
تنحي فاقعدي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء مني ... ولكن لا أخا لك تعقلينا
أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدثينا
جزاك الله شرا من عجوز ... ولقاك العقوق من البنينا
حياتك ما علمت حياة سوء ... وموت قد يسر الصالحينا
ثم هجا أخاه وزوجته، فلما لم يبق أمامه أحد سلم من هجائه إلا نفسه، إذ اطلع في حوض فرأى وجهه فقال:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله1
وقد جعل "المعري" هذا الشعر، سببا دخل به الجنة، لقوله بالصدق2.
وله قصيدة "سينية" مشهورة، هجا فيها "الزبرقان بن بدر"، فسجنه "عمر" عليها، منها قوله:
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وفيها:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقد قال "أبو عمرو بن العلاء" عن هذاالبيت""لم تقل العرب قط بيتا، أصدق "منه4.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 240"، "والحطيئة الرجل الدميم أو القصير، ومنه لقب جرول الشاعر العبسي لدمامته. قاله الجوهري. وقيل: كان يلعب مع الصبيان فسمع منه صوت، فضحكوا. فقال: ما لكم! إنما كانت حطيئة، فلزمته نبزا، وقيل غير ذلك"، تاج العروس "1/ 57"، "حطا"، الخزانة "2/ 409"، "هارون".
2 رسالة الغفران "307".
3 رسالة الغفران "307".
4 الأغاني "2/ 184 وما بعدها"، السيوطي شرح شواهد "2/ 916 وما بعدها".(18/421)
وقد حملت دمامة خلقة الحطيئة ورثة هيئته وسوء ملبسه الناس إلى ازدراء شأنه وعدم الاهتمام به عند حضوره مجلسا لا يعرفه فيه أحد، وإلى وقوعه في مشاكل معهم. وقد يكون من الصعب عليهم رتق الخرق بعد وقوعه وإصلاح حاله غير أن منهم من كان يجد سبيلا إلى ذلك، باسترضائه بتقديم المال له، وهو ما يطلبه، فينسيه ما أصابه من ازدراء وإهمال1. وزعم أنه كان مغمور النسب، وأنه كان من أولاد الزنا الذين شرفوا2.
وقد غلب الهجاء على طبعه، حتى عد من أنبغ الشعراء المتقدمين فيه. وقد ذهب "بروكلمان" إلى أن للهجاء الفضل في بقاء شعر الحطيئة3. فالهجاء باب له منفذ واسع إلى العواطف حفظه الأعداء والحساد للنيل ممن قيل بحقهم من أعدائهم وحسادهم، فحفظه الناس جيلا عن جيل.
ويقال إن "عمر" لما لقي الحطيئة قال له: "كأني بك عند بعض الملوك تغنيه بأعراض الناس. أي تغني بذمهم وذم أسلافهم في شعرك وثلبهم"4. ولما هجا "الحطيئة" "الزبرقان بن بدر" استعدى عليه "عمر"، فدعا "حسان بن ثابت" فقال: أتراه هجاه؟ قال: نعم وسلح عليه فحبسه، فقال وهو في حبسه شعرا يستعطف به "عمر" حتى رق عليه، وشفع له "عمرو بن العاص"، فأطلقه على ألا يهجو أحدا5. ويقال إنه كتب إلى عمر شعرا يتوسل فيه العفو عنه، وأن يرحم حال أولاده الصغار بذي مرخ، فيه:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
__________
1 راجع قصته مع "عتيبة بن النهاس العجلي"، ثم قصة حضوره مجلس "سعيد بن العاص" "سعيد بن العاصي"، وقصصا أخرى، وهي تتحدث عن ازدراء شأن الحطيئة لهيئته ولجهلهم به، ثم عن استرضائهم له بعد وقوفهم على أمره، الشعر والشعراء "1/ 240 وما بعدها".
2 الخزانة "2/ 407"، "هارون"، "1/ 409"، "بولاق".
3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 168".
4 اللسان "7/ 171"، "عرض".
5 الإصابة "1/ 378"، "رقم 1991"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 916 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 244 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 240".(18/422)
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الخير1
وإذا صح ما روي من أن الحطيئة لما قدم المدينة، يريد الرسول، أرصدت له قريش العطاء، خوفا من شره2، فيجب أن يكون قدومه قبل عام الفتح، وغلبة المسلمين على المشركين. ولكننا نجد بعض الرواة يشكون في دخوله في الإسلام في حياة الرسول. يقول "ابن قتيبة": "ولا أراه أسلم إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأني لم أسمع له بذكر فيمن وفد عليه من وفود العرب، إلا أني وجدته يقول في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه حين ارتدت العرب:
أطعنا رسول الله إذ كان حاضرا ... فيا لهفتي ما بال دين أبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
وقد مدح شعر الحطيئة، فذكر عنه "أبو الفرج الأصبهاني" أنه "كان من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم. وكان يتصرف في جميع فنون الشعر من مدح وهجاء وفخر ونسيب، ويجيد في جميع ذلك". وقال "الأصمعي": "وما تشاء أن تقول في شعر شاعر ما من عيب إلا وجدته فيه، إلا الحطيئة، فقلما تجد ذلك في شعره". وروي عن "إسحاق الموصلي" قوله: "ما أزعم أن أحدا من الشعراء بعد زهير أشعر من الحطيئة"4. قال "الجاحظ": وكان الأصمعي يقول: "الحطيئة عبد لشعره. عاب شعره حين وجده كله متخيرا منتخبا مستويا، لمكان الصنعة والتكلف، والقيام عليه"5، ونسب للأصمعي قوله:
__________
1 ديوان "رقم 74" الشعر والشعراء "1/ 245"، البيان والتبيين "2/ 318".
2 الإصابة "1/ 378"، "رقم 1991".
3 الشعر والشعراء "1/ 238 وما بعدها"، "دار الثقافة"، الخزانة "2/ 408".
4 الإصابة "1/ 377 وما بعدها"، "رقم 1991"، الأغاني "2/ 43".
5 البيان والتبيين "1/ 206".(18/423)
"زهير بن أبي سلمى، والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر"1.
وكان "الحطيئة" راوية كعب بن زهير، بل يقال إنه كان راوية زهير بن أبي سلمى2. وله ديوان برواية "السكري" عن "محمد بن حبيب"، طبع مرارا3. وذكر أنه قال لكعب بن زهير: قد علمت روايتي شعر أهل البيت وانقطاعي، وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك وتضعني موضعا، فإن الناس لأشعاركم أروى. فقال كعب:
فمن للقوافي شأنها من يحوكها ... إذا ما ثوى كعب وفوز جرول4
وروي "أن أعرابيا وقف على حسان وهو ينشد، فقال له كيف تسمع؟ قال ما أسمع بأسا؛ فغضب حسان. فقال له: من أنت؟ قال: أبو ملكية. قال: ما كنت قط أهون عليّ منك حتى اكتنيت بامرأة، فما اسمك؟ قال: الحطيئة، فأطرق حسان، ثم قال: امض بسلام"5.
وذكر بعض الرواة أن "الحطيئة" لما حضرته الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا: يا أبا مليكة، أوصِ. فقال: ويل الشعر من راوية السوء. قالوا أوصِ، يرحمك الله. قال: من الذي يقول:
إذا أنبض الرامون عنها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز
قالوا: الشماخ. قال أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب. وتستمر الرواية على هذا النوع من طلب قومه منه أن يوصي، ومن إجابته أجولة لا صلة لها بالوصية. حتى انتهت بأنهم حملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون وهو عليها حتى مات، وهو يقول:
__________
1 البيان والتبيين "2/ 13".
2 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "110".
3 طبع سنة "1893م" بمدينة "لايبزك"، وطبع ببيروت، والقاهرة مع الشروح، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 168"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 170".
4 ابن سلام، طبقات "21".
5 الإصابة "1/ 378".(18/424)
لا أحد ألأم من حطيئة ... هجا بنيه وهجا المريئة
من لؤمه مات على الفريئة1
وروى "ابن قتيبة" القصة على هذا النحو: "قيل له حين حضرته الوفاة: أوصِ يا أبا مليكة: فقال: مالي للذكور دون الإناث، فقالوا: إن الله لم يأمر بهذا، فقال: لكني آمر به! ثم قال: ويل للشعر من الرواة السوء، وقيل له: أوصِ للمساكين بشيء، فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنها تجارة لن تبور! وقيل له: أعتق عبدك يساراً، فقال: اشهدوا أنه عبد ما بقي عبسيّ! وقيل له فلان اليتيم ما توصي له؟ فقال: أوصي بأن تأكلو ماله وتنيكوا أمه! قالوا: فليس إلاهذا؟! قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم، لعلي أنجو! ثم تمثل:
لكل جديد لذة غير أنني ... رأيت جديد الموت غير لذيذ
له خبطة في الحلق ليست بسُكَّر ... ولا طعم راح يشتهى ونبيذ
ومات مكانه"2.
وهي قصة لا تخلو من أثر الوضع والصنعة، قيلت على لسانه، لما عرف عنه من اللؤم والبخل والتعرض بالناس. وقد رويت بصور مختلفة3.
وقد ذكر "الحطيئة" "سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية"، القرشي الأموي في شعره، وكان سعيد ممن ندبه عثمان لكتابة القرآن. وكان جوادا، ولم ينزع قميصه قط، وكان أسود نحيفا، وكان يقال له: "عكة العسل"، قال الحطيئة فيه:
سعيد فلا يغررك قلة لحمه ... تخدد عنه اللحم فهو صليب4
__________
1 الأغاني "2/ 195 وما بعدها"، "الدار"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 475 وما بعدها"، الخزانة "1/ 141"، "بولاق".
2 الشعر والشعراء "1/ 239".
3 الخزانة "2/ 412 وما بعدها"، "هارون".
4 البيان والتبيين "1/ 314 وما بعدها"، "3/ 116".(18/425)
ومن شعر "الحطيئة" المشهور قوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا
وكان الرجل من "بني أنف الناقة" إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فلما مدحهم "الحطيئة" بهذا الشعر صار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنف الناقة افتخارا، في قصة سبق أن تحدثت عنها1.
ومن جيد شعره قوله:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد2
والشاعر "كعب بن زهير" هو ابن الشاعر الجاهلي "زهير بن أبي سلمى". فهو شاعر ابن شاعر، وأبو شعراء. فقد كان ولدا "كعب" وهما: "عقبة"، و "العوام" شاعرين. وقد ذكر أن "بجيرا" أخو "كعب"، فارق أخاه عندما بلغا "أبرق" العراق، وذهب إلى الرسول لما سمع من خبره، فأسلم. فلما بلغ "كعبا" خبر إسلامه. ذم أخاه لمفارقته سنة آبائه وأجداده، وخروجه على ما ألف عليه أباه وأمه. بشعر قال فيه:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... على أي شيء أنت منزل ذلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا3
أو:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... على أي شيء ريب غيرك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
سقاك أبو بكر بكأس روية ... فأنهلك المأمور منها وعلكا4
__________
1 البيان والتبيين "4/ 38".
2 ديوان الحطيئة "25"، الأغاني "2/ 59"، البيان والتبيين "2/ 29".
3 الاستيعاب "3/ 281"، "حاشية على الإصابة".
4 الإصابة "3/ 279"، "رقم 7413"، وجاءت الأبيات على هذا النحو:
ففارقت أسباب الهدى واتبعته ... على أي شيء ويب غيرك دلكا
على مذهب لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تعرف عليه أخا لكا
كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "114". "الطبعة الثانية 1970م".(18/426)