"ذو مذران"، ومعناه شهر البذر، ولعله دعي بذلك؛ لأن الزراع كانوا يبذرون بذورهم للزرع فيه. وشهر "ذ صربن"، "ذو صربن". وهو من أشهر الخريف، قد يكون في أوله وقد يكون في أواخره، أي: في ابتداء الشتاء، وهو يقابل شهر "صراب" من الأشهر المستعملة في العربية الجنوبية في أيامنا هذه. و"صربن" "صراب"، بمعنى أثمار الخريف وحاصل الخريف، أي: غلة الخريف1.
ويرى بعض الباحثين أن لشهر "ذ ثبتن" علاقة بالزراعة كذلك، وأنه يعني الشهر الذي تتهاطل فيه الأمطار، وتجمع فيه السيول لخزنها في السدود، وأن لشهر "ذ مهلتن" علاقة بالزراعة كذلك، وأن في معناه "المهلة" أي: التأخير في عمليات الزرع أو جمع الحاصل2.
ويظن أن للشهرين "ذ دونم" "ذ دنم"3 و"ذ نيلم" علاقة بالزراعة كذلك. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن معنى "دونم" "دينم" الدين، وأن المراد بها الشهر الذي تجمع فيه ديوان المعبد. أي: ضرائب المعبد. وذهب بعض آخر إلى أن اللفظة من أصل "دون"، ومعناها الإرواء والإسقاء، وأن لهذا الشهر علاقة إذن بشئون الري. وأما "ذ نيلم"، فإنه شهر حصاد الغلات وجمع الحبوب4.
ومن الشهور التي لها علاقة بالحياة الدينية، "ذ عثتر" و"ذ الالت" و"ذ حجتن" و"ذ محجتن" و"ذ شمسي" وغيرها. وشهر "ذو عثتر" منسوب إلى الإله "عثتر"5. وأما "ذ الالت"، فبيّن الدلالة على المعنى الديني كذلك. فإنه يعني شهر الآلهة. وأما "ذ حجتن" و"ذ محجتن"، فهو مثل شهر "ذي الحجة في التقويم الهجري وفي معناه. وأما "ذ شمسي" "ذو شمس" فيجوز أن يكون نسبة إلى الآلهة الشمس من الناحية الدينية، ويجوز أن يكون نسبة إلى الشمس من ناحية تأثيرها في الجو، أي: من ناحية تأثير حرارة
__________
1 Jamme 594, 617, 631, 651, 655, 719.
2 Beeston, p. 17.
3 "ورخ ذ دنم". Jamme 633, 16'
4 Beeston, p. 17.
5 Jamme 611, 7-8, Mahram, p. 108.(16/84)
أشعتها في الناس وفي المزروعات. وذلك بكونه من أشد الشهور حرًّا. فيكون هذا الشهر بذلك من أشهر الصيف.
ويفهم من جملة: "ورخ ذ هبس وعثتر"، أن هناك شهرًا اسمه شهر "هوبس وعثتر"، أو شهرًا اسمه "هوبس"، نسبة إلى الإله "هوبس" وشهرًا آخر اسمه "عثتر"، نسبة إلى الإله "عثتر"1. وورد اسم الشهر "ورخ ذ عثتر" في جملة نصوص2.
والأشهر التي لها صلة بالحياة الدينية، هي: "شهر الآلهة" "ورخ ذ ال الـ ت" "ذ الالت"، و"شهر ذ حجتن"، "ورخ ذ حجتن"، و"شهر ذ محجتن"، "ورخ دمحجتن"، أي: شهر المحجة. ويصعب في الوقت الحاضر علينا تثبيت أوقات هذه الأشهر المقدسة بالنسبة للمواسم ولترتيب الشهور، لعدم وجود أدلة يمكن أن نستخرجها من النصوص لتثبيت زمن الحج عندهم مثلًا، أو زمن الشهر المخصص للآلهة.
ونجد أسماء بعض الشهور مثل: "ذ سمع"، تمثل صفة من صفات الآلهة.
فـ"ذ سمع" يعني: "ذو السمع"، فالآلهة تسمع الناس تجيب دعواتهم. كما نجد أسماء شهور أخرى تشير إلى أمور دينية وطقوس. مثل شهر "ذ حضر"، فإنه شهر الأضاحي، من "حضر" بمعنى ضحى، أي: ذبح ذبيحة للآلهة، ومثل شهر "أبر"، ومعناه "شهر حرق البخور"، أو تقديم النذور، أو النذور التي تقدم لمحارق الآلهة. وربما أدى اسم شهر "ذ نور" هذا المعنى أيضًا.
فـ"نور" بمعنى نار. فيكون المعنى شهر النيران.
وقد ورد اسم الشهر "ورخ ذ ملت"، "ورخ ذ مليت" في عدد من النصوص3. وهو من الأشهر التي لها صلة بموسم الزرع والمواسم. وهذه الأشهر هي: "ذ دثا"، و"ذ ملت" "ذ مليت"، و"ذ قيضن"، و"ذ دنم" "ذ دونم"، و"ذ نيلم".
ومن الشهور الواردة في نصوص "هرم"، شهر "ذ سلام" "ور خ ذ س ل ام".
__________
1 راجع السطر 7-8 من النص: Jamme 611, MaMB 277.
2 Jamme 567, 6-7, 607.
3 Jamme 613, 10, 653, 10, 14.(16/85)
وهناك احتمال بأن: "ذ مو ص ب م"، و"ذ عثتر"، و"ذ مخضدم"، هي أسماء شهور كذلك. وقد ورد: "حين ذ مخضد قد متن"، مما يدل على أن اسم هذا الشهر هو مؤنث، وهو الشهر الأول، لوجود لفظة "قد متن" وأن هنالك شهرًا آخر، يمكن تسميته بـ"حين مخضدم الثاني"1.
ويظهر من أسماء هذه الشهور المتقدمة، أن العرب الجنوبيين، كانوا يسمون بعض أشهرهم بما يقع فيها من حوادث مهمة، مثل موسم جمع الديون أو التعبد للآلهة أولإله معين، أو للحج إلى المعابد، أو بالظواهر الطبيعية التي تمتاز بها مثل الحر أو البرد، أو بموسم الصيد.
وقد حاول "بيستن" تثبيت بعض شهور العرب الجنوبيين بالنسبة إلى المواسم وإلى الأشهر المستعملة في الوقت الحاضر، فذهب إلى أن شهر "ذ ثبتن" قد يكون هو شهر آذار أو شهر نيسان، وأن شهر "ذ قيضن"، أي: شهر القيظ، بمعنى الحر، الذي يقابل "رمضان" قد يكون شهر "مايس" أو حزيران، وأن شهري "ذ خرف"، و"ذ مذرن" قد يكونا تموز إلى أيلول، وأن شهر "ذ داون"، قد يكون شهر "أكتوبر" "تشرين الأول"، وأن شهر "ذ صربن" قد يكون شهر "نوفمبر" "تشرين الثاني"، وأن شهر "ذ معن" قد يقابل شهر "دسمبر"، أي: "كانون الأول"2.
وليس في إمكاننا في الزمن الحاضر وضع تقاويم ثابتة كاملة للشهور في العربية الجنوبية. نعم، يمكننا تثبيت بعضها استنادًا إلى معاني أسمائها كما رأينا ذلك فيما تقدم، وذلك بأن نجعل الشهر الفلاني في الفصل الفلاني من فصول السنة مثلًا.
ولكننا عاجزون عن ترتيب كل الشهور الاثني عشر ترتيبًا زمنيًّا صحيحًا لنقص في علمنا بالشهور. ومن أجل الوصول إلى ذلك، لا بد من أن نتريث حتى تتهيأ لنا نصوص كثيرة جديدة، قد تكون من بينها نصوص فلكية، أو نصوص أخرى ترد فيها أسماء شهور جديدة، وأسماء شهور مرتبة ترتيبًا زمنيًّا يساعدنا على ترتيبها وتنظيمها في تقاويم منتظمة لمختلف القبائل العربية الجنوبية ودويلاتها. ولا بد لي هنا من الإشارة إلى وجوب الاستعانة بالتقاويم المستعملة عند بقية الساميين
__________
1 Beeston, p. 12.
2 Beeston, p. 24.(16/86)
وعند القبائل العربية الشمالية، وعند القبائل الإفريقية التي كانت لها صلات بالعرب الجنوبيين، لمطابقة شهورها على شهور التقاويم العربية الجنوبية وتثبيتها عندئذ على هذا الأساس.
ولم ترد في كتابات المسند أسماء الشهور المستعملة عند الشعوب السامية الشمالية، وهي: نيسان ومايس وحزيران وتموز وآب وأيلول وتشرين الأول وتشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني وشباط وآذار.
ويظهر أن سنة العرب الجنوبيين، كانت تتكون من "360" يومًا، مقسمة على اثني عشر شهرًا، ولأجل جعل هذه السنة سنة طبيعية كاملة، متفقة مع الدورة السنوية الحقيقية للأرض، كانوا يعالجون ذلك بالكبس. إما بكبس بقية الأيام على السنة نفسها، ويتم ذلك في كل سنة، وإما بإضافة شهر إضافي على التقويم في نهاية كل ثلاث سنين1.
وربما يدل اسم الشهر "ذ برم اخرن"، "ذو برم الآخر"، وهو من شهور قتبان، على أنه شهر كبس، يضاف إلى سنة الكبس لتكون سنة شمسية تامة. وربما أدى اسم الشهر: "ذ نسور أخرن"، وهو من شهور السبئيين هذا المعنى كذلك. وهناك شهر اسمه "بين خرفنهن" أي: "بين الشهرين"، ربما يدل على الكبس، وإضافة شهر بين الشهرين، لتكون السنة كاملة، أي: كبس شهر على السنة الاعتيادية، فتكون عدتها ثلاثة عشر شهرًا، وذلك بعد السنين اللازمة، لإصلاح التقويم، حتى يكون مطابقًا لدورة الأرض حول الشمس2.
وقد كان العبرانيون يضيفون شهرًا على تقويمهم بسبب أن الشهور الاثني عشر القمرية لم تكن إلا "354" يومًا وست ساعات، فنقصت بذلك السنة اليهودية أحد عشر يومًا عن الرومانية، ولسبب ذلك أدخل اليهود شهرًا ثالث عشر كل ثلاث سنوات، سموه "فيادارا"، أي: "آذار الثاني، وهكذا جعلوا طول السنة القمرية يعادل الشمسية تقريبًا3.
وقد ورد في النصوص اللحيانية اسم "منر"، يظهر أنه اسم شهر، يقال
__________
1 Beeston, P. 18
2 Beeston, p. 18
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 639 وما بعدها".(16/87)
له "منر"، أي "منير"1. واسم آخر هو "سمر"، يظهر أنه اسم شهر كذلك.
أما النصوص العربية الشمالية، فهي بخيلة كل البخل في إيراد أسماء الشهور، فلم يرد في النصوص العربية الخمسة المدونة بعربية قريبة من عربية القرآن الكريم من أسماء الشهور، إلا اسم شهر واحد، هو "كسلول". وقد ورد اسمه في "نص النمارة". ويقابل هذا الشهر، كانون الأول. ويدل استعمال النص لهذه التسمية على أن العرب الشماليين، كانوا يستعملون التقويم البابلي في التاريخ.
و"كسلول"، هو الشهر التاسع من الشهور المتداولة في العراق وفي بلاد الشأم. وأصله "كسلو"، وهو بابلي. وهذه الشهور هي: نيسان، وزيو، وسيوان، وتموز، وآب، وأيلول، وأيثانيم، وبول، وكسلو، وطيبيت، وشباط، وآذار. وهي الشهور المقدسة عند العبرانيين2. ويقال لشهر نيسان: شهر "أبيب"، ولشهر "زيف" "أيارا"، وأما "سيوان" فهو "سيوان" وتموز هو تموز، وآب هو آب، وأما أيلول فهو أيلول، وأما إيثانيم فهو تشري "تسري" و"تشرينو"، وأما "بول" فهو مرشوان، وكسلو هو "كسلو"، و"طيبت" هو "تبت"، ويسمى بـ"تمطرو" أيضًا.
وأما "شباط" فهو "سبت" "شبات"، وأما "أذار" فهو آذار3.
وقد ذكر الأخباريون أسماء أشهر ترك استعمالها في الإسلام، ذكروا أنها كانت مستعملة عند قدماء الجاهلية، وهم العرب العاربة، كما ذكروا أسماء شهور قالوا: إنها كانت أسماء الشهور عند ثمود، وأسماء شهور قالوا: إنها الشهور التي كان يستعملها العرب عند ظهور الإسلام.
أما الشهور التي زعموا أنها كانت شهور العرب العاربة، فهي: المؤتمر، وقد زعموا أنه في مقابل المحرم، وناجر، وهو في موضع صفرن وخوان "وروي حوّان" ويقابل ربيعا الأول، ووبصان "ويقال: صوان وبصان"، وهو في مقابل ربيع الآخر، والحنين أو شيبان، وهو جمادى الأولى، وملحان وهو
__________
1 Caskel, Lihyan, S. 129, 127
2 قاموس الكتاب المقدسي "1/ 639"، "شهر"، Hastings, p. 936
3 The Bible Dictionary Vol. II, P. 182(16/88)
جمادى الآخرة، والأصم، وهو شهر رجب، وعاذل "عادل"، وهو شعبان، وناتق، وهو شهر رمضان، ووعل وهو شوال، ورنة، وهو ذو القعدة، وبرك وهو ذو الحجة. وذكر بعضهم أن خوانًا اسم يوم من أيام الأسبوع، وأن شيبان اسم كانون الأول، وأن ملحانًا هو كانون الثاني. وهذا الترتيب الذي ذكرته هو كما جاء في رواية ابن سيدة1.
وذكر الفراء أن من العرب من سمى المحرم المؤتمر، وصفر ناجرًا، وربيع الأول خوانًا، وربيع الآخر بصان أو وبصان أو بوصان، وجمادى الأولى الحنين2، وجمادى الآخرة ورنة "ورنى"، ورجب الأصم، وشعبان وعلًا، ورمضان ناتقًا، وشوَّال عاذلًا، وذو القعدة هُواعَا، وذ الحجة بركا3. وذكرها غيره على هذا النحو: المؤتمر وهو المحرم. وناجر وهو صفر. وخوّان، وهو ربيع الأول، ووبصان وهو ربيع الآخر، وحنين وهو جمادى الأولى.
وربي وربة لجمادى الآخرة. والأصم وهو رجب. وعادل وهو شعبان وناتق وهو رمضان. ووعل وهو شوال، وورنة وهو ذو القعدة، وبرك وهو ذو الحجة4.
ورتب المسعودي أسماء الشهور الجاهلية على هذا النحو: ناتق، وثقيل، وطليق، وناجر، وسماح "أسلخ"، وأمنح "أميح"، وأحلك، وكسع، وزاهر، وبرط، وحرف، ونعس وجعلها في مقابل المحرم، وصفر، فبقية الشهور. وذكر أن "نعسًا" هو ذو الحجة5.
ورتبها البيروني على هذا النحو: المؤتمر، وناجر، وخوان "حوان"، وصوان، وحنتم أو حنين، وزبّاء، والأصم، وعادل، ونافق، وواغل، وهواع أو رنة، وبُرك6.
__________
1 المخصص "9/ 43"، الأيام والليالي والشهور، للفراء، القاهرة، 1956م "ص 18"، المزهر "1/ 219".
2 بالفتح وبالضم، المرزوقي "1/ 279 ومابعدها"، المزهر "1/ 220"، نزهة الجليس "1/ 218".
3 الأيام والليالي والشهور، للفراء، "ص17 وما بعدها".
4 صبح الأعشى "2/ 378 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 20"، "أمر".
5 مروج الذهب "2/ 110"، "2/ 191"، "دار الأندلس".
6 الآثار الباقية "1/ 60" "طبعة سخاو"، "لا يبزك 1876م"، التقاويم "ص167".(16/89)
ورتبها آخرون على هذا النحو: مؤتمر، وناجر، وحوّان "بالحاء المهملة والخاء المعجمة"، وصوان ويقال فيه: وبصان، ورُبى، وأيدة، والأصم، وعادل، وناطل، وواغل، وورنة، وبرك1. أو على هذا النحو: ناتق، ونقيل، وطليق، واسنح، وانخ، وحلك، وكسح، وزاهر، ونوط، وحرف، ويغش.
وذكرها بعض آخر على هذا النحو: مؤتمر، وناجر، وخوّان، وصوان، أو "وبصان"، و"حنين" ورُبيّ، وأيدة، والأمم، وعادل، وناطل، وواغل، وورنة، وبرك، أو هي: ناتق، ونقيل، وطليق، وأسنح، وأنخ، وحلك، وكسح، وزاهر، ونوط، وحرف، ويغش. وهناك من يقول: مؤتمر، وناجر، وخوان، وصوان، وحنتم، وزبا، والأصم، وعادل، وناقق، وواغل، وهواع، وبرك، وما شاكل ذلك وهناك آراء أخرى في ترتيب هذه الشهور وفي ضبط هذه الأسماء2.
وذكر علماء اللغة أن الخالص من الشتاء عند العرب شهران، يطلقون عليهما "قماحًا"، ويقال للشهرين: ملحان وشيبان3.
ويسمّون شهري القيظ الذي يخلص فيهما حره، شهري ناجر، وذكر أنهما: وقدة وعكان. وهذان الشهران هما بيضة الصيف4.
وذكر علماء اللغة كذلك، أن شهرا "قماح" شهرا الكانون؛ لأنهما يكره فيهما شرب الماء إلا على ثقل. قال مالك بن خالد الهذلي:
فتى ما ابن الأغر إذ شتونا ... وحب الزاد في شهري قماح5
و"ملحان" اسم شهر جمادى الآخرة، سمي بذلك لابيضاضه، قال الكميت:
__________
1 نهاية الأرب "1/ 157".
2 وسيان وبصان إذا ما عددته
وبرك لعمري في الحساب سواء
صبح الأعشى "2/ 368 وما بعدها"، تاج العروس" 4/ 444"، اللسان "8/ 374".
3 الأنواء "ص105 وما بعدها"، المرزوقي "1/ 279".
4 الأنواء "ص106 وما بعدها".
5 تاج العروس "2/ 209".(16/90)
إذا أمست الآفاق حمرًا جنوبها ... لشيبان أو ملحان واليوم أشهب
شيبان جمادى الأولى، وقيل: كانون الأول، وملحان كانون الثاني1. وورد أن "شيبان"، شهر فيه برد وغيم وصراد، و"قماح" أشد الشهور بردًا. وهما اللذان يقول من لا يعرفهما: كانون الأول وكانون الثاني2.
ويتبين من البيت المنسوب إلى "الكميت" أنهما كانا معروفين في أيامه.
وأما شهور ثمود على حد زعم الأخباريين، فهي: موجب، وموجر، ومور "مورد"، وملزم، ومصدر، وهوبر، وهوبل، وموها، وذيمر "ديمر"، ودابر "دابل"، وحيقل، ومسيل "مسل"3. وضبطها بعض آخر على النحو: موجب، وموجز، ومورد، وملزج، ومصدر، وهوبر، ومويل، وموهب، وذيمر، وجيقل، ومحلسن ومسبل4. وموجب هو المحرم وموجر هو صفر. ويذكرون أنهم كانوا يبدأون في تقويمهم بذيمر، وهو شهر رمضان، فيكون أول شهور السنة عندهم5.
وذكر أن "مُصْدِر" من أسماء جمادى الأولى6.
ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر التأكيد على أن هذه الشهور، هي شهور "ثمود"، كما لا نريد أن نقف منها موقفًا سلبيًّا، فنقول: إنها من مخترعات أهل الأخبار، وضعوها على لسانهم وضعًا. وعندي أن من الخير لنا في الوقت الحاضر وجوب البحث عن كتابات ثمودية علنا نجد فيها أسماء أشهرهم.
أما الشهور التي ذكر الأخباريون أنها كانت مستعملة عند العرب حين ظهور الإسلام، فهي: المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادى
__________
1 تاج العروس "2/ 230"، "ملح".
2 وقد أعاد ذكر بيت الكميت ولكن على هذه الصورة:
إذا أمست الآفاق حمرًا جنوبها ... بشيبان أو ملحان واليوم أشيب
تاج العروس "1/ 328"، "شاب".
3 بلوغ الأرب "3/ 76 وما بعدها"، الآثار الباقية "1/ 63"، صبح الأعشى "2/ 368".
4 المرزوقي "1/ 283".
5 بلوغ الأرب "3/ 76 وما بعدها".
6 اللسان "4/ 450"، "صدر".(16/91)
الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة. زعموا أن أسماءها وضعت على هذه الصورة باتفاق حال وقعت في كل شهر منها، فسمي الشهر بها عند ابتداء الوضع. وذكروا التعليل الذي رووه عن كل تسمية. وذكروا أيضًا أن أول من سماها بهذه الأسماء هو كلاب بن مرة. ومن هذه الشهور أربعة حرم لا يجوز فيها غزو ولا قتال1. وقال "الطبري": "وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة2.
ويذكر الأخباريون أن الاسم القديم للمحرم هو صفر، وأنه كان يعرف عندهم بـ"صفر الأول"، ثم قيل له: "المحرم". وقد عرف الشهران: المحرم وصفر لذلك بـ"الصفرين"3. ويظن أن هذه التسمية الجديدة: أي المحرم لصفر الأول إنما ظهرت في الإسلام4. وذهب بعض علماء اللغة إلى أن لفظة "موجب" هي الاسم العادي للمحرم. أي التسمية القديمة لهذا الشهر عند قدماء العرب5. فلفظة "محرم" إذن، لم تكن تسمية لذلك الشهر، وإنما كانت صفة له، لحرمته، ثم غلبت عليه، فصارت بمنزلة الاسم العلم عليه. وأما اسمه عند الجاهليين، فهو: صفر، أي: صفر الأول، تمييزًا له عن صفر الثاني، الذي اختص بهذه التسمية أي: "صفر" بعد تغلب لفظة "المحرم" على صفر الأول.
بحيث صار لا يعرف إلا به، فصار صفر لا يعرف بعد ذلك إلا بـ"صفر".
وقد تغلبت لفظة "محرم" عليه، لأنه شهر من الأشهر الحرم، فهو "صفر"
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 78"، صبح الأعشى "2/ 364 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 158".
2 تفسير الطبري "10/ 92"، صبح الأعشى "2/ 374 ومابعدها".
3 "اللهم إني قد أحللت لهم أحد الصفرين. الصفر الأول، ونسأت الآخر العام المقبل" ابن هشام "1/ 45"، "أول من نسأ الشهور"، اللسان "6/ 133"، البخاري "2/ 257"، تاج العروس "3/ 336".
4 تاج العروس "3/ 336".
Reste, S. Raccolta, vol, V, p. 169, Winckler, zur Altarabischen Zeitrechnaung, in Altorientalische Farschugen, II, Reihe Bd. 2, S. 324, 1900, Arabisch-Orientalish, Berlin, 1901, S. 81, in MVG, VI, 4-5, 1901.
5 تاج العروس "1/ 502".(16/92)
المحرم، تمييزًا له عن "صفر" الثاني، الذي لم يكن من الأشهر الحرم. ثم غلب المحرم عليه، وماتت لفظة صفر منه. قال "السخاوي": "إن المحرم سمي بذلك لكونه شهرًا محرمًا، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدًا لتحريمه؛ لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عامًا وتحرمه عامًا"1.
وذكر أن المحرم لم يكن معروفًا في الجاهلية، "وإنما كان يقال له ولصفر: الصفرين، وكان أول الصفرين من أشهر الحرم، فكانت العربُ تارة تحرّمه، وتارة تقاتل فيه، وتحرم صفر الثاني مكانه"، "فلما جاء الإسلام، وأبطل ما كانوا يفعلونه من النسيء، سماه النبي، صلى الله عليه وسلم، شهر الله المحرم"2.
ويتبين من دراسة أسماء هذه الشهور أن منها ما هو تكرار للاسم الواحد، وهي ربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، ومجموعها أربعة أشهر، فهي ثلث السنة إذن. وتقع في النصف الأول من السنة وعلى التوالي، تليها أشهر مفردة، ثم شهران يبتدئ اسماها المركبان بكلمة "ذو"، وهما: ذو القعدة وذو الحجة، وهما آخر شهور السنة. وإذا صحت رواية من قال: إن الاسم القديم للمحرم هو صفر الأول، كانت الأشهر المكونة للنصف الأول من السنة أشهرًا مزدوجة تتألف من ثلاثة أزواج، هي: صَفَران ورَبيعان وجماديان3.
وإذا درسنا أسماء هذه الشهور الجاهلية التي ذكرها أهل الأخبار، وجدنا أنها لا تشبه أسماء الشهور البابلية ولا الشهور السريانية والعبرانية. وهي لا تشبه كذلك أسماء الشهور الواردة في المسند. فليس في الذي بين أيدينا من أسماء للشهور العربية الجنوبية على اختلافها ما يشبه هذه الشهور.
وقد انتبه علماء العربية إلى أن أسماء بعض الأشهر التي استعملت في الإسلام، مثل رمضان، لا تنطبق مع المعاني التي يفهم منها، فرمضان من الرمض، وهو الحر الشديد، مما يدل على أنه من أشهر الصيف، بينما هو شهر متنقل، يأتي في كل المواسم، فلجأوا إلى تعليل مصطنع، على عادتهم عند وقوفهم على اسم لا يعرفون عن أصله شيئًا، قالوا: "يقال: إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة.
__________
1 تفسير ابن كثير "2/ 354".
2 المزهر "1/ 300".
3 Reste, S. 95, Shorter, P. 409(16/93)
القديمة سمّوها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق شهر رمضان أيام رمض الحر، فسمي بذلك"1، ولم يعرفوا أن ذلك بسبب اتباع الإسلام التقويم القمري، مما دعا إلى تحرك الشهور وتنقلها في الفصول، لكون الشهور القمرية غير ثابتة على نمط الشهور الشمسية.
ويبدأ الجاهليون بالمحرم، فهو أول السنة عندهم2، وهو أيضًا الشهر الأول من شهور السنة الهجرية في الإسلام. وأرى أن اتخاذ المسلمين للمحرم، مبدءًا للسنة الأولى من الهجرة، وجعله الشهر الأول من التقويم الهجري، هو من الأمور التي أبقاها الإسلام من أمور الجاهلية، لأن هجرة الرسول إلى المدينة لم تكن في شهر "محرم" حتى نقول: إن المسلمين جعلوا "المحرم" الشهر الأول من السنة الهجرية، لهذه المناسبة، إذ كانت الهجرة في شهر ربيع الأول، وأرخ بها3، لذلك يكون الابتداء بشهر محرم، هو إقرار لما كان عليه الجاهليون من ابتدائهم بـ"محرم"، مبدءًا لشهور السنة. وقد قيل: إن وصوله المدينة كان يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول، وقيل: لثنتي عشرة منه، وقيل: دخل لهلال ربيع الأول، وقيل: غير ذلك4.
وقد أورد العلماء شروحًا وتفسيرات لمعاني الشهور المتقدمة الجاهلية، والشهور التي استعملت في الإسلام واقترنت بالتقويم الهجري. فذكروا مثلًا أن المؤتمر معناه أن يأتمر بكل شيء مما تأتي به السنة من أقضيتها. وناجر من النجر، وهو شدة الحر، وخوان من الخيانة، وصوان من الصيانة، والزباء بمعنى الداهية العظيمة المتكاثفة سمي بذلك لكثرة القتال فيه وتكاثفه، والبائد سُمي لأنه كان يبيد فيه كثير من الناس، وكانوا يستعجلون فيه ويتوخون بلوغ ما كان لهم من الثأر والغارات قبل دخول شهر رجب وهو شهر حرام، والأصم لأنهم كانوا يكفون فيه عن القتال فلا يسمع فيه صوت سلاح. والواغل الداخل على شراب ولم يدعوه، وذلك لهجومه على شهر رمضان، وكان يكثر في رمضان شربهم
__________
1 المزهر "1/ 220".
2 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها وتسمية أيامها ولياليها".
3 تاريخ الطبري "4/ 38"، اليعقوبي "1/ 135"، "أيام عمر بن الخطاب"، ابن هشام، سيرة "2/ 15"، "حاشية على الروض".
4 إمتاع الأسماع "1/ 44".(16/94)
للخمر، لأن ما يتلوه شهور الحج، وناطل مكيال للخمر، سمي لإفراطهم في الشرب وكثرة استعمالهم لذلك المكيال، والعادل من العدل، لأنه من أشهر الحج، وكانوا يشتغلون فيه عن الناطل، والرنة كانت الأنعام ترن فيه لقرب النحر، وبرك سمي لبروك الإبل إذا أحضرت المنحر1.
وعللوا تسمية المحرم بهذا الاسم، لكونه من جملة الحرم، وصفر بالأسواق التي كانت باليمن تسمى الصفرية، وشهري الربيع للزهر والأنوار وتواتر الأندية والأمطار، وهو نسبة على طبع الفصل الذي نسميه نحن الخريف، وكانوا يسمونه ربيعًا، وشهري جمادى لجمود الماء فيهما، ورجب لاعتمادهم الحركة فيه، لا من جهة القال، أو لخوفهم إياه، يقال: رجبت الشيء، إذا خفته، وشعبان لتشعب القبائل فيه، ورمضان للحجارة ترمض فيه من شدة الحر، وشوال لارتفاع الحر وادباره، وذي القعدة للزومهم منازلهم، وذي الحجة لحجهم فيه2.
وعلل بعضهم تسمية الأشهر بقوله: سمي المحرم محرمًا تأكيدًا لتحريمه، لأن العرب كانت تتقلب به، فتحله عامًا وتحرمه عامًا، وسمي صفر بذلك، لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار. وشهر ربيع الأول، سمي بذلك، لارتباعهم فيهم، والارتباع الإقامة في عمارة الربع، وربيع الآخر كالأول. وجمادى: سمي بذلك لجمود الماء فيه. ورجب من الترجيب، وهو التعظيم. وشعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة. ورمضان من شدة الرمضاء، وهو الحر. وشوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق، وذو القعدة، لقعودهم فيه عن القتال والترحال، وذو الحجة. لإيقاعهم الحج فيه3.
ويظهر من تفسير أسماء بعض الأشهر وتعليلها أن لتسمياتها علاقة بالمواسم وبالعوارض الطبيعية الجوية مثل البرد والحر والاعتدال في الجو، وأن مسمياتها، أي: الشهور المسماة بها، كانت شهورًا ثابتة في الأصل، وإلا فلا يعقل تفسيرها
__________
1 الآثار الباقية "1/ 61"، المرزوقي "1/ 275 وما بعدها".
2 الآثار الباقية "1/ 60"، الفراء "ص9 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 78"، المسعودي، مروج "2/ 188 وما بعدها"، "سني العرب وشهورها وتسمية أيامها ولياليها"، وتجد تفسيرات عديدة أخرى في تعليل تسمية هذه الأشهر، تدل على أنها مما وضعه الرواة فيما بعد، حينما احتاج الناس إلى التعرف على سبب التسميات، صبح الأعشى "2/ 375 وما بعدها".
3 ابن كثير "2/ 254"، المسعودي، مروج الذهب "2/ 188 وما بعدها".(16/95)
بغير هذا التفسير. فكيف يسمى رمضان رمضان مثلًا لرمض الحجارة من شدة الحر فيه، إن لم يكن ثابتًا وشهرًا من أشهر الصيف الحارة؟ وكيف يسمى جمادى بجمادى لجمود الماء فيه، إن لم يكن هو والشهر التالي له والمسمى بجمادى الآخرة ثابتين، ومن أشهر الشتاء؟ وهكذا يجب أن يقال عن بقية الشهور، وإلا لم يصح ما قيل فيها من التفاسير1. وقد فطن "المسعودي" إلى ذلك فقال: "وجمادى، لجمود الماء فيهما في الزمان الذي سميت به هذه الشهور؛ لأنهم لم يعلموا أن الحر والبرد يدوران فتنتقل أوقات ذلك"2. فأدرك أن شهور العرب في الجاهلية كانت أشهرًا تمثل ظواهر طبيعية مثل الحرارة والبرودة في الأصل، لكنه لما وجد -كما وجد غيره أيضًا- أن أوقات الشهور هي متغيرة، بحيث لا تستقر على قرار في المواسم، ذهب إلى أن الجاهليين لم يكن لهم علم بأن الحر والبرد يدوران، مع أنهم كانوا على علم تام بذلك، فكانت أشهرهم ثابتة، ولم يفطن المسعودي إلى ذلك، لأنه أخذ حكمه من الوضع الذي كانت عليه الأشهر في الإسلام، ولم يفطن إلى أن إبطال النسيء في الإسلام، هو الذي أطلق هذه الحرية للأشهر فصارت تدور بحرية وتدخل في كل المواسم، ولم تتقيد بالوقت الذي خصصت به. ولما تكلم "المسعودي" عن الشهور قال: "شهور الروم مرسومة على فصول السنة دون شهور العرب: وشهور العرب ليست مرتبة على فصول السنة ولا على حساب سنة الشمس، بل المحرم وغيره من الشهور العربية قد يقع تارة في الربيع وتارة في غيره من فصول السنة"3.
ويعد شهر شوال أول شهر من أشهر الحج، وكانت العرب تتطير من عقد المناكح فيه، وتقول: إن المنكوحة تمتنع من ناكحها، ولذلك كانت الجاهلية تكره التزويج فيه لما فيه من معنى الإشالة والرفع إلى أن جاء الإسلام بهدم ذلك4.
__________
1 الآثار الباقية "1/ 62".
2 المسعودي، مروج "2/ 189"، تفسير ابن كثير "2/ 354 وما بعدها".
3 مروج "2/ 192".
4 تاج العروس "7/ 401"، "شول"، صبح الأعشى "2/ 376".(16/96)
الأسبوع:
ويقسم الشهر إلى أربعة أقسام، كل قسم منها هو أسبوع، ويتكون من(16/96)
سبعة أيام. وتعزى فكرة هذا التقسيم إلى البابليين. ولكن ضبط الأسابيع وتتابعها على النحو المعروف حتى اليوم هو نظام ظهر بعدهم بأمد1. وقد ذكر الأسبوع "شبوعة" Shagu'a في التوراة، في سفر التكوين2. وعلى أساس الجمع بين السبت اليهودي وقصة الخلق، نظم الأسبوع بحسب العرف الشائع اليوم3.
ولا أعرف للأسبوع اسمًا في المسند، إذ لم ترد لفظة "أسبوع" أو أية لفظة أخرى مرادفة لها في تلك النصوص4. غير أن هناك نصًّا من نصوص قوانين البيع والشراء، ذكر أن إنسانًا إذا اشترى حيوانًا، ثم مات ذلك الحيوان بعد سبعة أيام من يوم البيع، فلا يكون البائع مسئولًا عن وفاته، ولا يتحمل أي ضرر عنها5. فلعل النص على هذه الأيام السبعة، يشير إلى وجود فكرة الأسبوع عند العرب الجنوبيين.
وقسم الجاهليون الشهر إلى عشرة أقسام يتألف كل قسم منها من ثلاث ليال. هي: غرر والغُرر: ثلاث ليال من أول كل شهر. وغرة الشهر ليلة استلال القمر6. ونفل أو شهب وتسع أو بهر. وهي الليلة السابعة والثامنة والتاسعة7 وعشر وبيض ودرع وظلم وحنادس أودهم ودادئ "دادأ" ومحاق8. ويذكر أهل الأخبار "أن العرب في الجاهلية إذا كان يوم المحاق من الشهر بدر الرجل إلى ماء الرجل إذا غاب عنه فينزل عليه ويسقي به ما له، فلا يزال قيم الماء ذلك الشهر وربه حتى ينسلخ، فإذا انسلخ كان ربه الأول أحق به. وكانت العرب تدعو ذلك المحيق"9.
__________
1 Universal Jewish Encyclopaedia, vol. 10, p. 482.
2 التكوين الاصحاح السابع، الآية4 وما بعدها، والاصحاح الثامن الآية10 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "1/ 79".
3 Universal Jewish Encylopaedia, 10, p. 482.
4 Beeston, P. 3
5 Rep. Epigr. 3910
6 اللسان "5/ 15"، "غرر".
7 اللسان "4/ 81"، "بهر".
8 اللسان "6/ 58"، "حندس"، اللسان "10/ 339"، "محق"، "أسماء أيام الأسبوع وأسماء العدد وتفسير معانيا"، لأنيس فريحة، الأبحاث، السنة "11" الجزء الأول "1958م" "ص32".
9 اللسان "10/ 339"، "محق".(16/97)
وذكر بعض أهل الأخبار، أن العرب كانت "تسمي الثلاث الأولى من ليالي الشهر، فتقول: ثلاث غرر، والثلاث التي تليها ثلاث سَمَر، والثلاث التي تليها ثلاث زهر، والثلاث التي تليها ثلاث درر، والثلاث التي تليها ثلاث قمر، وثلاث بيض، وتقول في النصف الثاني من الشهر في الثلاث الأول: ثلاث درع، وفي الثلاث التي تليها ثلاث ظلم، وفي الثلاث التي تليها ثلاث حناديس، وفي الثلاث التي تليها ثلاث دواري، وفي الثلاث التي تليها ثلاث محاق. وقيل: إنه يقال لليالي الشهر: ثلاث هلل، وثلاث قمر، وست نقل، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث بهم، وست حناديس، وليلتان داريتان، وليلة محاق1.
__________
1 مروج "2/ 195"، وتختلف هذه التسميات باختلاف روايات أهل الأخبار، صبح الأعشى "2/ 370 وما بعدها".(16/98)
الأيام:
واليوم في عرف علماء اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها1. ولكنهم يتوسعون في معناه أيضًا، فيقصدون به معاني أخرى، مثل الدهر. أما في الاصطلاح فإنه جزء من أيام الأسبوع والشهر والسنة. وهو ليل ونهار، وهما مجتمعان يكونان اليوم. فاستعمل اليوم على وجهين: أحدهما أن يجعل اسمًا للنهار خاصة. والوجه الآخر أن يكون اليوم اسمًا للمدة الجامعة للزمانين جميعًا، أعني: الليل والنهار2.
واعتبر الجاهليون مبدأ اليوم من وقت غروب الشمس. وأما انتهاؤه فبابتداء الغروب التالي له. فصار اليوم عندهم بليلته من لدن غروب الشمس عن الأفق إلى غروبها من الغد، فصارت الليلة عندهم قبل النهار3.
ولهذا السبب غلبت العرب الليالي على الأيام في التاريخ؛ "لأن ليلة الشهر سبقت يومه، ولم يلدها، وولدته، ولأن الأهلة لليالي دون الأيام، وفيها دخول الشهر"4. والعرب تستعمل الليل في الأشياء التي يشاركه فيها النهار، فيقولون:
__________
1 اللسان "12/ 649" "صادر" "يوم"، صبح الأعشى "2/ 339".
2 الأزمنة والأنواء، لابن الأجدابي "ص28"، "الدكتور عزة حسن"، "دمشق 1964م".
3 الآثار الباقية "1/ 5 وما بعدها"، ابن الأجدابي "28".
4 بلوغ الأرب "3/ 216".(16/98)
أدركني الليل بموضع كذا، وصمنا عشرًا من شهر رمضان، وإنما الصوم للأيام، ولكنهم أجازوه إذ كان الليل أول شهر رمضان1.
أما اليونان، فقد عدّوا مبدأ اليوم عند شروق الشمس، وأما منتهاه فابتداء شروق آخر، وذلك بخلاف الرومان الذي عدوا منتصف الليل هو ابتداء اليوم.
ومنتهاه عند منتصف ليل تال له2. وقد عدّ التقويم العبراني "لوح"، مبدأ اليوم من وقت غروب الشمس. وأما انتهاؤه فابتداء الغروب التالي له3.
وذكر أن العرب خصصوا من الشهر ليالي بأسماء مفردة كآخر ليلة منه، فإنها تسمى "السرار" لاستسرار القمر فيها، وتسمى "الفحمة" أيضًا لعدم الضوء فيها، ويقال لها: البراء، وكآخر يوم من الشهر، فإنهم يسمونه النحير، وكالليلة الثالثة عشرة، فإنها تسمى السواء، والرابعة عشرة ليلة البدر4.
وقد عرف اليوم بـ"يوم" في نصوص المسند كذلك. كما وردت فيها لفظة "ليلم"، أي: "ليل" للتعبير عن الليل، أي: اللفظة ذاتها التي تستعملها عربية القرآن الكريم. ووردت فيها لفظة "صبحم" بمعنى صبح وصباح. ولا بد أن تكون في لهجات العرب الجنوبيين مسميات لأقسام الليل والنهار على نحو ما نجده في عربية القرآن الكريم. ولا يستبعد أن يظفر بها الباحثون بعد قيام العلماء بحفريات علمية منظمة في العربية الجنوبية.
وقد أوردت كتب اللغة والأخبار أسماء الأيام التي كان يستعملها بعض الجاهليين، ويتبين منها أن الجاهليين كانوا يسمون الأيام بأسماء مختلفة متباينة بحسب تباين الأماكن والقبائل. وقد ماتت تلك الأسماء الجاهلية، وحلت محلها أسماء متأخرة لم تكن معروفة عند قدماء الجاهليين. فأسماء الأيام عند بعض الجاهليين ممن أخذ علماء اللغة عنهم، هي كما زعموا: "شيار" ويراد به السبت، وأول ويراد به الأحد، وأهون، وأوهد ويراد بها يوم الاثنين، وجُبار ويراد به الثلاثاء، ودبار ويراد به الأربعاء، ومؤنس ويراد به الخميس، وعَرُوبة أو العَرُوبة
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 216".
2 Dictionary of Classical Antiquities, p. 110.
3 The Jewish Encyclopaedia, III, p. 501.
4 الآثار الباقية "1/ 64".(16/99)
أي بالتعريف ويراد به الجمعة1.
وقد جمعت أسماء الأيام القديمة المذكورة في هذين البيتين:
أؤمل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس فالعروبة أو شيار
وهي أبيات يرى بعض علماء اللغة أنها موضوعة2. وقد زعم "ابن كثير" أن البيتين المذكورين من شعر العرب العرباء المتقدمين3.
وقد نسب بعض هذه الأخبار هذه الأيام إلى العرب العاربة من بني قحطان وجرهم الأول4.
ويذكر علماء اللغة أن أيام الأسبوع المعروفة والمتداولة عندنا في الزمن الحاضر، وهي: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت، هي أسماء إنما عرفت وظهرت في الإسلام5. ولكنهم لم يذكروا، ويا للأسف، متى كان ظهورها ولا في أية سنة كان ذلك، أكان ذلك في مكة -أي: قبل الهجرة أم بعد الهجرة إلى المدينة؟ - وقد ذكر "المسعودي" هذه الأيام، ثم قال: "وكانت العرب تسميها في الجاهلية: الأحد أول، والاثنين أهون، والثلاثاء جبار، والأربعاء دبار، والخميس مؤنس، والجمعة عروبة، والسبت شيار"6.
__________
1 المخصص "9/ 42"، "أسماء الأيام في الجاهلية"، نهاية الأرب، للنويري "1/ 142"، مروج الذهب "2/ 110"، الآثار الباقية "1/ 64"، الأيام والليالي والشهور للفراء "ص6"، شرح القاموس "2/ 549"، "5/ 306"، صبح الأعشى "2/ 354"، نهاية الأرب "1/ 148"، بلوغ الأرب "1/ 273"، المزهر "1/ 219"، Ency. Iv. P. 1210
2 اللسان "1/ 593"، "عرب"، المسعودي، مروج "2/ 191"، تفسير ابن كثير "2/ 355"، صبح الأعشى "2/ 365"، اللسان "4/ 275"، "دبر"، نزهة الجليس "1/ 291"، وتجد بعض الاختلاف في النص.
3 تفسير ابن كثير "2/ 355".
4 صبح الأعشى "2/ 364".
5 الآثار الباقية "1/ 63 وما بعدها"، بلوغ الأرب "1/ 273 وما بعدها"، الأبحاث "1958م" "حـ1 ص33"، نهاية الأرب، للنويري "1/ 142".
6 المسعودي، مروج "2/ 191".(16/100)
وهناك من اللغويين والأخباريين من يرى أن هذه الأسماء المتداولة مروية عن أهل الكتاب، وأن العرب المستعربة لما جاورتهم أخذتها عنهم، وأن العرب العاربة لم تكن تعرف هذه الأسماء1.
وذكر بعض أهل الأخبار، أن الأيام المذكورة، هي ما نطقت به العرب المستعربة من ولد إسماعيل، وهي مروية عن أهل الكتاب، وأن العرب المستعربة لما جاورتهم أخذتها عنهم، وأن الناس قبل ذلك لم يكونوا يعرفون إلا الأسماء التي وضعتها العرب العاربة، وهي أبجد هوز حطي كلمن سفعص قرشت2.
ولا يملك الأخباريون دليلًَا مقنعًا يثبت لنا بجلاء أن أيام الأسبوع المعروفة اليوم إنما وضعت في الإسلام. وفي رواياتهم عن يوم الجمعة ما يخالف زعمهم هذا.
ثم إن كلمة "السبت" وردت في آية مكية3. وورودها في آية مكية دليل على وقوف أهل مكة عليها ومعرفتهم بها. أما لفظة "الجمعة"، قد ودت في سورة مدنية، أي: أنها نزلت بعد الهجرة4.
وعندي أن أسماء أيام الأسبوع المستعملة عندنا كانت معروفة في يثرب وفي مكة قبل الإسلام. وقد تعلمها أهل يثرب من اليهود، من اختلاطهم بهم. فإن هذا الترتيب للأسبوع مبني على قصة الخلق الواردة في التوراة. ولا بد لذلك لمستعملي هذا الترتيب من أن يكونوا قد تعلموه من مصدر يهودي أو من مصدر له صلة باليهود، أو من النصارى الساكنين بيثرب أو بمكة. فإننا نعرف أن العبرانيين كانوا لا يسمون أيام الأسبوع بأسماء خصوصية، ولكنهم كانوا يعدونها بحسب ترتيبها، فيقولون اليوم الأول والثاني والثالث كما هو في العربية، إلا يوم الجمعة والسبت، فقد كانوا يسمون الجمعة "عريب شبات" Ereb Shabat، ومعناه "مساء السبت" و"عشية السبت". وأما السبت، فهو "شبت" "شبات" ومعناه الراحة Rest، وذلك لاعتقادهم ولما ورد في سفر التكوين: أن الله خلق العالم في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع. فسموا هذا اليوم:
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 275".
2 صبح الأعشى "2/ 365".
3 النحل: الآية 124.
4 الجمعة: الآية9.(16/101)
"يوم الراحة" "يوم ها -شبات" Yom ha – Shabbat. واختصرت بـ"شبات" أي: السبت1.
ولست أعرف نصًّا من نصوص المسند، ورد فيه اسم معين ليوم من أيام الأسبوع، مثل الجمعة أو السبت أو الأحد وغير ذلك. وكل ما نعرفه من النصوص أن العرب الجنوبيين كانوا يذكرون موقع اليوم من الشهر، فيكتبون في اليوم السابع من الشهر الفلاني، أو في اليوم الخامس عشر منه، أو في اليوم العشرين منه، وهكذا. وذلك لتعيين مكان اليوم من الشهر. وطريقتهم هذه طريقة معروفة عند الساميين وعند غيرهم، وهي لا تزال مستعملة حتى في هذه الأيام كتابة وفي الاستعمال الاعتيادي وفي التوريخ، وذلك للسهولة والاختصار.
ولا نستطيع أن نتحدث عن اليوم المهم في الأسبوع مثل يوم السبت عند اليهود أو يوم الأحد عند النصارى وعند الوثنيين، وإن كان في بعض الروايات ما يفيد أن يوم الجمعة كان من الأيام المعظمة في نظر قريش، وقد عرف عندها بـ"يوم العروبة"، وكانت تجتمع في كل جمعة إلى كعب بن لؤي بن غالب فيخطب فيها، وأنه هو الذي سمى يوم العروبة يوم الجمعة، وذلك لتجمع الناس حوله في ذلك اليوم2.
وقيل: إن يوم الجمعة لم يعرف بهذا الاسم إلا في الإسلام3. وأن الأنصار هم الذين بدلوا اسم "يوم العروبة" فجعلوه "الجمعة"، ذلك أنهم نظروا فإذا لليهود يوم في الأسبوع يجتمعون فيه، وللنصارى يوم يجتمعون فيه هو الأحد، فقالوا: ما لنا لا يكون لنا يوم كيوم اليهود أو النصارى، فاجتمعوا إلى سعد بن زُرارة، فصلى بهم ركعتين وذكرهم، فسموا ذلك اليوم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، وأنزل الله سورة الجمعة، فهي على حد قول أصحاب هذه الرواية أول جمعة في الإسلام4. وقد انتبه بعضهم إلى خطل رأي من ذهب إلى أن يوم الجمعة إنما سمي بهذه التسمية في الإسلام، فقال: إن يوم الجمعة كان يسمى بهذا
__________
1 The Jewish Encyclopdia, vol, II, p. 502, Art: Calender.
2 تاج العروس "5/ 306"، بلوغ الأرب "1/ 273".
3 الأيام والليالي "ص6".
4 صبح الأعشى "2/ 363"، بلوغ الأرب "1/ 274".(16/102)
الاسم قبل أن يصلي الأنصار الجمعة1.
وقد انتبه علماء العربية إلى اسم "يوم عروبة"، فقالوا: هو اسم قديم للجمعة. "وكأنه ليس بعربي"2. و"عروبة" بمعنى غروب في السريانية وفي العبرانية، وقد سمي اليوم السابق للسبت "عروبة"؛ لأنه غروب، أي: مساء نهار مقدس3.
وذكر أهل الأخبار، أن كل أربعاء يوافق أربعًا من الشهر، مثل أربع خلون، وأربع عشرة خلت، وأربع عشرة بقيت، وأربع وعشرين، وأربع بقين، فهي: "أيام نحسات"4. ونظرًا لورود الإشارة إلى هذه الأيام في كتب أهل الأخبار، ولاعتقاد الجاهليين بالنحس، وبوجود نجمين للسعد وللنحس، كما في قول الشاعر:
يومين غيمين ويومًا شمسًا ... نجمين بالسعد ونجمًا نحسًا5
فإن في استطاعتنا القومل بوجود الأيام النحسات عند الجاهليين.
ويقسم النهار والليل إلى اثني عشر قسمًا، كل قسم منها ساعة، فيكون مجموع ساعات اليوم أربعًا وعشرين ساعة. وساعتنا المعروفة مأخوذة من الساعة السومرية البابلية، فقد قسّم البابليون الليل والنهار إلى ساعات متساوية هي اثنتا عشرة ساعة لكل من الليل والنهار، وجرى الناس على هذا التقسيم حتى اليوم6.
وذكر بعض علماء اللغة أن "الآناء" الساعات. وكان الجاهليون إذا شغلوا إنسانًا بالساعات، قالوا لذلك: "المساوعة"7.
ويروي الأخباريون أن العرب وضعت لساعات النهار والليل أسماء غير مستعملة عندنا، فأما ساعات النهار، فهي: "الذرور" "الدرور" ثم البزوغ "البزاغ"، ثم الضحى، ثم الغزالة، ثم الهاجرة، ثم الزوال، ثم الدلوك، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم الصبوب، ثم الحدود، ثم الغروب. ويقال فيها أيضًا: البكور
__________
1 صبح الأعشى "2/ 363".
2 اللسان "1/ 593"، "عرب".
3 الأبحاث، السنة "1958م"، "جـ1 ص48".
4 المسعودي، مروج "2/ 191".
5 تفسير الطبري "4/ 67".
6 Alfred Jeremias, Handbuch derAltorientalischen Geisteshultur, Leipzig, 1929, S. 29.
7 المخصص "9/ 44".(16/103)
ثم الشروق، ثم الإشراق، ثم الرأد، ثم الضحى، ثم المتوع، ثم الهاجرة، ثم الأصيل، ثم العصر، ثم الطَّفل، ثم العشي، ثم الغروب1.
وأما ساعات الليل، فهي على حد قولهم: الشاهد2، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم الفحمة، ثم الموهن، ثم القطع، ثم الجوسر "الجوس" "الجوشن"، ثم العبكة، ثم التباشير، ثم الفجر الأول، ثم المعترض، ثم الإسفار. وأسماء أخرى يذكرها اللغويون3، حيث يروون أن الجاهليين كانوا يقسمون اليوم إلى أربع وعشرين ساعة. غير أن من الصعب العثور على دليل يفيد وجود هذا التقسيم عندهم4.
ويقول أهل مكة بوجود فجرين، أحدهما قبل الآخر. فالفجر الأول هو الفجر الكاذب، ويسمى "ذنب السرحان" لدقته. والفجر الثاني هو الفجر الصادق، ويقال له: "المستطير"، ومنه الحديث" ليس بالمستطيل، يعني الفجر الأول، ولكن المستطير" يريد المنتشر الضوء. ومع طلوعه يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود5.
وهناك شفقان، أحدهما قبل الآخر: الشفق الأحمر، والشفق الأبيض. وهو يغرب في نصف الليل6.
ويقال لليوم الذي يسبق اليوم الذي نحن فيه. يوم أمس، أو الأمس، ونهار أمس. أما البارحة، فيراد بها أقرب ليلة مضت، أي: الليلة الماضية. وأما اليوم الذي يلي اليوم الذي نحن فيه، هو نهار الغد، والغد، وبكرة.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 274"، صبح الأعشى "2/ 348"، نهاية الأرب "1/ 147".
2 "الشاهد يوم الجمعة وصلاة الشاهد صلاة المغرب"، تاج العروس "2/ 392".
3 بلوغ الأرب "1/ 274"، "الهتكة"، صبح الأعشى "2/ 348".
4 Ency., IV, P. 1210
5 الأنواء "ص143".
6 الأنواء "ص143 وما بعدها".(16/104)
الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم
مدخل
...
الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم
قسم الجاهليون شهور السنة إلى قسمين: أشهر اعتيادية هي ثمانية شهور وأشهر أربعة حرم مقدسة خصت بآلهتهم، لا يجوز فيها قتال ولا بغي ولا انتهاك لحرمات. وكانوا يقاتلون في الشهور الثمانية يغزون بعضهم بعضًا، ويغيرون بعضهم على بعض. ثم يتوقفون عن القتال في الأشهر الحرم الباقية.
والأشهر الحرم هي أربعة: ثلاث متواليات سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشهر منفرد هو شهر "رجب"1. فهي ثلث السنة إذن. وكان الجاهليون يعظمونها، ولا يستبيحون القتال فيها، حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه، استعظامًا لحرمة هذه الأشهر التي هي هدنة تستريح فيها القبائل فتنصرف إلى الكيل والامتياز والذهاب إلى الأسواق، وهي آمنة مستقرة لا تخشى اعتداء ولا هجوًا مفاجئًا. وتحريم هذه الأشهر ضرورة من الضرورات استوجبتها طبيعة الحياة في البادية، فأهل البادية بما هم فيه من فقر وضنك عيش يتنافسون فيما بينهم ويتقاتلون على الكلإ والماء وعلى أخذ حق المرور من القوافل وعلى الغزو والغارات يعيشون. وحياة عاصفة هذا شأنها لا بد لها من فترة تستريح
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 82"، روح المعاني "10/ 90"، كتاب الأزمنة والأمكنة للمرزوقي "1/ 221 وما بعدها"، "طبع حيدر آباد الدكن 1332هـ"، تفسير الطبري "10/ 88"، تفسير ابن كثير "2/ 355".(16/105)
فيها، وتمتار فيها، وتصفي فيها حسابها بدفع أثمان الديات بهدوء وبتسوية المشكلات بالمساومة والمفاوضة، وتلك الفترة هي الأشهر الحرم.
هذا ما يذكره ويرويه العلماء عن الشهور بصورة عامة. ويجب حمل كلاهم هذا على قريش ومن والاها، وعلى القبائل التي كان للعلماء اتصال بها وعلم بأخبارها أما القبائل البعيدة عنهم، والقبائل التي لم يتصلوا بها اتصالًا وثيقًا، فنحن لا نستطيع أن ندخلهم في هذا الكلام فنقول أنهم كانوا يحرمون أشهرًا ويحرمون أخرى، لعدم وجود دليل لدينا يثبت ذلك، وسنبقى على رأينا هذا حتى يظهر لنا دليل يؤيده أو ينفيه.
والمذكورون قوم يحرمون إذن شهورًا ويحلون أخرى، لا يقاتلون ولا يغزون في شهور، حرمة وتقديسًا لها، إلا عن ضرورة ولجاجة، ويقاتلون ويغرون في الأشهر الأخرى المتبقية من السنة، فيقصرون نشاطهم في الغزو وفي الأخذ بالثأر على أشهر الحل فقط.
قال "الطبري" في تفسيره الآية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 1: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم، وهي الأربعة التي عددت لك، يعني عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيعًا الأول، وعشرًا من شهر ربيع الآخر. وقال: قائلو هذه المقالة: قيل لهذه الأشهر: الحرم؛ لأن الله عز وجل حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والعرض لهم إلى بسبيل خير"2. وقال "النيسابوري" في تفسيرها: "واختلفوا في الأشهر الأربعة، فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال، والمراد: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر. وكانت حرمًا لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو سميت حرمًا على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: ابتداء المدة من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان.
__________
1 التوبة، الرقم9، الآية5.
2 تفسير الطبري"10/ 56".(16/106)
ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة"1. فدخل صفر وربيع الأول وربيع الآخر في الأشهر الحرم، حسب هذه الروايات. مع أنها ليست من الأشهر الحرم المقررة المعروفة عند الجاهليين. وقد رأيت تعليل ذلك في تفسير "النيسابوري" لها، وهو فعل عامل النسيء.
ولما وصل "الطبري" إلى الآية: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم} 2، قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} . منها أربعة حرم متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وهو قول عامة أهل التأويل"3. وقال "النيسابوري": "منها أربعة حرم: ثلاثة سرد، أي: مسرودة: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد هو رجب"4. وورد في خطبة الوداع: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرًا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"5. فهذه هي الشهور الحرم. أما ما تقدم، فقد كانت محرمة بموجب ما كان قد وقع عليها بفعل النسيء. فقد كانت العرب قد نسأت النسيء، فكانوا يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة6.
وعرف المحرمون للأشهر الحرم بـ"المحرمين"، وبـ"البسل" أيضًا. ذكر أن من معاني "البسل": الحرام والشجاعة، وهي معاني نجدها في لفظتي "حمس" و"حرم". وذكر علماء اللغة، أن "البسل ثمانية أشهر حرم كانت لقوم لهم صيت. وذكر أنهم من غطفان وقيس. يقال لهم: الهباآت"7. وذكر أن البسل: "بني عامر بن لؤي"8، أو"عوف بن لؤي"، أو "مرة بن
__________
1 تفسير النيسابوري "10/ 37"، "حاشية على تفسير الطبري".
2 التوبة، رقم9، الآية26.
3 تفسير الطبري "10/ 88".
4 تفسير النيسابوري "10/ 79"، "حاشية على تفسير الطبري".
5 تفسير ابن كثير "2/ 353".
6 تفسير ابن كثير "2/ 354".
7 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".
8 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".(16/107)
عوف بن لؤي". وكانوا يحرمون ثمانية أشهر من السنة. وقد امتنعت بعض القبائل من الإغارة عليهم في هذه الأشهر1. فالبسل إذن جماعة تعظم ثمانية أشهر من السنة، وتحرمها فلا تقاتل فيها فهم يختلفون إذن عن "المحرمين" من قريش ومن دان بدينهم في أنهم يحرمون ثمانية أشهر من أشهر السنة ويحلون الأربعة الباقية، أي: على العكس منهم، يفعلون ذلك تعمقًا وتشديدًا2.
والبسل كما يتبين من تفسير علماء اللغة لها: الحرام. ولهذا قالوا: الإبسال: التحريم. ومن ذلك قيل للأشهر الحرم: "البسل". وهي الأشهر الثمانية التي حرمها قوم من "غطفان" و"قيس". وبهذا المعنى وردت في قول الأعشى:
أجارتكم بسل علينا محرم ... وجارتنا حلّ لكم وحليلها3
وذكر أنها تعني الحرام وأيضًا الحلال. وهي من الأضداد4.
فنحن إذن أم طائفتين من العرب المحرمين للشهور. طائفة اقتصرت على تحريم أربعة أشهر من السنة، جعلتها أشهرًا حرمًا. وطائفة جعلت عدة الشهور الحرم ثمانية، وعدة الشهور الحل أربعة، وهم أقل عددًا من الطائفة الأولى.
ولكننا نجد طائفة أخرى من الجاهليين، استهترت بحرمة كل الأشهر، فلم تحرم أي شهر من شهور السنة، ولم تعترف لها بقدسيته، وساوت بين جميع أشهر السنة، بأن أحلتها كلها، فعرفوا بالمحلين وهم عكس "المحرمين". فقد نص أهل الأخبار على وجود قوم من العرب هم: خثعم وطيء، ذكروا أنهم كانوا يستحلون الأشهر الحرم فيقاتلون فيها، ولايقدسونها ولا يرعون للحرم ولا للأشهر الحرام حرمة. وذكر بعضهم أن أحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب كانوا على مذهب هؤلاء5. فهم لا يفرقون بين الأشهر، ولا يميزون
__________
1 أبو ذر، شرح السيرة "1/ 78"، ابن كثير، البداية "2/ 204"، القلاعي، الاكتفاء "1/ 78"، Kister, P. 141
2 تفسير ابن كثير "2/ 355".
3 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".
4 المصدر نفسه.
5 تاج العروس "8/ 241"، "حرم"، الجاحظ، الحيوان "7/ 216 وما بعدها"، النجيرمي "12"، المحبر "319"، الأزرقي "1/ 341".(16/108)
بينها، وهي كلها في نظرهم سواء. فلا يؤمنون بوجود أشهر حرم مقدسة، ولا بوجود أشهر حل، بل الأشهر عندهم كلها حلال. ولا يمتنعون من القتال في أي يوم أو شهر من السنة.
فهم إذن على نقيض "المحرمين" للأشهر المعظمين للحرم وللأشهر الحرم، قوم لا عهد لهم ولا ذمة بالنسبة إلى شهور السنة.
والظاهر أن "المحلين" كانوا يتحارشون بالمحرمين وبغيرهم في الأشهر الحرم، ولما كان من شرع "المحرمين" الامتناع عن القتال في تلك الأشهر، فللدفاع عن النفس أباح النسأة لمقلديهم المحرمين مقاتلة المحلّين إذا تعرضوا لهم. إذ جاء: "كان الذين ينسأون الشهور أيام الموسم يقولون: حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين. فكانت العرب تستحل دماءهم في هذه الشهور"1.
وجاء: "وإني قد أحللتُ دماء المحلين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم"2.
ويجب أن نضيف على هؤلاء طائفة من العرب من ذي البانة والصعاليك وأصحاب التطاول، وأمثالهم ممن كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للأشهر الحرام قدرًا3.
فكانوا يغيرون في هذه الأشهر ويحلون القتال فيها وفي كل وقت، كما كانوا لا يؤمنون على الحرم. فإذا وجدوا فرصة سرقوا في الحرم وأخذوا ما يقع في أيديهم دون استحياء ولا مبالاة بحرام وحلال، نظرًا لما هم فيه من جوع وفاقة وحاجة، دفعتهم إلى الكفر بكل قانون وعقيدة وعرف.
ويجب أن نضيف إلى المحلين العرب الذين لم يكونوا على دين أهل الشرك، مثل النصارى واليهود. فقد كانت النصرانية قد وجدت سبيلها بين تغلب، وشيبان، وعبد القيس، وقضاعة، وغسان، وسلبح، والعباد، وتنوخ، وعاملة، ولخم، وجُذام. وكثير من بلحارث بن كعب4، وبعض طيء وتميم. فهؤلاء لم يكونوا على شرك، لذلك لم يراعوا حرمة تلك الأشهر ولم يحجوا إلى محجات المشركين، وإنما كانوا يتقربون إلى قبور شهداء الكنيسة وإلى أضرحة القديسين،
__________
1 تاج العروس "8/ 244"، "حرم".
2 نقلًا عن مخطوطة أنساب الأشراف على رواية: Kister, P. 142
3 ثمار القلوب "88"، Kister, P. 143
4 الحيوان "7/ 216".(16/109)
ولهم أعيادهم الخاصة بهم لا يقاتلون فيها إلا دفاعًا عن نفس، ولم يقم اليهود كذلك لتلك الأشهر المقدسة حرمة، إذ كان السبت، يوم راحة بالنسبة لهم، لا يحل فيه قتال، وكذلك كانت أعيادهم أيام حرمة، لا يجيزون فيها قتال، أي مهاجمة أحد، إلا إذا هوجموا، فيحل عندئذ لهم القتال دفاعًا عن نفس، ولما وقعت المناوشات بينهم وبين المسلمين كانوا يتجنبون فيها القتال أيام السبت والأعياد.
وذكر أن قريشًا، كانت لا تتاجر إلا من ورد إليها في مكة في الأشهر الحرم.
لا تبرح دارها ولا تتجاوز حرمها. وذلك لتحمسها في دينها والحب لحرمها.
وكانت تخاف على تجارتها من لصوص الطرق وصعاليك الأعراب وطلاب الطلائب وذؤبان العرب، لأنهم كانوا يرون للشهور الحرم حرمة، ولا للشهر الحرم قدرًا، ولا للحرم حرمة، فاعطت الإيلاف، وألفت القبائل، وقاومت بذلك المحلين.
وقد قسّم "المرزوقي" العرب إلى ثلاثة أهواء بالنسبة إلى أشهر الحج. منهم المحلون، الذين كانوا يستحلون الكعبة والأشهر الحرم ويسرقون ويقتلون في "الحرم"، ومنهم من يحرم الشهور الحرم، ومنهم "أهل هوى" على شرع "صلصل"، وهو "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف" من بني عمرو بن تميم"1. وهو الذي أحلّ للعرب قتال المحلين في الأشهر الحرم2.
وكان من حكام العرب ومفتوهم وممن اجتمع له الموسم والقضاء في عكاظ.
والمحرمون هم: الحمس والحلة. أما "المحلّون"، فالقبائل التي لم تحترم حرمة الكعبة ولا الأشهر الحرم، أي: أولئك الذين أباح النسأة دمهم، وجوّزوا قتالهم في الأشهر الحرم. وأما أولئك الذين كانوا على شرع "صلصل"، فلا ندري مذهبهم وهواهم، فلم يتحدث "المرزوقي" عنهم3. وقد كان "صلصل" ممن اجتمع له الموسم وقضاء عكاظ من بني تميم4. ولم يذكر "ابن حبيب" الأمور التي أوجدها وأحدثها، حتى كون له طائفة خاصة لها رأي في الحرم وفي الأشهر الحرم.
__________
1 المرزوقي، الأمكنة "2/ 166"، المحبر "182 وما بعدها"، Krster, P. 143
2 Kister, P. 143
3 Krster, P. 144
4 المحبر "182 وما بعدها".(16/110)
وتجويز مقاتلة "المحلين" في الأشهر الحرم، هو دفاع عن النفس، وضرورة واجبة. لذلك نص عليه النسأة في أمرهم السنوي الذي يعينون فيه "النسيء" في الموسم، ليقف الناس على موعد الأشهر الحرم ومكانها من السنة في السنة المقبلة.
إذ لا يعقل بالنسبة للمحرمين الامتناع من قتال مقاتل في الأشهر المذكورة؛ لأنها أشهر حرم مقدسة. وإلا عرضوا أنفسهم وأهلم وأموالهم إلى التهلكة، خاصة وأن المقاتلين هم من أهل عقيدة مخالفة لعقيدتهم تمام المخالفة، فشرعة الدفاع عن النفس أباحت لهم حق قتال المحلين.
ويلاحظ أن شهري ذي القعدة وذي الحجة هما الشهران الأخيران من السنة، يليهما في الحرمة الشهر الأول من السنة الجديدة وهو المحرم، فهذه الأشهر الثلاثة هي في الواقع زمن واحد متصل. أما "رجب"، فهو الشهر الوحيد المنفرد بالحرمة. ولذلك عرف بـ"رجب الفرد"، و"بالفرد". وقد علل أهل الأخبار سبب ذلك بقولهم: "وإنما كانت الأشهر المحرمة: أربعة. ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهرًا، وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال. وحرم شهر ذي الحجة، لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك. وحرم بعده شهرًا آخر، وهو المحرم، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره، ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا"1.
ولكن تعليل أهل الأخبار لحرمة "رجب" التعليل المذكور لا يتناسب مع تعليلهم لحرمة الأشهر الثلاثة المحرمة، فإذا كانوا قد حرموا ذا القعدة والمحرم بسبب الاستعداد للحج، وبسبب العودة منها إلى ديارهم كما زعموا، فإن تحريم "رجب" بسبب مجيء العرب فيه من أقصى جزيرة العرب للعمرة فيه، يستوجب أيضًا إعطاء المعتمرين مدة مناسبة قبله وبعده للاعتمار فيه، حتى يضمنوا ذهابهم إلى مكة وعودتهم منها بأمان، فالسفر سفر واحد لا يتغير من حيث الطول أو القصر في موسم الحج أو في موسم العمرة، لأن المسافات لا تتبدل بتبدل الطقوس الدينية، ولو عللنا سبب إطالة تحريم الأشهر الثلاثة بسبب الحج ووجود الأسواق،
__________
1 تفسير ابن كثير "2/ 355".(16/111)
أي لعوامل اقتصادية ومنافع مادية، جاز قبول هذا التعليل، ولكن لِمَ لم يفعلوا هذا الفعل بالنسبة لرجب، الذي تحتاج العمرة فيه إلى مدة أطول من الشهر للوصول في خلالها من أقصى مكان في جزيرة العرب إلى مكة، وللعودة منها إلى مواطنهم، إذ لا يعقل أبدًا بلوغ مكة والعودة إليها سالمين إلى مواطنهم في العربية الجنوبية أو الخليج أو العراق في خلال في شهر واحد. بل هو في نظري زعم من مزاعم أهل الأخبار. وما كان الحج إلى مكة إلا من القبائل القريبة منها، وإنما صار الحج إليها عامًا ومن كل مكان في الإسلام وبفضله وحده. وعندي أن شهر رجب، كان شهرًا مقدسًا محرمًا، تعتر فيه العتائر، عند قبائل مضر وقبائل ربيعة، وهما حلفان في الأصل، وقد تناول قبائل متجاورة، ثم انفصل فصار ربيعة ومضر. وفي هذا الشهر كانوا يتقربون إلى "الله" بالعتائر، ومنهم من يعتمر، فيبقى بمكة ما يشاء، ولم تكن العمرة على شاكلة الحج من حيث العدد والكثرة، بل كانت قاصرة على المتمكنين الذين لهم عهود ومواثيق مع أهل مكة وغيرها من سادات قبائل مضر وربيعة، فلا خوف على أمثال هؤلاء من الرجوع إلى وطنهم في أي وقت شاءوا، إذ لا يطمع فيهم طامع بسبب ما كانوا يحملونه من تجارة، كالذي كان يفعله التجار الذين يذهبون إلى الاتجار بالأسواق وفي جملتها سوق مكة في موسم الحج الذي هو تجارة وحج، لأنهم كانوا من عامة القبائل ومعهم تجارة، فكان من الضروري تطويل الموسم ليكون أمنًا لهم يحميهم من الأذى إلى عودتهم إلى مواطنهم.
وفي هذه الأشهر الحرم تعقد الأسواق مثل سوق عكاظ وذي المجاز وذي المجنة ودومة الجندل وغيرها، فيقصدها الناس من مواضع بعيدة، وتكتظ أرضها بجموع غفيرة لم تكن تقصدها في غير هذه "المواسم".
وقد عرف شهر "ذو القعدة" بهذا الاسم، لأن الناس –كما يقول علماء اللغة- كانوا يقعدون فيه عن الأسفار والغزو والميرة وطلب الكلأ ويحجون في ذي الحجة1. وهو تفسير أخذ من ظاهر التسمية، ودليل ذلك قولهم: "لقعودهم فيه عن القتال والترحال"2. فالقعود فيه عن القتال جائز بالنسبة للمحرمين،
__________
1 تاج العروس "2/ 469"، "قعد"، تفسير ابن كثير "2/ 354".
2 تفسير ابن كثير "2/ 354".(16/112)
ولكن قعودهم عن الترحال خطأ، إذ كانوا على العكس يتهيأون فيه للأسفار إلى الاتجار والحج، فهو شهر ترحال لا شهر قعود وجلوس.
وأما "ذو الحجة"، فقد عرف بذلك لإيقاعهم الحج فيه. وقد رأينا أن في نصوص المسند اسم شهر عرف بـ "ذ حجتن"، أي: "ذي الحجة"، وبـ"ذ محجتن"، أي: "ذي المحجة"، مما يدل على أن له صلة بالحج1.
ولم تعين نصوص المسند موسم حج العرب الجنوبيين، ولم تذكر اسم محجتهم، ولكننا نستطيع أن نقول أنها كانت إلى محجات آلهتهم المعروفة المنصوص عليها في نصوصهم، وهي غير آلهة أهل مكة من غير شك.
وقد ذكر بعض علماء اللغة أن العرب كانت تسمي شهر رجب "رجب الأصم" و"المحرم"، وذكر بعض آخر أن المحرم لم يكن يعرف بهذا الاسم إلا في الإسلام، فقد كان الجاهليون يسمونه صفرًا. ولذلك كان في تقويمهم صفران، كما كان عندهم شهران باسم ربيع الأول وربيع الآخر، وشهران باسم جمادى الأولى وجمادى الآخرة. وصفر الأول هو المحرم في عرفنا، وصفر الآخر هو صفر في اصطلاحنا اليوم. وقد كان الجاهليون يؤخرون المحرم إلى صفر في تحريمه، فيكون شهرًا حرامًا2.
ويظهر أن لدخول "ال" أداة التعريف على "المحرم" أهمية في تثبيت هذا الشهر فإن للفظة "محرم" دلالة دينية، يراد بها كل شهر من الأشهر الحرم.
فكل شهر من هذه الشهور الحرم هي محرم وحرام، ومن ضمنها "المحرم".
وقد دخلت "ال" على هذه اللفظة لتخصيصها وجعلها علمية خاصة بهذا الشهر.
وإلا دخلت على الشهور الأخرى العلمية، مثل رجب وشعبان ورمضان وصفر، فلا يقال فيها: الرجب والشعبان والرمضان والصفر، بل يقال: قدم شهر رجب.
وقدم شعبان وشهر رمضان وصفر. وهذا يفسر قول ""ابن كثير": "وعندي
__________
1 Rep. Epig. 4176/7
2 تاج العروس "3/ 236"، "8/ 240 وما بعدها"، "حرم"، قال حميد بن ثور:
رعين المرار الجون من كل مذنب ... شهور جمادى كلها والمحرما
وقال آخر:
أقمنا بها شهري ربيع كلاهما ... وشهري جمادى واستحلوا المحرما
تاج العروس "8/ 241" "حرم".(16/113)
أنه سُمي بذلك، تأكيدًا لتحريمه؛ لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عامًا وتحرمه عامًا"1 أي: أنه كان قلقًا متنقلًا، ولم يكن ثابتًا، ثم ثبت في الإسلام.
وقد ورد في كتب الحديث أن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء، كما كان اليهود يصومون ذلك اليوم. ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم. وأن الرسول حين قدم المدينة وجد اليهود يصومونه. وأن الرسول كان يصومه في الجاهلية أيضًا. ولما قدم المدينة، كان يصومه، وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان، ترك عاشوراء، فن شاء صامه، ومن شاء تركه2. وورد "أن قريشًا كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه.
ولكن إنما كانوا يعدون بالأهلة، فكان عندهم عاش المحرم. فلما قدم المدينة، وجدهم يعظمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون"3.
وذكر أيضًا: أن رسول الله، كان يتحرى يوم عاشوراء على سائر الأيام، وكان يصومه قبل فرض رمضان. فلما فرض رمضان، قال: "من شاء صامه، ومن شاء تركه"، وبقي هو يصومه تطوعًا، فقيل له: "يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال، صلى الله عليه وسلم: "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله"4.
ويرجع حديث صيام قريش يوم عاشوراء إلى "عائشة"، وقد رواه عنها "عروة بن الزبير بن العوام" فقد روي أنها "قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه. فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان، ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه"5 ويروى أيضًا عن معاوية، فقد ورد عن "حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، يوم عاشوراء،
__________
1 ابن كثير، تفسير "2/ 354".
2 جامع الأصول "7/ 199 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 400"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "1/ 726 وما بعدها".
3 زاد المعاد "1/ 164 وما بعدها".
4 الطبري "2/ 417 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 60"، زاد المعاد "1/ 164".
5 إرشاد الساري "3/ 421".(16/114)
عام حج على المنبر، يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر"1.
وقد حاول شراح حديث "عائشة" إيجاد مخرج له، فقالوا في شرح: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية"، "يحتمل أنهم اقتدوا في صيامه بشرع سالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة البيت الحرام فيه". وقد وضع بعضهم بعد "وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يصومه" جملة "في الجاهلية".
وحاولوا إيجاد مخرج آخر لحديث "معاوية"، بقولهم: "والظاهر أن معاوية قاله لما سمع من يوجبه أو يحرمه، أو يكرهه، فأراد إعلامهم بنفي الثلاثة، فاستدعاؤه لهم تنبيهًا لهم على الحكم أو استعانة بما عندهم على ما عنده". وقالوا: "إن معاوية من مسلمة الفتح، فإن كان سمع هذا بعد إسلامه، فإنما يكن سمعه سنة تسع أو عشر، فيكون ذلك بعد نسخه بإيجاب رمضان، ويكون المعنى لم يفرض بعد إيجاب رمضان، جمعًا بينه وبين الأدلة الصريحة في وجوبه، وإن كان سمعه قبله فيجوز كونه قبل افتراضه"2. ثم ذكروا بعد هذين الحديثين، حديثًا يناقضهما تمامًا، وهو أن النبي حين قدم المدينة فرأى اليهود تصوم، فقال: "ما هذا الصوم؟ " قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال النبي: "فأنا أحق بموسى منكم فصامه، وأمر صيامه"3. وهو حديث للعلماء عليه كلام.
وحديث معاوية لا يدل على صوم قريش ليوم عاشوراء في الجاهلية، وقد استدل به "ابن الجوزي" على أن صوم عاشوراء لم يكن واجبًا، ولا يفهم منه أبدًا أن قريشًا كانوا يصومونه قبل الإسلام. ولو كان معروفًا لما خفي أمره عليه وعلى غيره من قريش، وحديث "عائشة" حديث مفرد، ويجوز أن يكون قد وضع على لسانها، ولا يعقل انفرادها به وعلمها وحدها بصيام قريش في ذلك اليوم، وخفاء أمره على غيرها من الرجال والنساء ممن عاش معظم حياته في الجاهلية.
__________
1 إرشاد الساري "3/ 422".
2 إرشاد الساري "3/ 422".
3 إرشاد الساري "3/ 422".(16/115)
ويوم "عاشوراء" هو يوم "ع ش ور" Ashura "عشور" "عشورا" عند العبرانيين، ويقع في اليوم العاشر من شهر "تشرى"1. وهو يوم خاص بيهود. وأنا أشك في صحة رواية أهل الأخبار القائلة أن قريشًا كانوا يصومونه في الجاهلية، إذ ما هي صلة قريش الوثنيين الذين لم يكونوا من أهل الكتاب بصيام يوم هو من صميم أحكام ديانة يهود. ومما يؤيد رأيي، هو أن أهل الأخبار أنفسهم يذكرون أن الرسول "حين قدم المدينة، رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم، فأخبروه أنه اليوم الذي غرّق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم، فقال: "نحن أحق بموسى منهم"، فصام، وأمر الناس بصومه. فلما فرض صوم شهر رمضان، لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه"2. فلو كان الصيام معروفًا عند قريش، لما سأل الرسول يهود يثرب عن صومهم صيام عاشوراء، وما جاء من قوله: "نحن أحق بموسى منهم"، فصام، وأمر الناس بصومه" إلى أن فرض رمضان، فرفع عنهم صومه، وجعلهم أحرارًا إن شاءوا صاموه وإن شاءوا أفطروا، أي: صار تطوعًا، وهو حديث يشك فيه العلماء كذلك. وهذه الرواية تناقض تمامًا رواية صيام قريش يوم عاشوراء.
ثم إننا لا نجد في القرآن ولا في الحديث –غير حديث عائشة- ما يشير إلى وجود ذلك الصوم بمكة قبل الهجرة، ولو كان معروفًا لما سُكت عنه. ويرجع بعض المستشرقين دعوى صيام قريش لذلك اليوم إلى محاولة إرجاع الأصول الإسلامية إلى الحنيفية القديمة وإلى قدماء العرب ثم إلى إبراهيم، فصيروا قريشًا تصوم عاشوراء لإرجاع الصيام إلى أصل قديم3.
ولا يعقل وجود الصيام عند المشركين، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وإنما كان الصيام معروفًا عند الأحناف لاتصالهم بهم، وتأثرهم بكتبهم وبما كان عندهم من أحكام، ومن ذلك ترهبنهم وزهدهم، وقد كان الرهبان يكثرون من الصوم والاعتكاف.
وأنا لا أستبعد أن لفظة "محرم" هي نعت لهذا الشهر لا اسمًا له، عرف بها لكونه شهرًا حرامًا. تقع عليه الحرمة، ومن حرمته أن الجاهليين كانوا يبتدئون
__________
1 Shorter Ency., P. 47
2 الطبري "2/ 417".
3 Shorter Ency. P. 48(16/116)
سنتهم به. فالمحرم، هو أول شهر من شهور السنة في حسابهم، ولابتدائهم به، فقد تكون له حرمة خاصة عندهم.
وقد نسب أهل الأخبار شهر رجب إلى مضر، فقالوا: رجب مضر، وقد أشير إلى ذلك في الحديث أيضًا، مما يدل على أن هذا الشهر هو شهر مضر خاصة.
وقد ذكر العلماء أنه إنما عرف بذلك؛ لأنهم كانوا أشد تعظيمًا له من غيرهم، وكأنهم اختصوا به1. وذكروا أيضًا أنهم كانوا يرجبون فيه، فيقدمون الرجبية، وتعرف عندهم بالعتيرة، وهي ذبيحة تنحر في هذا الشهر. ويقال عن أيامه هذه أيام ترجيب وتعتبر2.
ويذكر علماء الأخبار أن تأكيد الرسول على "رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" في خطبة حجة الوداع، هو أن ربيعة كانت تحرم في رمضان وتسميه رجبًا، فعرف من ثم بـ"رجب ربيعة"، فوصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيد على أنه غير رجب ربيعة المذكور الذي هو بين شعبان وشوال. وهو رمضان اليوم3. فرجب إذًا عند الجاهلين رجبان: رجب مضر ورجب ربيعة، وبين الطائفتين اختلاف في مسائل أخرى كذلك.
ومما يؤيد أن شهر "رجب" كان شهر مضر المحرم عندهم بصورة خاصة، ما ورد في أقوال علماء التفسير من أن "الشهر الحرام" الوارد في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} 4، هو شهر "رجب"،وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال5. وما ورد في الآية:
__________
1 "رجب مضر: إنما أضيف رجب إلى هذه القبيلة، لأنهم كانوا يحافظون على تحريمه، أشد من سائر العرب"، عمدة القاري "18/ 42"، تاج العروس "1/ 266 وما بعدها"، روح المعاني "10/ 90".
2 تاج العروس "3/ 72".
3 الروض الأنف "2/ 351" "حجة الوداع"، بلوغ الأرب "3/ 72"، تفسير الطبري "10/ 88 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "2/ 355"، "وأن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، ابن هشام، سيرة "2/ 351"، "حاشية على الروض".
4 المائدة، الرقم5، الآية.
5 تفسير الطبري "6/ 36 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 47".(16/117)
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 1، وإجماع علماء التفسير والأخبار على أنه شهر "رجب"، وأن الآية نزلت في أمر قتل "ابن الحضرمي" في آخر يوم من جمادى الآخرة، وأول ليلة أو يوم من رجب. وقد كان المسلمون يهابونه ويعظمونه، وكان النبي يحرم القتال في الشهر الحرام، حتى نزلت الآية في حق القتال فيه وفي بقية الشهور. وقد ذهب المفسرون أيضًا إلى أن "الشهر الحرام"، هو كل شهر حرام من هذه الأشهر الأربعة، وأن الآية لا يراد بها التخصيص، وإن ما ذكر من أنه شهر رجب، فلأجل وقوع الحادث المذكور فيه2.
وعرف "رجب" بـ"متصل الألّ" والألة والألال في الجاهلية. أي: مخرج الأسنة من أماكنها. كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام إبطالًا للقتال فيه، وقطعًا لأسباب الفتن بحرمته، فلما كان سببًا لذلك سمي به، إعظامًا له، فلا يغزون ولا يغير بعضهم على بعض3. وعرف أيضًا بـ"منزع الأسنة" للسبب المذكور.
ومن دلائل حرمة شهر "رجب" ومكانته العظيمة عند أهل الجاهلية، تقديمه العتائر فيه والأضاحي التي عرفت عندهم بـ"الرجبية"، ووقوع أكثر المناسبات الدينية فيه. وقد نعت هذا الشهر بـ"الأصم"، فقيل له: "رجب الأصم"، لعدم سماع استغاثة أو قعقعة سلاح فيه4، لأن العرب كانت لا تقرع فيه الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه، فلا يهيجه، تعظيمًا له5. وعرف بـ"رجب الفرد" وبـ "الفرد"، لانفراده وحده من بين الأشهر الحرم الأخرى6.
ويرى "ولهوزن"، استنادًا إلى بعض الموارد اليونانية وغيرها أن العرب كانوا يحرمون شهرًا واحدًا منفردًا، هو "رجب الفرد"، وهو من شهور الربيع، وشهرين آخرين متصلين يقعان في القيظ، أي: في أوج الصيف. أما الشهر الثالث
__________
1 البقرة، الرقم2، الآية 217.
2 تفسير الطبري "2/ 201 وما بعدها".
3 تاج العروس "8/ 137"، "نصل".
4 تاج العروس "3/ 380"، "عتر"، اللسان "4/ 537"، المعاني الكبير "2/ 113".
5 تفسير الطبري "2/ 201".
6 تاج العروس "8/ 241"، "حرم"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "1/ 85".(16/118)
الذي ألحق بالشهرين، فصات به ثلاثة أشهر حرم متسلسلة متداخلة، فقد حرم في عهد متأخر لا يبعد كثيرًا عن الإسلام، وهو المحرم1.
ويلاحظ أن الموارد الإسلامية قد وضعت بعض الأحداث المهمة في شهر محرم مثل صوم يوم عاشوراء، ومثل اختيار القدس قبلة للمسلمين، فقد ذكروا أن ذلك كان في اليوم السادس عشر من المحرم، ومثل ذكرهم أن وصول حملة الفيل إلى مكة كان في اليوم السابع عشر منه، وأن ابتداء السنة الهجرية، كان في أول المحرم2، مع أننا لو دققنا ذلك تدقيقًا عميقًا، وجدنا أن أكثر هذا المروي لم يثبت وقوعه في هذا الشهر.
ونجد في كتب الحديث والأخبار ما يفيد بأن الجاهليين كانوا يعظمون شهري شعبان ورمضان تعظيمًا يكاد يضاهي تعظيمهم للأشهر الحرم. وسبب ذلك في نظري، هو بفعل النسيء في الشهرين، وتلاعبهم بالأشهر وتسميتهم لها تسميات كيفية، ووقوع ذلك التلاعب على الشهرين المذكورين دون بقية الشهور. وقد يكون بسبب أن العرب كانوا يقدسون الشهرين ويحرمونهما أيضًا، وأن قريشًا كانت تحترمهما أيضًا، ومن هنا فضل شعبان ورمضان على بقية الأشهر الثانية مع أنهما من الأشهر الاعتيادية على حسب رواية أهل الأخبار. ولم يدخلوهما في جملة الأشهر الحرم. ونجد للشهرين حرمة كبيرة في الإسلام.
وقد كان عرب العراق وبادية الشام يتجنبون أيضًا مثل عرب الحجاز القتال في أشهر معينة، لأنها أشهر مقدسة حرم عندهم، كما يفهم ذلك من مؤلفات الروم والسريان. فقد أشار المؤرخ "أفيفانوس" Epiphanius إلى وجود شهر عند العرب، قال: إن العرب تحتفل فيه، وهو عندهم شهر مقدس، ويقع في شهر تشرين الثاني، ويريد به شهر "ذي الحجة" على ما يظن. وقد دعي بـ"حجت" في بعض الموارد اليهودية3. كما ذكر "بروكوبيوس" Procopius أن عرب المناذرة لم يكونوا ليحاربوا في شهورهم المقدسة، وقال: إنهم كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرمًا لآلهتهم لا يغزون فيها ولا يقاتلون
__________
1 Reste, S. 100.
2 Shorter, p. 410.
3 Aboda Zara, II, b., Epiphanius, Haer, 51, 24.(16/119)
بعضهم بعضًا، ويقعان في تموز وآب1. وذكر "فوتيوس" أن العرب يحجون إلى معبدهم مرتين في السنة: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، وذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف، وذلك لمدة شهرين2.
وفي هذه الإشارات معلومات قيمة، تشير إلى وجود الأشهر الحرم عند العرب الشماليين. ويفهم منها أن الأشهر الحرم كانت ثابتة لا تتغير، فلا يقع حجهم مرة في شتاء ومرة في صيف، وأخرى في ربيع، ومرة في خريف. فحجهم ثابت، وأشهرهم ثابتة. ومما يؤسف له أن أولئك المؤرخين لم يشيروا إلى أسماء المواضع التي كانوا يحجون إليها.
__________
1 Reste, s. 100. F, De Bello Persi, 11, 16, Photius, Bibl. Cod, 3.
2 Reste, S. 101, Winckler, Alt. Orient. Forsch, II, Reihe, I Band, S. 336.(16/120)
الشهور الحل:
وأما الشهور الثمانية الأخرى، غير الحرم، فهي: صفر، وشهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، وشعبان، وشهر رمضان، وشوال. وقد استحل فيها القتال والغزو.
وقد عرفت هذه الشهور: الحرم منها والشهور الحل بشهور معدّ1. وكان أهل مكة يستعملونها عند ظهور الإسلام. والظاهر أن القبائل المجاورة لمكة كانت تستعملها أيضًا. وبهذه الأشهر أرخت رسائل الرسول وأوامره، وصارت باستعمال الرسول لها الشهور الرسمية في الإسلام، عليها يسير كل المسلمين على اختلاف ألوانهم حتى اليوم لما لها من صلات بأمور دينهم في مثل الصوم والحج.
وصفر، هو الشهر الذي يلي المحرم. "قال بعضهم: أنا سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، وقيل: لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا، وروي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرًا من المتاع، وذلك أن صفرًا بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا
__________
1 قال قائل من بني كنانة:
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
تاج العروس "4/ 22".(16/120)
صفرًا"1. وكانوا إذا جمعوا المحرم مع صفر، قالوا: صفران. وفي ذلك قول أبي ذؤيب:
أقامت به كمقام الحنيف ... شهري جمادى وشهر صفر2
وكان أهل مكة يفتتحون سنتهم بالمحرم. فهو أول شهر عندهم من أشهر السنة. وقد أقر الإسلام هذا المبدأ، فجعل المحرم أول شهر من شهور السنة الهجرية3.
ويذكر أهل الأخبار أن أول من سمى الشهور المحرم وما بعده بأسمائها هذه هو "كلاب بن مرة"4.
__________
1 تاج العروس "3/ 336"، "صفر".
2 المصدر نفسه.
3 "قال أبوجعفر: فإذا كان الأمر في تاريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم إياهم قبل مقدم النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة بشهرين وأيام، هي اثنا عشر، وذلك أن أول السنة المحرم، وكان قدوم النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التاريخ من وقت قدومه، بل من أول تلك السنة"، الطبري "2/ 388 ومابعدها"، "ذكر الوقت الذي عمل فيه التاريخ"، روح المعاني "10/ 90 وما بعدها"، الأيام والليالي والشهور "ص9"، القاهرة، 1956م، المرزوقي "1/ 283"، Reste, S. 97
4 بلوغ الأرب "3/ 78".(16/121)
الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء
مدخل
...
الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء
عرف علماء العربية النسيء بقولهم: "والنسيء المذكور في قول الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 1. شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية، فنهى الله عز وجل عنه في كتابه العزيز حيث قال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} ، الآية، وذلك أنهم كانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة، فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرًا، أي: أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم"2. وعرف النسيء بأنه تأخير بعض الأشهر الحرم إلى شهر آخر. وذلك من "نسأ". والنسء تأخير الوقت3. وجعله بعضهم بمعنى "الكبس"، المعروف4. وقد ذهب العلماء إلى أن النسيء كل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء5. فالنسيء تأخير حرمة المحرم إلى صفر، وجعل المحرم شهرًا حلالًا، يجوز لهم القتال فيه؛ لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم، لا يغيرون فيها
__________
1 التوبة، الآية37، تفسير الطبري "10/ 91"، روح المعاني "10/ 38"، تاج العروس "1/ 456"، "طبعة الكويت"، اللسان "1/ 167"، الكشاف "2/ 23"، صبح الأعشى "2/ 366"، "صادر"، المختار من صحاح اللغة "520".
2 اللسان "1/ 167"، "صادر"، "تاج العروس "1/ 456"، "الكويت".
3 المفردات "511"، الروض الأنف "1/ 41، 85".
4 ابن الأجدابي "30".
5 تفسير الطبري "10/ 91"، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "8/ 137".(16/122)
ولا يغزون، ومعاشهم على الغارات والغزو. ففعلوا النسيء، لإحلال ذمتهم من حرمة محرم، ولتجويز القتال فيه، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانًا، ثم يزول التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة1. وقد عرف بعض العلماء النسيء بأنه تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر2. و"العرب تقول: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك، أي: أخر الله أجلك"3.
فهم كانوا يستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه، ويوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه، وجوزوا ذلك عليهم حتى ضلوا باتباعهم هذا التجويز.
بأن جعلوا الشهر الحرام حلالًا، إذا احتاجوا إلى القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حرامًا، ويقولون: شهرًا بشهر، وإذا لم يحتاجوا إلى ذلك لم يفعلوه4.
فكانوا "يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة"5، ومن هنا تلاعبوا بالأشهر وأخرجوها عن حقيقتها، بأن جعلوا الشهر الحرام حلالًا والشهر الحلال حرامًا، فخالفوا بذلك ما اتفق عليه من تحريم أشهر بعينها هي من الأشهر الحل، ومن تحليل أشهر هي الأشهر الحرم.
وإذا أخذنا بما جاء على لسان بعض الشعراء عن النسيء، مثل قولهم:
ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحل نجعلها حراما
وقول أحدهم:
وكنا الناسئين على معد ... شهورهم الحرام إلى الحليل
__________
1 تفسير الطبرسي "5/ 9"، "طبعة طهران"، الأمالي، للقالي "1/ 4".
2 تفسير الرازي "16/ 55"، تفسير البيضاوي "1/ 253 وما بعدها"، الكشاف "2/ 38"، التسهيل لعلوم التنزيل، لمحمد بن أحمد بن جزي الكلبي "2/ 75"، تفسير القاسمي "8/ 3143".
3 الأمالي، للقالي "1/ 4".
4 تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران".
5 تفسير ابن كثير "2/ 354".(16/123)
وقول الآخر:
نسئوا الشهورَ بها1 وكانوا أهلها ... من قبلكم والعز لم يتحول2
واعتبرناه صحيحًا، نستنتج منه أن النسيء كان خاصًّا بحج "مكة"، وبالقبائل التي عرفت بقبائل "معد". وقد عرفنا قبائل وعشائرها وفي جملتها قريش.
وإذا أخذنا النسيء بهذا المعنى، صار معناه مجرد تبديل شهر بشهر، وتأخير حرمة شهر إلى الشهر الذي يليه. وليس هذا بزيادة، أي: زيادة أيام أوشهر على شهور السنة، وهي الأيام التي تتخلف فيها السنة. القمرية عن السنة الشمسية، لتساوى بها، فتثبت الأشهر في مواضعها من الفصول، وهو ما يعبر عنه بالكبس فليس هذا النسيء كبسًا إذًا
وقد تعرض "البيروني" لموضوع النسيء عند العرب، فقال: "وكانوا في الجاهلية يستعملونها على نحو ما يستعمله أهل الإسلام. وكان يدور حجهم في الأزمنة الأربعة. ثم أرادوا أن يحجوا في وقت إدراك سلعهم من الأدم والجلود والثمار وغير ذلك، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة، وفي أطيب الأزمنة وأخصبها.
فتعملوا الكبس من اليهود المجاورين لهم. وذلك قبل الهجرة بقريب من مئتي سنة. فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل اليهود من إلحاق فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس شهرًا بشهورها إذا تم.. ويسمون هذا من فعلهم النسيء، لأنهم كانوا ينسأون أول السنة في كل سنتين أو ثلاث شهرًا، على حسب ما يستحقه التقدم"3.
وتعرض "ابن الأجدابي" لموضوع "الكبس" والسنة "الكبيسة" عند العبرانيين واليونانيين كذلك، فقال: "وقد كانت العرب في الجاهلية تفعل مثل هذا، وتزيد في كل ثالثة من سنيها شهرًا، على نحو ما ذكرناه عن العبرانيين واليونانيين.
وكانوا يسمون ذلك النسيء. وكانت سنة النسيء ثلاثة عشر شهرًا قمرية. وكانت
__________
1 مرجع الضمير فيه "مكة".
2 الأمالي، للقالي "1/ 4".
3 الآثار الباقية "11، 12، 62، 325"، ابن الأجدابي "32"، القانون المسعودي "92، 131"، التفسير الكبير، للرازي "4/ 447"، روح المعاني "10/ 91 وما بعدها".(16/124)
شهورهم حينئذ غير دائرة في الأزمنة، كان لكل شهر منها زمن لا يعدوه.
فهذا كان فعل الجاهلية حين أحدثوا النسيء، وعملوا به. فلما جاء الله تعالى بالإسلام بطل ذلك وحرم العمل به. فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر} 1.
وقال عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2.
فسنة العرب اليوم اثنا عشر شهرًا قمرية دائرة في الأزمنة الأربعة"3.
والنسيء الذي ذكره "البيروني" و"ابن الأجدابي"، هو كبس صحيح، وليس مجرد تقديم شهر وتأخير آخر على نحو ما رأيت. غايته تثبيت الأزمنة، وجعل الحج في موسم ثابت معين، فلا يكون في شتاء مرة، وفي صيف مرة أخرى، وفي ربيع مرة، وفي خريف مرة أخرى، بجعل السنة سنة قمرية شمسية على نحو فعل يهود بسنتهم. وهو بهذا المعنى في رواية "المسعودي". فقد قال: "وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرًا وتسمية النسيء وهو التأخير، وقد ذم الله تبارك وتعالى فعلهم بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 4.
وكان النسيء الأول للمحرم، فسمي صفر به. وشهر ربيع الأول باسم صفر ثم والوا بين أسماء الشهور. وكان النسيء الثاني لصفر، فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضًا. وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر، وعاد إلى المحرم، فأعادوا بها فعلهم الأول. وكانوا يعدون أدوار النسيء، ويحدّون بها الأزمنة، فيقولون: قد دارت السنون من زمان كذا إلى زمان كذا دورة. فإن ظهر لهم مع تقدم شهر عن فصله من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس وبقية فضل ما بينهما وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها، كبسوه كبسًا ثانيًا. وكان يبين لهم ذلك بطلوع منازل القمر وسقوطها حتى هاجر النبي عليه السلام، وكانت نوبة النسيء كما ذكرت بلغت شعبان، فسمي محرمًا، وشهر رمضان صفرًا، فانتظر النبي، صلى الله عليه وسلم، حينئذ حجة الوداع، وخطب بالناس، وقال فيها: "ألا، وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات
__________
1 سورة التوبة، الآية37.
2 التوبة، الآية36.
3 ابن الاجدابي "33".
4 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها".(16/125)
والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي يدعى شهر مضر الذي جاء بين جمادى الآخرة وشعبان، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون"1.
ومنذ ذلك الحين ترك النسيء. "وعني بذلك أن الشهور عادت إلى مواضعها، وزال عنها فعل العرب بها. ولذلك سميت حجة الوداع الحج الأقوم. ثم حرم ذلك، وأهمل أصلًا"2.
وقد ذكر "المسعودي" إن عدة الشهور عند العرب وسائر العجم اثنا عشر شهرًا3. وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهرًا، هو تقسي قديم يعود إلى ما قبل الميلاد.
وذُكر أن نسيء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير شهر المحرم إلى صفر. لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات، والآخر تأخير الحج عن وقته تحريًّا منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يومًا، حتى يدور الدور فيه إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته4. وهذا الرأي يلخص ما أورده أهل الأخبار في النسيء. ويتلخص في شيئين: النسيء: تأخير الشهور، وذلك بإحلال شهر في مكان شهر آخر، للاستفادة من ذلك في التحليل والتحريم، والنسيء بمعنى الكبس، وهو إضافة الفرق الذي يقع بين السنة الشمسية والسنة القمرية إلى الشهور القمرية لتلافي النقص الكائن بين السنتين، ولتكون الشهور القمرية بذلك ثابتة لاتتغير، تكون في مواسمها المعينة، فلا يقع حادث في شهر من شهورها في الشتاء، ثم يتحول بمرور السنين، فيقع بعد أمد في الصيف أو في الربيع، كما يقع ذلك في الشهور القمرية الصرفة المستعملة في الإسلام.
وتسمى الطريقة الثانية، وهي إضافة فرق الأيام بين السنتين الشمسية والقمرية إلى السنة القمرية، "الكبس" في اصطلاح العلماء. وقد كانت شهور اليهود، وهي شهور قمرية، تساوي "354" يومًا وست ساعات، فهي لذلك أنقص بأحد
__________
1 إمتاع الأسماع "1/ 531"، ويختلف هذا النص في مختلف الموارد، راجع عمدة القاري "18/ 41"، مجالس ثعلب "121"، سيرة ابن هشام "2/ 351"، "حاشية على الروض الأنف"، "2/ 351".
2 الآثار الباقية "1/ 62 وما بعدها"، روح المعاني "10/ 91 وما بعدها".
3 مروج الذهب "2/ 177"، "ذكر سني العرب والعجم وشهورها".
4 بلوغ الأرب "3/ 71"، نهاية الأرب "1/ 166 وما بعدها".(16/126)
عشر يومًا عن السنة الرومانية، فأدخلوا شهرًا ثالث عشر في كل ثلاث سنوات، سموه "فيادرا" أو "آذار الثاني"، وبهذه الطريقة جعلوا السنة القمرية مساوية للسنة الشمسية1. وقد ذكر "المسعودي"، أن أيام السنة "ثلثمائة وأربعون وخمسون يومًا، تنقص عن السرياني أحد عشر يومًا وربع يوم، فتفرق في كل ثلاث وثلاثين سنة، تنسلخ تلك السنة العربية ولا يكون فيها نيروز، وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرًا، وتسميه النسيء وهو التأخير"2.
وذكر "القلقشندي"، أنهم كانوا يؤخرون في كل عام أحد عشر يومًا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، فلما كانت سنة حجة الوداع، وهي تسع من الهجرة، عاد الحج إلى وقته اتفاقًا في ذي الحجة كما وضع أولًا، فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه الحج، ثم قال في خطبته التي خطبها يومئذ: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"، بمعنى أن الحج قد عاد في ذي الحجة"3. وذكروا أن المشركين كانوا "يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وسلم، في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله في خطبته: "إن الزمان قد استدار ... " الحديث. أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء4.
وورد في خبر يرجع سنده إلى "إياس بن معاوية"، أن المشركين كانوا "يحسبون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يومًا، فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة"5. وقد ورد في الحديث: "الشهر هكذا وهكذا"، يعني
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 639 وما بعدها".
2 مروج "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها وتسمية أيامها ولياليها".
3 صبح الأعشى "2/ 397".
4 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "8/ 137".
5 المصدر نفسه "8/ 138".(16/127)
مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"1، كما ورد: "شهران لا ينقصان شهرًا عيد رمضان وذو الحجة"2. فإذا أخذنا بذلك، كان الفرق بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية، هو ما يجب إضافته على السنة القمرية لتكون سنة شمسية، ذات أشهر ثابتة.
وإذا صحت رواية بعض الأخباريين عن إضافة الجاهليين أحد عشر يومًا، إلى السنة القمرية، ليضمنوا بذلك ثبات الأشهر، وعدم تغير أوقاتها. فإن ذلك يكون كبسًا صحيحًا بالمعنى المفهوم من الكبس، مؤديًا للغاية المتوخاة منه. وعندئذ تكون سنة أولئك الجاهليين المستعملين للكبس سنة قمرية شمسية. وأنا لا أستبعد شيوعها عند أهل المدينة، بسبب اختلاطهم باليهود، ولا أستبعد كذلك اتفاقهم مع يهود يثرب في استعمال السنة المستعملة عند اليهود نفسها، وابتدائهم بالشهر الذي كان يبدأ به أولئك اليهود.
ويؤيد هذه الرواية ما ذكره أهل الأخبار كلهم من أن الغاية التي حملت العاملين بالنسيء على استعمالهم له "أنهم كانوا يحبون أن يكون يوم صَدرَهم عن الحج في وقت واحد من السنة، فكانوا ينسئونه. والنسيء التأخير، فيؤخرونه في كل سنة أحد عشر يومًا، فإذا وقع في عدة أيام من ذي الحجة، جعلوه في العام المقبل لزيادة أحد عشر يومًا من ذي الحجة، ثم على تلك الأيام يفعلونه كذلك في أيام السنة كلها. وكانوا يحرمون الشهرين اللذين يقع فيهما الحج، والشهر الذي بعدهما، ليواطئوا في النسيء بذلك عدة ما حرم الله وكانوا يحرمون رجبًا كيف وقع الأمر. فيكون في السنة أربعة أشهر حرم"3.
أما التفسير الأول للنسيء، وهو تفسيره بمعنى تحليل شهر محرم، وتحريم شهر حلال، وتأخير شهر وتقديم شهر، فإنه لا يحقق ما ذكر من رغبة الناس يومئذ في حجهم في وقت ثابت لا يتغير ولا يتبدل، لأن الحج يتغير فيه، فيكون أحيانًا في الصيف، وأحيانًا في الشتاء، وأحيانًا في الربيع، وأحيانًا في الخريف.
وهذا لا يتفق مع زعم أهل الأخبار في السبب الذي دعا إلى الأخذ بالنسيء.
والنسيء بهذا التفسير، لا يفيد إلا من ناحية التحايل والتلاعب في إيجاد حيل
__________
1 إرشاد الساري "3/ 359".
2 المصدر نفسه.
3 تاج العروس "1/ 125"، "نسأ".(16/128)
مشروعة في تجويز القتال في بعض الأشهر الحرم، وذلك كأن تكون قبيلة قوية تريد القتال في شهر محرم، لاستعدادها له فيه فتعمد إلى هذا الحل، والتحايل على العرف بالتوسل إلى"القلمس" لتغيير الشهور، فيصير الشهر الحرام حلالًا، وبذلك يتاح لها القتال فيه.
وإني أرى في هذا التفسير تكلفًا ظاهرًا، وهو يعارض مع ما ذكر من الغاية من النسيء. وإذا جاز إحداثه في سنة ما للغايات المذكورة، فلا يعقل إحداثه في كل سنة بانتظام. وإلا لم يبق له معنى ما ولا فائدة ترجى عندئذ منه.
وقد جاء معنى النسيء في الآية: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1. فقال بعض علماء التفسير: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا، فيجعلون المحرم صفرًا، فيستحلون فيه الحرمات، فأنزل الله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 2. "وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخر، ثم يسمون شعبان رمضان، ثم يسمون رمضان شوالًا، ثم يسمون ذا القعدة شوالًا، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة.
ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر، رضي الله عنه، الآخر من العامين في ذي العقدة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وسلم، حجته التي حج، فوافق ذا الحجة، ذلك حين يقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في خطبته "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" 3. فالنسيء هو المحرم، وكان يحرم المحرم عامًا، ويحرم صفر عامًا، وزيد صفرًا في آخر الأشهر الحرم، وكانوا يؤخرون الشهور
__________
1 التوبة، الآية37.
2 تفسير الطبري "10/ 93".
3 تفسير الطبري "10/ 92 وما بعدها"، تفسير النسفي "2/ 125 وما بعدها".
تفسير ابن كثير "2/ 353 وما بعدها"، تفسير القرطبي "8/ 137 وما بعدها".(16/129)
حتى يجعلوا صفر المحرم، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن، وغطفان، وبنو سليم، يعظمونه، وهم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية1. وهكذا كانوا يجعلون سنة المحرم صفرًا، فيغزون فيه، فيغنمون فيه ويصيبون ويحرمونه سنة2. وذكر أنهم كانوا يسكتون عن المحر ولا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفرًا3.
وقد تحدث "الطبرسي" عن النسيء فقال: "قال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في العام القابل حجة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين قال النبي، صلى الله عليه وسم، وذكر في خطبته: "ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرًا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" أراد عليه السلام الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء"4.
وهذا الفعل الذي هو النسيء، هو الذي جعل العلماء يقولون: إن الصفر النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه ويجعلون صفرًا هو الشهر الحرام5. فهم يدخلون شهرًا جديدًا على السنة بعد ذي الحجة، يكون مقامه بين هذا الشهر وبين شهر صفر الأول، الذي هو المحرم من الأشهر الحرم. وبذلك يكونون قد فصلوا بين الأشهر الحرم الثلاثة، بأن جعلوا شهرًا حلالًا جديدًا بين الشهرين المحرمين: ذو القعدة وذو الحجة، وبين الشهر الثالث المتصل بهما، وهو المحرم، ففصل عن الشهرين، وصار وحيدًا. فعلوا ذلك ليحافظوا على وقت الحج، بجعله ثابتًا، ولما كان ذلك معناه
__________
1 تفسير الطبري "10/ 92 وما بعدها".
2 تفسير الطبري "10/ 92".
3 تفسير ابن كثير "2/ 357".
4 تفسير الطبرسي "5/ 29".
5 تاج العروس "3/ 336"، "صفر".(16/130)
تغيير حرمة الأشهر الحرم الثلاثة بجعل الشهر الحلال شهرًا حرامًا، والشهر الحرام حلالًا، حرم النسيء في الإسلام. فابتعدت السنة بذلك عن السنة الشمسية، وصار الحج يدور باختلاف المواسم، لأن السنة صارت سنة قمرية. وبذلك تغير وقت الحج عما كان عليه في الجاهلية، فلم يعد ثابتًا على نحو ما كان عليه عند الجاهليين.
وفرارًا من اسم النسيء، الذي هو زيادة في الكفر، كانوا في صدر الإسلام يسقطون عند رأس كل ثلاث وثلاثين سنة عربية، سنة ويسمونها: سنة الازدلاق لأن كل ثلاث وثلاثين سنة عربية تساوي اثنتين وثلاثين سنة شمسية تقريبًا1.
__________
1 صبح الأعشى "2/ 398".(16/131)
مبدأ النسيء:
ويرجع أهل الأخبار مبدأ إدخال النسيء إلى الجاهليين إلى "عمرو بن لحي" أو إلى "القلمس"، وهو "حذيفة بن فقيم بن عامر بن الحارث"، أو "حذيفة بن عبد بن فقيم"1، أو "نعيم بن ثعلبة"2، أو "قلع بن حذيفة بن عبد بن فقيم"، أو آخرون3. وذلك أن العرب كانوا لا يكبسون، إلى أن جاورتهم اليهود في يثرب، فأرادوا "أن يكون حجهم في أخصب وقت من السنة وأسهلها للتردد في التجارة، ولا يزول عن مكانه، فتعلموا الكبس من اليهود"4. فصار النسيء عادة من عادات العرب منذ ذلك الحين إلى منعه في الإسلام.
وكانت النَّسَأة في بني مالك بن كنانة، وكان أولهم القلمس حذيفة بن عبد بن فُقيم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، ثم ابنه قلع بن حذيفة، ثم عباد بن قلع، ثم "قلع بن عبّاد قلع" ثم أمية بن قلع
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 71"، نهاية الأرب "1/ 165"، "حذيفة بن عبد بن نهم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، المحبر "157"، تاج العروس "4/ 222"، تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طبعة طهران".
2 الروض الأنف "1/ 41"، تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران"، تفسير الخازن "2/ 221"، تفسير القاسمي "8/ 3143"، البحر المحيط "5/ 39".
3 تاج العروس "1/ 456 وما بعدها"، "الكويت".
4 بلوغ الأرب "3/ 71".(16/131)
ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية بن عوف بن قلع1. وذكر أن أول من نسيء قلع، نسأ سبع سنين، ونسأ أمية إحدى عشرة سنة2. وذكر عن "ابن إسحاق" أن أول من نسأ عند العرب "القلمس"، وهو "حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، ثم قام بعده على ذلك ابنه "عباد"، ثم من بعد عباد ابنه "قلع بن عباد"، ثم ابنه "أمية ابن قلع"، ثم ابنه "عوف بن أمية" ثم ابنه "أبو ثمامة" "جنادة بن عوف"، وكان آخرهم وعليه قام الإسلام3. وذكر "القرطبي" عن "ابن الكلبي" أن "أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة، يقال له: نعيم بن ثعلبة، ثم كان بعده رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال الزهري: حيّ من بني كنانة ثم من بني فُقيم منهم رجل يقال له: القلمس، واسمه حذيفة بن عبيد. وفي رواية مالك بن كنانة. وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه. وفي ذلك يقول شاعرهم:
ومنا ناسئ الشهر القلمس
وقال الكميت:
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما4
وذكر "اليعقوبي"، أن أول من نسأ الشهور: "سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة". وهو والد "هند" التي تزوجها "مرة بن كعب"، فولدت له "كلابًا" وشرف "كلاب بن مرة" وجلّ قدره واجتمع له شرف الأب، وهو "كعب بن لؤي"، الذي كان أول من سمى يوم الجمعة بالجمعة، وكانت العرب تسميه "عروبة"، وشرف الجد من قبل الأم، لأنهم كانوا
__________
1 تاج العروس "1/ 457" "1/ 125"، "نسأ"، مروج الذهب "1/ 367 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 72"، نهاية الأرب "1/ 166"، "حذيفة بن عبد بن نهم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، المحبر "157".
2 تاج العروس "1/ 456"، تفسير الطبرسي "5/ 29 وما بعدها"، تفسير سورة التوبة، الآية36 وما بعدها، تاج العروس "1/ 124"، "نسأ".
3 تفسير ابن كثير "2/ 357".
4 تفسير القرطبي "8/ 138"(16/132)
يجيزون الحج ويحرمون الشهور ويحللونها، فكانوا يسمون النسأة والقلامس1
وذكر "الزبيري"، أن "سريرًا" أول من نسأ الشهور، وقد انقرض سرير، ونسأ الشهور بعده ابن أخيه القلمس، واسمه عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن كنانة. ثم صار النسيء في ولده. وكان آخرهم جنادة بن عوف2، وهو "أبو ثمامة". وورد في رواية أخرى، أن آخرهم هو "فقيم بن ثعلبة"، أو هو غيره. وقد ذكروا أن "أبا ثمامة"، وهو "جنادة بن أمية" من بني "المطلب بن حدثان بن مالك بن كنانة"، من نسأة الشهور على معد، كان يقف عند "جمرة العقبة، ويقول: اللهم إني ناسئ الشهور وواضعها مواضعها ولا أعاب ولا "أحاب" أجاب: اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخر، وكذلك في الرجبين، يعني: رجبًا وشعبان. ثم يقول: انفروا على اسم الله تعالى. وفيه يقول قائلهم:
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما3
وذكر أن أول من نسأ بعد "القلمين" القلسين: "حذيفة بن عبد نعيم بن عدي"، و"زيد بن عامر بن ثعلبة" "وهو القلمين بن عامر بن ثعلبة" "عياد بن حذيفة"، ثم "قلع بن عياد"، ثم "أمية بن قلع"، ثم "عوف بن أمية"، ثم "جنادة" فأدركه الإسلام4.
وذكر "الطبري"، "أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا وإن صفر العام الأول حلال، فيحله الناس، فيحرم صفر عامًا ويحرم المحرم عامًا"5. ودعاه بـ"أبي ثمامة صفوان بن أمية"، أحد "بني فقيم
__________
1 اليعقوبي "1/ 207"، "طبعة النجف".
2 نسب قريش "ص13".
3 تاج العروس "4/ 222"، "القلمس"، تاج العروس "1/ 125"، "نسا"، ينسب هذا البيت إلى "عمير بن قيس بن جذل الطعان"، اللسان "1/ 167"، "صادر"، نهاية الأرب "1/ 166".
4 الإصابة "1/ 248"، "رقم 1207".
5 تفسير الطبري "10/ 91".(16/133)
ابن الحارث، ثم أد بني كنانة"1. وذكر أنه "كان رجل من بني كنانة، يأتي كل عام في الموسم على حمار له، فيقول: أيها الناس، إني لا أعاب ولا أحاب، ولا مردّ لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر. ثم يجييء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته. ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّه} 2. وكان هذا الرجل يقال له: القلمس3.
وكان آخر النسأة، "جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عيّاد "عباد" بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن زيد بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، أبو "ثمامة"4 "أبو أمامة" الكناني. نسأ الشهو أربعين سنة، وأدرك الإسلام. وكان أبعد النسأة ذكرًا، وأطولهم أمدًا. وذكر أن اسمه "أمية بن عوف بن جنادة بن عوف بن عياد بن قلع بن فقيم بن عدي بن عامر بن الحارث بن ثعلبة"5، وذكر أيضًا أنه "القلمس بن أمية بن عوف بن قلع بن حذيفة بن عبد بن فقيم"6.
ووردت في خبر ينسب إلى "ابن عباس"، أنه قال: النسأة في كندة7.
وأنهم كانوا النسأة الأول، قبل المذكورين8. وذهب "الجاحظ" إلى أن النسيء كان في كنانة، وأما السدانة، فكانت في "مر بن أُدّ" "من رهط صوفة والرُّبيط منها أصحاب المزدلفة، وكانت عدوان وأبو سيارة عميلة بن أعزل، تدفع الناس"9 ويكاد يكون الإجماع على أن النسيء كان من حق "كنانة"، لم يتولَّه غيرهم.
وذكر أن الناسئ، كان يحل للمحرمين قتال "خثع" و"طيء"، "لأنهم كانوا لا يحرمون الأشهر الحرم، فيغيرون فيها ويقاتلون. فكان من نسأ الشهور
__________
1 تفسير الطبري "10/ 92".
2 تفسير الطبري "10/ 92".
3 تفسير الطبري "10/ 93"، تفسير ابن كثير "2/ 356 وما بعدها".
4 تاج العروس "1/ 124"، "نسأ"، "1/ 456"، "طبعة الكويت"، نهاية الأرب "1/ 166"، الروض الأنف "1/ 42".
5 الإصابة "1/ 248"، "رقم 1207".
6 نهاية الأرب "1/ 166"، تاج العروس "1/ 124"، "نسأ".
7 اللسان "1/ 167"، "صادر".
8 الأزرقي "1/ 118".
9 الحيوان "7/ 215".(16/134)
من الناسئين يقوم، فيقول: إني لا أحاب ولا أعاب، ولا يرد ما قضيت به، وإني قد أحللت دماء المحللين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم"1.
ويذكر أهل الأخبار أن أولئك الناسئين كانوا نابهين في قومهم، لهم مركز عظيم وشأن. فكان "القلمس"، مثلًا ملكًا في قومه، وهو من بني كنانة2، وكان عالم قومه وفقيههم في الدين، وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه3. ويظهر أنهم كانوا أصحاب علم ونظر ومكانة محترمة، في أمور الدين، في قومهم وفي القبائل التي تحج إلى مكة.
وكلمة "قَلَمّس" على ما يتبين من روايات الأخباريين، لم تكن اسم علم، وإنما هي لفظة يراد بها عند الجاهليين ما يراد من معنى الفقيه والمفتي في الإسلام4.
وقد ذكر علماء اللغة أن من معاني القلمس: السيد العظيم، والرجل الخيّر المعطاء والمفكر البعيد الغور، والداهية من الرجال، ونحو ذلك من معان تشير إلى صفات عالية في الرجل الذي أطلقت عليه، وقد تكون بمعنى العالم العارف، وقد أطلقت بصورة خاصة على هذه الجماعة، لسعة علمها بهذا الموضوع وغيره، ولوقوفها على التوقيت وعلى الفلك في تلك الأيام5. وقد تكون لفظة من جملة الألفاظ المعربة التي دخلت العربية قبل الإسلام.
وطريقة الناسئ في إعلانه النسيء على الناس في الحج، أن يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يردّ لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرًا، أي: أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم"6. وهذا الرجل هو الناسئ، أو أن يدعو الناسئ الناس في آخر موسم الحج إلى الاجتماع حوله، فإذا اجتمعوا ارتقى موضعًا مرتفعًا ظاهرًا، أو قام على ظهر جمله ليراه الناس ثم يقول بأعلى
__________
1 تاج العروس "1/ 125"، "نسأ".
2 المعاني الكبير "3/ 1171"، المحبر "156 ومابعدها"، بلوغ الأرب "3/ 72".
3 تفسير القرطبي "8/ 138".
4 المحبر "ص156"، تاج العروس "4/ 222"، "القلمس"، تفسير الطبري "10/ 93".
5 راجع معنى "القلمس" في اللسان "6/ 182".
6 تاج العروس "1/ 456" "الكويت".(16/135)
صوته: "اللهم إني لا أعاب ولا أحاب، ولا مرد لما قضيت. اللهم، إني أحللت شهر كذا "ويذكر شهرًا من الأشهر الحرم، وقع اتفاقهم على شن الغارة فيه"، وأنسأته إلى العام القابل، أي: أخرت تحريمه، وحرمت مكانه شهر كذا من الأشهر البواقي، فكانوا يحلون ما أحل ويحرمون ما حرم" فإذا انتهى من هذا الخطاب وأمثاله، أباحوا لأنفسهم الغارة في ذلك الشهر، وغزوا من نووا غزوه. فإذا جاء العام القابل، نهض الناسئ ليقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم الشهر الفلاني، وهو الشهر الذي أحله في العام الماضي فحرموه، فيحرمونه1.
وورد في بعض الروايات، أنه كان يقوم فيقول: "إني لا أحاب ولا أعاب ولا يرد ما قضيت به، وإني قد أحللت دماء المحللين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم". وذلك لما ذكر من عدم تحريم طيء وخثعم للشهور الحرم، فكانوا يغيرون ويقاتلون فيها، ولذلك استثناهم القلامسة من عدم مقاتلتهم في تلك الشهور، وذلك لضرورات الدفاع عن النفس2.
وقد نسب إلى بعض القلامسة شعر، قيل: إنهم قالوه يفتخرون فيه باحتكارهم النسيء، وبإرشادهم الناس إلى مناسك دينهم، وقيادتهم الحجاج، يسيرون تحت لوائهم، يبينون لهم شهور الحل والشهر الحرم، كما ورد شعر منسوب إلى بعض كنانة يفتخر فيه بأن قومه ينسئون الشهور على معد، فيجعلون شهور الحل حراما والشهور الحرام حلالًا3.
وقد قال "عمير بن قيس بن جذل الطعان"، شعرًا افتخر فيه وتعرض لأمر النسيء، فكان مما جاء فيه قوله:
ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحل نجعلها حراما4
__________
1 المعاني الكبير "3/ 1171"، بلوغ الأرب "3/ 73"، نهاية الأرب "1/ 166"، "أنا الذي لا أعاب ولا أخاب؟ ولا يرد لي قضاء فيقولون: نعم، صدقت أنسئتنا شهرًا، أو أخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر وأحل المحرم، فيفعل ذلك"،
تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران".
2 تاج العروس "1/ 457"، "الكويت"، مادة: "نسأ".
3 تاج العروس "1/ 457".
4 اللسان "1/ 167"، ونسبه "الطبرسي" إلى الكميت، تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران"، تفسير ابن كثير "2/ 356"، سنن ابن ماجة "5/ 180"، السنن الكبرى "5/ 165".(16/136)
وقال بعض بني أسد:
لهم ناسئ يمشون تحت لوائه ... يحل إذا شاء الشهورَ ويُحْرِمُ1
وقال آخر:
نسوء الشهور بها وكانوا أهلها ... من قبلكم والعز لم يتحول2
وقد نسب "القرطبي" البيت:
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحلّ نجعلها حراما
إلى الكميت3
وقد استمرت طريقة النسيء هذه إلى أيام الإسلام، فحج أبو بكر في السنة التاسعة من الهجرة، فوافق حجه ذا القعدة، ثم حج رسول الله في العام القابل الموافق للسنة العاشرة للهجرة، المصادفة لسنة "631" للميلاد، فوافق عود الحج في ذي الحجة. ثم نزل الحكم بإبطال النسيء في الآيات: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 4. وخطب الرسول في جموع الحجاج خطبته الشهيرة التي بين فيها مناسك الحج وسننه وأمورا أخرى أوضحها لهم، فكان مما قاله لهم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض،
__________
1 تاج العروس "1/ 457"، "الكويت".
2 تفسير بحر المحيط "5/ 39".
3 تفسير القرطبي "8/ 138".
4 سورة التوبة: الآية 36 وما بعدها، راجع تفسير الطبري "10/ 91 وما بعدها"، تفسير الرازي "4/ 446 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "3/ 23 وما بعدها"، الكشاف "2/ 150 وما بعدها".(16/137)
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} 1. فألغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وثبت شهور السنة وجعل التقويم القمري هو التقويم الرسمي للمسلمين.
وروي كلام الرسول عنه على هذه الصورة: "أيها الناس، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم. ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"2.
فألغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وجعل التقويم القمري الخاص هو التقويم الرسمي للمسلمين.
ويظهر من القرآن الكريم أن سبب تحريم النسيء في الإسلام هو تلاعب القلامسة بالشهور، بتحريمهم شهرًا حلالًا في عام، ثم تحليلهم له في العام القابل. فأزال الإسلام ذلك التلاعب بتحريم النسيء، واتخاذ السنة سنة قمرية ذات اثني عشر شهرًا لا غير. كما صيرها الجاهليون ثلاثة عشر أو أربعة عشر شهرًا3. ولما كان الزرع يعتمد على المواسم الطبيعية، وعلى الشهور الشمسية، لذلك صار اعتماد المزارعين في الزرع وفي الحصاد على الشهور الشمسية، أي على السنة الشمسية. أما الأمور الدينية، مثل الحج والصيام، فالاعتماد بالطبع على الشهور القمرية4.
واتخاذ التقويم القمري تقويمًا رسميًّا للإسلام، هو من السمات التي امتاز بها الإسلام عن الجاهلية، واعتبر من التقاط الفاصلة التي فصلت بين الجاهلية والإسلام.
وهكذا زال الكبس كما زال النسيء عن السنة القمرية وعن الشهور لتحويلها إلى سنة شمسية على نحو ما رأينا من فعل الجاهليين.
ويرى بعض المستشرقين أن النسيء والناسئ من الألفاظ المعربة عن العبرانية.
__________
1 ابن الأثير "2/ 126"، الواقدي "431" "طبعة ولهوزن"، ابن كثير "2/ 353 وما بعدها"، وقد رويت خطبة الرسول بصورة مختلفة، اختلافًا يدل على أن الرواة لم يكونوا قد دونوا النص، وإنما رووا عن ذاكرة وحفظ، فاختلفوا من ثم في رواية النص.
2 ابن هشام "1/ 351"، "حاشية على الروض الأنف".
3 بلوغ الأرب "3/ 71"، روح المعاني "10/ 93 وما بعدها".
4 Caetani, I, 356, Bubi, Muhammed, S. 350, H. Winckler, in Arabisch Semitisch Orientallsh, 85. ff, Berlin, 1901.(16/138)
وقد دخلت إلى العربية بتأثير يهود يثرب. والناسئ عن اليهود هو الرئيس الديني.
وكان يقوم عندهم بتقديم وتأخير الشهور، ويعين مواعيد الأعياد والصيام، ويذيع النتيجة بواسطة وفود إلى الطوائف اليهودية المختلفة1. والناسئ يقابل رئيس قبيلة عند بني إسرائيل2، وهذا التعريف ينطبق تمامًا مع ما ذكره أهل الأخبار عن "الناسئ" عند الجاهليين.
وقد بحث عدد المستشرقين في حساب السنين عند الجاهليين وفي النسيء، فجاءوا بآراء متباعدة غير متفقة، لكل واحد منهم رأي ومذهب في طريقة العرب قبل الإسلام في حساب الشهور وفي السنين القمرية والشمسية والكبس والنسيء.
وقد ناقشها ولخصها "نالينو" في كتابه: "علم الفلك تأريخه عند العرب في القرون الوسطى". وهو ممن يرون أن البحث في هذا الموضوع صعب عسير، وأن البت فيه غير ممكن في الزمن الحاضر، لقلة الموارد وعدم وجود أخبار وروايات واضحة صريحة يمكن أن يستند إليها في إبداء رأي علمي ناضج في الموضوع3.
والذي أراه أن أهل الحجاز كانوا يتبعون التقويم الشمسي مع مراعاة الإهلال، أي: تقويمًا شمسيًّا قمريًّا، بدليل أن لأسماء الأشهر علاقة بالجو من برد وحر، وربيع وخريف. فقد ذكر علماء اللغة أن الربيع أنا سمي ربيعًا، لارتباعهم فيه والارتباع الإقامة في عمارة الربع، وأن "جمادى" سمي بذلك لجمود الماء فيه، أي: أنهما من أشهر الشتاء. قال الشاعر:
وليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر العبد في ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خرطومه الذنبا4
وأن رمضان من شدة الرمضاء، وهو الحر. ولا يعقل أن تكون هذه التسميات قد جاءت عفوًا ومن غير ارتباط بحالة من حالات الطبيعة. وقد انتبه المتقدمون
__________
1 ولفنسون: تأريخ اليهود في بلاد العرب "ص81".
2 الخروج، الإصحاح 34، الآية31، العدد، الإصحاح7، الآية32، تأريخ اليهود في بلاد العرب "ص81".
3 "ص94 وما بعدها".
4 تفسير ابن كثير "2/ 354".(16/139)
إليها، فقال بعضهم: "وكانت الشهور في حسابهم لا تدور"، ولكن بعضهم لم يقبل بذلك إذ قال: "وفي هذا نظر، إذ كانت شهورهم بالأهلة، فلا بد من دورانها"، وقال في تفسير اسم جمادى: "فلعلهم سموه أول ما سمي عند جمود الماء في البرد"1.
والذي أراه أن تلك الأشهر كانت ثابتة لا تدور، بمعنى أنها كانت ثابتة في مواسمها، يسيرون بموجبها في زراعتهم وفي أسفارهم، ولكنهم كانوا يسيرون على الإهلال، أي: الشهور القمرية في أمورهم الإعتيادية وفي الأعمال المالية، مثل الديون، حيث يسهل تثبيت المدة بعدد الأهلة، ومن هنا اختلط الأمر على أهل الديون، حيث يسهل تثبيت المدة بعدد الأهلة، ومن هنا اختلط الأمر على أهل الأخبار فخلطوا بين التقويمين، بسبب عدم وضوح الروايات. وكان شأنهم في ذلك شأن العرب الشماليين الذين كانوا يحجون في وقت واحد ثابت، هو في شهر "ذي الحجة"، الذي تحدثت عنه في مكان آخر، وشأن العرب الجنوبيين الذين كانوا يحجون في شهر "ذي الحجة" الذي كان وقته ثابتًا أيضًا، فلا يكون في صيف، ثم يكون في ربيع أو في خريف أو في شتاء، ولا يعقل خروجهم على هذا الإجماع الذي نراه عند العرب الشماليين، أي: عرب بلاد العراق وعرب بلاد الشأم، وينفردون وحدهم باتخاذ تقويم قمري بحت.
ما ذكرناه عن النسيء وعن الكبس يخص عرب الحجاز، وأهل مكة بصورة خاصة، ولا يتناول العرب الجنوبيين. ولا عرب بقية أنحاء جزيرة العرب، لعدم وجود أخبار لدينا عنهما تتناول المواضع الأخرى، لا في النصوص الجاهلية ولا في أخبار أهل الأخبار. ولكن الذي يظهر من النصوص العربية الجنوبية المتعلقة بالزراعة ومن أسماء الشهور، أنها كانت شهورًا ثابتة، أي: شهورًا شمسية لا قمرية، وأن السنة التي كانوا يسيرون عليها سنة شمسية، غير أن هذا لا يمنع مع ذلك من سيرهم على مبدأ الإهلال في حياتهم الاعتيادية، أي: على الشهور القمرية، بحيث تكون الرؤية مبدءًا للشهور. وذلك لوضوح الأهلة وإمكان رؤيتها بسهولة وتثبيت الأوقات بموجبها، بمعنى أنهم كانوا يسيرون على التقويمين: التقويم الشمسي في الزراعة وفي دفع الغلات، والتقويم القمري في الأمور الاعتيادية.
__________
1 تفسير ابن كثير "2/ 354".(16/140)
ولا نستطيع أن نتحدث عن كيفية احتساب العرب الجنوبيين للسنة الشمسية، ولا عن الكبس عندهم، لعدم ورود شيء عنهما في النصوص.
ويظن أن سنة العرب الجنوبيين كانت من "360" يومًا، مقسمة إلى اثني عشر قسمًا، أي: شهرًا، نصيب كل شهر منها "30" يومًا. وحيث أن هذا المقدار من الأيام، وهو "360" يومًا هو دون الأيام التي تمضيها الأرض في دورانها الحقيقي حول الشمس، لذلك كانوا يعوضون عن الفرق إما بإضافة الأيام اللازمة على أيام السنة لتكبسها فتجعلها مساوية للسنة الطبيعية، وذلك في كل سنة، وإما بإضافة شهر كبيسة مرة واحدة في نهاية كل ست سنوات1.
ويظن "بيستن"، أن القتبانيين قد أخذوا بالطريقة الثانية: طريقة إضافة شهر زائد كامل على التقويم في كل ست سنوات، لتتعادل السنة بذلك مع السنة الطبيعية، وأن ذلك الشهر المضاف هو الشهر المسمى بـ"ذ برم اخرن"، أي بـ"ذي برم الآخر"، أو "ذي برم الثاني"، عند القتبانيين وبشهر "ذنسور اخرن"، أي: "ذي نسور الآخر"، أو "ذي نسور الثاني" عند السبئيين.
ووردت في إحدى الكتابات جملة "بين خرفهن"، أي: بين السنتين. وقد رأى "ونكلر"، أنها تعني الأيام التي تضاف إلى نهاية السنة لكبسها حتى تكون سنة طبيعية كاملة. أي: سنة شمسية، ولذلك عبر عنها بـ"بين السنتين"، أي: الإضافة التي توضع فيما بين السنتين. السنة المتقدمة والسنة التالية لها2. وذهب "كريمه" إلى أنها تعني شهرًا، هوالشهر الذي يضاف على التقويم لكبس السنين، ويرى "بيستن"، أن هذا الرأي يصعب قبوله، لأنه لو كانت شهرًا كاملًا، لسموه باسم معين، أو لرمزوا إليه برمز يميزه عن شهور السنة الأخرى، كأن يقولوا له: "اخرن"، أي: الآخر، أو الثاني3.
أما اليهود، يهود جزيرة العرب، فقد كانوا يسلكون طريقتهم الخاصة في
__________
1 Beeston, p. 18.
2 Winckler, Altorientaliscne Forschungen, II, 1900, S. 351.
3 Beeston, p. 43.(16/141)
التوقيت، ويسلكون منهجهم في تعيين الشهور، كما يتأيد ذلك من الأخبار التي نجدها عنهم في كتب الأخباريين.
وأما النصارى العرب، فقد كانوا يتبعون التقاويم الشرقية، ويسيرون على الشهور السريانية المعروفة، وعلى وفق شعائر الكنيسة، ويحتفلون بأعيادهم على وفق ما ثبت عندهم في كنيستهم. وقد أشير إليها في بعض الشعر الجاهلي وفي كتب الأخباريين.(16/142)
الفصل الرابع والثلاثون بعد المئة: التقاويم والتواريخ
التقاويم:
هناك نوعان من السنين: سنين بنيت على أساس الشهور القمرية التي تثب بمراقبة القمر، وسنتها سنة قمرية Lunar Year. والتقويم الذي يقوم عليه تقويم قمري. وسنون بنيت على أساس شمسي Solar. والتقويم القائم عليها، تقويم شمسي، شهوره ثابتة لا تتغير. وعدة الشهور عند العرب اثنا عشر شهرًا، سواء كانت السنة شمسية أم قمرية1.
ولقد قلت فيما سبق: يظهر من النصوص الجاهلية، أن أهل العربية الجنوبية كانوا يعملون بالتقويم الشمسي، وفقًا للمواسم الزراعية، لأننا نراهم في هذه النصوص يزرعون ويبذرون ويحصدون في شهور معينة، ويدفعون الضرائب في مواسم ثابتة، كما نرى أن أسماء الشهور، عندهم ذات معان متصلة بالطبيعة، مثل الجفاف، والمطر، والحر، والبرد، والربيع، والخريف، ولو كانت سنتهم سنة قمرية محضة، لما سمّوا أشهرهم بأسماء اشتقت من الحر والبرد واعتدال الجو وحلول الخريف، إذ لا يعقل وقوع المعاني المذكورة مع تغير الشهور وعدم استقرارها على حال من الأحوال. إلا أن تواريخهم بالسنة الشمسية،
__________
1 اليعقوبي "1/ 177".(16/143)
لم يمنعهم من التوريخ بالتقويم القمري في أمورهم الاعتيادية، كما في وفاء الديون، وأخذ الديات، والبيع والشراء، والأسفار، لوضوح الشهر القمري، وإمكان حساب الأهلة وضبط عددها بسهولة ويسر، فيسهل على المتعاقدين التعاقد بموجب عدد الأهلة، أما الزراعة، وتربية الحيوان ودفع الضرائب وما شابه ذلك، فلا صلة لها بالأهلة، وإنما صلتها بالمواسم والفصول، وهي من مكونات السنة الشمسية.
إذن كان العرب الجنوبيون يؤرخون ويعملون بتقويمين: تقويم قمري، وآخر شمسي.
استعمل العرب الجنوبيون التقوم الشمسي في الزراعة، واستعملوا التقويم القمري للأغراض التي ذكرتها، والتقويم النجمي أي: التقويم الذي يقوم على رصد النجوم لأغراض دينية وللوقوف على الأنواء الجوية لما لها من صلة بالزراعة وبالحياة العامة1.
ويتبين من النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، ومن النصوص النبطية، ومن نص النمارة، أن أصحابها كانوا يتعاملون وفقًا للتقويم الشمسي في الأمور التي لها اتصال مباشر بالطبيعة، ووفقًا للتقويم القمري في الأمور الأخرى، لسهولة ضبط الأهلة، وتحقيق العقود بموجبها. وإذا كان الحال على هذا المنوال عند هؤلاء وعند العرب الجنوبيين، فبإمكاننا القول أن بقية الجاهليين، ممن لم يتركوا لنا نصوص، كانوا يتبعون التقويمين كذلك، جريًا على سنة الناس في ذلك العهد، ومنهم الأعاجم، من اتباعهم التقويمين المذكورين في تنفيذ العقود والالتزامات وفي ضبط الأزمنة.
ومما يؤيد اتباع العرب الشماليين للتقويم الشمسي، ما ذكره الكتاب اليونان واللاتين، من أن العرب كانوا يقيمون طقوسهم الدينية ويؤدون شعائرهم المقدسة كالحج إلى المحجات في أوقات ثابتة، فقد ذكر "أفيفانيوس"، أن للعرب شهرًا يحجون فيه إلى محجاتهم، ويقع ذلك في شهر "تشرين الثاني"2، كما
__________
1 Rhokokanakis, Studien zur Lexikographie und. Grammatik des Altsudarabischen, Band, 2 S. 145, Sab. Denkm, S. 21, Glaser, Zwei Inschriften, s. 47, Note 7, ZDMG, 46, 322, Glasser, Die Sternkunde der Sudarabischen Qabylen in SBWA, Winckler, AOF, 2, S, 351.
2 Epiphanius, Haer, 51, 24, Reste, S. 85, 100, Ency. Religi, 10, p. 10.(16/144)
ذكر "بروكوبيوس"، أن العرب كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرمًا لآلهتهم لا يغزون فيهما ولا يهاجم بعضهم بعضًا، ويقعان في تموز وآب1، وذكر "فوثيوس"، أن العرب كانوا يحتفلون مرتين في السنة بالحج إلى معبدهم المقدس: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، وذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف، وذلك لمدة شهرين2. وفي هذه الإشارات إلى الأشهر المقدسة، وإلى كونها ثابتة لا تتغير بتغير المواسم، دلالة على سير العرب في تقويمهم، وفقًا للتقويم الشمسي.
وقد عرف التاريخ عند الجاهليين، بدليل عثور الباحثين على نصوص كثيرة مؤرخة. وقد زعم علماء اللغة "أن التأريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربي محض، وأن المسلمين أخذوه من أهل الكتاب"3، وفي كلامهم صحة، إذا كان قصدهم التأريخ العام للعالم، الذي يبدأ وفقًا لما جاء عند أهل الكتاب من الخلق ظهور آدم فالأنبياء والرسل والملوك إلى أيامهم، وفيه خطأ، إذا قصدوا به، التأريخ مطلقًا، أي: تثبيت الوقت، على نحو ما نفهم من قولنا: أرخ الحادث، وأرخت الكتاب، فقد عرف التأريخ عند الجاهليين، بدليل وروده في نصوصهم. واستعمالهم لفظة "بورخ"، للتأريخ. وكلمة "ورخ"، من الكلمات الواردة بكثرة في النصوص، ومنها لفظة "توريخ" و"ورّخ" بمعنى أرخ في عربيتنا. ولفظة "أرخ" نفسها هي من هذا الأصل.
وقد عرف "الجاحظ" أن الجاهليين كانوا يؤرخون إذ قال: "وكانوا يجعلون الكتاب حفرًا في الصخور، ونقشًا في الحجارة، وخلقة مركبة في البنيان؛ فربما كان الكتاب هو الناتئ، وربما كان الكتاب هو الحفر، إذا كان تأريخًا لأمر جسيم، أو عهدًا لأمر عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها، أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره، أو تطويل مدته، كما كتبوا على قبة غمدان. وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقر، وعلى الأبلق الفرد يعمدون إلى الأماكن المشهورة، والمواضع المذكورة، فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور، وأمنعها من الدروس،
__________
1 Procopius, II, P. 16
2 Reste, 101. Winckler, Alt. Orient. Faroch, II, Reibe, 1 Band, S. 336.
3 تاج العروس "2/ 250"، "أرخ".(16/145)
وأجدر أن يراها من مرّ بها، ولا تنسى على وجه الدهر"1.
ثم قال: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء، وتنفرد بالشعر، فبنوا غمدان، وكعبة نجران وقصر مارد، وقصر مأرب، وقصر شعوب، والأبلق الفرد، وفيه وفي مارد، قالوا: تمرد مارد وعز الأبلق، وغير ذلك من البنيان"2. ثم تعرض لأهمية الكتب ولشأنها في تخليد الذكرى، فقال: "والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر، لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، وكما هدم الآطام التي كانت بالمدينة، وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عامر، وكما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان"3.
وتتناسب أساليب التأريخ مع درجة عقلية المؤرخ ومستواه العقلي، لذلك نجد التواريخ بالأمور العادية البسيطة بين الرعاة والأعراب والسوقة من الناس، بينما نجد غيرهم ممن هم فوقهم درجة في العقل والثقافة يؤرخون بمناسبات لها شأن وأهمية، مثل التقاويم العامة المهمة، المثبتة بمبدأ، حيث يؤرخ بموجبها.
وقد تبين لنا من دراسات نصوص المسند، أن أصحابها استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها، فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، من غير تعيينه بسنين، وذلك كما في هذا المثل: "بيوم اليفع يشر ملك معنم"4، أي "يوم اليفع يشر ملك معين"، و"بيوم يذمر ملك وترال"5. ومعناهما في "أيام حكم اليفع يشر ملك معين"، أو "وكان ذلك في حكم اليفع يشر ملك معين" بالنسبة للفقرة الأولى و"في أيام يذمر ملك وترايل"، أو" في حكم يذمر ملك ووتر ايل"،
__________
1 الحيوان "1/ 68 وما بعدها"، المحاسن والأضداد "3"، "مجلس الكتابة والكتب".
2 الحيوان "1/ 72".
3 الحيوان "1/ 73".
4 REP. EPI. 2869
5 المصدر نفسه الرقم 2740، Beeston(16/146)
أو "وكان ذلك في أيام حكم يذمر ملك وترابل" بالنسبة للجملة الثانية. فلم يذكرالنص السنة التي دون فيها النص، أو أرخ فيها النص من سني حكم الملك المذكور. وهي سنون قد تكون قصيرة، وقد تكون طويلة. ولفظة "يوم" هو بمعنى" "حكم" و"أيام".
وقد يؤرخ بحكم موظف من كبار موظفي الحكومة من حملة درجة "كبر" "كبير"، مثلًا، أو غيرها من الدرجات العالية في الحكومة أو في المجتمع.
كما أرخوا بأيام الرؤساء والسادات وأرباب الأسر. وليس العرب الجنوبيون بدعًا في هذا الباب، فقد كان غيرهم يؤرخ بهذه الطرق. وذلك قبل توصلهم إلى اتخاذ تقويم واحد ثابت له بداية معينة تؤرخ به.
والغالب ذكر اسم الشهر مع حكم الكبير أو الرئيس أو إنسان آخر، كما في هذا المثال: "بورخ ذ طنفت ذ كبر ايتم ذ عرقن"1، ومعناها "بشهر ذو طنفت من كبارة أيتم ذو عرقن"1، وبعبارة أوضح "بشهر ذو طنفت من حكم الكبير أيتم ذو عرقن"، و"ذو طنفت"، اسم شهر من الشهور.
والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، على أنها أحسن حالًا في نظرنا من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتأريخ، إلا أننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر.
إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئًا عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة، أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم؟ لقد فات أصحاب هذه الكتابات أن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلانًا، أو رب الأسرة فلانًا، أو الزعيم فلانًا سينسى بعد أجيال، وقد يصبح نسيًا منسيًّا، لذلك لا يجدي التأريخ به شيئا، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحودث الجسام. لهذا السبب لم نستفد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، إن استفدنا منها في أمور أخرى لا صلة لها بتثبيت تواريخها.
وقد تجمعت لدينا أسماء أشخاص أرخ الناس بأيامهم لأنهم كانوا أصحاب جاه ونفوذ، لكننا لا نعرف اليوم من أمرهم شيئًا، لأن النصوص لم تذكر شيئًا.
__________
1 REP. EPI. 3609, 3, Beeston, P. 26(16/147)
عنهم، وعن أيامهم، منهم: "عم علي" من "آل رشم" من عشيرة "قفعن"1، و"موهم ذ ذرحن"، أي "موهب ذو ذرحان"2. و"غوث إيل" من "آل بيحان" "بيحن"3. و"شهر يجر"4، و"ذران" ذرءان"5، و"أب علي بن شحز"، أي "أبو علي" من قبيلة" شحر"6. وكل هؤلاء الذين أرخ بهم هم من قتبان.
ومن الأسر التي أرخ بأيامها أسرة "نبط" و"مبحظ"7 و"حزفرم كبر خلل" "حزفر كبير خليل" و"حذمت" و"فضحم"8.
كما تجمعت لدينا أسماء عدد من الأشهر في اللهجات العربية الجنوبية المختلفة، تحتاج إلى دراسة لمعرفة ترتيبها بالنسبة للمواسم والسنة. ويظهر أنهم كانوا يستعملون أحيانًا مع التقويم الذي يؤرخ بحكم الرجال، تقويمًا آخر هو التقويم الحكومي، وتختلف أسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال9.
وقد تغير الحال في كتابات المسند منذ سنة "115" قبل الميلاد، على رأي غالبية الباحثين، أو السنة "109" على رأي "ريكمنس"، إذا أرخت بتقويم ثابت أرخت بموجبه إلى قبيل الإسلام. مبدأه سنة سقوط حكومة سبأ وتكوين حكومة "سبأ وذي ريدان"، على رأي بعض علماء العربيات الجنوبية، فأرخ
__________
1 السطر الثاني والعشرون من النص المنشور في:
Rep. Epig, VI, I, p. 218, Glaser, Alt. Nachr, s. 162. ff. Grundriss, S. 33, Glaser 2566.
2 راجع نهاية الفقرة 6 وأول الفقرة 7 من النص. Glaser 1601
Rhodokanalds, K.T.B., I, S. 8. If.
3 Rep. Epig., 3693, Tome VI, II, p. 275.
4 Rhodokanalds, K.T.B. I, S. 122. f., Rip. Epig. 36fl3, Tome VI, II ,p. 259.
5 SE. 80a, Glaser 1398, 1609, Rep. Epig. 3879, Vol., VI, II, p. 334.
6 Halevy 504, Rhodokanalds, K. T.B., I, S. 34, II, S. 7.
7 7AJP.L. Beeston, Eplgraphic South Arabian Calenders and Datlngs, London, 1956, A.G. Lundin, Eponymat Sabeen et Chronologle Sabfiene, 26, Congr. Intern, des Orientalistes, Conf. Pres. par la delegation de 11JRSS, Moseou, 1963, Le Mus6on, 1964, 3-4, p. 429.
8 Le Museon, 1964, 3-4, p. 496.
9 Rhodokanakis, KTB., I, S. 81. f.(16/148)
بهذا الحادث، ولا سيما في الكتابات الرسمية المتأخرة1. ويرى "بيستن" أن مبدأ هذا التقويم غير مضبوط، وأن مبدأه فيما بين السنة 118- 110 قبل الميلاد.
ويرى أيضًا أن العرب الجنوبيين لم يؤرخوا به في هذا العهد؛ لأن النصوص التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد كانت لا تزال تؤرخ بالتأريخ القديم، أي: بالتواريخ الغير الثابتة، مثل التأريخ بأيام الملوك والكبراء والكهنة وأمثالهم، فلو كانوا يؤرخون به لما أهملوه. ويرى أنهم إنما أرخوا به بعد ذلك، في حوالي القرن الثالث للميلاد.
وقد ساعدنا هذا التقويم على تثبيت تواريخ عدد من النصوص أرخت بموجبه، وعلى معرفة تأريخ هذه الحقبة التي أرخت بها. ولكن النصوص المؤرخة قليلة العدد، ثم إننا لا نملك نصًّا واحدًا منها من ابتداء العهد بالتأريخ به، كذلك لا نملك نصوصًا مؤرخة يعود عهدها إلى قبيل الميلاد، أو إلى القرن الأول أو الثاني منه.
وأقدم نص مؤرخ بهذا التقويم، هو النص الموسوم بـCIH، وتأريخه سنة "385" من هذا التقويم، وهو يساوي السنة "270" أو "276" للميلاد.
وهو من أيام الملك "يسرم يهنعم" "ياسر يهنعم" ملك سبأ وذي ريدان وابنه "شمر يهرعش". ويراد بهما "ياسر يهنعم" الثاني و"شمر يهرعش" الثالث على رأي "فون وزمن"2. ونص آخر للملك "ياسر يهنعم"، تأريخه سنة "274" أو "280" للميلاد. والنص الموسوم بـ CIH 448 = MM 150، وهو يساوي سنة "281" أو "287" بعد الميلاد.
وهناك نصوص مؤرخة أخرى من أيام الملك "شمر يهرعش"، ونصوص من بعد أيامه حتى أيام تملك الحبشة لليمن. أما ما بعد أيام الحبشة في اليمن، أي: أيام استيلاء الفرس عليها ثم أيام دخولها في الإسلام، فلم يصل إلينا منها نص، لا مؤرخ ولا غير مؤرخ3.
__________
1 Mordtmann und Eugen Mitwoch, Sabaische Inschriften, Hamburg, 1931, S. I.
2 Le Museon 1946, 3-4, P. 484, Jamme, Sabaean Inscription, P. 353.
3 Mordtmann und Eugen Mittwoch, Sabaishe Inschriften, Hamburg, 1931, s. L.(16/149)
وآخر هذه النصوص المؤرخة، هو النص الموسوم بـ CIH 525، وتاريخه سنة "669" من التأريخ الحميري، وهو يقابل سنة "554" للميلاد. ويمكن أن نقول إن هذا النص هو آخر نص مؤرخ عثر عليه لا في المسند وحده، بل في كل اللهجات العربية الأخرى، وهو أقرب تلك الكتابات عهدًا بالإسلام.
ويلاحظ أن بعض الكتابات المؤرخة تذكر لفظة "بورخ" أو "ورخسن" "ورخ"، ثم تذكر بعدها اسم الشهر الذي أرخ النص به، ثم عدد السنين بالنسبة للتقويم. ويراد بها معنى "شهر"، وذلك كما في هذه العبارة: "ورخس ذو سحر"، أي: "في شهر ذو سحر"، و"بورخ ذو خرف"، أي: "بشهر ذو الخريف"، أو "بورخ ذ معن"، أي: "بشهر ذي معان" "بشهر ذي معين"، "بشهر ذي معون"، وهناك كتابات مؤرخة استعملت لفظة "ورخهو" بمعنى "وتأريخه". كما في هذه الجملة: "ورخهو ذ لثني وسثي وسث ماثم"1، أي: "وتأريخه لاثني وستين وست مئة"، وبعبارة أوضح: "وتأريخه لسنة اثنين وستين وست مئة". فاستعملت لفظة "ورخهو" إذن، بالمعنى العلمي الذي نستعمله اليوم حين نؤرخ عهودنا ووثائقنا، فتقول: "أرخت بـ" أو "تأريخها".
وترد لفظة "خرفن"، أي: سنة، قبل عدد السنين في بعض النصوص، مثل: "خرفن ذ لثلئت وأربعي وخمس ماتم"2، ومعناها: "السنة الثالثة والأربعين بعد الخمس مائة"، وقد تلحق لفظة "خرفتم"، بعد عدد السنين. كما في هذا المثال: "ورخهو ذ حجتن ذل أربعي وسث ماتم خرفتم"3. ومعناه: "تأريخه أو شهره ذو الحجة لأربع وستمائة سنة". وتقابل هذه السنة سنة "489" أو "495" للميلاد.
ويلاحظ أن النصوص السبئية المؤرخة قد أرخت بتقويمين: تقويم عرف بـ"خريفتم بن خريف نبط"، "خرفتم بن خرف نبط"4، أي: بـ "سنين
__________
1 CIH 541, Glaser 618.
2 Ryckmans 534, Beeston, p. 57.
3 CIH 621, Beeston, p. 37, Glser, Die Abessinier in Arabien und Afrika, 1896, S. 152 Zwei Inschriften, S. 86.
4 REP. EPIGR. 4196.(16/150)
من سنة نبط"، ومعناه أن هذه السنين المذكورة، هي وفقًا للتقويم الجاري على سني "نبط"، أو تقويم "نبط"، وتقويم آخر قدرت السنين فيه وفقًا لسني "مبحض بن أبحض"، "ذ بخرفن ذل بن خرف مبحض بن أبحظ"1. ويشير ذلك إلى وجود مبدأين للتأريخ عن السبئيين: التأريخ بتقويم "نبط"، والتأريخ بتقويم "مبحض بن أبحض". وذلك في الكتابات التي تعود إلى القرن الثالث ونهايته لما بعد الميلاد. كالكتابات التي تعود إلى أيام "ياسر يهنعم" و"شمر يهرعش"، أما الكتابات المتأخرة، فقد اختفت منها هاتين التسميتين، ويظن أنهم أخذوا بالتأريخ بتقويم "مبحض" ولذلك أهملوا الإشارة إلى الاسم. لأنه كان معلومًا عندهم. ويرى "بيستن" أن الفرق بين التقويمين هو قرابة نصف قرن أو ثلاثة أرباع قرن2.
وأسلوب التوريخ في النصوص السبئية المتأخرة هو أن تذكر لفظة "ورخن" أولًا، ثم اسم الشهر من بعده، ثم السنة، كأن تقول: "ورخهن ذ مذرن ذل 316 خرفتم بن خرف نبط"3، أي "وبشهر ذ مذران لـ316 سنة من سنة نبط"، أو "وبتأريخ ذ مذران من سنة 316 من سني نبط"، أو مثل "ورخهو ذ داون ذ لخرفين ذل أربعت وسبعي وخمس ماتم"، أي: "وشهره ذ داوان للسنين التي هي 574"4، أو وتأريخه ذ داوان للسنة 574"، ومثل: "خرفن ذل ثلثت وأربعي وخمسمس ماتم"، أي: "سنة 543"5، ومثل: "وخرفهو ذ حجتن ذل أربعي وسث ماتم خرفتم"6، أي: "وشهره ذو الحجة لأربعين وستمائة سنة"، أو "وتأريخه ذوالحجة الموافق لـ640 سنة مضت"، ومثل: "وخرفهو ذل ثني وسثي وسث ماتم"7، أي: "وتأريخه لاثنين وستين ومائة"8.
__________
1 CIH 46, 448, REP. EPIGR. 3866, Beeston, p. 36.
2 Beeston, p. 36.
3 REP. EPIG. 4196.
4 Ryckmans 520.
5 Ryckmans 534.
6 CIH 621.
7 Ryckmans 506.
8 Beeston, p. 73.(16/151)
ومن الغريب أن أهل الأخبار قد أغفلوا الإشارة إلى هذا التقويم فلم يذكروا عنه شيئًا، ولم يشيروا إلى أن العرب الجنوبيين كانوا يؤرخون به، مع أهميته وكونه تقويمًا رسميًّا.
هذا، وإن في استطاعتنا القول بأن اليمن لم تسر رسميًّا على التقويم العبراني أو التقويم النصراني، حتى في أيام احتلال الحبش الأخير لليمن، أو في أيام استيلاء الفرس عليها، وذلك بدليل توريخ أبرهة عامل الحبشة على اليمن، وهو نصراني، نصوصه بالتقويم اليماني المستعمل في اليمن الذي تحدثت فيما سلف عن مبدئه، مع أنه حاكم اليمن وممثل الحبش فيها وهو نصراني. وبدليل توريخ عدد من كتابات المسند المتأخرة من عهد لا يبعد كثيرًا عن الإسلام بهذا التقويم.
وليس بالتقويمين المذكورين، أو بأي تقويم آخر من التقاويم المستعملة عند الشرقيين.
ولكن ما أذكره لا يعني بالطبع عدم احتمال توريخ يهود اليمن أو نصاراها أو غيرهم بتقاويم أخرى، مثل التقويم العبراني أو الميلادي، أو غيرهما. وما أقوله هو عن التقويم الرسمي المدون في المسند، وربما سيعثر في المستقبل على نصوص تعود إلى عهد احتلال الحبش لليمن، يرد فيها التأريخ بأيام الحبش فيها، أو بالتأريخ الرسمي الذي كان يتبعه الأحباش في مملكتهم.
أما العرب الشماليون، عرب العراق وبادية الشام وبلاد الشام، فلم يرد إلينا من نصوصهم المؤرخة إلا عدد محدود، منها نص النمارة الذي يعود عهده إلى السنة "328" للميلاد. وهو مؤرخ بتقويم بصرى، وبصرى مركز مهم، كان يقصده عرب الحجاز للاتجار وقد وصل إليه النبي. وكان عرب هذه المنطقة يؤرخون به. ويبدأ هذا التقويم بدخول بصرى في حوزة الروم سنة "105" أو "106" للميلاد، أي: السنة التي تم فيها القضاء على حكومة النبط وإلحاق "بترا" بـ"الكورة العربية"1.
ولهذا فإذا أردنا تحويل سنة من السنين التي أرخ بها وفقًا لتقويم بصرى،
فعلينا إضافة الرقم "105" أو "106" على سني تقويم بصرى، فيكون حاصل
__________
1 Die Araber, II, S. 319.(16/152)
الجمع السنة وفقًا للتقويم الميلادي تقريبًا. فتأريخ نص النمارة هو سنة "223" من تقويم بصرى، وقد أضفنا إليه الفرق وهو "105"، فصار الحاصل "328"، وهو ما يقابلها من سني الميلاد.
وقد أرخت كتابة "حرّان" اليونانية بسنة أربع مئة وثلاث وستين من الأندقطيّة الأولى، وهي تقابل سنة 568 للميلاد، والأندقطية هي دائرة ثماني سنين عند الرومانيين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة. أما النص العربي فقد أرخ بسنة "463"، بعد مفسد خيبر بعام. ويراد بجملة: "بعد مفسد خيبر بعم"، غزوة قام بها أحد أمراء غسان أو غيره لخيبر، وذلك في رأي الأستاذ "ليتمان"1. وعندي أن السنة "463"، التي أرخ بها النص العربي، هي من سني تقويم بصرى، بدليل أننا لو أضفنا إليها الرقم "105" المذكور، صار الحاصل "568"، وهو كناية عن سني الميلاد، المقابلة لسني بصرى. وعلى ذلك يكون تدوين هذا النص قد تم بعد غزو خيبر بعام، أي: أن هذا الغزو قد وقع سنة "567" للميلاد. وقد كان "الحارث بن جبلة" يحكم "غسان" آنذاك، فتصدق رواية "ابن قتيبة" حينئذ التي تذكر أنه غزا خيبر، وسبا أهلها ثم أعتقهم بعدما قدم الشام2.
وقد استعمل التقويم الذي يؤرخ بحكم "الإسكندر" تقويمًا عند اليونان وفي بلاد الشأم، وعند عرب بلاد الشأم أيضًا. ومبدأه الأول من شهر نيسان لسنة "311" قبل الميلاد3، ونجد أثر التأريخ بهذا التقويم في الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن عرب بلاد الشأم والعراق. وقد بقي الناس يؤرخون به إلى أن حل التقويم الميلادي محله، فنسي ذلك التقويم. وذكر "المسعودي" أن ما بين الإسكندر إلى المسيح ثلاثمائة سنة وتسع وستون4.
وقد كان الصفويون مثل غيرهم يؤرخون بالحوادث التي يكون لها شأن عندهم،
__________
1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 18"، السامية "192"، Rivista degli stud. Orientali, 1911, p. 195.
2 المعارف "642".
3 Die Araber, II, S. 236, Hastings, extra Volume, 1904, p. 483.
4 مروج الذهب "2/ 183 وما بعدها"، "ذكر شهور السريانيين".(16/153)
مثل حروبهم بعضهم مع بعض، أو حروبهم مع غيرهم مثل النبط أو الروم.
وقد أرخ بعضها بحوادث ذات صفة خاصة وعائلية، مثل "سنة قتله خاله"، أو "سنة وفاة والده". وهي حوادث لا يمكننا الاستفادة منها في استنباط تأريخ منها؛ لأننا لا نعرف من أمرها شيئًا. غير أن هنالك نصوصًا مؤرخة أفادتنا بعض الإفادة في الوقوف على التوقيت عند الصفويين. ففي نص لرجل اسمه "أنعم بن فخش"، ما يفيد أنه استولى على غنائم "سنة الحرب مع النبط".
ويقصد بسنة الحرب مع النبط، السنة التي قضى فيها الرومان على مملكة النبط، وهي سنة "105" أو "106" للميلاد. وقد صارت هذه السنة مبدءًا للتأريخ في "بصرى"، وعند العرب الصفويين1.
ولدينا نص صفوي آخر، أرخ بـ"سنت حرب همدي ال روم"، أي: "سنة محاربة الميديين الروم"، أو "سنة حرب الميدين الروم". ويرى "ليمان" أنه قد توصل إلى ضبط تأريخ هذه الحرب. هناك نص أرخ بـ "سنت قتل ال حمد"، ويظن أنه يشير إلى معركة دارت على قبيلة تسمى "آل حمد".
وصاحب النص رجل من قبيلة تسمى "الرحبة"2، ولا زال الأعراب يؤرخون بأيام قتالهم بعضهم مع بعض.
ونحن لا نعلم اليوم كيف كان يؤرخ أهل الحيرة أو الغساسنة، لعدم ورود نصوص مدونة عن ذلك سوى ما ذكرته من نص النمارة المؤرخ بموجب تقويم بصرى. ولا أستبعد احتمال استعمال أهل الحيرة التقاويم العراقية أو الفارسية التي كانت شائعة عندهم في ذلك العهد أساسًا للتأريخ. وقد يكون من بينها التقويم النصراني بالنسبة للنصارى، وينطبق ذلك على نصارى الغساسنة أيضًا، كما لا أستبعد استعمال الغساسنة لتقويم الروم. وللتقاويم العربية المألوفة التي تستعمل الأساليب المحلية في تثبيت التواريخ. ويظهر من تأريخ "ابن الكلبي" لحوادث الحيرة وعرب العراق بتقويم الساسانيين لتواريخ ملوكهم، أن أهل الحيرة كانوا قد دونوا تواريخهم بموجبها، ولكن هذا لا يمنع من احتمال أخذ ابن الكلبي أقواله في تواريخهم من تواريخ الفرس ومن رواتهم رأسًا، فلا يكون عندئذ ذكره
__________
1 رينيه ديسو، العرب في سوريا قبل الإسلام "ص103".
2 العرب في سوريا قبل الإسلام "ص105".(16/154)
لتواريخهم دليلًا على تأريخ أهل الحيرة بتقويم الفرس.
ويروي أهل الأخبار أن العرب كانوا يؤرخون بالحوادث العظام التي تحدث لهم، من ذلك عام الحُنان. وهو عام وقع فيه كما يقولون مرض خطير عضال فتك بالناس وبالإبل، فأرخوا به، ورووا في ذلك شعرًا للنابغة الجعدي1. وقد وقع زمن الخنان في عهد المنذر بن ماء السماء، وماتت الإبل منه. فصار ذلك تأريخًا لهم2. ويظهر أنه كان وباء فتك بالناس وبالإبل، وانتشر في العراق وفي نجد، فأرخ به لأهميته بالنسبة لهم، والتأريخ بالأوبئة شيء مألوف، وأهل بغداد كانوا يؤرخون بطاعون وقع عندهم في عهد العثمانيين وقبل الحرب العالمية بسنوات ولا زال الشيبة يؤرخون به.
وكان أهل مكة يؤرخون بما يقع عندهم من أحداث جسيمة، فإذا أرخوا بحادث ومضى عهد عليه، ووقع له حادث آخر أكثر أهمية وشعبية منه، أرخوا به. فتوالت لهم عدة تواريخ، نسخت بعضها بعضًا، فأرخوا كما يذكر أهل الأخبار بعام رئاسة عمرو بن ربيعة المعروف بعمرو بن لحي، وهو الذي يقال: إنه بدل دين إبراهيم، وحمل من مدينة البلقاء صنم هُبَل، وعمل إسافًا ونائلة، وذلك كما يقال في زمن "سابور ذي الأكتاف". وأرخوا بعام موت كعب بن لؤي إلى عام الغدر، وهو الذي نهب فيه بنو يربوع ما أنفذه بعض ملوك حمير إلى الكعبة من الكسوة، ووثب بعض الناس على بعض في الموسم. ثم أرخوا بعام الغدر إلى عام الفيل الذي أرخوا به3. قال "الجاحظ": "ومن الخبطاء القدماء كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر، فلما مات أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل"4.
__________
1
فمن يحرص على كبري فإني ... من الشبان أيام الخنان
بلوغ الأرب "3/ 214 وما بعدها".
2 تاج العروس "9/ 193" "خنن"، بلوغ الأرب "3/ 214"، اللسان "13/ 143" "صادر"، "خنن".
3 الآثار الباقية "1/ 34".
4 البيان والتبيين "1/ 351".(16/155)
وذكر "اليعقوبي". أن قريشًا كانوا يؤرخون بالسنين، يؤرخون بموت "قصي" لجلالة قصي عنده، فسنة وفاته هي مبدأ تاريخهم إلى أن كان عام الفيل، فأرخوا به لاشتهار ذلك العام1.
وذكروا أنهم أرخوا بعام وفاة هشام بن المغيرة المخزومي، وهو والد أبي جهل، وكان من رؤساء بني مخزوم، وله صيت عظيم بمكة، كما كان سيد قريش في زمانه2. وقد مات بالرعاف، ذكر أنه كان آخر من مات به من سادة قريش. وزعموا أن الرعاف من منايا "جرهم" أيام جرهم، وأنه أهلكهم، فأرخوا به قال بشير بن الحجير الإيادي:
ونحن إياد عبادُ الإلَه ... ورهط مناجيه في سُلم
ونحن ولاة حجاب العتيق ... زمانَ الرعاف على جرهم3
وورد "زمان النخاع" في موضع "زمان الرعاف"، وهو داء أيضًا، زعم أنه فتك بجرهم، فهلك منهم ثمانون كهلًا في ليلة واحدة سوى الشبان4. فهو وباء أيضًا زعم أن الناس أرخوا به.
وأرخوا بعام الفيل، بقوا يؤرخون به إلى أن أرخ بالهجرة5. وقد ترك الحادث أثرًا مهمًّا في ذاكرة قريش، ولهذا ذكروا به في القرآن، حتى يتعظوا به. ويجعلون عام الفيل في الثانية والأربعين من ملك كسرى أنوشروان، وقبل ولاية النعمان بن المنذر المعروف بـ"أبي قابوس" بنحو من سبع عشرة سنة،
__________
1 اليعقوبي "2/ 4"، "مولد رسول الله".
2 بلوغ الأرب "3/ 215"، "واتخذت قريش موته تأريخًا. وله يقول بجير بن عبد الله بن عامر بن سلمة بن قشير:
فأصبح بطن مكة مقشعرًا ... كأن الأرض ليس بها هشام
المحبر "139".
3 الحيوان "6/ 151"
4 الحيوان "6/ 151"
5 بلوغ الأرب "3/ 215".(16/156)
وهي إحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الإسكندر على دارا، وهي ستة ألف وثلاثمائة وستة عشر لابتداء ملك بخت نصر1. وهو العام الذي ولد فيه الرسول على أغلب الروايات.
وأرخت قريش بيوم الفجار وبحلف الفضول.
وكانوا يسمون السنين بالحوادث الخطيرة الجليلة التي تقع فيها. وقد فعل ذلك المسلمون أيضًا في صدر الإسلام، فسموا كل سنة مما بين الهجرة والوفاة باسم مخصوص بها مشتق مما اتفق فيها للنبي. فسموا السنة الأولى للهجرة سنة الأذن، والثانية سنة الأمر بالقتال، والثالثة سنة التمحيص، والرابعة سنة الترفئة، والخامسة سنة الزلزال، والسادسة سنة الاستئناس، والسابعة سنة الاستغلاب، والثامنة سنة الاستواء، والتاسعة سنة البراءة، والعاشرة سنة الوداع، فكانوا يستغنون بذكرها عن عددها من لدن الهجرة2.
وأما الأعراب، فتواريخهم برئاسة ساداتهم، وبالأحداث التي تقع لهم من أفراح وأتراح، ومن غزو أو نكبة، وبالعوارض الطبيعية، مثل سقوط مطر غزير، أو انحباسه مدة طويلة، أو هزة أرضية، أو ظهور جراد، أو وقوع وباء، وما أشبه ذلك من أمور. وهم على هذا النوع من التأريخ حتى اليوم.
وليس في الذي رواه أهل الأخبار عن أهل الجاهلية ما يشير إلى وقوف العرب على كتب في التأريخ يونانية أو لاتينية أو سريانية أو عبرانية، أو على معربات لها. وليس في كل الذي ذكروه اسم مؤرخ من المؤرخين الذين نجلتهم الشعوب المذكورة. غير أن هذا لا يمكن أن يكون دليلًا على عدم وقوفهم على تواريخ تلك الأمم وأخبارهم، ففي القصص المنسوب إلى الجاهليين، قصص يدل على أنه مأخوذ عن تلك الأمم مستورد منها. ثم أن أهل الأخبار أنفسهم أشاروا إلى نفر ذكروا عنهم أنهم نظروا في كتب الأساطير ورووا منها أخبار العجم، وإلى نفر ذكروا عنهم أنهم نظروا في الكتب القديمة وحذقوا لغات أهل الكتاب، ورووا في شعرهم أو في كلامهم شيئًا مقتبسًا من قصص أهل الكتاب، يضاف
__________
1 إمتاع الأسماع "1/ 4".
2 الآثار الباقية "1/ 34".(16/157)
إلى ذلك وجود الكنائس والنصرانية في بلاد العرب. والتأريخ، ولا سيما تأريخ الكنيسة موضوع مهم من الموضوعات التي استعان بها المبشرون ورجال الدين في الوعظ والإرشاد. ولا يستبعد أن تكون كتب التأريخ التي كتبها آباء الكنيسة، مثل "أوسبيوس القيصري" وأمثاله، في جملة الكتب التي استعانت بها الكنيسة لإفهام الناس تأريخها وتطورها وتطور العالم على نحو ما دنوه بالاستناد إلى التوراة والإنجيل.(16/158)
الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة: اللغات السامية
اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وهي التي يقال لها: اللغة العربية الفصحى، وكذلك سائر لهجات العرب الأخرى، هي فروع من مجموعة لغات عرفت عند المستشرقين بـ "اللغات السامية". وقد أولع بعض المستشرقين بدرس هذه اللغات، فألفوا فيها كتبًا وأبحاثًا، وأنشأوا مجلات عدة تفرغت لها، وما زالوا يسعون في توسيعها وتنظيمها وتبويبها، وقد عرفت دراساتهم هذه عندهم بالساميات "Senitistik".
وهي تتناول بالدرس كل اللغات التي يحشرها علماء الساميات في مجموعة اللغات السامية: تتناولها بغض النظر عن وجود اللغة أو عدمه في هذا اليوم، فالبحث علم، والعلوم تبتغي المعرفة دون قيد بزمان أو مكان.
وينفق علماء الساميات مجهودًا كبيرًا في المقارنة بين اللغات السامية وفي معرفة مميزات كل لغة، وما بينها وبين اللغات الأخرى من فروق أو تطابق أو تشابه، ومجال بحثهم في تقدم وتوسع، خاصة بعد أن أخذ هؤلاء العلماء بأساليب البحث الحديثة التي تعتمد على الفحوص والاختبارات والملاحظات والنقد1.
وقد جاءت نظرية "اللغات السامية" من التسمية التي أطلقها "شلوتسر" "Schlo.er" على العبرانيين والفينيقيين، والعرب والشعوب المذكورة في التوراة على أنها من نسل "سام بن نوح"2. ولم تقم نظرية التوراة في حصر أولاد
__________
1 Theodore Noldeke, sketches from Eastern History, Beirut, 1963, p. 1.
2 الإصحاح العاشر من سفر التكوين.(16/159)
سام على أساس عرقي، بل بنيت على عوامل جغرافية وسياسية، ولهذا أدخلت العيلاميين واللوديين "Lud" في أبناء "سام"، مع أنهما ليسا من الساميين، ولا تشابه لغتهما لغة العبرانيين1.
والقرابة بين اللغات السامية واضحة وضوحًا بينًا، وهي أوضح وأمتن وأوثق من الروابط التي تربط بين فروع طائفة اللغات المسماة باللغات الهندوأوروبية "Indoeurpaichen Sprachen" أو الهندوجرانية "Indogermanischen Spraden" على حد تعبير بعض العلماء2.وقد أدرك مستشرقو القرن السابع عشر بسهولة الوشائج التي تربط بروابط متينة ما بين اللغات السامية، وأشاروا إليها، ونوهوا بصلة القربى التي تجمع شملها. بل لقد سبقهم إلى ذلك علماء عاشوا قبلهم بمئات السنين هداهم ذكاؤهم وعلمهم إلى اكتشاف تلك الوشائج وإلى التنويه بها. فقد تحدث عالم يهودي اسمه: "يهودا بن قريش" "Jehuda ben Koraish"، وهو ممن عاشوا في أوائل القرن العاشر، عن القرابة التي تجمع بين اللغات السامية، وعن الخصائص اللغوية العديدة المشتركة بين تلك الألسن، كما أبدى ملاحظات قيمة عن الأسس اللغوية التي تجمع شمل تلك اللغات3.
والأساس الذي بني عليه رأي العلماء في حشر من يرون حشره في عائلة الساميات، أوإخراج من يرون إخرجه منها، هو قرب لغة من يرون فحصه لترشيحه لعضوية تلك العائلة من اللغات السامية، أو بعد لغته عنها، ثم قرب عقلية من يرون إدخاله في السامية من العقلية العامة التي رسمت حدودها لعقلية الساميين، من دين وأساطير وحياة اجتماعية وأدب ونحو ذلك مما يحدد عقليات الناس. وبهذه الطريقة يبحث العلماء اليوم موضوع الساميات4.
__________
1 Theodore Noldeke, Die Semltischen Sprachen, Leipzig, 1899, 8. I, Richard J.H. Gottheil, Semite! literatures, p. 1, The Columbia University Press, 1911.
2 Theodore Nbldeke, Die Semltlschen Sprachen, S. n,
وسيكون رمزه: Sprachen
Carl Brockelmann, Grundrlss der Vergleichenden Grammatlk der Semltlschen Sprachen, Bd. I, S. I.
3 Sprachen, S. 2, Grundriss, I.., S. I, Gelger, Ursprung der Sprache, 1869, 22. Richard Hartmann und Helmuth Schell, Beitrage Zur Arablstlk, Semitlstlk
4 und lelamvrissenschafts, Leipzig, 1944, S. 3 If.(16/160)
وقد حملت الخصائص المشتركة والألفاظ المهمة الضرورية لشئون الحياة التي ترد في كل اللهجات السامية بعض العلماء على تصور وجود لغة أم، في الأيام القديمة، تولدت منها بعوامل مختلفة متعددة مجموعة "اللغات السامية". ويؤدي تخيل وجود هذه الأم إلى تخيل وجود موطن قديم للساميين كان يجمع شملهم، ويوحد بين صفوفهم، إلى أن أدركتهم الفرقة لعوامل عديدة، فاضطروا إلى الهجرة منه إلى مواطن جديدة، وإلى التفرق، فكانت هذه الفرقة إيذانًا بتبليل ألسنة البابلين، وسببًا إلى تفرق ألسنتهم وظهور هذه اللغات.
ولا يعني تصور وجود لغة سامية أم "Ursemitish" على رأي بعض العلماء ضرورة وجود لغة واحدة بالمعنى المفهوم من اللغة الواحدة، كانت أمًّا حقيقية لجميع هذه اللغات البنات. بل الفكرة في نظرهم مجرد تعبير قصد به شيء مجازي هو الإفصاح عن فكرة تقارب تلك اللغات وتشابهها، واشتراكها في أصول كثيرة اشتراكًا يكاد يجمعها في أصل واحد، ويرجعها إلى شجرة واحدة هي الشجرة الأم. فالسامية الأولى أو السامية الأم، أو السامية الأصلية، هي بهذا المعنى تعبير مجازي عن أقدم الأصول المشتركة التي جمعت بين اللهجات السامية القديمة في الأيام القديمة، أيام كان المتكلمون بها يعيشون في أمكنة متجاورة وفي اتصال وتقارب عبر عنه بفكرة النسب المذكور في التوراة1.
وليس من السهل علينا أن نتصور كيف كانت اللغة السامية الأولى. ولكننا لا نستطيع -بسبب قدم زمان هذه اللغة إن كانت هناك لغة سامية أولى وبسبب الأحوال البدائية التي كانت تحيط بالمتكلمين بها شأن البشرية جمعاء في ذلك العهد ولقلة مستلزمات المعيشة يومئذ وانخفاضها- أن نتصور أن هذه اللغة كانت واسعة جدًّا بمفرادتها غنية بمسمياتها، وفي قواعد صرفها ونحوها وفي أساليب بيانها؛ لأن ما نذكره لا يمكن أن يتوفر إلا في مجتمع متطور متقدم، وإلا بعد تطور استمر أمدًا طويلًا، ولم يكن الساميون الأولون في ذلك العهد على درجة كبيرة من التطور والتقدم حتى تكون لغتهم الأولى على نحو ما نذكره من اتساع وارتقاء.
وتسوقنا إشارتنا العابرة هذه إلى السامية الأم إلى الإشارة إلى الوطن السامي الأول الذي عاش فيه الساميون. أيام اجتماعهم وتكتلهم في وطن واحد، وأيام
__________
1 جواد على تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 166 وما بعدها"، "7/ 10 وما بعدها".(16/161)
تكلمهم بلسان واحد أو بألسنة متقاربة متشابهة، يفهم أحدهم الآخر بيسر وسهولة.
ثم عن الأيام التي نزلت فيها المكاره على أولئك الساميين القدماء فأجبرتهم على ترك ذلك الوطن في دفعات وفي هجرات متعددة والارتحال عنه إلى مواطن أخرى جديدة.
وقد اختلف العلماء في تعيين الموطن الأصلي للساميين، وذهبوا في ذلك مذاهب، يخرجنا الحديث عنها عن صلب موضوعنا هذا. والمفروض في هذا الوطن أن يكون المهد الأول الذي ضم الشعوب السامية، والمكان الذي اتصلت فيه تلك الشعوب بعضها ببعض، الأثر الذي نراه في اللغة وفي الدين وفي النواحي العقلية وما شاكل ذلك.
وبما أن من غير الممكن التعرف على اللغة السامية الأم، لأن الكتابة لم تكن معروفة في ذلك العهد، فكّر المستشرقون في دراسة أقرب اللغات السامية إلى الأصل، فذهب بعضهم إلى أن العبرانية هي أكثر تلك اللغات شبهًا بالسامية الأولى، وهي لذلك أقرب بنات سام إليها. وذهب آخرون إلى تقديم لغة بني إرم على غيرها جاعلين إياها البنت الأولى التي اجتمعت فيها الخصائص السامية الأصلية أكثر من اجتماعها في أية لغة أخرى، ولهذا استحقت في رأيهم هذا التكريم والتقديم.
وذهب آخرون إلى تقديم العربية على سائر اللغات الأخرى، لمحافظتها أكثر من بقية اللغات السامية على الخصائص السامية الأولى وعدم تنصلها منها وتركها لها. كالذي نراه من استعمالها للمقاطع القصيرة الصامتة ومن كثرة تعدد قواعدها التي زالت من قواعد بقية اللغات. غير أن هذه الامتيازات والحصانات التي تتمتع بها هذه اللغة، يقابلها من جهة أخرى مميزات في العربية لا نجدها في اللهجات السامية الباقية، مما يبعث على الظن أنها طرأت عليها فيما بعد، وأن اللغة العربية قد مرت بأدوار تطورت فيها كثيرًا، والتطور هذا معناه ابتعاد هذه اللغة عن الأصل. ثم إننا نجد في العبرانية وفي لغة بني إرم قطعات من الكلام قديمًا جدًّا لا نجد له مثيلًا في العربية، وهذا مما يدعو إلى حسبان اللغتين المذكورتين أقدم عهدًا من اللغة العربية. غير أننا لا نستطيع مع كل ذلك أن ننكر أن معرفتنا وإحاطتنا باللغة العربية لا تكاد تدانيها معرفتنا وإحاطتنا ببقية اللغات السامية. ومن هنا صارت اللغة العربية بلهجاتها المتعددة حقلًا مهمًّا لإجراء التجارب والاختبارات في ميدان(16/162)
مقارنات اللغات السامية ودراستها، فيه من الإمكانيات والقابليات ما لا نجده في بقية الحقول1.
وقد ذهب "نولدكه" إلى أن من الضروري في دراسة مقارنات اللغات السامية البدء باللغة العربية، وذلك بأن نأخذ في تسجيل خصائصها ومميزاتها وقواعدها وكيفية النطق بألفاظها وما إلى ذلك، ثم نقارن ما سجلناه بما يقابله في بقية اللغات السامية، لنقف بذلك على ما بين هذه اللغات من مفارقات ومطابقات. ولا بأس في رأيه من الاستعانة باللهجات الحالية أيضًا، لأنها مادة مساعدة جدًّا ومفيدة كثيرة في الكشف عن خصائص اللغات السامية وعن مميزاتها وتطورها في مختلف العصور. وفي رأيه أن دراسة من هذا النحو ليست بالأمر اليسير، فإنها تتطلب جلدًا وعلمًا وإحطاة باللغات السامية كلها وبآثارها القديمة، وأن يقوم بها علماء لغويون متخصصون، على جانب كبير من العلم والذكاء والإحاطة بالساميات2.
وليس بين اللغات السامية لغة واحدة تستطيع أن تدعي أنها سامية صافية نقية، وأنها لم تتأثر قط باللغات الأخرى التي تنتمي إلى مجموعات لغوية غير سامية وقضية صفاء لغة ما من لغات العالم وخلوها من الألفاظ والكلمات الغريبة، قضية لا يمكن أن يقولها رجل له إلمام بعلوم اللغات ولو يسيرًا جدًّا. وإذا كانت اللغات السامية قد تأثرت باللغات الأخرى بسبب اختلاط الشعوب واتصال ألسنتها بعضها ببعض نتيجة ذلك الاختلاط، فإن من الطبيعي أن تكون اللغات السامية قد أثرت بعضها في بعض، ولهذا نجد في كل لغة من اللغات السامية ألفاظًا أخذتها من لغة ما من لغات أبناء سام.
وخير ما يمكن أن نفعلها الآن في موضوع اللغة السامية وأقرب اللغات السامية إليها، هو أن نقوم باستخلاص القديم المشترك من كل اللغات السامية، ثم نكون من هذا المجتمع لغة نعدها أقرب اللغات السامية صورة إلى اللغة السامية الأولى.
وتعدّ للضمائر وأسماء العدد وأسماء أعضاء الجسم الأساسية المهمة وجملة ألفاظ تخص الحياة الإنسانية الأساسية، مثل بيت وسماء وأرض وجمل وكلب وحمار وعدد
__________
1 Sprachen, S. 5 ff.
2 Sprachen, s. 7.(16/163)
من حروف الجرّ، من جملة القديم المشترك في جميع اللغات السامية أو في أكثرها، وهو لذلك يفيدنا من هذه الناحية كثيرًا في تكوين فكرة عن اللغة السامية القديمة وعن أقرب اللغات السامية إلى الأصل.
ويقسم علماء الساميات اللغات السامية إلى قسمين: لغات سامية شمالية، ولغات سامية جنوبية. ويقسم بعض العلماء اللغات السامية الشمالية إلى مجموعتين: مجموعة شرقية، ومجموعة غربية. ويقصدون بالمجموعة الشرقية اللغات السامية المتركزة في العراق، ويقصدون بالمجموعة الغربية اللغات السامية المتركزة في بلاد الشأم.
وقد تأثرت كل مجموعة من المجموعتين بالمؤثرات اللغوية والحضارية للمكان التي عاشت فيه، ومن هنا حدث بعض الاختلاف بين الجماعتين.
ومن أهم الخصائص التي امتازت بها اللغات السامية من غيرها من اللغات:
اعتمادها على الحروف الصامتة "Konsonanet" = "Consonant" أكثر من اعتمادها على الأصوات "Vocal" = "Vokale"، فنرى أن أغلب كلماتها تتألف من اجتماع ثلاثة أحرف صامتة. أما الأصوات، فلا نجد لها حروفًا تمثلها في اللغات السامية. وهي بذلك على عكس اللغات الآرية التي اهتمت بالأصوات، فدونتها مع الحروف الصامتة وقد اضطرت اللغات السامية نتيجة لذلك إلى الاستزادة من الحروف، فزادت في عددها عن العدد المألوف في اللغات الآرية، وأوجدت لها حروفًا للتفخيم والترقيق وإبراز الأسنان والضغط على الحلق1
ويتولد في اللغات السامية من تغير حركات الأحرف الثلاثية الصامتة وتبديلها، معان جديدة. ولهذا كان من أهم واجبات الأصوات في اللغات السامية تغيير حركات الحروف لتوليد معان جديدة. فالأحرف الثلاثة الصامتة إذن هي التي تكون مفهوم الكلمة وهيكلها، ولكن مفاهيم هذه الأصول الثلاثية لا تبقى على حالها متى تغيرت حركات هذه الحروف. فكلمة "فعل" المؤلفة من ثلاثة أحرف صامتة، هي حروف الفاء والعين واللام، هي أصل، غير أن هذا الأصل غير ثابت. بل هو عرضة للتغيير، ويكون تغيره بتغيير حركات أحرفه، فإذا تغيرت
__________
1 ولفنسون، تأريخ اللغات السامية "ص14".
Brockelmann, Grundriss, I, S. 5(16/164)
حركات هذه الأحرف تغيرت معانيها حتمًا. فكل تغيير إذن في حركات أحرف الأصل يعقبه تغير في معنى ذلك الأصل. فلفظة "فَعَلَ"، تختلف في المعنى عن لفظة "فِعْلٍ"، واللفظتان "فَعَلَ" و"فِعْل" تختلفان أيضًا في المعنى عن معنى لفظة "فُعِلَ". وقد تولد هذا الاختلاف من تغير حركات حروف الأصل وتبدلها.
ومن الممكن إحداث معان جديدة في اللغات السامية، وذلك بإضافة زوائد تتألف من حرف أو أكثر إلى الأصول الثلاثية، فيتبدل بذلك معنى الأصل. فإذا أضفنا حرف الألف بين حرفي الفاء والعين من "فعل"، تغير المعنى، وصارت اللفظة "فاعل"، وإذا وضعنا حرف الواو بين حرفي العين واللام من فعل، تغير المعنى، وصارت اللفظة "فعول"، وهكذا.
فنرى مما تقدم أن المعاني المشتقة من الكلمات ذات الأصل الثلاثي مهما تغيرت وتولدت نتيجة لتغير حركات تلك الحروف الثلاثة الصامتة، فإنها لا تتصل من هذه الحروف ولا تتركها، بل تبقى في صلب كل كلمة، مهما صار معناها.
فكلمة "قتل" العربية مثلًا المؤلفة من ثلاثة أحرف صامتة، يمكن أن نولد منها معاني جديدة، أي: كلمات جديدة، بتغيير هذه الأحرف الثلاثة، أو بإدخال زوائد عليها، أو بتشديد بعض حروفها كما ذكرت، غير أننا لا نستطيع أن نترك حرفًا من هذه الأحرف الثلاثة التي هي الأصل.
فألفاظ مثل قاتل، وقتيل، وقتال، ومقتول، وقَتْل، وقَتَّلَ، وقُتِلَ، وكلها مشتقة من الأحرف الصامتة الثلاثة: القاف والتاء واللام، لم نتمكن من الاستغناء عن حرف من هذه الأحرف الثلاثة، بل اضطررنا إلى إبقائها كلها فيها. إلا أنا أجبرنا على التفريق بينها بسبب دخول الزيادات1.
وليس في اللغات السامية إدغام للكلمات، أي: وصل كلمة بأخرى، لتكون من الكلمتين كلمة واحدة يكون لها معنى مركب من معنى الكلمتين المستقلتين كما في اللغات الآرية. وأما ما نراه من عد كلمتين مضافتين كلمة واحدة تؤدي معنى واحدًا، فإن هذا النوع من التركيب بين الكلمتين شيء جديد في اللغات
__________
1 Semitistik, Dritter Band, Erster Absschnitt, 1953, s. 10 ff.(16/165)
السامية، لم يكن معروفًا عند أجدادهم القدماء1. وهو معروف في اللغات الآرية، كما في حالة الـ "Genitive" في اللاتينية حيث تتولد معان جديدة بإضافة لفظة إلى لفظة أخرى، فتتولد من هذا التعاقب دلالة جديدة لمعنى جديد.
هذا، ونجد أن بين اللغات السامية وبين اللغات الآرية اختلافات في كثير من الأمور، فاللفظة في اللغات السامية ذات مدلول عام، وقد يكون لها جملة مدلولات تدل على معان عامة مطلقة، أما اللغات الآرية، مثل السنسكريتية، واليونانية، والألمانية، فكل جذر فيها هو كلمة ذات معنى مقيد محدود، أخذت منه المصادر والنعوت. وهناك اختلافات أخرى في موضوع الـ "Conjuctions" والـ "Substansive" والـ "Syntax"، والـ "Interdependence of sentences" وغير ذلك من أمور يعرفها علماء اللغات والنحو والصرف.
ويرى العلماء أن الفعل قد تطور في اللغات السامية تطورًا خطيرًا، استغرق قرونًا طويلة، وأن ما نعرفه من تقسيم الأفعال إلى ماض ومضارع وأمر، لم يكن معروفًا على هذا النحو عند قدماء الساميين. ويرى بعضهم أن الصيغة الأصلية للفعل إنما كانت صيغة الأمر، فهذه الصيغة هي أقدم صيغ الأفعال عند الساميين.
وقد كانت هذه الصيغة تستعمل للدلالة على جميع صيغ الفعل من الماضي والمضارع والأمر، ثم تخصصت فصارت تشير إلى حدوث الفعل في صيغة الأمر، وذلك بعد ظهور صيغتي المضارع والماضي.
ومن صيغة فعل الأمر، اشتق فعل المضارع. وذلك بزيادة حرف على أول لفظة فعل الأمر، لتدل على حالة الإسناد إلى الفاعل أو الضمير مثلًا، وقد سبقت هذه الزيادة الزيادة التي لحقت آخر الفعل، فمن فعل "قم" مثلًا تولد الفعل "أقوم" و"يقوم" و"نقوم" و"تقوم" ثم يقومون وتقومون2.
ومن علماء اللغات من يرى أن صيغة المضارع كانت أمدًا تدل على جميع الأزمنة، وأن هذا الأداء كان مستعملًا عند قدماء الساميين استعمال اللغة الصينية
__________
1 Brockelmann, Grundriss, I, S. 5
2 ولفنسون، السامية "ص15"، The Bible Dictionary, Vol. II, P. 429(16/166)
واللغة الهندوجرامانية الأصلية له1.
ونجد اليونانية تغير معاني الفعل بإدخال حرف الجر عليه، فإذا دخل حرف جر على الفعل تغير معناه.
ويظن أن الكلمات المؤلفة من حرفين صامتين، أي: الألفاظ الثنائية الأصل مثل أب وأم وأخ ويد، كانت أقدم من الأفعال المشتقة من ثلاثة أحرف مثل فعل، صنع، أكل، ذهب، وأن الأفعال الثلاثية أقدم من الأفعال الرباعية. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الأفعال الرباعية المؤلفة من أربعة أحرف كانت مؤلفة في الأصل من حرفين اثنين، ثم تطورت بالاستعمال في خلال العصور الطويلة حتى صارت رباعية الأصل2.
وفي العبرانية صيغتان للفعل الماضي: الصيغة المألوفة للماضي، وصيغة ثانية مشتقة من المضارع مع إضافة واو العطف، وهي صيغة قديمة جدًّا. وهي موجودة في البابلية القديمة وفي الكنعانية العتيقة.
ولعلها كانت صلة بين المضارع وبين الماضي.
وليس لهذه الصيغة وجود في العربية الشمالية وفي العربية الجنوبية والحبشية وفي لغة بني إرم3.
ويلاحظ أن العبرانية تشارك اللهجات العربية الجنوبية في أمور عديدة غير معروفة في عربية القرآن الكريم، كما توجد أوجه شبه بين ألفاظ حبشية وعبرانية4.
وللدلالة على الجمع استعملت العبرانية حرفا "يم" للمذكر، و"واو وتاء" للمؤنث. أما الآرامية، فاستعملت حرفا "ين" علامة للجمع، وأما العربية فاستعملت "الواو والنون" للجمع المذكر السالم، و"الألف والتاء" في الجمع المؤنث السالم، وهناك جموع تكسير كثيرة كثرة لا نكاد نرى لها مثيلًا في اللغات السامية الأخرى5. وذلك بسبب أن هذه الجموع هي في الواقع جموع وردت في لهجات عربية متعددة، وردت سماعًا، فلما جمعها علماء العربية ودونوها
__________
1 المصدر السابق "ص16".
2 ولفنسون، السامية "17".
3 ولفنسون، السامية "16".
4 ولفنسون، السامية "19".
5 ولفنسونن السامية "19".(16/167)
في كتب اللغة والمعاجم، لم يشيروا إلى أسماء من كان ينطق بها، فظن أنها جموع استعملت في هذه العربية التي نزل بها الوحي.
ومن أهم الاختلافات التي نراها بين اللغات السامية. اختلافها في التعريف.
فبينما نرى بعض اللغات كالآشورية والبابلية والحبشية لا أداة للتعريف فيها، نرى العبرانية وبعض اللهجات العربية مثل الثمودية واللحيانية تستعمل حرف الـ"هـ" أداة له، تضعه في أول الكلمة، وبينما نرى السبئية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى تستعمل أداة أخرى للتعريف هي حرف "النون"، تضعها في آخر الكلمة المراد تعريفها، نجد العربية الفصحى تستعمل "ال" أداة للتعريف، تضعها في أول الكلمة. وتشارك السريانية العربيات الجنوبية في مكان أداة التعريف، فمكانها عندها في نهاية الكلمة أيضًا، غير أنها تختلف عنها في استعمالها أداة أخرى هي حرف الـ "هـ" أو الواو.
وقد درس بعض المستشرقين أوزان الأسماء في اللغات السامية، كما درسوا اشتقاقها وأصولها التي أخذت منها، وبحثوا في حالات التصغير أي في الأسماء المصغرة وطرق التصغير عن جميع الساميين، والأسماء البسيطة والأسماء المركبة، ليستخرجوا منها قواعد قدماء الساميين في كيفية تكوين الأسماء، ولا سيما تلك الأسماء التي ترد في جميع اللغات السامية. ففي اللغات السامية أسماء مشتركة ترد في كل اللغات، منها ما هو بسيط مؤلف من كلمة واحدة، ومنها ما هو مركب، أي: أسماء مؤلفة من أكثر من كلمة بطريقة الإضافة. ودراسة هذه الأسماء بأنواعها، تفيدنا كثيرًا في الوقوف على العقلية السامية وعلى الخواص المشتركة التي كانت تربط بين الساميين.
ونجد الإعراب في اللغة العربية الفصحى، ويذهب العلماء إلى أن الإعراب كان موجودًا في جميع اللغات السامية، ثم خف حتى زال من أكثر من تلك اللغات.
ونرى له أثرًا يدل عليه في العبرانية في حالتي المفعول به وفي ضمير التبعية، وفي السريانية والبابلية في ضمير التبعية، فإن هاتين الحالتين تدلان على وجود الإعراب في أصولها القديمة1.
__________
1 ولفنسون، السامية "ص15".(16/168)
ونجد العربية ذات حروف يزيد عددها على حروف اللغات السامية الأخرى.
ولعلّ اللغات الأخرى كانت تملك حروفًا أخرى، ثم قلّ استعمالها فزالت من أبجديتها، ولم تبق لها حاجة بها. فالعبرانية لا تمتلك الحروف: "ذ"، و"ع"، و"ظ"، و"ض". والبابلية لا تمتلك أيضًا الحروف: العين والحاء والغين والهاء وهي من أحرف الحلق، ولا الأحرف: الطاء والظاء والصاد، وهي من أحرف التضخيم والتفخيم، ولا القاف. ونجد يهود السامرة لا يستعملون حرف السين1. وهناك أمثلة أخرى تثبت حدوث تطور في عدد الحروف في اللغات السامية، مما سبب حدوث اختلاف في عددها، ولهذا حدث هذا الاختلاف الذي نراه ونلاحظه بين أبجديات تلك اللغات.
ونجد العربية الجنوبية تمتلك حروفًا لا تمتلكها العربية الفصحى، وذلك بسبب اختلاف طبيعتي اللهجتين.
ولا بد أن تكون هنالك عوامل عديدة دعت إلى حدوث تغيير في عدد الحروف في لغات الساميين. وقد عزا بعض الباحثين سقوط الأحرف التي ذكرتها من الكتابة البابلية إلى استعمال البابليين للكتابة المسمارية2. غير أن هذا رأي يجب أن يدرس بعناية، وأن يكون مبنيًّا على دراسات عديدة أصيلة، ليكون في الإمكان تكوين رأي صحيح في هذا الموضوع.
واللغة العربية اليوم، هي من أعظم اللغات السامية الباقية، بكثرة من يتكلم ويكتب بها، وبكثرة ما ألف ودون بها. وهي تستعمل اليوم قلمًا اشتق من قلم سامي شمالي، وكان لها في الماضي قلم قديم كان مستعملًا عند العرب من أيام ما قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام، مات بسبب اتخاذ الإسلام القلم الجزم قلمًا للوحي، دون به القرآن الكريم، فصار بذلك القلم الشرعي الرسمي، وأمات بذلك الأقلام الجاهلية الأخرى المشتقة من القلم "المسند". ونجد في المعاجم اللغوية مئات الألوف من الألفاظ المعبرة عن معان، وقد قدر بعض العلماء عدد ألفاظ العربية بنحو من "12305052" كلمة3. ويعود سبب غناها في الألفاظ إلى
__________
1 ولفنسون، السامية "19 وما بعدها، 39".
2 ولفنسون، السامية "39".
3 The Bible Dictionary, Vol. I, P. 101(16/169)
كثرة وجود المترادفات فيها، التي هي من بقايا لغات قبائل، وإلى خاصية جذور الكلم فيها في توليد الألفاظ الجديدة بتحريك هذه الجذور.
وهناك لهجات تستحق الدراسة، فهي من اللهجات السامية المتفرعة عن لهجات قديمة، وهي لهجات منبوذة لم يحفل بها علماء اللغة، مثل اللهجة "الأمهرية" واللهجة "الهررية" لغة أهل "هرر". وهي من بقايا لهجات لم يعتن بها العلماء إلا منذ احتكاك الغربيين بالمتكلمين بها. ومع ذلك فلا تزال البحوث العلمية عنها قليلة.(16/170)
الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة
مدخل
...
الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة
رأى علماء العربية أن العربية قديمة، وهي في نظرهم أقدم من العرب أنفسهم، فلما كان آدم في الجنة كان لسانه العربية، ولما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه وعلى بعض أحفاده العربية. ونظرية أن اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة كان عربيًّا، فلما بعد العهد وطال، حرف وصار سريانيًّا، وكان يشاكل اللسان العربي، إلا أنه محرف، وهو كان لسان جميع من في سفينة نوح إلا رجلًا واحدًا يقال له: جرهم، فكان لسانه لسان العرب الأول، فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته، فمنهم صار اللسان العربي في ولد عَوْص أبي عاد وعبيل، وجاثر أبي ثمود وجديس، وسميت عاد باسم جرهم؛ لأنه كان جدهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشذ بن سام، إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل، فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي1.
وقد تحدث "المعري" على لسان "آدم" في موضوع لسانه، وما روى من شعر نسب إليه، فجعله يقول: "أبيتم إلا عقوقًا وأذية، إنما كنتُ أتكلم
__________
1 "عن ابن عباس، أن آدم عليه السلام، كان لغته في الجنة العربية، فلما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه العربية" المزهر "1/ 30".(16/171)
بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نقل لساني إلى السريانية، فم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله -سبحانه وتعالى- إلى الجنة، عادت على العربية فأي حين نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ "1.
وذلك ردًّا على من زعم أن آدم كان يعرف الشعر العربي، وقد نظم شعره بالعربية، ورووا له شعرًا زعموا أنه قاله لتأييد صحة دعواهم.
وقد ذهب قوم من العلماء إلى أن لغة العرب، هي أول اللغات، وكل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفًا أو اصطلاحًا، واستدلوا بأن القرآن كلام الله هو عربيّ، وهو دليل على أن لغة العرب أسبق اللغات2.
ومنهم من قال: لغة العرب نوعان:
أحدهما: عربية حمير، وهي التي تكلموا بها من عهد هود ومن قبله، وكانت قبل إسماعيل.
والثانية: العربية المحضة التي نزل بها القرآن، وأول من أنطق لسانه بها إسماعيل، على هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحضة يحتمل أمرين:
إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة، وإما أن يكون توقيفًا من الله3.
والعربية المحضة هي العربية الخالصة، وهي العربية الأصيلة عربية إسماعيل، وقد نعتت بالعربية المتينة. قالوا: أول من فتق لسانه بالعربية المتينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة4. روي "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلا: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} ، ثم قال: "ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهامًا" 5. والعربية التي تكلم بها "إسماعيل" والتي نزل بها القرآن وما تكلمت به العرب على عهد النبي، تختلف عن عربية حمير وبقايا جرهم6، وذكر أن "عمر بن الخطاب"،
__________
1 رسالة الغفران "361 وما بعدها".
2 المزهر "1/ 28".
3 المزهر "1/ 28".
4 المزهر "1/ 34".
5 المزهر "1/ 33".
6 المزهر "1/ 33".(16/172)
قال للرسول: يا رسول الله؛ مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال رسول الله: "كانت لغة بني إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها، فحفظتها" 1.
والعربية بعد، في اصطلاح أئمة العربية: العربية المتينة. أما عربية أهل اليمن: عربية أبناء قحطان فعربية أخرى. وعلى هذا فنحن أمام عربيتين: عربية قحطانية، وعربية عدنانية إسماعيلية. وبالعربية المتينة تكلم عرب الحيرة، كما يظهر ذلك من خبر دونه "الجاحظ" في كتابه "البيان والتبيين"، والطبري في تأريخه، فقد ذكر "الجاحظ" أن "خالد بن الوليد" سأل "عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة": "أعرب أنتم أم نبط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبط استعربنا. قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: سلم"2، أو أنه قال لهم: "ويحكم! ماأنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية"3. فلسان أهل الحيرة عربي، ليس لهم لسان سواه. بها كانوا ينظمون الشعر وبها كتبوا. فهذه العربية هي عربية الحيرة وعرب العراق.
وساير كثير من المستشرقين علماء العربية في تقسيم اللهجات العربية إلى عربيتين: عربية جنوبية، هي العربية القحطانية. وعربية شمالية، هي عربية القبائل العدنانية.
ولكل مجموعة لهجات محلية، لم تكن تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا، وتتباين بونًا شاسعًا، وإنما اختلفت في أمور بسيطة من الفروق اللسانية، بحيث لا نستطيع أن نضعها في مجاميع لغوية جديدة4.
ومن الكتابات الجاهلية التي يعود عهد بعض منها إلى ما قبل الميلاد، حصل الباحثون على علمهم بلغة العرب الجنوبيين وبحضارتهم، وقد تبين لهم منها أن تلك الكتابات تمثل لغة متطورة ذات قواعد نحوية وصرفية، وأنها كانت لغة التدوين
__________
1 المزهر "1/ 35".
2 البيان والتبيين "2/ 148"، أمالي المرتضى "1/ 261".
3 الطبري "3/ 361 وما بعدها".
4 Ignace Goldziher, History of Classical Arabic Literature, p. 2, 1966.(16/173)
عندهم، وقد استعملت مصطلحات فنية تدل على وجود حضارة لدى الكاتبين بها، وقد دام التدوين بها إلى ظهور الإسلام1.
أما علمنا بقواعد نحو وصرف اللغة العربية الشمالية، التي نسميها اللغة الفصحى، فمستمد من الموارد الإسلامية فقط، لعدم ورود نصوص جاهلية مدوّنة بها. ولهذا اقتصر علمنا بها على ما جاء عنها في الموارد الإسلامية ليس غير. أما النصوص المعدودة القصيرة، التي تبدأ بنص النمارة، وتنتهي بكتابة "حران اللجا" التي يعود عهدها إلى سنة "463" من سقوط "خبر" "خيبر"، المقابلة لسنة "568" للميلاد، فإنها وإن كانت قد كتبت بعربية قريبة من العربية المحضة، إلا أنها تمثل في الواقع لهجة من اللهجات العربية الشمالية، متأثرة بالإرمية "النبطية" ولذلك لا أستطيع اعتبارها نصوصًا من نصوص العربية الفصحى الخالصة، ثم إنها قصيرة أطولها نص النمارة، المدون بخمسة سطور فقط. ويعود عهده إلى سنة "328" للميلاد. ولهذا لم نتمكن من استنباط شيء مهم منها، يفيدنا في تعيين صرف ونحو العربية الفصحى، أو هذه العربية التي دونت بها. ولهذه الأسباب علمنا اليوم بقواعد وبنحو كتابات المسند، والكتابات الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية، مستمد من موارد هي أقدم جدًّا من الموارد الإسلامية، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. ووثائق هذه العربيات جاهلية أصيلة، لا يشك أحد في أصالتها، أما العربية الفصحى فنصها الوحيد، الذي لا يشك أحد في أصالته هو القرآن الكريم، فلا نص بها قبله، وهو أطول نص ورد إلينا بهذه العربية وبسائر العربيات الأخرى بغير استثناء.
هذا وقد سبق لي أن تحدثت في الفصل الأول من هذا الكتاب عن تحديد لفظة العرب، وعن معانيها، وعن ورودها في مواضع من القرآن، مثل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 2. وفيه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3. وفيه: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ
__________
1 Ignace Goldziher, History of Classical Arabic Literature, p. 2.
2 النحل، الرقم 16، الآية 103.
3 الشعراء، الرقم 26، الآية 193 وما بعدها.(16/174)
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} 1. وفيه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2. و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 3. و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} 4. و {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 5.
و {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 6. و {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 7. و {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 8. و {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 9.
فاللسان الذي نزل به القرآن، هو اللسان العربي "الفصيح الكامل الشامل ليكون بينًا واضحًا ظاهرًا قاطعًا للعذر مقيمًا للحجة دليلًا إلى المحجة"10. وقد نزل "محكمًا معربًا"11. وذلك تمييزًا لهذا اللسان عن ألسنة الأمم الأخرى التي نسبت إلى العجمة، فصارت ألسنتها ألسنة أعجمية12.
فاللغة العربية إذن، هي لغة "العرب"، وبهم سميت وعرفت فأخذت تسميتها من اسمهم. وقد عرفنا أن المدلول الأول للفظة "العرب" هو البداوة والأعرابية، ثم توسع في مدلولها، حتى شمل كل سكنة جزيرة العرب من بدو وحضر، فأهل المدر عرب، وأهل الوبر عرب كذلك، وعرف أهل البوادي بالأعراب، تمييزًا لهم عن أهل القرى، أي: الحضر، وصارت اللفظة سمة خاصة بهم. أما لسانهم ولسان الحضر، فهو اللسان العربي وكفى.
ووسمت هذه العربية بسمة أخرى، صارت ترادفها حتى اليوم، هي "العربية الفصحى" و"اللغة الفصحى"، يريدون بها هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.
__________
1 فصلت، الرقم41، الآية44.
2 يوسف، الرقم12، الآية2.
3 الرعد، الرقم13، الآية37.
4 طه، الرقم20، الآية113.
5 الزمر، الرقم39، الآية28.
6 فصلت، الرقم41، الآية3.
7 الشورى، الرقم42، الآية7.
9 الأحقاف، الرقم46، الآية12.
10 تفسير ابن كثير "3/ 347"، "تفسير سورة الشعراء".
11 تفسير ابن كثير "2/ 518"، "تفسير سورة الرعد".
12 الجزء الأول "ص13 وما بعدها" من هذا الكتاب، والجزء الأول من كتابي القديم: تاريخ العرب قبل الإسلام.(16/175)
تمييزًا لها عن بقية اللغات واللهجات. والفصح والفصاحة البيان1. وبما أن اللغة العربية بينة بليغة قيل لها ذلك. وهي في معنى {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، أي: لسان عربي فصيح أو بين. وبذلك لا ينصرف الذهن إلى لغات العوام ولا إلى لهجات القبائل في الجاهلية أو لغات أهل العربية الجنوبية، لأنها لا تتصف بصفة الفصاحة في نظر علماء اللغة.
واللغة العربية التي نكتب بها، لغة واسعة، ما في سعتها من شك: ألفاظها كثيرة، حتى لتجد فيها مئات وعشرات من المسميات وضعت كلها لمسمى واحد على ما يذكره أهل اللغة. فللأسد وللفرس وللجمل وللسيف وما يتعلق بها ألفاظ كثيرة، تجدها في كتب اللغة والمعجمات. ونحن لا نريد الشك في ذلك، ولكننا إذا أردنا أن نبحث بأسلوب علمي حديث مستند إلى لهجات القبائل، وإلى ما ورد في النصوص الجاهلية، فإننا سنضطر إلى القول بأن هذه الكثرة من الألفاظ ليست مسميات لشيء واحد في لغة واحدة، هي لغة القرآن الكريم، وإنما هي مسميات لذلك الشيء في لهجات عربية أخرى، جمعها علماء اللغة في الإسلام من أفواه أناس ينتمون إلى قبائل متعددة، أشاروا إلى أسماء القبائل التي تكلمت بها أحيانًا، ولم يشيروا إليها في أغلب الأحيان. فذهبت بين الناس على أنها مسميات لمسمى واحد في لغة واحدة، هي هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أي: أنهم جعلوها من الألفاظ المترادفة.
ولم تعين الموارد الأعجمية شكل اللغة العربية، ولم تنص على لسان واحد من ألسنة العرب، على أنه اللسان العربي الفصيح العام الذي كان يتكلم به كل العرب.
ولم يعين القرآن هوية اللسان العربي، ولم يخصصه بلسان معين من ألسنة العرب المتعددة، وإنما جاءت التسمية فيه عامة شاملة، لا تخص لسانًا واحدًا، ولا لغة معينة محددة. قال المفسرون في تفسير الآية: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، "فأنزلنا هذا القرآن عربيًّا إذ كانوا عربًا"2، وقالوا في تفسير الآية: {وكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} ، "كذلك أيضًا أنزلنا الحكم والدين حكمًا عربيًا" وجعل ذلك عربيًّا ووصفه به لأنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي
__________
1 تاج العروس "2/ 197"، "فصح".
2 تفسير الطبري "16/ 159".(16/176)
فنسب الدين إليه، إذ كان عليه نزل فكذب به الأحزاب"1، وقالوا في تفسير الآية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} : "يقول تعالى ذكره وهكذا أوحينا إليك يا محمد، قرآنًا عربيًّا بلسان العرب؛ لأن الذين أرسلتك إليهم قوم عرب فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره لأنا لا نرسل رسولًا إلا بلسان قومه ليبين لهم، لتنذر أم القرى وهي مكة وما حولها"2.
وقال "الطبري" في مقدمة تفسيره "فإن كان ذلك كذلك، وكان غير مبين منّا عن نفسه من خاطب غيره مما لا يفهمه عنه المخاطب، كان معلومًا أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدًا من خلقه إلا ما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولًا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئًا كان به قبل ذلك جاهلًا. والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابًا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث والله تعالى عن ذلك متعال. ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . فغير جائز أن يكون به مهتديًا من كان بما يهدي إليه جاهلًا. فقد تبين إذن بما عليه دللنا من الدلالة أن كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه، وكل كتاب أنزله على نبي ورسالة أرسلها إلى أمة فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه. واتضح بما قلنا ووصفنا أن كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربيًّا، فبين أن القرآن عربي. وبذلك نطق محكم تنزيل، فقال جل ذكره: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
__________
1 تفسير الطبري "13/ 110".
2 تفسر الطبري "25/ 6 وما بعدها".(16/177)
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1.
وقد تعرض علماء العربية لمعنى "العجم" والعرب، فقالوا: "العجم" خلاف العرب، والأعجم من لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب، ومن في لسانه عجمة وإن أفصح بالعربية، "وفي التنزيل: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} 2". وكل من لم يفصح بشيء فقد أعجمه، وأعجم الكتاب خلاف أعربه، أي: نقطه بالنقط، وورد في شعر قيل هو لرؤبة ويقال للحطيئة:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
ومنه:
والشعر لا يطيعه من يظلمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
أي: يأتي به أعجميًّا، يعني: يلحن فيه، وقيل: يريد أن يبينه فيجعله مشكلًا لا بيان له3.
وقالوا: العرب خلاف العجم، ورجل معرب، إذا كان فصيحًا وإن كان عجمي النسب. والإعراب الإبانة والإفصاح عن الشيء. وأن يعرب بن قحطان هو أول من تكلم بالعربية، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، وبه سمي العرب عربًا. وقيل: "إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلا {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} ثم قال: "ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهامًا"، وقيل: إن يعرب أول من نطق بمنطق العربية، وإسماعيل هو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن4. إلى غير ذلك من أقوال تحاول ربط لفظة "العرب" بالإعراب والإفصاح والإبانة، وربط العربية -أي: لسان العرب- بقحطان، وبإسماعيل، ووراء كل هذه الأقوال المصطنعة عصبية تتحزب لقحطانية
__________
1 تفسير الطبري "1/ 5 وما بعدها".
2 الشعراء، الرقم26، الآية198، تفسير الطبري "19/ 69 وما بعدها".
3 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".
4 تاج العروس "1/ 376"، "عرب".(16/178)
أو لعدنانية، التي هي اصطنعت هذه الأقوال في الإسلام، وحذلقة مصطنعة باردة استغلت المجانسة اللفظية بين عرب ويعرب وأعرب، لإيجاد صلة بين معاني هذه الألفاظ وفي جذورها.
وتشمل لفظة "العجم" كل من ليس بعربي، وهي في مقابل لفظة: "Barbarian" في اللغة الانكليزية المأخوذة من أصل يوناني، وهي لا تعني المتوحشين وإنما "أعاجم" و"غرباء" بتعبير أصح، الذين كانوا لا يحسنون التكلم بلغة المهذبين، بل كانوا يرطنون في كلامهم، ويتكلمون بلهجات رديئة، ثم أطلقها الليونان على كل من لا يحسن التكلم باليونانية وعلى كل من يتكلم بلغة غير يونانية.
ولما دخل اليونان في حكم الرومان، صارت الكلمة تطلق على كل الشعوب الأخرى التي لا تتكلم باليونانية، أو اللاتينية1. ولا أستبعد احتمال مجيء هذه النظرية عند العرب من اليونان، وإن كان اليونان، لم ينفردوا بها وحدهم، فقد كانت الشعوب القديمة تعرف مثل هذه المصطلحات، ومصطلح: "كوييم" "Goim" العبري، الذي يعني "Gentile" في الانكليزية، وغرباء، وشعوب، ومشركين عبدة أصنام2، يعبر عن هذه النظرة. فكل الشعوب باستثناء "العبرانيين" هم "كوبيم"، والعبرانيون هم المتكلمون بالعبرانية، وغيرهم هم الذين لا يتكلمون بها.
ولفظة "العجم"، وإن كانت لفظة عامة، قصد بها كل من هو ليس بعربي، لكنها أطلقت في الغالب على الفرس واليونان، وهم أرقى الشعوب التي احتك بها العرب في ذلك الوقت. وأطلقت على الفرس بصورة خاصة، لما كان للساسانيين من اتصال خاص بالعرب قبيل الإسلام. أما سكان إفريقية، فلم تطلق عليهم هذه اللفظة إلى قليلًا؛ لأن العرب لم ينظروا إليهم نظرة احترام؛ ولهذا عرفوا عندهم بالعبيد، وبالحبش، وبالسودان. وقد نعتوا بالطمطمانية، فورد "طمطم حبشيون"، بالنظر إلى لغتهم، وعدم تمكنهم من الإفصاح بالعربية.
وقد ورد في معلقة "عنترة": "أعظم طمطم"، في هذا البيت:
تأوى له قلص النعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم3
__________
1 Hastings, P. 84
2 Hastings, p. 303
3 البيت الـ "25" من المعلقة.(16/179)
ومن القرآن واللغة استنبط علماء اللغة قولهم في أن العربية من الإبانة والإفصاح، وأنها إنما دعيت بذلك لأن "يعرب بن قحطان" كان أول من أعرب بلسانه فنسب هذا اللسان إليه. فقد رأينا أن الآيات المتقدمة التي أشرت إليها، ذكت أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وقد جعلته في مقابل اللسان الأعجمي، فاستنتجوا منها أن العربية بمعنى الإفصاح والإبانة، وأن التسمية إنما جاءت من هذا القبيل، مع أن الوصف راجع للغة القرآن، لا للعربية نفسها، ثم وجدوا أن الإعراب في اللغة بمعنى الإفصاح والإبانة، فربطوا بين هذه اللفظة وبين لفظة "العرب"، وقالوا: إن "عرب" بمعنى فصح، وأن "العرب" من هذا الأصل، مع أنهم يذكرون أيضًا أن تعرب معناها أقام بالبادية، وأن تعرب واستعرب، بمعنى رجع إلى البادية بعد ما كان مقيمًا بالحضر فلحق بالأعراب. وأن تعرب بمعنى تشبه بالعرب وتعرب بعد هجرته، أي: صار أعرابيًّا، وأن في الحديث: ثلاث من الكبائر، منها التعرب بعد الهجرة، وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب، بعد أن كان مهاجرًا، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد1، ومعنى هذا أن صلتها بالأعرابية وبـ"العرب" بمعنى البدو أهل البادية، أقرب إلى المنطق والمعقول من صلتها بالإبانة والفصاحة، أي: الإعراب. وقد سبق أن ذكرت أن معنى اللفظة في النصوص الأشورية وفي كتب اليونان واللاتين والعبرانيين والسريان، وفي المسند، هو "البداوة" والأعرابية لا غير، ثم أطلقت على جمع سكنة جزيرة العرب، لغلبة الحياة الأعرابية عليها حتى صارت لفظة "العربية" بمعنى بلاد العرب، تدخل فيها مواطن أهل المدر وأهل الوبر، وصارت لفظة "العرب" علمًا على جنس وقوم.
وإذا أخذنا بهذا التفسير التأريخي المستمد من النصوص، لزم علينا القول إن العربية من "عرب" "العرب"، أهل العربية، وهم "الأعراب"، وقد أطلقت على ألسنتهم جميعًا من غير تمييز، فكل لهجات العرب: لهجات بدو أو لهجات حضر، هي لهجات عربية، لأنهم عرب ومن سكنة بلاد العرب، ولهذا عرفت "جزيرة العرب" كلها "بالعربية" في كتب اليونان واللاتين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، لا نستثني منها لهجة من اللهجات، مهما كان قربها أو بعدها من العربية التي نزل بها الوحي.
__________
1 تاج العروس "1/ 377"، "عرب".(16/180)
فما ذكره علماء اللغة من تخريج في وجه تسمية العرب بهذا الاسم، من اشتقاق اللفظة من "عربة" التي قالوا: إنها باحة العرب، أو من "يعرب"، أو من أعراب لسانهم، أي: إيضاحه وبيانه، لأنه أوضح الألسنة وأعربها عن المراد بوجوه من الاختصار، أو بما شاكل ذلك، هو كله تخريج متكلف، يمثل تخبطهم فيه، كتخبطهم في تفسير الأسماء التي لم يعرفوا من أصلها شيئًا، فوضعوا لها تخريجات أوجدوها لإظهار علمهم بها، ووقوفهم عليها، وعلى كل شيء قديم1.
وفي العربية الحالية: الإعراب. وهو تغير أواخر الكلمات بتغير العوامل الداخلة عليها بالرفع والنصب والجر والسكون. احتفظت العربية به على حين فقدته معظم اللغات السامية، باستثناء البابلية القديمة2. ويظهر من القرآن ومن الشعر الجاهلي، أن الإعراب كان من سمة هذه اللغة التي نزل بها الوحي.
ويرى بعض المستشرقين أن الإعراب كان موجودًا في جميع اللغات السامية، ثم خف حتى زال من أكثر تلك اللغات. ونرى له أثرًا يدل عليه في العبرانية في حالتي المفعول به وفي ضمير التبعية، وفي السريانية والبابلية في ضمير التبعية، فإن هاتين الحالتين تدلان على وجود الإعراب في أصولها القديمة3.
ولعلماء العربية بحوث مستفيضة في "الإعراب"4، كما أن للمستشرقين بحوثًا فيه. وقد ذهب بعض منهم إلى أن بعض اللهجات العربية القديمة، مثل لهجة قريش لم تكن معربة، أو أنها لم تكن على هذا النحو من الإعراب الذي ثبته وضبطه علماء العربية في الإسلام، حتى ذهب "كار فولرس" إلى أن القرآن لم يكن معربًا في أول أمر نزوله، لأنه نزل بلسان قريش، وهو لسان غير معرب، وإنما أعرب حين وضع علماء اللغة والنحو قواعد العربية على وفق لغة.
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 43".
2 العربية، ليوهان فك "ص3"، السيوطي، الأشباه والنظائر "1/ 72 وما بعدها"، الخصائص "1/ 34"، السيوطي، الحاوي للفتاوى، "2/ 269 وما بعدها".
3 تأريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي "7/ 31".
4 راجع الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون "1/ 121"، حيث تقف على أسماء بعض المؤلفات التي ألفت في إعراب القرآن.(16/181)
الأعراب المعربة، التي أخذوها من تتبعهم الشعر الجاهلي وكلام الأعراب1.
وقد لمس "كاله" هذا الموضوع كذلك، وتطرق إلى ما ورد في الرواية من أخبار تحث المسلم على وجوب مراعاة قواعد الإعراب عند قراءته القرآن.
فاستنتج منها أن كتاب الله لم يكن عند نزوله معربًا، فلما جعل الإعراب من سمات العربية، أعرب وفقًا لقواعده. وساق دليلًا على رأيه من آراء بهذا الموضوع للفراء "207هـ". وهو يرى أن علماء العربية استنبطوا قواعد الإعراب من الشعر ومن لغات الأعراب، ثم ضبطوا بها النص القرآني بموجبها، وبذلك سعوا لخدمة القرآن2.
وقد خالف "كابر" "R. Geyer" و"نولدكه" "Th. Noldeke" رأي "فولرس"، وذهبا إلى أن ما ذهب إليه من أن القرآن لم يكن معربًا، ثم أعرب، رأي لا يؤيده دليل، لا من حديث ولا من خبر أو لغة، وذهبا إلى احتمال حدوث اختلاف في القراءات، بسبب كون الحروف صامتة، فلما كان الرسول يتلو القرآن، وكان الصحابة يدونونه بحروف صامة، لا حركات فيها ولا علامات تميز الحروف المتشابهة بعضها من بعض، وقع اختلاف في التلفظ بسبب عدم وجود الحركات، ووقع اللحن من بعضهم في القراءة، ولكن القرآن معرب، وآية ذلك وجود آيات عديدة لا يمكن فهم معانيها إلا بقراءتها معربة3.
ففي القرآن آيات لا تترك مجالًا للشك في أنه نزل معربًا، ففي آية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4، وفي آية {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 5، وآية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} 6، وآية {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} 7، وغيرها، براهين واضحة تفيد أن موقع الكلم فيها كان معربًا، وأن هذا التركيب الذي تختلف معانيه باختلاف تحريك أواخر كلمه، لا بد وأن يكون كلامًا معربًا
__________
1 K. Vollers, Volkssprache und Schriftsschprache in Alten Arbien Srtassburg, 1906, Shorter Ency, p. 276.
2 يوهان فك، العربية "5 حاشية".
3 Shorter Ency., P. 267
4 سورة فاطر، الآية 28
5 التوبة، الآية3.
6 البقرة، الآية124.
7 النساء، الآية8.(16/182)
في أصله، وليس من التراكيب التي أصلحت فيما بعد وفقًا لقواعد الإعراب1.
وروي أن أعرابيًّا سمع إمامًا يقرأ: "وَلا "تَنْكِحُوا" الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا"، بفتح تنكحوا، فقال: سبحان الله هذا قبل الإسلام قبيح فكيف بعده! فقيل له: إنه لحن والقراءة: {وَلا تُنْكِحُوا} ، فقال: قبحه الله، لا تجعلوه بعدها إمامًا، فإنه يحل ما حرم الله2.
والعربية المحضة، هي عربية معربة، فيها كل خصائص الإعراب، غير أن الإعراب يتباين فيها بعض التباين بحسب تباين اللهجات، نقول ذلك استنادًا إلى ما ضبطه علماء اللغة من وجوه الاختلاف بين لغات العرب. ونرى أثر الأعراب في النص المعروف بنص "حران" لصاحبه "شرحيل بن ظلمو" "شراحيل بن ظالم"، ففي جملة "بنيت ذا المرطول" الواردة فيه، والمكتوبة بصيغة المفعولية بنصب لفظة "ذا" لوقوع الفعل عليها، دلالة على وجوب الإعراب في لغة هذا النص. أما جملة "أنا شرحيل بر ظلمو"، فقد دونت وفقًا لقواعد النبطية لا العربية الفصيحة، مما يدل على تأثير الكاتب باللهجة النبطية.
أما بالنسبة إلى عربية المسند، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن وجود من يتكلم بها على نحو ما كانت في الجاهلية من الصفاء والأصالة، ولأن المسند لا يستعمل الحركات في الكتابة ولا أية علامة تدل على تغير أواخر الكلمات، فلا ندري كيف كانوا يحركون أواخر الكلم، وعلى معرفة هذه الحركات يتوقف بالطبع معرفة وجود الإعراب من عدم وجوده في لهجة من اللهجات.
وأما بالنسبة إلى النبطية، وهي لهجة عربية شمالية، أقرب إلى العربية الفصحى من العربيات الجنوبية، فقد ذهب الباحثون في قواعدها، إلى أن أواخر الكلمات فيها، تتغير فيها بحسب مواقعها من الإعراب، حتى ذهب بعضهم إلى وجود الحركات فيها، وهي الضمة في حالة الرفع، والفتحة في حالة النصب، والكسرة في حالة الجر، غير أنهم لم يكونوا يعقبون هذه الحركات بالنون.
والإعراب وإن سقط اليوم من لغاتنا الدارجة، ومن لهجات الأعراب، غير أن هنالك قبائل في جزيرة العرب، لا تزال تتكلم بلهجة عربية معربة، إعرابها
__________
1 يوهان فك، العربية "3 وما بعدها".
2 عيون الأخبار "2/ 160".(16/183)
موافق لإعراب هذه العربية الفصحى، ونحن نأسف لأن علماء العربية في هذا اليوم، لم يهتموا حتى الآن بدراسة لهجات هذه القبائل، ودراسة أصولها وأنسابها، ولم يعتنوا بوضع خريطة بمواضع القبائل موزعة على حسب لهجاتها وخصائص ألسنتها، في الماضي وفي الحاضر، مع أن في وضع هذه الخرائط أهمية كبيرة في تعيين لغات العرب، وفي كيفية تثبيت المناطق التي انتشرت فيها العربية الفصحى، والمناطق التي لا تزال تتحدث بها بطبيعتها، لا عن دراسة وتمرين.
والعربية لغة واسعة، "قال بعض الفقهاء: كلام العرب لا يحيط به إلا نبي"1. و"أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل، ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير"2. وفي كلام علماء اللغة هذا حق، فالألفاظ وهي مادة اللغة وسداها ولحمتها لا يمكن أن يساير عمرها عمر اللغة، فمنها ما يموت، لذهاب الحجة إليه، وقد تتبدل معاني الألفاظ وتتغير، إلى غير ذلك من أمور تطرأ على الألفاظ بحث عنها علماء اللغة، وهي لا تدخل في موضوعنا هذا، في هذا المكان.
هذا وليس من السهل على أحد التحدث في هذا الوقت عن مبدأ نشوء العربية الفصحى، وعن الأدوار التي مرت عليها حتى بلغت المرحلة التي وصلت إليها بتثبيتها في القرآن الكريم. وذلك بسبب عدم وجود نصوص جاهلية مدونة بهذه اللهجة؛ فالقرآن الكريم هو الذي ثبتها وعرفنا عليها، وبفضل كونه كتابًا مقدسًا أقبل العلماء على دراسة لغته، واضطروا على جمع قواعدها، فصارت لغتنا الفصحى، أما الشعر الجاهلي، فمع أنه أقدم عهدًا من القرآن، لكنه ثبت ودون بعده، إذ لم يصل إلينا حتى الآن أي أثر منه مدون تدوينًا جاهليًّا، ولهذا فالقرآن والشعر هما أقدم ما عندنا من نصوص بهذه العربية في النثر وفي النظم، ولولاهما لما كان في وسعنا الوقوف عليها.
ولعربيتنا بعد، في نظر علماء العربية خصائص ومميزات، ميزتها كما يقولون عن بقية اللغات منها: اتساعها من حيث المفردات، ومنها تخصصها دون غيرها
__________
1 المزهر "1/ 64"، الصاحبي "47".
2 المزهر "1/ 66".(16/184)
على حدّ قولهم بالإعراب، ومنها، تفردها بالمترادفات، وبالأضداد، أضف إلى كل ذلك اتساع حجم قواعد نحوها وصرفها. قال "ابن فارس": "فلما خص –جل ثناؤه- اللسان العربي بالبيان عُلم أن سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة دونه. فإن قال قائل: فقد يقع البيان بغير اللسان العربي، لأن كل من أفهم بكلامه على شرط لغته فقد بين، قيل له: إن كنت تريد أن المتكلم بغير اللغة العربية قد يعرب عن نفسه حتى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قد يدل بإشارات وحركات له على أكثر مراده، ثم لا يسمى متكلمًا، فضلًا عن أن يسمى بينًا أو بليغًا.
وإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة اللغة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا إلى أن نعبر عن السيف وأوصافه بالفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرة، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسماة بالأسماء المترادفة. فأين هذا من ذاك؟ وأين لسائر اللغات من السعة ما للغة العرب؟ "1.
__________
1 الصاحبي "40 وما بعدها".(16/185)
المترادفات:
وفي العربية ألفاظ عديدة يراد بها معنى واحد، فللعسل "80" اسمًا، وللأسد "350"، وقيل: "500"، وقيل: "670"، وللحية "200"، وقيل: "500"، وللداهية "400"، وقيل: أربعة آلاف، وللحجر "70"، وللكلب "70"، وللسيف "30"، وقيل: "1000"، وللناقة "255"، وللبعير "1000"، وللشمس "52"، وللخمر "110"، وقيل: "200"، وللبئر "88"، وللماء "170" وغير ذلك، وخاصة ما يدخل في باب الصفة، وما يدخل في باب الميل الجنسي، فلا تكاد تتصفح مادة في معجم، حتى تصيب من مترادفاته لفظًا أو أكثر1.
ويقال لهذه الألفاظ التي تدل على شيء واحد: "المترادفات". والمترادف.
__________
1 الرافعي "1/ 193"، المزهر "1/ 407"، "جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحية مائتين" "حفظت للحجر سبعين اسما"، الصاحبي "44".(16/185)
أن تكون أسماء لشيء واحد، وهي مولدة ومشتقة من تراكب الأشياء1. وعرف بعض العلماء المترادف، بأنه الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد2.
ولعلماء اللغة كلام في المترادفات. منهم من يقول بالمترادفات، وبأن الألفاظ وإن اختلفت فإنها ترجع إلى معنى واحد، ومنهم من أنكر الترادف، وزعم أن كل ما يظن من المترادفات، فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات3، وإن في كل واحدة معنى منها معنى ليس في الأخرى4. ومن قال بالترادف، نظر إلى اتحاد دلالتها على الذات، ومن يمنع نظر إلى اختصاص بعضها بمزيد معنى، فهي تشبه المترادفة في الذات والمتباينة في الصفات. وجعل بعضهم هذا قسمًا آخر، سماه المتكافئة5.
والذين ينكرون الترادف، يقولون: إن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد إذا لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعًا من العبث تجل عنه هذه اللغة. ويرون أن كل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة، وأن كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه6.
وهم يعتبرون المترادفات أسماء تزيد معنى الصفة، ويختلفون بذلك عن غيرهم ممن أنكر الترادف، وقالوا: إن الموضوع للمعنى الأصلي اسمًا واحدًا والباقي صفات له لا أسماء، فأسماء السيف كلها أصلها السيف وسائرها صفات له، كالمهند، والصارم والعضب وغيرها7، ثم تنوسيت هذه الأحوال بالتدريج، وكادت تتجرد هذه الألفاظ من تلك الفروق والأوصاف بالاستعمال، وغلبت عليها الاسمية8.
ومذهب آخر يرى إثبات الترادف، لكنه يخصه بإقامة لفظ مقام لفظ آخر لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد. كما يقال أصلح الفاسد، ولمّ الشعث، ورتق
__________
1 تاج العروس "6/ 116"، "ردف".
2 المزهر "1/ 402".
3 المزهر "1/ 403".
4 المزهر "1/ 405".
5 المزهر "1/ 405".
6 الرافعي "1/ 190".
7 الرافعي "1/ 190".
8 محمد هاشم عطية، الأدب العربي "37".(16/186)
الفتق، وشَعَب الصدع، ونحوها. أما إطلاق الأسماء على المسمى الواحد، فيسمونه المتوارد: كالخمر، والعقار، والليث، والأسد.
ومنهم من أثبت الترادف مطلقًا بدون قيد ولا اعتبار، ولا تقسيم؛ وعليه أكثر اللغويين والنحاة1.
ومن أهم أسباب الترادف في العربية، أن العرب كانوا قبائل لها لهجات وألسنة مختلفة، فتباينت بتباين ألسنتها أسماء الأشياء. فالسكين لغة في المدية والمدية لغة في السكين عند دوس. وفي حديث أبي هريرة: "والله لم أكن سمعتها يومئذ"، وذلك حين قدم من دوس ولقي الرسول، وقد وقعت من يده السكين، فقال له: ناولني السكين، فلم يفهم ما المراد باللفظ، فكرر القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها فقيل له: نعم، فقال: أو تسمى عندكم السكين، والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ2. فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصًا وأن بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تخالف ما للقبيلة الأخرى، فقبيلة على الساحل وأخرى في جبل، وثالثة في بادية، وقد تأخذ قبيلة اسمًا من الأعاجم لشيء لم يعرف اسمه عندها فتعربه، فيكون اسمًا له، وقد تأخذ قبيلة اسمًا أو أسماء توجد في لسانها من لسان قبيلة أو ألسنة قبائل أخرى، فلما جمع علماء اللغة ألفاظ العربية ودونوها، ولم يفطنوا إلى أصلها ولا إلى القبائل التي استعملتها، ولا إلى تأريخها، لعدم وجود هذا النحو من البحث عندهم في ذلك الوقت، فدونت على أنها مترادفات، وهم في ذلك على صواب، ولكنهم كانوا على خطأ، من حيث أنهم لم يدركوا أنها كانت لغات قبائل، وأن جمعهم للألفاظ، وإهمالهم الإشارة على أسماء القبائل المتكلمة بها، جعلها مترادفات بالمعنى الذي ذهبوا هم إليه.
وبذلك اتسعت مادة مفردات المعجم العربي اتساعًا كبيرًا، وهو في حقيقته حاصل جمع لهجات، أخذ من اختلاف الألسنة ومن مختلف اللهجات، فضم كله إلى معجم العربية، وظهر على أنه مفردات هذه العربية، لعدم إفصاح علماء اللغة
__________
1 الرافعي "1/ 191".
2 تاج العروس "9/ 238"، "سكن"، الإصابة "4/ 200 وما بعدها"، "رقم 1190"، الاستيعاب "4/ 200 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، فجر الإسلام "52"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 214".(16/187)
عن أصل كل مترادف وعن اللسان الذي نطق به في الغالب، فعمي الأمر علينا، وصرنا نعتبر هذه الألفاظ التي تقصد مسمى واحد من المترادفات.
ويرى بعض علماء اللغة أن من أسباب وقوع الترادف أن الصفات قد تتحول بتفشي الاستعمال وبكثرة ورودها على الألسنة فتنزل هذه الصفات منزلة الحقائق العُرفية1. وقد تضخمت كتب اللغة كثيرًا بكلمات استعملها الشعراء وصفًا لأشياء، فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء، "فمثلا إذا أطلق شاعر كلمة الهَيْصم على الأسد من الهصم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر الهرّاس من الهرس، وهو الدق، وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما اسمان مرادفان للأسد"2.
ولا يعد ثراء لغة بكثرة مفردفاتها ومتردافاتها دليلًا على ثراء تلك اللغة، ولا أمارة على تقدمها من الناحية العقلية، فإن اللغة تستمد مادتها من جميع محصولات اللغة الخاصة بالحرف، والمهن، وبالحياة الروحية، كما تستمدها من جميع لهجات القبائل، وما نجده من كثرة مفردات ومترادفات في العربية، لا يعود إلى كون هذه العربية لغة قبيلة واحدة، أو عرب من العرب، وإنما بسبب كونه حاصل جمع لغات، جمعه العلماء من ألسنة متعددة فدونوه، فظهر الشيء الواحد وقد يكون له عشرة أسماء أو أكثر من ذلك أو أقل حسب كثرة أو ندرة استعماله بين العرب، فما كان مألوفًا عندهم، وكانوا في حاجة ماسة إليه، وكان استعمالهم له كثيرًا، وفوائده بالنسبة لهم عديدة، كثرت مسمياته، بل مسميات أجزائه كما كثرت عندهم صفاته، التي تتحول بمرور الزمن إلى أسماء، ولهذا نجد في العربية كثرة من الأسماء والألفاظ، هي في الأصل صفات ونعوت لخصائص أشياء3.
ومن أمثلة المترادفات في العربية: القمح، والبُر، والحنطة، قال علماء اللغة: القمح: البر، لغة شامية، "وأهل الحجاز قد تكلموا بها، وقد تكرر ذكره في الحديث. وقيل: لغة قبطية"4، والبر بالضم الحنطة، قال المتنخل الهذلي:
__________
1 المزهر "1/ 402 وما بعدها"، الرافعي "1/ 192".
2 فجر الإسلام "54".
3 بروكلمن "1/ 43".
4 تاج العروس "2/ 208"، "قمح".(16/188)
لا درّ دريّ إن أطعمت نازلكم ... قرف الحتى وعندي البر مكنوز
قال ابن دريد: "البُر أفصح من قولهم: الحنطة. واحدته بُرة"1، "والحنطة بالكسر البُر الحب المعروف"2. وهي في الواقع ألفاظ وردت في لغات، حين ضبطها علماء اللغة، فات عليهم أنها لم تكن مستعملة في كل لغات العرب، وإنما هي في لغات بعض منهم. فالقمح مثلًا، لفظة وردت في لغات عرب الشام والحجاز، لأنها من أصل آرامي، هو "قمحو"3، وقد كان أهل الحجاز في الجاهلية يستوردون القمح من بلاد الشام، فأبقوا التسمية الآرامية على حالها، بعد أن أجروا عليها بعض التعديل. وأما "الحنطة"، فنجد لها مقابلًا في العبرانية هو "Chittah" في العبرانية4، مما يدل على أن اللفظة كانت مستعملة في العربية الغربية. وأما لفظة "بُر"، فهي من الألفاظ التي وردت في نص "أبرهة"، فهي لغة يمانية وحجازية، وقد نص علماء اللغة على ورودها في لغة أهل الحجاز، وربما أخذوها من أهل اليمن، الذين عرفوا بزراعتهم للبر قبل الإسلام. ووردت لفظة "بُر" بمعنى حنطة في النص الموسوم بـ"Jamme 670" إذ ورد فيه: "برم وشعرم عدى ارضهمو"5، أي: "حنطة وشعير في أرضهم" "حنطة وشعير من أرضهم".
ومما يكثر في هذه العربية "المشترك"، وحده: اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة. ولعلماء اللغة بحوث فيه، فمنهم من يؤيد وقوعه ومنهم من ينكر. ومن المشترك: العم، فالعم أخو الأب، والعم: الجمع الكثير، ومشى، فمشى يمشي من المشي، ومشى إذا كثرت ماشيته، وللنوى مواضع، وللروبة والرؤبة معان، وللأرض معان، وللفظة الهلال معان، وللفظ العين معان كثيرة ومواضع عديدة، إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتب اللغة6.
__________
1 تاج العروس "3/ 38"، "برر".
2 تاج العروس "5/ 121"، "حنط".
3 غرائب اللغة "202".
4 راجع سفر التكوين، الإصحاح30، الآية14، سفر الخروج، الإصحاح34، الآية22، الأصل "العبري".
5 السطر 26 – 27 من النص.
6 المزهر "1/ 369"، "النوع الخامس والعشرون".(16/189)
وفي العربية: الأضداد. وهو أن يكون للكلمة معنى، ثم يكون لها معنى آخر مضاد له. وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه، مثل جلل للكبير والصغير، وللعظيم وللحقير. ومثل الجون، للأسود والأبيض. والقوي، للقوي والضعيف، والرجاء للرغبة والخوف. والبسل للحلال وللحرام. والناهل للعطشان، والناهل، الذي قد شرب حتى روي. والسدفة في لغة تميم: الظلمة، والسدفة في لغة قيس: الضوء واللمق: الكتابة في لغة بني عقيل، والمحو في سائر قيس.
والجادي: السائل، والمعطي. والرسُّ: الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضًا.
والشرى: رُذال المال، وأيضًا خياره. إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها علماء العربية1.
ولبعض علماء العربية قصة يضربونها مثلًا على الأضداد، فيقولون: "خرج رجل من بني كلاب، أو من سائر بني عامر بن صعصعة، إلى ذي جدن، فأطلع على سطح، والملك عليه، فلما رآه الملك اختبره، فقال له: ثِبْ -أي: اقعد- قال: ليعلم الملك إني سامع مطيع، ثم وثب من السطح: فقال الملك: ما شأنه؟ فقالوا له: أبيت اللعن! إن الوثب في كلام نزار الطّمر. فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم؛ من ظفر حمر. أي: من أراد أن يقيم بظفار فليتكلم العربية"2. ورواها "السيوطي" في كتابه "المزهر" الذي أخذت منه القصة بهذا الشكل أيضًا: "وروي أن زيد بن عبد الله بن دارم، وفد على بعض ملوك حمير، فألفاه في متصيد له على جبل مشرف، فسلم عليه وانتسب له، فقال له الملك: ثِبْ -أي: اجلس- وظن الرجل أنه أمر بالوثوب من الجبل، فقال: ستجدني أيها الملك مطواعًا؛ ثم وثب من الجبل فهلك. فقال الملك: ما شأنه؟ فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة. فقال: أما إنه ليست عندنا عربيَّت، من دخل ظفار حَمّر. أي: فليتعلم الحميرية"3. وذكر أن "عامر بن الطفيل" قدم على الرسول، فوثبه وسادة، والوثاب الفراش بلغة حمير.
__________
1 المزهر "1/ 387"، "النوع السادس والعشرون: معرفة الأضداد".
2 المزهر "1/ 396 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 256 وما بعدها"، تاج العروس "1/ 499"، "وثب"، الصاحبي "51"، الفائق "3/ 144".(16/190)
وهم يسمون الملك إذا كان لا يغزو موثبان، يريدون أنه يطيل الجلوس ولا يغزو1.
ومن الأضداد ألفاظ قليلة، واضحة الضدية يطلقها الناس على الضد لاعتبارات لديهم، مثل إطلاق لفظة "البصير" على الأعمى، و"السليم" على اللديغ.
ولعلماء العربية بحوث وآراء في علة ظهور الأضداد. منهم من يرى أن الحرف إذا وقع على معنيين متضادين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع، فمن ذلك الصريم، يقال لليل: صريم، وللنهار: صريم؛ لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل، فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع.
وقال آخرون: إذا وقع الحرف على معنيين متضادين، فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي من العرب والمعنى الآخر لحي غيره2، فلما سجل علماء اللغة مفردات الألفاظ لم يسجلوا في الأكثر اسم القبيلة أو القبائل التي كانت تنطق بها، فظن أن هذا التضاد هو مما وقع هذه العربية، وإنما هو في الأكثر حاصل جمع لغات.
وقد أنكر ناس مذهب الأضداد، ومذهبهم أن الشيء لا يمكن أن يدل على الشيء وضده، وأن النقيضين لا يوضع لهما لفظ واحد، ومن هؤلاء: "أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه"، "توفي نيف وثلاثين وثلاثمائة"، وهو من علماء البصرة ومن المتعصبين لأهل البصرة، وهو صاحب مؤلف في الأضداد، ذكره "ابن النديم"3، فهو ممن ذهب إلى انكار الأضداد4، وأثبته آخرون قائلين: يجوز أن يوضع لهما لفظ واحد من قبيلتين. وأن المشترك يقع على شيئين ضدين، وعلى مختلفين غير ضدين5. ومن المثبتين له: قطرب، وابن الأنباري، و"ابن فارس"، وغيرهم6.
وقد ألف في الأضداد قوم من العلماء، منهم: أبو علي محمد بن المستنير، ويقال: أحمد بن محمد، ويقال: الحسن بن محمد، المعروف بقطرب المتوفى سنة
__________
1 الصاحبي "51".
2 المزهر "1/ 400 وما بعدها".
3 الفهرست "99 وما بعدها"، المزهر "1/ 387".
4 المزهر "1/ 396".
5 المزهر "1/ 387".
6 المزهر "1/ 387 وما بعدها".(16/191)
"206" للهجرة، فله كتاب في هذا الموضوع، يسمى: كتاب الأضداد، كما أن له كتابًا مهمًّا في علل النحو، اسمه كتاب العلل في النحو، وله مؤلفات أخرى ذكرها "ابن النديم"1. ومنهم "الأصمعي"2، و"التوزي"، وهو "أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون" المتوفى سنة "240هـ"3، و"ابن السكيت"4، و"السجستاني"5، وابن الأنباري، أبو بكر محمد بن القاسم المتوفى سنة "328هـ"، صاحب مؤلف في الأضداد دعاه "ابن النديم" كتاب الأضداد في النحو. وهو ممن اشتغل بجمع دواوين من أشعار العرب الفحول6، وغيرهم.
وعد علماء اللغة القلب، والإدغام، والإبدال من خصائص العربية التي امتازت بها على اللغات الأخرى7. وهي أمور تحتاج إلى دراسة عميقة، لأن دراسة علماء اللغة لها، لم تنبعث عن دراسات علمية لبقية اللهجات، ثم إنها ملاحظات سطحية أخذت من أشخاص، وليس من دراسة لقبيلة كلها، إذ كان ذلك إذ ذاك أمرًا غير ميسور ولا ممكن. ولو درسنا الأمور المذكورة، نجد أنها حاصل لهجات، لا من تبديل شخص لحرف أو قلبه حرفًا أو ما شاكل ذلك، واتباع الناس بعد ذلك له.
ومما يلاحظ في هذه العربية هو كثرة ما فيها جموع التكسير. وقد نجد فيها لفظة واحدة، وقد جمعت في عدة جموع، وهو دليل في نظري على أنه من بقايا اللهجات. فلما شرع العلماء بالتدوين، وراجعوا الشعر والأخبار، والأعراب، وجدوا أمامهم جموعًا لكلمة واحدة، فسجلوها دون أن يشيروا إلى الجهة التي أخذوا الجمع منه، وإلى قبيلة الأعرابي الذي نطق لهم به، فظن أنها جموع هذه العربية، ولا يعقل أن تكون كل هذه الجموع حاصل لغة واحدة. وهي
__________
1 الفهرست "84"، المزهر "1/ 397".
2 الفهرست "88"، المزهر "1/ 397".
3 المزهر "1/ 397".
4 الفهرست "114"، المزهر "1/ 397".
5 الفهرست "93"، المزهر "1/ 397".
6 الفهرست "118"، المزهر "1/ 397".
7 الصاحبي "40 وما بعدها".(16/192)
سماعية سمعت من أبناء القبائل فجمعت، وهي لم تخضع لذلك لأحكام القياس والقواعد المألوفة.
ومن هذا القبيل بعض الجموع الملحقة بجمع المذكر السالم، مثل: أرضون، وأهلون، وعالمون، وسنون، ومئون، وعضون، وعزون، فهذه من بقايا قواعد قديمة، ترجع إلى لهجات، حين شرع علماء اللغة في تدوينها لم يفطنوا إلى تدوين اسم اللسان الذي نطق بها.
وطبيعي أن تكون العربية فقيرة في الألفاظ التي لا تدخل معانيها في ضمن حياة أهلها، كألفاظ الترف التي ينعم بها المنغمسون في الحضارة، والألفاظ المستعملة في الحكومات وفي أنواع الدواوين والصناعات وما شاكل ذلك مما يكون عند الحضر، ولا يألفه أهل الوبر، لعدم وجوده عندهم، ولكن العربية، إذا شعرت بالحاجة إليها، أو اضطرت إلى استعمالها، أخذ أهلها أسماءها عمن يعرفها، واستعملوها معربة أو بأصولها في لغتهم، ومن هنا كثر الدخيل في العربية في الإسلام1.
وحيث أن للّغة دلالة على طراز حياة الأمة وعلى مقدار درجة حياتها العقلية، نجد العربية غنية غنى مفرطًا في الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم، فهم أغنياء في الجمل، يعرفون كل جزء منه، وقد وضعوا ألفاظًا لكل عضو من أعضائه مهما دق فيه. وهم أغنياء فيما يتعلق بالصحراء وفي المطر، وفي كل شيء يتصل بحياتهم، فهي من هنا لغة تمثل عقلية المتكلمين بها، غلبت مصطلحات البداوة فيها على مصطلحات الحضارة، سنة كل أمة تكون حياتها على هذا النمط من المعيشة.
وليست اللغة العربية غنية بمفرداتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضًا، فجموع التكسير وأحيانًا الأفعال كثيرة كثرة زائدة عن الحاجة2. وهي "غنية باشتقاقها وتصريف كلماتها، فوضع صيغة فعلية لكل زمن، والمشتقات العديدة للدلالة على أنواع مختلفة من المعاني والأشخاص، كل هذا يشعرنا شعورًا تامًّا بغنى اللغة وصلاحيتها للبقاء"3.
__________
1 فجر الإسلام "55".
2 فجر الإسلام "54".
3 فجر الإسلام "55".(16/193)
وليس غنى العربية بالمفردات بدليل حتمي على سعة هذه اللغة. وإنما هو غنى نتج من حاصل لغات العرب ومن كثرة تعدد لهجاتهم. فلما كانت القبائل تتصل بعضها ببعض وتكوِّن مجموعات وكتل وأحلاف سياسية، للدفاع عن نفسها وللغزو، ولما كان الشعراء وسادات القبائل وغيرهم، يزورون غيرهم ويتنقلون من مكان إلى مكان، وقد يقيمون إقامة طويلة في مكان ما، يجاورون ويوالون، اشتبكت ألسنتهم، فأخذت وأعطت، وزاد هذا الاشتباك حدة، تنافس المناذرة والغساسنة على الزعامة، وتدخل الروم والفرس والحبش في شئون جزيرة العرب، ومجيء المبشرين النصارى إلى القبائل للتبشير بينها، واختلاط اليهود بالعرب، وهم أصحاب دين، واختلاط التجار الأعاجم بالعرب في السواحل وفي البواطن، وسفر أهل القرى وسادات القبائل إلى الشام والعراق للتجارة وللزيارة وللترويح عن النفس، وأمثال ذلك، فكان أن أوجد كل هذا المذكور وغيره وعيًا وحسًّا وشعورًا بوجوب التكتل والتجمع وبأنهم من أمة واحدة، وبأن في حياتهم التي يحيونها من جميع نواحيها ما يحتاج إلى إصلاح وتغيير ونظر. وقد تجسد هذا الوعي في لغاتهم التي تقاربت، وفي آراء الأحناف وأصحاب الرأي، وفي أقوال الحكماء ولا سيما المتألهين والمتعقلين منهم، وفي الشعر الجاهلي، ولا سيما في شعر أولئك الشعراء الذين زاروا الحضر واتصلوا بأهل الحضارة، وجالسوا أهل الديانات واطلعوا على مقالاتهم وآرائهم وكتبهم، فنجد فيه أثر الأخذ والتأثر، حتى في استعمال الألفاظ، إذ سمحوا لأنفسهم باستعمال الألفاظ الأعجمية، كما في شعر الأعشى وأمية بن أبي الصلت، الذي أدخل ألفاظًا في شعره غير مألوفة عند العرب.
ثم جاء الإسلام، بكتاب سماوي، صار لسانه لسان المسلمين، فظهرت الحاجة إلى التدوين والبحث والتنقيب لشرح كتاب الله وحديث رسوله وتفسير أحكام الله. فكان حاصل ذلك علوم اللسان. من مفردات جمعت من القرآن ومن الحديث ومن الشعر ومن ألسنة العرب، ضبطت في كتب اللغة والمعاجم، وكوّنت بذلك هيكل العربية الفصيحة. وهو بناء عملاق لم يعمل من مادة واحدة، وإنما من مواد أساسية عديدة، هي لهجات القرآن والشعر ولغات القبائل التي رجع علماء اللغة إلى أفرادها وإليها للأخذ منها، فهذا الغنى الملحوظ في مفردات العربية الفصحى، إذن هو غنى سببه كونه حاصل لغات قبائل، لا حاصل لغة واحدة أو لسان عربي معين.(16/194)
وتولدت في الإسلام معان خاصة لألفاظ جاهلية غلبت عليها واختصت بها، وإلى معانيها الجديدة قصد في الإسلام، كما ماتت ألفاظ جاهلية أماتها الإسلام، بسبب أنها كانت تؤدي معاني خاصة بالنسبة لذلك الوقت، فقد روي أن النبي قال: "لا تقولوا دعدع ولا لعلع، ولكن قولوا: اللهم ارفع وانفع. فلولا أن للكلمتين معنى مفهومًا عند القوم ما كرههما النبي"1، وروي أنه نهى عن قول: خبثت نفسي، واستأثر الله بفلان2.
ومن الألفاظ الإسلامية: المؤمن، والمسلم، والكافر، والمنافق3، ومخضرم، وصلاة، وصوم، وغير ذلك. ومن الألفاظ التي كانت فزالت بزوال معانيها: المرباع، والنشيطة، والفضول، والإتاوة، والحلوان، وأبيت اللعن، والنوافج، للإبل تساق في الصداق، وحجرًا محجورًا، لمعنيين: الحرمان، إذا سئل الإنسان قال: حجرًا محجورًا، والوجه الآخر الاستعاذة4، وأنعم صباحًا، وأنعم مساءً، وأنعم ظلامًا، وعموا صباحًا، وعموا ظلامًا، إذ حل السلام محلها في الإسلام5.
وظهرت الحاجة في الوقت نفسه إلى وضع قواعد في نحو وصرف هذه اللغة، لصيانة اللسان من الخطأ، وليتعلم الأعاجم بها كيفية النطق بفصاحة وسلامة بهذا اللسان الجديد عليهم. فكان ما كان من وضع النحو مستعينين بالأسس النحوية "الغراماطيقية"، التي كانت قد وجدت سبيلها إلى العراق من أصول قديمة، ثم بتتبع كلام العرب وبالاستقراء، وقياس القواعد بعضها على بعض وبالتعليل، يعللون النحو ويعتبرون به كلام العرب، ثم لم يكتفوا بذلك كله، فأخذوا من هؤلاء ومن هؤلاء علمًا كثيرًا باللغة وبالشعر وبالغريب وبالنوادر وبكل ما يتصل بالعربية من أسباب حتى جمعوا ما جمعوه من تراث هذه اللغة الخالد في بطون الكتب.
__________
1 الصاحبي "70".
2 الصاحبي "92 وما بعدها".
3 الصاحبي "79".
4 الصاحبي "89 وما بعدها".
5 المزهر "1/ 294 وما بعدها"، "النوع العشرون: معرفة الألفاظ الإسلامية".(16/195)
الفصل السابع والثلاثون بعد المئة: لغات العرب
قال "الطبري" في تفسيره: "كانت العرب وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب، فهم مختلفوا الألسن بالبيان متباينو المنطق والكلام"1. وأن ألسنتهم كانت كثيرة كثرة يُعجز عن إحصائها2. وقد ذكر غيره مثل ذلك، ذكر أن لغات العرب كانت متباينة، وأن بعضها كانت بعيدة بعدًا كبيرًا عن عربيتنا، كالألسنة العربية الجنوبية ومنها الحميرية. قال "ابن جني": "وبعد فلسنا نشك في بُعد لغة حمير ونحوها عن لغة بني نزار"3، وقال "أبو عمرو بن العلاء": "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا". وذكر "ابن فارس"، أن ولد "إسماعيل"، يريد بهم العدنانية "يعيرون ولد قحطان أنهم ليسوا عربًا ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية، وأنهم يسمون اللحية بغير اسمها مع قول الله -جل ثناؤه- في قصة من قال: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، وأنهم يسمون الذئب القلوب مع قوله: وأخاف أن يأكله الذئب وما أشبه ذلك"4.
وقد عرف ذلك الكتبة "الكلاسيكيون" وغيرهم. فذكر مؤلف كتاب
__________
1 تفسير الطبري "1/ 9"، "بولاق".
2 تفسير الطبري "1/ 15".
3 الخصائص "1/ 392"، "وقال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"، ابن سلام، طبقات "4 وما بعدها".
4 الصاحبي "55".(16/196)
"الطواف حول البحر الأريتري" "Periplus mare Erythrae" أن سكان سواحل البحر الأحمر الذين كانوا يقيمون بين مدينة "Leuke Kome"، وميناء "Muza" يتكلمون بلهجات مختلفة ولغات متباينة، قلّ منهم من يفهمها عن الثاني، وبعضها بعيد عن بعض بعدًا كبيرًا1. وقد عاش مؤلف هذا الكتاب في القرن الأول للميلاد، والساحل الذي ذكره هو ساحل الحجاز.
وأصبح اليوم من الأمور المعروفة أن أهل العربية الجنوبية كانوا يتكلمون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها في تلك الأرضين، وهي بلسان مباين لعربيتنا، حيث تبين من دراستها وفحصها أنها كتبت بعربية تختلف عن عربية الشعر الجاهلي، وبقواعد تختلف عن قواعد هذه اللغة2. وهي لو قرئت على عربي من عرب هذا اليوم، حتى إن كان من العربية الجنوبية، فإنه لن يفهم منها شيئًا، لأنها كتبت بعربية بعيدة عن عربية هذا اليوم، وقد ماتت تلك العربية بسبب تغلب عربية القرآن عليها.
كما عثر في العربية الغربية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب على نصوص معينية ولحيانية وثمودية وغيرها، وهي مختلفة بعضها عن بعض، ومختلفة أيضًا عن "العربية" لغة القرآن الكريم.
ومع إدراك الرواة وعلماء اللغة وجود الخلاف في ألسنة العرب، فإنهم لم يدونوا اللهجات على أنها لهجات مستقلة ذات طابع لغوي خاص، لها قواعد نحوية وصرفية، تختلف اختلافًا متباينًا عن نحو وصرف عربية القرآن الكريم، وإنما "تناقلوا من ذلك أشياء كانت لعهد الإسلام، وأشياء أصابوها في أشعار العرب مما صحت روايته قبيل ذلك. أما سواد ما كتبوه، فقد شافهوا به العرب في بواديها وسمعوه منهم، وهو بلا ريب من بقايا اللهجات التي كانت لعهد الجاهلية"3.
على أنهم لم يدونوا من كل ذلك إلا كفاية الحاجة القليلة في تصاريف الكلام أو ما تنهض به أدلة الاختلاف بين العلماء المتناظرين من شواهد في الغريب والنادر وفي القواعد. أما تدوين اللهجات على أنها أصل من أصول اللغة، وأما تسجيل
__________
1 The Periplus of the Erythrean Sea, 24
2 الصفة "134".
3 الرافعي، تاريخ آداب العرب "1/ 123 وما بعدها".(16/197)
قواعد صرف ونحو تلك اللهجات، فهذا ما لم يحفل به أحد، ولم يقدم عليه عالم فيما نعلم من أخبار الكتب التي وصلت إلينا، لأن أكبر غرضهم من جمع اللغة وتدوينها يرجع إلى علوم القرآن والحديث، ولغتهما اللغة الفصحى، اللغة التي تعلو على اللغات، أما ما دونها فلغات دونها في المنزلة والفصاحة، وألسنة شاذة غير فصيحة، ليس من اللائق بالعالم إضاعة وقته في البحث عنها، وفي التنقيب في قواعد نحوها وصرفها، وهي فوق ذلك لغات بطون وعشائر وقبائل ومواضع، ليس لها أتباع كثيرون، وقد أقبلوا على استعمال عربية الإسلام، وفي إحياء العربيات الأخرى إحياء للجاهلية1.
"رأينا علماء اللغة وأهل العربية قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبهم، فلا قيمة لها عندهم إلا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة في عُرض كلامهم، لأنهم لم يعتبروها اعتبارًا تأريخيًّا، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تأريخها لمن بعدهم، ولو أن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتدوين بعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد، وتعيين منازل كل طائفة من جزيرة العرب والرجوع مع تأريخها إلى عهدها الأول الذي يتوارث علمه شيوخ القبيلة وأهل أنسابها لخرج من ذلك علم صحيح في تأريخ اللغة وأدوار نشأتها الاجتماعية، يُرجع إليه على تطاول الأيام وتقادم الأزمنة، ولكان هذا يعد أصلًا فيما يمكن أن يسمى تأريخ آداب العرب، يفرعون منه ويحتذون مثاله في الشعر وغيره من ضروب الأدب.
ولكن القوم انصرفوا عن هذا وأمثاله لاعتقادهم أصالة اللغة، وأنها خلقت كاملة بالوحي والتوقيف، وأن أفصح اللهجات إنما هي لهجة إسماعيل عليه السلام، وهي العربية القديمة الجيدة كما قال سيبويه"2.
"وعلى هذا اعتبروا لهجات العرب لعهدهم كأنها أنواع منحطة خرجت عن أصلها القرشي بما طرأ عليها من تقادم العهد وعبث التأريخ، فلم يجيئوا ببعضها إلا شاهدًا على الفصاحة الأصلية في العربية وخلوها من التنافر والشذوذ، وتمامًا
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 123 وما بعدها".
2 الرافعي "1/ 133 وما بعدها".(16/198)
على الذي جمعوه من أصول العربية، وتفصيلًا لكل شيء إلا التأريخ"1
"ومع أن الرواة قد وضعوا كتبًا كثيرة ومصنفات ممتعة في قبائل العرب ومنازلها وأنسابها وأسمائها واشتقاق الأسماء وألقابها ومدحها وأشعارها وفرسانها وأيامها، ونحو ذلك مما يرجع إلى التأريخ المتحدد، فلو أنهم اعتقدوا اللغات بسبب من ذلك ولم يعرفوها بالوصف الديني الثابت الذي لا يتغير في حقيقته، لأجروها مجرى غيرها من آثار التأريخ، ولكن ذلك الزمن قد طوي بأهله، ولحق فرعه بأصله، فبقي ذلك الخطأ التأريخي كأن صوابه من بعض التأريخ الذي هو حديثُ الغيب! "2.
ويستمر "الرافعي" في حديثه هذا، فيقول: "نقول هذا وقد قرأنا ما بين أيدينا من كتب الفهرست والتراجم والطبقات على كثرتها، وتبينا ما يسرد فيها من أسماء الكتب والأصناف، عسى أن نجد من آثار أحد الرواة أو العلماء ما يدل على وضع كتاب في تأريخ لهجات العرب وتمييز لغاتها على الوجه الذي أومأنا إليه، أو ما عسى أن نستدل به على أنهم كانوا يعتبرون ذلك اعتبارًا تأريخيًّا؛ ولكنّا خرجنا منها على حساب ما دخلنا فيها: صفر في صفر؛ ولم يزدنا تعدادُ أسماء الكتب علمًا بموت هذا العلم وأنه لا كتب له، للسبب الذي شرحناه من اعتبارهم أصالة العربية"3.
وفي كتاب "الفهرست" لابن النديم، وفي المؤلفات الأخرى أسماء كتب وضعها علماء اللغة في اللغات، من ذلك "كتاب اللغات" ليونس بن حبيب "183هـ" من علماء العربية، وكان أعلم الناس بتصاريف النحو4، و"كتاب اللغات" لأبي زيد الأنصاري "215هـ"5، و"كتاب اللغات" للأصمعي "213هـ"، "217هـ"6، و"كتاب اللغات" لابن دريد "321هـ"7، و"كتاب
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 134".
2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 134".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 134 وما بعدها".
4 الفهرست "ص69".
5 الفهرست "87".
6 الفهرست "88".
7 الفهرست "97".(16/199)
اللغات" لأبي عمرو الشيباني "213هـ"1، و"كتاب مجرد الغريب" على مثال العين وعلى غير ترتيبه، "وأوله هذا كتاب ألفه في غريب كلام العرب ولغاتها على عدد حروف الهجاء الثمانية والعشرين"، وهو لعلي بن الحسن ويكنى أبا الحسن الهنائي2 و"كتاب الاستعانة بالشعر وما جاء في اللغات" لعمر بن شبة "262هـ"3، إلى غير ذلك من مؤلفات دونت في هذا الباب.
لكننا لا نستطيع أن نتحدث عما عالجته من موضوعات وعما ورد فيها من بحوث، بسبب أننا لا نملك نسخًا منها، فلا ندري إذا كانت قد وضعت في خصائص لغات العرب من نحو وصرف ومفردات، أم أنها ألفت في الشواذ والنوادر وفي الأضداد واختلاف الألفاظ، وما يتعاور الأبنية من الاختلاف الصرفي والنحوي، لأن كل وجه من ذلك إنما هو أثر من لغة. والأصح، أنها لم توضع في خصائص لغات الجاهليين وفي قواعد نحوها وصرفها لضبطها، كالذي فعلوه في دراسة عربية القرآن الكريم، فهذا عمل كبير، يحتاج إلى استقراء وتتبع لألسنة العرب في الجاهلية وعند ظهور الإسلام، وإنما كانت قد ألفت فيما جاء في الشعر الجاهلي وفي نوادر الأعراب وكلامهم من اختلاف وتغير وشواذ، مما يغاير لغة القرآن الكريم. ودليل ذلك، أننا نرى أن المؤلفات التي نقلت من تلك الكتب في باب لغات العرب، لم تتحدث بشيء عن أصول نحو وصرف تلك اللغات، وإنما تحدثت عن أمور ذكرت أنها خرجت فيها على قواعد العربية الفصحى، وشذت بها عنها، مما يدل على أن علماء اللغة لم يوجهوا عنايتهم نحو تلك اللغات لدرسها بذاتها دراسة مستقلة، كما فعلوا بالنسبة للعربية الفصحى وإنما أرادوا إظهار بعض مواضع خلافها مع العربية، أو مواضع الاتفاق معها لإثبات قاعدة نحوية أو صرفية، أو لإظهار سمو هذه العربية وعلوها على العربيات الأخرى من حيث السليقة والذوق والسلامة.
وقد بني سبب إهمالهم اللهجات الأخرى، على اعتقادهم أنها لهجات رديئة فاسدة، وأن اللغة الفصحى هي اللغة الوحيدة التي يجب حفظ قواعدها والعناية بها، لأنها لغة القرآن الكريم، وأن البحث في اللهجات الأخرى يؤدي إلى تثبيت
__________
1 الفهرست "107".
2 الفهرست "130".
3 الفهرست "169".(16/200)
لغات فاسدة إلى جانب لغة الوحي، ولم يكن هذا عملًا مطاقًا ولا مقبولًا بالنسبة إلى ذلك الوقت. ولذلك انحصر عملهم في المجال اللغوي على التوسع والتبسط في هذه اللغة التي أسموها اللغة العالية أو الفصحى، وعلى ما تحتها من لهجات، وما اختلفت فيه بعضها عن بعض، وهي لهجات كانت قريبة من مواطن علماء اللغة، أما اللهجات البعيدة عنهم، فلم تنل منهم أية رعاية أو عناية، ونجد مواضع الاختلاف مسجلة في كتب اللغات والنحو وشواهده وفي كتب النوادر والغريب، ومجالس العلماء، حيث كانوا يتباحثون في أمور اللغة والشعر وأيام العرب وما كان يتلذذ بسماعه الخلفاء والحكام الذين كانوا يثيبون من يستمعون إليه، مما حمل العلماء وأهل الأخبار على تطلب الغريب والتنقير عن الشارد والهارب للتفوق به على أصحاب الحرفة المتنافسين فيما بينهم في عرض بضاعتهم على أصحاب الحكم والمال.
وأجمل ما ذكره هنا علماء العربية من مواضع اختلاف العربيات الأخرى عن العربية المحضة في الأمور الآتية:
أحدها الاختلاف في الحركات، نحو نَسْتعين ونِستعين بفتح النون وكسرها.
فهي مفتوحة في لغة قريش، وأسد وغيرهم يكسرها، ونحو الحَصاد والحِصاد.
والوجه الآخر، الاختلاف في الحركة والسكون نحو مَعَكم ومَعْكم.
ووجه آخر هو الاختلاف في إبدال الحروف، نحو: أولئك وأولالِك.
ومنها قولهم: أن زيدًا وعنَّ زيدًا.
ومن ذلك: الاختلاف في الهمز والتليين نحو مستهزئون ومُسْتهزوْن.
ومنه: الاختلاف في التقديم والتأخير، نحو: صاعقة وصاقعة.
ومنها: الاختلاف في الحذف والإثبات، نحو استحييت واستحيت، وصددت وأصددتُ.
ومنها: الاختلاف في الحرف الصحيح يبدل حرفًا مُعْتلًّا، نحو أمّا زيد، وأيما زيد.
ومنها: الاختلاف في الإمالة والتفخيم، مثل: قضى ورمى، فبعضهم يفخّم وبعضهم يميل.
ومنها: الاختلاف في الحرف الساكن يستقبله مثله فمنهم من يكسر الأول، ومنهم من يضم، نحو اشتروا الضلالة.(16/201)
ومنها: الاختلاف في التذكير والتأنيث؛ فإن من العرب من يقول: هذه البقر، وهذه النخل، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذا النخل.
ومنها: الاختلاف في الإدغام نحو: مهتدون ومُهَدّون.
ومنها: الاختلاف في الإعراب نحو: ما زيدٌ قائمًا، وما زيد قائم، وإن هذين، وإن هذان. وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب.
ومنها: الاختلاف في التحقيق والاختلاس نحو: يأمرُكم ويأمرْكم، وعُفِيَ له، وعُفْى له.
ومنها: الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أمَّهْ، وهذه أمّت.
ومنها: الاختلاف في الزيادة نحو: أنظُرُ، وأنْظُورُ.
ومن الاختلاف اختلاف التضادّ، وذلك كقول حمِير للقائم: ثب، أي: اقعد، وثب بمعنى اقفز1.
ومنها الاختلاف في الكلمة، فقد يقع فيها ثلاث لغات، نحو: الزُّجاج، والزَّجاج، والزِّجاج. وقد يقع في الكلمة أربع لغات، نحو الصِّداقِ، والصَّداق، والصُّدقة، والصَّدقة. ويكون فيها خمس لغات، نحو: الشَّمال، والشَّمْلَ، والشَّمْأل، والشَّيْمَل، والشَّمَل. ويكون فيها ستُ لغات، نحو: قُسْطاس، وقِسْطاس، وقَسْطاس، وقستاط، وقِستاط، وقُستاط، وقِسَّاط، ولا يكون أكثر من هذا2.
ومنها الاختلاف في صورة الجمع، نحو أسرى وأسارى، ومنها الاختلاف في التحقيق والاختلاس، نحو يأمرُكم ويأمرْكم، وعُفي وعفي له. ومنها الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أمه وهذه أمت. ومنها الاختلاف في الزيادة نحو: انظر انظور3.
وقد أشار "أبو العلاء" المعري في رسالة الغفران إلى أن "عدي بن زيد" العبادي، كان يجعل "الجيم1" "كافًا"، فيقول: "يا مكبور" يريد "يا مجبور"، وهي لغة رديئة يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث
__________
1 المزهر "1/ 255 وما بعدها"، الصاحبي "43، 48 وما بعدها".
2 المزهر "1/ 260".
3 الصاحبي "50"، المزهر "1/ 256".(16/202)
إن الحارث بن هانئ بن أبي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط، فنادى: يا حُكْر يا حُكْر، يريد يا حجر بن عدي الأدبر، فعطف عليه فاستنفذه، ويكب في موضع يجب"1. و"الحارث بن هانئ" من كندة، وهو من الصحابة، وكندة من العربية الجنوبية في الأصل2، فلا يستبعد منه نطق الجيم كافًا على الطريقة المصرية في الوقت الحاضر، إذ يقول العرب الجنوبيون "هكر" في موضع "هجر"، ولكن "عدي بن زيد" من "تميم"، وليست "تميم" من العربية الجنوبية، ثم إن "المعري"، يقول عنه: "فيقول عدي بعباديته يا مكبور لقد رزقت ما يكب أن يشغلك عن القريض"3، أي: "يا مجبور لقد رزقت ما يجب أن يشغلك عن القريض" فجعل قلب الجيم كافًا من سمات لغة العباديين.
ولخص بعض العلماء الوجوه التي تتخالف بها لغات العرب، في سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص: الوجه الأول إبدال لفظ بلفظ كالحوت بالسمك وبالعكس، وكالعهن المنفوش، قرأها "ابن مسعود" كالصوف المنفوش. الثاني: إبدال حرف بحرف كالتابوت والتابوه. الثالث: تقديم وتأخير ما في الكلمة، نحو: سلب زيد ثوبه، وسلب ثوب زيد. وأما في الحروف نحو: أفلم ييأس الذين، وأفلم يايس. الرابع زيادة حرف أو نقصانه نحو: ماليه وسلطانيه، وفَلا تَكُ في مِرْية. الخامس: اختلاف حركات البناء نحو تحسين بفتح السين وكسرها.
السادس: اختلاف الأعراب نحو ما هذا بشر بالرفع. السابع: التفخيم والإمالة.
وهذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة. والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب. فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب4.
وجمع "مصطفى صادق الرافعي" أنواع الاختلاف الواردة في كتب اللغة، فحصرها في خمسة أقسام:
__________
1 رسالة الغفران "201".
2 الإصابة "1/ 292"، "رقم 1502".
3 رسالة الغفران "1/ 200".
4 تفسير النيسابوري "1/ 22"، "حاشية على تفسير الطبري. بولاق".(16/203)
1- لغات منسوبة ملقبة.
2- لغات منسوبة غير ملقبة تجري في إبدال الحروف.
3- لغات من ذلك في تغير الحركات.
4- لغات غير منسوبة ولا ملقبة.
5- لغة أو لثغة في منطق العرب1.
النوع الأول:
وقد عدّه علماء اللغة من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ، ولذلك أطلقوا على اللغات التي تمارسها: اللغات المذمومة2، من ذلك:
"الكشكشة" وهي إبدال الشين من كاف المخاطب للمؤنث خاصة، كعليش ومنش وبش، في عليكِ، ومنكِ، وبكِ، في موضع التأنيث، أو زيادة شين بعد الكاف المجرورة. تقول عليكش، واليكش، وبكش، ومنكش، وذلك في الوقف خاصة. ولا تقول عليكش بالنصب. وقد حكى كذا كش بالنصب. وإنما زادوا الشين بعد الكاف المجرورة لتبين كسرة الكاف فتؤكد التأنيث، وذلك لأن الكسرة الدالة على التأنيث فيها تخفى في الوقت فاحتاطوا للبيان أن أبدلوها شيئًا، فإذا وصلوا حذفوا لبيان الحركة، ومنهم من يجري الوصل مجرى الوقف فيبدل فيها أيضًا. وربما زادوا على الواو في الوقف شيئًا حرصًا على البيان أيضًا، فإذا وصلوا حذفوا الجميع وربما ألحقوا الشين فيه. وذكر أن "الكشكشة" في بني أسد وفي ربيعة. "وفي حديث معاوية تياسروا عن كشكشة تميم، أي: إبدالهم الشين من كاف الخطاب مع المؤنث"3.
"والكشكشة في ربيعة ومضر. يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شينًا.
فيقولون: رأيتكش ومررت بكش. والكسكسة فيهم أيضًا، يجعلون بعد الكاف أو مكانها سينًا في المذكر"4. وورد: "والكسكسة لغة لتميم لا لبكر، كما
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 137 وما بعدها".
2 الصاحبي "53"، المزهر "1/ 222 وما بعدها".
3 تاج العروس "4/ 345"، "كشش"، الصاحبي "53"، المزهر "1/ 222 وما بعدها".
4 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، تأريخ آداب العرب "1/ 138"، "لمصطفى صادق الرافعي"، المزهر "1/ 221".(16/204)
زعمه ابن عباد، وإنما لهم الكشكشة بإعجام الشين. هو إلحاقهم بكاف المؤنث سينًا عند الوقف دون الوصل. يقال: أكرمتكس ومررت بكس، أي: أكرمتك ومررت بك. ومنهم من يبدل السين من كاف الخطاب، فيقول أبوس وأمس، أي: أبوك وأمك. وبه فسر حديث معاوية رضي الله عنه تياسروا عن كسكسة بكر. وقيل: الكسكسة لهوازن"1. "ومنهم من يجلعها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف؛ فيقول: مِنْش وعَلَيْش"2.
والديش بالكسر: الديك، لغة فيه عند من يقلب الكاف شيئًا، شبه كافه بكاف المؤنث لكسرتها3.
وذكر "السيوطي" أن الكسكسة في ربيعة ومضر، يجعلون بعد الكاف أو مكانها في خطاب المذكر سينًا4. وذكر بعضهم أن الكشكشة في لغة تميم، والكسكسة في لغة بكر. وذكر بعضهم أن الكسكسة لبكر لا لربيعة ومضر، وهي زيادة سين بعد كاف الخطاب في المؤنث لا في المذكر5.
"والوتم في لغة اليمن، بجعل الكاف شينًا مطلقًا. كلبيش اللهم لبيش.
ومن العرب من يجعل الكاف جيمًا كالجعبة يريد الكعبة"6. وقيل: "الوتم في لغة اليمن، تجعل السين تاء كالنات في الناس"7. "والشنشنة في لغة اليمن، تجعل الكاف شينًا مطلقًا كلبيش اللهم لبيش، أي: لبيك"8.
وقد استشهد علماء اللغة على الوتم بشعر نسبوه إلى "علباء بن أرقم" هو:
يا قبح الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار الناتِ
ليسوا أعفاء ولا أكيات
__________
1 تاج العروس "4/ 234"، "كسَّ"، الصاحبي "53".
2 المزهر "1/ 221"، "النوع الحادي عشر".
3 تاج العروس "4/ 312"، "الديش".
4 المزهر "1/ 221".
5 الرافعي "1/ 138".
6 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس".
7 المزهر "1/ 222".
8 المزهر "1/ 222".(16/205)
فاستعمل النات بدل الناس، والأكيات بدل الأكياس. ولكن الشاعر من "بكر" لا من حمير1.
و"الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاء عينًا. والوكم والوهم كلاهما في لغة بني كلب. من الأول يقولون: عليكِمِ وبكِمِ، حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة في موضع عليكم وبكم، ومن الثاني يقولون: منهِم وعنهِم وبينهِم، وإن لم يكن قبل الهاء ياء ولا كسرة"2. "وهم يكمون بكسر الكاف من يكمون، أي يقولون: السلام عليكم بكسر الكاف"3. ومن أمثلة الفحفحة قولهم: عياة في موضع حياة، وعلى لغتهم قرأ "ابن مسعود" عَتّى عِين في قوله تعالى: {حَتَّى حِين} . فكتب إليه "عمر" إن القرآن لم ينزل على لغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش4. ومن الفحفحة قولهم: العسن في الحسن، واللعم في اللحم. وذكر أن ثقيفًا كانت تفحفح في كلامها، فتقول: عتى في موضع حتى.
وقد ورد في "تاج العروس"، أن "الوكم" "لغة أهل الروم الآن"5، ولعل هذه اللغة إنما جاءتهم من "كلب"، وهم من عرب بلاد الشأم القدماء.
"قال الفرّاء: حتى لغة قريش وجميع العرب إلا هذيلًا وثقيفًا، فإنهم يقولون: عتى. قال: وأنشدني بعض أهل اليمامة:
لا أضع الدلو ولا أصلّي ... عتى أرى جلّتها تولي
صوادرًا مثل قباب التلِّ
قال أبو عبيدة: من العرب من يقول: أقم عنّي عتى آتيك، وأتى آتيك؛ بمعنى حتى آتيك، وهي لغة هذيل"6.
و"العجعجة" في قضاعة كالعنعنة في تميم. يحولون الياء جيمًا مع العين.
__________
1 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "123".
2 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، المزهر "1/ 222".
3 تاج العروس "9/ 69"، "وكم".
4 الفائق "2/ 113".
5 تاج العروس "9/ 69"، "وكم".
6 الفائق "2/ 114".(16/206)
يقولون: هذا راعج خرج معج، أي: راعي خرج معي1. وقيل: "العجعجة في قضاعة. يجعلون الياء المشددة جيمًا. يقولون في تميمي: تميمج"2. وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا، فلا تكاد تظهر حروفهم. وقد سمى العلماء ذلك غمغمة قضاعة3.
والاستنطاء، قول أنطى بدل أعطى. "قال الجوهري: هي لغة اليمن وقال غيره: هي لغة سعد بن بكر. والجمع بينهما أنه يجوز كونها لهما"، وقيل: "هي لغة سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار يجعلون للعين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء وهؤلاء من قبائل اليمن، ما عدا هذيل. وقد شرفها النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى الشعبي أنه صلى الله عليه وسلم، قال لرجل: "أنطه كذا وكذا"، أي: أعطه. وفي حديث آخر أن مال الله مسئول ومنطى. أي: معطى. وفي حديث الدعاء: لا مانع لما أنطيت.
وفي حديث آخر: اليد المنطية خير من اليد السفلى. وفي كتابه لوائل: وأنطوا الثبجة. وفي كتابه لتميم الداري: هذا ما أنطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره. ويسمون هذا الانطاء الشريف. وهو محفوظ عند أولاده. وقرئ بها شاذًّا: إنّا انطيناك الكوثر"4.
وعرفت لغة "بهراء" بوجود "التلتلة" بها. وتلتلة بهراء كسرهم تاء تفعلون.
مثل كسر تاء تعلم، في موضع الفتح. وكسر التاء من "تكتب"5. وذلك أنهم يكسرون أحرف المضارعة مطلقاز "ونسب ابن فارس في فقه اللغة هذا الكسر لأسد وقيس، إلا أنه جعله عامًّا في أوائل الألفاظ، فمثل له يقوله: مثل تِعلمون وتِعلم وشِعير وبِعير"6.
وعرفت "القطعة في لغة طيء: وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فيقولون في
__________
1 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، "2/ 71"، "عج"، المزهر "1/ 222".
2 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، المزهر "1/ 222".
3 الرافعي "1/ 139".
4 تاج العروس "10/ 372"، "نطا"، المزهر "1/ 222".
5 تاج العروس "7/ 241"، "تل".
6 الرافعي "1/ 140".(16/207)
مثل: يا أبا الحكم، يا أبا الحكا. وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو؛ لأن هذا مقصور على حذف آخر الاسم المنادى، أما القطعة فتتناول سائر أبنية الكلام"1
ومن لغة تميم كسر الشين في شهيد، وكذا كل فعيل حلقي العين سواء كان وصفًا كهذا، واسمًا جامدًا كرغيف وبعير. "قال الهمداني في إعراب القرآن: أهل الحجاز وبنو أسد يقولون: رحيم ورغيف وبعير بفتح أوائلهن. وقيس وربيعة وتميم يقولون: رحيم ورغيف وبعير بكسر أوائلهن. وقال السهيل في الروض: الكسر لغة تميم في كل فعيل عين فعله همزة أو غيرها من حروف الحلق، فيكسرون أوله كرحيم وشهيد. وفي شرح الدريدية لابن خالويه: كل اسم على فعيل ثانية حرف حلق يجوز فيه اتباع الفاء العين كبعير وشعير ورغيف ورحيم. وحكى الشيخ النووي في تحريره عن الليث أن قومًا من العرب يقولون ذلك، وإن لم يكن عينه حرف حلق ككبير وكريم وجليل ونحوه. قلت: وهم بنو تميم كما تقدم"2.
ومما اختلفت به تميم عن قريش أنها تذكر السوق والسبيل والطريق والزقاق والصراط والكلاء، وهو سوق البصرة، أما أهل الحجاز فيذكرون الكل3.
ومن ميزات لهجة تميم، أنها تنطق بالهمزة إذ وقعت في أول الكلمة عينًا.
فيقولون في أسلم: عسلم ويسمي العلماء ذلك "العنعنة". "وعنعنة تميم إبدالهم العين من الهمزة. يقولون: عن موضع أن". "قال الفراء: لغة قريش ومن جاورهم أن، وتميم وقيس وأسد ومن جاورهم يجعلون ألف أن إذا كانت مفتوحة عينًا. يقولون: أشهد عنك رسول الله، فإذا كسروا رجعوا إلى الألف. وفي حديث قيلة: تحسب عين نائمة، وفي حديث حصين بن مشمت أخبرنا فلان عنّ فلانًا حدثه. أي: أن فلانًا حدثه. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: كأنهم يفعلونه لبحح في أصواتهم. والعرب تقول: لأنك ولعنك، بمعنى لعلك. قال ابن الأعرابي لعنك لبني تميم، وبنو تيم الله بن ثعلبة يقولون: رعنك. ومن
__________
1 الرافعي "1/ 140".
2 تاج العروس "2/ 391"، "شهد".
3 تاج العروس "6/ 371، 387"، "زق"، "ساق".(16/208)
العرب من يقول: رغنك بمعنى لعلك"1. "قال الفراء: العنعنة في قيس وتميم.
تجعل الهمزة المبدوء بها عينًا، فيقولون في أنك: عنك وفي أسلم: عسلم"2.
وذكر أن العنعنة في كثير من العرب، في لغة قيس وتميم، وقيل: في لغة قضاعة أيضًا، وفي لغة أسد ومن جاورهم، يجعلون الهمزة المبدوء بها عينًا، فيقولون في أنك: عنك، وفي أسلم عسلم، وفي أُذُن عُذن، وفي ظننت أنك ذاهب، ظننت عنك ذاهب3.
ومن مواضع الاختلاف بين لغة أهل الحجاز، ولغة تميم، الاختلاف في عمل ما وليس النافيتين. وتردد الكلمة بين الإدغام والفك، وبين الإتمام والنقص، أو بين الصحة والإعلال والإعراب والبناء، فمثلًا أهل الحجاز يفكون المثلين من المضارع المجزوم بالسكون وأمره. وتميم تقولهما بالإدغام، وخثعم وزبيد تنقص نون من الجارة، فيقولون: خرجت ملبيت في قولهم: خرجت من البيت وغيرهم يتمها4.
و"ضللت" بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع. وهذه هي اللغة الفصيحة، وهي لغة نجد. و"ضللت تضل مثل مللت تمل، أي: بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وهي لغة الحجاز والعالية. وروى كراع عن "بني تميم" كسر الضاد في الأخيرة أيضًا. قال اللحياني: وبهما قرئ قوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} الأخيرة قراءة أبي حيوة، وقرأ يحيى بن وثاب أضل بكسر الهمزة وفتح الضاد. وهي لغة تميم. قال ابن سيده: وكان يحيى بن وثاب يقرأ كل شيء في القرآن ضللت وضللنا بكسر اللام. ورجل ضال تال"5. و"الضلالة والتلالة"6.
واللخلخانية العجمة في المنطق، وهو العجز عن أرداف الكلام بعضه ببعض.
ورجل لخلخاني غير فصيح. ويعرض ذلك في لغة أعراب الشحر وعمان. كقولهم
__________
1 تاج العروس "9/ 283"، "عنن".
2 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس في بيان الأفصح".
3 المزهر "1/ 221"، الصاحبي "53".
4 محمد هاشم عطية، الأدب العربي وتأريخه "39".
5 تاج العروس "7/ 411"، "ضلل".
6 تاج العروس "7/ 241"، "تل".(16/209)
في ما شاء الله مشا الله1. والطمطمانية تعرض في لغة حمير، كقولهم طابم هوا، أي: طاب الهواء2. "وطمطمانية حمير بالضم ما في لغتها من الكلمات المنكرة، تشبيهًا لها بكلام العجم. وفي صفة قريش ليس فيهم طمطمانية حمير، أي: الألفاظ المنكرة المشبهة بكلام العجم"3. وذكر أن الطمطمانية كانت أيضًا عند بعض عشائر طيء، "وهي إبدال لام التعريف ميمًا. فيقولون في السهم والبر والصيام: امسهم، وامبر، وامصيام، وهذا ليس إبدالًا، وإنما هي لهجة يمنية، إذ كانوا يُعرّفون بالألف والميم، ولعل في ذلك ما يدل على صحة ما ذهب إليه النسّابون من أن طيء قبيلة يمنية"4. ولكن حمير لا تعرف بالألف والميم، وإنما تعرف بـ"أن" "ن"، تضع هذه الأداة في آخر الكلمة التي يراد تعريفها ولهذا، أخطأ من ذهب إلى أن هذه الطمطمانية إبدالًا، أو "ليس إبدالًا، وإنما هي لهجة يمنية، إذ كانوا يعرفون بالألف والميم"5، لما ذكرته من أن التعريف يلحق في الحميرية أواخر الكلم، ولا يكون في أولها، ويكون بالأداة "ن" "أن"، لا بالألف واللام، كما هو الحال في عربيتنا، وأن التنكير عندهم يكون بإلحاق حرف "الميم" أواخر الألفاظ التي يراد تنكيرها، ولم يصل إلى علمي أن أحدًا من الباحثين عثر على نص جاهلي في العربية الجنوبية عرف بـ"ال" أداة التعريف في عربية القرآن الكريم.
ومن الشائع بين الناس، أن الرسول قال: "ليس ممبرم صيامم فم سفر"، أي: "ليس من البر الصيام في السفر" 6، وعندي أن هذا الحديث من الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة، وقد وضع ليكون شاهدًا على "الطمطمانية" المذكورة، جاءوا به شاهدًا على تكلم الرسول بلسان حمير، ولكن لسان حمير لم يكن يعرّف الغير معرف بهذه الأداة من التعريف، وقد يكون لهجة من لهجات بعض القبائل على نحو ما نسب إلى بعض عشائر طيء، كما ذكرت ذلك قبل قليل.
__________
1 تاج العروس "2/ 277"، "لخ"، المزهر "1/ 223".
2 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، "طاب امهواء: أي: طاب الهواء"، المزهر "1/ 223"، "معرفة الرديء المذموم من اللغات".
3 تاج العروس "8/ 381"، "طم".
4 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "123".
5 شوقي ضيف "123".
6 تاج العروس "3/ 37"، "برر".(16/210)
ومن العرب من يجعل الكاف جيمًا كالجعبة يريد الكعبة. ومنهم من يستعمل الحرف الذي بين القاف والكاف كما في لغة تميم، والذي بين الجيم والكاف في لغة اليمن، وإبدال الياء جيمًا في الإضافة نحو غلامج، وفي النسب نحو بصَرج وكوفج1. ومن ذلك الحرف الذي بين الباء والفاء، مثل بور إذا اضطروا قالوا: فور2.
ومن النوع الثاني، وهو الخاص بلغات منسوبة غير ملقبة عند العلماء:
إبدال "فقيم" الياء جيمًا، ولغتهم في ذلك أعم من لغة قضاعة التي مرت في النوع الأول، لأنها غير مقيدة، فيقولون في بُختي: وعليّ؟ بُختجّ وعلجٌّ.
وحجتج في حجتي، وبج في موضع بي. "وقال ابن فارس في فقه اللغة: إن الياء تجعل جيمًا في النسب عند بني تميم، يقولون: غلامج، أي: غلامي، وكذلك الياء المشددة تحول جيمًا في النسب، يقولون: بَصرِّج وكوفِّج في بصريّ وكوفي. وعكس هذه اللغة في تميم -على ما نقله صاحب المخصص- وذلك أنهم يقولون: صِهْرِيٌ والصهاري، في صهريج والصهاريج"3.
في لغة مازن يبدلون الميم باء والباء ميمًا، فيقولون في بكر: مكر، وفي اطمئن اطبئن، ويقولون: با اسمك؟ مكان ما اسمك؟.
وفي لغة طيء يبدلون تاء الجمع هاء إذا وقفوا عليها، إلحاقًا لها بتاء المفرد؛ وقد سمع من بعضهم: دفن البناه من المكرماه، يريد: دفن البنات من المكرمات.
وحكى قول بعضهم: كيف البنون والبناهن وكيف الإخوه والأخواه؟
وفي لغة طيء أيضًا يقلبون الياء ألفًا بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، وذلك من كل ماضي ثلاثي مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضة كما لو كان الفعل مبنيًّا للمجهول، فيقولون في رضى وهدى: رضا وهُدى، بل ينطقون بها قول العرب: فرس حَظِيّة بظيّة فيقولون: حظاة بظاة، وكذلك الناصاة، في الناصية.
ومن لغتهم أنهم يحذفون الياء من الفعل المعتل بها إذا أُكّد بالنون، فيقولون
__________
1 المزهر "1/ 222 وما بعدها".
2 الصاحبي "54".
3 الرافعي "1/ 141 وما بعدها".(16/211)
في اخشَينَّ وارمين: اخشنّ وارمنَّ. وجاء في الحديث على لغتهم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها".
وتنسب هذه اللغة إلى فزارة أيضًا.
وورد في بعض الروايات أنهم يبدلون الهمزة في بعض المواضع هاء، فيقولون: هِنْ فعلت، يريدون: إن فعلت1.
وورد أن بعض "طيء" كان يقلب "العين" همزة، فيقول: دأني بدلًا من دعني.
وفي لغة تميم أنهم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثي إذا كانت عينه ياء على أصل الوزن بدون حذف، فيقولون في نحو مَبيِع: مبيوع، ولكنهم لا يفعلون ذلك إذا كانت عين الفعل واوًا إلا ما ندر، بل يتبعون فيه لغة الحجازيين، نحو: مقول، ومصوغ.
وفي لغة هذيل لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الإضافة إلى ياء المتكلم، بل يقلبونها ياء ثم يدغمونها، توصلًا إلى كسر ما قبل الياء، فيقولون في عصاي وهواي: عَصِيّ وهَويّ. ولا يفعلون ذلك إذا كانت الألف في آخر الاسم للتثنية، كما في نحو "فَتَياي"، بل يوافقون اللغات الأخرى.
وفي لغة فزارة وبعض قيس، أنهم يقلبون الألف في الوقف ياء، فيقولون: الهُديْ وأفعى وحبلى، في مكان الهدى وأفعى وحبلى.
ومن تميم من يقلب هذه الألف واوًا، فيقول: الهُدّوْ، وأفعو، وحُبلَو.
ومنهم من يقلبها همزة، فيقول: الهُدأ وأفعأ وحُبلأ.
في لغة خثعم وزَبيد يحذفون نون "مِنْ" الجارة إذا وليها ساكن. وقد شاعت هذه اللغة في الشعر واستخفها كثير من الشعراء فتعاوروها2.
في لغة "بلحرث" "بلحارث" يحذفون الألف من "على" الجارة واللام الساكنة التي تليها، فيقولون في على الأرض: علأرض.
في لغة قيس وربيعة وأسد، وأهل نجد من بني تميم، يقصرون "أولاء" التي يشار بها للجمع ويلحقون بها "لامًا"، فيقولون: أولالِك.
__________
1 الرافعي "1/ 142".
2 الرافعي "1/ 143 وما بعدها".(16/212)
في لغات أسماء الموصول:
بلحرث بن كعب وبعض ربيعة يحذفون نون اللذين واللتين في حالة الرفع.
وتميم وقيس يثبتون هذه النون ولكنهم يشددونها، فيقولون: اللذانّ واللتانّ، وذلك في أحوال الإعراب الثلاث.
وطيء تقول في الذي: ذو، وفي التي ذات، ولا يغيرونهما في أحوال الإعراب الثلاث رفعًا ونصبًا وجرًّا1. وقد عرفت بـ"ذي" الطائية. وترد "ذ" "ذو" هذه بهذا المعنى في الصفوية واللحيانية والثمودية.
في لغة ربيعة يقفون على الاسم المنون بالسكون في كل أحوال الإعراب، فيقولون: رأيت خالدْ، ومررت بخالدْ، وهذا خالدْ، وغيرهم يشاركهم إلا في النصب.
وفي لغة الأزد يبدلون التنوين في الوقف من جنس حركة آخر الكلمة، فيقولون:
جاء خالدو، ومررت بخالدي.
وفي لغة سعد يضعفون الحرف الأخير من الكلمة الموقوف عليها إلا إذا كان هذا الحرف همزة أو كان ما قبله ساكنًا، فيقولون: هذا خالدّ، ولا يضعفون في مثل رشأ وبكر.
في لغة بلحرث وخثعم وكنانة، يقلبون الياء بعد الفتحة ألفًا، فيقولون في إليك وعليك ولديه: إلاكَ، وعلاك، ولداه، ومن لغتهم أيضًا إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرًّا، وذلك لقلبهم كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفان فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان.
وورد في بعض الروايات أن بني سعد بن زيد مناة، ولخم ومن قاربها، يبدلون الحاء هاءً، فيقولون في مدحته، مدهته. وأن بني أسعد بن زيد مناة ومن وليهم يبدلون من الهاء فاء، فيقولون: فودج في موضع هودج.
وورد أن أزد شنوءة تقول: تفكهون، وتميم يقولون: تفكنون، بمعنى تعجبون2.
وورد أن "الكلابيين" يلحقون علامة الإنكار في آخر الكلمة، وذلك في
__________
1 الرافعي "1/ 144".
2 الرافعي "1/ 145 وما بعدها".(16/213)
الاستفهام إذا أنكروا أن يكون رأي المتكلم على ما ذكر في كلامه أو يكون على خلاف ما ذكر.
فإذا قلتَ: رأيت زيدًا، وأنكر السامع أن تكون رأيته، قال: زيدًا إنيه! بقطع الألف وتبيين النون، وبعضهم يقول: زيد نيه! كأنه ينكر أن يكون رأيك على ما ذكرت1.
وذكر "الرافعي" الأمور التالية على النوع الثالث، من تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات:
هَلُمّ في لغة أهل الحجاز تلزم حالة واحدة بمنزلة رويد، على اختلاف ما تسند إليه مفردًا أو مثنى أو جمعًا، مذكرًا أو مؤنثًا؛ وتلزم في كل ذلك الفتح؛ وفي لغة نجد من بني تميم تتغير بحسب الإسناد، فيقولون: هلمَّ يا رجل، وهلمي، وهلما، وهلمّوا، وهلمُمْنَ؛ وإذا اسندت لمفرد لا يكسرونها. فلا يقولون: هَلِمَّ يا رجل، ولكنها تكثر في لغة كعب وغنى.
وفي لغة تميم يكسرون أول فَعِيل وفَعِل إذا كان ثانيهما حرفًا من حروف الحلق الستة، فيقولون في لئيم ونحيف ورغيف وبخيل: لِئيم، ونحيف بكسر الأول، ويقولون: هذا رجل لِعِبٌ، ورجل مِحِكٌ، كل ذلك بالكسر وغيرهم بفتحه.
في لغة خزاعة يكسرون لام الجر مطلقًا مع الظاهر والضمير، وغيرهم يكسرها مع الظاهر ويفتحها مع الضمير غير ياء المتكلم؛ فيقولون: المال لِكَ ولِهُ.
هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقًا إذا وقعت بعد ياء ساكنة، فيقولون: لَدَيْهُ وعَلَيْهُ؛ ولغة غيرهم كسرها.
في لغة الحجازيين يحكوم الاسم المعرفة في الاستفهام إذا كان علما كما نُطق به، فإذا قيل: جاء زيد، ورأيت زيدًا، ومررت بزيد، يقولون: من زيدُ؟ ومن زيدًا؟ ومن زيد؟ أما إذا كان غير علم: كجاءني الرجل، أو كان علمًا موصوفًا: كزيد الفاضل، فلا يستفهمون إلا بالرفع، يقولون: من الرجلُ؟ ومن زيدٌ الفاضل؟ في الأحوال الثلاث.
__________
1 الرافعي "1/ 146 وما بعدها".(16/214)
وإذا استفهموا عن النكرة المعربة ووقفوا على أداة الاستفهام، جاءوا في السؤال بلفظة "مَن" ولكنهم في حالة الرفع يُلحقون بها واوًا لمجانسة الضمة في النكرة المستفهم عنها، ويلحقون بها ألفًا في حالة النصب، وياء في حالة الجر، فإذا قلت: جاءني رجل، ونظرت رجلًا، ومررت برجل، يقولون في الاستفهام عنه: مَنُو؟ ومَنا؟ ومني؟ وكذلك يلحقون بها علامة التأنيث والتثنية والجمع. فيقولون: مَنَه؟ في الاستفهام عن المؤنثة، ومنان؟ ومنين؟ للمثنى المذكر، ومَنَتان؟ ومَنتين؟ للمثنى المؤنث: ومنون؟ ومنين؟ للجمع المذكر، ومنات؟ للجمع المؤنث. وهذا كله إذا كان المستفهم واقفًا، فإذا وصل أداة الاستفهام جردها عن العلامة، فيقول: مَن يا فتى؟ في كل الأحوال.
وبعض الحجازيين لا يفرق بين المفرد وغيره في الاستفهام، فيقول: مَنو، ومنا، ومَني، إفرادًا وتثنية وجمعًا في التذكير والتأنيث.
وحفظ عن أهل الحجاز أنهم يعاقبون أحيانًا بين الواو والياء، فيجعلون إحداهما مكان الأخرى، فيقولون في الصواغ: الصياغ، وقد دوخوا الرجل وديخوه. وسمع عن بعض أهل العالية قولهم: لا ينفعني ذلك ولا يضورني، أي: يضيرني، وسمع عن قوم قولهم: في سريع الأوبة: سريع الأيبة. ومنهم من يقول في المصايب: مصاوب، ويقول حكوت الكلام، أي: حكيته. وأهل العالية يقولون: القصوى، ويقول أهل نجد: القصيا.
وقد وردت أفعال ثلاثية تُحكى لاماتها بالواو والياء، مثل عزوت وعزيت، وكنوت وكنيت. وهي قريب من مائة لفظة.
في لغة بكر بن وائل وأناس كثير من بني تميم، يسكنون المتحرك استخفافًا، فيقولون في فَخِذ، والرّجُل، وكَرُمَ، وعَلِمَ: فَخْذن وكرْم، والرّجْل، وعَلْمَ. وهذه اللغة هي في كثير من تغلب. ثم إذا تناسبت الضمتان أو الكسرتان في كلمة خففوا أيضًا، فيقولون في العُنُق والإبلِ، العُنْق، والإبْل.
وحكي أن في لغة أزد السراة تسكين ضمير النصب المتصل1.
__________
1 الرافعي "1/ 151 وما بعدها".(16/215)
ولبعض القبائل لغات في كلمات: فتميم نجد يقولون نِهرٌ، للغدير، وغيرهم يفتحها. والوَتر في العدد حجازية، والوِتر بالكسر في الذّحل: الثأر، وتميم تكسرهما جميعًا، وأهل العالية يفتحون في العدد فقط.
ويقال وَتِدْ، ووتَدْ، وأهل نجد يدغمونها فيقولون: وَدٌ. وبعض الكلابيين يقولون: الدِّواء، وغيرهم يفتحها. والعرب يقولون: شُواظٌ من نار، والكلابيون يكسرون الشين.
والحجازيون يقولون: لعمري، وتميم تقول: وعملي. واللص في لغة طيء، وغيرهم يقول: اللِّصت1.
وهناك لغات في الإعراب:
فتستعمل "هذيل" "متى" بمعنى "مِنْ" ويجرون بها، سمع من بعضهم قوله: أخَرَجها متى كُمَّه، أي: من كُمه.
وفي لغة تميم ينصبون تمييز "كم" الخبرية مفردًا، ولغة غيرهم وجوب جره وجواز إفراده وجمعه، فيقال: كم درهم عندك، وكم عبيد ملكت! وتميم يقولون: كم درهمًا، وكم عبدًا!.
في لغة الحجازيين ينصب الخبر بعد "ما" النافية نحو: ما هذا بشرًا، وتميم يرفعونه.
في لغة أهل العالية ينصبون الخبر بعد إن النافية، سمع من بعضهم قوله: إن أحدٌ خيرًا من أحدٍ إلا بالعافية.
الحجازيون ينصبون خبر ليس مطلقًا، وبنو تميم يرفعونه إذا اقترن بإلا، فيقول الحجازيون: ليس الطيب إلا المسكَ، وبنو تميم: إلا المسكُ.
في لغة بني أسد يصرفون ما لا ينصرف فيما عِلّة منعه الوصفية وزيادة النون، فيقولون: لست بسكران، ويلحقون مؤنثه التاء، فيقولون: سكرانة.
في لغة ربيعة وغنم يبنون "مع" الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبتُ مَعْهُ، وإذا وليها ساكن يكسرنها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون: ذهبت معِ الرجلِ.
__________
1 الرافعي "1/ 152".(16/216)
في لغة "بني قيس بن ثعلبة" يعربون "لَدُن" الظرفية، وعلى لغتهم قرئ "من لدنِه علمًا"، وغيرهم يبنْيها.
الحجازيون يبنون الأعلام التي على وزْن فعَال: كحذام، وقطام، على الكسر في كل حالات الإعراب؛ وتميم تعربها ما لم يكن آخرها راء وتمنعها من الصرف للعَلَمية والعدل، فإذا كان آخرها راء كوبار، اسم قبيلة وظفار اسم مدينة فهم فيها كالحجازيين.
وتعرب هذيل "الذين" اسم الموصول إعراب جمع المذكر السالم، فيقولون:
نحن الَّذون صبحوا الصّباحا ... يوم النخيل غارة ملحاحا
ومن لغة هذيل أيضًا، فتح الياء والواو في مثل بَيْضات، وهيآت، وعَورات، فيقولون: بَيَضات، وهَيآت، وعَوَرات، وبقية العرب على إسكانها1.
وذكر "الرافعي" بعض الأمثلة على المثال الرابع من قبيل: إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء، كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعال والأراني والضفادي. وقد يبدلون بعض الحروف ياء كقولهم في سادس: سادي، وفي خامس: خامي2.
ومن العرب من يجعل الكاف جيمًا، فيقول مثلًا: الجعبة، في الكعبة، وبعضهم ينطق بالتاء طاء: كأفلطني، في أفلتني، وهي لغة تميمية.
وتقول بعض العرب: أردت عَنْ تفعل كذا، وبعضهم يقول: لألّني، في "لعلّني" وفي لعل لغات يقولها بعض العرب دون بعض، وهي: لعلي، ولعلني، وعلّي، وعلّني، ولعنّي، ولفني، ورَعَنَ، ورعنّ، وعنّ، وأن، ولعاء.
وورد تلعثم وتلعزم في لغة بعض الناس، وتضيفت الشمس للغروب، وتصيفت3.
وفي "عند" لغات، هي: عِندي، وعُندي، وعَندي، وفي لدن ثماني
__________
1 الرافعي "1/ 153 وما بعدها".
2 الرافعي "1/ 155".
3 الرافعي "1/ 157".(16/217)
لغات، وهي لَدُن، ولُدُن، ولَدَى، ولَدُ، ولَدْن، ولُدْن، ولَدْ، ولَدَى؛ وفي "الذي": الذين واللِذ، واللّذ، واللذيُّ، وفي التثنية اللذانِ، واللذانَ، واللذا، وفي الجمع: الذين، والذون، والملاءون، واللاءو، واللائي -بإثبات الياء في كل حال- والألى؛ وللمؤنث اللائي، واللاء، واللاتي: واللتِ، واللتْ، واللتان، واللتا، واللتانِّ، وجمع التي اللاتي، واللات، واللواتي، واللوات، واللوان واللاء، واللاتِ1.
ومن لغات "هو" و"هي": هُوْ، وهِيْ، وهُوّ، وهِيّ وهُ، هِـ.
ومن لغات لا جرم: لا جرَ، ولا ذا جرم، ولا ذاجر، ولا إن ذا جرم، ولا عِنْ ذا جرم.
ومن لغات نعم، حرف الإيجاب: نَعِمْ، ونِعِم، ونَحَم.
وبعض العرب يبدل هاء التأنيث تاء في الوقف، فيقول: هذه أمت، في أمة، وبقرت في بقرة، وآيت في آية2.
وذكر "الرافعي" أن النوع الخامس، هو النوع الخاص باللثغة من المتكلم. كالألفاظ التي وردت بالراء والغين وبحروف أخرى3.
ومن مواضع الاختلاف التي ذكرها "الرافعي"، والتي وقعت في القرآن بسبب القراءات: تحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، والفتح والإمالة وما بينهما، والإظهار والإدغام، وضم الهاء وكسرها من عليهم وإليهم وإلحاق الواو فيهما وفي لفظتي منهُمُو وعَنهُمُو، وإلحاق الياء في إليه وعليه وفيه، ونحو ذلك، فكان كل أهل لحن يقرءونه بلحونهم4.
والتضجيع: الإمالة، وكانت تميم وقيس وأسد تميل إلى إمالة الألف، وكان الحجازيون ينطقونها بتفخيم فلا يُميلون، ويظهر أن ذلك لم يكن عامًّا في القبيلة الواحدة، فقد كان بعض منها يميل وبعض منها لا يميل، وفي ذلك قول سيبويه:
__________
1 الرافعي "1/ 157 وما بعدها".
2 الرافعي "1/ 159".
3 الرافعي "1/ 159 وما بعدها".
4 الرافعي "2/ 49".(16/218)
"اعلم أنه ليس كل من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممن يميل، ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه، فينصب بعضٌ ما يميل صاحبه، ويميل بعضٌ ما ينصب صاحبه. وكذلك من كان النصب في لغته لا يوافق غيره ممن ينصب، ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر "الإمالة" فإذا رأيت عربيًّا كذلك فلا ترينه خلط في لغته ولكن هذا من أمرهم"1.
وذك "ابن فارس"، إن من اختلاف العرب في لغاتهم، اختلافهم "في التذكير والتأنيث، فإن من العرب من يقول: هذه البقر، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذه النخيل، وهذا النخيل"، واختلافهم "في الإعراب، نحو: ما زيد قائمًا، وما زيد قائم، وإن هذين، وإن هذان، وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب"، واختلافهم "في صورة الجمع، نحو أسرى وأسارى"2.
وفي هذه اللغة فسر المفسرون الآية: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} ، إذ قالوا: إنها نزلت على لغة بني الحارث بن كعب ومن جاورهم، "وهم يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف وقد أنشدني رجل من الأسد عن بعض بني الحارث بن كعب:
فأطرق أطراق الشجاع ولو يرى ... مساغًا لناباه الشجاع لصمما3
ويظهر من اختلاف العلماء -الذي رأيناه- في نسبة الأمور المذكورة إلى ألسنة القبائل وفي عدم اتفاقهم في كثير من الحالات في تثبيت اللغات المذكورة إلى قبيلة معينة أو حصرها في قبائل وترددهم في أقوالهم، إن ما ذكروه من اختلاف لم يكن حاصل دراسة استقرائية عميقة، وإنما هو حاصل اتصال بأفراد أو بعدد قليل من الأعراب ومن المدعين بالعلم في ألسنة العرب، ولهذا نجد التناقض باديًا في أقوالهم، وصارت دراساتهم المتقدمة ناقصة غير كاملة، لا تتناول إلا أمورًا جانبية لا تمس صلب اللغة ولا تنال قواعدها في الصميم. وعلى علماء اللغة في الوقت الحاضر واجب الخروج على الجادة القديمة التي يسيرون عليها اليوم في دراسة
__________
1 العصر الجاهلي، دكتور شوقي ضيف "122".
2 الصاحبي "49 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "16/ 136".(16/219)
اللغة، بالذهاب بأنفسهم من جديد إلى مواطن اللغة، للأخذ من أحجارها المكتوبة إن وجدت ومن ألسنة الأحياء الباقين، أخذًا علميًّا مقرونًا بدراسات حديثة مبنية على تسجيل الأصوات، للاستعانة بها في الكشف عن لغات العرب بأسلوب علمي حديث.
ويلاحظ أيضًا أن علماء اللغة، قد جمعوا بعض الملاحظات التي ظهرت لهم، من دراساتهم للغة أهل الحجاز، وللغة تميم. فسجلوها في كتب اللغة والقواعد، وقد أشرت إليها فيما تقدم بإيجاز. وإذا قلت أهل الحجاز، فلا أعني لغة قريش وحدها، وإنما لغات القبائل الحجازية، التي تكوّن مجموعة القبائل الساكنة في الحجاز. فإن العلماء حين شرعوا بتدوين اللغة، وجدوا أن لغة أهل مكة لم تعد صافية نقية بسبب اختلاط أهلها بالأعاجم، وظهور الفساد على لسانهم، لذلك، لا نجد لهم ذكرًا بارزًا عند علماء اللغة، وإنما حل محلهم مصطلح: أهل الحجاز.
ويظهر أن عرب "تميم" من علماء اللغة، ووجود عدد من عشائرها في العراق على مقربة من المصريين، ونزول رجال منها البصرة والكوفة، ثم اشتهار رجال من تميم بالفصاحة والبلاغة والخطابة قبل الإسلام، كل هذه وأمور أخرى مكّنت العلماء من تسجيل ملاحظات كثيرة عن لغة تميم، زادت بكثير عن الملاحظات التي دونتها عن القبائل الأخرى، وقد ذكر العلماء في مقابلها ما كان يختلف فيه أهل الحجاز عنهم، فتجمعت لدينا بذلك ملاحظات لغوية ونحوية ميزت لهجات تميم عن لهجات "أهل الحجاز"، وبعض القبائل الأخرى. وقد دخلت هذه الفروق في قراءة القرآن، فقرأ بعض القراء على لغة الحجازيين وقرأ بعض آخر الآيات نفسها على لهجة تميم. كل قرأ على لسانه وتمسك بقراءته، وقد ساعد ذلك عدم وجود الحركات الضابطة للحروف، ولو كانت هناك حركات في مبدأ التدوين تضم الحرف أو تكسره أو تفتحه، لضاق نطاق هذا الاختلاف إذ كان على الناس القراءة وفقًا للمصحف المحرك المشكل الذي اتخذ إمامًا لهم، ولكن عدم وجود مصحف إمام استعمل الشكل والإعجام، سهّل ظهور القراءات.
والخلاف بين "أهل الحجاز" "لغة أهل الحجاز" وبين "تميم"، هو خلاف في إطار مجموعة واحدة من القبائل، هي مجموعة "مضر". فالقبائل الحجازية التي ذكروها هي قبائل مضرية، و"تميم" من قبائل مضر كذلك،(16/220)
في عرف أهل الأنساب. وكان بين أهل مكة، أي: "قريشا"، وبين "تميم" اتصال وثيق قبل الإسلام، وكانت بينهم مصاهرة، وقد عرفت "تميم" واشتهرت بالفصاحة، ولو أخذنا برأي أهل الأخبار، وبما ذكروه عن فصاحة "تميم" وعن كثرة وجود الخطباء والشعراء فيهم، وعن حكومتهم في "عكاظ"، وبما ذكروه عن "قريش" فإننا نخرج بنتيجة هي أن "تميمًا"، كانت أكثر شهرة في بضاعة الكلام من "قريش"، وهي نتيجة تناقض زعمهم أن قريش كانت أصفى العرب لغة، وأن لسانها هو اللسان العربي الفصيح الذي نزل به القرآن، وأنها كانت تجتبى أحسن الألفاظ وأعذبها من بين سائر لغات العرب حتى صار لسانها أفصح الألسنة، وذلك بدليل استشهاد علماء اللغة بلغة تميم من نثر وشعر في شواهدهم وأدلتهم على قواعد اللغة، كثرة لا تقاس بها الشواهد التي استشهد بها العلماء على ضبط اللغة والقواعد، المنتزعة من لسان قريش.
ولو استقصينا ما دوّنه علماء اللغة عن مواطن الاختلاف بين لغات العرب نصل إلى نتيجة أخرى، هي أن لغات كثير من القبائل تميل إلى ترجيح كفة "لغة تميم" على لغة أهل الحجاز، ففي الفتح والكسر، كما في "الوتَر" و"الوتر"، نجد الفتح لغة أهل الحجاز، والكسر لغة تميم وأسد وقيس1.
وقد قرأ بالقراءتين في سورة: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} 2.
قال "الطبري": "واختلف القراء في قراءة قوله: والوتر، فقرأته عامة قراء المدينة ومكة والبصرة وبعض قراء الكوفة بكسر الواو. والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان معروفتان في قراءة الأمصار، ولغتان مشهورتان في العرب فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب"3. فنرى من رواية "الطبري" المذكورة أن غالبية القراء، إنما قرأت بقراءة تميم وأسد وقيس، وإن كانت القراءة الثانية التي هي بالفتح لغة مكة صحيحة.
والقبائل: "تميم" و"قيس" و"أسد"، هي من القبائل التي أكثر علماء العربية أخذ اللغة عنها، ونصوا على اسمها بالذات، فقالوا: "والذين
__________
1 الأمالي، للقالي "1/ 13".
2 سورة الفجر، الرقم 89، الآية3.
3 تفسير الطبري "30/ 110"(16/221)
عنهم نُقلت اللغة العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي، من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"1. فهي في مقدمة القبائل التي ركن إليها علماء اللغة في أخذ اللغة عنهم، يليهم هذيل، فكنانة، وبعض الطائيين.
ومعنى هذا أن بناء العربية، الذي قام به علماء اللغة، إنما أخذ معظم مادته من لغات القبائل الثلاث المذكورة، وهي قبائل أقامت في مواضع متجاورة منذ القدم، وكانت بطونها قد توغلت في بوادي العراق في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام، وفي البحرين ونجد وبعض مناطق اليمامة. فهي تكوّن جزءًا كبيرًا من جزيرة العرب والعراق.
ولتجاور القبائل الثلاث المذكورة في القديم، أثر كبير في تشابك اللغات وفي تقاربها، لأن للجوار أثرًا خطيرًا في تطور اللغة ونموها. ونحن في حاجة اليوم إلى وضع صورة مضبوطة لتوزع القبائل في الجاهلية في جزيرة العرب وبادية الشام على مر الأدوار، لنتمكن بواسطتها من تتبع الأثر السياسي والثقافي لهذه القبائل وذلك فيما قبل الإسلام، ومن دراسة ما ذكره علماء اللغة من فروق بين اللغات بصورة علمية دقيقة مضبوطة، بتسجيل كل ما ذكروه وإحصائه بالضبط، ثم تطبيق ما ذكروه على مواطن هذه القبائل التي ضبطت ضبطًا صحيحًا على هذه الصورة.
ونجد في كتب اللغة والمعاجم أمورًا لغوية كثيرة، مبعثرة لم يشر إليها العلماء إلا عرضًا، مثل قول بني أسد "ييجع" بكسر أوله، مع عدم قولهم "يِعلم" استثقالًا للكسرة على الياء وأمثال ذلك2، مما يحتاج إلى جمع وتصفية للوقوف على قديم اللغات.
وقد عرفت "بنو أسد" ببروزها في شقي الكلام: الشعر والنثر. "قال يونس بن حبيب: ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام،
__________
1 المزهر "1/ 211".
2 تاج العروس "5/ 533"، "وجع".(16/222)
أو شديد العدو1"1. وهي قبيلة شهيرة. أرى أنها قبيلة "Asateni" المذكورة في جغرافية "بطلميوس"، بين "Iodistae" التي تقع أرضها شمال "Asateni"، وهي "جديس"، وقبيلة "Mnasemanes" التي تقع منازلها في شمال غربها في خريطة بطلميوس، وبين "Laeeni" و"Thaemae" الواقعتين إلى الشرق منها، وموضع "Baeti fi. Fontes" الواقع إلى الجنوب وقبيلة "Thanuitae" التي تقع منازها جنوبي هذا الموضع، ثم موضع "Salma"، وهو في الخريطة موضعان: موضع يقع شمالي "Mnasaemanes"، وموضع يقع جنوب غربي2 "Baeti fl. Fontes".
وأما "هذيل"، فمواطنهم "جبال هذيل"3، وهم جيران "سعد بن بكر"4 وجيران "كنانة"5، و"هوازن"، وهي كلها من القبائل التي أثنى العلماء على لغتها. وهذيل من قبائل مضر، ومن القبائل التي أعرقت في الشعر6، وقد استشهد العلماء بشعر شعرائها في اللغة وفي القواعد، ومن هنا عدت في القبائل التي أخذ علماء العربية اللغة منها. وأما "سعد بن بكر"، و"كنانة"، و"هوازن" فهي مثل "قريش" و"هذيل" من مجموعة "خندف" من "مضر".
وأما "بعض الطائيين" الذين أخذ عنهم علماء العربيةِ العربيةَ، فقد نص العلماء على أسمائهم حين استشهدوا بشعر شعرائها. وطيئ، من القبائل اليمانية في عرف النسابين. وهم من القبائل القديمة التي كان لها شأن يذكر قبل الإسلام، بدليل أن "بني إرم" والفرس، أطلقوا على العرب عمومًا كلمة "طيايه" "طيايو" من أصل "طيء" اسم هذه القبيلة. وأن العبرانيين أطلقوا "طبعًا" "ط ي ي ع ا"، "طيايا" "طياية" في مرادف "عرب" مما يدل على أنها كانت أقوى قبائل العرب
__________
1 البيان والتبيين "1/ 174".
2 راجع خريطة "بطلميوس"، جواد علي تأريخ العرب قبل الاسلام "3/ 371".
3 بلاد العرب، للأصفهاني "14 وما بعدها، 20 وما بعدها، 23 وما بعدها، 25 وما بعدها، 32".
4 المصدر نفسه "ص13 وما بعدها".
5 كذلك "ص19 وما بعدها، 21 وما بعدها".
6 تاج العروس "8/ 166".(16/223)
قبل الإسلام بزمن طويل1، وربما كان هذا شأنهم قبل الميلاد.
ولا يفهم من أقوال علماء اللغة عن لغتهم، أنها كانت ذات صلة بالعربيات الجنوبية، وأما ما ذكروه من "ذي" التي نعتوها بـ"ذي" الطائية، فليس لها صلة بـ"ذ" الواردة في العربيات الجنوبية، وإنما هي سمة خاصة بلهجة "طيء" التي هي من العربية الشمالية، أو من مجموعة عربية "ال" في اصطلاحي الذي أطلقته على العربية الشمالية، لامتيازها بأداة التعريف هذه عن بقية اللهجات العربية التي استعملت أداة أخرى للتعريف. ولهذا فإن قبيلة "طيء" هي قبيلة عربية من القبائل المتكلمة بعربية "ال"، وإن عدّ النسابون نسبها من الجنوب.
وما ذكرته من فروق واختلاف، فإنما هو مما يتناول الاختلاف الكائن بين اللهجات العربية الشمالية، وأكثره مما يتناول لهجات القبائل في عهد التدوين، في الأيام التي ظهر فيها الوعي بوجوب تسجيل علوم اللغة وضبطها، فكان أن أخذ علماء اللغة من الفصحاء وممن اشتهر بالعلم باللغة من الصحابة والتابعين، كما أخذوا من الأعراب الذين كانوا يفدون على البصرة والكوفة، وهم من قبائل مختلفة، لكنهم على الأكثر من أعراب البوادي القريبة من العراق، ومن القبائل الضاربة في البادية، فقد ذهب قوم من علماء اللغة إلى البادية معدن اللغة للأخذ من ألسنة أهلها مباشرة، ولاستقراء لهجاتها للتوصل بذلك إلى معرفة اللغة والقواعد. فكان من هذا الجمع ومن مراجعة القرآن والشعر والحديث، هذا المدون في الكتب من علوم العربية. فهو كله إذن تدوين ظهر في الإسلام.
ولكننا لا نستطيع أن نتحدث عن ذهاب عدد كبير من العلماء إلى البوادي لدراسة لهجات القبائل، كما لا نستطيع التحدث عن الطرق والأساليب التي سلكوها في جمع اللغة وفي البحث عنها وأخذها من أفواه أصحابها، لعدم وجود شيء من ذلك في الموارد الموجودة لدينا الآن. نعم لقد ذكروا أن أقدم من ذهب إلى البادية: يونس بن حبيب "183هـ"، و"خلف الأحمر" "180"، و"الخليل بن أحمد" "175هـ"، و"أبو زيد" الأنصاري "215هـ"، و"الكسائي" "189هـ" الذي ذهب إلى وادي الحجاز ونجد وتهامة، ورجع وقد أنفد خمس
__________
1 الجزء الأول من هذا الكتاب "ص31".(16/224)
عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ1، ولكننا لا نعرف شيئًا عن بحوثهم وعن استقراءاتهم ولا عن طرقهم التي اتبعوها في بحثهم وتنقيرهم عن اللغة، والأغلب أنها تناولت الغريب والشعر، ثم إننا لا نستطيع التحدث عن هذه الرحلات بشيء من الاطمئنان والثقة، لما قد يكون في كلام رواتها من المبالغة والإضافة والافتعال بسبب العصبية إلى المدينة وإلى العلماء.
ويلاحظ أن معظم الملاحظات المدونة عن اللغات تناولت قبائل ألِف علماء العربية الأخذ عنها والاستشهاد بكلامها، وهي قبائل يرجع النسابون نسبها على طريقتهم إلى "معد"، ويظهر من ملاحظات العلماء عن لهجاتها أنها كانت تتكلم بلهجات متقاربة، ترجع إلى المجموعة التي تستعمل "ال" أداة للتعريف. أما القبائل التي رجع أهل النسب نسبها إلى قحطان، والتي استشهد بشعرها فهي: الأزد، وحمير، وبعض طيء، وخثعم. أما كندة، ومنها الشاعر "امرؤ القيس"، فلا نجد لها ذكرًا في هذه اللغات، وإن استشهد بشعر شاعرها وبشعر غيره من شعراء هذه القبيلة، وقد أشير إلى اليمن، ولكنهم لم يذكروا قصدهم منها، ويظهر أنهم أرادوا بهم أعراب اليمن، وهم مهاجرون في الأصل هاجروا من باطن الجزيرة إلى اليمن بعد أن ضعف الحكم فيها على أثر تدخل الحبش في شئون اليمن وتقاتل الملوك بعضهم مع بعض، مما أفسح المجال للأعراب بدخول العربية الجنوبية، فكوّنوا قوة خطيرة فيها، أشير إليها في كتابات المسند بـ"وأعربهم". "وأعربهمو" كما أشرت إلى ذلك في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.
ولا تزال بعض اللهجات باقية، تتكلم بها القبائل على سليقتها الأولى، وآسف لأن أقول: إن علماء العربية في الوقت الحاضر، لم يوجهوا عنايتهم نحوها لدراستها قبل انقراضها وزوالها، مع أن دراستها من الأمور الضرورية بالنسبة لهم، لأنها تساعد في تعيين أصول العربيات وفي تثبيت المجموعات اللغوية العربية، وقد نستنبط منها أمورًا علمية كثيرة فات على علماء العربية القدامى يومئذ تسجيلها، لأنها لا تزال باقية، فبواسطة الطرق الحديثة في البحث يمكن العثور على ما فات على أولئك العلماء من أمور.
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 344 وما بعدها".(16/225)
وقد لاحظ "فؤاد حمزة"، أن أهل نجد أصرح في الوقت الحاضر لغة من أهل الحجاز، لقرب هؤلاء من الحرمين واختلاطهم بالأجانب، وبعد أولئك عن كل تلك العوامل. ولكن أفصح اللهجات وأقربها إلى الفصحى هي اللهجات اليمانية الواقعة ما بين جنوبي الحجاز واليمن. وقد ذكر أنهم يتكلمون الألفاظ من مخارجها الصحيحة، ويتكلمون بما هو أقرب إلى الفصيح من سواه. ويتكلم بعض البداة منهم بكلم معرب فصيح1.
ولاحظ أن لغات القبائل لا تزال مختلفة، فمنهم من يقلب "الجيم" ياء فيقول: "المسيد"، بدلًا من "المسجد" وهم قوم من اليمن والنمور في وادي محرم، ومنهم من يقلب القاف والكاف "تس"، فيقول: "حكى" "حتسى"، وهم من أهل نجد، ومنهم من يقلب "الكاف" "تش"، فيقول: "بكى" "بتش"، ومنهم من يقلب "القاف" "كافًا" مفخمة، فيقول: "كال" في موضع "قال"، وهي من لغات أهل نجد، ومنهم من يقلب "الكاف" "سينًا"، فيقول: "عبيسي"، في موضع "عبيكي" ومنهم من يقلب "القاف" "جيمًا"، فيقول: "العجير" في موضع "العقير"، ومنهم من يقلب "الظاء" "لامًا"، فيقول: "اللهر" في موضع "الظهر"، ومنهم من يقلب "الضاد" "لامًا"، فيقول: "الليف" في موضع "الضيف"، ومنهم من يجعل "الياء" بين الألف والياء، فيقول: "امطاير" في موضع "مطير"2.
ويلاحظ أن قبائل العراق لا تزال تستعمل مثل هذه اللهجات وغيرها، فيستعمل بعضها حرف العين في موضع الهمزة، فيقولون: "سعال" في موضع "سؤال" وتستعمل بعض القبائل حرف "الياء" في موضع "الميم"، فتقول: "يومن"، في موضع "مومن"، أي: "مؤمن"، وغير ذلك، وتستعمل بعضها الياء في موضع "الجيم"، فتقول: "ريال" في موضع "رجَّال"، أي: "رجل".
وذكر أن أهل اليمن يستعملون "الميم" في موضع "ال" أداة التعريف، فيقولون: "أم بيت" في موضع "البيت"3. وقد أشير في الحديث إلى هذه
__________
1 قلب جزيرة العرب "99".
2 قلب جزيرة العرب "100".
3 قلب جزيرة العرب "100".(16/226)
اللغة، ويظهر أنها لغة خاصة، ربما كانت حاصل إدغام حرف الجر "من" في الكلمة التي دخلت عليها، فـ "أم بيت"، هي "من البيت" أو أنها لهجة من اللهجات التي تكلم بها أهل اليمن الشماليون، جعلت "الميم" أداة للتعريف.
لأننا نعلم -كما سبق أن ذكرت- أن حرف "الميم" أداة للتنكير في اللهجات العربية الجنوبية، فيقال: "بيتم" في موضع "بيت"، وتلحق آخر الاسم. أما أداة التعريف فحرف "ن" يلحق آخر الكلمة كذلك، ولا يدخل على أولها كما في "ال"، يقال: "بيتن" في موضع "البيت"، و"ملكن" في مقابل "الملك".
وذكر "فؤاد حمزة" أن قبيلة "فهم"، وتقع منازلها اليوم بين بني ثقيف شمالًا والجحادلة غربًا، تتكلم بعربية قريبة جدًّا من العربية الفصحى، وهي مشهورة بالفصاحة1.
وفي العربية الجنوبية قبائل تتكلم اليوم بلهجات يرجع نسبها إلى اللهجات العربية الجنوبية القديمة؛ لأن في ألفاظها وفي تراكيب جملها، ودراستها في هذا اليوم، ضرورة لازمة لمن يريد الوقوف على تأريخ اللغة العربية قبل الإسلام، ومن الضروري كذلك وجوب دراسة اللهجات "الشحرية" و"المهرية" و"السواحلية" و"السقطرية"، ولهجات السواحل الأفريقية المقابلة لجزيرة العرب للوقوف على تطور اللغات العربية الجنوبية، وعلى حل رموزها التي لا تزال مغلقة غير معروفة عند علماء هذا اليوم. لما لهذه اللهجات من صلات بالعربيات المذكورة.
وأرى من الضروري دراسة اللهجات العربية الحالية في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب، ولا سيما في المواضع التي استخرج العلماء من باطنها نصوصًا مدونة بلهجات عربية قديمة، مثل أعالي الحجاز لنتمكن بهذه الدراسة من حل معضلات تلك الكتابات ومن تكوين رأي علمي واضح عن تطوّر تلك اللهجات فيما قبل الإسلام.
وأرى من الضروري في هذا اليوم وجوب تأليف معجم لغوي، يضم اللهجات العربية القديمة، أي: اللهجات الجاهلية التي وردت في النصوص الجاهلية، للوقوف عليها، ولا سيما على اللفظ الغريب منها، ومقارنتها بالألفاظ التي ترد في اللهجات
__________
1 قلب جزيرة العرب "178".(16/227)
العربية الأخرى لإحياء ما يمكن إحياؤه من الميت منها، واستعماله في هذا اليوم، للأشياء التي قصرت العربية الفصحى عن وضع مسميات لها، أو أن مسمياتها حوشية، لا تنسجم مع الذوق، وإدخال الألفاظ الواردة في النصوص في المعاجم الموسعة العلمية التي تؤرخ الألفاظ، بأن تشير إلى ورودها لأول مرة في الشعر أو في النصوص الجاهلية. كما أرى من الضروري وجوب العناية بدراسة ما ذكره العلماء عن اللهجات دراسة علمية نقدية تقوم على المقابلة والمطابقة والمقارنة باللغات الأخرى مع تسجيل قواعدها حسبما أمكن.(16/228)
الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن
مدخل
...
الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن
ولتشخيص لغة القرآن صلة كبيرة في تعيين وتثبيت المراد من العربية الفصيحة -أي: العربية المبينة- ولهذا فأنا مضطر إلى التعرض لها، وإن كان الموضوع بحثنا إسلاميًّا، فأقول نزل القرآن منجمًا {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . ولكن العرب كانوا ولا زالوا يتكلمون بلهجات، فبأية لهجة من لهجاتها نزل القرآن الكريم؟
لقد تطرق "الطبري" في مقدمة تفسيره إلى هذا الموضوع بعد أن تعرض لرأي من زعم أن في القرآن كلمًا أعجميًّا، وأن فيه من كل لسان شيئًا، فقال: "قال أبو جعفر: قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغتها. فنقول الآن: إذا كان ذلك صحيحًا في الدلالة عليه، فبأي ألسن العرب أنزل؟ أبألسن جميعها أم بألسن بعضها؟ إذ كانت العرب وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب، فهم مختلفوا الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلام. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جلّ ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربيًّا، وأنه أنزل بلسان عربي مبين، ثم كان ظاهره محتملًا خصوصًا وعمومًا، لم يكن السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه إلا ببيان من جعل إليه بيان القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك،(16/229)
وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه، صلى الله عليه وسلم، بما حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أنس بن عياض عن أبي حازم عن أبي سلمة، قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفرٌ -ثلاث مرات- فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه" 1.
واستمر الطبري بعد ذلك في تعداد الطرق التي ورد فيها هذا الحديث: حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، ورواية بعض الأخبار الواردة في حدوث اختلاف بين الصحابة في حفظ بعض الآيات وقراءتها. ثم خلص بعد هذا السرد إلى نتيجة، هي أن القرآن "نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التي بين أظهرهم هي ببعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها"2، فلم يجزم بتعيين اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم.
وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" حديث معروف مشهور، يرد في كتب التفاسير وفي كتب المصاحف والقراءات. ورد بطرق متعددة، وبأوجه مختلفة وهذه الطرق والأوجه، وإن اختلفت في سرد متن الحديث وفي ضبط عباراته، قد اتفقت في الفكرة، وخلاصتها نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف.
ويقصدون بالحرف وجهًا من أوجه الألسنة، أي: لهجة من اللهجات3.
أما رجال سند هذا الحديث، فعديدون، وفي حال بعضهم كابن الكلبي وأبي صالح مغمز4. وهم جميعًا يرجعون سندهم إلى جماعة من الصحابة، هم نهاية سلسلة السند، قالوا: إنهم سمعوا الحديث من الرسول، ويعنون بهم: عمر بن الخطاب، وعثان بن عفّان، وابن عبّاس، وابن مسعود، وأُبي بن كعب، وأنسًا، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأبا بكرة، وأبا جهم، وأبا سعيد.
__________
1 تفسير الطبري "1/ 9 وما بعدها"
2 تفسير الطبري "1/ 25".
3 تفسير الطبري "1/ 9"، تاج العروس "6/ 68"، "حرف"، ابن كثير، فضائل القرآن "53 وما بعدها"، الصاحبي "57".
4 تفسير الطبري "1/ 23".(16/230)
الخدري، وأبا طلحة الأنصاري، وأبا هريرة، وأبا أيوب، وجملتهم واحد وعشرون صحابيًّا على بعض الروايات1.
وورد في الحديث، حديث آخر يرجع سنده إلى "ابن عباس" فيه تأييد له، نصه أن رسول الله قال: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف"، وحديث آخر، نصه: "إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددتُ إليه: أن هوّن على أمتي، فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف"، وحديث ثالث نصه: "إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري؛ فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف"، "وفي حديث أبي بكرة عنه: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت. فعلمت أنه قد انتهت العدة" 2. وهناك أحاديث أخرى بهذا المعنى3.
ونجد في كتب التفسير والحديث والأخبار أحاديث وأقوالًا تشير إلى أن بعض الصحابة كانوا يقرأون قراءات متباينة وكانوا يتعززون بقراءتهم ويتمسكون بها، ومنهم من كان يقرأها على الرسول فلم يعترض عليها، بل روي أنه قال: "اقرأوا كما علمتم" 4. وروي أنه "جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد وأقرأنيها أُبي بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وعليٌّ إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان بما عَلِمَ كلّ حسن جميل". ورووا على لسان عمر بن الخطاب قوله: "سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يُقْرِئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلّم. فلما سلّم، لببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها
__________
1 السيوطي، الإتقان في علوم القرآن "1/ 131".
2 السيوطي، الإتقان "1/ 131 وما بعدها"، ابن كثير، فضائل القرآن "54".
3 الزرقاني، مناهل العرفان "132 وما بعدها".
4 تفسير الطبري "1/ 9".(16/231)
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام". فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا عمر".
فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منها" 1. وكالذي ذكروه من أن رجلًا قرأ عند "عمر" فغير عليه، "فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يغير عليّ. فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا رسول الله ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: "بلى" فوقع في صدر عمر شيء فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك في وجهه فضرب صدره وقال: أبعد شيطانًا! قالها ثلاثًا. ثم قال: "يا عمر: إن القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابًا، أو عذابًا رحمة" 2.
وروي "أن رجلين اختصما في آية من القرآن وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فتقارءا إلى أُبيّ فخالفهما أُبي فتقارأوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله اختلفنا في آية من القرآن وكلّنا يزعم أنك أقرأته! فقال لأحدهما: "اقرأ"، قال: فقرأ، فقال: "أصبت". وقال للآخر: "اقرأ"، فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه، فقال: "أصبت". وقال لأبي: "اقرأ"، فخالفهما. فقال: "أصبت"، قال أبي: فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دخل فيّ من أمر الجاهلية. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: "استعذ بالله من الشيطان الرجيم". قال: ففِضتُ عرقًا، وكأني أنظر إلى الله فَرقَا، وقال:
__________
1 تفسير الطبري "1/ 10"، ابن كثير، فضائل القرآن "72 وما بعدها"، الإصابة "3/ 571"، "3/ 571"، "رقم 8965".
2 تفسير الطبري "1/ 10".(16/232)
"إنه أتاني آت من ربي، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: ربّ، خفف عن أمتي. قا: ثم جاء، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلتُ: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاءني الرابعة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة" ... إلخ1".
ورُوي عن زيد بن وهب، قال: أتيت ابن مسعود أستقرئه آية من كتاب الله، فأقرأنيها كذا وكذا. فقلت: إن عمر أقرأني كذا وكذا خلاف ما قرأها عبد الله. قال: فبكى حتى رأيت دموعه خلال الحصى، ثم قال: اقرأها كما أقرأك عمر، فوالله لهي أبين من طريق السيلحين2.
وأورد العلماء أحاديث أخرى بهذا المعنى، تظهر كلها وقوع الخلاف بين الصحابة في قراءة القرآن، وعلم الرسول به، وتجويزه لهم القراءة بقراءتهم كل إنسان بما علم3.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الحرف وما أريد منها على أقوال.
جمعها القرطبي على خمسة وثلاثين قولًا4، وجعلها "السيوطي" على نحو أربعين قولًا5، تحدث هو وغيره عنها، والحديث عنها في هذا الكتاب يخرجنا من حدود بحثنا المرسومة، وهو التأريخ الجاهلي، لذلك فسوف لا أتكلم في هذا المكان إلا عن الأقوال التي عينت تلك الأحرف ونصت على أسمائها بالنص والتعيين، فأقول:
قد رأينا الأحاديث المذكورة والأخبار المروية، وهي عامة، لم تنص على أن المراد من الأحرف السبعة حرفًا معينًا، ولسانًا خاصًّا من ألسنة العرب، غير أننا نجد أخبارًا، نصت على تلك الأحرف وعينتها وشخصتها، إذا تتبعنا سندها
__________
1 تفسير الطبري "1/ 14".
2 ابن سعد "1/ 270".
3 تفسي الطبري "1/ 9 وما بعدها"، ابن كثير، فضائل القرآن "55 وما بعدها".
4 ابن كثير، فضائل القرآن "74 وما بعدها"، السيوطي، الإتقان "1/ 138".
5 السيوطي، الإتقان "1/ 131".(16/233)
ورجالها نجدها تنتهي بـ"ابن عباس". وأكثر القائلين بها هم من علماء العربية مثل "أبو عبيد" و"أبو عمرو بن العلاء" وثعلب، والأزهري، وسند هذه الأخبار "الكلبي" عن "أبي صالح" عن "ابن عباس"، أو عن "قتادة" عن ابن عباس، وأمثال ذلك من طرق. فقد ورد عن "ابن عباس" قوله: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال أبو عبيد: والعجز، هم بنو سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن. ويقال لهم: عليا هوازن. ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم، يعني بني دارم1، "وأخرج أبو عبيد من وجه آخر، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خُزاعة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة، يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم"2.
"وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهُذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر"3. وذكر بعض آخر أنه نزل بلغة قريش، وهذيل، وثقيف، وهوازن، وكنانة، وتميم، واليمن4 وسعد بن بكر، هم من عليا هوازن5. ومعنى هذا أنه نزل بلغات عدنانية ولغات قحطانية، أي: بجميع ألسن العرب.
وقد تعرض "الطبري" للأقوال المذكورة، قال: "وروي جميع ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك أن الذي روى عنه أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن: الكلبي عن أبي صالح، وأن الذي روى عنه أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة: قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه"6. وقد ضعف "ابن الكلبي"، ورفض علماء
__________
1 تفسير الطبري "1/ 23"، ابن كثير، فضائل القرآن "67"، السيوطي، الإتقان "1/ 135"، الصاحبي "57".
2 تفسير الطبري "1/ 23"، السيوطي، الإتقان "1/ 135".
3 السيوطي، الإتقان "1/ 135".
4 الزرقاني، مناهل العرفان "173".
5 المزهر "1/ 210 وما بعدها".
6 تفسير الطبري "1/ 23".(16/234)
الفقه والحديث الأخذ عنه1 وضعف "أبو صالح" كذلك واتهم بالكذب:
"قال ابن معين: إذا روى عنه الكلبي فليس بشيء2".
وأما "قتادة"، فذكر "الطبري" عنه أنه لم يلق "ابن عباس"، ولم يسمع منه3 فحديثه عن ابن عباس إذن مما لا يجوز الأخذ به. فروايته: "نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة"، رواية لا يعتمد عليها لهذا السبب. ولقتادة رواية أخرى بهذا المعنى نسبها إلى "أبي الأسود الدؤلي"، زعم أنه قال: "نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لُؤي". وقد علق "خالد ابن سلمة" على هذا الكلام فقال: "ألا تعجب من هذا الأعمى يزعم أن القرآن نزل بلسان الكعبين؟ وإنما نزل بلسان قريش" قال مخاطبًا به "سعد بن إبراهيم"4.
وقد رمي قتادة بالتدليس5.
وينتهي سند هذا الحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إلى "أبي هريرة"6، وقد كثر القول عن أبي هريرة، وأكثر "أبو هريرة" الحديث عن رسول الله، حتى قال الناس: أكثر أبو هريرة الحديث عن رسول الله، وكان يقول لهم: "إني كنت امرءًا مسكينًا، أصحب رسول الله صلى الله عليه سلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم"، وذكر أن مسند "تقي بن مخلد، احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلاف وثلثمائة حديث وكسر"7، وقد يكون بعض ما أسند إليه مما أكثر عليه، أكثره عليه من جاء بعده، ثم إن علينا نقد حديثه، فليس هو بمشرع ولا معصوم، حتى قبل منه كل ما روي عنه8. بل روي أن "عمر بن الخطاب" قال له: "أكثرت يا أبا هريرة من الرواية، وأحر
__________
1 ميزان الاعتدال "3/ 256"، لسان الميزان "6/ 196".
2 ميزان الاعتدال "1/ 137 وما بعدها".
3 وقد تحدثت عنه بالمناسبة في بحث "موارد تأريخ الطبري" المنشور في مجلدات مجلة المجمع العلمي العراقي، تفسير الطبري "1/ 23".
4 تفسير الطبري "1/ 23".
5 ميزان الاعتدال "2/ 345".
6 تفسير الطبري "1/ 9 وما بعدها".
7 الإصابة "4/ 202"، "رقم1190".
8 محمود أبو رية، أضواء على السنة المحمدية، وكتابه شيخ المضيرة.(16/235)
بك أن تكون كاذبًا على رسول الله. ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول لله فإنه ينفيه إلى بلاده.
وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس"1.
وهناك رأي ثالث يقول: إنه نزل بلغة مضر، لقول "عمر": نزل القرآن بلغة مضر وعيّن بعضُهم -فيما حكاه- ابن عبد البرّ السبع من مضر، أنهم هذيل، وكنانة، وقيس، وضبّة، وتيم الباب، وأسد بن خزيمة، وقريش.
فهذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات"2. وذكر أن "عمر" لما أراد "أن يكتب الإمام، أقعد له نفرًا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر"3. ولما كانت القبائل المذكورة من مجموعة "مضر"، تكون لغة القرآن، وفقًا لهذا الرأي لغة مضر، لا لغة قريش، وروي عن "عبد الله بن مسعود"، أنه كان يستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر4.
وعندنا أخبار أخرى تفيد أن القرآن إنما أنزل بلغة قريش. من ذلك ما روي من قول عمر: "لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش، أو غلمان ثقيف"5 وفسروا ذلك بأنه يعني أن القرآن إنما نزل بلغة قريش. وما روي من قول "عثمان" للرهط القرشين الذين أوكل إليهم جمع القرآن وكتابته: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا"6، وما روي عنه أيضًا، من أنه لما استفتى في اختلاف
__________
1 أضواء على السنة المحمدية "200 وما بعدها".
2 السيوطي، الإتقان "1/ 136".
3 ابن كثير، فضائل القرآن "20".
4 الصاحبي "57".
5 ابن كثير، فضائل القرآن "20"، "وقال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، الصاحبي "57 وما بعدها"، السجستاني، المصاحف "11"، السيوطي، إتقان "1/ 59".
6 ابن كثير، فضائل القرآن "31"، "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، إن القرآن أنزل بلسانهم"، المصاحف "20".(16/236)
"زيد" مع الرهط في كتابة "التابوت" أيكتبونه بالتاء أو الهاء، وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت، وقال زيد: إنما هو التابوه، قال: "اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم"1، وما روي عنه أيضًا من قوله للرهط الذين أمرهم بكتابة القرآن: "إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا"2.
واستنكر "ابن قتيبة" قول من قال: إن القرآن نزل بلغات أخرى، فقال: "لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش"، واحتج بالآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 3. واحتج آخرون بقول "عمر" لعبد الله بن مسعود: "إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش"4.
وروي في "البخاري"، أن القرآن نزل بلسان قريش والعرب. وقريش خلاصة العرب5. وذكر بعض العلماء أنه نزل "بلغة الحجازيين إلا قليلًا، فإنه نزل بلغة التميميين كالإدغام في: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} ، وفي: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} ؛ فإن إدغام المجزوم لغة تميم، ولهذا قل، والفك لغة الحجاز ولهذا كثر"6.
وذكر بعض العلماء "أن في القرآن من أربعين عربية وهي: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وكندة، وتميم، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومذحج، وخُزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعامر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبليّ، وعذرة، وهوازن، والنمر، واليمامة7.
__________
1 ابن كثير، فضائل القرآن "35"، تفسير النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان "1/ 24"، "حاشية على تفسير الطبري".
2 ابن كثير، فضائل القرآن "19"، إرشاد الساري "6/ 8 وما بعدها".
3 السيوطي، الإتقان "1/ 135".
4 الفائق "2/ 113".
5 ابن كثير، فضائل القرآن "1/ 19 وما بعدها".
6 السيوطي، الإتقان "2/ 103".
7 الزرقاني، مناهل العرفان "174"، السيوطي، الإتقان "2/ 102"، الصاحبي "58 وما بعدها".(16/237)
وذكروا أن مما وقع في القرآن من غير العربية: الفرس، والروم، والنبط، والحبشة، والبربر، والسريانية، والعبرانية، والقبط1.
وقال بعض العلماء: "أنزل القرآن أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد"2.
وذهب "الباقلاني" إلى أن "معنى قول عثمان: إنه نزل بلسان قريش، أي: معظمه، ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريش كله، قال الله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، ولم يقل قرشيًّا، قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولًا واحدًا يعني حجازها ويمنها، وكذا قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر، قال: لأن لغة غير قريش موجودة في صحيح القراءات كتحقيق الهمزات فإن قريشًا لا تهمز، وقال ابن عطية: قال ابن عباس: ما كنت أدري معنى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} ، حتى سمعت أعرابيًّا يقول: لبئر ابتدأ حفرها: أنا فطرتها"3.
وسند القائلين: إن القرآن نزل بلسان قريش، كون الرسول من مكة، ومكة موطن قريش. فلا بد من نزول كتاب الله بلسانهم، ليكون حجة عليهم وإعجازًا لفصائحهم، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 4، فعلى هذا تكون لغة القرآن لغة قريش5، ولما جاء في الأخبار التي رويت عن "عمر" و"عثمان" من أنه نزل بلسان قريش.
ومن حججهم أيضًا ما رووه عن "أبي عبيد الله" من قوله: "أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالتهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة. وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته. فكانت وفود العرب من
__________
1 السيوطي، الإتقان "1/ 102"، الصاحبي "61".
2 السيوطي، الإتقان "1/ 136".
3 ابن كثير، فضائل القرآن "77".
4 سورة إبراهيم، الآية4.
5 السيوطي، الإتقان "1/ 135".(16/238)
حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم. ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها أهل الله؛ لأنهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام، ولم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله جل ثناؤه، لهم وتشريفًا، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولاعجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي تسمعه من أسد وقيس"1.
وروي عن "قتادة" قوله: "كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتهم لغتهم، فنزل القرآن بها"2.
ثم إنها كانت بعيدة عن الأعاجم، فصان بعدها عنهم لسانها عن الفساد، وحفظها من التأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية3.
ولكننا نجد خبرًا يذكر أن "عثمان" قال للرهط الذين أمرهم بجمع القرآن وكتابته: "اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف"4، وليست هذيل ولا ثقيف من قريش. ونجد خبرًا آخر يذكر أنه كانت غمغمة في لغة قريش، والغمغمة من اللغات الرديئة التي أخذها علماء اللغة على اللغات العربية الأخرى5، فكيف تتفق الغمغمة مع ما ذكره من صفاء ونقاء وسهولة وبيان لغة قريش! ثم نجد خبرًا يذكر أن الخليفة "أبو بكر"، لما هم بجمع القرآن، بعد إلحاح
__________
1 الصاحبي "52 وما بعدها"، "باب القول في أفصح العرب"، المزهر "1/ 210"، غريب القرآن "1/ 10".
2 اللسان "2/ 77"، "1/ 588"، "صادر"، "عرب".
3 مقدمة ابن خلدون، الفصل الثامن والثلاثون من القسم السادس، الهلال، السنة 26، "أكتوبر 1917م"، "1/ 43".
4 الصاحبي "58".
5 تاج العروس "9/ 6"، "غمم".(16/239)
"عمر" عليه بذلك، "أجلس خمسة وعشرين رجلًا من قريش، وخمسين رجلًا من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن، واعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح"1، ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش، لما اختار هذا العدد الكثير من الأنصار، وهم من غير قريش، ومن منافسي مكة في الجاهلية والإسلام، إن صح هذا الخبر، الذي أشك في صحته.
ثم نجد خبرًا آخر يناقض الخبر المتقدم، يقول: "لما كُتبت المصاحف عُرضت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيّروها؛ فإن العرب ستغيرها –أو قال ستعربها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف"2. وهو خبر أشك في صحته، وللعلماء فيه آراء.
وأما ما قالوه من اختلاف "زيد" مع النفر القرشيين الذين أشركوا معه في جمع القرآن من كتابة "التابوت" بالتاء أو بالهاء، وكان من رأيه كتابتها "التابوه"، ومن رأي "عثمان" "التابوت"3، فقد ذكر العلماء أن "التابوه" لغة في التابوت أنصارية4. واللفظة هي من المعربات، أخذها الأنصار من العبرانية، فهي عندهم "ت ب هـ" "ط ب هـ" "Tabh" "Teba" بمعنى صندوق5.
وقد كتبت في القرآن بالتاء. وقد وردت اللفظة في سورة "طه"، وهي مكية6، ووردت في سورة البقرة وهي مدينة7.
وأقرب الأقوال المذكورة إلى المنطق، هو قول من قال: إنه نزل بلسان عربي وكفى. فاسم العرب يتناول جميع القبائل تناولًا واحدًا، يعني حجازها ويمنها وكل مكان آخر من جزيرة العرب8، ثم ما بالنا نفسر ونؤول، ونلف وندور في تفسير: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف"، وهو حديث، روي بروايات
__________
1 اليعقوبي "1/ 125"، "خلافة أبي بكر".
2 السيوطي، الإتقان "2/ 270".
3 الزينة "1/ 146".
4 تاج العروس "1/ 532" "تبت".
5 غرائب اللغة "211".
6 السورة رقم20، الآية39.
7 السورة رقم2، الآية 248.
8 ابن كثير، فضائل القرآن "77".(16/240)
تحتاج إلى نقد، وفيها ضعف، وأخبار ضعيفة، لا تقف على قدميها، ثم نترك كتاب الله القائل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، و {هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 2 و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3، و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 4، و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} 5، و {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 6، و {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 7، و {كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 8، و {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 9، {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 10، ولم يقل قرشيًّا11، ولو نزل بلغة قريش لما سكت الله تعالى عن ذلك، لما في التنويه بلسانهم إن كان أفصح ألسنة العرب من حجة على العرب في فصاحته وبيانه وكونه معجزة بالنسبة لقريش، أفصح الناس وألسنهم، وليس بكلام العرب عامة الذين هم على حد قول أهل الأخبار دون قريش في اللغة والكلام.
وما آية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 12، إلا دليلًا وحجة على نزول القرآن بلسان العرب، لا بلسان قريش، أو بلسان قبيلة معينة، أو قبائل خاصة. فالآية تقول: "ما أرسلنا إلى أمة من المم يا محمد من قبلك ومن قبل قومك رسولا إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليه ولغتهم، ليبين لهم. يقول: ليفهمهم ما أرسله الله إليهم من أمره ونهيه وليثبت حجة الله عليهم
__________
1 الشعراء، الرقم26، الآية 195.
2 النحل، الرقم16، الآية 103.
3 يوسف، الرقم12، الآية2.
4 الرعد، الرقم13، الآية 37.
5 طه، الرقم20، الآية113.
6 الزمر، الآية28.
7 فصلتن الرقم41، الآية3.
8 الشورى، الرقم42، الآية7.
9 الزخرف، الرقم43، الآية3.
10 الأحقاف، الرقم46، الآية12.
11 ابن كثير، فضائل القرآن "77".
12 سورة إبراهيم، الآية4.(16/241)
ثم التوفيق والخذلان بيد الله"1. ولما كان النبي عربيًّا، وقد نعت في القرآن بأنه "النبي الأمي"2، الذي أرسله الله إلى الأميين، رسولًا منهم"3، والأميون هم العرب، العرب كلهم، ولما كان الله قد أرسله إلى قومه العرب، وجب أن يكون الوحي بلسانهم المفهوم بينهم، بلسان طافة منهم، يؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم نفسه من أنه نزل بلسان عربي مبين. "قال الأزهري: وجعل الله، عز وجل، القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها، العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا لأنه من صريح العرب"4. وقال "ابن خلدون": "إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه"5. وقال "الطبري" في تفسيره للآية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 6، "يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا هذا الكتاب المبين قرآنًا عربيًّا على العرب؛ لأن لسانهم وكلامهم عربي، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه ويفقهوا منه. وذلك قوله عز وجل: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} "7.
"قال ابن أبي داود في المصاحف: حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا أُبي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن8. ونعت أنه كان أحد أشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة" وفي هذه الإشارة دلالة على أن لهجة الرسول، لم تكن لهجة عاة قريش، وإنما كانت بالعربية التي نزل بها القرآن، ولهذا نص على أن لهجة "سعيد" كانت
__________
1 تفسير الطبري "13/ 121".
2 الأعراف، الآية 157 وما بعدها.
3 الجمعة، الرقم62، الآية2.
4 اللسان "1/ 588"، "عرب".
5 المقدمة "367"، "1930م".
6 سورة يوسف، الآية2.
7 تفسير الطبري "12/ 89".
8 الإصابة "2/ 45"، "رقم 3268".(16/242)
مشابهة للهجة الرسول، وكان من أفصح رجال قريش، ولو كانت عربية القرآن عربية قريش، لما كان هنالك معنى لقولهم: إن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله، إذ لو كانت عربية القرآن عربية قريش، لنص عليها، ثم لكان في وسع أي رجل كاتب من قريش، تدوينه، لفصاحة قريش، ولكن سعيدًا كان من فصحاء قريش، لأنه كان يتكلم بعربية فصيحة، هي العربية التي نزل بها القرآن، والتي عرف فصحاء قريش فصاحتها، فاعترفوا لذلك بنزوله بأفصح لغة وأبين بيان.
وقد ذهب "نولدكه" إلى أن القول بنزول القرآن بلسان قريش، إنما ظهر في العصر الأموي، لإظهار عصبيته منها على الأنصار. ونظرًا لكون القرآن كتاب الله فلا دعاء نزوله بلغة قريش أهمية كبيرة بالنسبة لهم، ولتأييد سياستهم المناهضة للأنصار وللقحطانيين1.
ويلفت حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" النظر إليه حقًّا، فقد حصر القراءات في "سبعة أحرف". والأحرف الألسنة، مع أن العلماء يذكرون أن في القرآن من كل لغة، وأن فيه خمسين لغة2. فإذا كان فيه هذا العدد أو نحوه، فما بال هذا الحديث يحصرها في سبعة فقط لا تزيد ولا تنقص وهي أحرف ثبتها العلماء ونصوا على أسمائها نصًّا. هل أخذوا هذا الحديث من "السبع المثاني" في القرآن الكريم، من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 3.
أو أخذوه من عدد سبعة الذي يرد في مواضع عديد من القرآن الكريم؟ مثل سبع سماوات4، وسبع سنابل5، وسبع سنبلات6، وسبع بقرات7، وسبع سنين8،
__________
1 ولفنسون، السامية "207".
2 "وقال أبو بكر الواسطي في كتابه: الإرشاد في القراءات العشر: في القرآن من اللغات خمسون لغة: لغة قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج ... إلخ"، السيوطي، الإتقان "2/ 102".
3 الحجر، الرقم15، الآية87، تفسير الطبري "14/ 35 وما بعدها".
4 البقرة، الآية29.
5 البقرة، الآية261.
6 يوسف، الآية43.
7 يوسف، الآية43.
8 يوسف، الآية47.(16/243)
وسبع شداد1، والسماوات السبع2، وسبع ليال3، وسبعًا شدادًا4، وسبعة أبواب5 وسبعة أبحر6، والعدد سبعة هو عدد الأيام التي أتم الله فيها الخلق كله، وعدد أيام الأسبوع، ونحو ذلك. والعدد سبعة عدد لعب دورًا خطيرًا عند الشعوب القديمة، فالأرض سبع طبقات، والسموات سبع طباق، وأنغام الموسيقى سبعة، والعدد سبعة عدد مقدس، لعب دورًا في الرياضيات القديمة وفي نظريات "فيثاغورس"، وعيون الشعر الجاهلي هي سبعة، هي القصائد السبع الطوال، أو المعلقات السبع، فهل اقتصر الحديث على هذا العدد لسبب من هذه الأسباب أو ما شابهها، من أسباب؟
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن العدد سبعة لا يمثل حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. ولفظ "السبعة" يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين. ويرده ما في كتب الحديث والأخبار من النص على العدد سبعة بصورة لا تقبل الشك في أن المراد منه حقيقة العدد وانحصاره، ثم تعيين هذا الكتب اللهجات السبع بالأسماء7، وقد ألف "الصفدي" كتابًا في عدد السبعة، سماه "عين النبع على طرد السبع" قال فيه: إن السبعة جمعت العدد كله، وهذا العدد يمثل الكمال، فأنا لا أستبعد أن يكون هذا الحديث قد جاء من هذه الفكرة8.
__________
1 يوسف، الآية48.
2 الإسراء، الآية44، المؤمنون الآية86، فصلت، الآية12، الملك، الآية3، نوح، الآية15.
3 الحاقة، الآية7.
4 النبأ، الآية12.
5 الحجر، الآية44.
6 لقمان، الآية27.
7 السيوطي، الإتقان "1/ 131 وما بعدها".
8 الرافعي "2/ 54".(16/244)
القراءات السبع:
ومن الأحرف السبعة ظهرت نظرية القراءات السبع، القراءات المعتبرة المعتمدة عند القراء، وهي ترجع إلى أئمة ارتبطت القراءات بأسمائهم، وعليها يقتصر في(16/244)
القراءات. وهي نتيجة تطور سابق لقرّاء سبقوا هؤلاء الأئمة الذين اعتمد عليهم في القراءات1، وعلى قراءاتهم يقرأ من يستحق لقب "مقرئ" أو "قارئ"2، وإن كانت هنالك روايات تزيد بعض الزيادات على هذه القراءات.
ولأجل تكوين فكرة علمية صحيحة عن هذه الأخبار وعن درجة سعة هذا الاختلاف ومقدارها وما يجب أن يقال فيها، لابد من نقد كل ما ورد في هذا الباب من حديث وروايات، وغربلته غربلة دقيقة. وتكون أول هذه الغربلة في نظري بنقد سلسلة رجال السند، أي: الرواة، لمعرفة الروابط التي كانت تربط بينهم وصلة بعضهم ببعض وملاقاتهم، وما قيل وورد فيهم؛ إذ نسبت أحاديث إلى أشخاص قيل: إنهم رووها عن أناس ثقات، ثبت من النقد أن بعض رجال السند لم يلتقوا في حياتهم بمن حدثوا عنهم كما في حديث قتادة عن ابن عباس، أو أنهم رووا ما رووه تسرعًا وبدون سند أو إجازة لمجرد سماعهم برواية أولئك الأشخاص لتلك الروايات3.
ثم إن هذا النقد لا يكفي وحده، بل لا بد من نقد متن الحديث من حيث لغته وأسلوبه ومضمونه وروحه، ومن حيث انطباق بعض الروايات على جوهر القرآن الكريم وما عرف عن الرسول. فبهذا النقد للمتن، نتمكن من الحكم على إمكان صدور الحديث عن الرسول أو عدمه.
وبعد كل ما تقدم، علينا حصر أمثلة الاختلاف التي ذكرها العلماء، وضبط كل ما ورد في الأخبار من هذا القبيل، لنتمكن من الحكم على مقدار ما اختلف فيه وسعته ودرجة موافقته لما جاء في ذلك الحديث وفي تلك الأخبار، ثم دراسة هذه الكلمات التي قيل: إنها تمثل لهجات قبائل وأنها حرف من هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث.
لقد لخص "ابن قتيبة" الأحرف السبعة بالأوجه التي يقع بها التغاير:
فأولها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ} بفتح الراء وضمها.
__________
1 ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله "121"، النشر "1/ 31 وما بعدها".
2 كولدزيهر، المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن "37".
3 تفسير الطبري "1/ 23"، "25/ 72"، المذاهب الإسلامية "81 وما بعدها".(16/245)
وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل بَعّدَ وباعد، بلفظ الطلب والماضي.
وثالثها: ما يتغير باللفظ مثل: نُنشزها ونُنْشرها بالراء المهملة.
رابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل طلح منضود وطلع منضود.
خامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: وجاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت سكرة الحق بالموت.
وسادسها: ما يتغير بالزيادة والنقصان، مثل: وما خلق الذكر والأنثى، والذكر والأنثى، بنقص لفظ ما خلق.
سابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى، مثل: كالعهن المنفوش، وكالصوف المنفوش1.
وأجمل "ابن الجزري" الأوجه السبعة بـ:
1- وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو: البخل بأربعة أوجه، ويحسب بوجهين.
2- أو بتغير في المعنى فقط نحو: فتلقى آدم من ربه كلمات، برفع آدم ونصب لفظ كلمات وبالعكس.
3- وأما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: تبلو، وتتلو.
4- وعكس ذلك، نحو بصطة وبسطة، ونحو الصراط والسراط.
5- أو بتغيرهما نحو فامضوا، فاسعوا.
6- وإما في التقديم والتأخير، نحو فيقتلون، ويقتلون، بفتح ياء المضارعة مع بناء الفعل للفاعل في إحدى الكلمتين، ويضمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى.
7- أو في الزيادة والنقصان.
وقد أوجز "أبو الفضل" الرازي، الحروف السبعة في:
1- اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث.
مثل: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، قرئ هكذا جمعًا، وقرئ لأمانتهم بالإفراد.
__________
1 الزرقاني، مناهل "152".(16/246)
2- اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر. مثل: فقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ، قرئ هكذا بنصب لفظ ربنا على أنه منادى، وبلفظ باعد فعل أمر، وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء. وقرئ هكذا: ربُّنا بَعَّد. برفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعَّد، فعلًا ماضيًا مضعف العين جملته خبر.
3- اختلاف وجوه الإعراب. مثل: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} .
قرئ بفتح الراء وضمها، فالفتح على أن لا ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي إدغام المثلثين. أما الضمّ فعلى أنّ لا نافية، فالفعل مرفوع بعدها.
4- الاختلاف بالنقص والزيادة. مثل: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} ، قرئ بهذا اللفظ. وقرئ أيضًا والذكَرِ والأنثى، بنقص كلمة ما خلق.
5- الاختلاف بالتقديم والتأخير. مثل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق} ، وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت.
6- الاختلاف بالإبدال. مثل: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} ، بالزاي، وقرئ ننشرها بالراء. ومثل: {وَطَلْحٍ مَنْضُود} ، بالحاء، وقرئ طلع بالعين. فلا فرق في هذا الوجه أيضًا بين الاسم والفعل.
7- اختلاف اللغات، أي: اللهجات، كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإظهار، والإدغام ونحو ذلك1.
ونحن إذا تعمقنا في درس مواضع الاختلاف، وهي أهم ما يتصل بلهجة القرآن الكريم، وسجلناها تسجيلًا دقيقًا شاملًا، نجد أنها ليست في الواقع اختلافًا في أمور جوهرية تتعلق بالوحي ذاته، وإنما هي في الغالب مسائل ظهرت بعد نزول الوحي من خاصية القلم الذي دوّن به القرآن الكريم. فرسم أكثر حروف هذا القلم متشابه، والمميز بين الحروف المتشابهة هو النقط، وقد ظهر النقط بعد نزول الوحي بأمد كما يقول العلماء، ثم إنّ هذا القلم كان خاليًا في بادئ
__________
1 الزرقاني، مناهل العرفان "148 وما بعدها"(16/247)
أمره من الحركات، وخلوّ الكلم من الحركات يحدث مشكلات عديدة في الضبط من حيث إخراج الكلمة، أي: كيفية النطق بها، ومن حيث مواقع الكلم من الإعراب1.
كل هذه الأمور وأمور أخرى تعرض لها العلماء، أحدثت في الغالب القسم الأعظم مما يعدّ اختلافًا في القراءات.
ويعود القسم الباقي من مواضع الاختلاف إلى سبب أراه لا يتعلق أيضًا بمتن النص، وإنما هو، كما يتين من الإمعان في دراسته ومن تحليل الآيات المختلف فيها، زيادات وتعليقات من ذهن الحفاظ والكتاب على ما أتصور، لعدم وضوح المعنى لديهم، لعلها كانت تفسيرًا أو شرحًا لبعض الكلم دوّنت مع الأصل، فظنت فيما بعد من الأصل. وإثبات التفسير مع المتن، جائز على بعض الروايات2.
ويعود قسم آخر منه إلى استعمال كلمات قد تكون مخالفة لكلمة من حيث شكلها، ولكنها متفقة معها في معناها، وإلى استعمال كلمات متباينة في الشكل وفي المعنى. وهذا القسم هو، ولا شك، أهم أقسام الاختلاف، وإليه يجب أن توجه الدراسة.
هذه الأمور المذكورة، تحصر جميع ما ورد من اختلاف في كلمات أو آيات من القرآن الكريم. أما ما ذكره العلماء من الأوجه التفسيرية للحديث: حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومن جعلها خمسة وثلاثين وجهًا أو سبعة أوجه أو أقل من ذلك أو أكثر3، فإنها تفاسير متأخرة، وأوجه نظر قيلت لإيجاد مخارج مسوغة لتفسير هذا الحديث.
ويصعب في هذا الموضع ذكر أمثلة لهذه الأمور، فهي عديدة كثيرة، ذكرت في كتب المصاحف وفي كتب التفسير، وأورد شواهد منها "كولدتزيهر" في كتابه عن "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن"، يمكن الاطلاع عليها في الصورة
__________
1 الهمداني، الإكليل "8/ 122"، المذاهب الإسلامية "4 وما بعدها".
2 "جواز إثبات بعض التفسير على المصحف، وإن لم يعتقده قرآنًا"، المذاهب الإسلامية "11 وما بعدها"، الزرقاني على الموطأ "1/ 255".
3 النشر "1/ 21 وما بعدها"، السيوطي، إتقان "1/ 78 وما بعدها"، تفسير القرطبي "1/ 16".(16/248)
العربية له المطبوعة بمصر1. فمن أمثلة الاختلاف الحادث من الخط "تستكبرون" بالباء الموحدة و"تستكثرون" بالثاء المثلثة في الآية: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} 2.
و"بشرًا" أو "نشرًا" في الآية: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} 3. وكلمة "إياه" في الآية: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ، إذ وردت أيضًا "أباه" بالباء الموحدة4.
وأمثال ذلك مما كان سببه النقط.
وبعد ملاحظة ما تقدم، وحصر كل ما ورد في المصاحف وما قرأه القراء من قراءات، نجد أن ما يختص منه باللهجات وباللغات قليل يمكن تعيينه، ومعظمه مترادفات في مثل: أرشدنا واهدنا، والعهن والصوف، وزقية وصيحة، وهلم وتعال وأقبل، وعجل وأسرع5، والظالم والفاجر، وعتى وحتى6، وأمثال ذلك.
وهذه الأمثلة هي كلمات مختلفة لفظًا، ولكنها في معنى واحد. وهي كما ترى مفردات لا دخل لها في قواعد اللهجات.
وأما الاختلاف في الإظهار، والإدغام، والإشمام، والتفخيم، والترقيق، والمدّ، والقصر، والإمالة، والفتح، والتحقيق، والتسهيل، والإبدال. فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى؛ لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا7، وليس هو من قبيل الاختلاف المؤثر في قواعد اللهجة، إنما هو اختلاف في الصور الظاهرة لمخارج حروف الكلمات، فلا يصح أن يعد فارقًا كبيرًا يمكن أن يكون حدًّا يفصل بين اللهجات، بحيث يصيرها لغة من اللغات، ثم إن بعضه يعود إلى الخط، وبعضه إلى التجويد.
__________
1 "القاهرة 1944م"، "علي حسن عبد القادر".
2 الأعراف، آية48.
3 الأعراف، آية57.
4 التوبة، آية114.
5 النشر "1/ 29 وما بعدها"، القرطبي "1/ 16"، السيوطي، إتقان "1/ 79 وما بعدها".
6 مباني "9"، Noldeke, Geschichte, I, 51
7 النشر "1/ 26 وما بعدها".(16/249)
أي طريقة التلاوة والأداء1.
وللحكم على أصل المترادفات، تجب مراجعة سلسلة السند للوصول إلى صحة تسلسل الأخبار من جهة، وإلى معرفة راوي الخبر والقبيلة التي هو منها لمعرفة القراءة التي قرأها، وهل هي من لهجة قبيلته، أم هي مجرد كلمة من اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم نفسها، تلقّاها القارئ على الشكل الذي رواها في قراءته.
لقد أشار العلماء إلى أمثلة من كلمات غير قرشية وردت في القرآن الكريم، ذكروا أنها من لهجات أخرى، ومنها: الأرائكُ، ولا وَزَرَ، و"حور"، وأمثال ذلك رجع بعضهم أصولها إلى خمسين لهجة من لهجات القبائل، كما أشاروا إلى وجود كلمات معربة أخذت من لغات أعجمية مثل الرومية، والفارسية، والنبطية، والحبشية، والسريانية، والعبرانية وأمثال ذلك2، وألّفوا في ذلك كتبًا، منها: كتاب لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة "223هـ" "838م"، واسمه: "رسالة في ما ورد في القرآن من لغات القبائل"3، وكتاب لغات القرآن، لأبي زيد الأنصاري المتوفى سنة "214هـ" "829م"4، وغيرهما. ثم إن الذين تناولوها لم يكن لهم علم بأكثر اللغات التي رجعوا أصولها إليها، ولا سيما اللغات الأعجمية مثل الرومية، والسريانة، والنبطية، والحبشية.
غير أن من الجائز أن يكون هؤلاء قد سمعوا عنها من الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام. ولكن طريقة السماع هذه لا تكفي لإعطاء حكم على أصل لغة، بل لا بد من وجود علم ومعرفة بقواعد تلك اللغة وتأريخها وتطورها، والإحاطة بالعلاقات التأريخية بين العرب وغيرهم قبل الإسلام لمعرفة كيفية دخول تلك الكلمات إلى العرب، وإيجاد وجه صحيح للمقارنة بين اللغتين وهذا ما لم يحدث في تلك الأيام.
__________
1 راجع بعض الأمثلة في "ص7" من كتاب المصاحف: للسجستاني "تحقيق أرثر جفري"، "القاهرة 1936م".
2 السيوطي، إتقان "1/ 229 وما بعدها".
3 طبع مع كتاب الديريني المسمى "التيسير في علم التفسير"، في القاهرة سنة 1910هـ، ومع تفسير الجلالين المطبوع في القاهرة كذلك سنة 1356هـ.
4 الفهرست "55".(16/250)
ولما كانت قراءة عبد الله بن مسعود من القراءات المشهورة المعروفة، وكان عبد الله بن مسعود من قبيلة هُذيل1، وجب علينا البحث في لهجة هذيل لمعرفة خصائصها ومميزاتها وما انفردت به عن غيرها من اللهجات. وهذيل من القبائل التي عرفت بجودة لهجتها، في تدوين القرآن الكريم2. ولذلك رأى الخليفة عثمان أن يكون المملي من هذيل والكات من ثقيف. وقد ذكرت لهجتها في جملة اللهجات التي نص عليها في الحديث المذكور على نحو ما أشرت إليه، كما أخرجت عددًا من الشعراء جمع بعض العلماء أشعارهم في ديوان، وقد طبع في القاهرة ديوان شعراء هذيل3. ويفيدنا شعر هؤلاء الشعراء بالطبع في الوقوف على لهجة هذه القبيلة. ولكن هذا الشعر هو مثل شعر سائر الشعراء الجاهليين الآخرين، مصقول مهذب، هذّب على وفْق قواعد اللغة العربية التي ضبطت في الإسلام، ثم هو مضبوط برواية رواة هم في الأغلب من غير هذيل. ولهذا قلما نجد في شعر هؤلاء الشعراء وغيرهم ما يختلف عن قواعد اللهجة العربية، حتى أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن ندعي أن هذا الشعر هو بلهجة هذيل. وقد حرمنا العقلُ الوقوفَ على لهجات القبائل التي أخرجت أولئك الشعراء ومعرفة مؤثراتها في شعر أولئك الشعراء.
ومن أهم الأمثلة التي أوردها العلماء في قراءة "ابن عباس" مما له علاقة باللهجات، قراءته كلمة "حتى" "عتى" في الآية: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 4. وقد ذكر المفسرون وعلماء اللغة أن هذه القراءة هي بلهجة هذيل5، وأن "عتى" هي "حتى" عند هذه القبيلة؛ ذلك لأن هذه القبيلة تستعمل حرف العين بدلًا من الحاء في لهجتها6. ولم يشر
__________
1 طبقات ابن سعد "1/ 15"، "3/ 105"، عيون الأخبار "373".
Ency., 2, 403, Goldziher, Vorlessungen, S., 65
2 الصاحبي "28"، "وقال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف.
وقال عثمان: اجعلوا المحلي من هذيل، والكاتب من ثقيف"، Rain, P. 79
3 الخصائص "1/ 130"، ديوان الهذليين: القاهرة 1945، مطبعة دار الكتب المصرية.
4 سورة يوسف الرقم12، آية35.
5 البيضاوي "1/ 460"، ابن مالك، التسهيل "57".
6 المزهر "1/ 133"، "1/ 222"، "القاهرة 1958م"، "الباب الحادي عشر"، Rabin, P. 84(16/251)
العلماء إلى موضع أخرى استعمل "ابن مسعود" فيها كلمة "عتى" في موضع "حتى" الواردة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما أننا لم نجد في كتب اللغة المتقدمة إشارة إلى استبدال هذيل حرف العين بحرف الحاء. ونظرية "فحفحة" هذيل، رأي متأخر لم يقرن بأدلة وأمثلة، فهو رأي لا يمكن الأخذ به1.
وأظن أن هذه القراءة المنسوبة إلى "ابن مسعود"، هي من القراءات المتولدة من حدوث اشتباه في القراءة، من جراء عدم حصول التمييز بين "العين" و"الحاء" في "حتى". ووقوع الاشتباه بين الحرفين في ابتداء الكلمات، أمر ليس بصعب، وإلا فَلِمَ انفرد ابن مسعود في هذا الموضع فقط، باستعمال "عتى"، ولم يستعملها في المواضع الأخرى وهي كثيرة في القرآن الكريم؟
نعم، لقد ورد في روايات أن ابن مسعود قرأ "نحم" بدلًا من "نعم" في القرآن الكريم2،وأنه قرأ "بُحثرَ" عوضًا عن "بُعْثرَ"3. وهذه الروايات تناقض الروايات السابقة التي تزعم أنه قرأ "عتى" في موضع "حتى" في الآية المذكورة، إذ نجده في هذه الروايات يقرأ "العين" حاء، أي: عكس تلك القراءة المنسوبة إليه. ثم إنّ المفسرين وعلماء القراءات، لم يشيروا إلى قراءات أخرى له من هذا النوع قلب فيها حرف العين حاء مع تعدّد ورود حرف العين في القرآن الكريم.
وهناك روايات تفيد أن أسدًا وتميمًا استعملوا حرف الحاء في موضع العين في بعض الحالات، فقالوا: "مَحَهُمْ" بدلًا "معَهُم" و"أأحهد" في موضع "أأعهد"4. ولكنها لم تشر إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل. وهذان المثالان لا يكفيان بالطبع لإعطاء حكم في هذا الإبدال عند القبيلتين. ولكن هنالك رواية متأخرة لا نعرف مرجعها تفيد أن هذا الإبدال واقع في لهجة سعد بن بكر، وهي قبيلة تقع مواطنها في شمالي المدينة5. ولكن ما صلة ابن مسعود بهذه القبيلة وهو
__________
1 Rabin, P. 85
2 المغني "2/ 25".
3 {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور} ، العاديات، الرقم100، الآية9، Rabin, p. 85. Beck, in Orientalia, vol., XV, 182
4 Rabin, P. 85
5 المصدر نفسه.(16/252)
من هذيل؟ هل نفترض أنه أخذ قراءته تلك من أفواه رجال هذه القبيلة؟ إذا أخذنا بهذا الظنّ، وجب علينا إثبات ذلك بدليل، وذكر أسماء الصحابة الذين أخذ ابن مسعود منهم قراءته. ويجب حينئذ رَجعُ تلك القراءة إلى أولئك الصحابة لا إلى ابن مسعود. والواقع أننا لا نستطيع أبدًا الإتيان بدليل ما يثبت استعمال هذيل حرف العين في كلامها في موضع الحاء وبالعكس.
ورأيي أن ما نسب إلى ابن مسعود في هذه القراءة أو القراءات الثلاث، سببه وهمٌ وقع فيه مَنْ نسب تلك القراءة إليه، وهو ناتج من كتابة المصحف المنسوب إليه. وإلا، فلا يعقل أن يقتصر ابن مسعود على هذه القراءة أو القراءات التي هي ليست من لهجة أهل مكة ولا أهل يثرب ولا هذيل، ثم يترك سائر المواضع.
ولا يعقل كذلك تلفظ الرسول بهذه اللهجة الشاذة التي لا نعرف من كان يستعملها على وجه ثابت، وقد نزل القرآن بأفصح اللهجات.
وإلى أمثال هذه القراءات الشاذة، التي يجب نقدها وتمحيصها بعناية، استند "كارل فولرس" في نظريته القائلة بحدوث تغيير في نص القرآن الكريم. وهي نظرية لم يُقرّها عليه بعض كبار المستشرقين. ولو فحصت ودققت لتبين أنها بنيت على روايات لا تثبت أمام التمحيص، أخذها لمجرد ورودها في الكتب.
ولكن ليس كل ما يرد في الكتب بأمر مسلم به.
وقد بحث العلماء في اللغات التي وقعت في القرآن بغير لغة قريش، وفي جملتها لغة حمير، ورجعت إلى بحوثهم، فوجدت أن ما نسب إلى الحميرية من كلمات، لا يحمل طابع الحميرية، وليس من لغة العرب الجنوبيين بشيء. وقل مثل ذلك عن لغة "جرهم"، فقد دوّنوا ألفاظًا زعموا أنها وردت بلغة "جرهم"، ونحن نعلم من أقوال أهل الأخبار أنفسهم أن "جرهمًا" كانوا من الشعوب العربية البائدة التي هلكت قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ماتت لغتهم معهم بالطبع، فكيف تمكن العلماء من تشخيص هذه الألفاظ ومن إرجعاها إلى جرهم؟ وقد وجدت أيضًا أن ما ذكروه من أمثلة أخرى على لغات القبائل التي وردت ألسنتها في القرآن هو من هذا القبيل، ولا سيما القبائل الهالكة مثل "مدين"، فالعلماء الذين شخصوا تلك اللهجات التي زعموا أنها وردت في القرآن، يذكرون أن بعض أصحاب هذه اللهجات هم من العرب البائدة، فهم ممن ماتوا وبادوا، وماتت(16/253)
لغتهم بموتهم، فما يذكرونه من ألفاظ لغاتهم الواردة في القرآن، هو مما لا أصل له إذن. ثم إنهم نسبوا ألفاظًا إلى "حمير"، وجدنا أنها ليست حميرية أبدًا، أضف إلى ذلك أنهم لم يدرسوا العربيات الجاهلية دراسة علمية، ولم يكن لهم علم بها، ولهذا فما ثبتوه ودوّنوه عن اللغات العربية في القرآن، لا يمكن الأخذ به، لأنه لا يستند على علم بالموضوع، ولا على دراسات لتلك اللهجات.
ومن أمثلة ما ذكروه على أنه من لسان "حمير"، الأرائك، ولا وزر، بمعنى لا جبل، وحور، ولهو، بمعنى: المرأة، ولا تفشلا، وعثر، وسفاهة، وزيلنا، ومرجوا، وإمام. وغير ذلك1، وذكروا أن "باءوا"، وشقاق، وخيرًا وكدأب، وأراذلنا، ولفيفا، وغير ذلك من لغة جرهم2، وهي كلها من تخرصات من نسبها إلى جرهم، لما قالوه أنفسهم من هلاك جرهم قبل الإسلام بزمان طويل، فمن أبلغهم إذن أن هذه الألفاظ من ألفاظ جرهم، ولِمَ نزلت في القرآن، وقد نزل الوحي للأحياء وليس للأموات!
وقد ذهب البعض مذهبًا بعيدًا في اللغات الواردة في القرآن، فذهب إلى أن "غساق"، بمعنى المنتن بلسان الترك، وهو بالطخارية3، وأن "سيدها" زوجها بلسان القبط، وأن "الأرائك" بالحبشية، وأن "سبحى" بلسان الحبشية، وأن "الجبت" الشيطان بلغة الحبش، وأن "حرم" بمعنى وجب بالحبشة، وأن "سكر"، بمعنى الخَلّ بلغة الأحباش، وأن "سينين" بمعنى الحسن بلسان الحبشة، وأن "شطر" حبشية، وأن "العرم" حبشية، وأن "قنطار" بلسان أهل إفريقية، إلى غير ذلك من ألفاظ4.
ونجد رواية تذكر أن الصحابة لما تشاوروا في أمر تسمية القرآن، ما يسمونه؟ "فقال بعضهم: سموه السفر، قال: ذلك اسم تسمية اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف"5، فجعلوا اللفظة حبشية.
__________
1 المزهر "2/ 93 وما بعدها".
2 المزهر "2/ 95 وما بعدها".
3 الإتقان "2/ 115".
4 الإتقان "2/ 109 وما بعدها".
5 السيوطي، الإتقان "1/ 166".(16/254)
ولو درسنا الألفاظ المعربة المذكورة، نجد أن العلماء قد أخطأوا في تشخيصها وخلطوا في الغالب بين أصولها، بسبب أنهم لم يكونوا يحسنون اللغات الأعجمية، ما عدا الفارسية، وأنهم لم يراجعوا أهل العلم والتخصص في اللغات الأعجمية، من رجال الدين من أهل الكتاب، أو المتبحرين بالأدب من الروم والسريان، بل اكتفوا بمراجعة أيًا كان ممن كانوا يعرفونهم من نصارى ويهود، وحيث أنه لم يكن لدى هؤلاء علم المتبحرين في الدين والأدب، جاءت أجوبتهم فجة أو مغلوطة، ودوّنت على هذه الصورة.
ونظرًا لعدم وقوف العلماء على اللغات العربية الجنوبية، جعلوا ألفاظًا عربية واردة في القرآن مثل "العرم" لفظة حبشية1، مع أنها لفظة عربية جنوبية، مدوّنة في النصوص، وجعلوا ألفاظًا أخرى من هذا القبيل، من الألفاظ المعربة عن لغات أعجمية.
وقد اتخذ بعض العلماء حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، دليلًا على نزول القرآن بلغة قريش، فقد قالوا: إن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن واقعة كلها في لغة قريش، ذلك أن قريشًا كان قد داوروا بينهم لغات العرب جميعًا وتداولوها، وأخذوا ما استملحوه من هؤلاء وهؤلاء في الأسواق العربية ومواسمها، وأيامها ووقائعها، وحجها وعمرتها، ثم استعملوه وأذاعوه، بعد أن هذبوه وصقلوه. وبهذا كانت لغة قريش مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة، وكان هذا سببًا من أسباب انتهاء الزعامة إليهم، واجتماع أوزاع العرب عليهم، ومن هنا شاءت الحكمة أن يطلع عليهم القرآن من هذا الأفق، وأن يطل عليهم من سماء قريش2.
وهو استنتاج غير مقنع، لما أورده العلماء أنفسهم من أقوال وتفسير للحديث المذكور، ولما أوردوه من أن الصحابة من قريش، كان يشكل عليهم اللفظ من القرآن مثل "أبا" فيسألون عنه، لأنه لم يكن من لغة قريش. فقد ذكروا أن "عمر"، قرأ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} حتى أتى على هذه الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} ، فقال: قد علمنا الفاكهة فما الأب. ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا
__________
1 الإتقان "2/ 109".
2 الزرقاني، مناهل العرفان "183".(16/255)
لهو التكلف. وذهب البعض إلى أن المراد من اللفظة ما أنبتت الأرض للأنعام، وذكر بعض العلماء أنها بلغة الحبش1. وذكروا أشياء أخرى من هذا القبيل، تعارض قبول هذا الاستنتاج.
والذي أراه أن نص القرآن يعارض حديث الأحرف السبعة، ففيه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 2، وفيه: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 3 وفيه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فليس للرسول أن يغير أو يبدل ما نزل به الوحي عليه، ثم إنه كان لا ينتهي من الوحي، حتى يأمر من يكون عنده بتدوينه بلسانه حال نزوله عليه، وإذا لم يكن هناك كاتب أمر من يستدعي له كاتبًا ليدونه، فكيف يتفق ذلك مع هذا الحديث، ومع الأمثلة التي ذكروها في القراءات؟ ورد أن الرسول علم "البراء بن عازب" دُعاء فيه: "ونبيك الذي أرسلت"، فلما أراد البرّاء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله قال: "ورسولك الذي أرسلت"، فلم يوافقه النبي على ذلك، موضع لفظة نبي، مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو رسول ونبي معًا، فكيف كان يُجيز أن يوضع في القرآن مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم، وكيف نقبل هذه الرواية التي تذكر أن "عبد الله بن مسعود" أقرأ رجلًا كلمة "الفاجر" بدلًا من كلمة الأثيم في الآية: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} 4، مع ورود المنع عن تغيير أي حرف من حروف القرآن، وهل يعقل قيام "ابن مسعود" بذلك وسكوت الصحابة عن عمله، لو صحّ أنه فعل ذلك.
ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش وحدها، فلمَ كان الصحابة من قريش مثل "أبو بكر" و"عمر" وغيرها، يتحيرون في تفسير ألفاظ وردت فيه، أو يلجأون إلى الشعر يستعينون به في تفسير القرآن، والشعر هو شعر العرب، لا شعر قريش وحدها. قال "ابن عباس" "إن الشعر ديوان العرب"، وكان
__________
1 عبس، الآية31، تفسير الطبري "30/ 38"، الإتقان "2/ 108".
2 البروج، 85، الآية22.
3 يونس، 10، الآية15.
4 الزرقاني، مناهل العرفان "181 وما بعدها".(16/256)
إذا سئل عن عربية القرآن أنشد الشعر1، وقال: "إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرًا"2.
قال "ابن قتيبة": "العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض، والدليل عليه قول الله عزّ وجلّ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 3 ويدل عليه قول بعضهم: يا رسول الله: إنك لتأتينا بالكلام من كلام العرب ما نعرفه، ونحن العرب حقًّا. فقال: "إن ربي علمني فتعلمت".
__________
1 مقدمتان في علوم القرآن "198 وما بعدها".
2 العمدة "1/ 30".
3 القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية.(16/257)
الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى
نطلق اليوم على العربية التي ندوّن بها أفكارنا: "العربية الفصحى"، وهي كما نعلم لغة الفكر والإدارة في العالم العربي. والعربية الفصحى، هي لغة الفصاحة والبيان، ومدار تركيب الفصاحة على الظهور والإبانة. يقال: أفصح، إذا تكلم بالفصاحة. وفصح الأعجمي فصاحة، إذا تكلم العربية وفهم منه1. وهي اللغة العربية العالية التي لا تدانيها لغة عربية أخرى من اللغات العربية الباقية، واللسان الذي يحاول أن ينطق به كل مثقف مهذب، وأن يؤلف ويعبر عن مراده به.
وعرفت العربية الفصيحة بالعربية العالية، وكان علماء اللغة إذا وسموا كلمة بسمة الفصاحة، قالوا: كلمة فصيحة، وكلمة عالية، وإذا وسموها بالضعف وبالركاكة، قالوا: ليست بعربية فصيحة، أو ليست بالعالية. "قال ابن سيده: أشكد لغة ليست بالعالية"2. وقالوا في "لغة رديئة"، وقالوا: "وهي لغة أهل العالية"3. "والعالية ما فوق أرض نجد إلى تهامة وإلى ما وراء مكة، وهي الحجاز وما والاها وقيل: عالية الحجاز، أعلاها بلدًا وأشرفها موضعًا وهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية: قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي،
__________
1 تاج العروس "2/ 197"، "فصح".
2 تاج العروس "2/ 390"، "شكد".
3 تاج العروس "2/ 228"، "ملح".(16/258)
وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عالي على القياس، ويقال أيضًا: علوي بالضم، وهي نادرة على غير قياس"1.
وعرفت هذه العربية العالية بالعربية المبينة، دعيت بذلك، لأن "إسماعيل" أول من فتق لسانه بها، فأبان وأفصح2، وأرى أنها إنما نعتت بذلك، من القرآن الكريم، ففيه {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3، و {هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 4.
وقصد العلماء من قولهم: "ليست بالعالية"، بمعنى ليست بفصيحة، ولم يقصدوا النسبة إلى "العالية" التي هي الأرض المذكورة. غير أننا نجدهم أحيانًا يقصدون بها أهل العالية، فنرى "الطبري" يذكر في تفسيره في قراءة "فيسحتكم": "والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. غير أن الفتح فيها أعجب إليّ، لأنها لغة أهل العالية وهي أفصح، والأخرى وهي الضم في نجد"5. والعالية ما فوق أرض نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة. وهي الحجاز وما والاها "وقيل: عالية الحجاز أعلاها بلدًا وأشرفها موضعًا، وهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي". "وعليا مضر بالضم أعلاها، وقيل: قريش وقيس، وما عداهم سفلى مضر"6.
ونجد علماء العربية يستعملون مصطلح: "وليس بالعالي"، أو "ليس في اللغة العالية"، و"الفصيح"، أو"والفصحاء يقولون"7، في تقييم الكلم، كما استعملوا: "وليس بالمعروف"، أو"والأول أعلى"، و"لغة مجهولة"، أو "متروكة"، أو و"يحتمل أن يكون من أمثلة المنكر"، و"كلام قديم قد ترك"، و"وهذا لا يعرف في أصل اللغة، أو و"المعروف"8، وأمثال ذلك من مصطلحات للتعبير عن درجة الكلمة ومكانتها
__________
1 تاج العروس "10/ 250"، "علا".
2 المزهر "1/ 81".
3 الشعراء، الرقم 26، الآية195.
4 النحل، الرقم16، الآية103.
5 تفسير الطبري "16/ 136".
6 تاج العروس "10/ 250 وما بعدها"، "علو".
7 المزهر "1/ 215 وما بعدها".
8 المزهر "1/ 214 وما بعدها".(16/259)
في مقاييس علماء اللغة من حيث الفصاحة والركاكة وما بينهما من درجات. والفصيح في نظر علماء العربية "ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم، لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليلٌ على تحقيق المناسبة الفطرية فيه"1.
ويسوقنا البحث في موضوع اللغة العربية الفصحى إلى التفكير في موضوع له صلة وثيقة بهذا الموضوع، بل هو في الواقع جزء منه، هو: لغة الأدب عند الجاهليين، وهل كان لأهل الجاهلية لسان عربي واحد مبين، استعملوه في التعبير عن عواطفهم شعرًا أو نثرًا؟ وإذا كان لهم ذلك اللسان، فهل كان فوق سائر لهجاتهم المحلية أو لهجات القبائل المتعددة؟ أو أنه كان لهجة خاصة؟ وإذا كان لهجة عالية خاصة، فلهجة من يا ترى كانت هذه اللهجة؟ وبأي موطن ولدت؟ وهل كانت لهجة عامة مستعملة عند العرب عامة، من عرب جنوبيين وعرب شماليين، أو أنها كانت لهجة خاصة بالعرب الشماليين؟ ثم هل كانت هذه اللهجة هي العربية التي نزل بها القرآن، أم كانت عربية أخرى لا صلة لها بها؟ أماتها الإسلام كما أمات أمورًا من أمور الجاهلية لصلتها بالوثنية، وأحل محلها لغة القرآن، لغة قريش؟ ثم هل كانت هذه العربية، هي عربية الشعر، بمعنى أن الشعراء كانوا إذا أرادوا النظم، نظموا شعرهم بهذه اللغة العالية، متجاهلين لغتهم القبلية، لأنها لغة الأدب الرفيع، وبها كان يخطب الخطباء؟
لقد عُني عدد من المستشرقين بالإجابة عن أمثال هذه الأسئلة. فكتب "نولدكه"، رأيه في الموضوع في كتابه: تأريخ القرآن في باب القراءات واللهجات التي نزل بها القرآن الكريم، كما تطرق إليه أيضًا في أثناء كلامه على الشعر الجاهلي ولغة الأدب عند الجاهليين، وخلاصة رأيه أن الفروق بين اللهجات في الحجاز ونجد ومناطق البادية المتاخمة للفرات لم تكن كبيرة، وأن اللهجة الفصيحة شملت جميع هذه اللهجات2. وذهب "غويدي" إلى أن اللغة الفصحى هي مزيج من لهجات تكلم بها أهل نجد والمناطق المجاورة لها، ولكنها لم تكن لهجة معينة لقبيلة معينة3.
__________
1 المزهر "1/ 126".
2 Noldeke, Geschichte des Korans. Zweite Auflage, Erste Teil, S. 42, Neue Beitrage zur Semitischen Sprachwissenschaft, Strassburg, 1910, s. I -14.
3 Guidi, Mix. Ling, Torino, 1901, p. 323.(16/260)
ورأى "نلينو"، أن العربية الفصحى تولدت من إحدى اللهجات النجدية، وتهذبت في مملكة كندة وفي أيامها، فأصبحت اللغة الأدبية السائدة. وعزا سبب ذلك إلى ملوك هذه المملكة الذين أغدقوا على الشعراء وشجعوهم مما كان له وقع في نفوسهم، ثم إلى توسع رقعة هذه المملكة التي ضمت أكثر قبائل معدّ، وكان لها فضل توحيد تلك القبائل وجمع شتاتها، فشاعت هذه اللهجة على رأيه في منتصف القرن السادس للميلاد، وخرجت خارج نجد، وعمّت معظم أنحاء الجزيرة ولا سيما القسم الجنوبي من الحجاز الذي فيه يثرب ومكة والطائف، مع بقاء اللهجات العامية في منطق الناس المعتاد، وكان للعواصم المشهورة ولملوك الحيرة وغسان شأن لا ينكر في هذا الانتشار السريع العجيب1.
وذهب "هارتمن" "Hartmann" و"فولرس" "Vollers" إلى أن العربية الفصحى هي لهجة أعراب نجد واليمامة، غير أن الشعراء أدخلوا عليها تغييرات متعددة2. وذهب "لندبرك" "Landburg" إلى أن الشعراء هم الذين وضعوا قواعد هذه اللهجة، وعلى قواعدهم سار المتأخرون، ومن شعرهم استخرجت القواعد، ومن قصائدهم تلك استنبط العلماء أصول النحو.
وزعم "فولرس"، أن القرآن لم ينزل بلغة أعراب نجد واليمامة، وإنما نزل بلغة أهل مكة، أي: لغة قريش، وهي لغة لم تكن معربة، وإنا كانت لغة محلية، فلما دوّنت قواعد العربية وثبتت طبق الإعراب على القرآن، وصقلت لغة قريش وفقًا لهذه القواعد.
ولم يعين "فيشر" اللهجة التي نبعت منها العربية الفصحى، غير أنه رأى أنها لهجة خاصة3. ولـ "بروكلمن" و"ويتزشتاين" آراء في نشوء هذه اللغة وتطورها، ولكنهما لم يتحدثا عن علاقتها ببقية اللهجات4.
ذهب "بروكلمن" إلى أن لغة الشعر الجاهلي لا يمكن أن يكون الرواة والأدباء
__________
1 الهلال، السنة السادسة والعشرون، أكتوبر 1917، "ص47 وما بعدها"، جواد علي، في كتاب الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة.
2 Vollers, Volkssprache, S. 184.
3 Rabin, p. 17.
4 Rabin, p. 17.(16/261)
اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكد تكون لغة جارية في الاستعمال العام، بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات، وإن غذتها جميع اللهجات1.
وذهب "برجيه" إلى أن العربية كانت لهجة قبلية صغيرة وصلت في وقت من الأوقات بفضل ظروف محلية إلى درجة من الكمال خارقة للعادة، هي مدينة بانتشارها إلى الإسلام2.
و"ريجيس بلاشير" من المستشرقين الذين أيدوا رأي من ذهب إلى وجود لغة عالية عند أهل الجاهلية، فقال: "إن وجود لهجات ولغة عليا ليس فيه شيء مخالف للعادة، كما أن نموّ لهجة شعرية ليس فيه أيضًا شيء خارق"3.
واللغة المذكورة لهجة شعرية تنطبق على اللهجات المحلية، بل هي امتداد لها، "وهي في الجملة موضوعة للأغراض النبيلة والتعبير الفني عن بعض أنواع التفكير"، لها خصائص اللهجات في وسط الجزيرة وشرقيها، ولم تكن هذه اللهجة العالية قاصرة في الاستعمال على أهل جزيرة العرب، بل كانت لغة الشعر أيضًا عند عرب العراق وعرب بلاد الشأم. ولهذا كان الشعر مفهومًا عند جميع الجاهليين، أينما كانوا: سواء كانوا في جزيرة العرب، أم في العراق وفي بلاد الشام.
وكانت الفوارق بين هذه اللهجة وبقية اللهجات تختلف تبعًا للمجموعات اللغوية.
فالفارق ضئيل بينها وبين لهجات أواسط جزيرة العرب وشرقيها، ولها خصائص الأقسام الشرقية والوسطى من جزيرة العرب. وكان الشاعر، ينزع دومًا إلى الابتعاد عن مؤثرات لهجته القبلية، والارتفاع عنها، إلى لغة الشعر المتعارفة بين الجاهليين آنذاك، لكونها اللغة الرفيعة في نظر أهل الجاهلية، وكانت تدل على تهذيب الشاعر وسمو مداركه وثقافته4.
ويرى "بلاشير" أن علماء اللغة والنحو حين أخذوا بضبط قواعد اللغة، غربلوا اللهجات، وتوغلوا بين الأعراب مدفوعين بعقلية تنهيج وتنقية اللغة مما أدى بهم
__________
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 42".
2 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "86".
3 تأريخ الأدب العربي "88"، "تعريب إبراهيم كيلاني".
4 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "87 وما بعدها".(16/262)
إلى توحيد لغتي القرآن والشعر الجاهلي، في الوقت الذي نظموا فيه واستخرجوا قواعد العربية الفصحى، مما أدى إلى إضاعة أشياء قليلة من اللهجة الشعرية الجاهلية في سبيل التوفيق بينها وبين لغة القرآن. وما العربية الفصحى الحالية إلا لهجة ولدت من لغة الشعر ولغة القرآن، والقرآن والشعر الجاهلي المضبوط في شكله الحاضر لا يمثلان اللغة الشعرية في شكلها القديم، وإنما يبتعدان بعض الابتعاد عن تلك اللهجة، بسبب ما فعله علماء النحو والصرف، في تلك اللهجة من تشذيب وتهذيب لتلتئم مع لغة القرآن ومع قواعدها وقواعد لغة الشعر التي رسخها علماء اللغة.
وأما رأي علماء العربية، فخلاصته أن لغة قريش هي الأصل، "وإنما صارت لغتهم الأصل، لأن العربية أصلها إسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة"1.
وعندهم أن العربية قحطانية وحميرية وعربية محضة، وبهذه الأخيرة نزل القرآن، وقد انفتق بها لسان إسماعيل2، وهي العربية الفصحى، لسان إسماعيل، ألهم بها إسماعيل إلهامًا3. رووا عن "عمر" أنه قال: "يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: "كانت لغةُ إسماعيل قد دَرست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها، فحفظتها" 4. وهم يقولون: إن "أول من تكلم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم"، أو أن "أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيل بن إبراهيم"، بل تجاوز بعض منهم، وبالغ حتى زعم أن "العرب كلها ولد إسماعيل، إلا حمير وبقايا جرهم"، وأن العربية الصحيحة الفصيحة هي العربية التي نزل بها القرآن، أما لسان حمير وأقاصي اليمن، فليس "بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"5.
ورأيهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأنقاهم لسانًا، "وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطّان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 80".
2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 80".
3 المزهر "1/ 32 وما بعدها".
4 المزهر "1/ 34 وما بعدها".
5 ابن سلام، طبقات "4 وما بعدها".(16/263)
حُجّاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش، مع فصاحتها وحسن لُغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم؛ فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها؛ فصاروا بذلك أفصح العرب.
ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنعَنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا كَسْر أسد وقيس"1.
"وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عمّا في النفس"2. وقال ابن خلدون: كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، فصانها بعدها عن الأعاجم من الفساد والتأثر بأساليب العجم، حتى عن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية3.
وروي أن "معاوية" قال يومًا: "من أفصح الناس؟ فقال قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قريش"4. وقال "ثعلب": "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبّة، وتلتلة بهراء"5. وورد كلام "معاوية" مع الأعرابي على هذه الصورة: أن "معاوية" قال: أي الناس أفصح؟ فقام رجل فقال: قوم ارتفعوا عن فراتية العراق،
__________
1 المزهر "1/ 209 وما بعدها"، "الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب"، الصاحبي في فقه اللغة "52"، "تحقيق مصطفى الشويمي".
2 المزهر "1/ 211".
3 ابن خلدون، مقدمة "409"، "الفصل الثاني والثلاثون من الفصل السادس".
4 البيان والتبيين "3/ 213".
5 مجالس ثعلب "81"، المزهر "1/ 211"، ابن جني، الخصائص "411"، الصاحبي "44"، الخزانة "4/ 595 وما بعدها.(16/264)
وروي: لخلخانية العراق، وتياسروا عن كشكشة بكر، وتيامنوا عن كسكسة تميم، ليست فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من جرم"1. واللخلخانية اللكنة في الكلام، والغمغمة: ألا يبين الكلام، والطمطمانية: العجمة. "قال الأصمعي: وجرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم من اليمن؟ فقال: لجوارهم مضر"2 فمضر هم أهل الفصاحة على رأيه.
ورووا "عن أبي بكر الصدِّيق، رضي الله عنه، أنه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب دارًا، وأحسنه جوارًا، وأعربه ألسنة. وقال قتادة: كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها"3.
وقد استدلوا نزول القرآن بلغة قريش بأدلة أخرى، منها قول عمر: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"4.
وزعموا أن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردّوه منها كان مردودًا، فقدم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر"5. فما كان علقمة ولا غيره ليكلف نفسه مشقة الذهاب إلى قريش، وإلى سوق عكاظ، لو لم تكن لغتها أفصح لغات العرب وأعذبها وأسلسها، ولو لم يكن لها علم بالشعر يفوق علم غيرها به.
وزعموا أيضًا أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج، فيعرضه على أندية قريش فإن استحسنوه روى، وكان فخرًا لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى
__________
1 الفائق "2/ 459".
2 المصدر نفسه.
3 اللسان "1/ 588"، "عرب". "طبعة دار صادر"، تاج العروس "1/ 374"، "عرب".
4 الصاحبي "57 وما بعدها".
5 الأغاني "12/ 112".(16/265)
ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب. وقال "أبو عمرو بن العلاء: كانت العرب تجتمع في كل عام، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش1. وكان العرب يعلقون أشعارهم بأركان الكعبة، كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وإنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وبعصبيته ومكانه في مضر2.
فقريش أفصح العرب، ومعدن الفصاحة ومركزها وينبوعها، ثم من جاورهم وقاربهم، ثم من جاء بعد هؤلاء، فكلما بعد قوم عن قريش، بعدت لغتهم عن الفصاحة، ولهذا كان احتجاج علماء اللغة بلغات العرب على نسبة بعدهم عن قريش، "فاعتبروا لغة قريش أفصح اللغات وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم. ثم تركوا الأخذ عمن بعُد عنهم من ربيعة، ولخم، وجذام، وغسان، وإياد، وقضاعة، وعرب اليمن، لمجاورتهم الفرسَ، والروم، والحبشة"3.
وأما رأي المحدثين من علماء العربية عندنا، فهو رأي الموافق المؤيد. هذا الدكتور "طه حسين" يقول في كتابه: "في الأدب الجاهلي": "أما أن هذه اللغة العربية الفصحى التي نجدها في القرآن والحديث وما وصل إلينا من النصوص المعاصرة للنبي وأصحابه لغة قريش، فما نرى أنه يحتمل شكًّا أو جدلًا؛ فقد أجمع العرب على ذلك بعد الإسلام، واتفقت كلمة علمائهم ورواتهم ومحدثيهم ومفسريهم على أن القرآن نزل بلغة قريش، أو قل على أن هذا الحرف الذي بقي لنا من الأحرف السبعة إنما هو حرف قريش. وقد يكون من التكلف والتحذلق أن يجمع العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش. وألا يظهر في العصر الإسلامي الأول ولا في أيام بني أمية ولا في أيام بني العباس من ينكر هذا أو يجادل فيه رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر، ثم يزعم زاعم أن هذه
__________
1 خزانة الأدب "1/ 87".
2 مقدمة ابن خلدون "1/ 509"، "115".
3 الرافعي "1/ 259".(16/266)
اللغة ليست لغة قريش، وإنما هي لغة قبيلة أخرى مهما تكن هذه القبيلة"1.
ثم يمضي قائلًا: "فنحن مضطرون أمام هذا الإجماع من جهة، وأمام قرشية النبي من جهة أخرى، وأمام نزول القرآن في قريش من جهة ثالثة، وأمام فهم قريش للفظ القرآن في غير مشقة ولا عنف من جهة رابعة، وأمام اتفاق القرآن في اللغة واللهجة مع ما صح من حديث النبي القرشي ومن الرواية عن أصحابه القرشيين من جهة خامسة، إلى أن نسلم بأن لغة القرآن إنما هي لغة قريش.
ستقول: ولكن هذه اللغة قد كانت تفهم في غير قريش من قبائل الحجاز ونجد، ومن هذه القبائل المضري كقيس وتميم، ومنها اليمني كخزاعة والأوس والخزج، بل منها قبائل لم تكن عربية بوجه من الوجوه وهي هذه اليهودية التي كانت تستعمر شمال الحجاز. ولكنك تعرف رأينا في النسب وفي انتماء هذه القبائل إلى اليمن أو إلى مضر. ومع هذا فقد قلنا: إن لغة قريش سادت قبيل الإسلام. ونحن إن فكرنا عرفنا أن سيادة اللغات إنما تتصل عادة بالسيادة السياسية والاقتصادية. فلنبحث عن البيئات الممتازة من الوجهة السياسية والاقتصادية في شمال البلاد العربية قبيل الإسلام.
الحق أننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة أو هذه السيادة الرومية في أطراف الشأم، فقد كانت هناك أسر عربية تمثل هذه السيادة، وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان، ولكن هذه الأسر لم تكن فيما يظهر حجازية، ولم تكن بيئاتها بيئات عربية خالصة، إنما كانت بيئات مختلطة أقرب إلى الأعجمية منها إلى أي شيء آخر. فلم تبق إلا بيئات أربع: بيئة كندية في نجد، ولكن هذه البيئة كانت يمنية إن صح ما زعم الرواة والمؤرخون. وسيادتهم لم تطل ولم يكن لها من الضخامة ما يمكنها من أن تسلط سلطانها السياسي والاقتصادي والديني على شمال البلاد العربية. وبيئة أخرى قرشية في مكة، كان لها سلطان سياسي حقيقي، ولكنه قوي في مكة وما حولها، وهذا السلطان السياسي كان يعتز بسلطان اقتصادي عظيم، فقد كان مقدار عظيم جدًّا من التجارة في يد قريش، وكان هذا السلطان يعتز بسلطان ديني قوي مصدره الكعبة التي كان يحج إليها أهل
__________
1 طه حسين في الأدب الجاهلي "105".(16/267)
الحجاز وغير أهل الحجاز من عرب الشمال. فقد اجتمع لقريش إذن سلطان سياسي واقتصادي وديني. وأخلق بمن تجتمع له هذه السلطات أن يفرض لغته على من حوله من أهل البادية. وبيئة ثالثة هي بيئة الطائف، كان لها شيء من السلطان الاقتصادي ولكنها لم تكن تداني البيئة المكية. وبيئة رابعة في شمال الحجاز، هذه هي البيئة العربية في يثرب وما حولها. ولكنا نظن أن أحدًا لا يفكر في أن يقول: إن هذه العربية الفصحى كانت لغة هؤلاء الناس من اليهود أو من الأوس والخزرج فضلًا عن أن هذه البيئة على ثروتها وقوتها لم تكن تداني قريشًا فيما كان لها من سلطان.
لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى، فرضت على قبائل الحجاز فرضًا لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة وتبادل الحاجات الدينية والسياسية والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب، كما كان الحج، وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش"1.
وبعد أن انتهى "الدكتور طه حسين" من إصدار قراره، قال: "ولكن ما أصل لغة قريش؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت في لفظها ومادتها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن؟ ". وكان جوابه على هذه الأسئلة قوله: "كل هذه مسائل لا سبيل إلى الإجابة عليها الآن، فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا. ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الأيام إلى تاريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام. وكيف والقرآن أقدم نص صحيح وصل إلينا في هذه اللغة، ونحن نرى اللغة فيه كاملة متقنة تامة التكوين قد تجاوزت الوجود الطبيعي إلى هذا الوجود الفني الراقي الذي يظهر في الآداب"2.
وخلاصة رأي "الدكتور طه حسين" أن عربية قريش هذه، التي نزل بها القرآن الكريم، إنما سادت قبيل الإسلام، ولم تكن سيادتها تتجاوز الحجاز.
إذ يقول: "فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟ أما نحن
__________
1 في الأدب الجاهلي "106 وما بعدها".
2 في الأدب الجاهلي "107".(16/268)
فنتوسط ونقول: إنها سادت قبل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية. ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئًا يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز. فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني والسياسي جنبًا إلى جنب"1
وكان المرحوم "مصطفى صادق الرافعي"، قد تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه قبل "الدكتور طه حسين"، في كتابه: "تأريخ آداب العرب"، الذي طبعه سنة "1911م"، فذهب مذهب الأسلاف في أن العربية بدأت بـ"إسماعيل" فلما خرج أولاده من ديارهم وانشعبت قبائلهم، تنوعت لهجاتهم، وتباينت ألسنتهم، حتى ظهرت قريش من بينهم، فأخذت وأعطت، وهذبت الألسنة واستخلصت منها أعذبها وأسماها، ثم لا تزال تهذب في اللغة وتشذب حتى بلغت بها الكمال عند ظهور الإسلام، بنزول الوحي بها. وكانت القبائل: "بطبائعها متباينة اللهجات، مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما استحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذي اكتسبوه من تأريخهم ألان من طباعهم وكسر من صلابتهم، فاتفقت في ذلك حياتهم اللغوية وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مُستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد حتى رقّت أذواقهم، وسمت طبائعهم، وقويت سلائقهم، وحتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس"2.
فهذا دور من أدوار تهذيب اللغة وتنقيتها، قامت به قريش، قامت به في مسكنها وموطنها مكة، وقامت بدور آخر، كان آخر الأدوار التي قامت فيها قريش في تهذيب العربية، هو الدور العُكاظي، وهو "حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعةَ اللسانية، فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما
__________
1 في الأدب الجاهلي "105".
2 الرافعي تأريخ آداب العرب "1/ 85 وما بعدها".(16/269)
كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخير من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ بها اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة منه للمجموع المكوّن على هذه الطريقة، ولكنه يدل على أصل التكوين"1.
ثم توّج عمل قريش في تهذيب اللغة بنزول القرآن بلسانها "فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب البتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيي، ثم كانوا لا يُعدون في اعتبارهم إياه أنه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات: كالسحر والكهانة وما إليهما، وهو الذي افترته قريشٌ ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رؤوسهم عن الإصغاء إلى النبي"2. ثم "إن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم، من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مغمزًا فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وبين ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيهوّن ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهبًا من القول فيه، فتنشق الكلمة، ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء، إلى حال لا يلتئم عليه أبدًا، ولو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان في الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته"3.
ومجمل حجج الباقين القائلين إن العربية الفصحى هي عربية قريش، أن قريشًا "كانت مهوى أفئدة العرب في الجاهلية، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الديني الروحي والاقتصادي المادي، إذ كانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم، وكانت قوافلها تجوب أنحاء الجزيرة العربية، وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادها الدينية وفي أسواقها القريبة والبعيدة.
ومعنى ذلك أن هنالك أسبابًا دينية واقتصادية أعدت لهجة مكة لتسود اللهجات
__________
1 تأريخ آداب العرب "1/ 87 وما بعدها"، "أسواق العرب".
2 تأريخ آداب العرب "1/ 46".
3 المصدر نفسه "1/ 47".(16/270)
القبلية في الجاهلية، وقد تداخلت فيها أسباب سياسية، فإن القبائل العربية كانت ترى تحت أعينها هجوم الدول المجاورة من الفرس والروم والحبش على أطرافها، كما كانت ترى هجوم الديانتين المسيحية واليهودية على دينها الوثني، فتجمعت قلوبها حول مكة، وهوت أفئدتها إليها. وبذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها في الجاهلية اللهجات القبلية المختلفة، وأن تصبح هي اللغة الأدبية التي يصوغون فيها أدعيتهم الدينية وأفكارهم وأحاسيسهم. وقد تدل على ذلك بعض الدلالة سوق عكاظ، فقد كانت سوقًا أدبية كما كانت سوقًا تجارية، وكان الخطباء يرتجلون فيها خطبهم وينشد الشعراء قصائدهم، ولم يُرْوَ ذلك عن سوق سواها، ومما يدعم هذا الدليل ما قاله الرواة من أن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردّوه منها كان مردودًا فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر.
وإذن فنحن لا نعدو الواقع إذا قلنا: إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران. ومما يؤكد ذلك أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يحدثنا رواة الأخبار والسيرة النبوية أنها كانت تجد صعوبة في التفاهم معه، وأيضًا فإنه كان يرسل إليهم دعاة يعظونهم ويعلمونهم الشريعة الإسلامية من مثل معاذ بن جبل، ولو أنهم لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثًا. وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام.
أما في الشمال فقد كانت الفصحى معروفة في كل مكان، وكان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم، ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة سرعة استجابتهم للقرآن الكريم ودعوته، فإنهم كانوا يفهمونه بمجرد سماعه، فإذا عرفنا أنه نزل بلغة قريش تحتم أن تكون هي اللغة الأدبية التي كانت سائدة"1.
__________
1 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "133 وما بعدها".(16/271)
وبعد، فلقد عرضت عليك رأي المستشرقين في العربية العالية: عربية القرآن الكريم، وعربية الشعر الجاهلي. ثم عرضت عليك رأي علماء العربية فيها من متقدمين ومن معاصرين، وقد رأينا أن المستشرقين وعلماء العربية معًا، لم يستندوا كلهم على سند جاهلي مكتوب، ولا على نص مدون بهذه العربية، لسبب واحد مفهوم معقول، هو عدم ورود نصوص جاهلية مدوّنة بهذه اللغة فلم يكن أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى الموارد الإسلامية للاستعانة بهديها في استنباط رأي علمي بهذا الموضوع، وهذا ما فعلوه.
أما قول علماء العربية إن عربية القرآن الكريم عربية "إسماعيلية"، بمعنى أنها عربية أخرى تختلف عن عربية العرب الجنوبيين، فرأي مقبول، على شرط أنه اصطلاح يعبر عن معنى اصطلح عليه. فقد أشير إلى "الإسماعيليين" في التوراة. وهم -كما سبق أن قلت- قبائل عربية شمالية كانت تقطن في القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وكانت حدودهم الغربية على اتصال بالعبرانيين.
ولا أعتقد أن أحدًا من أصحاب الفقه في العربية، يركبه الشطط فيقول: إنه نزل بلغة عربية جنوبية، أو بلغة ثمود أو لحيان أو الصفويين، أو يقول: إن الشعر الجاهلي، قد نظم بلهجة من هذه اللهجات، فكلام مثل هذا، حتى لو صدر من أحد، فإنه هراء يدل على جهل قائله بأبسط الأشياء.
وأما دعوى أن هذه العربية وحدها هي العربية الفصيحة الصحيحة، وأن ما عداها من عربيات، فلغات فاسدة رديئة، فدعوى يمكن قبولها والتسليم بصحتها، لو أن في وسع القائلين بها إثباتها بالأدلة المادية الملموسة، أي: بأدلة النصوص الجاهلية المكتوبة، مع إثبات أن هذه اللغة الفصيحة كانت وحدها لغة الأدب والتدوين عند جميع العرب، وأن الجاهليين كانوا لا يكتبون إلا بها، وأن ما سواها من اللهجات، كانت لهجات كلام، أي: لغات العامة والسواد، تكلموا بها كما نتكلم نحن اليوم فيما بيننا بلهجات محلية، نسميها لهجات عامية، فإذا كتبوا كتبوا بالعربية الفصيحة. ولكنهم عاجزون عن إثبات ذلك، ثم أن النصوص الجاهلية تناهض دعواهم هذه، فكل ما لدينا من نصوص جاهلية، مكتوب بلهجات عربية أخرى، خلا خمسة نصوص كتبت بعربية نبطية، أي: بعربية فيها ألفاظ واردة في العربية الفصحى، ولكن الإرمية أو النبطية متحكمة في أسلوبها وفي قواعدها وفي الكثرة الغالبة من كلماتها بحيث تمنعها من أن تعدّ في عداد العربية(16/272)
الفصيحة. لذا، فنحن لا نخالف المنطق والعلم، إن أظهرنا اعتراضنا عليها ورفضناها، وما كان لنا لنعترض عليها، لو أن الأمر كان على العكس، لو أن غالبية النصوص الجاهلية كانت بهذه اللغة، أو أن بعضًا منها على الأقل، ولو بعضًا قليلًا، كان بهذه العربية الخالصة، أو أننا لا نملك نصًّا جاهليًّا بتاتًا، بأية عربية كانت، لا بهذه العربية، ولا بالعربيات الأخرى، أما وأن لدينا اليوم الألوف من النصوص الجاهلية، وهي كلها بلهجات عربية أخرى، ولا نملك نصًّا واحدًا مدونًا بهذه العربية الخالصة، لذا، فنحن لا نظلم أنفسنا، ولا نظلم غيرنا، إن رفضنا دعواهم المذكورة، وقلنا: إن اللغات التي موّنتنا بالنصوص المذكورة، هي لغات فصيحة بالنسبة للناطقين بها، وفي نظرنا أيضًا، وهي لغة أدب بالنسبة لأصحابها الكاتبين بها.
والقول بأن العربية الفصيحة هي وحدها العربية الصحيحة السليمة الفصيحة، وأن ما عداها من لغات عربية فلغات رديئة فاسدة، أو أنها دونها في الفصاحة، قول يمكن قبوله بالنسبة لأيام الإسلام، حيث صارت هذه العربية لغة الدين والحكم والفكر، بها تُقوّم الألسنة، وبها يدوّن الناس آراءهم. أما بالنسبة إلى أيام الجاهلية، فإننا لا نستطيع التسليم به، لسبب بسيط، هو أن أهل العربية الجنوبية مثلًا، كانوا يكتبون وينطقون بلغاتهم، فلغاتهم هي لغة التدوين والأدب عندهم، بقوا يكتبون بها، إلى أن دخلوا في الإسلام، فأبدلوها عندئذ بهذه العربية، بحكم الدين. ودليل ذلك، هذه النصوص المتأخرة المكتوبة بالمسند، والتي لا يبعد تأريخها عن الإسلام كثيرًا. فلو كانوا يرون أن هناك عربية أفصح منها، أو أنهم كانوا يعلمون أن هناك عربية أرفع من عربيتهم شأنًا، يدوّن ويكتب بها بقية عرب الجزيرة وأنها لغة الثقافة والعلم، لما نبذوها وعدلوا عنها إلى عربيتهم، وشذوا عن بقية إخوانهم العرب، بتمسكهم بالكتابة بها وحدها. وينطبق هذا القول على قوم ثمود والصفويين والحيانيين والنبط، فقد كتب كل قوم منهم بلغتهم، ولم يكتبوا بهذه العربية، وتدوينهم بلغاتهم، دليل على ثبوت فصاحتها عندهم، وليس في قول "أبو عمرو بن العلاء": "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"1، ما يدل على ازدراء شأن الحميرية. أو
__________
1 طبقات ابن سلام "4 وما بعدها".(16/273)
الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد، كما أن الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية عربيات أخرى. وكل هذه العربيات، هي عربيات فصيحة بالنسبة لأصحابها؛ لأنها لغة التدوين عندهم، حيث لم يكن لأهل جزيرة العرب، لغة أدب واحدة، دوّن بها جميع الجاهليين، حتى نقول: إن النصوص الخارجة عليها، أي النصوص المدوّنة بلهجات أخرى، هي نصوص عوام وسواد، كتبوا بلغاتهم كما يكتب العامة بلغاتهم هذا اليوم، مع وجود العربية الفصيحة.
وأما قولهم: إن هذه اللغة العربية الفصحى هي لغة قريش، لإجماع العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش، وعدم ظهور أحد أنكر هذا الإجماع، أو جادل فيه، رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية، ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر1، فقول لا يستند إلى حجج تأريخية جاهلية، بل هو يصطدم مع واقع النصوص الجاهلية الواصلة إلينا، وبعضها نصوص لا تبعد عن الإسلام بكثير، وقد كتبت كلها بلهجات تختلف عن هذه اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن، وفي اختلافها عنها دلالة، على أن الشعوب التي تثبت تلك النصوص لم تكن تكتب بعربية القرآن. وفي هذه الدلالة تفنيد لقول من قال: "إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن، وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران"2، ثم إني لم أتمكن من العثور على هذا الإجماع الذي أجمع العرب كافة عليه، والذي لم يعارضه أحد حتى من الشعوبيين والحاقدين على قريش، وإنما وجدت القرآن، وهو خير الشاهدين يقول: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 3. و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 4.
__________
1 طه حسين: في الأدب الجاهلي "105".
2 العصر الجاهلي، شوقي ضيف "134".
3 النحل، الرقم16، الآية103.
4 يوسف، الرقم12، الآية2.(16/274)
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 1 {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 2 إلى غير ذلك من آيات نصت نصًّا صريحًا على أن لسان القرآن هو اللسان العربي، فعينته بذلك وثبتته، ولم أجد في القرآن آية واحدة ذكرت أنه نزل بلسان قريش ولو كان قد نزل بلسانهم وكان لسانهم خير الألسنة وأفصحها، لما سكت عن ذلك، لما في النص عليه من أهمية، بالنسبة إلى العرب وإلى قريش المكابرين المناهضين للرسول، ثم إني وجدت أن العلماء يذكرون أن في القرآن لغات أخرى ليست من لغة قريش، وأن فيه ألفاظًا هي بلغة تميم، أو بلغات أخرى مخالفة للغة قريش وأهل الحجاز، وأن لهم آراء في الأخبار الواردة في أنه نزل بلغة قريش، مثل أخبار تنسب إلى "عمر" تارة، وتنسب إلى "عثمان" وإلى غيره تارة أخرى، وهي أخبار لا ندري مبلغ درجتها من الصحة أو الباطل، يظهر أنها وضعت تحت تأثير من العصبية السياسية التي ظهرت منذ أيام الرسول فيما بين الأنصار والمهاجرين، ثم صارت عصبية قحطانية يمانية. جعلت العرب عربين: فإما إلى قحطان وإما إلى عدنان، وليس بينهما جد ثالث.
ثم إنه لو كان قد نزل بلسان قريش، وكان لسان قريش أفصح ألسنة العرب وأبينها وأبلغها وأكملها، ولذلك كان نزوله بها حجة للخصوم وإفحامًا للمشركين وإحراجًا لهم وإعجازًا لهم، فلِمَ لم يذكر القرآن ذلك، ولم يبين أنه نزل بلسان قريش أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء، وإنه إنما نزل بلسانهم ليكون حجة عليهم وإعجازًا لهم في أن يأتي أبلغهم بآية مثل آياته، وفي ذكر قريش إذن إفحام لكل العرب. ولكنا نجده على العكس يخاطب قريشًا والعرب بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} 3، و {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه} 4 فهو يحاججهم على أن يأتوا بمثله، وباللسان الذي نزل به. وهو لسان عربي مبين، لا لسان بعض منهم، أي: بلسان قريش. ولو كان لسان هذا البعض هو أكمل الألسنة وأبلغها وأعضبها وأسلسها وأنقاها كان من الضروري ذكر ذلك إفحامًا للخصوم،
__________
1 الرعد، الرقم13، الآية37.
2 الشورى، الرقم42، الآية7.
3 البقرة، الرقم2، الآية23.
4 الإسراء، الآية88.(16/275)
فعدم النص على ذلك اللسان، هو أبلغ جواب على أنه لم ينزل به، وعلى أن لسانهم المذكور لم يكن أكمل لسان عربي.
وأما العوامل التي أوجدها المحدثون في تفسير سبب سيادة لغة قريش على غيرها من اللغات عند ظهور الإسلام، وهي: السيادة السياسية، والسيادة الاقتصادية والسيادة الدينية، وهي عوامل تتصل بها عادة سيادة اللغات1، فهي عوامل وضعوها وضعًا وتخيلوها من غير سند أو دليل، أقاموها على تصورات أخذوها من أقوال لأهل الأخبار، لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها. وقد حاولت جهدي أن أعثر في مؤلفات القائلين بها على سند واحد يثبت سيادة قريش السياسية على غيرها من القبائل عند ظهور الإسلام، سيادة قوة وفتح، أو سيادة نفوذ واعتبار فلم أجد فيها دليلًا واحدًا يمكن أن يكون حجة لإثبات تلك السيادة. وكل ما وجدته فيها أحكام عامة مطلقة لم تقم على حجة ولا دليل2. ثم راجعت الموارد القديمة علني أجد فيها شيئًا، يثبت هذا التفوق، فلم أجد فيها أي شيء أيضًا يدل عليه، بل وجدت العكس، وجدت أن سادات مكة مثل عبد المطلب وغيره كانوا يراجعون حكام اليمن ويتقربون إليهم، لينالوا منهم العطف والرعاية، والهبات والألطاف، وكانوا إذا سمعوا بتبوء ملك منهم كرسي الحكم، ركضوا إليه يهنئونه، داعين له بالعمر الطويل، وبالتوفيق في الحكم، ثم وجدت فيها أن سادتها كانوا يراجعون حكام العراق وبلاد الشأم واليمن والحبشة، ويتوددون إليهم بالهدايا، لكسب عطفهم، ولحصول على مساعدات منهم، لتيسير سبل الاتجار مع الأرضين التي كانوا يحكمونها، وأنهم كانوا يصانعون سادات القبائل ويؤالفونهم، لضمان حق مرور تجارتهم بأرضهم بأمن وسلام، في مقابل إتاوات تدفع لهم، أو هدايا تحمل إليهم، ثم رأيت ما كان من أمر "هاشم" وأخوته من عقدهم الإيلاف الذي أشير إليه في القرآن3. ثم وجدت أن أهل الأخبار يقولون: إن "قيصر" أعان قصيًّا على خزاعة4، وأن "عثمان بن الحويرث"
__________
1 في الأدب الجاهلي "106 وما بعدها".
2 في الأدب الجاهلي "105 وما بعدها"، شوقي ضيف "131 وما بعدها".
3 سورة قريش، الرقم 106.
4 المعارف "640"، جواد علي. المفصل "4/ 39".(16/276)
قد توسط لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكًا على مكة1. ورأيت أن أهل الجاهلية، كانوا يعيرون قريشًا بأنها لا تحسن القتال، وأنها تجاري وتساير من غلب، وأنها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، بـ"سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"2، فهل في هذا الكلام بعد –إن صح بالطبع- ما يشير إلى نفوذ سياسي.
بل وجدت أن أهل الأخبار يذكرون أن "قصي بن كلاب"، وهو مجمع قريش وموطد حكمها على مكة إنما بسط نفوذه عليها بمساعدة الروم له، حيث يقولون: "وجاء قصي بن كلاب، فجمع معدًا -وبذلك سُمّي مجمعًا- واستعان ملكَ الروم فأعانه، وحارب الأزدَ فغلبهم واستولى على مكة"3. وكان الأزد على حدّ قول هذه الرواية قد طردوا جرهم عن مكة واستولوا عليها، فجاء "قصي" وأزاحهم عنها، بمعونة "ملك الروم"، فما كانت قريش لتزيحهم عنها لولا هذه المعونة، وقوم يستعينون بالأجانب للاستيلاء على قرية فقيرة هي كل ما ملكوا هل يعقل بعد أن يكون لهم نفوذ سياسي على النحو الذي تصوروه وذكروه!
وقد وجدت أنهم كانوا يصطنعون الأحابيش والقبائل، للدفاع عن مدينتهم، وأنهم استعانوا بالقبائل يوم "الأحزاب" في قتالهم المسلمين. وليس في هذا الاصطناع دلالة على سيادة سياسية، وإنما هو دليل الضعف وشراء القلوب وتأليفها بالمال. فإذا كان في هذا الشراء معنى السيادة معنى السيادة السياسية، فهو إذن أمر آخر.
وقد رأينا أنهم كانوا يصانعون الصعالي والخلعاء، للاستفادة منهم، وللاستعانة بهم في حماية أنفسهم4، ورأينا أن قريش الظواهر كانوا يفخرون على قريش مكة
__________
1 المفصل "4/ 39".
2 الطبري "3/ 572 وما بعدها"، "دار المعارف"، المفصل "4/ 37".
3 الخزانة "2/ 324"، "هارون".
4 رسائل الجاحظ "70". "السندوبي". جواد علي، المفصل "4/ 68".(16/277)
بأنهم أصحاب قتال، وأنهم يقاتلون عنهم في البيت1، ثم رأينا أشياء أخرى من هذا القبيل، تدل كلها على أن قريشًا كانوا ضعفاء غير محاربين، شأن كل الحضر، بالنسبة إلى الأعراب، وأنهم عمدوا لضعفهم هذا إلى رشوة سادات القبائل بالهدايا وبالمال وبإشراكهم برأسمال قوافلهم، لتأمين مرور أموالهم وتجاراتهم بأرضهم بأمن وسلام. فهل يقال بعد كل هذا: إنه قد اجتمع لقريش سلطان سياسي، صار في جملة عوامل سيادة لغة قريش في جزيرة العرب قبيل الإسلام؟ 2 ونحن نعلم، أن من أهم مقومات السيادة السياسية، ضرورة وجود القوة العسكرية، فالقوة العسكرية، هي التي بسطت اللغة اليونانية في العالم القديم، وهي التي نشرت اللغة اللاتينية في أنحاء الانبراطورية الرومانية، وهي التي أوصلت اللغة العربية في آسية إلى حدود الصين، وفي أوروبا إلى الأندلس وسواحل المحيط، وهي التي جعلت الانكليزية اليوم لغة عالمية، كيف نتصور إذن خضوع العرب الشماليين قبل الإسلام أو قبيلة، للغة قريش، مع ما نعرفه من ضعف قريش في قدرتها على القتال، ولا سيما في ذلك العالم الذي كان القتال فيه شيئًا مألوفًا، بل هو عنده من مستلزمات الحياة، لأنه من وسائل الرزق بالنسبة للأعراب المساكين الذين حرمتهم الطبيعة من خيراتها، بل حتى من ضروريات الحياة، عالم لا يحترم فيه إلا القوي الجبار.
ونحن إذا أخذنا بأثر السلطان السياسي في سيادة اللغات، وجب علينا حينئذ البحث عن البيئات التي جمعت بين القوة والرهبة العسكرية والنفوذ السياسي، وهي بيئات توفرت في اليمن، وفي مملكة الحيرة، التي بلغت حدودها في أيام "امرئ القيس" صاحب نص النمارة، المتوفى سنة "328م" حدود نجران، والتي هيمنت على اليمامة والبحرين. وملوك الحيرة عرب، لغتهم ولغة أتباعهم العربية.
ففي مثل هؤلاء، الذين كان لهم سلطان سياسي وسلطان عسكري، يجب التفكير لا في أناس حضر مسالمين قليلين مثل قريش، ونحن نعلم أن قريشًا كانوا يتوددون إلى ملوك الحيرة، وإلى ساداتها، وأن شعراء جزيرة العرب كانوا يقصدونهم من مختلف أنحائها، باستثناء العربية الجنوبية، لإنشادهم شعرهم في مدحهم،
__________
1 جواد علي، المفصل "4/ 28".
2 طه حسين، في الأدب الجاهلي "106"(16/278)
رجاء تحقيق مطلب. أو نيل جائزة، كما كانت الوفود تقدم إليهم، وتخطب أمامهم، وكان لهم ديوان بالعربية وبالفارسية، لكتابة الرسائل إلى عمالهم على الأمصار وإلى سادات القبائل بالعربية، وإلى الفرس بالفارسية، كما كان الفرس يكتبون إليهم بالعربية، كما أجمعت على ذلك الموارد العربية والموارد الفارسية التي نقل منها المؤرخون أخبار الحيرة إلى العربية، وكان لهم -كما يقول أهل الأخبار- ديوان شعر فيه أشعار الفحول وما مدح به النعمان بن المنذر وأهل بيته1، وكانت لهم مدارس تدرس الأطفال العربية، وكذلك كانت لأهل الأنبار ولأهل عين التمر مدارس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب، ولما جاء "خالد بن الوليد" إلى الحيرة وسأل سادتها: "ويحكم! ما أنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقالوا له: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقالوا له: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقتم2. فقال تكلم "خالد" معهم بالعربية، وتفاهم معهم وأيدهم في أن لسانهم هو اللسان العربي الذي لا لسان لهم غيره. كما أن لسانه هو اللسان العربي. وبهذا اللسان كان يتكلم ملوك الحيرة ويسمعون الشعر، ويخاطبون الوفود وأتباعهم. وبه كانوا أنفسهم ينظمون أشعارهم، لم يجدوا صعوبة في التفاهم مع أحد، ولم يجد أهل مكة ولا غيرهم من كان يأتي الحيرة، صعوبة في التخاطب والتفاهم مع أهلها، فهل يعني هذا أن أهل الحيرة، كانوا يتكلمون بلغة قريش وأنهم بفضل تكلمهم بهذه اللغة كانوا يتفاهمون مع الوافدين إليهم من مكة وغيرها من أنحاء جزيرة العرب! وأنهم لو لم يكونوا يعرفون عربية قريش، لكان أمر التفاهم معهم صعبًا! إذن فعربية أهل الحيرة، هي عربية قريش، أخذوها منهم بسبب نفوذهم السياسي، وغلبة لسانهم على ألسنة العرب! ولكن لو كان الأمر كذلك، فلِمَ كان جواب أهل الحيرة لخالد حين سألهم: ويحكم ما أنتم! أعرب؟ نحن عرب عاربة وأخرى متعربة، وليدلك على ما نقول، إنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، ولم يقولوا له، إنه ليس لنا لسان إلا
__________
1 ابن جني. الخصائص "1/ 392 وما بعدها" ابن سلام، طبقات "23".
2 الطبري "3/ 361". "حديث يوم المقر وفم فرات بادقلي".(16/279)
بالقرشية، أو بعربية قريش أو بعربية قومك، وأمثال ذلك من عبارات يقتضيها الموقف للتقرب من القائد المنتصر، ولإثبات أنهم مثله، وهو قرشي يتكلمون بعربيته القرشية المبينة! فهل يعتزون بتكلمهم بلسان قريش، أفصح ألسنة العرب ويتباهون به! ولو كان ذلك اللسان لسان الأدب الرفيع عندهم لما سكتوا من تسميته بلسان قريش أبدًا!
ثم خذ ما ذكره أهل الأخبار عن فتح "الأنبار" تراهم يقولون: "ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها، فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوه قول الشاعر:
قومي إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم1
ولو كان أهل الأنبار يكتبون بلغة قريش، لما قال أهل الأخبار أن "خالد" وجدهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، ولقالوا حتمًا أنهم كانوا يكتبون بلسان قريش.
ثم إن نصهم دومًا على أن لسانهم كان عربيًّا، وديوان أهل الحيرة أنما كان بالعربية، وأن كتابتهم إنما كانت بالعربية، دليل في حد ذاته على أن المراد بالعربية، العربية المطلقة، لا المقيدة، أعني عربية قريش.
الحق أقول: أنني إذا فكرت تفكير علماء العربية المحدثين، الذين نسبوا تفوق اللغات على اللهجات إلى السيادة السياسية والسيادة الاقتصادية وأمثال ذلك من سيادات، فإني لن أفكر في موطن أينعت فيه العربية في تلك الأيام سوى بلاد الشأم والعراق، فقد أمدتنا بلاد الشأم بنصوص وإن كانت -كما سبق أن قلت- قد دونت بلهجة نبطية، ولكنها لم تتمكن مع ذلك من التستر على لهجة أصحابها الأصلية ففي نص "النمارة" مثلًا الذي يعود تأريخه إلى سنة "328م"، عبارات مثل: "ملك العرب كله"، و"ملك الأسدين ونزرا وملوكهم".
__________
1 الطبري "3/ 375"، "حديث الأنبار".(16/280)
و"هرب مذحجو"، و"مدينة شمر"، و"ملك معدو"، و"نزل بنيه الشعوب"، و"فلم يبلغ ملك مبلغه"، و"هلك سنة"، يفهم منها بكل جلاء ووضوح أن أصحابها كانوا يتكلمون بلهجة عربية شمالية، هي هذه اللهجة التي نسميها العربية الفصيحة، والتي تستخدم "ال" أداة للتعريف. وفي نص "شرحيل بن ظالم"، الذي يعود تأريخه إلى سنة "568" للميلاد الذي هو: "أنا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعام"، وهو نص لا يبعد عن ميلاد الرسول إلا بسنتين، نرى عربية "ال" واضحة ظاهرة طاغية على هذا النص، بحيث تشعرك أن النص وإن كان كالنص السابق قد دوّن بلهجة متأثرة بالنحو النبطي، غير أن أصحابه كانوا يتكلمون بعربية شمالية، فهم إذن ممن كانوا يتكلمون بعربية "ال" بكل تأكيد، بدلالة هذه النصوص. وعربية "ال" هي عربية الشعر الجاهلي.
وحيث أن صاحب نص "النمارة" هو الملك "امرؤ القيس"، من ملوك الحيرة، وقد كتب أصحابه شاهد قبره، باللغة التي بينتها، ووضعوه على قبره، فلغة أصحابه إذن، هي لغة "ال"، أي: العربية الفصيحة. فنحن نستطيع أن نستنبط من ذلك، أن عرب الفرات في العراق كانوا يتكلمون بهذه اللغة في القرن الرابع للميلاد، أي: قبل أن تظهر سوق "عكاظ"، وقبل أن يولد "النابغة" الذبياني، حاكم هذه السوق على زعم أهل الأخبار، وقبل أن تقوم قريش بالغربلة المزعومة للغة، وقبل بروز قريش وولادة "قصي" بزمن طويل.
ثم إن ملوك الحيرة على الأخص ثم ملوك الغساسنة كانوا كعبة الشعر والشعراء، إليهم كان يذهب الشعراء، إليهم كان يذهب الشعراء، يقفون على أبوابهم ساعات وأيامًا ليسمح لهم "الحاجب" بالدخول على الملك لإنشادهم أشعارهم أمامهم، وقد كانوا قد اتخذوا -كما يقول أهل الأخبار- أيامًا يسمح فيها للشعراء بالتباري في إنشاد أشعارهم أمامهم، وعرض ما عندهم من بضاعة نفيسة في الشعر ليراها الشعراء المجتمعون عنده، ولم نسمع أن الشعراء كانوا يقصدون تجار قريش للتباري أمامهم بإنشاد الشعر، أو أنهم كانوا قد اتخذوا موسمًا يقصده الشعراء من سائر أنحاء جزيرة العرب للتباري بقول الشعر، لا في موسم الحج ولا في غيره. إن سادة مكة تجار، والتاجر لا يعرف إلا الكسب وجمع المال، وما شأنه وبضاعة الشعر! لقد كان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة قدوة لملوك بني أمية ولبني العباس في تبنّيهم الشعر والشعراء،(16/281)
وفي ترويج سوقه وتنشيطه. وإعطائه قوة وصولة، قد يكون عن طبيعة فيهم وطبع، وقد يكون عن سياسة وغرض، لاتخاذ الشعراء محطات إذاعة أو صحف للترويج بسياسة ملك، وللحط من شأن خصمه ومنافسيه، وللرد على الشعراء المعارضين. على كل فقد كانوا يستذوقون الشعر ويميزون الجيد منه من الفاسد، ويظهرون عيوبه أمام الشعراء. ويحسنون إلى الشعراء من أجاد منهم، ومن لم يجد، فكان هذا التشجيع في جملة العوامل المشجعة على نظم الشعر. وإذا كان لبني أمية فضل على الشعر الجاهلي بالاستماع إليه من أفواه الرواة، وبالحث على حفظه وتدوينه. وإذا كان لبني العباس فضل على الشعر والعربية والعلوم بتشجيعهم العلماء واستدعائهم إلى مجالسهم للاستماع إليهم، فصاروا بذلك جميعًا حماة العربية، فإن ملوك الحيرة وملوك عرب الشام، كانوا قد مهدوا الجادة قبلهم لمن ذكرت، ورفعوا بعملهم المذكور من مستوى العربية، وعملوا عملهم في صقلها وفي توحيدها، وفي تقريب الألسنة بعضها من بعض والناس على دين ملوكهم، وأكثر شعراء الجاهلية كانوا على اتصال إما بهؤلاء الملوك، وإما بأولئك.
وإذا أضفنا إلى هذا التشجيع، والسيادة السياسية التي كانت لملوك الحيرة على نجد والبحرين، عامل التقدم الثقافي الذي كان لعرب الحيرة والأنبار والقرى العربية في العراق وفي بلاد الشأم على أهل البوادي، بل وعلى أهل مكة كذلك، الذين تعلموا خطهم من أهل الحيرة، لزم علينا القول أن العربية المبينة التي درّست في مدارس عرب العراق، كانت قد تقدمت في العراق أكثر من أي مكان آخر في جزيرة العرب بالنسبة لأيام الجاهلية، ولعل هذا التقدم هو الذي أكسب العراق شرف وضع علوم العربية، وتفرده من بين سائر الأقطار الإسلامية، يجمع الشعر الجاهلي وقواعد العربية وعلوم الشعر واللغة، وإلا فلا يعقل ظهور هذه العلوم في هذه الأرضين من غير ماض ولا علم سابق، ولا أسس بنى عليها المسلمون بناءهم الجديد.
وأما أن تلك السيادة السياسية، كانت في حدود ضيقة، في حدود القبائل القريبة من قريش، والمواضع التي كانت لها مصالح بها، فذلك موضوع آخر، له ما يبرره، فقد كان لسادات مكة مصالح اقتصادية في الطائف، وكان لهم أملاك وبساتين، ولهم بيوت يقضون بها صيفهم، كما كانت لهم مصالح مشابهة مع المواضع الأخرى ومع القبائل، لا مجال لنكرانها أبدًا. ولكن ما صلة هذه(16/282)
الأمور باللغة، ومن قال من القدماء إن قريشًا فرضت لغتها على أهل تلك المواضع والقبائل فرضًا، أو أن أدباء تلك المواضع أو تلك القبائل، أخذوا لغة أدبهم من قريش؟ أو أن سياسة قريش كانت ذات نفوذ واسع عميق، تركت أثرًا كبيرًا في النفوس جعلت العرب من أجل ذلك يمجدون لغة أهل مكة، ويعتبرونها اللغة العالية، أما لغاتهم فلغات رديئة دونها في المنزلة والمكانة، مع أننا نعلم ما للعصبيات القبلية من أثر في التعصب إلى اللهجات، ثم إننا نرى أن كتب أهل الأخبار واللغة، تذكر أن القبائل التي كانت تجاور مكة، كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة بها، وأن أهل الطائف، أي: ثقيف، كان لهم لسانهم الخاص، وأن "أهل الحجاز"، أي: قريش وغيرهم، كانوا يتكلمون بلهجات خاصة، سمّاها علماء اللغة لغات "حجازية"، ولم يسموها "قرشية"، ولو كانت تلك اللهجات، لغة قريش لما دعاها العلماء "لغة أهل الحجاز"، أو "حجازية"، وقالوا: "ما الحجازية"، وعلى "لغة أهل الحجاز"، ولقالوا: "لغة قريش" وعلى "لغة قريش"، وهكذا، أضف إلى ذلك أننا قلما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة قريش عن بقية لغات العرب، وإنما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة أهل الحجاز مما يدل على وجود فرق بين اللغتين، وأن لغة قريش، لهجة من لهجات أهل الحجاز، لا أنها الأصل. وقد رأينا وجود "الغمغمة" في لغة قريش، وقد نص علماء اللغة أنفسهم على وجودها في تلك اللغة1.
ثم من في استطاعته اليوم إثبات أن عرب اليمامة أو عرب نجد، أو عرب البوادي، كانوا تحت تأثير لغة قريش، أو تحت تأثيرها السياسي، ولذلك كانوا ينظمون شعرهم بها، ويخطبون بها، والنصوص التي عثر عليها في اليمامة وفي مواضع من نجد تثبت خلاف ذلك، تثبت بالدليل القاطع أن لهجة نصوصهم لم تكن على شاكلة لغة قريش، فكيف نصدق رأي من يرى أن أعراب باطن جزيرة العرب، كانوا ينظمون الشعر بلسان قريش! مع وجود هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها، والتي لا يزال العلماء يعثرون عليها إلى يومنا هذا، لا في نجد واليمامة والبحرين فقط، وإنما في أرض الحجاز نفسها، وعلى مسافات غير بعيدة من يثرب ومن مكة، ومن الطائف، وهي بلهجات تختلف عن لهجة
__________
1 "الغمغمة: الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"، تاج العروس "9/ 6"، "غمم".(16/283)
القرآن الكريم، وبخط يختلف عن الخط الذي دوّن الوحي به! وليست هذه النصوص مغرقة في القدم، حتى يعترض معترض، فيقول: إننا نقول: إن لغة قريش، صارت لغة الشعر، ولغة الأدب، مع ظهور الشعر الجاهلي، أو قبله بزمن غير بعيد، لأن بين هذه النصوص، نصوص لا يرتقي عهدها عن الإسلام إلا بزمن يسير!
وأما ما يقصونه علينا من نفوذ السلطان الاقتصادي الذي كان لقريش وعن أثره في سيادة لهجة قريش على لهجات العرب، فأنا أقرأ أن مكة كانت مدينة تجار وتجارة، وبيع وشراء، واستيراد وتصدير، وليس من حق أحد أن ينكر ذلك، بعد أن نص القرآن على إتجارهم، وعلى وجود رحلتين لهم: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف. وبعد أن زخرت كتب الأخبار والتأريخ بأخبار تجارة رجالها. ولكن هل كانت مكة، المدينة المتاجرة الوحيدة في جزيرة العرب؟ والجواب: كلا، فقد كانت لأهل اليمن تجارة مع مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان سادات اليمامة والبحرين من الأثرياء الثقال في بلادهم، وكانوا أصحاب تجارات، وكانت اليمامة خاصة، ريف مكة تمونها بالميرة والمنافع، وكان ساداتها إذا غضبوا عليها قطعوا الميرة عنها، فيصيبها من ذلك غم كبير، وتضطر عندئذ إلى مصالحتهم. فلما جاءهم ثمامة بن أثال الحنفي، سيد أهل اليمامة، وقالوا له: "يا ثمامة، صبوت وتركت دين آبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني أقسمت بربّ هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شيء ما تنتفعن به حتى تتبعوا محمدًا من آخركم. وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضرَّ بهم، كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وأن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن خل بين قومي وميرتهم" 1. وكان تجار البحرين يحملون تجارتهم من أقمشة ومن تجارة البحر إلى مكة، كما كان ملوك الحيرة يبعثون بلطمائهم إلى الأسواق ومنها سوق عكاظ، وكان الحضر وأهل القرار في كل جزيرة العرب تجارًا، ومنهم أهل
__________
1 الاستيعاب "1/ 206 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".(16/284)
يثرب، ويهودها ويهود وادي القرى، ويعود سبب اشتهار مكة بالتجارة دون غيرها من قرى ومدن جزيرة العرب، إلى القرآن الكريم، فإليه وحده يعود فضل اشتهارها بالتجارة، لما جاء فيه من ذكر عن قساوة تجار قريش وغلظهم تجاه الفقراء، ومن أكلهم أموال اليتامى والأرامل والبنات، ومن تعاطيهم الربا، ومن اتجارهم برحلتي الشتاء والصيف إلى غير ذلك من أمور حملت علماء التفسير والأخبار على التنقير عن أخبار تجارة مكة وعلى جمع ما حصلوا عليه في كتبهم، ولو نزل في القرآن الكريم شيء عن تجارة وتجار مواضع أخرى مسماة باسمها لخصت تلك المواضع بعنايتهم من دون شك ولا ريبة، ثم إن مدينة الرسول، وقد اشتغل الرسول نفسه بالتجارة، وكان والده وبقية عشيرته تجارًا، وكانت زوجه خديجة تاجرة، فحمل كل هذا علماء السيرة على البحث عن تجار مكة وعن تجارتها قبل الإسلام، وعن المواضع التي تاجروا معها. فظهرت مكة من ثَمَّ وكأنها المدينة الوحيدة التاجرة في جزيرة العرب!
وأما ما يذكرونه عن النفوذ الديني الذي كان لقريش على العرب، فالذي أعرفه من أمر الدين عند أهل الجاهلية، أنهم كانوا بين مشرك، وهم الكثرة الكاثرة، وبين يهود، وهم قلة، وبين نصارى، وهم أكثر من اليهود عددًا، وبين جالية مجوسية، قلدها في دينها نفر من العرب لا يعبأ بعددهم. أما الشرك، فقد تتبعناه في الجزء السادس من هذا الكتاب، فوجدنا أن لكل قبيلة صنمًا، كانت تتقرب إليه وتنذر له وتستعين به في حربها وغزوها، ولم تكن العرب تحج إلى صنم واحد، هو صنم قريش، بل كانت تحج إلى أصنامها، ووجدنا أن "هبل" هو صنم أهل مكة وكفى. ثم رأينا أن لأهل نجران كعبة، ولأهل يثرب محجة، ولإياد كعبة، ولثقيف محجة، وللقبائل الأخرى محجات، وللنبط محجة، ولأهل العربية الجنوبية معابدهم، ولم نقرأ في أي نص من نصوص أهل الجاهلية أنهم حجوا إلى مكة، أو أن أحدًا منهم ذهب إليها لغرض من الأغراض الدينية أو أي غرض آخر، ولم يرد اسم مكة في أي نص من هذه النصوص. ولم نسمع في أخبار أهل الأخبار، أن قوافل من عرب العراق أو عرب بلاد الشأم أو نجد أو العروض، كانت ترحل في موسم الحج إلى مكة لفرض تأدية الحج، أو أداء العمرة في رجب، ولم أقف على اسم ملك من ملوك الحيرة قيل إنه حج إلى مكة، ولم أقف على اسم ملك من ملوك كندة أو بقية العرب ذكر أنه حج(16/285)
في جاهلية إلى مكة، اللهم إلا ما زعموه من حج التبابعة إليها، وقد تعرضنا لطبيعة أمثال هذه الدعاوى القحطانية التي وضعتها العصبية إلى اليمن في الإسلام، وكلها أساطير وخرافات. ولو كان الحج إلى مكة عامًا عند كل مشركي جزيرة العرب، لما سكتت الأخبار عن ذكر من كان يفد إلى الحج من الأماكن البعيدة، ولظهر أثره في الشعر على الأقل.
وأما اليهود والنصارى والمجوس، فقد كانوا على دينهم، لا يحجون البيت ولا يتقربون إليه. فلهم عبادتهم الخاصة بهم. فلا نفوذ لقريش إذن عليهم من ناحية الدين.
نعم، قد يقال لي: ولكن ما قولك في هذا الإجماع الذي نراه في كتب التواريخ والأخبار من حج التبابعة إلى مكة ومن تقربهم إلى الكعبة بالكسوة والألطاف، وقد كانوا أول من كساها من العرب؟ ثم ما قولك في هذا الشعر الذي قالوه في مدح البيت وفي التقرب إليه وفي الإيمان بالله وبرسوله قبل ظهوره بل قبل مولده بمئات من السنين؟ ثم ماذا تقول من إشادة "عدي بن زيد" العبادي بالبيت وقسمه به في شعره، وهو يخاطب النعمان بن المنذر، الملك الغاضب عليه1؟ وماذا تقول في قول القائلين، من الشعراء الجاهليين الآخرين في تعظيم البيت وفي التقرب إليه، وقسمهم به2؟ ومن مجيء العرب إلى مكة من كل حدب وصوب للعمرة أو للحج؟ ثم ماذا ستقول في أشياء أخرى من هذا القبيل تفند كلها قولك، وتثبت وجود نفوذ قريش على القبائل وخضوع القبائل لها في أمور الدين؟
أما حج التبابعة البيت، فهو حج ولد في الإسلام، أولدته العصبية القحطانية العدنانية، التي تحدثت عنها، وأما الكسوة، فهي من مولدات ومخترعات هذه العصبية أيضًا. وأما الشعر الذي نسب إلى التبابعة، فهو من فصيلة الشعر الذي روي على لسان آدم وهابيل وقابيل والجنّ، وأما المحجات، فقد بحثت عنها في الجزء السادس من هذا الكتاب3. وقد سبق لي أن تحدثت عن مخترعات أخرى
__________
1 تاج العروس "5/ 534"، "ودع".
2 مثل زهير، والنابغة، وعوف بن الأحوص، جواد علي، المفصل "6/ 430".
3 "ص444 وما بعدها".(16/286)
كثيرة غير هذه، أوجدتها العصبية القحطانية العدنانية، منها خلق أنبياء قحطانيين وجعل العربية الأولى عربية قحطانية، وجعل العرب العدنانيين عربًا مستعربة، إلى غير ذلك من ابتكارات أوجدها القحطانيون، بعد أن ذهب الحكم منهم، وصاروا تبعًا لقريش في الإسلام، فأخذوا ينبشون الماضي ويبحثون في الدفاتر العتيقة، ويضعون ويفتعلون، للغض من خصومهم، ولإظهار أنهم كانوا هم اللب والأصل، وأن خصومهم جاء إليه الحكم عفوًا، من غير أصالة ولا مجد تليد، فهم أصل كل مجد وفخار.
وقد تعرض العلماء لهذا الموضوع القائم على العصبية، فقال "ابن فارس": "فأما من زعم أن ولد إسماعيل -عليه السلام- يعيرون ولد قحطان أنهم ليسوا عربًا ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية فليس اختلاف اللغات قادحًا في الأنساب. ونحن وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات فلسنا ننكر أن تكون لكل قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرب العاربة وأن مَنْ سواهم العرب المتعربة، وأن إسماعيل -عليه السلام- بلسانهم نطق، ومن لغتهم أخذ، وإنما كانت لغة أبيه صلى الله عليه وسلم، العبرية"1. فأنت أمام رأيين متناقضين، يدعي أصحاب كل رأي منهما أنهم هم العرب، وأن لسانهم هو اللسان العربي الفصيح المبين، وأن من سواهم فغم، وأصحاب ألسنة فاسدة رديئة.
وأما ما زعموه وحكوه عن أدوار تهذيب اللغة، ومن انفتاق العربية بلسان إسماعيل إلى اختتامها بالدور العكاظي، وهو آخر التهذيب اللغوي، فأقول أنها أقوال بنيت على أخبار صنعتها العواطف والمشاعر العصبية الضيقة التي ظهرت بأجلى مظاهرها في صدر الإسلام. عصبية قبلية قديمة كانت بين يثرب ومكة.
أو بين اليمن ومكة، ازدادت شدة وقوة في الإسلام، بسبب استيلاء قريش على الحكم، فاستغلت العواطف الدينية لتأييد هذه العصبية السياسية. بجعل قريش تاجرة جزيرة العرب، وزعيمتها في اللغة، وموطن الفصاحة والبلاغة، ومجمع علماء اللغة الذين كانوا يأخذون ويعطون ويقررون كل ما هو سلس من الكلم وما هو بليغ وفصيح، حتى جعلوا كلام الله المنزل على رسوله بلسان عربي مبين، لسانَ قريش، والله تعالى يقول: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ولم يقل قرشيًّا"2.
__________
1 الصاحبي "56".
2 ابن كثير، فضائل القرآن "77".(16/287)
العربية عربية العرب جميعًا من أنصار ومهاجرين، أهل بادية وقرى. "قال الأزهري: وجعل الله عز وجلّ، القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا لأنه من صريح العرب"1. فلسان القرآن، لسان العرب جميعًا من مهاجرين وأنصار، لا لسان قريش خاصة، والنبي وإن كان من قريش، لكنه كان عربيًّا من صريح العرب، ودعوته، لم تكن دعوة ضيقة خاصة بقريش، إنما كانت دعوة عامة جاءت إلى كل العرب، قوم النبي، ولهذا نزل بلسانهم وبهذا جاءت الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 2، ثم إلى الناس عامة لحديث: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" 3.
وأما ما زعموه من تخير قريش وانتقائها أفضل لغات العرب، حتى صار لسانها أعرب الألسنة، فزعم بني علي خبر "روي عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب دارًا، وأحسنه جوارًا، وأعربه ألسنة"4، وعلى خبر ينسب إلى قتادة نصه: "كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها"5. وهو خبر لا زال يردد ويكرر يوضع بين أقواس تارة وبغير أقواس تارة أخرى، استشهادًا به حتى وكأنه صار آية نزلت من السماء، مع كون "قتادة" من الضعفاء، وقد تحدث عن "ابن عباس" مع أنه لم يلتق به، ونسب له أقوالًا شاعت بين الناس، مع أنه لم يره ولم يسمع منه، فهل يؤخر بعد بقوله على أنه حجة، أو كأنه آية نزلت من السماء! وهل نقبل خبره عن
__________
1 اللسان "1/ 588"، "عرب".
2 سورة إبراهيم، الآية4، تفسير الطبري "13/ 121"، تفسير الألوسي "13/ 166".
3 تفسير ابن كثير "2/ 523"، "سورة إبراهيم".
4 اللسان "1/ 588". "عرب".
5 اللسان "1/ 588". "عرب".(16/288)
اجتباء قريش أفضل لغات العرب، على أنه حجة يستدل بها على أدوار التهذيب! وأنت لو رجعت إلى خبر: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب وأصفاهم لغة. وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته.
فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم ... إلخ"1، تجده منقولًا نقلًا حرفيًّا في كل موضع تعرض إلى أفصح العرب، أو العربية الفصحى، أو اللغة التي نزل بها القرآن، بسند أحيانًا وبغير سند أحيانًا أخرى، حتى ظهر وكأنه خبر متواتر، وإجماع لم يخرج عليه عالم من العلماء، فأخذ به المحدثون، وقالوا قولهم المذكور، ولكنك لو تتبعت الخبر، وعملت رأيك في حرفية نصه في كل الموارد، ثم وقفت على آخر مورد قديم ذكره، ترى أنه خبر آحاد، ورواية واحدة ليس غير، اكتسب هذا الإجماع بسبب وروده بالحرف في تلك المؤلفات، فهو لا يفيد قطعًا، وإنما حكمه حكم الأخبار الآحاد.
ثم عن ما ذكروه من صفاء لهجة قريش ومن فصاحتها، يعارضه قولهم بوجود "غمغمة" في لغتها. فقد قالوا: الغمغمة: "الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"2، كما يعارضه قولهم بوجود التضجع في لغة قريش، فلما تحدث "ثعلب" عن معايب اللغة، قال: "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكسكسة ربيعة، وكشكشة هوازن، وتضجع قريش، وعجرفية ضبة"3، مما يدل على أنه قصد بـ"تضجع قريش"، عيبًا من العيوب في الفصاحة وفي وصف لغة قريش بالتضجع مناقضة لابتداء كلامه بـ"ارتفعت قريش في الفصاحة عن...."، كما لا يخفى وعلماء العربية والأخبار يناقضون أنفسهم بأنفسهم، وهو شيء مألوف عنهم، لأنهم كانوا يعمدون إلى الرواية والإملاء عن ظهر قلب في الغالب، لا عن كتاب مدوّن وصحف مكتوبة، فلا غرابة إن ظهر هذا التباين في كلامه في هذا المكان
__________
1 الصاحبي "52".
2 تاج العروس "9/ 6"، "غمم".
3 المزهر "1/ 211".(16/289)
ثم إن علماء العربية، حين يبحثون في النحو أو في الصرف، أو في مفردات اللغة عن الغريب والشاذ، يذكرون فيما يذكرون لغة قريش، ولغة أهل الحجاز، فيقولون: "لغة قريش"1، و"بلغة قريش"، كما يقولون: "لغة تميم"، ولغة طيء، ولغة يمانية، ولغة أسد، وغير ذلك. ولكنهم يقولون أيضًا:
"يقول أهل الحجاز: قَتَر يَقْتِر، ولغة فيها أخرى يقتُر بضم التاء، وهي أقل اللغات"2، وجاء: "وفي أمالي القالي: لغة الحجاز ذَأي البقْل يذأى، وأهل نجد يقولون: ذوي يذوي"3 إلى غير ذلك، وفي ذكرهم لغة قريش ولغة أهل الحجاز، مع اللغات الأخرى في مثل هذه المواضع دلالة بينة على أن العربية الفصحى ليست عربية قريش، وإنما عربية أخرى، هي العربية التي نص عليها في القرآن، أي: العربية التي نزل بها الوحي، وإلا كان من السخف ذكر لغة قريش، حين الإشارة إلى الغريب والشاذ ومواضع الاختلاف.
وأما استشهادهم بحديث: "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش" أو "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، أو "أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش"4، لإثبات أن قريشًا كانوا أفصح العرب، بل أصل الفصاحة، فالحديث من الأحاديث، الغريبة الضعيفة، رواه أصحاب الغريب، كما نص على ذلك العلماء5، فهو لا يفيد حكمًا علميًّا لضعفه هذا، ولا يصلح أن يكون أساسًا لاستشهاد. وقد يكون من موضوعات العصبية العدنانية القحطانية، وقد يكون من الأحاديث التي رويت من باب الإشادة بقريش لكونهم قوم الرسول، وبالإشادة بذكرهم وتعظيمهم في كل شيء وجعل لسانهم أفصح الألسنة خدمة في رأيهم للإسلام وللرسول وللقرآن الكريم. وليس هذا بشيء غريب، فقد عهدنا أهل الأخبار يروون شعرًا ونثرًا على ألسنة التبابعة والأقوام الماضية بل والجن والكهان في الحث على الإيمان بالرسول، قبل ميلاد
__________
1 تاج العروس "9/ 174"، "حزن"، المزهر "1/ 215".
2 المزهر "1/ 215 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 215".
4 المزهر "1/ 209 وما بعدها"، مجالس ثعلب "11"، "عبد السلام محمد هارون"، وورد "مَيْدَ أني"، "من أجل أني"، أنا أفصح العرب، "تربيت في أخوالي بني سعد، بيد أني من قريش".
5 المزهر "1/ 209 وما بعدها".(16/290)
الرسول بزمن، وقبل ظهور الإسلام. وهو مقبول عندهم، ودليل ذلك تسطيره في كتبهم وروايتهم له.
ولو تجوزنا وقبلنا بالحديث، واعتبرناه حديثًا صحيحًا، فإننا لا نستطيع مع ذلك أن نفهم منه ما فهموه هم من أنه عني أن قريشًا أفصح العرب، وأنه صار أفصح العرب، من أجل أنه من قريش، لأن معنى "بَيْد" على تفسير علماء العربية هو: "غير" و"على"، والأول أعلى. "يقال: رجل كثير المال، بيد أنه بخيل. معناه غير أنه بخيل"1، ولو أخذنا بالتفسيرين المذكورين قلنا: يجب أن يكون معنى الحديث على هذا النحو: "أنا أفصح العرب، غير أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، أو "أنا أفصح العرب، على أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، ومعناه بعبارة مبسطة أنا أفصح العرب، وإن كنت من قوم منهم، هم قريش، لهم لسانهم، وقد نشأت في بني سعد. وقريش كما نعلم بعض العرب، لا كل العرب. وليس في هذا المعنى أية دلالة على تخصيص قريش بالفصاحة، وعلى أن لسانها أفصح الألسنة. وكل ما فيه إشادة بفصاحة الرسول وحده، وإفادة بأنه أفصح العرب، فلا أحد أفصح وأنطق منه، فهو حديث يفيد التخصيص لا التعميم، وهو خاص بفصاحة الرسول.
وهو لذلك لا يمكن أن يكون حجة على تفضيل لسان قريش على الألسنة الأخرى، ولأجل تحويله إلى حجة فسّروا لفظة "بيد" تفسيرًا جعل الفصاحة للرسول ولقومه فقالوا: "ويأتي بيد بمعنى: من أجل. ذكره ابن هشام"2، فصار معنى الحديث: "أنا أفصح العرب، من أجل أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر". فالرسول وفق تفسيرهم هذا، أفصح العرب من أجل أنه من قريش، ففصاحته مستمدة منهم ومن "بني سعد بن بكر"، وصارت قريش في نظرهم أفصح العرب لسانًا، وأصفاهم لغة. مع أنهم يذكرون فيما يذكرون عن كلام الرسول، أن "عمر بن الخطاب" قال للرسول يومًا: "يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من ظهورنا ... "3، وأن رجلًا آخر سأله بقوله: "يا رسول الله، ما أفصحك! فما رأينا الذي هو أعرب منك.
__________
1 تاج العروس "2/ 308"، "باد".
2 تاج العروس "2/ 308"، "باد".
3 المزهر "1/ 209".(16/291)
قال: حق لي، فإنما أنزل القرآن عليَّ بلسان عربي مبين. وقال الخطابي: اعلم أن الله لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكلم. قال: ومن فصاحته أنه تكلم بألفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: "مات حتف أنفه، وحمي الوطيس ... إلخ"1. وفي حديث "عمر" إن صح: "ولم تخرج من بين أظهرنا"2 صراحة بتعجب عمر من هذه الفصاحة التي كانت للرسول مع أنه لم يخرج من بين أظهرهم، أي: من مكة، ولو كان لسان قريش أفصح الألسنة لما قال عمر للرسول قوله المذكور، الذي يدل على أن الفصاحة في خارج قريش، وعند الأعراب. وفي جواب الرسول على الرجل من قوله: "حق لي، فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين" 3، -إن صح هذا الحديث- تفنيدًا لقول القائلين بنزوله بلغة قريش، ولو كان قد نزل بلغتهم لقال: "بلسان قرشي مبين" ولم يقل أحد من العلماء: إن اللسان العربي، هو لسان قريش، بل نجدهم يقولون دائمًا: لسان قريش، ولغة قريش ونزل بلسان قريش، ويذكرون هذا اللسان مع الألسنة الأخرى، مثل لسان تميم، وهذيل، وبني سعد بن بكر.
وأما ما قالوه من أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول، لم تجد صعوبة في التفاهم معه، وأن الرسول حين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن ليعظهم ويعلمهم ما وجد صعوبة في التفاهم معهم، وأنهم لو لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى، لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثًا، "وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام"4، فيعارضه ما ذكروه من أنه "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه -رضوان الله عليهم- ومن يفد عليه من
__________
1 المزهر "1/ 209".
2 المزهر "1/ 35".
3 المزهر "1/ 35".
4 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "122 وما بعدها"(16/292)
وفود العرب الذين لا يوجه الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه عما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريًّا في العرب فلم يلتفتوا إليه"1. وفي هذا الخبر -إن صح- دلالة على الضد، دلالة على أن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وأنها لم تكن تنطق بلسان قريش بل بألسنتها، وإلا لما تعجب علي وغيره من كيفية تفاهم الرسول مع القبائل وعدم تمكنهم هم من فهم كلامهم، مع أنه وإياهم من أب واحد، أي من قريش. ثم من أكد لنا أن معاذ بن جبل، وهو من الأنصار لم يجد صعوبة في تفاهمه مع أهل اليمن، وأن وفود اليمن لم تجد صعوبة في تفاهمنا مع الرسول، ومن أين جاء هذا التأكيد؟ والذي نعلمه أن الموارد لم تتحدث عن ذلك، بل الذي رأيناه هو العكس، وهو ما ذكرته في خبر علي مع النبي.
أما لو أخذنا بما نجده في الموارد من كلام الوفود مع الرسول وجواب الرسول على كلامهم، وكله بهذه العربية المبينة، فقد قلت مرارًا: إن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ولا كلام الوفود مع الرسول بل ولا كلام الرسول وحده، أي: حديثه، وإن ما نقرأه من نصوص لا يمثل الأصل، وربما مثل المعنى، وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وإنما روايات موضوعة، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وأن بين أصحاب النبي من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود.
وأما ما زعموه من دور "عكاظ" في تهذيب اللغة، وأثر قريش فيه، فلئن كان لعكاظ أثر في تباري العرب في النثر وفي الشعر، فإنك لا تستطيع إرجاع هذا الأثر إلى عمل وفعل جماعة معينة، وليس في الذي تحدث به الرواة من أخبار عن "عكاظ" ما يحصر فعل هذا التهذيب بقريش، وما قريش إلا كغيرهم من
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 335"، "رواية اللغة".(16/293)
قصاد هذا المكان من حيث المجيء للبيع والشراء والإتجار. لم تكن الحكومة لهم بعكاظ، وإنما كانت لتميم، وتميم من أشهر الناس في فنون الخطابة والكلام.
ودليل ذلك، ما يورده أهل الأخبار عن خطبائهم وحكمائهم من كلام، وما ينسبونه إليهم من حكم وخطب بليغة، ثم إن هذه السوق لم تظهر إلا في أيام الرسول وقبل خمس عشرة سنة من الإسلام. وقيل: إنها اتخذت سوقًا بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وتركت عام خرجت الحرورية بمكة مع "المختار بن عوف" سنة تسع وعشرين ومائة1. وقد ذكر أهل الأخبار أن "عكاظ" سوق "كانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي: يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون"، وأنهم كانوا "يقيمون شهرًا يتبايعون ويتفاخرون ويتناشدون شعرًا، فلما جاء الإسلام هدم ذلك"2، وذكروا أن الشاعر النابغة الذبياني كان يأتيها فينشد الناس من شعره، "وكان النابغة تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السلمية3 فأنشدته"4، وذكروا أن في شعر "أمية بن خلف" الخزاعي، إشارة إلى مكانة هذه السوق عند الشعراء، حيث يقول:
ألا من مبلغ حسان عني ... مغلغلة تدب إلى عكاظ
فأجابه "حسان" في أبيات تشير أيضًا إلى هذه الأهمية، وذلك بقوله:
أتاني عن أميّة زور قول ... وما هو في المغيب بذي حفاظ
سأنشر إن بقيت لكم كلامًا ... ينشر في المجنة مع عكاظ
قوافي كالسلاح إذا استمرت ... من الصم المعجرفة الغلاظ4
فلم يشر حسان إلى أثر قريش في هذه السوق، ولم يشر أمية إلى قريش كذلك، والذي يفهم من الشعرين أن ذكر عكاظ فيهما، هو بسبب تجمع الناس في هذه
__________
1 الخزانة "2/ 503 وما بعدها"، "بولاق".
2 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ"، اللسان "7/ 448"، "عكظ".
3 الشعر والشعراء "1/ 261"، "خنساء بنت عمرو".
4 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ".(16/294)
السوق، فما يقال فيها ويصرخ على رءوس الأشهاد ينتشر في كل مكان، ويأخذ صداه بين الحاضرين، ثم يذهب إلى الغائبين، ولهذا كانت أيضًا الموضع الذي يعلن فيه الناس خلع من يريدون خلعه للتبرؤ من جرائره، شأنها في ذلك شأن "سوق مجنة"، وهي أيضًا من أسواق الجاهلية وكانت على أميال من مكة1، وأنت ترى أن "حسان" قد ذكر أنه سينشر شعره فيها وفي عكاظ. مما يدل على أنها كانت ذات أهمية أيضًا من حيث النشر والإعلان، وأنها مثل عكاظ، ومثل أي سوق أخرى كبير من حيث تجمع الناس فيها والإعلان عما يقع لهم من أحداث.
وأما ما ذكروه من إنشاد حسان للنابغة شعره:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ومن رد النابغة عليه بقوله: أنت شاعر، ولكنك أقللت جفناتك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك. فحكاية شك فيها العلماء، وإن كان هذا الشاهد من شواهد سيبويه. لأن الاعتراض لا يدور على الشاهد، وإنما على القصة. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها خبر مجهول لا أصل له. وهناك قوم أنكروا هذا البيت أصلًا، ومنهم من روى ملاحظة النابغة المزعومة بشكل آخر2" وفي الشكلين ما يوحي إلى أن القصة مفتعلة، وضعها الرواة لإيجاد مخرج للبيت.
ولم أجد في المراجع المعتبرة القديمة نصًّا، يفيد أن الأمر كان لقريش في الحكم بين الشعراء أو الخطباء في سوق عكاظ. والنابغة الذي جعلوه حكمًا يحكم في أمر الشعر لم يكن من قريش، بل هو من "بني ذبيان"، وهو الحكم الوحيد الذي نص أهل الأخبار على اسمه، وزعموا أنه كانت له قبة حمراء من أدم، وكان ينشد شعره، وإليه تتحاكم الشعراء في أيهم أشعر، وكل الشعراء الذين ذكروهم هم: الأعشى، والخنساء، وحسان في قصة منمقة طريفة3. ولم أعثر حتى الآن على اسم حاكم آخر، آلت إليه حكومة الشعر في عكاظ، لا من قريش ولا من غير قريش. فأين إذن موقع قريش في هذه السوق من الإعراب.
__________
1 تاج العروس "9/ 164"، "جنن".
2 خزانة "3/ 430 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 89".(16/295)
وأما ما زعمه بعض أهل الأخبار من أن العرب في الجاهلية كان يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يُعْبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخرًا لقائله، وإن لم يستحسنوه طُرح وذهب فيما ذهب؛ وما روي عن "أبي عمرو بن العلاء" من قوله: كانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش"1.
فروايات من نوع الروايات التي لا تتمكن من الوقوف على أرجلها، ولم نجد في كتب التأريخ والأخبار ما يؤيدها، وضعت لتبرير القصص الذي نسجوه عن أسطورة تعليق المعلّقات. ثم إننا لم نسمع بحبر الشعر الذي استحسنوه وأجازوه، غير شعر المعلقات، ولو كان ما نسب إلى "أبي عمرو بن العلاء" أو غيره حقًّا، من استحسان شعر وطرح شعر، لما سكت رواة الشعر من الإشارة إلى الشعر الذي استحسنه أهل مكة فنال بذلك شرف الاختيار والسيادة والرفعة، ولما غضوا النظر غضًّا تامًّا عن الإشارة إلى الشعر الذي لم يستحسنوه فسقط وذل، وفي ذكر الشعر الفاشل أهمية كبيرة في نظر الشعراء الخصوم، وفي نظر القبائل التي كانت تبحث وتتجسس على الهفوات والسقطات لاتخاذها مغمزًا تنال بها القبائل بعضها بعضًا! ثم كيف سكتت قريش عن هذا الشرف الذي كان لها قبل الإسلام، وقد رووا أنها نظرت فإذا حظها في الشعر أيام الجاهلية قليل، فاستكثرت منه في الإسلام، وأنها أضافت كثيرًا إلى شعر "حسان" للإساءة إليه، ولو كان هذا الشرف المزعوم، لما سكتوا عنه، ولما سكت من تبسط في تأريخ مكة، أو كتب في السيرة عن الإشارة إليه، لما فيه من أهمية كبيرة بالنسبة للتأريخ، ثم إننا لا نجد في القرآن الكريم شيئًا يشير إلى ذلك، مع تعرضه للشعراء، كما لا نجد في كتب الحديث أي شيء يدل على وجوده، مع أنها تعرضت للشعر، ولسماع الرسول له، وقد ذكرت أنه كان يسأل الصحابة أن ينشدوا شعر الشعراء له، إلى غير ذلك مما هو مدوّن في بطون هذه الكتب.
وأما ما زعموه من أن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردوه منها كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم، فقالوا:
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب اللغة "1/ 186".(16/296)
هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل، فأنشدهم قصيدته: طحا قلب في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر"1. فخبر آحاد، وإن تواتر في الكتب، لم يروه "ابن سلام" ولا "ابن قتيبة"، وهو من نوع خبر تعليق المعلقات من الموضوعات التي أولدها أهل الأخبار.
وفي الجدل الذي وقع بين علماء النحو وغيرهم في جواز أو عدم جواز الاحتجاج بالشعر على غريب القرآن ومشكله، دلالة بينة على إجماع الطرفين على أن كتاب الله إنما نزل بلسان عربي مبين، ولم ينزل بلسان قريش، الذي هو حرف من اللسان العربي. فقد قال المنكرون للاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، إن معنى ذلك جعل الشعر أصلًا للقرآن، مع أن الشعر مذموم في القرآن والحديث، فردّ عليهم القائلون به بقولهم: "ليس الأمر كما تزعمون من أنا جعلنا الشعر أصلًا للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 2، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3.
وقال ابن عباس: "الشعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه4".
ولو كان القرآن قد نزل بلسان قريش، لما احتاج الناس إلى الشعر للاستشهاد به على فهم المشكل والغريب، وكان عليهم الرجوع إلى شعر قريش ونثرهم للاستشهاد به في توضيح ما فيه من مشكل وغريب، لا إلى شعر العرب وكلامهم من غير قريش، ثم إن في قولهم بوجود مشكل وغريب فيه، وحروف خفي أمر فهمها على العلماء، هو دليل في حد ذاته على أنه لم ينزل بلسان قريش، وإنما بلسان عربي مبين، فلو كان قد نزل بلسانهم لما خفي أمره على رجالهم، من مثل أبي بكر وعمر وغيرهما من رجال قريش.
ونجد في المسائل المنسوبة إلى "نافع بن الأزرق"، التي سألها على ما يذكر الرواة "ابن عباس" في تفسير القرآن بالشعر، دلالة على أنه كان يرى أن
__________
1 الأغاني "21/ 112".
2 الزخرف، الآية2.
3 النحل، الآية 103.
4 السيوطي، الإتقان "2/ 55".(16/297)
القرآن إنما نزل بلسان عربي، لا بلسان قريش، فقد روي أن "نافع بن الأزرق" قال لـ "نجدة بن عويمر": "قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا؛ وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال: ابن عباس: سَلاني عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِين} 1، قال: العزون: الحلق الرقاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم؛ أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا2
وهي أسئلة مهمة اقترن جواب كل سؤال منها بشعر، من شعر شعراء الجاهلية والمخضرمين مثل: "عبيد بن الأبرص"، و"عنترة"، و"أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و"لبيد"، و"طرفة بن العبد"، و"مالك بن عوف"، و"عبد الله بن الزبعرى"، و"حسان بن ثابت"، و"عديّ بن زيد" العبادي، و"أمية بن أبي الصلت"، و"أبو ذؤيب"، و"أبو محجن الثقفي"، و"امرؤ القيس"، و"الأعشى"، و"النابغة"، و"حمزة بن عبد المطلب"، و"زيد بن عمرو"، و"عبد الله بن رواحة"، و"زهير بن أبي سلمى"، و"عمرو بن كلثوم"، و"عبيد بن الأبرص"، و"كعب بن مالك"، و"أحيحة الأنصاري"، و"بشر بن أبي خازم"، و"مالك بن كنانة"، و"أبو طالب" و"مهلهل"، و"الحطيئة"، و"أوس بن حجر"، وشعر آخر لشعراء لم يشر إلى أسمائهم، وإنما كان يقول: "أما سمعت قول الشاعر"، وقد أمكن تشخيص بعضه، ولم يهتد إلى قائل البعض الآخر، كما استشهد بشعر نسبه إلى التبابعة3. وهي أجوبة مهمة، إن صح بالطبع أنها صحيحة، وأنها من أسئلة "نافع" وأجوبة "ابن عباس"، تفيد في تشخيص ذلك الشعر: وفي تثبيته، وإن كان من الصعب علينا التصديق
__________
1 المعارج، الآية37.
2 السيوطي. الإتقان "2/ 55 وما بعدها".
3 السيوطي، الإتقان "2/ 59-90".(16/298)
بصحة هذه الأسئلة والأجوبة، التي أرى أنها وضعت في أيام العباسيين، ويمكن بالطبع التوصل إلى تثبيت زمان وضعها، بالبحث عن أقدم مورد وردت إشارة فيه إليها، فحينئذ يمكن تعيين الزمان الذي وضعت فيه بوجه تقريبي.
وفي تفسير الغريب والمشكل من القرآن بالشعر، وقول علماء التفسير إن اللفظة من ألفاظ قبائل أخرى غير قرشية، وفي استفهام رجال قريش، وفي جملتهم رجال كانوا من أقرب الناس إلى الرسول، مثل "أبي بكر" و"عمر" عن ألفاظ وردت في القرآن لم يعرفوا معناها، مثل "أبّا"1، وفي رجوع "ابن عباس" إلى الأعراب، يسألهم عن ألفاظ وردت في القرآن أشكل عليه فهم معناها، وفي اعتماده في تفسيره للقرآن على الشعر، أقول في كل هذا وأمثاله دلالة واضحة على أن القرآن لم ينزل بلسان قريش، وإنما نزل بلسان العرب، ولو كان قد نزل بلغة قريش، كان استشهاد العلماء بالشعر وبلغات العرب في تفسير القرآن شيئًا عبثًا زائدًا، وكان عليهم تفسيره وتبيين معناه وتوضيحه بالاستشهاد بلغة قريش وحدها، لا بالشعر الجاهلي الذي هو شعر العرب، وبكلام العرب.
ولو رجعنا إلى كتب التفسير والسير، نجد أنها قد فسرت الغامض من ألفاظ القرآن بالشعر. فقد استعان قدماء المفسرين في تفسير لفظة "سجى" بالشعر، فأورد "الطبري" مثلًا بيتًا من شعر "أعشى بني ثعلبة" في تفسيرها معناها، هو قوله:
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم ... وبحرك ساج ما يوارى الدعامصا
وبقول أحد الرجاز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج2
واستعان "ابن هشام" ببيت شعر لأمية بن الصلت، في تفسيرها، وهو قوله:
إذ أتى موهنًا وقد نام صحبي ... وسجا الليل بالظلام البهيم3
__________
1 {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} سورة عبس، الآية31، الإتقان "2/ 4".
2 تفسير الطبري "30/ 145".
3 سيرة "1/ 161"، "حاشية على الروض".(16/299)
وفسّر "الطبري" "عائلًا" بقول الشاعر:
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل1
ونجد في تفسير الطبري، وفي كتب التفسير الأخرى أمثلة لا تعد ولا تحصى من هذا القبيل، فسر فيها العلماء غريب ألفاظ القرآن وما صعب فهمه من الألفاظ بالشعر، حتى لا تكاد تقرأ صفحة أو جملة صفحات من كتب التفسير، إلا وتجد فيها شعرًا، استشهد به في تفسير كلمة أشكل فهمها على العلماء، فاستعانوا بالشعر لتوضيح معناها2.
ولم يقف الاستشهاد بالشعر الجاهلي على الناحية المذكورة وحدها، بل استعين به في تفسير وتعليل أمور أخرى وردت في القرآن أشكل فهمها على العلماء، من ذلك أوجه العربية وقواعد النحو، فلما استقرى علماء العربية الشعر الجاهلي ولغات العرب، واستنبطوا منها القواعد، وجدوا أن بعضها لا يتماشى مع ما جاء في كتاب الله، فعمدوا إلى التأويل والبحث عن مخرج يوجهون ما جاء فيه وفق قواعد النحو التي قرروها، ولا سيما المواضع التي اختلف علماء النحو فيها، وجاءوا فيها بآراء مختلفة، في التوفيق بين القراءات في القرآن مثلًا، أو في الأمور المعضلة منه بالشعر، فقد اختلف قراء مكة، وقراء البصرة، والكوفة والشأم في الآية: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} 3. وأورد "الطبري" آراء علماء اللغة والنحو، ثم استشهد بقول طرفة بن العبد:
ألا أيها الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي4
وأورد "الطبري" بيتين من الشعر للنابغة في تأويل الآية: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} ، اختلف
__________
1 تفسير الطبري "30/ 149".
2 أورد "الطبري" آراء المفسرين المختلفة في تفسير لفظة: "عضين"، وللتوكيد على المعنى جاء بالشعر في تفسيرها، راجع تفسيره "14/ 45"، "بولاق".
3 سورة البلد، رقم90، الآية11 وما بعدها.
4 تفسير الطبري "30/ 130"، بولاق.(16/300)
في تأويلها علماء النحو1. وأورد بيتًا شاهدًا على جواز وضع "افعل" في موضع "فعيل" الوارد في تفسير كلمة واردة في سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} 2. وهناك مواضع كثيرة اختلف علماء النحو في تأويلها بالنسبة لمذاهبهم في أوجه النحو، فاستشهد كل عالم منهم بشاهد من الشعر، لتأييد رأيه في صحة ما ذهب إليه على زعمه، وقلما استشهد المفسرون والعلماء بشعر من شعراء قريش، أو بكلام من كلامهم، في تفسير القرآن، فلو كان كتاب الله قد نزل بلغتهم لكان من اللازم، إيجاد مخارجه بالاستشهاد بلغة قريش، لا بالشعر الجاهلي وبكلام القبائل الأخرى.
وأنا لا أبتعد عن الصواب، إذا ما قلت: إن القرآن قد ساعد في جمع الشعر الجاهلي وفي حفظه، بسبب اضطرار العلماء على الاستعانة به، في دراسة كتاب الله وفهمه، وفي تثبيت قواعد اللغة التي وضعت لتحصين العربية، وجعلها في متناول يد مَن لا علم له بها، يستعين بها على النطق بها، وفقًا لمنطق العرب، وربما حمل ذلك البعض على انتحال الشعر للاستشهاد به في إيجاد مخرج في تأويل آية أو تفسير كلمة وردت في كتاب الله.
إذن فقول من يقول: إن لغة قريش هي العربية الفصحى، وأنها لغة الأدب عند الجاهليين، قول بعيد عن الصواب، ولا يمكن أن يأخذ به من له أي إلمام بتأريخ الجاهلية ووقوف على نصوص الجاهليين، أخذ من روايات آحاد، وجدت لها انتشارًا في الكتب القديمة بنقلها بعضها عن بعض من غير نص على اسم السند والمرجع، فصارت وكأنها أخبار متواترة صحيحة أضاف المحدثون عليها عامل النفوذ السياسي والاقتصادي، والديني، لإكساء الفكرة القديمة ثوبًا جديدًا يناسب العصر الحديث، لتأخذ شكلًا مقبولًا.
أما لو سألتني عن لغة القرآن الكريم، فأقول: إن القرآن قد ضبطها وعينها، إذ سماها {لِسَانًا عَرَبِيًّا} ،واللسان العربي هو لسان كل العرب، لا لسان بعض منهم، أو لسان خاصة منهم، هم قريش، ولو كان هذا اللسان، هو لسان قريش لنزل النص عليه في كتاب الله.
__________
1 والليل، الرقم92، الآية "19 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 146"، "بولاق".
2 تفسير الطبري "30/ 145(16/301)
إن قريشًا قوم من مضر في رأي علماء الأنساب، فلسانهم على هذا لسان من ألسنة مضر. وقد ورد "عن ابن مسعود: أنه كان يُستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر"1، وورد عن "الأصمعي" قوله: "جرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم اليمن؟ فقال: لجوارهم مضر"2. فإذا كانت الفصاحة والعربية في مضر، فحري إذن نزول القرآن بلغة مضر، لا بلسان قريش.
لقد تمسك علماء اللغة بقول بعضهم: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصحُ العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قُطان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب"3. كما تمسكوا بقولهم: "كانت قريشٌ أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ من غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ من حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة، وغسان، وإياد، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر
__________
1 المزهر "1/ 211".
2 الفائق "2/ 459".
3 المزهر "1/ 210".(16/302)
لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان، لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها عِلمًا وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب"1. وعلة ذلك "ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل، ولو علم أن أهل المدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، ترك تلقي ما يرد عنها"2.
"وقد شك بعضهم في هذا القول؛ لأن قريشًا كانت تسكن مكة وما حولها وهم من أهل المدر، وقريش تجار، والتجارة تفسد اللغة، وكان هذا مما عيب على اليمن من ناحية لغتهم؛ لأن رسول الله نشأ في بني سعد بن بكر بن هوازن واسترضع فيهم، فتعلم الفصاحة منهم، وأن كثيرًا من غلمان قريش في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، كان يُرسل إلى بني سعد لعلم اللغة والفصاحة، ومن أجل هذا ظنوا أن هذا الرأي موضوع لإعلاء شأن قريش في اللغة؛ لأن رسول الله منهم.
والذي يظهر لي أن سلامة اللغة من دخول الدخيل فيها أمر غير الفصاحة، وأن سلامة اللغة كانت في بني سعد خيرًا مما هي في قريش لأنهم أهل وبر، وأبعد عن التجارة وعن الاختلاط بالناس، وعلى العكس من ذلك قريش فهم أهل مدر، وكثير منهم كان يرحل إلى الشأم ومصر وغيرهما ويتاجر مع أهلها، ويسمع لغتهم، فهم من ناحية سلامة اللغة ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم ممن خالط الأمم الأخرى"3.
__________
1 المزهر "1/ 211 وما بعدها، 343".
2 الخصائص "1/ 405".
3 ضحى الإسلام "2/ 247".(16/303)
فما قالوه من أن الاتصال والاختلاط بالأعاجم، يولد الفساد في اللغة، يتناول قريشًا قبل غيره من العرب نظرًا لما كان لهم في الجاهلية من اتصال ببلاد الشأم واليمن، وبالعراق وبالحبشة، ولوجود جاليات أعجمية، وعدد كبير من الرقيق بينهم، وما وجود المعربات في لغتهم إلا حجة على تأثر لسانهم بالأعاجم وأخذهم منهم، فهل يمكن أن يكون لسان قريش إذن أصفى ألسنة العرب وأنقاها مع وجود هذه الأمور التي أخذناها من ألسنة أهل الأخبار؟(16/304)
الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي
مدخل
...
الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي
والآن فلسان من، هو هذا اللسان العربي، لقد علمنا أنه لم يكن لسان العرب الجنوبيين، ولا لسان قوم ثمود أو اللحيانيين، أو الصفويين؛ لأن نصوصهم تثبت أنه قد كان لهم لسان آخر، يختلف عن هذا اللسان. وذكرنا أنه ليس بلسان قريش، وإنما قريش كغيرهم عرب من العرب، فهل هو لسان العدنانيين؟ وجوابنا: كلا، فقد علمنا أن العدنانية عصبية ظهرت في الإسلام، وأنها مضرية سميت عدنانية، وقلنا: إن الثقات من الرواة وقفوا في ذكر النسب عند "عدنان" ورووا أن النبي نهى عن الانتساس إلى ما بعده، وقلنا: إن اسمه لم يرد في شعر شاعر جاهلي، خلا ما نسب إلى الشاعر "العباس بن مرداس"، من قوله:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بمذحج حتى طردوا كل مطرد1
وما نسب إلى لبيد، وهو من المخضرمين، من قوله:
فإن لم تجد من دون عدنان والدًا2
وقلنا أشياء أخرى تثبت، "العدنانية" لم تظهر إلا في الإسلام، وأن اسم
__________
1 وفي رواية بغسان، مكان "بمذحج"، ابن هشام "1/ 6"، ابن سلام، طبقات "5".
2 طبقات ابن سلام "5".(16/305)
"عدنان" لم يكن معروفًا في الجاهلية، وربما ظهر قبيل الإسلام، ولهذا فلا يعقل أن تكون العربية، عربية العدنانيين.
إذن، فهل هي عربية مضر؟ فقد ورد في الأخبار أن "عمر بن الخطاب"، "لما أراد أن يكتب الإمام، أقعد له نفرًا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر"1، ونجد أهل الأخبار يذكرون أنه قال: "لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش، أو غلمان ثقيف"2. وليس بين الخبرين تناقض، لأن قريشًا من مضر، فيمكن حمل الخبرين على أنهما قصدا شيئًا واحدًا، هو أن القرآن نزل بلسان قريش، وقريش من مضر، ولكن مضر قبائل عديدة، سبق أن تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، فيجب أن يكون نزول القرآن إذن بلغات هذه القبائل على هذا التفسير، وتكون العربية الفصحى إذن عربية "مضر"، أي: عربية القبائل التي يرجع أهل الأخبار نسبها إلى "مضر"، أو حلف مضر بتعبير علمي أصح، وليست عربية جماعة معينة منها، مثل قريش.
ولكن أهل الأنساب، يجعلون لمضر أخًا هو "ربيعة"، وأخوين آخرين، هما "إياد" و"أنمار" على رأي من جعل "أنمارًا" ابنًا من أبناء نزار، فما هو حال لسانهم؟ هل يعد لسانهم لسان مضر، أم كانت لهم ألسنة أخرى؟ أما النصوص الجاهلية، فلا جواب فيها على هذا السؤال؛ لأنها لا تعرف عن لسان هؤلاء الأخوة شيئًا، ولم يرد فيها أي شيء من أسمائهم وأسماء قبائلهم، ثم إن هذه القبائل لم تترك لنا كتابة نستنبط منها شيئًا عنهم، إذن فنحن لا نستطيع أن نتحدث عنهم ولا عن لسانهم بأي شيء يستند إلى دليل جاهلي مكتوب. وأما الموارد الإسلامية، فتجعل لسانهم لسان مضر، وكيف لا تجعل لسانهم مثل لسان مضر، وهم أخوة من أب واحد. فإذا قلنا: إن لسان مضر، هو اللسان العربي الفصيح، وجب علينا القول بأن لسان إخوته كان مثل لسانه، وإذن فاللسان العربي الفصيح، هو لسان هذه المجموعة المكونة من ولد "نزار" وهي من ولد إسماعيل في النهاية على رأي أهل النسب والأخبار.
__________
1 ابن كثير، فضائل القرآن "20".
2 ابن كثير، فضائل "20"، المزهر "1/ 211".(16/306)
إذن فنحن أمام مجموعتين من العربيات، مجموعة تكوِّن العربية الجنوبية، ومجموعة تكوِّن العربية الشمالية، وهي عربية الإسماعيليين، وذلك على مذهب أهل الأخبار.
أما أنا، فأسمي هذه العربية، عربية "ال"، من سمة "ال" أداة التعريف التي تنفرد وتتميز بها عن بقية المجموعات اللغوية العربية: مجموعة "ن" "أن"، أي: المجموعة العربية الجنوبية، ومجموعة "هـ" "ها"، أي: المجموعة التي تعرِّف الأشياء بهذه الأداة: "هـ" "ها"، وتشمل اللحيانية، والثمودية، والصفوية.
فكل منا استعمل "ال" أداة للتعريف، هو في نظري من الناطقين بهذه اللغة مهما كان نسبه وفي أي مكان كانت إقامته، ولذلك فالعربية الفصحى هي عربية مضر وعربية ربيعة، وعربية إياد وعربية أنمار وعربية كلب وكندة والأزد وكل المستعملين لهذه الأداة، حتى يظهر المستقبل نصوصًا جديدة، قد تأتي بأداة أخرى لتكوّن مجموعة جديدة من المجموعات اللغوية.
نعم إن عربية "ال" لهجات، لها خصائص ومميزات، تحدث عن بعضها في فصل "لغات العرب"، ولكن الفروق بينها لا تختلف عن الفروق التي نجدها بين لهجات مجموعة "ن"، أو بين لهجات مجموعة "هـ"، لأنها فروق ليست كبيرة بحيث ترتفع إلى مستوى الاستقلال عن بقية اللهجات.(16/307)
العربية الشمالية والعربية الجنوبية:
وقد اصطلح المستشرقون على رجع اللغات التي ظهرت في جزيرة العرب إلى أصلين: أصل شمالي يقال للغات التي تعود إليه: اللغات أو اللغة العربية الشمالية، وأصل جنوبي يقال للغات التي ترجع إليه: اللغات أو اللغة العربية الجنوبية1.
وهذا التقسيم التقليدي للهجات العرب إنما خطر ببال المستشرقين من النظرية العربية الإسلامية التي ترجع العرب إلى أصلين: أصل عدناني، وأصل قحطاني.
ونظرًا إلى عثورهم على كتابات عربية جنوبية تختلف في لغتها وفي خطها عن العربية القرآنية، رسخ في أذهانهم هذا التقسيم، وقسموا لغات العرب إلى مجموعتين لسهولة البحث حين النظر في اللغات واللهجات.
__________
1 Ignace Goldzlher, History of Classical Arabic Literature, P. 2(16/307)
وبين العربيتين تباين واختلاف، ما في ذلك من شك. من ذلك أن الفعل في العربيات الجنوبية وليد المصدر، وأن أداة التعريف فيها تكون في أواخر الكلم، لا في أوائلها كما هو الحال في عربيتنا، وأن حرف "الميم" هو أداة التنكير في العربيات الجنوبية، إلى فروق أخرى، تحدثت عنها في الجزء السابع من كتابي القديم "تأريخ العرب في الإسلام".
وإذا كنا لا نزال في جهل عن حقيقة اسم "عدنان"، الذي لم نعثر عليه حتى اليوم في نص من نصوص المسند، فإن في وسعنا التحدث عن "قحطان"، الذي سبق أن أشرت إلى أن أهل الأنساب أخذوه من التوراة. فهو اسم مهما قيل فيه، فقد أخذ من مصدر قديم يعود إلى ما قبل الميلاد. ثم أنه أورد في النص العربي الجنوبي الذي وسم بـ "Jamme 635"، الذي دونه قائد الجيش "أبكرب أحرس بن أبلم"، "أبكرب أحرس بن أبل"، أو "أبكرب أحرس" من "آل أبل" "آل أبال"، وذلك لمناسبة عودته سالمًا من حرب قادها بأمر ملكه وسيده الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، ابن الملك "علهان نهفان" ملك سبأ وذو ريدان. وقد شمل القتال أرضًا واسعة، هي "أشعران"، أرض الأشعريين و"بحر"، والقبائل القاطنة حول مدينة "نجران"، ثم الأحباش الذين كانوا يحاربون معهم ويؤازرونهم في قتالهم ضد السبئيين، ثم سكان مدينة "قريتم" "قرية" الذين كانوا من "كاهل" "كهلم"، ثم في الصدامين اللذين وقعا مع "ربعت" "ربيعة" "ذ آل ثور"، "ربيعة" من "آل ثور"، ملك "كدت" "كندة" وقحطان "قحطن"، وكذلك ضد "أبعل" أي: سادة مدينة "قريتم"1.
ويفهم من النص أن "ربعت ذ الثورم"، هو اسم رجل، اسمه "ربيعة" من "آل ثور". وكان كما يقول النص ملكًا على "كندة" و"قحطان"2.
ويذكر أهل الأخبار، أن "كندة" اسم قبيلة وأبو حي من اليمن، وهم من نسل "ثور بن مرة بن أدد بن زيد"، وقيل: "بنو مرتع بن ثور"، أو
__________
1 الأسطر 22-29 من النص.
2 السطر 26-27 من النص، "ربعت ذا الثورم ملك كدت وقحطن"، REP. EPIG. 4304(16/308)
"كندة بن ثور"، وقيل: إن ثورًا هو مرتع، وكندة هو أبوه، إلى غير ذلك من آراء1، تريك أن شيئًا من الواقع كان عند أهل الأخبار عن هذه القبيلة، غير أنهم لم يكونوا يعرفون شيئًا واضحًا عنه. وترى من هذا النص أن "آل ثور" اسم أسرة كانت تحكم قبيلتي "كدت" "كندة" و"قحطان"، وأن رئيسها إذ ذاك هو "ربيعة" الذي لم يرد اسم والده. وقد جعل أهل الأخبار من "آل ثور" رجلًا جعلوه أبًا لقبيلة كندة، ثم حاروا في نسبه. ويتبين من هذا النص أن "قحطان" كانوا في هذا العهد تحت حكم "ربيعة" الذي هو من "آل ثور".
وقد جعل "جامة" حكم "شعر أوتر" الذي سبق أن تحدثت عنه بتفصيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب2 في حوالي السنة "65" قبل الميلاد3، وقد بنيت آراء بقية الباحثين في وقت حكمه، فنكون بذلك قد وقفنا على اسم قحطان وكندة في نص يعود عهده إلى حوالي القرن الأول قبل الميلاد. وقد كانتا مثل أهل "قرية" وأهل "نجران" في حرب مع السبئين. وهذا النص هو أقدم نص عربي جنوبي وصل فيه اسم "قحطان" و"كدت" "كندة" إلينا حتى الآن.
ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن لهجة "قحطان" و"كدت" "كندة"، وذلك بسبب عدم وصول كتابات منهما إلينا، ولكننا لا نستبعد احتمال كون لغتهما من مجموعة اللغات العربية الجنوبية؛ لأن مواطنهما كانت في العربية الجنوبية في هذا العهد، أما بطون "كندة" التي نزلت "نجدًا" والتي ذهب بعضها إلى العراق، فنحن لا ندري إذا كانت لهجتهما قد تغيرت، فصارت عربية شمالية، بدليل نظم "امرئ القيس" الكندري وبقية شعراء الكندة الشعر بهذه العربية، أم أنها كانت تتكلم بالعربيتين، إلا أن شعراءها كانوا ينظمون الشعر بالعربية المعهودة مجاراة للقبائل الشمالية التي كانت تجاورها والتي احتكت بها، وقد تكون هذه البطون قد هاجرت من العربية الجنوبية قبل الميلاد، فأقامت بنجد، وتعربت من ثم بالعربية الشمالية، وقد تكون "كدت" قبيلة عربية جنوبية غير "كندة"،
__________
1 تاج العروس "2/ 487"، "كند".
2 "ص369 وما بعدها".
3 JAMME, Sabaean Inscriptions from Mahram Bilgts, P. 391(16/309)
بقيت في اليمن إلى الإسلام، إذ ورد اسمها في نص "أبرهة" أيضًا، ونظرًا إلى التشابه فيما بين "كدت" "كدة" و"كندة" ربط النسابون بين الاثنين، وجعلوا نسب كندة "كدت". فتكون "كندة" بذلك من القبائل العربية الشمالية، و"كدت" من القبائل العربية الجنوبية، أقول هذه الآراء على سبيل الاحتمالات لأني من الأشخاص الذين يكرهون البت في الأمور العلمية لمجرد حدث أو ظن، ومن غير دليل علمي مقنع. والبت في مثل هذه الأمور لا يكون مقبولًا عندي إلا إذا استند على نص جاهلي، أو بدليل معقول مقبول، وحيث إننا لا نملكه الآن، فأترك هذه الاحتمالات إلى المستقبل علّه يتمكن من العثور على نصوص جاهلية تكشف القناع عنها، تأتي إلينا بالجواب الواضح الصحيح.
ولكننا نجد في الوقت نفسه -وكما سبق أن ذكرت- أن هنالك لهجات عربية مثل الثمودية والصفوية، تستعمل "الهاء" أداة تعريف بدلًا من الألف واللام في عربيتنا، فيقال: "هملك"، و"هدار" بمعنى "الملك" و"الدار". وذلك كما في العبرانية، إذ تستعمل الهاء فيها أداة للتعريف، ويقوم "ذ" فيها مقام الاسم الموصول كما عند طيء في قديم الزمان، إلى خصائص أخرى تجعلها مجموعة أخرى لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية شمالية.
كما تبين من دراسة بعض الكتابات الجاهلية، مثل الكتابات التي عثر عليها في "القرية" وفي جبل "عبيد"، وفي شمال خشم كمدة أن لها خصائص انفردت بها عن المجموعتين، وقد وردت فيها أسماء كثيرة لم ترد في الكتابات العربية الجنوبية وفي عربية "هـ"، مما يجعلها أهلًا لأن تكون موضع دراسة خاصة في المستقبل، لعلها تكون مجموعة لغوية جديدة قائمة بذاتها، أو حلقة مفقودة بين اللغات الجاهلية المندثرة.
ووجود مثل هذا التباين الذي اكتشف من الكتابات، هو الذي دفعني إلى التفكير في إعادة النظر في تقسيم اللغات العربية إلى مجموعتين، وعلى التفكير بتقسيمها إلى مجموعات ذات خصائص لغوية متشابهة، تستنبط بالدرجة الأولى من أداة التعريف التي هي المميز الوحيد الذي يميز بين لهجات الجاهليين.
ونلاحظ أن عربية الـ"ن" "ان" مصطلحات غير موجودة في العربية الفصيحة لكنها موجودة في العبرانية. وفيها عدد غير قليل من الكلمات المجهولة في اللغات(16/310)
السامية الأخرى، صعب على العلماء إدراكها بسبب ذلك، فاكتفوا باستخلاص معناها من وضعها في الجمل، وذلك بصورة تقريبية1. كما نلاحظ أن الأسماء فيها، تختلف عن الأسماء المعروفة عند العرب الشماليين، وأن الأسماء الواردة في كتابات المسند المتأخرة، تختلف بعض الاختلاف عن الأسماء الواردة في النصوص القديمة، فقد تغلبت البساطة على الأسماء المتأخرة، حتى صارت تشاكل أسماء العرب الشماليين المألوفة عند ظهور الإسلام. وقد لاحظ "الهمداني" هذه الظاهرة، فعبر عنها بقوله: "فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم وهو هو2.
وخير ما يمكن أن نفعله في نظري لمعرفة المتكلمين بالعربية الفصحى، هو أن نقوم بالبحث عن الخصائص النحوية والصرفية واللفظية التي تميزها عن بقية العربيات، فإذا ضبطناها استطعنا تعيين من كان يتكلم بها. ولما كنّا لا نملك نصوصًا جاهلية مدوّنة بها، صار من الصعب علينا التوصل إلى نتائج علمية إيجابية مرضية، تحدد القبائل والأماكن التي تكلمت بها تحديدًا صحيحًا مضبوطًا، غير أن المثل العربي يقول: ما لا يدرك كله لا يترك جله، فإذا عسر علينا الحصول على نتائج كلية مقنعة، فلا بأس من الرضا بالحصول على جزء أو بعض من نتائج قد تقدم لنا معرفة وعلما. ونحن إذا سرنا وفق حكمة هذا المثل، ودرسنا خصائص هذه العربية، نجد أن من أولى ميزاتها استعمالها "ال" أداة للتعريف، تدخلها على أول الأسماء النكرة، فتحيلها إلى أسماء معرفة، بينما نجد العربيات الأخرى التي عثر على نصوص جاهلية مدوّنة بها تستعمل أدوات تعريف أخرى. ولما كنّا نعرف المواضع التي عثر فيها على هذه النصوص، صار في إمكاننا حصرها، وبذلك نستطيع التكهن عن المواضع التي كان يتكلم أهلها بالعربية التي تستعمل "ال" أداة للتعريف، أي: هذه العربية الفصحى. ولما كانت العربية الجنوبية قد استعملت الـ "ن" "ان" أداة للتعريف، تلحقها في أواخر الأسماء المنكرة، وحيث أننا لم نتمكن حتى الآن من الحصول على نص في هذه الأرضين استعمل "ال" أداة للتعريف فباستطاعتنا القول: إن سكانها لم يدوّنوا بالعربية القرآنية،
__________
1 ولفنسون، السامية "246 وما بعدها".
2 الإكليل "1/ 13".(16/311)
بل كان تدوينهم وكلامهم بالعربية الجنوبية التي كانت تضم جملة لهجات. ولما كان آخر نص عثر عليه مدوّن بالمسند، يعود تأريخه إلى سنة "554" للميلاد1، صار في إمكاننا القول بأن العربية الجنوبية كانت وبقيت لسانًا للعرب الجنوبيين إلى ظهور الإسلام.
ونظرًا لعثور الباحثين على كتابات مدوّنة بالمسند، في "القرية" أو "قرية الفأو" وفي مواضع أخرى من "وادي الفأو"، وفي مواضع من "وادي الدواسر"، وفي مواضع تقع جنوبي خشم العرض، فإن في استطاعتنا القول إن أهل هذه الأرين كانوا يكتبون بالمسند2، ويتكلمون بلغات عربية جنوبية، اختلفت بعض الاختلاف عن العربيات الجنوبية المستعملة في العربية الجنوبية. فهي إذن من المناطق التي لم يتكلم أهلها بالعربية القرآنية. ونظرًا لما نجده من وجود بعض الاختلاف بين عربية هذه المنطقة وعربية العربية الجنوبية، فإننا نستطيع القول بأنها تكون مرحلة وسطى بين العربيات الجنوبية والعربية القرآنية، وحيث أن كثيرًا من هذه الكتابات لم يكتب لها النشر، ولوجود كتابات أخرى لم يتمكن الباحثون من نقشها أو تصويرها، فمن المحتمل في رأيي مجيء يوم قد يعثر فيه على لهجات جديدة، قد تزيح الستار عن أسرار اللغات عند الجاهليين، وقد تكون مجموعات لغوية جديدة من مجموعات اللغات العربية عند أهل الجاهلية.
وقد عثر في العربية الشرقية على كتابات جاهلية مدوّنة بالمسند هي وإن كانت قليلة، إلا أنها ذات أهمية كبيرة بالنسبة للباحث في تأريخ تطور الكتابة عند العرب، وللباحث في اللهجات العربية الجاهلية. فقد ثبت منها أن أصحاب هذه الكتابات كانوا يتكلمون بلهجات غير بعيدة عن اللهجة العربية القرآنية، وإن كتبوا بالمسند. ويلاحظ من النص الذي هو شاهد قبر رجل اسمه "إيليا بن عين بن شصر" أنه استعمل لفظة "ذ" بمعنى "من" ونأسف لأن هذه النصوص القليلة قصيرة، وفي أمور شخصية قد خلت من أداة التعريف؛ لذلك لا نستطيع تثبيت لهجتها بصورة أكيدة3.
__________
1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 22".
2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 195 وما بعدها".
3 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 193 وما بعدها".(16/312)
واستنادًا إلى النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، التي استعملت الـ"هـ" "ها" أداة للتعريف، نستطيع أن نقول: إن أصحاب هذه اللهجات يكوّنون مجموعة من اللغات قائمة بذاتها، تختلف عن العربية الجنوبية وعن العربية القرآنية.
وهي تشارك العبرانية في استعمال الأداة المذكورة في التعريف، ولكنها تقارب عربية "ال" في استعمال المفردات.
وأما النبط، وهم عرب من العرب الشماليين، فقد استعملوا أداتين للتعريف، أداة هي حرف الألف الممدود اللاحق بآخر الاسم، مثل "ملكا" بمعنى "الملك"، و"مسجدا"، بمعنى "المسجد"، وأداة أخرى، هي أداة "ال" التي نستعملها في عربيتنا. وفي استعمال النبط لأداتين للتعريف، دلالة على تأثرهم بالآراميين وبالعرب المتكلمين باللغة العربية القرآنية، أو العرب المستعملين لأداة التعريف "ال" بتعبير أصح. والنبطية نفسها، لغة وسط، جمعت بين الآرامية والعربية، فبينما نجدها تستعمل الآرامية، إذا بها تخلط معها ألفاظًا وتراكيب عربية فصيحة. وذلك بسبب اختلاط النبط بالآراميين وتأثرهم بثقافتهم، واحتكاكهم بالأعراب، وكونهم عربًا في الأصل1. ومعنى هذا أن العرب الذين كانوا يجاورون النبط، وهم عرب البوادي كانوا من المتكلمين بأداة التعريف "ال"، سمة العربية الفصيحة.
وأما النصوص المدونة بنبطية مشوبة بمصطلحات عربية، وأهمها نص "حرّان" الذي يعود تأريخه إلى سنة "328" للميلاد، فإنه يفصح عن قوم عرب أو نبط لاستعمالهم "ال" أداة للتعريف في الألفاظ: "التج" بمعنى "التاج"، وفي "الأسدين"، بمعنى "أسد"، وفي "الشعوب". وأرجح كونهم عربًا، لاستعمالهم جملًا عربية فصيحة بينة في هذا النص، مثل: "ملك العرب"، و"مدينة شمر"، و"نزل بنيه الشعوب"، و"فلم يبلغ ملك مبلغه"، فهذه جمل عربية، أصحابها عرب، وإن كتبوا بالنبطية، وقد تفصح عن عربية أهل الحيرة في ذلك الوقت؛ لأن الملك المتوفى، وهو "امرؤ القيس"، هو من ملوك الحيرة، والنص المكتوب، هو شاخص قبره، فمن المعقول تصور أن الكتابة كتبت بلغة أهل الحيرة في ذلك العهد2.
__________
1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 305 وما بعدها".
2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 273 وما بعدها".(16/313)
ويظهر من استعمال كتابة "زبد" التي يعود عهدها إلى سنة "512" للميلاد، لجملة "بسم الإلَه"، أن صاحبها وأن كتب بالنبطية، غير أنه كان من النبط المستعملين لـ"ال" أداة للتعريف. وأما الكتابة المعروفة بكتابة "حران"، فإنها أقرب هذه النصوص إلى العربية القرآنية. كما يتبين ذلك من نصها العربي، وهو: أنا شرحيل بر ظلمو، بنيت ذا المرطول سنت 463، بعد مفسد خيبر بعم.
أي: "أنا شرحيل" "شراحيل" بن ظالم، بنيت هذا المرطول سنة 463، بعد خراب "غزو" خيبر بعام. ويقابل تأريخ هذا النص سنة "568" للميلاد1.
وعربية هذا النص، عربية واضحة، ليس فيها ما يحاسب عليه بالقياس إلى عربيتنا، إلا جملة "بر ظلموا" المكتوبة على وفق القواعد النبطية. ويلاحظ أنها استعملت "ال" أداة للتعريف، ولاحظت قواعد النحو في جملة: "بنيت ذا المرطول" المستعملة في عربيتنا، مما يدل على أن صاحبها كان يراعي الإعراب في لسانه. وأنه من قوم كانوا يراعون قواعد الإعراب في كلامهم.
إذن فنحن أمام قوم عرب، نبط، لسانهم العربي من مجموعة "ال"، أي: من العربية المستخدمة لـ"ال" أداة للتعريف، منازلهم أطراف بلاد الشأم، وشواطئ الفرات العربية. وإذا تذكرنا أن السريان كانوا على الحيرة "حبرتا دي طياية"، وأنهم كانوا يطلقون لفظة "طياية" في مرادف "عرب"، عرفنا إذن، أن أهلها كانوا من العرب2، ولما كان نص "النمارة" قد كتب بنبطية متأثرة بعربية "ال"، نستطيع أن نقول: إن عرب الحيرة كانوا من المتكلمين بهذه العربية.
يتبين لنا مما تقدم، أن العرب الذين كانوا يقطنون الحيرة والأنبار، أو عرب العراق بتعبير أصح، ثم عرب بلاد الشام، وعرب البوادي، وجزيرة العرب باستثناء المواضع التي أمدتنا بالكتابات، كانوا يتكلمون بعربية "ال" أي: العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودوّن بها الشعر الجاهلي. وهي عربية أساسية، جمعت شمل لغات ولهجات، على نحو ما وجدنا في العربية الجنوبية من اشتمالها على جملة لهجات، وما وجدناه في اللهجة العربية الشمالية الغربية، المستعملة لـ"هـ" "ها" أداة للتعريف.
__________
1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 280".
2 المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 156".(16/314)
فأهل نجد وبادية الشأم، وعرب العراق وبلاد الشأم والحجاز، كانوا هم المتكلمين بهذه العربية التي تعرّف النكرة بأداة التعريف "ال"، وذلك قبل الإسلام، أما المواطن الأخرى، فلها لهجاتها الخاصة، وبينها لهجات تأثرت بخصائص مجموعة "ال". وقد غلب الإسلام هذه العربية على اللهجات الأخرى، فصارت الأكثرية تتكلم بها، إلا في المواضع المنعزلة، التي بقيت شبه مستقلة، حيث احتفظت ببعض خصائص لهجاتها القديمة، كالذي نراه اليوم في مهرة وفي الشحر وفي مواضع أخرى من العربية الجنوبية التي تتكلم بلهجات لا نفهمها عنهم هي من بقايا اللهجات الجاهلية.
وللوقوف على خصائص اللهجات المكونة لعربية الـ"ن" "ان"، أرى أن من الضروري وجوب إرسال بعثات علمية إلى العربية الجنوبية لدراسة اللهجات المحلية، وهي عديدة وتسجيلها على الأشرطة من أفواه المتكلمين بها، ولدراسة قواعدها النحوية والصرفية وأصول نظم الشعر عند المتكلمين بها، وتفيدنا دراسة نظم الشعر خاصة عند العرب الجنوبيين الحاليين فائدة كبيرة في الوقوف على أسس نظم الشعر عندهم أيام الجاهلية، وعلى الفروق الكائنة بين نظمهم قبل الإسلام، ونظم بقية العرب الجاهليين. ولا بد أيضًا من مقارنة نظمهم في الوقت الحاضر، بنظم الأعراب في المملكة العربية السعودية، للوقوف على الفروق بين النظمين، وستكون هذه الفروق هاديًا لنا في الوقوف على الفروق التي كانت بين النظم عند شعراء الجاهلية في بلاد الشام والعراق ونجد والبحرين واليمامة والحجاب والعربية الجنوبية.
وسوف تساعدنا دراسة لهجات المملكة الأردنية الهاشمية، المملكة التي كانت تعرف بـ"ادوم" في التأريخ، وكذلك لهجات أعالي الحجاز في الوقت الحاضر، فائدة كبيرة في الوقوف على خصائص لهجة عربية الـ"هـ" "ها"، وفي استنباط قواعدها منها. فلا بد وأن تكون في اللهجة "البلقاوية"1، وفي اللهجات المحلية الأخرى بقايا من تلك اللغة، مندمجة مع عربية "ال" التي تغلبت على لسانهم منذ الفتح الإسلامي الذي بدأ لتلك البلاد عام "633" للميلاد2. ولا بد من دراسة
__________
1 نسبة إلى البلقاء.
2 Andrzej Czapkiewicz, Sprachproben Aus Madaba, Polska Akademia Nauk, Krakow, 1960.(16/315)
أصول نظمهم في لغاتهم الدارجة هذه للاهتداء بها على أصول النظم عندهم قبل الإسلام، وعلى المؤثرات التي أثرت على نظمهم وما يمتاز به عن أصول النظم عند بقية العرب في الوقت الحاضر أيضًا.
ولما كنا لا نملك نصوصًا جاهلية بعربية "ال" غير ما ذكرته من النصوص النبطية المشوبة بعربية "ال". ولما كانت هذه العربية ذات لهجات ولغات، عرفت أسماؤها وضبطت في الإسلام، وبينها فروق ومميزات، كما بينت ذلك في الملاحظات البسيطة السطحية التي جمعها عنها علماء العربية، ولما كنا لا نملك عن هذه اللهجات غير تلك الملاحظات التي أوجزتها في فصل: لغات العرب، فإن من اللازم ضم دراسة ما سيقوم به علماؤنا في المستقبل عن اللهجات الحالية في مختلف أنحاء جزيرة العرب إلى دراسة العلماء المتقدمين، لتكمل إحداهما الأخرى، وستتولد منهما ولا شك دراسة علمية قيمة، تفيدنا في الاهتداء إلى معرفة خصائص اللغات العربية قبل الإسلام.
لقد توصلت من دراسة ملاحظات أولئك العلماء، إلى أن هذه اللهجات لم تكن تختلف في كيفية النطق بالحروف، وفي القواعد الصرفية فقط، لكنها كانت تختلف فيما بينها في القواعد النحوية أيضًا، مثل حذف الياء من الفعل المعتل بها إذا أُكد بنون في لغة طيء وفزارة1، ومثل "ذو" الطائية التي يلازم إعرابها بالواو في كل موضع2، ومثل إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرًّا، في لغة بلحرث، وخثعم، وكنانة3، ومثل "هَلُمَّ" في لغة أهل الحجاز التي تلزم حالة واحدة على اختلاف ما تسند إليه مفردًا أو مثنى أو جمعًا، مذكرًا أو مؤنثًا، وتلزم في كل ذلك الفتح، بينما تتغير بحسب الإسناد في لغة نجد من بني تميم4، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها في فصل: لغات العرب، وهي لو جمعت في مكان واحد ودرست بعناية ودقة، دلت على أن الفروق بين هذه اللهجات في القواعد هي أعمق بكثير مما يظن.
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 142".
2 المصدر نفسه "1/ 144".
3 كذلك "1/ 145".
4 أيضًا "1/ 148".(16/316)
ومع وجود هذه الاختلافات والفروق، كان بإمكان المتكلمين بهذه اللغات الثانوية المتفرعة من المجموعات اللغوية، التفاهم فيما بينهم، كما يتفاهم العراقيون والمصريون وأهل المغرب بعضهم مع بعض مع تكلمهم بألسنة ذات لهجات مختلفة.
فكان في استطاعة أهل نجد التفاهم مع عرب الحيرة، وفي استطاعة أهل مكة التفاهم مع أهل الحيرة، والعكس بالعكس، مع وجود صعوبات بالطبع في فهم النطق باللهجة، وفي إدراك مخارج بعض الحروف واختلاف القبائل في النطق بها، ووجود كلمات غريبة في لغة، قد لا توجد في لغة أخرى. إلا أن هذه الفروق لم تكن شديدة عميقة، بحيث جعلت فهم العرب بعضهم بعضًا أمرًا صعبًا، أو صيرت اللغات وكأنها لغات أعجمية، لا يفهم المتخاطبون بها أحدهم الآخر.
ودليل ذلك أننا نجد الوفود التي وفدت إلى المدينة، لمبايعة الرسول على الإسلام، تكلم الرسول وتتفاهم معه ومع أصحابه، وتخطب أو تنشد الشعر أمامه، وهو يفهمهم، وهم يفهمونه من دون صعوبة ولا كلفة كبيرة، لأن أمر هذه اللغات لم يكن على نحو ما تصوره بعضهم من التباين والاختلاف، والبعد بين الألسنة.
اللهم إلا ما كان من أمر أهل العربية الجنوبية، فقد كانوا يرطنون، بدليل ما جاء في كتاب رسول الله إلى "عياش بن أبي ربيعة المخزومي" حين أرسله برسالة إلى أبناء "عبد كلال" الحميري، فقد قال له فيها: "وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا، فقل: ترجموا" 1. وربما كان منهم من لا يفقه عربية المسلمين، الناطقين بعربية "ال"، فكان يترجم لهم بعض من لهم علم وفقه بالعربيات الجنوبية وبعربية القرآن.
وبدليل ثان، هو أن المسلمين لما حاصروا القصر الأبيض من قصور الحيرة، سمعوا أهل القصر، يصرخون: "عليكم الخزازيف"، "فقال ضرار: تنحوا لا ينالكم الرمي، حتى ننظر في الذي هتفوا به، فلم يلبث أن امتلأ رأسُ القصر من رجال متعلقي المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف، وهي المداحي من الخزف"2، فلم يفهم المسلمون معنى "الخزازيف" في بادئ الأمر لكنهم عرفوا أنهم يعنون شيئًا له صلة بالدفاع عن القصر، ثم عرفوه، بعد نزول سيل من "الخزف" عليهم. وكان أهل "الحيرة" ينطقون بالعربية، فلما قال
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 282"، "بيروت 1957م".
2 الطبري "3/ 360 وما بعدها".(16/317)
"خالد بن الوليد" لأصحاب عدي بن العبادي: "ويحكم! ما أنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الانصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عديّ: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت"1. وقد كانت لهم مدارس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، ومنهم أخذ أهل مكة كتابتهم، كما يذكر ذلك أهل الأخبار. فنحن نجد أن العرب كانوا يتكلمون على مقتضى سجيتهم التي فطروا عليها، ومع ذلك فقد كانوا يتفاهمون ويدركون المعاني، ولو كانوا من قبائل متباعدة، ومن أماكن متنائية. "قال ابن هشام في شرح الشواهد: كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"2.
ولما حاصر "خالد بن الوليد" الأنبار، "تصايح عرب الأنبار يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبار شرٌ"3. ولما اطمأن بالأنبار "وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب. نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا"4. فأهل الأنبار مثل أهل الحيرة عرب، كانوا يتكلمون العربية، وهي عربية فهمها خالد ومن كان معه من رجال قبائل، ولو كانت عربيتهم عربية قريش، لما سكتوا من النص عليها، لما في ذلك من تقرب إلى قريش. قال الأزهري: "وجعل الله -عزّ وجل- القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، جعل النبي، صلى الله عليه وسلم عربيًّا؛ لأنه من صريح العرب، ولو أن قومًا من الأعراب الذين يسكنون البادية حضروا القرى العربية وغيرها، وتناءوا معهم فيها، سمّوا عربًا ولم يسمّوا
__________
1 الطبري "3/ 361"، "حديث يوم المقر وفم فرات بادقلي".
2 المزهر "1/ 261".
3 الطبري "3/ 374".
4 الطبري "3/ 375".(16/318)
أعرابًا". "والعربية هي هذه اللغة". "والعرب: هذا الجيل"1.
أما لو سألتني رأيي في هذه الخطب التي دوّنها أهل السير والتواريخ والأخبار للوفود التي وفدت على الرسول لمبايعته، أو عن حديث الصحابة معه قبل الهجرة أو بعدها، فأقول لك بكل صراحة، إن هذه النصوص: نصوص كلام الرسول مع الصحابة، ونصوص كلام الصحابة معه، هي نصوص وردت إلينا بأفواه الرواة، كلامها كلامهم، وعباراتها عباراتهم، أما المعاني -أي: المضامين- فهي التي أخذت بالرواية، وفي بعضها زيادات أو نقصان، ظهرت بسبب طبيعة الاعتماد على الذاكرة لا الكتابة والتدوين. فنحن إذن أمام نصوص، لا يمكن أن نقول: إنها أصيلة؛ لأنها لم تؤخذ من محاضر جلسات، ولا من كتّاب كانوا يكتبون كل ما كان يقع ويحدث، وينقلون الكلام نقلًا أمينًا صادقًا، كما ينقل الشريط المسجل للأصوات، أصوات المتكلمين، وإنما رويت بعد الحادث بأمد، قد يكون قصيرًا وقد يكون طويلًا، وبعضها أحاديث شخصية، ليست مهمة، وقد تكون من الموضوعات، ولا غرابة في ذلك فكتب التراجم والحديث والسير، مليئة بتكذيب كثير من هذه الأمور، التي افتعلت، إما من الرواة أنفسهم، وإما من آلهم، وإما عصبية، أو عن مذهب وعقيدة.
__________
1 اللسان "1/ 586 وما بعدها"، "عرب".(16/319)
أفصح العرب:
وموضوع أفصح العرب موضوع لا أرى أنه قد كان لأهل الجاهلية علم به، إذ كان لكل قوم منهم لسان يستعزون به ويتعصبون له، يرون أنه لسانهم العزيز.
ولا يكون فصاحة إلا إذا كان هنالك لسان أدب رفيع، يكوّنه رجال الأدب من ناثرين وشعراء، يكون لسانًا مقررًا محترمًا يتبعه الجميع، تعقده وحدة شاملة وشعور بوجود أواصر دم وتأريخ واحد وثقافة واحدة، وقلم يكتب به، فإذا اجتمعت كل هذه وأمثالها وأضيفت إليها وجود حكومة كبيرة تتخذ ذلك اللسان لسانًا عامًّا لها، ثم تقوم بتشجيع الأدباء والعلماء وتحسن إليهم، صار ذلك اللسان اللسان المحظوظ المأثور المقدم على سائر الألسنة، وصارت اللهجات الأخرى،(16/319)
ألسنة ثانوية بعده، تعدّ دون اللغة المذكورة في الرتبة والمنزلة والفصاحة، كما حدث في الإسلام، حيث اعتبر اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم، لسان الإسلام والمسلمين، لسان الدين والدولة، به تكتب دواوين الدولة، وبه يؤلف العلماء ويكتب الأدباء، وينظم الشعراء، وبموجب قواعده المقررة يتعلم اللسان كيفية الكتابة والنطق، من خالفها أو أخذ بألفاظ خارجة على قواعد نحوها وصرفها عدّ عاميًّا جلفًا من سواد الناس وسوقتهم.
ومدار الفصاحة في نظر علماء العربية كثرة استعمال العرب للكلمة. سئل "أبا عمرو بن العلاء": "كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ فقال: أحملُ على الأكثر، واسمي ما خالفني لغات. فما أكثرت العرب من استعماله من غيره، فهو فصيح. وأما الفصاحة في المفرد: فخلوصه من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس اللغوي. والتنافر ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعُسر النطق بها، مثل "الهعخ" و"مستشزر"1.
والغرابة أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفتها إلى أن ينقر عنها في كتب اللغة، أو أن تكون قليلة الاستعمال، وأضاف بعضهم إلى ما تقدم: ألا تكون الكلمة مبتذلة2. وآراء أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا الكتاب، لعدم وجود مكان في حدوده.
وقد وضعت هذه الحدود في الإسلام، أما ما قبله فلا علم لنا برأي الجاهليين في الفصاحة وفي الفصيح، ولكننا نستطيع بالقياس إلى ما عندنا من كتابات، أن نقول: إن العرب الجنوبيين كانوا يدونون بلهجاتهم المعروفة، وهي: المعينية والسبئية والحضرمية والقتبانية، وفقًا لقواعد لهجاتهم وبألفاظهم، فهي بالنسبة لهم لغاتهم الفصيحة، لغة التدوين والكلام، ولما قضى السبئيون على استقلال حكومات معين وحضرموت وقتبان وأوسان، وتكونت منها حكومة واحدة، ضعفت الخصائص اللغوية التي ميزت لهجات هذه القبائل بعضها عن بعض، واندمجت
__________
1 من قول امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلا
المزهر "1/ 185".
2 المزهر "1/ 184 وما بعدها".(16/320)
بلغة السبئيين التي صارت لغة الحكومة، وصار العرب الجنوبيون يكتبون بها إلى ظهور الإسلام. فهذه اللغة، هي اللغة الفصحى عندهم وقلمها هو المسند.
أما بالنسبة إلى العرب الآخرين، فالظاهر أن عربية "ال"، كانت قد تغلبت عند ظهور الإسلام على العربيات الأخرى، وفي ضمنها عربية الـ"هـ" "ها"، وذلك بقوة وضخامة القبائل المتكلمة بها، وباستعمال حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة وحكومة كندة لها، مما حمل الخطباء والشعراء والكهنة والسحرة على النطق بها، وبلهجاتهم الخاصة بهم، وهي لهجات كانت متقاربة لكنها تختلف فيما بينها في استعمال بعض الألفاظ وفي كيفية النطق بالكلم، أي: في مخارج الحروف، وفي خصائص نحوية وصرفية، إلا أن هذه الفروق والاختلافات لم تخرجها مع ذلك عن وحدة اللغة، وهي كلها في نظر أصحابها عربية فصيحة، وقد كانت تتقارب باحتكاك القبائل بعضها ببعض، وبتوسع نفوذ ملوك الحيرة في جزيرة العرب، وبتنقل الشعراء والخطباء بين القبائل، يدعونهم إلى النصرانية التي كانت قد جاءت من الحيرة، بنصرانية شرقية عربية، متأثرة بالإرمية، لكنها اضطرت إلى التعرب بالتدريج، وبقي الحال على هذا المنوال إلى أن ظهرت كلمة الإسلام بلغة "ال"، فصارت بنزول الوحي بها أفصح ألسنة العرب، وصار قلمها قلم الإسلام المقرر. وبذلك نبذ المسند، وماتت الكتابة به منذ ذلك الحين، ومات التراث العربي الجنوبي بموت لسانه وقلمه.
وبانتصار الإسلام على الشرك، والإسلام دين ودولة، دعوته إلى "أمة"، المواطنون فيها أخوة، وله لسان، هو اللسان الذي نزل به القرآن، صار هذا اللسان أفصح منذ ذلك الحين، بل لسان أهل الجنة، وصار من الواجب على المسلمين تثبيت قواعده ودراسته لفهم كتاب الله المنزل به، خدمة لدين الله الذي شرف هذا اللسان باتخاذه لسانًا له. ورعاية قلمه الذي ثبت كتاب الله، وقام العلماء بضبط قواعده وجمع مفرداته، والبحث في كل ما يتعلق باللسان من علم. قام بهذه المهمة علماء المصرين: البصرة والكوفة، وكان لا بد لهم من رسم حدود، ومن وضع قواعد في كيفية تثبيت العربية، وفيمن يصح أخذ هذه القواعد من ألسنتهم، إلى غير ذلك من أمور اتبعوها في جمع علوم العربية.(16/321)
وحين شُرع بوضع قواعد العربية، كان الإسلام قد حطم حدود جزيرة العرب، وتخطاها، قد غلب الساسانيين، وأبعد الروم عن بلاد الشأم ومصر وما وراءها، وقد جمع العرب بالأعاجم، والعجم بالعرب، وشبك ألسنة الأعاجم بلسان العرب، ولسان العرب بألسنة العجم، واضطر العلماء إلى وضع قواعد فيمن يجب أخذ لسان العرب منهم من العرب، وفيمن لا يجوز الأخذ منهم، بسبب اتصالهم بالعجم، وما طرأ على لسان بعضهم من خبث نتيجة لهذا الاتصال.
فكانت تعاليمهم ألا تؤخذ العربية إلا من عرب بقوا بمعزل عن الأعاجم، فلا "يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام، لمجاورتهم أهل الشأم، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عُمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربية عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علمًا وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب"1.
وذكر أن قريشًا كانوا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، أما الذين نقل عنهم اللسان العربي من "قبائل العرب، هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمة، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"2.
وروي أن أفصح العرب عُليا هوازن، وسفلى تميم3.
وروى "الجاحظ" أن "معاوية" قال يومًا: "من أفصح العرب؟ فقال
__________
1 المزهر "1/ 212".
2 المزهر "1/ 211".
3 المصدر نفسه.(16/322)
قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفُرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس لهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قريش"1.
وقد تحدث "الجاحظ" عن أثر المحيط في تكوين اللغة، فقال: "وكاختلاف ما بين المكّي والمدني، والبدويّ والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال: إن هذيلًا أكراد العرب، وكاختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحُزون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار.
وزعمت أن هؤلاء وإن اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضًا في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص، غير مشوب ولا معلهج ولا مذرّع ولا مزلج. ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان، من قبل ما طبع الله عليه تلك البرية من خصائص الغرائز، وما قسم الله تعالى لأهل كل جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة"2.
فرأى "الجاحظ" أن بين العدنانيين والقحطانيين فروقًا كبيرة في اللغة، غير أن بين كل مجموعة من هاتين المجموعتين فروقًا لغوية، كالذي أورده من أمثلة على الفروق التي تكون بين من ينزل الجبال، أو من ينزل السهول، وبين من ينزل النجود، ومن ينزل الأغوار، ثم الخلافات التي تقع بين بطون القبائل عند تشتتها وتفرقها. ثم تحدث عن لغة عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن، ولغات أهل الحجاز، وهي قبائل تحدث عنها علماء اللغة.
وقد ذكر "الرافعي" أن "الفصاحة اشتهرت في مضر، حتى عُرفت اللغة بالمضرية، ومن أشهر قبائلها كنانة -ومن بطونها قريش- ثم تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وضبّة، ومزينة"3. وقال أيضًا: "وأفصح القبائل الذين
__________
1 الجاحظ "3/ 213".
2 رسائل الجاحظ "1/ 10 وما بعدها"، "مناقب الترك".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 125".(16/323)
هم مادة اللغة فيما نص عليه الرواة: قيس، وتميم، وأسد، والعجز من هوازن الذين يقال لهم: عليا هوازن، وهم خمس قبائل أو أربع، منها سعد بن بكر، وجُشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف. قال أبو عبيدة: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر"، وكان مسترضعًا فيهم، وهم أيضًا الذين يقول فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم"1.
"وتلك القبائل كلها كانت تسكن في بوادي نجد والحجاز وتهامة، وقد بقيت معادن الفصاحة زمنًا بعد الإسلام، وإليها كان يرحل الرواة، حتى إن الكسائي لما خرج إلى البصرة فلقي الخليل بن أحمد، وجلس في حلقته، قال له رجل من الأعراب: تركت أسدًا وتميمًا وعندهما الفصاحة وجئت إلى البصرة! فقال للخليل: من أين أخذت علمك؟ قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة. فخرج إليهم ولم يرجع حتى أنفد خمس عشرة قنينة حبرًا في الكتابة عن العرب.
ولم تزل هوازن وتميم وأسد متميزة بخلوص النية وفصاحة اللغة إلى آخر القرن الرابع للهجرة"2.
وقد ترك الأخذ عن "حاضرة الحجاز" أي: مكة "لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم"3، فلم يأخذوا منهم. وقد قرأنا قبل قليل أسماء القبائل التي أدخلها علماء اللغة في القائمة السوداء المقاطعة التي لم يجوّزوا الأخذ منها، وذلك حين شروعهم بتدوين اللغة أيضًا للسبب المذكور وهو اتصالها بالأعاجم، وتأثر ألسنتها بلغات من اتصلت بهم من عجم.
واللغات في نظر "ابن جني" على اختلافها كلها حجة "ألا ترى أن لغة الحجاز في إعمال ما، ولغة تميم في تركه، كل منهما يقبله القياس، فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها، لأنها ليست أحق بذلك من الأخرى، لكن
__________
1 الرافعي، تاريخ آداب العرب "1/ 127 وما بعدها".
2 المصدر نفسه "1/ 128".
3 المزهر "1/ 212".(16/324)
غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد نسبًا بها، فأما رد إحداهما بالأخرى فلا"1.
أعود الآن فأكرر ما سبق أن قلته من أننا اليوم في حاجة ماسة، إلى وجوب تسجيل كل ما أورده علماء اللغة عن لغات العرب ولهجاتها، فصيحة كانت تلك اللغة أو رديئة، ولا سيما في الأمور التي شذت فيها هذه اللهجات بعضها عن بعض، في الشعر أو في النثر، تسجيل كل الأسماء الجاهلية التي عرف بها العرب قبل الإسلام، مع بيان أسماء الرجال الذين تسمّوا بها وأسماء القبائل التي هم منها، والمواضع التي كانوا بها، لنتعرف بذلك على أصول هذه القبائل، والأماكن التي جاءت منها، والثر الذي تأثرت به من القبائل المجاورة لها، فنحن نعرف اليوم، أن أهل العربية الجنوبية، كانت لهم أسماء وردت في المسند لم تكن شائعة بين العرب الشماليين، وقد كانت خاصة بهم، ثم نعرف اليوم أن الأسماء الواردة في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة المقاربة للإسلام، اختلفت بعض الاختلاف عن الأسماء القديمة المركبة المضافة، مما يدل على وقوع تغير في الذوق اللغوي عند العرب الجنوبيين قبيل الإسلام، وعلى الميل إلى اختزال الأسماء وتبسيطها، على نحو ما كان عند العرب الشماليين، ومثل هذه الدراسة، تكون ذات قيمة كبيرة في الوقوف على التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية التي مرت على جزيرة العرب قبيل ظهور الإسلام، وهذا التغير الذي أشير إليه هو شيء طبيعي، وقع قبل الإسلام، كما وقع في الإسلام، فقد ماتت الأسماء الجاهلية، مثل "امرؤ القيس"، و"معدي كرب"، "شرحبيل"، و"شرحئيل"، و"عبد عوف"، و"عبد مناة"، و"عبد أسد"، في الإسلام، وحلت محلها أسماء إسلامية، وماتت ألفاظ جاهلية، بسبب إماتة الإسلام لها، أو إعراضه عن استعمالها، أو بسبب تغير الذوق، فلم تعد تصلح للاستعمال، وولدت ألفاظ إسلامية لم تكن معروفة عند الجاهليين، ونشأت معان جديدة لألفاظ جاهلية قديمة لم تكن تعبر عن هذه المعاني قبل الإسلام.
كذلك، نحن في حاجة إلى تدوين شعر الشعراء على حسب القبائل التي ينتمي إليها قالة الشعر، لنتمكن بذلك من دراسة خصائص شعر كل قبيلة، وما ورد
__________
1 المزهر "1/ 257".(16/325)
فيه من لغتها، على أن نهتم بصورة خاصة، بالأصول الأولى لهذا الشعر، أي: بأقدم الروايات التي ورد فيها، ثم ندون إلى جانبها الروايات المختلفة التي ورد فيها على ألسنة علماء الشعر واللغة، والتعديلات التي أدخلها العلماء عليه، لنرى ما فعله العلماء في الشعر الجاهلي، وطبيعة ذلك الشعر بالنسبة إلى اللغات، وخصائص كل شعر.
ونجد في كتاب "الإكليل" ملاحظات ثمينة تفيدنا كثيرًا في دراسة اللهجات العربية الجنوبية، وقد أخذها من كلام الناس في أيامه. من ذلك ما ذكره في كتابه "الإكليل" من قوله نقلًا عن كلام "أبي نصر": إن "حمير تطرح مثل هذه الألف في كلامها، فنقول: إذا أردت أن تقول للرجل: اسمع واذهب: سِمَع وذِهَب، وغِضَب في أغضب وشرب في أشرب"1. وهي لغة لا تزال تستعمل في بعض القبائل اليمانية2. ومن ذلك استعماله لفظة "القدمان" في قوله: "وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية، فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم، وهو هو"3. ولفظة "القدمان" من الألفاظ العربية الجنوبية التي ترد بكثرة في كتابات المسند، ترد مع أسماء بعض الأشهر التي يتكرر اسمها، على نحو قولنا في العربية: "ربيع الأول" و"ربيع الثاني"، و"جمادى الأولى" و"جمادى الآخرة"، فيستعملون "قدمن" "قدمان" للأول، أي: الأقدم والمتقدم، ويستعملون "اخرن" "اخران" للثاني، أي: الآخر والمتأخر، وتعني "قدمان" القدامى والقدماء كذلك.
ونجد في ثنايا كتابه مصطلحات وألفاظًا أخرى من هذا القبيل استعملها هو، أو نقلها عن غيره، أو من الكتب، وهي ترجع إلى اللهجات العربية القديمة، وقد لا نجد لها وجودًا في معاجم اللغة. كذلك يجب البحث في كتب "سعيد بن نشوان" الحميري وفي كتب غيره من المؤلفين من أهل العربية الجنوبية إلى يومنا هذا، لنلتقط ما قد يكون في ثناياها من كلم عربي جنوبي قديم، ومن
__________
1 الإكليل "2/ 48".
2 المصدر نفسه "هامش رقم4".
3 الإكليل "1/ 13".(16/326)
أمثلة وجمل، وأسماء أشهر وغير ذلك، إضافة إلى دراسة لهجات الأحياء منهم، ووجوب الحفر حفرًا علميًّا في مواضع الآثار لاستخراج ما فيها من نفائس مكتوبة أو غير مكتوبة لتعيننا في الوقوف على أصول لغة العرب الجنوبيين قبل الإسلام.
ولا بد لنا اليوم من وجوب القيام بمسح لغوي جغرافي، للغات جزيرة العرب ولقبائل العراق وبلاد الشأم، لمعرفة ما تبقى عندها من أثر للهجاتها القديمة. مسح عام لكلامها الذي تنطق به، ولشعرها الذي تنظمه في الوقت الحاضر، وللأسماء الغريبة التي تتسمى بها، ومسح مثل هذا سيعين الباحثين كثيرًا في الوقوف على أسرار اللهجات العربية قبل الإسلام.(16/327)
الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات
مدخل
...
الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات
والاختلاط بين الأمم، بمختلف وسائله، ومن ذلك الاتصال التجاري، يؤدي إلى حدوث تفاعل في اللغة، فقد يولد هذا الاحتكاك ألفاظًا جديدة يطلقونها على أشياء لم يكن لأهل تلك اللغة علم بها، وقد يضطر أصحابها إلى استعمال المسميات الجنوبية كما هي، أو بشيء من التبديل والتغيير ليناسب النطق بتلك اللغة. وقد وقع ما أقوله في كل اللغات، ويقع الآن أيضًا، وسيقع في المستقبل إلى ما شاء الله، لا استثناء في ذلك، ولا تفاضل، ولا امتياز. فاللغات كلها، ومنها اللغة العربية في جاهليتها وإسلاميتها، تخضع لهذا الحكم والقانون.
وليس الأخذ والعطاء دليلًا على وجود نقص في لغة ما، أو وجود ضعف في تفكير المتكلمين بها. فكل اللغات مهما بلغت من النمو والكمال والسعة، لا بد لها من أن تأخذ وأن تطور مدلول مفرداتها أو تضع مفردات جديدة لأمور لم تكن معروفة ومودودة عندها. ولا نعرف لغة ما من اللغات الميتة أو الحية، انفردت بنفسها انفرادًا تامًّا، فلم تأخذ شيئًا ولم تعط شيئًا.
والعربية بجميع لهجاتها وألسنتها مثل اللغات الأخرى، وفي جملتها اللغات السامية أخذت وأعطت، قبل الإسلام وبعد الإسلام، ولا تزال تأخذ وتعطي ما دام أصحاب اللسان العربي باقين في هذا الكون. والأخذ والعطاء ووضع مفردات جديدة في لغة ما، هما من دلائل الحيوية ومن أمارات القوة والتكامل في تلك(16/328)
اللغة. ومن دلائل هذا الأخذ والعطاء، ما حدث في العصور الإسلامية: من أخذ وعطاء بين العربية واللغات الأعجمية، فطعمت العربيةُ الفارسيةَ والتركية والرومية وغيرها بمادة غزيرة من الكلمات، كما أخذت هي حاجتها منها. ومن دلائله أيضًا ما يقع اليوم من وضع المصطلحات لمعاني لا عهد للعربية بها من قبل كمخترعات تظهر دومًا ومعاني علمية ليس للعلماء عهد بها، ولا بد من وضع ما يقابلها في العربية، بوضع لفظ عربي، أو تعريب المصطلح وتكييفه وفق النطق العربي إن كان من غير الممكن إخضاعه للمفردات العربية.
وقد يزعج هذا الرأي فريقًا من الناس يذهبون إلى أن العربية لغة نقية صافية لم تتأثر بغيرها من اللغات، فلم تأخذ من اللغات شيئًا، ولم يدخل إليها لفظ أجنبي، أو أن ما دخل إليها من دخيل معرب هو قليل، وهم في منطقهم هذا محافظون متزمتون لا يعترفون بنظرية الأخذ والعطاء في اللغات. فإذا قلت لهم: إن اللفظة الفلانية لفظة معربة وأصلها أعجمي، أجابوك: ولكنها وردت في القرآن الكريم، ووردت في شعر فلان، وفلان من الشعراء الجاهليين. وإذا قلت لهم: ولكن دخولها العربية كان قبل الإسلام بزمن، وقبل ذلك الشاعر بزمن طويل، وأن الجاهليين نسوا أصلها واستعملوها استعمال الألفاظ العربية، فحكمها إذن حكم الألفاظ العربية في أيام ذلك الشاعر، وعند نزول الوحي، أجابوك أيضًا: وكيف نؤمن أنها معربة، أفلا يجوز أن تكون عربية في الأصل، وقد أخذها الأعاجم أنفسهم من العربية، ومن أين لك الدليل على العكس؟ وإذا ذكرت لهم أن اللفظة الفلانية عبرانية في الأصل أو سريانية أو كلدانية، قالوا: وكيف تثبت ذلك، وهذه اللغات والعربية كلها من أصل واحد ودوحة واحدة، فلمَ تحكم بأنها من أصل سرياني أو عبراني أو كلداني أو غير ذلك، ولا تحكم بأنها عربية أصيلة، وأن وجودها في تلك اللغات، هو بسبب اشتراكها والعربية في الأصل السامي. فهي في العربية أصيلة إذن، وهي في تلك اللغات أصيلة أيضًا وقديمة بسبب مشاركتها للعربية في الأصل السامي.
وقد فات مثل هؤلاء أن القدامى من العلماء لم يفتهم أمر هذه المعربات، فأشاروا إليها، ومنهم جمهور أصحاب كتب التفاسير والحديث والمعجمات، وأن من العلماء من ألّف في هذا الموضوع، فألّف أبو منصور المعروف بالجواليقي كتابًا في هذا(16/329)
الباب دعاه: "المعرب من الكلام الأعجمي"1. ولم ينتقده مع ذلك علماء يومه، ولا من جاء بعده لإقدامه على تأليف كتابه هذا، ولم يقل أحد أنه كان جاهلًا أو متحاملًا على العربية، مسيئًا إليها، لأنه أنكر أصول الألفاظ المذكورة في مؤلفه، فعدّها أعجمية معربة مع أنها عربية أصيلة، لا شك في عربيتها ولا شبهة. قال "الجاحظ": "ألا ترى أن أهل المدينة لمّا نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمّون البطيخ الخربز، ويسمون السميط الرزدق، ويسمّون المصوص المزور، ويسمّون الشطرنج الاشترنج، في غير ذلك من الأسماء"2. ونجد في تفسير "الطبري"، وهو من العلماء الثقات المحققين وفي تفاسير غيره من العلماء المدققين إشارات إلى أصول ألفاظ وردت في كتاب الله ذكروا أنها من المعربات، وقد نصوا على أصولها التي أخذت منها، حسب علمهم واجتهادهم في ذلك الوقت، لم يجدوا في ذلك بأسًا ولا انتقاصًا لحرمة القرآن، أو مسًا به.
وفي القرآن -كما يذكر العلماء- أكثر من مائة لفظة معربة، نصوا على أصولها حسب علمهم واجتهادهم واستفسارهم من الأعاجم، وهي كلمات دخل بعضها العربية قبل الإسلام بعهد طويل لعدم وجود مثيل لها في لغة العرب، فأخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها، فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن لأنها كانت قد تعربت وجرت عند العرب مجرى الفصيح، ولم تكن لديهم ألفاظ غيرها3. وفي بعض هذه المعربات ألفاظ لم تكن مألوفة أو معروفة عند الوثنين؛ لأنها من ألفاظ أهل الديانات، ونظرًا لكونها تعبر عن أمور دينية ضرورية لا مثيل لها في العربية، وكان من اللازم تعليم الناس إياها، لذلك وردت في القرآن.
وقد رجع العلماء أصول المعربات الواردة في القرآن إلى لغات كانت شائعة آنذاك ومعروفة للعرب، أخذها العرب منها باحتكاكهم بأهلها، مثل اليونانية، والفارسية، والسريانية، والعبرانية، والحبشية، والهندية، والقنبطية، والنبطية،
__________
1 المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، لأبي منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة 1361.
2 البيان والتبيين "1/ 19".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "2/ 58".(16/330)
حتى ذهب "أبو ميسرة"، وهو من العلماء التابعين إلى أن "في القرآن كل لسان"، وروي مثله عن "سعيد بن جبير"، و"وهب بن منبه"1. ولو راجعنا أقوال العلماء في هذه المعربات التي درسوها وتحدثوا عنها لوجدنا أنهم قد أخطأوا في تشخيص الكثير منها، فلم يتمكنوا من الوقوف على أصولها، لعدم معرفة أكثر علماء العربية اللغات الأعجمية. نعم تمكن العارفون منهم بالفارسية من تشخيص المعربات عن الفارسية، غير أن منهم من زاد عليها وبالغ فيها، فأدخل في المعرب عن الفارسية ما ليس من الفارسية بشيء. وأدخل ألفاظًا عربية أصيلة في طائفة المعربات، مع أنها عربية جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي النصوص الأخرى2، وسبب إدخالهم لها ضمن المعربات، هو عدم إحاطتهم باللهجات العربية الجنوبية، وباللهجات الجاهلية الأخرى. فتخبطوا في تعيين الأصول، فترى بعض منهم يرجع معربًا إلى أصل عبراني، وتجد آخر يرجعه إلى أصل يوناني، بينما يرجعه ثالث إلى أصل حبشي، وقع ذلك بسبب عدم وقوف العلماء على اللغات الأجنبية واكتفائهم بالاستفسار من الأعاجم، ممن لم يكن لهم علم بعلوم اللغات، وإنما كانوا يعرفون الكلام بها، إذ لم يكونوا من أصحاب التضلع والتخصص، كما أن عصبية البعض منهم للسانهم دفعتهم أحيانًا إلى الاختراع وصنع الأجوبة الكاذبة، يضاف إلى ذلك عامل الادعاء بالعلم والفهم، مما يحمل صاحبه على الوضع والكذب.
وبين الباحثين في المعربات الواردة في القرآن جدل في وجود المعرب فيه، منهم من قال بوجوده، ومنهم من رد القول به ومنعه، فقال: "إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية، فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذا بالنبطية، فقد أكبر القول"، وقالوا: "ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد". وبالغ بعضهم في نفي المعربات، حتى قال: "كل هذه الألفاظ عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جدًّا، ولا يبعد أن تخفى على الأكابر
__________
1 السيوطي، الإتقان في علوم القرآن "2/ 106"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم".
2 راجع الإتقان "2/ 108 وما بعدها"، حيث تجد أمثلة عديدة على ما أقول.(16/331)
الجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح"1.
والذين ذهبوا إلى وقوعه فيه، يرون بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيًّا. وعلل بعضهم سبب وقوعه في القرآن بقوله: "إن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن، أنه حوى علوم الأولين والآخرين، ونبأ كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالًا للعرب"، "وأيضًا النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلٌ إلى كل أمة، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} ، فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو"2. وقال "ابن سلام": "والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحوّلتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية؛ فهو صادق، ومن قال: أعجمية؛ فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون"3.
وقال "ابن النقيب": "من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المُنزلة، أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، ولم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير"4. فهو من الذين يرون أن في القرآن كل لسان.
ولا يقوم جدل المانعين من وقوع المعرب في القرآن، أو القائلين به على أساس اختلافهم في وقوع المعرب في العربية، وإنما انصب كل اختلافهم على وقوع المعرب في كتاب الله. فالمانعون يقولون -كما رأينا- إن الله يقولو: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 5 و {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ
__________
1 السيوطي، الإتقان "2/ 105 وما بعدها".
2 السيوطي، الإتقان "2/ 106 وما بعدها".
3 المصدر نفسه "2/ 108".
4 السيوطي، الإتقان "2/ 108".
5 يوسف، الآية2.(16/332)
وَعَرَبِيٌّ} 1، فكل ما فيه هو عربي إذن، والذين يجيزونه، يقولون: إن هذه الأحرف أصولها أعجمية، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحوّلتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: أعجمية؛ صادق2. فالخلاف إذن عقائدي لا صلة له باللغة، وبوقوع المعرب أو عدم وقوعه في العربية.
وهناك فريق آخر جماعته من المحدثين في الغالب ومن غير العرب، ذهب مذهبًا معاكسًا لمذهب من ذكرت تمامًا. تطرف في رأيه تطرفًا مسرفًا وبالغ في أحكامه مبالغة منكرة. رَجَع ألفاظًا عربية استعملها الجاهليون إلى أصول أعجمية، وادعى أنها من الألفاظ المعربة عن السريانية أو اليونانية أو اللاتينية أو العبرانية أو الفارسية، لمجرد ورودها أو ورود مشابه لها في تلك اللغات، وحجته في ذلك أن الجاهليين أميون أعراب وثنيون، وأن الألفاظ التي رأوا عجمتها هي ألفاظ حضارة لها مدلولات دينية أو سياسية أو اجتماعية أو حرفية أو غير ذلك، ولهذا لا يمكن أن تكون من صميم العربية، بل لا بد أن تكون طارئة عليها دخيلة في الأصل، ثم عربت، وفي هؤلاء المتعصب لجنسيته، مثل أن يكون سريانيًّا أو يهوديًّا، لهذا رجع تلك الألفاظ إلى لغته لتعصبه لها، والمتأثر بنظرية جهل الجاهليين وعدم وجود أي علم أو ثقافة لديهم، والمتعصب على الإسلام، لهذا رجع أكثر الألفاظ الحضارية إلى النصرانية أو اليهودية أو الفارسية، لإثبات أخذ الإسلام منها، وتعلم الرسول ديانته من تلك الديانات.
أما البحث العلمي الخالص، فهو ما كان بعيدًا عن كل الميول والاتجاهات والنزعات ودوافع التعصب، قائمًا على الحقائق والوقائع وفكرة البحث عن الحق للتوصل إليه. فالرأيان في نظري باطلان، بعيدان عن جادة العلم. وواجب الباحث في مثل هذه الأمور أن يتريث أولًا، وألا يبت في قرار إلا إذا كان متأكدًا من سلامة السبل التي سار عليها في الوصول إلى قراره، ولا سيما أن العربية والعبرانية والسريانية كلها من هذا الأصل الذي يطلق علماء الأجناس واللغات عليه:
__________
1 فصلت، 44.
2 السيوطي، الإتقان "2/ 108".(16/333)
الأصل السامي، وتشترك كلها أو أكثرها في كثير من الألفاظ، والحكم بأن هذه أخذت من هذه أو تلك، حكم فج ناقص إذ لم يستند إلى موارد ونصوص مرتبة ترتيبًا تأريخيًّا. ثم إن العربية ليست عربية واحدة؛ فإن هناك ألسنة عربية أخرى، مثل عربيات اليمن، وهي لهجات عربية قديمة ذات نصوص يعود تأريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد، فلا يجوز التعميم بالاستناد إلى لغة القرآن الكريم وحدها، بل لا بد من تتبع ما جاء في اللغات العربية الأخرى. أضف إلى ذلك أن أهل اليمن كانوا أصحاب حضارة وحضارتهم أرقى وأعلى درجة من حضارة بعض الساميين.
ولذلك يدفعنا الواجب إلى دراسة ما جاء في نصوصهم من ألفاظ ومسمّيات وآراء ومقارنتها بما جاء في النصوص الواردة في اللغات السامية الأخرى، للحصول على رأي علمي في هذه الأمور. ولكننا مع ذلك نحن في وضع لا نتمكن فيه من البت في هذه الأمور، لأن ما لدينا من نصوص جاهلية أغلبه من النوع الذي عثر عليه على ظاهر الأرض، لأن الظروف لم تمكن العلماء حتى الآن من التنقيب تنقيبًا علميًّا عميقًا في باطن مواطن الآثار، لاستخراج المطمور من الكتابات والآثار الأخرى، والغالب أن يكون المطمور ذا أهمية كبيرة، وسيعين المؤرخين في كتابة الأجزاء المفقودة من تأريخ العرب قبل الإسلام. وقد يكون من بين ما يعثر عليه ما هو أقدم من النصوص التي بين أيدينا. وعلى هذه النصوص أن رتبت ترتيبًا زمنيًّا يوثق به، يمكن أن يكون اعتمادًا في تثبيت المفردات وفي تعيين زمن استعمالها في العربية وفي كونها عربية أصيلة أو معربة.
إن وجود المعربات دليل على اتصال الجاهليين بغيرهم، واتصال غيرهم بهم.
وعلى الروابط الفكرية التي كانت بين العرب وبقية الساميين، وبين العرب والشعوب الأخرى وجمعها وتصنيفها لذلك في مجموعات حسب الموضوعات يعطينا رأيًا عن النواحي التي تأثر بها الجاهليون في أمور الحياة. غير أن هذا العمل عمل شاق، ويجب أن يستند إلى معجمات جامعة مرتبة ترتيبًا تأريخيًّا، تذكر الكلمة، ثم تذكر أصلها ومن أي أصل أخذت وفي أي زمن كان ذلك، وأول من استعملها أو أقدم نص عربي وردت فيه، وفي أي معنى استخدمت، وهكذا. ولكننا لا نملك، ويا للأسف، مثل هذه المعجمات. وكل ما لدينا معجمات قديمة، لم تنته لهذه الأمور، ولم تميز الجاهلي من الإسلامي، ولا اللفظ الوارد في عربية القرآن الكريم من اللفظ الوارد في اللهجات العربية الأخرى. فذكرت الألفاظ.(16/334)
الواردة في اللهجات العربية الأخرى على أنها مرادفات، ترد في عربيتنا على حين أنها مسميات للشيء ذاته في اللغات العربية الأخرى.
والذين يقولون بعدم وقوع المعرب في كلام العرب، كأنهم يتصورون أن العرب كانوا بمعزل عن العالم وانقطاع عن الناس. ولهذا لم يتأثروا بغيرهم، ولم يؤثروا في غيرهم، وأن عرقهم لذلك بقي صافيًا نقيًّا سليمًا، لم تدنسه أعراق أعجمية، ولم يمازج دمهم دمٌ غريب، ولم تدخل لغتهم لفظة غريبة، بل بقيت نقية صافية على ما خلقها الله يوم خلق اللغات. وقد تكون في اللغات الأخرى، كلمات دخيلة، أما العربية فحاشاها من ذلك!
وهؤلاء لا يدرون أنه قد كانت في سواحل جزيرة العرب قبل الإسلام مستوطنات يونانية، نشأت في مواضع عديدة من سواحل البحر الأحمر وسواحل البحر العربي والخليج العربي، وقد بقي أصحاب تلك المستوطنات في مستوطناتهم فلم يعودوا على ديارهم، ونسوا أصولهم وعاداتهم، وصاروا عربًا مثل سائر العرب، يرجعون أنسابهم إلى أصول عربية على عرف العرب والأعراب. وأن منهم من بقي عرقه الدساس يحنّ إلى أصله، فقد ذكر المؤلفون اليونان أن بعض القبائل العربية الساكنة على السواحل، كانوا يرحبون ببعض اليونان، لاعتقادهم أنهم يجمعهم وإياهم صلب واحد.
يضاف إلى ذلك الرقيق من الجنسين، وقد كانت بلاد العرب تجلب عددًا كبيرًا منه في كل عام، تشتريه من أسواق العراق ومن أسواق بلاد الشأم، وتوكل إليه القيام بأعمال مختلفة، ولا سيما الأعمال التي تحتاج إلى خبرة ومهارة فنية ودراية. ونحن نعلم أن العربي الصريح يأنف من الاشتغال بالحرف وزراعة الخضر، ولذلك وُكِلَ إلى هذا الرقيق أمر القيام بها، فأدخل إلى العربية كثيرًا من الألفاظ الخاصة بالزراعة وبالحرف، لم تكن معروفة في العربية، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.
يضاف إلى ذلك أيضًا، التجارة. فقد كان التجار من عرب وغرباء يتعاطونها في جزيرة العرب وفي خارجها، يصدرون منها حاصلاتها وما تجمع فيها من سلع مستوردة من سواحل أفريقية الشرقية والهند، ويأتون إليها بما تحتاج إليه قبائلها وأهل مدرها وأهل إفريقية من بضائع مصنوعة أو منسوجة من حاصل الانبراطوريتين(16/335)
الساسانية والرومية والأرضين المصاقبة لهما. ومن الطبيعي أن يؤدي ذهاب التجار العرب إلى أسواق العراق وبلاد الشأم، واحتكاكهم بالفرس والروم، إلى الوقوف على أحوالهم والاتصال بهم والأخذ منهم والتأثر بثقافتهم وحضارتهم واقتباس ما يلائمهم منهم؛ ومن الطبيعي أن يؤثر التجار الروم والفرس بعض التأثير في نفوس زملائهم العرب في الأماكن التي ولجوها من جزيرة العرب، وأن ينقلوا إليهم شيئًا من آرائهم وأفكارهم وتجاربهم في الحياة، وأن يعطوهم شيئًا من مصطلحات لغتهم التي لا تعرفها العربية، ومن الأسماء الخاصة بالتجارة وبالبضائع التي يأتون بها إلى جزيرة العرب لبيعها في أسواقها.
وكان للمبشرين شأن مهم في نقل التراث اليوناني والإرمي إلى جزيرة العرب في أيام الجاهلية، وبجهادهم المضني المتواصل وعملهم المتوالي، دخلت النصرانية في أماكن متعددة قاصية من بلاد العرب، حتى تمكنوا من تنصير قبائل وأمراء ورؤساء قبائل، بطريقتهم الخاصة في الإقناع والتأثير، وبالتطبيب، وبالتقرب إلى ضعاف الحال من الناس. وقد اتبعوا في التبشير وفي إدارة المؤسسات التبشيرية النظم الإدارية والدينية المتبعة في الكنيسة، فجعلوا "بيث قطرايا"، أي "قَطَرًا" الموضع المعروف اليوم على ساحل الخليج، كرسيًّا لـ "مطرابوليطي"، يقيم فيه، ويشرف على إدارة خمسة أساقفة، يقيمون في "ديرين" و"مشمهيغ" أي: "سماهيج" وهجر وبلاد "مازون" و"حطا" المسماة "يبط أردشير"1، وهي الخط.
وفي موضع مثل نجران غلبت النصرانية على أهله، نظمت الكنيسة شئون المدينة، فتول رئيسها الديني، وهو بدرجة "أسقف"، الأمور الدينية، وتولى "السيد" أمور الحرب وإدارة المسائل الخارجية المتعلقة بعلاقة نجران بغيرها، وتولى "العاقب" الأمور الداخلية، وهم جميعًا يؤلفون معًا مجلس المدينة فيديرون معًا أمور الناس، وينظرون في كل ما يحدث بينهم من نزاع وخصومات. وهكذا نظمت العلاقات بين كنيسة المدينة وحكامها، وانسجم الحكم بين الجماعتين.
وقد أدخل التبشير ألفاظًا يونانية وسريانية ترد في الديانة وفي الحياة اليومية إلى
__________
1 أدي شير، تأريخ كلدور وآثور، المجلد الثاني، "المقدمة".(16/336)
اللغة العربية، ولا سيما المصطلحات الخاصة بتنظيم الكنيسة وبالحياة النصرانية، كما كان لبعض الشعراء الجاهليين يد في إدخال بعض المصطلحات النصرانية إلى العربية، كالذي نجده في شعر "امرئ القيس" والأعشى وعدي بن زيد العبادي وغيرهم من كلمات ترد بكثرة عند النصارى، نتيجة اتصالهم واحتكاكهم بهم، فصارت بذلك تلك الكلمات من المعربات.
ويضاف إلى من ذكرنا اليهود. فقد كان لهم أثر في الجاهليين، في يهود العربية الغربية خاصة -أي: في الحجاز- في البقعة الممتدة من "يثرب" حتى بلاد الشأم، وفي اليمن. فقد سكن اليهود في هذه المواضع، وبنوا لهم مستوطنات فيها، واختلطوا بعربها، واحترفوا الحرف كما ذكرت ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.
وقد كانت "مدراشات" اليهود في يثرب وفي المستوطنات اليهودية الأخرى تلقن اليهود أحكام دينهم، وتعلم أطفالهم القراءة والكتابة. وقد قصدها العرب وجلسوا فيها يستمعون إلى يهود، وقد شاهدها الرسول بعد هجرته إلى المدينة، وحضر جدلًا كان قد وقع بين جماعة من يهود، كما حضرها أبو بكر ونفر آخرون من الصحابة. وكان أحبارهم يدرسون فيها ويفتون، كما كانوا يقيمون الصلوات واحتفالات الأعياد في "الكنيس". ومن هؤلاء اليهود ومن "مدراشاتهم" انتقلت الألفاظ العبرانية إلى العربية فعربت، وفي جملة ذلك لفظة "مدراس"، و"سفر"، و"توراة"، و"تابوت"، و"حبر"، و"كاهن" وغير ذلك من مصطلحات، لأكثرها صلة بشئون الدين.
إن الحاجة، هي التي تحمل الناس على الأخذ والعطاء، وبها نفسر اقتباس العرب للمعربات، فأسماء بعض الآلات والأدوات والطرق الفنية والأنسجة الدقيقة المصنوعة من الحرير وأسماء المأكولات النفيسة وأسماء النبات التي هي من أصل شمالي وبعض المشروبات وما شابه ذلك، إنما دخلت العربية وعربت لأسباب عديدة، أهمها أن الحياة في جزيرة العرب حياة عادية، تكاد تجري على وتيرة واحدة، فلم تساعد على ظهور الأمور المذكورة، فاضطر الناس بحكم الحاجة إلى أخذها من غيرهم واستيراد أشياء مادية وغير مادية من جيرانهم، حتى في الأمور الفكرية والروحية، مثل المعربات الدينية، فإنها خضعت لحكم الحاجة، فالنصارى(16/337)
العرب استعملوا معربات من أصل سرياني؛ لأنهم اضطروا إلى استعمالها؛ لأنها تعابير دينية لا وجود لها عند العرب الوثنيين أولًا، ثم هي مصطلحات رسمية كنسية، لم تتساهل الكنيسة في تغيير أسمائها، ولهذا استعملها العرب على النحو المرسوم، كما يستعمل الأعاجم المسلمون المصطلحات العربية؛ لأنها مصطلحات إسلامية ليس لها مقابل في لغتهم، أو لأنها مصطلحات دينية نحب المحافظة على تسميتها وإن وجد لها مقابل في لغات الأعاجم.
وأكثر المعربات الجاهلية، هي من أصل يرجع إلى لغة بني إرم أو إلى لغة الفرس، ثم تليها المعربات المأخوذة من لغات أخرى مثل اليونانية والعبرانية واللاتينية والحبشية والقبطية، وكثير من الألفاظ اليونانية إنما دخل إلى العربية عن طريق السريانية، فقد كان السريان قد أدخلوها في لغتهم؛ لأنها لم تكن معروفة عندهم، ومن لغتهم هذه تعلمها الجاهليون.
والمعربات السريانية الأصل، هي في الزراعة في الغالب، وفي التوقيت، ثم في موضوعات دينية وصناعية وتجارية وفي أمور أخرى. أما المعربات عن الفارسية فهي في موضوعات زراعية كذلك وفي أسماء المأكول والملبوس وأمور اجتماعية.
وأما المعربات عن العبرانية، ففي أمور خاصة بسكناهم بين العرب وبأمور دينهم وشئونهم. وأما المقتبس عن اليونانية فهو في أمور حِرْفية، وفي مصطلحات دينية ومصطلحات زراعية ومصطلحات تستعمل في شئون البحر وما شاكل ذلك.
وتفسير وجود المعربات السريانية والفارسية بنسبة تزيد على نسبة وجود المعربات الأخرى، هو أن المتكلمين بلغة بني إرم كانوا مزارعين في الغالب، وكانوا على اتصال بالعرب، وقد خالطهم العرب وعاشوا بينهم، واقتبسوا منهم، حتى أنهم كتبوا بلسانهم، ودخل الكثير منهم في دينهم، دين النصرانية، ولا سيما قبيل الإسلام. وقد كانت أحوالهم الاجتماعية مشابهة للأحوال الاجتماعية عند العرب، ولا سيما عرب بلاد الشأم والعراق، ووضع مثل هذا يؤدي بالطبع إلى الاقتباس والأخذ والعطاء. وأما الفارسية، فقد كان الفرس يحتلون بلاد العراق وكان لهم نفوذ على العربية الشرقية، وقد استولوا على اليمن قبيل الإسلام، ولهم تجارة مع أهل مكة وأماكن أخرى، وبحكم هذه الصلات دخلت في العربية ألفاظ فارسية وصارت في عداد المعربات.(16/338)
ونحن إذا تتبعنا صورة توزع المعربات بين العرب، نجد أن توزيعها يختلف باختلاف الأمكنة، فهناك أمكنة تأثرت بالمعربات الفارسية بالدرجة الأولى، وهناك مواضع تأثرت بالمعربات السريانية في الأكثر، وهناك أقاليم تأثرت بالمعربات عن اليونانية أو الحبشية بالدرجة الأولى. ثم نجد ظاهرة أخرى في كيفية توزع المعربات وظهورها، هي ظاهرة الحاجة والظروف السائدة في مكان ما. فيمكننا إذن إرجاع تأثر لهجات العرب الجاهليين بالمؤثرات اللغوية الأعجمية إذن إلى عاملين: عامل الاختلاط بالأعاجم عن طريق الجوار أو السكن معهم في موضع واحد، واستخدامهم لهم ومجيء الأجانب من تجار ومبشرين إليهم، وعامل الحاجة التي كانت تدفع إلى أخذ أشياء غير معروفة في بلاد العرب، فتدخل العربية بأسمائها الأعجمية، فإذا انقضى زمن عليها، تدخل في ضمن اللسان العربي وتعرب، حتى ليخيل إلى من لا يعرف أصلها أنها عربية الأصل والنجار.
ولما تقدم نرى أن المعربات عن السريانية والفارسية هي أظهر وأبرز في لهجات عرب العراق من المعربات الأخرى، وأن المعربات عن السريانية واليونانية، اللاتينية أبرز وأوضح في لغة عرب بلاد الشأم من المعربات المنقولة عن الفارسية أو الحبشية.
وأن المعربات عن الحبشية واللهجات الإفريقية، هي أوضح وأكثر ظهورًا في لهجات العرب الجنوبيين من المعربات الأخرى، وذلك بسبب اختلاط العرب الجنوبيين بأهل الساحل الإفريقي الشرقي ووجود جاليات إفريقية في العربية الجنوبية وجاليات عربية جنوبية في السواحل الإفريقية المقابلة منذ أيام ما قبل الميلاد، فأدى هذا الاختلاط والتجاور إلى الأخذ والعطاء في اللغة. كما نجد المعربات عن الهندية والفارسية والإرمية ظاهرة بارزة على ألسنة أهل الخليج، لاتصالهم بالهند وبفارس وبالعراق.
وأما مثال ظهور المعربات بسبب الحاجة، فهو ما نجده في لهجة أهل يثرب وما حولها من مؤثرات فارسية وسريانية في الزراعة بصورة خاصة وفي نواح أخرى من نواحي الحياة الاجتماعية، فقد استعمل أهل المدينة ألفاظًا فارسية في لهجتهم، بسبب حاجتهم وظروفهم. فأرضهم أرض خصبة ذات آبار ومياه، ولما كانوا في حاجة إلى أيدي عاملة لتشغيلها لاستغلال مواردها استعانوا بالرقيق، وكان معظم الرقيق الذي جيء به، من رقيق العراق الذي يرجع إلى أصل فارسي، أو نبطي متأثر بالفارسية، لرخص ثمنه بالنسبة إلى رقيق الروم، ولفطنته ولمهارته في الحرف(16/339)
بالنسبة لرقيق أفريقية، وعن طريق هذا الرقيق دخلت المعربات الفارسية والنبطية المستعملة في الزراعة وفي أمور أخرى عرف بها الفرس والنبط
لى "يثرب"1.
أما أهل مكة، فلم تظهر المعربات الزراعية عندهم، لعدم وجود حاجة لهم إليها، بل استخدموا معربات أخرى في الأمور التي كانوا بحاجة إليها، والتي لم يكن لها وجود عندهم، وقد دخلت إليهم من أماكن مختلفة، كان لهم تعامل معها، ومن الرقيق والتجار الغرباء الذين كانوا يعيشون بها.
ولبعض المحدثين بحوث في الدخيل من السريانية على العربية، من جملتها بحث للمستشرق "فرنكل" Frankel، دعاه "الألفاظ الآرامية الدخيلة على العربية" Die Aramaischen Fremdworter im A rabischen وكتابه هذا هو أشهر كتاب ألّفه المستشرقون في هذا الباب. كما أن لآباء الكنيسة الشرقيين مؤلفات وبحوثًا في الألفاظ السريانية في العربية، وضعوها بالعربية، نشر بعضها في مجلة المشرق، ونشر بعض آخر في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ونشر بعضه في كتب، مثل كتاب: "غرائب اللغة العربية"، تأليف الأب رفائيل نخلة اليسوعي، وفيه باب خاص بالكلمات الدخيلة في العربية الداخلة فيها من الآرامية والعبرانية والفارسية واليونانية ومن التركية واللاتينية والإيطالية والفرنسية ومن لغات أخرى2.
وفي بعض هذه البحوث تسرع في الأحكام، إذ فيها ألفاظ نسبت إلى أصل سرياني، وهي من الألفاظ الواردة في اللهجات العربية القديمة، وفيها مما يرد في العربية وفي اللغات السامية الأخرى، لأنه من المشترك الذي يرد في أصول الساميات.
وقد رأيت اختيار ألفاظ في الزراعة أو ألفاظ لها علاقة بها، من القائمة التي أوردها "الأب رفائيل نخلة اليسوعي"، للألفاظ الآرامية الداخلة في العربية، وذلك للوقوف عليها، ولتكوين فكرة عنها، وبعض هذه الألفاظ هو في رأيي مما استعمله العرب قبل الإسلام، ووارد في النصوص الجاهلية، فمن الصعب إرجاعه إلى أصل آرامي من غير نص أو دليل منطقي مقبول وبعضه من النوع الوارد في العربية وله أصل عربي، فلا يمكن أن يقال: إنه من أصل آرامي،
__________
1 البيان والتبيين "1/ 10".
2 المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1960.(16/340)
لمجرد وجود مرادف له أو لفظ مقارب له، وبعض آخر هو من الألفاظ التي ترد في كثير من اللغات السامية فلا يجوز تخصيصه بالسرياني، وإرجاع أخذ العرب له من هذا الأصل.
ومن اللهجات في الزراعة وما يتعلق بها وبالفواكة والحبوب والأزهار وما شاكل ذلك: "آس" وهو من أصل سرياني هو "أسو"، و"أب" بمعنى ثمرة من "أبو"، و"أرف"، و"أرفي" من أصل سرياني كذلك بمعنى قسم الأرض وحددها، ومن يمسح الأرض ويحددها. و"أكّار" بمعنى حرّاث، أي: من يحرث الأرض من أصل Akoro، و"أنبوب"، من "أبوبو" Aboubo بمعنى قصبة وأنبوب أجوف وما بين عقدتين من القصب، و"أندر" بمعنى بيدر، من "ادرو" Edro و"باسور" بمعنى عنب غير ناضج، و"باكورة" ويراد بها أول الثمر من "Bakorto" و"بطيخ"، أي: البطيخ من Fatiho، و"بور" صفة للأرض من "بورو" Bouro و"بيب"، بمعنى قناة ومجرى الماء إلى الحوض من أصل "بيبو" bibo، و"بيدر" من bay-edro و"تبن" من "تبنو"، و"تخم" بمعنى حدّ من أصل "تحومو" thoumo و"ترعة"، بمعنى قناة عميقة من "ترعتو" و"توت" من "توتو" touto و"ثوم" من toumo و"جبن" من أصل goubno والجريب من gribo، و"جرام" بمعنى نواة من أصل garmo، و"الجرن" ويراد به حجر منقور للماء وغيره من Gourno، و"الحب" بمعنى الجرة الكبيرة من "حبو" Houbo و"حمص" من "حمصو" Hemso و"حندقوق" من Handqouqo، و"خبيص"،بمعنى حلوى مخبوصة، من طحين وسمن وعسل وأصلها "حبيصو" Habiso، و"الخردل" من "حردلو" Hardlo، و"خس" من "خسو" Haco، و"الخوص" الذي يكون على السعف من "حوصو" Houso، والخوخ من Hougo و"الدبرة" البقعة المزروعة، أي: الحقف من "دبرو" dabro و"دبس" أي: الدبسن من debcho و"دبق" من debeq و"درس"، كأن نقول: درس الحنطة من drach و"دقلة" أي: نخلة من deqlo و"رُب" وهو ما يخثر من عصير الثمار من أصل Raubo و"رحى" من Rahyo و"رمّان" من أصل Roumono و"ريحان" من Rihno و"زبن" بمعنى باع الثمر على شجره، Zaban بمعنى باع(16/341)
و"زبون" بمعنى مشتري من Zobouno و"زفت" من أصل Zefto و"زق" من Zeqo و"زمارة"، قصبة يزمر بها Zamorto و"زيت" من Zayto و"زيتون" من Zaytouno و"سكة" مثل سكة المحراث من Sekto و"سكر" ما يسد به النهر، من Chakro و"سلاء" أي: شوك النخل من Salwo و"سمّاق" من أصل Sawmoqo، وسنبل الحنطة من Seblo و"سنبل" بمعنى نبات طيب الرائحة من Sanboul و"شتلة" ما قلع من النبات ليغرس في مكان آخر من أصل Chetlo، و"شرعوف" نبات وثمر من أصل Sour'afo و"شالم" و"شولم" و"شيلم" من Chaylmo و"صعتر" من Setro و"صفصاف" من Safsofo و"مطمورة"، وهي حفرة تحفر في الأرض يوسع أسفلها لحفظ الحبوب. من Matmourto و"عذق" أي: عنقود عنب أو نخل من "عدق" daq و"عفص" من 'afso، و"عقار" خمر ونبات يتداوى به، وقد سمى العرب الخمر دواء من أصل egro، و"عنب" من enbo، و"عنقر" جذر القصب من eqoro بمعنى جذور و"عود" وهو العود الذي يتبخر به من ouda و"غابة" من أصل obto بمعنى غابة كثيرة الأشجار، وغدير بمعنى نهر وبركة يتركها السيل من gadiro، و"غرب" نوع من الحور من أصل "arbo" و"فجل" من fouglo، وفدان من أصل fadno، و"فرث"، من ferto و"الفروج" من Farougo، و"الفرخ" من farahto و"فرع" بمعنى غصن من "فرعو" Fer'o، و"فقح" مثل "فقح النبات" بمعنى: أزهر من أصل "فقح" fqah، و"فقاح النبات" أي: زهره من أصل "فقحوا" fagho، و"فُل" وهو زهر يشبه الياسمين من "فلو" Falo، و"قثاء" من qtouto، و"قش" من Qecho، و"قصر" وهو ما يبقى في الغربال من النفاية، من أصل "قصرو" qisro أي: قشرة الحنطة، و"القطران" وهو سائل زيتي يستخرج من بعض الأشجار من أصل "قطرون" qotron، و"القفيز" وهو مكيال من "قفيزو" qfizo، و"قفص" من "قفسوا" Qafso، و"قلة" بمعنى جرة كبيرة من "قلتو" qoulto، و"قمح" أي: حنطة، من "قمحو" qamho، و"كاث" وهو ما ينبت مما انتثر من الزرع المحصود من koto و"كدّاس" الحب المحصود المجموع من(16/342)
"كديخو" qdicho، و"كرّ" بمعنى حمل ستة أوقار حمار، أو ستون قفيزًا من "كورو" kouro، و"كرب" من أصل "كرب" krab، و"كُراث" من karoto، و"كرخ" بمعنى أجرى وحول من "كرخ" krak، و"كرفس" من "كرفسو"، krafso و"كزبرة" من "كوزبرتو" kouzbarto، و"كمثرى" من "كومترو" Komatro، و"معين" نعت للماء الجاري على وجه الأرض من "مينو" m'ino، و"نجر" من "نجر" Nagr ومنها النجار، و"نشوق" من "نسكو" Nosko و"نطر" بمعنى حرس من "نطر" Ntar ومنها الناطور أي: الحارس، و"نُطّار" وهو ما يكون على هيأة رجل ينصب بين الزرع لإخافة الطيور وإبعاد الحيوانات المضرة به من "نوطورو" notoro، و"نيطل" بمعنى دلو من "نطلو" notlo، ونعناع من mon'o، و"نورج" سكة المحراث من "نورجو" Norgo، و"نير" وهي خشبة معترضة في عنقي ثورين يجران محراثًا من "نيرو" Niro، و"هرطمان" من qourtomo، وبل ووابل بمعنى المطر الشديد من "يبل" Yiabl، و"ورد" من "وردو" Wardo، و"وسق" بمعنى حمل بغير من "وسقو" Wasqo، و"يتوع"، كل نبات له لبن، أي: سائل أبيض في داخله يشبه اللبن من "يتوعو" Yatou'o1.
وقد وردت لفظة "الأب" في القرآن الكريم" {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ} 2.
وقد ذكر أن "عمر" قال: "قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف"3، وقد اختلف المفسرون في المراد منها، مما يدل على أن اللفظة لم تكن معروفة عندهم معرفة واضحة، وفي كلام عمر: "إن هذا لهو التكلف"، أو قوله: "ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا"4 دلالة على عدم وضوح معناها عنده وعند الناس. وهي بمعنى "ثمرة" في الإرمية من
__________
1 غرائب اللغة "من الصفحة 172 إلى الصفحة 210".
2 عبس، الآية31.
3 تفسير الطبري "30/ 38"، تفسير الألوسي "30/ 47"، تفسير ابن كثير "4/ 472 وما بعدها".
4 تاج العروس "1/ 142"، "أب".(16/343)
Ebo، وقد ذهب العلماء إلى أن "الأبَّ" ما تنبت الأرض للأنعام والماشية1، فهي في معنى آخر، يخص العشب والكلأ وما تنبته الأرض ليعلفه الحيوان في رأي غالبية العلماء، غير المعنى الوارد لها في السريانية.
وأما "الأرف"، فبمعنى تقسيم الأرض وتحديدها، ويقال لمن يمسح الأرض ويعين حدودها "أرفوا" Arfo في الآرمية2، وقد ذكر علماء اللغة أن الأرف الحدود بين الأرضين، أو معالم الحدود بين الأرضين. "وفي حديث عثمان رضي الله عنه، الأرف تقطع الشفعة، وهي المعالم والحدود. هذا كلام أهل الحجاز، وكانو لا يرون الشفعة للجار"3.
وأما "الأكار" فيذكر علماء اللغة أنها من أصل "أكر"، بمعنى "حفر"، والأكار بمعنى الحفار والحرّاث والزراع. ومن ذلك حديث "أبي جهل: فلو غير أكار قتلني"، أراد به احتقاره وانتقاصه4. وتقابل هذه اللفظة لفظة "أكورو" Akoro في الأرمية التي هي "أكار"5.
وبين الألفاظ التي ذكرتها ألفاظ لا يوجد دليل على أنها معربة من أصل إرمي لأننا نجد أن لها جذرًا عربيًّا، وهي ليست من المسميات التي لم يعرفها العرب حتى نقول: إنها استوردت من الخارج، أو أن الحاجة حملت العرب على تعلمها من الرقيق الذي كان عندهم أو من المبشرين أو التجار الغرباء.
وأما المعرب عن الفارسية مما يخص الزراعة، فأكثره في أسماء أثمار أو أزهار أو روائح وعطور، مثل "الخربز" بمعنى البطيخ، من أصل "خربوزة".
وفي الحديث عن أنس قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الخربز والرطب". وفي حديث عن عائشة: "يأكل البطيخ بالرطب"6. و"السيسنبر"
__________
1 الموارد المذكورة.
2 غرائب اللغة "172".
3 تاج العروس "6/ 39"، "أرف".
4 تاجر العروس "3/ 17"، "أكر".
5 غرائب اللغة "173".
6 الجواليقي: المعرب "ص137"، فتح الباري "9/ 496"، عون المعبود "3/ 427 وما بعدها".(16/344)
نوع من الريحان1، و"الجل" بمعنى الورد2، و"الجلاب" أي: ماء الورد. وقد وردت اللفظة في حديث عائشة عن الرسول3. وذلك دليل على أن اللفظة كاتب معروفة قبل أيام الرسول. ويلاحظ أن لفظة "بطيخ" هي من الألفاظ المعربة كذلك، عربت من أصل "فطيخو" بلغة بني إرم4.
وقليل منه ما يخص آلات الزراعة أو الأرض، مثل "بستان" والجمع "بساتين"5، وذلك لأن غالبية الذين كانوا يفلحون الأرض ويزرعونها في العراق وفي بلاد الشام، هم من بني إرم أو من المتكلمين بلغتهم، وباحتكاك العرب بهم تعلموا أسماء الآلات والأدوات وطرق الاستفادة من الأرض، فدخلت إلى العربية. أما الفرس في العراق، فلم يكونوا يباشرون زراعة الأرض وفلاحتها في العراق، وإنما كان "مرازبتهم" وأثرياؤهم يمتلكون الأرضين الواسعة، ويسخرون أهل البلاد في استغلالها لهم، ولهذا لم تترك لغتهم أثرًا كبيرًا يشبه الأثر "الإرمي" من ناحية الزراعة في العربية.
أما المعربات في الزراعة عن اليونانية، فأقل عددًا، إذ لم يكن العرب على اتصال مباشر بالمزارعين اليونان، لهذا لم يأخذوا عنهم كثيرًا. والمعروف من المعربات في هذا الباب هو في أسماء نمر نبات أو بذور، أو ما يتعلق بحاصل عنب، مثل الخمور، فقد كان أهل الحجاز يستوردون الخمور من بلاد الشأم، وقد تعلمها أهل هذه البلاد من الروم بأسمائها اليونانية. ولما أخذها العرب من بلاد الشام، حرفوا الأسماء بعض التحريف لتلائم المنطق العربي.
ومن هذه المعربات: "الاسفنط": وهي أجود الخمر المطيب من عصير العنب، من أصل "افسنتين" Apsinthion، كان الخمر يطيب به6.
و"خندروس"، ويراد بها نوع حنطة، أو حنطة مجروشة من أصل7 Khandhros، و"خندريس" ويراد بها خمر معتقة، ونعت لخمر مصنوعة من
__________
1 الجواليقي "ص80، 105"، غرائب اللغة "ص235".
2 الجواليقي "ص115"، غرائب اللغة "ص223".
3 الجواليقي "ص106" فتح الباري، لابن حجر "1/ 317"، المزهر "1/ 276".
4 غرائب اللغة "174".
5 الجواليقي "ص53".
6 الجواليقي "ص18"، غرائب اللغة "ص252".
7 غرائب اللغة "ص257"، "وأخبرنا عن يعقوب أن "الخندرس": القديمة، يقال: حنطة خندرس، أي: قديمة"، الجواليقي "ص125".(16/345)
الكرم اسمه1 Kantharios. و"زنجبيل"، وهي من أصل zinguiveri. ومن الألفاظ الواردة في القرآن الكريم. وقد ذكرت في شعر منسوب إلى الأعشى2.
و"القرنفل"، من أصل3 Kariofillon. و"كافور" من Kafoura. وفي السريانية4 qafouro. و"المسطار"، ويراد بها الخمر التي اعتصرت من أبكار العنب حديثًا5، وأصلها "مسطس6 " Moustos. و"نرجس" من أصل7 Narkisos.
وبلاد الشام أكثر شهرة من العراق في الأعناب، وهي مادة صالحة لصنع أنوع متعددة من الخمور. أما أهل العراق، فقد استخرجوا خمرهم من التمر، فلم يعرف لهذا السبب بتنويع الخمور. وقد استغل سكان جزيرة العرب التمور أيضًا لاسخراج الخمور منها، وذلك في الأماكن التي تكثر فيها النخيل، وتقل أشجار الكروم. ولاتصال الحجاز ببلاد الشام بالقوافل الكبيرة، كانت الخمور من أهم السلع التي تستوردها القوافل من تلك البلاد.
ومن الألفاظ الآرامية التي دخلت في العربية، ولها معان دينية لفظة "أبل" بمعنى تنسك من "ebal"، و"تأبل" بمعنى "حزن" من "etebal"، و"أبيل" بمعنى راهب من "أبيلو" "abilo" الإرمي بمعنى ناسك وراهب8. وقد جعلها "الجواليقي" فارسية الأصل9، وهو خطأ منه. و"الباعوث"، صلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف من أصل "bo' outo" بمعنى صلاة وطلب10.
و"برخ" بمعنى زيادة ونماء من "يرختو" bourhto بمعنى بركة وعطية11.
و"البيعة" من "بيعتو"12 Bi'to. و"الدنح"، ويراد بها عيد الغطاس،
__________
1 غرائب اللغة "ص257".
2 الجواليقي "ص174"، غرائب اللغة "ص259".
3 غرائب اللغة "ص265".
4 غرائب اللغة "ص267"، الجواليقي "ص285 وما بعدها".
5 الجواليقي "ص321".
6 غرائب اللغة "ص269".
7 غرائب اللغة "ص271".
8 غرائب اللغة "ص172".
9 الجواليقي "ص30".
10 الجواليقي "ص57"، غرائب اللغة "ص173".
11 الجواليقي "ص81 وما بعدها"، وغرائب اللغة "ص174".
12 الجواليقي "81"، غرائب اللغة "ص175".(16/346)
من أصل "دنحو"1 denho. و"دير" أي: بيت الرهبان، من أصل دار2.
و"ديراني" نسبة إلى "دير"، من أصل3 Dayronoyo. و"ربّاني"، بمعنى عالم بشريعة اليهود، وحاخام أي: معلم من أصل "ربونو"4 Rabono. و"روح القدس" من "روح قدشو"5 Rouhqoudcho. و"مزمور" من
"مزمورو"6 Mazmouro. و"سُلاق" عيد صعود السيد المسيح، من Souloqo أي: صعود7. و"صلاة" من "صلوتو"8 slouto. و"قس" "قسيس" من "قشيشو"9 Qachicho. و"القوس" ويراد بها الصومعة، من أصل kaucho، بمعنى عزلة10. و"ناقوس" من أصل11 noqoucho.
وهناك ألفاظ أخرى لها معان دينية، لم تكن شائعة معروفة إلا بين النصارى، لذلك لم أرَ حاجة إلى الإشارة إليها، ثم إن من الصعب البرهنة على أنها كانت مستعملة عند النصارى الجاهليين.
وبعض الألفاظ المذكورة معروف، وقد ذكر في الحديث، وهذا مما يدل على شيوعه عند أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، وبعضه مما ورد في القرآن الكريم من آيات تعرضت للنصرانية في ذلك العهد.
وباتصال العرب باليهود في الحجاز، دخلت في العربية ألفاظ ومصطلحات دينية، عُربت، مثل: "آمين" من أصل "آمن"12، و"إسرائيل" و"إسرائين" من "يسرائيل" "ي س ر ال"13، و"تابوت" "ت ب 5"14
__________
1 الجواليقي "ص144"، الآثار الباقية "ص292 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص181".
2 الجواليقي "ص187"، غرائب اللغة "ص182".
3 غرائب اللغة "ص182".
4 غرائب اللغة "ص182".
5 غرائب اللغة "ص184".
6 غرائب اللغة "ص185".
7 الجواليقي "ص196"، غرائب اللغة "ص188".
8 غرائب اللغة "ص193".
9 غرائب اللغة "ص201".
10 الجواليقي "ص278"، غرائب اللغة ص202".
11 الجواليقي "ص339"، غرائب اللغة "ص208".
12 غرائب اللغة "ص211".
13 الجواليقي "ص13 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص211".
14 غرائب اللغة "ص211.(16/347)
بمعنى صندوق خشب و"تلمود"1 و"توراة" من "تورا" بمعنى تعليم وشريعة2، و"جهنم" من "جي هنم"، بمعنى وادي هنم، وهو جنوب أورشليم، أي: القدس، وقد كثر فيه قبل الميلاد إحراق الأطفال تضحية لإله العمونيين3. و"حبر" من "حبر" "ح ب ر" بمعنى "الرفيق" في الأصل، ثم خصصت4 بعالم. و"إسرافيل" من "سرافيم" "س ر ف ي م"، ملك من الملائكة الكبار5. و"سبت" اسم يوم، من "شبث" بمعنى يوم الراحة، واستراح6. و"سبط"، قبيلة من قبائل اليهود الاثني عشر، من "شبط"7، و"مِدراس"، بمعنى عهد تدرس فيه التوراة، من "مدرش"، "مدراش"، أي بحث وشرح نص8.
ولفظ "نبي" "نابي" Nabi المستعملة في عربيتنا من الألفاظ الواردة في التوراة، وردت "300" مرة في مواضع مختلفة منها9. وترد في لغة بني إرم أيضًا، حيث وردت على هذه الصورة:10 Nbiyo. وقد ذكر علماء اللغة أنها من المعربات11.
وأخذت العربية من العبرانية ألفاظًا قليلة ذات صلة بالحرف، مثل "تابوت" بمعنى صندوق من "تبا" Teba، ويراد بها معنى صندوق في العبرانية12.
و"فطيس" من "بطيش" Pattich بمعنى مطرقة13. و"قدوم" من "قردم" "قردوم" qardom بمعنى فأس، و"كرزن" من "كرزن" بمعنى فأس كبيرة14.
__________
1 غرائب اللغة "ص211".
2 غرائب اللغة "ص211".
3 الجواليقي "ص107"، غرائب اللغة "ص211".
4 ولفنسون، اليهود في جزيرة العرب "ص20".
5 الجواليقي "ص8"، غرائب اللغة "ص212".
6 غرائب اللغة "ص212".
7 غرائب اللغة "ص212".
8 غرائب اللغة "ص213".
9 Hastings, p. 767
10 غرائب اللغة "206".
11 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 205".
12 غرائب اللغة "ص211".
13 غرائب اللغة "ص212".
14 المصدر نفسه.(16/348)
وقد احترف اليهود الحدادة والصياغة والنجارة في الحجاز، وتكسبوا منها، ورآهم الجاهليون، وهم يعملون بآلاتهم، فتعلموا منهم أسماء الآلات المذكورة وغيرها، واستعملوهاعلى النحو المذكور.
ويلاحظ أن الباحثين في المعربات من المستشرقين والشرقيين، رجعوا أصول ألفاظ يهودية إلى السريانية، وهي يهودية في الأصل، وقد أخذتها السريانية من العبرانية بواسطة النصرانية، بدليل ورودها في اليهودية قبل ظهور النصرانية بزمن.
أما المجوسية، ديانة الفرس، فلم نترك أثرًا يذكر في العربية من ناحية المعربات ذات المعاني الدينية، لقلة اتصال العرب بها، وعدم اهتمام المجوس بنشر دينهم، وقلة عددهم في جزيرة العرب. ولهذا كانت أكثر الألفاظ الدينية التي عرفها الجاهليون، قد دخلت فيهم من اليهودية والنصرانية، بسبب اتصال اليهودية والنصرانية بالجاهليين اتصالًا مباشرًا.
ولفظة "المجوسية" نفسها هي من الألفاظ المعربة، فهي من أصل Magush في الفارسية القديمة، Mugh في الفارسية الحديثة، و Maghos في اليونانية، وقد انتقلت من الإرمية إلى العربية1. وفي الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يمجسانه -أي: يعلمانه دين المجوسية"2. وذكر أن اللفظة قد وردت في بيت شعر جاهلي هو:
أحار أريكَ برقًا هبَّ وهنًا ... كنار مجوس تستعر استعارا
يقال: إن صدر البيت لامرئ القيس وعجزه للتوأم اليشكري، "قال أبو عمرو بن العلاء: كان امرؤ القيس مِعَنّا عريضًا ينازع كل من قال: إنه شاعر، فنازع التوأم اليشكري، فقال له: إن كنت شاعرًا فملّط أنصاف ما أقول وأجِزها، فقال: نعم، فقال امرؤ القيس:
أصاح أرك برقًا هب وهنًا
فقال التوأم:
كنار مجوس تستعر استعارا
__________
1 Shorter Ency., P. 298 غرائب اللغة "269".
2 تاج العروس "4/ 245"، "مجس".(16/349)
فقال امرؤ القيس:
أرِقت له ونام أبو شريح
فقال التوأم:
إذا ما قلتُ قد هدأ استطارا"
على آخر الشعر1. وإذا صح هذا التمليط، تكون هذه اللفظة قد وردت فيه لأول مرة في شعر جاهلي.
ومن الألفاظ التي لها صلة بالمجوسية لفظة "موبذ" و"موبذان"، بمعنى الرئيس الديني للمجوس. من أصل "موبد"، بمعنى كاهن ورجل دين عند الفرس القدماء2.
وفي باب المأكولات والمشروبات وما يتعلق بهما، نجد المعربات عن الفارسية أبرز وأظهر من المعربات المأخوذة من لغة بني إرم، أو من لغة الروم واللغات الأعجمية الأخرى فـ"الباذق"، وهو ضرب من الأشربة، من أصل فارسي، هو "باذه" "باده" بمعنى خمر، أي: شراب مسكر3. ولفظة "باطية" ويراد بها إناء زجاج للشراب، من أصل "بادية" أي: جرة4. و"البالغاء"، بمعنى الأكارع من أصل "بابها" بمعنى أرجل5. و"الجلاب" أي: ماء الورد، من أصل "كُلْ آب"، و"كُلْ" بمعنى ورد، و"آب" بمعنى ماء6. و"الجوزينج" "الجوزينق" من الحلاوات، وتعمل من الجوز. من أصل "كوزينة"7.
و"الخربز" البطيخ، من أصل "خربوزة"8 و"الخشكنان"9، و"الخشكار"،
__________
1 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، "مجس".
2 غرائب اللغة "246".
3 المعرب، للجواليقي "ص81"، غرائب اللغة "ص217"، الخفاجي، شفاء الغليل وما دخل في كلام العرب من الدخيل.
4 المعرب "ص83"، غرائب اللغة "ص218"، الدراسات الأدبية، 1953، الجزء "2 و3"، "ص9"، التبادل اللغوي بين العربية والفارسية، لجلال الدين همايوني، السنة الثانية 1961م، "ص375"، "صور من التعريب ونقل المعاني من الفارسية إلى العربية".
5 المعرب "ص51"، غرائب اللغة "ص218".
6 المعرب "ص106"، ابن حجر، الفتح "1/ 317"، غرائب اللغة "ص223".
7 المعرب "ص99"، غرائب اللغة "ص224".
8 المعرب "ص137"، "غرائب اللغة "ص225".
9 المعرب "ص134".(16/350)
أي خبز مصنوع من قشر الحنطة والشعير، من أصل "خشك"، بمعنى يابس وآرد، بمعنى طحين1. و"خوان" بمعنى مائدة2، و"دوق" بمعنى لبن استخرج زبده، من أصل "دوغ"، بمعنى لبن حامض3 و"فالوذج" "الفالوذ" "الفالوذة"، نوع من الحلواء، من أصل "فالوده" "بولاد"4.
ويذكر أهل الأخبار: أن عبد الله بن جدعان كان يطعم العرب هذا الطعام، فمدح5. و"القند"، السكر6، و"الكعك"، من أصل "كاك"7.
و"اللوزينج" نوع من الحلواء، من أصل لوزينه"8، و"الأنبار" أهراء الطعام، واحدها "نَبْرٌ"، و"أنابير" جمع الجمع9، من أصل "أنباشتن" بمعنى خزن10. و"الدّرمك"، وهو الدقيق الأبيض، أي: لباب الدقيق، و"الجردق"، و"السميذ"11.
و"السكباج"، وهو لحم يطبخ بخل، من أصل "سركه باجة"، و"السكبينج" دواء، وصمغ شجرة بفارس، و"السكرجة" قصاع يؤكل فيها صغار12، و"الزيرباج"، و"الإسفيداج، و"الطباهج"، و"النفرينج" من ألوان الطبيخ13.
وسبب ذلك أن الفرس كانوا أرفع مستوى من بني إرم في الحياة الاجتماعية، وأكثر تقدمًا في الحياة البيتية منهم، فتفننوا في المأكل والملبس، وتنوعوا في المطبخ وافتنّوا في تنويع الأكل، وأوجدوا لكل طعام اسمًا، لم تعرفه لغة بني إرم،
__________
1 غرائب اللغة "ص226".
2 المعرب "ص129"، غرائب اللغة "ص226"، الخفاجي "ص87 وما بعدها".
3 المعرب "ص155"، غرائب اللغة "ص229".
4 المعرب "ص247"، غرائب اللغة "ص239".
5 مجمع الأمثال "2/ 73".
6 المعرب "ص261"، غرائب اللغة "ص241".
7 المعرب "ص297"، غرائب اللغة "ص243".
8 المعرب "ص299"، غرائب اللغة "ص244".
9 المعرب "ص20"، غرائب اللغة "ص217".
10 غرائب اللغة "ص217".
11 المزهر "1/ 275".
12 تاج العروس "2/ 59"، "سكبج".
13 المزهر "1/ 276".(16/351)
لأنهم لم يكونوا يعرفون تلك الأطعمة، وباحتكاك العرب بالفرس وببني إرم الذين اقتبسوا من الفرس بعض تلك المأكولات تعلموا منهم أنواع الأطعمة، وأخذوا منهم أسماءها أيضًا، ودخلت على بعضها الصنعة، لتحويلها وفق قواعد النطق العربي.
وينطبق ما قلته عن المعربات الفارسية في الأكل والمشروبات وما يتعلق بهما، على المعربات من الفارسية في العطور والروائح والطيب وما يتعلق بها، وعلى بعض العوائد الاجتماعية، ولا سيما بين العرب الذين كانوا على اتصال مباشر بالفرس.
فقد تأثروا بحكم هذا الاتصال بهم، واقتبسوا منهم بعض عوائدهم، مثل استخراج ماء الورد المسمى "جلاب"، وهو "ماء الورد" للتطيب به1. وقد وردت لفظة "الجل"، ومعناها الورد في بيت شعر للأعشى2. وكذلك "الجلسان"، وقد ذكر أن "الجلسان" من "كلشان" "كلشن"، أي: ما ينثر من الورد على الحاضرين في العرس، وذكر أنها الورد، أو قبة يجعلون عليها الورد3.
و"القمقم"، قنينة لماء الزهر أو نحوه "قمقمة"4. وتعني لفظة كوكوميون Koukkoumion، وهي "قمقم" وعاء من نحاس لتسخين الماء في اليونانية5.
ولعل إحدى اللغتين قد استعارتها من الأخرى. وقد رجع بعض علماء اللغة اللفظة إلى الرومية، أي: اليونانية، وذكر أن اللفظة وردت في بيت شعر لعنترة6.
و"مسك" من "مشك"7. و"نافجة" وعاء المسك، من أصل "نافه" من "ناف" بمعنى سرة8.
واستعارت العربية من الفارسية ألفاظًا من الألبسة والأنسجة والخياطة، وذلك
__________
1 المعرب "ص106".
2 وشاهدنا الجل والياسمين والمسمعات بقصابها.
المعرب "ص115".
3 المعرب "ص105 وما بعدها، غرائب اللغة "ص223".
4 المعرب "ص260"، غرائب اللغة "ص241".
5 غرائب اللغة "ص226".
6
وكأن ربا أو كحيلا معقدا ... حش الوقود به جوانب قمقم
المعرب "ص260".
7 المعرب "ص325"، غرائب اللغة "ص245".
8 المعرب "ص341"، غرائب اللغة "ص246".(16/352)
مثل "إبريسم" وهي من أصل "أبريشم"1 و"استبرق" من أصل "استبرك"، أي: ثوب حرير مطرز بالذهب2. وقد ذكر علماء اللغة أنها من "استفره" و"استروه"3. و"بركان" "برنكان"، كساء، من "برنيان"4.
و"تخريص" "دخريص" من أصل "تبريز"5، وورد أن "البنيقة" معربة كذلك من أصل "بنيك" في معنى "التخريص" و"الدخريص"6. و"جربان" ويراد بها جيب القميص من أصل "كريبان"7، و"الجوالق"، من أصل "كوال" "جوال"، ومعناها عدل كبير منسوج من صوف أو شعر8.
و"الخسرواني"، وهو الحرير الرقيق الحسن الصنعة، وهو منسوب إلى الأكاسرة، أي: الملوك9. و"الدخدار" وهو الثوب، من أصل "تخت دار"10.
و"الديباج" من أصل "ديوباف" أي: نساجة الجن11، و"السبيج"، وهو قميص بلا كمين ولا جيب، من أصل شبي"، أي: ليلى12. و"سربال"، من أصل "سر بال"13. و"سروال"14. و"الشوذر" الملحلفة والإزار، من أصل "جادر"15. و"الطيلسان" من "طيلسان" "تالسان"16.
و"الفرند"، الحرير من "برند"17. و"الكرباس"، ثوب خشن من "كرباس"18.
__________
1 غرائب اللغة "ص216"، المعرب "ص27".
2 غرائب اللغة "ص216".
3 المعرب "ص15".
4 المعرب "ص56"، غرائب اللغة "ص218".
5 المعرب "ص87، 143"، غرائب اللغة "ص221".
6 المعرب "143".
7 المعرب "ص99"، غرائب اللغة "ص222".
8 المعرب "ص110"، غرائب اللغة "ص224".
9 المعرب "ص135"، غرائب اللغة "ص225".
10 المعرب "ص141"، غرائب اللغة "ص227".
11 المعرب "ص140"، غرائب اللغة "ص229".
12 المعرب "ص182 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص233".
13 غرائب اللغة "ص233".
14 المعرب "ص196"، غرائب اللغة "ص234".
15 المعرب "ص205"، غرائب اللغة "ص237".
16 المعرب "ص227"، الجمهرة، لابن دريد "3/ 413"، غرائب اللغة "ص239".
17 المعرب "ص243"، غرائب اللغة "ص239 وما بعدها".
18 المعرب "ص294"، غرائب اللغة "ص242".(16/353)
وقد عرف الجاهليون ألقاب بعض القادة العسكريين والإداريين في الانبراطوريتين اليونانية والفارسية، فأدخلوها في العربية؛ لأنها ألقاب رسمية نعت بها أولئك الموظفون الكبار، وعرفوا بعض الرتب الكنسية كذلك. فمما دخل إلى العربية من اليونانية واستعمل عند الجاهليين لفظة "بطريق"، من أصل1 Patrikios. وقد وردت في بعض الرسائل المنسوبة إلى الغساسنة، ويراد بها درجة قائد في الانبراطورية البيزنطية. ولفظة "أسقف"، وقد ورد في كتب السير: إن وفد نجران حين قدم على الرسول، كان يتألف من رؤساء المدينة أصحاب الحل والعقد، ويلقبون بـ"السيد" و"العاقب" و"الأسقف". والسيد عندهم صاحب رحلتهم، والعاقب أميرهم وصاحب مشورتهم الذي يصدون عن رأيه، والأسقف حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم2. ولفظة "أسقف" هذه من أصل يوناني هو3 Episkopos.
وأما "قيصر" التي يراد بها في العربية "انبراطور" الروم، أي: ملكهم، فإنها من أصل لاتيني هو "سيسر" Casar. وترد في كتب السير في معرض الكلام على الكتب التي أرسلها الرسول إلى الروم والفرس والحبشة وبعض الأمراء4.
ومن المصطلحات المأخوذة من الفارسية في هذا الباب، "الأسوار"، وهو الرامي، وقيل: الفارس، وقائد الفرسان5، من أصل "أسب سوار"، و"اسب" الحصان، و"سوار" على ظهر أي راكب، ومعناها راكب الحصان أي: فارس6، وتجمع "أسوار" على "أساورة". وترد في الكتب أحيانًا مضافة "أساورة الفرس"، وتجمع على "أساور" و"أساورة" أيضًا، وقد وردا جميعًا في الشعر7.
وأما "الأشائب"، ومفردها "أشابة"، فمعناها الأخلاط من الناس من
__________
1 غرائب اللغة "ص255".
2 طبقات ابن سعد "1/ 257".
3 غرائب اللغة "ص252".
4 طبقات ابن سعد "1/ 259".
5 الجواليقي "ص20 وما بعدها"، الجمهرة "2/ 215"، اللسان "7/ 51".
6 غرائب اللغة "ص216".
7 الجواليقي "ص20 وما بعدها".(16/354)
أصل "آشوب". وذكر أنها عربية خالصة، من "أشب الشيء" بمعنى خلطه1.
وترد لفظة "أنبار" و"الأنبار"، وتعني: أهراء الطعام ويقال للواحد: "نبر" أيضًا وأما "الأنابير" جمع الجمع. وقد اشتهر موضع "الأنبار" على نهر الفرات على مقربة من الفلوجة، وكان مأهولًا بالعرب عند ظهور الإسلام، وقد ذكرت في الجزء الأول من هذا الكتاب أن بعض أهل الحجاز ينسب أخذ أهل مكة الكتابة إلى قوم منهم ذكروا أنهم تعلموها من أهل الأنبار2.
و"الإيوان" في العربية، الرواق. وهو مكان متسع من بيت تحيط به ثلاثة حيطان، من أصل "أيوان"3 eyvan. وأما "الدهقان"، فحاكم إقليم، من "ده" بمعنى ضيعة و"خان" بمعنى رئيس قبيلة، وذلك في الفارسية القديمة. وقد وردت اللفظة في بيت شعر للأعشى. وتجمع على "دهاقين"4.
وأما "كسرى"، فملك من ملوك الفرس، وهو "خسرو" Khosrw في الفارسية. ولكن الجاهليين جعلوا اللفظة لقبًا لملوك إيران، يقابل "شاه" أي: الملك، وصارت عندهم مثل: "قيصر" للروم، وتُبَّع لليمن، والنجاشي للحبشة5. وأما "المرزبان"، فالرئيس من الفرس، وتفسيرها "حافظ الحدّ" في مقابل حاكم ووالي ولاية، وتجمع على "المرازبة"6.
وأما لفظة "الهربذ" وتجمع على "الهرابذة"، فخادم النار عند المجوس. وقيل: رئيس خدام النار الذين يصلون بالمجوس، وقد تكلمت بها العرب قديمًا. وقد وردت هذه اللفظة في بيت شعر لامرئ القيس7. وأما "موبذ" و"موبذان" فحاكم المجوس، بمثابة القاضي عند المسلمين، من "موبد" وهو الكاهن ورجل دين عند المجوس8.
__________
1 الجواليقي "ص27". غرائب اللغة "ص216".
2 الجواليقي "ص20، 29". غرائب اللغة "ص217".
3 الجواليقي "ص19"، غرائب اللغة "ص217".
4 الجواليقي "ص146"، اللسان "17/ 21"، غرائب اللغة "ص229".
5 الجواليقي "271، 282"، غرائب اللغة "ص242".
6 الجواليقي "ص317"، غرائب اللغة "ص245".
7 الجواليقي "ص351"، غرائب اللغة "ص248".
8 غرائب اللغة "ص246".(16/355)
أما أسماء النقود، فإنها معربات يرجع أصلها إلى الفارسية أو اليونانية أو اللاتينية. فقد كان الجاهليون يتعاملون مع الفرس والأرضين الخاضعة للإنبراطورية الرومية، ولهذا تعاملوا بنقود هاتين الإنبراطوريتين. وهي نقود مضروبة من المعادن. وتعاملوا بها في بلادهم أيضًا كما نتعامل نحن بالنقود الأجنبية فـ"النّمّيّ" مثلًا هي فلوس رصاص كانت تتخذ أيام ملك بني المنذر، يتعاملون بها في الحيرة، هي من أصل رومي، أي: يوناني، هو noummiyon. وقد وردت في بيت للنابغة:
وقارفت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنّمّيّ سفسير1
وقد نسب هذا البيت لأوس بن حجر أيضًا2.
فيظهر من ذك أن "بني المنذر" كانوا قد أخذوا اللفظة من اليونانية، أي: من نقود نحاس ضربها الروم، فضربوها هم في الحيرة، وتعامل بها الناس.
وأما "الدينار"، وهو نقد كان معروفًا متداولًا بين الجاهليين، مستعملًا في أسواق مكة وبقية مواضع الحجاز وجزيرة العرب عند ظهور الإسلام. وقد ذكر في القرآن الكريم3، فإنه نقد روماني يساوي عشرة دراهم، ويعرف بـ denarius في اللاتينية4.
وأما "الدرهم" فاسم نقد يوناني، يسمى دراخمي dhrakhmi في اليونانية، وقد شاع استعماله إذ ذاك. وقد وردت التسمية في بيت شعر هو:
وفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم5
ويفيد هذا البيت أن الحكومة كانت تأخذ إتاوة من الأسواق من التجار والباعة، وأن ما يباع يدفع عنه مكس، قدره درهم6.
__________
1 الجواليقي "ص185"، اللسان "15/ 343"، غرائب اللغة "ص271".
2 الجواليقي "ص185، 330".
3 آل عمران، الآية 75 {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَار} .
4 الجواليقي "ص139"، غرائب اللغة "ص278"، "وقيل: أصله بالفارسية دين آراي: الشريعة جاءت به"، المفردات في غريب القرآن "ص171".
5 الجواليقي "ص148".
6 "الدرهم الفضة المطبوعة المتعامل بها"، المفردات في غريب القرآن "ص168".(16/356)
ولفظة "مكس"، هي أيضًا من الألفاظ المعربة، عربت من أصل "مكسو" Makso في لغة بني إرم1.
و"الدانق" نقد أخذت تسميته من الفارسية، من "دانك"2. وقد بقي مستعملًا في الإسلام. وقد عرف الخليفة "أبو جعفر المنصور" بـ "الدوانيقي" نسبة إلى هذا النقد.
وأما "الفلس" وتجمع على "فلوس"، فإنه نقد من نحاس، وأصله في اليونانية "فولس"3 follis. وقد عبر عنه بمعنى نقود أيضًا، فقيل في العامية: "فلوس"، وقصد بها نقود.
ومن المعربات المستعملة في تقويم النقد وفصحة، لفظة "شقل" بمعنى الوزن4، أي: وزن النقد لمعرفة مقدار معدنه المؤلف منه. ولفظة "قسطار"، ومعناها ناقد الدراهم، أي: الناقد الماهر العارف بالنقد، من أصل لاتيني هو5 quaestor.
وتظهر هذه المعربات أن أهل الحجاز ونجد والعرب الشماليين كانوا قد استعملوا النقد البيزنطي والساساني في أسواقهم وفي تجارتهم، وكانوا عالة على الأعاجم في استعمال النقد. وذلك مما يدل على أن تعاملهم التجاري مع الإنبراطوريتين كان وثيقًا. وقد بقيت هذه النقود الأعجمية مستعملة في الإسلام كذلك، وبقيت أسماؤها حية حتى بعد تعريب النقد، ولا يزال اسم الدينار والدرهم والفلس إلى هذا اليوم.
أما العرب الجنوبيون، فكان لهم نقد خاص بهم. تحدثت عنه في الجزء الثامن من كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام. وقد ذكرت أن بعض العلماء رجع تأريخ أقدم نقد عربي جنوبي عثر عليه سنة "400" قبل الميلاد6. ويظهر أن أهل الحجاز لم يتعاملوا به كثيرًا، بدليل عدم وجود ذكر له في المؤلفات الإسلامية، وفي الأخبار الواردة عن أيام الرسول. وقد ذكرت أن أسماء تلك النقود أسماء
__________
1 غرائب اللغة "ص206".
2 الجواليقي "ص145"، غرائب اللغة "ص227".
3 غرائب اللغة "ص263".
4 غرائب اللغة "ص191".
5 الجواليقي "ص263"، غرائب اللغة "ص279".
6 الجزء الثامن "ص200 وما بعدها".(16/357)
عربية جنوبية لا صلة لها بأسماء النقود التي تحدثت عنها، ومن تلك الأسماء:
"بلط" ويجمع على "بلطات"، وهو اسم نقد من ذهب. و"خبصت" "خبصة"، نقد من نحاس، و"رضى"، قيل: إنها اسم نقد، وقيل: إنها صفة للنقد. بمعنى رضية وصحيحة غير مزيفة ولا منقوصة، لأن النقد كان على أساس الوزن والنوع في ذلك العهد. وذكرت أيضًا بعض الألفاظ التي استعملوها في الصيرفة وفي نقد النقود.
ومن الألفاظ اللاتينية التي دخلت إلى العربية "لبرجد"، وهو ثوب مزدان بالذهب، وثوب غليظ مخطط من أصل1 Paragauda. و"برذون" من أصل burdo وBurdonis2، و"دينار" من أصل denarius، وهو نقد من المعدن3، و"سجل" وقد تحدثت عنها4 و"سجلاط" من أصل "سجلاّطس" sigillatun، ثياب كتّان موشاة، وكأن وشيها خاتم وتزدان بصورة صغيرة5.
و"سجنجل"، وتعني المرآة، أو سبيكة فضة مصقولة، استعملت استعمال المرآة، من أصل sexaangulus التي تعني "المسدس الزوايا" في اللاتينية. وقد وردت في بيت لامرئ القيس6. و"الصراط"، بمعنى الطريق، من أصل لاتيني هو strata بمعنى طريق كبير مبلط7. وقد عرف الرومان ببراعتهم في شق الطرق العسكرية لاستعمالها في التجارة وفي الأغراض العسكرية. و"الصاقور" الفأس لكسر الحجارة، من أصل لاتيني هو8 securis.
ويظهر أثر الأخذ من اليونانية واللاتينية والفارسية والآرمية في المكاييل والموازين كذلك، وذلك عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشأم. أما عرب الجنوب فقد كانت لهم أسماء للمكاييل والموازين خاصة بهم، اختلفت عن الأسماء المستعملة عند العرب الشماليين المذكورين وذلك كما تحدثت عنها في الموضوع الخاص بالمكاييل
__________
1 غرائب اللغة "ص277".
2 غرائب اللغة "ص277".
3 الجواليقي "ص139"، غرائب اللغة "ص278".
4 "والسجيل، حجر وطين مختلط، وأصله فيما قيل فارسي"، المفردات في غريب القرآن "ص223".
5 الجواليقي "ص184"، غرائب اللغة "ص278".
6 الجواليقي "ص179"، غرائب اللغة "ص278".
7 غرائب اللغة "ص278".
8 غرائب اللغة "ص278".(16/358)
والموازين عند الجاهليين في الجزء الثامن من كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام1.
ومن هذه المعربات "المُدّ"، وهو نوع مكيال للحبوب، وهو من أصل لاتيني هو2 Modius و"الجريب"، من أصل إرمي هو "جريبو"3 Gribo.
و"الرطل" من أصل يوناني هو:4 Litra، و"الأوقية" من أصل يوناني هو5 Uncia, Ounguiya، و"مثقال" من أصل matqolo، وهو وزن في الإرمية6. و"قيراط"، وهو جزء من أربعة وعشرين من أجزاء شيء، أو حبة واحدة من أربعة وعشرين حبة وكان القدماء يزنون بالحب. واللفظة من أصل يوناني هو7 keration. و"قنطار"، وهو مئة رطل، من أصل لاتيني هو8 Centenarum pondus. و"الكر"، وهو ستة أوقار حمار، وهو مكيال لأهل العراق، وقد ورد ذكره في الحديث، هو "كرو" Keureo في لغة بني إرم9. وغير ذلك من أسماء ذكرتها في الجزء الثامن من هذا الكتاب.
ولا حاجة بنا إلى إعادة ذكرها.
وأخذت العربية من اللغة "السنسكريتية" بعض الألفاظ الخاصة بالمحاصيل الخاصة بالهند، مثل الفلفل وبعض الأسماء المتعلقة بالتوابل والعقاقير والأطياب والجواهر10.
وقد أشار علماء اللغة إلى ألفاظ شائعة على الألسنة، لكنها أعجمية الأصل تأتي في نوع المعرب. ذكر "الثعالبي" أمثلة منها في كتابة "فقه اللغة"، وقال عنها: إنها "أسماء فارسيتها منسية وعربيتها محكية مستعملة، هي: الكف،
__________
1 "الصفحة 410 وما بعدها".
2 غرائب اللغة "ص280".
3 غرائب اللغة "ص176".
4 غرائب اللغة "ص258".
5 العرب قبل الإسلام "8/ 414"، Ency. Islam, II, P. 1025
6 غرائب اللغة "ص176".
7 غرائب اللغة "ص267".
8 غرائب اللغة "ص279".
9 العرب قبل الإسلام "8/ 419".
غرائب اللغة "ص203".
10 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 205".(16/359)
الساق، الفرش، البزّاز، الوزّان، الكيّال، المسّاح، البيّاع، الدلاّل، الصرّاف، البقال، الجمّال، الحمّال، القصاب، البيطار، الرائض، الطرّاز، الخراط، الخياط، القزّاز، الأمير، الخليفة، الوزير، الحاجب، القاضي، صاحب البريد، صاحب الخبر، السقّاء، الساقي، الشرّاب، الدخل، الخرج، الحلال، الحرام" إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتابه وفي كتب اللغة التي نقلت منه1.
وفي بعض الذي ذكره، ما هو فارسي حقًّا، أو من مصدر أعجمي آخر، لم يعرفه "الثعالبي"؛ لأنه لم يعرف من اللغات الأعجمية غير الفارسية، فنسب أصل تلك الألفاظ إليها، ولكن البعض الباقي هو عربي، ما في أصله العربي من شك، ولا يمكن أن يكون من المعربات.
ونجد في المعاجم وفي كتب اللغة كلامًا عن هذه المعربات، ففي كتاب "المزهر" وكتب اللغة المعتبرة صفحات نص فيها على الألفاظ المعربة من مختلف اللغات2.
فلا أرى بي حاجة هنا إلى ذكر تفاصيل أخرى عن الألفاظ المعربة بتفصيل كل ما نص عليه العلماء من المعربات. ولكني أود أن أبين أن علماء اللغة لم يكونوا على علم باللغات الأعجمية، ولذلك لم يتمكنوا من رجع المعربات إلى أصولها الحقيقية، فأخطأوا في ذكر الأصول. ونظرًا إلى أن فيهم من كان يتقن الفارسية فقد رجع أصول كثير من الألفاظ إلى أصل فارسي، لأنه وجد أن الفرس نطقوا بها، ولم يعلموا أنهم أخذوها هم بدورهم من غيرهم، فصارت من لغة الفرس، أو أنهم وجدوا بعض الألفاظ قريبة من أوزان الفارسية للكلمات، فظنوا أنها فارسية، مع أنها من أصل آخر. وفعل بعض منهم ذلك عصبية منهم إلى الفارسية؛ لأنهم من أصل فارسي، فتمحلوا لذلك تكثيرًا لسواد المعربات من لغة الفرس وتعصبًا لهم3.
وفي شعر الأعشى معربات عديدة مقتبسة من الفارسية، قد يكون أخذها من عرب الحيرة وبقية عرب العراق، وقد يكون أخذها من الفرس مباشرة لاتصاله
__________
1 المزهر "1/ 123".
2 المزهر "1/ 275 وما بعدها".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 206".(16/360)
واختلاطه بهم في العراق، واقتبسها إما ليحكي عما شاهده ورآه في العراق، فاستعمل الألفاظ الفارسية الشائعة هناك، وإما أن يكون قد تعمد إدخالها في شعرها لُيري الناسَ أنه حاذق بثقافة الفرس واقف على حضارتهم ولغتهم، كالذي يفعله بعض من يدرس في بلاد الغرب من استعماله ألفاظًا أعجمية في لغته ليلمح للناس بأنه قد تثقف بثقافة الأجانب، وتلك في نظره ميزة يفتخر بها على الناس.
وقد زعم أن الأعشى رحل إلى بلاد بعيدة، فبلغ عمان وحمص وأورشليم وزار الحبشة وأرض النبيط وأرض العجم، وقد ذكر ذلك في بيتين من الشعر1. وإلى زيارته هذه للعراق ولأرض العجم ينسب أهل الأخبار ورود الألفاظ الفارسية في شعره.
وفي بعض المعجمات وكتب اللغة مثل لسان العرب والمعرب للجواليقي، أبيات للأعشى يرد فيها وصف لأحوال الفرس وعرب العراق، وقد استعمل فيها ألفاظًا فارسية لها مناسبة وصلة بذلك الوصف. منها ما يتعلق بالملابس، ومنها ما يتعلق بالأشربة والخمور والأفراح، ومنها ما يتعلق بالمناسبات مثل الغناء والأعياد2.
وشاعر آخر نجد في شعره معربات فارسية، هو "عدي بن زيد العبادي".
وهو من أهل الحيرة، المقربين إلى ملوكها وإلى الفرس، الحاذقين بالعربية وبلغة الفرس. وقد كان كاتبًا باللغتين، كما كان أبوه بليغًا باللسانين، وتولى رئاسة ديوان العرب عند الأكاسرة. وهو نصراني، ولهذا استعمل في شعره ألفاظًا نصرانية اقتبست من السريانية، وأشار بحكم نصرانيته على عادات نصرانية، كما كان حضريًّا مترفًا غنيًّا أدخل إلى بيته وسائل الترف والراحة المعروفة في ذلك اليوم، ولهذا فإن لجمع شعره جمعًا تامًّا ونقده وتحليله واستخراج صحيحه من منحوله أهمية كبيرة في إعطاء رأي عن الحياة الفكرية والثقافية لعرب العراق قبيل الإسلام.
وبعد، فإن اللغة التي بحثت عن وجود المعربات فيها، هي اللغة العربية التي
__________
1
وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوريشلم
أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم
راجع ديوان الأعشى، المعرب "ص32".
2 المعرب "ص16، 18، 53، 72، 79" ومواضع أخرى.(16/361)
نزل القرآن بها. أما اللهجات والألسنة العربية الجنوبية، فإن أثر هذه المعربات فيها كان قليلًا، ونجد في كتاباتها ألفاظًا عربية جنوبية، مكان تلك المعربات.
ومعنى هذا بُعد تلك اللهجات عن المؤثرات الأعجمية الشمالية. وسبب ذلك رقي المتكلمين بها، وتقدمهم في الحضارة بالقياس إلى بقية سكان جزيرة العرب وإلى ابتكارهم أنفسهم لكثير من الأشياء، فكان من الطبيعي أن تكون أسماؤها بلغة الصانعين لها.
ولدي ملاحظة، هي أن وجود المعربات في العربية الحجازية، يدل دلالة صريحة واضحة، على أن المتكلمين بها كانوا قد تأثروا بالحضارات الشمالية أكثر من تأثرهم بإخوانهم العرب الجنوبيين، وأن اتصالهم الفكري كان بالشمال أكثر منه بالجنوب، ولا يقتصر هذا التأثر على المعربات فقط، بل يشمل كل المؤثرات الثقافية الأخرى، كالذي رأيناه في مواضع متعددة من الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب. فكأننا أمام ثقافتين مختلفتين وشعبين متباينين، بالرغم من اتصال حدود الحجاز باليمن، وقرب المسافة بينهما، حتى اللغة نجد بونًا شاسعًا بينها وبين اللغات العربية الجنوبية، وهذا ما حمل بعض العلماء على القول: ما لغة حمير بلغتنا، ولا لسانهم بلساننا، ففرق بين اللسانين.
أما "أمية بن أبي الصلت" فقد وردت في شعره معربات من أصل سرياني في الغالب، يظهر أنه أخذها من المنابع النصرانية التي قيل: إنه وقف عليها. فقد ذكر أنه كان قد قرأ كتب أهل الكتاب، ووقف على أخبارهم وعقائدهم، وإن اتصاله بهم أثر في رأيه الذي كونه لنفسه في الأديان. وأرى أن من اللازم توجيه العناية لدراسة ما تبقى من شعره للوقوف على أصوله، وعلى درجة تأثره بالتيارات الفكرية والآراء الدينية لأهل الكتاب، وعلى الألفاظ المعربة عن السريانية أو غيرها التي ترد في شعر هذا الشاعر، وذلك بعد التأكد من صحة الشعر.
ومن المعربات الواردة في شعر "أمية" لفظة "تلاميذ" جمع تلميذ، وذلك في هذا الشعر المنسوب إليه:
والأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها مقامتنا وفيها نولد
وبها تلاميذ على قذفاتها ... حُبسوا قيامًا فالفرائص ترعد(16/362)
وفي هذا الشعر:
صاغ السماء فلم يخفض مواضعها ... لم يتنقص علمه جهل ولا هرم
لا كشفت مرة عنّا ولا بليت ... فيها تلاميذ في أقفائهم دغم
وذكر أن "المتلمد" الواردة في شعر ينسب له أيضًا، بمعنى متلمذ، وأن لفظة "التلاميذ" قد ترخم في الشعر على "تلام"، كما جاء في شعر "الطرماح"، و"غيلان بن سلمة" الثقفي، وهو من الشعراء المخضرمين1. ووردت لفظة "التلاميذ" في شعر لبيد، في هذا البيت:
فالماء يجلو متونهن كما ... يجلو التلاميذ لؤلؤًا قشبا2
وقد ذكر علماء اللغة أن التلاميذ: غلمان الصاغة. وهي فارسية3.
__________
1 رسالة التلميذ، للبغدادي، نوادر المخطوطات "المجموعة الثانية" "ص221 وما بعدها".
2 شرح ديوان لبيد "ص31"، القصيدة رقم4، البيت20.
3 شرح ديوان لبيد "31"، رسالة التلميذ "221".(16/363)
معرفة المعرب:
قال علماء العربية: تعرف عجمة الاسم بوجوه:
1- النقل بأن ينقل ذلك أحد أئمة العربية.
2- خروجه عن أوزان الأسماء العربية نحو إبريسم، فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي.
3- أن يكون أوله نون ثم راء نحو نرجس، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
4- أن يكون آخره زاي بعد الدال، نحو مهندز، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
5- أن يجتمع فيه الصاد والجيم، نحو الصولجان والجص.(16/363)
6- أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو المنجنيق، والجردقة، والجرموق، والجوسق، والجلاق، وجلنبق.
7- أن يكون خماسيًّا أو رباعيًّا عاريًا عن حروف الذلاقة، وهي: الباء، والراء، والفاء، واللام، والميم، والنون. فإنه متى كان عربيًّا، فلا بد أن يكون فيه شيء منها. نحو سفرجل، وقِرطَعْب، وجحمرش.
هذا وقد تتبع بعض علماء العربية كلام العرب، فوجدوا بعض حالات إذا اجتمعت فيها حروف معينة دلت على أصل أعجمي، من ذلك قولهم:
1- الجيم والتاء لا تجتمعان في كلمة من غير حرف ذي لقيّ، ولهذا ليس الجبت من صميم العربية.
2- الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية، ولهذا كان الطاجن والطيجن مولدين، لأن ذلك لا يكون في كلامهم الأصلي.
3- لا تجتمع الصاد والطاء في كلمة من لغتهم، أما الصراط، فصاده من السين.
4- يندر اجتماع الراء مع اللام إلا في ألفاظ محصورة: كوَرَل ونحوه.
5- قال "البطليوسي": لا يوجد في كلام العرب دال بعدها ذال إلا قليل، ولذلك أبى البصريون أن يقولوا: بغداذ.
6- ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة، الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات1.
__________
1 المزهر "2/ 268 وما بعدها"، الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 202 وما بعدها".(16/364)
أقسام الأسماء الأعجمية:
"قال أبو حيان في الارتشاف: الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: قسم غيرته العربُ وألحقته بكلامها فحكم أبنيته في اعتبار الأصل والزائد والوزن حكم(16/364)
أبنية الأسماء العربية الوضع، نحو درهم وبهرج. وقسم غيرته ولم تلحقه بأبنية كلامها، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في القسم الذي قبله، نحو آجر وسفسير. وقسم تركوه غير مغير، فما لم يلحقوه بأبنية كلامهم لم يعد منها، وما ألحقوه بها عدّ منها؛ مثال الأول خراسان، لا يثبت به فُعالان، ومثال الثاني: خُرَّم ألحق بسُلّم، وكُركُم ألحق بقُمقُم1.(16/365)
إبدال الحروف:
وهناك حروف لا تتكلم بها العرب إلّا ضرورة، فإذا اضطروا إليها حوّلوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف إلى مخارجها، وذلك كالحرف الذي بين الباء والفاء مثل "بور" إذا اضطروا قالوا: "فور". لأن "بور" ليس من كلام العرب. وحرف "ب" حرف غير عربي. وقد يحولون الـ "ب" إلى "ب"، كما في "سابور"، وأصله "شابور".
وقد يحول حرف الـ "ب" إلى "P" إلى "ف" عند تحويل الأعلام الأجنبية إلى عربية. مثل Platon، اسم الفيلسوف اليوناني، "427-347 ق. م" الذي حول إلى"أفلاطون". وذلك بتحويل حرف "الباء" إلى "ف"، وبتحويل حرف "التاء" إلى "طاء". وقد اتبع المعربون قاعدة تحويل "التاء" الواردة في الأعلام الأعجمية إلى حرف "طاء". في الغالب، فحول Aristoteles "384 – 322 ق. م" إلى "أرسطوطاليس". وPlotinos الإسكندري "205 – 270م"، إلى "فلوطين" ولو زالت هذه الطريقة معروفة فـ"تهران" عاصمة إيران، هي "طهران".
والعرب يعربون الشين سينًا، فيقولون: نيسابور، وهي نيشابور. وقد أبدلو بالإضافة إلى حرف "الشين" حرف "الياء" "باء". فالأصل "نيشايور"، ومثل ذلك: "سابور"، فالأصل هو "شايور".
"وقال بعضهم: الحروف التي يكون فيها البدل في المعرب عشرة: خمسة يُطرد إبدالها، وهي: الكاف، والجيم، والقاف، والباء، والفاء. وخمسة(16/365)
لا يطرد إبدالها، وهي: السين، والشين، والعين، واللام، والزاي.
فالبدل المطرد: هو في كل حرف ليس من حروفهم كقولهم: كُرْبج، الكاف فيه بدل من حرف بين الكاف والجيم، فأبدلوا فيه الكاف؛ أو القاف نحو قربق. أو الجيم نحو جَوْرب، وكذلك فِرند هو بين الباء والفاء فمرّة تبدل منها الباء ومرّة تبدل منها الفاء. وأما ما لا يطرد فيه الإبدال، فكل حرف وافق الحروف العربية كقولهم إسماعيل أبدلوا السين من الشين، والعين من الهمزة، وأصله إشمائيل. وكذلك قفشليل أبدلوا الشين من الجيم واللام من الزاي، والأصل قفجليز. وأما القاف في أوله فتبدل من الحرف الذي بين الكاف والجيم"1.
__________
1 المزهر "1/ 274".(16/366)
الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر
مدخل
...
الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر
النثر هو الكلام المرسل الذي لا يتقيد بالوزن والقافية، وهو الجزء المقابل للشعر، من أجزاء الكلام. وهو أقدر من الشعر على إظهار الأفكار وعلى التعبير عن الرأي، وعلى الإفصاح عن علم ومعرفة، لكونه كلامًا مرسلًا حرًّا لا يتقيد بقيود، خاليًا من الوزن والقافية ومن المحافظة على القوالب، إلا أنه دون الشعر في التأثير في النفوس وفي اللعب بالعواطف، لما في الشعر من سحر الوزن والقافية، والإنشاد بأنغام متباينة مؤثرة، لا سيما إذا ما اقترن بعزف على آلات طرب.
ولوجود القافية والوزن في الشعر، ولكونه أبياتًا، سهل حفظه، وصار من الممكن خزنه في الذاكرة أمدًا طويلًا، ومن هنا امتاز على النثر، الذي لا يمكن حفظه بسهولة، ولا خزنه في الذاكرة، لعدم وجود مقومات الخزن المذكورة فيه.
والنثر الذي نقصده ونعنيه، هو النثر الذي يبحث عنه مؤرخ الآداب، لكونه قطعة فنية، تعبر عن عاطفة إنسانية، وعن مظاهر الجمال والذوق والتأثير في النفوس، فيه صياغة وفن في حبك القول، وتفنن في طرق العرض، وإغراء في تنميق الكلم ودبج الكلمات، وحلاوة وطراوة وسحر وبيان، فهو كلام عال لا يشبه كلام العامة، ولا مما يتخاطب به الناس، ولا مما يتعامل به في التجارة والمكسب أو في الدوائر، وإنما هو من قبيل كتب الأدب، ومن قبيل الأمثال والخطابة والمراسلات الأدبية وما شاكل ذلك من وجوه. ولهذا، نستبعد من هذا النثر، ما وصل إلينا من نصوص جاهلية، لأنها كتبت في أغراض أخرى،(16/367)
كتبت في تقديم نذور، وفي معاملات: من بيع وشراء، وتثبيت ملك، أو تحديد حدود، أو في قوانين وأوامر، ولم تكتب في أغراض أدبية خالصة.
وبين أيدينا خطب طويلة ومتوسطة وقصيرة، نسبها الرواة إلى خطباء جاهليين، زعموا أنهم كانوا في أيامهم آية في الفصاحة والبلاغة والبيان، وأساطير وقصص زعم أهل الأخبار أنها أخبار صحيحة وروايات مروية، وأصول منافرات ومفاخرات ومعاتبات ومشاتمات، زعموا أنها جرت في الجاهلية، وانتقلت أصولها بنصها وفصها وحروفها وكلمها من رواتها إلى الإسلاميين، فدوّنت في كتبهم، كما رووا حكمًا وأمثالًا وأقوالًا، زعموا أنها لحكماء من أهل الجاهلية حفظها الناس حفظًا، ورووها رواية رجلًا عن رجل، وجيلًا عن جيل، حتى وصلت مرحلة التدوين. وكل هذا المسجل الذي نتحدث عنه، هو من مدوّنات أهل الإسلام، ليس فيه من مدوّنات أهل الجاهلية أي شيء.
وبين هذا النثر، خطب منمقة مزوّقة، نسبت إلى ملوك وسادات العرب البائدة، الذين بادوا قبل الإسلام بعهد طويل، ومات معهم أدبهم بالطبع، وخطب نسبت إلى التبابعة، وقد هلكوا أيضًا قبل الإسلام، وكلام نسب إلى أنبياء جاهليين، وإلى الجن أيضًا، رواه أهل الأخبار، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الإفصاح عن كيفية وصول تلك الخطب وذلك الكلام إليهم، مع أنهم كرروا القول بأن كلام بعضهم كان كلامًا آخر يخالف كلامنا، وأن عربيتهم لا تشاكل عربيتنا، فكيف نقلوها ودوّنوها إذن في الإسلام؟ إن نثرًا من هذا النوع هو نثر مصطنع بالطبع صنع على لسان أولئك الماضين، من غير شك ولا شبهة، فهو من هذه الناحية مكذوب مرفوض.
وأما النثر المنسوب إلى العرب الذين عاشوا قبيل الإسلام، أو أدركوا الإسلام، فالصحيح فيه أقل من المصنوع، خاصة نصوص الخطب والحكم والمواعظ، والقصص والأيام، والوفادات والخطب الطويلة؛ لأن من المستحيل على الذاكرة، حفظ الكلام المنثور بالحروف والكلمات حفظ أشرطة التسجيل له أو للغناء أو الموسيقى، مهما وهب الله تلك الذاكرة من قوة في قدرة الأخذ والحفظ. ثم هي إذا حفظته اليوم، فلا بد وأن تتعثر به غدًا، ثم يزداد تعثرها به بعد ذلك. هذا رسول الله يذكر "قس بن ساعدة الإيادي"، فيقول: "رحم الله قسًّا كأني أنظر(16/368)
إليه على جمل أورق، تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه"1، وإذا راجعت نص خطبة "قس" في الموارد، تجد الرواة على اختلاف شديد فيما بينهم في ضبط نصها2، وهذا حديث رسول الله التام، أي: المروي بالنص، وبالطرق الصحيحة تراه يرد أحيانًا بعبارات مختلفة مع اتحاد المعنى، مما يدل على أن رواته قد أجهدوا أنفسهم جهد طاقتهم في حفظه، لكنهم عجزوا عن حفظه حفظ الكتاب للمكتوب.
خذ صيغ التشهد في الصلاة مثلًا، وهي قصيرة العبارة، لا طول فيها، تجد الصحابة والفقهاء يختلفون مع ذلك في ضبطها، فترى نص تشهد "ابن مسعود" يختلف بعض الاختلاف عن نص تشهد "ابن عباس"، وعن نص تشهد "عمر"، وعن نص تشهد "أبي سعيد الخدري"، وعن تشهد "جابر"، مع قول "ابن مسعود": "علمني رسول الله التشهد وكفّي بكفّه، كما يعلمني السورة من القرآن"، وقول "أبي سعيد الخدري": "وكنّا لا نكت إلا القرآن والتشهد"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"3، بل خذ القرآن، وهو كتاب الله المحفوظ المدوّن، الذي حفظه بعض الصحابة، وتلوه على الرسول، وحرصوا على المحافظة على نصه حرصهم على حياتهم، بل أشدّ منها، ودوّنوه ساعة الوحي، وأمام الرسول، ظهرت مع ذلك فيه قراءات، بسبب اختلاف مدارك الصحابة في فهمه وفي حفظه، وبسبب اللهجات وعيوب الخط، فإذا
كان هذا ما حدث في أيام الرسول وبعد وفاته بقليل، وقد وقع في أعز كلام بالنسبة للمسلمين، فهل يعقل بعد، التصديق بصحة النصوص المروية لخطب طويلة، زعم أنها قيلت في قصور كسرى، أو بحضرة ملوك الحيرة، أو الغساسنة، أو تبابعة اليمن، أو الكلام المروي عن قوم عاد وثمود، وقوم لوط، وغيرهم وغيرهم ممن هلكوا وبادوا قبل الإسلام بزمن طويل.
ثم كيف نصدق بخطب زعم أنها قيلت في الجاهلية، مثل خطبة "النعمان بن المنذر" أمام كسرى، أو خطب الوفد الذي أرسله هذا الملك إلى "كسرى" ليكلمه في أمر العرب4، وهي خطب طويلة منمقة، على حين يذكر العلماء أن
__________
1 الإصابة "3/ 265"، "رقم 7343".
2 الجزء السادس من هذا الكتاب "ص464 وما بعدها".
3 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "82 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "1/ 147 وما بعدها".(16/369)
"الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رويت بالمعنى".
وسبب ذلك، أنهم وجدوا أن من غير الممكن إثبات النص بالرواية من غير تبديل ولا تغيير قد يقع عليه، وخشية وقوع هذا الخطأ في كلام الرسول، وهو أعز كلام، وعليه تترتب الأحكام في الحلال والحرام، جوّزوا الرواية بالمعنى. ولهذا تركوا الاستشهاد بالحديث "على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب1"، ولو وثق العلماء من أن لفظ الحديث، هو لفظ الرسول حقًّا "لجرى مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم لم يقل بتلك الألفاظ جميعها، نحو ما روي من قوله: زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك من القرآن، خذها بما معك من القرآن، وغير ذلك من الألفاظ الواردة، فتعلم يقينًا أنه صلى الله عليه وسلم، لم يتلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا يجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظًا مرادفًا لهذه الألفاظ، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه إذ المعنى هو المطلوب، ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ. والضابط منهم من ضبط المعنى. وأما من ضبط اللفظ فبعيد جدًّا، لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم يروون بالمعنى"2.
"وفي سنن الترمذي، عن مكحول عن واثلة بن الأسقع قال: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم، ورواية الذهبي في سير أعلام النبلاء: إذا حدثتكم بالحديث على معناه فحسبكم"3.
لقد وجد الصحابة أن من الصعب عليهم حفظ كلام الرسول بالنص والحروف، وهم معه في كل وقت، يحدثهم ويحدثونه، فيشق عليهم ضبط كلامه، وهم لا يكتبونه ولا يكررونه عليه، وليس من الممكن أن يجلس رسول الله، ثم يطلب من أصحابه إعادة كل كلام كلمهم به، فسأله أحدهم: "يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك، يزيد حرفًا أو ينقص
__________
1 خزانة الأدب "1/ 5"، "طبعة بولاق".
2 خزانة الأدب "1/ 5 وما بعدها"، "بولاق"، أعلام النبلاء، للذهبي "3/ 259".
3 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "81".(16/370)
حرفًا. فقال: إذا لم تحلّوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس"1.
وكان من الصحابة من يروي حديثه تامًّا، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصرًا، وبعضهم يغاير بين اللفظتين ويراه واسعًا إذا لم يخالف المعنى.
وروي عن "مكحول"، "قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع، فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله ليس فيه لا تزيد ولا نسيان! فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئًا؟ فقلنا: نعم، وما نحن له بحافظين جدًّا. إنا نزيد الواو والألف وننقص، فقال: هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظًا، وأنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عله وسلم، عسى ألا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة؟ حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى.
وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة هكذا بغير إسناد، وإنما جاء هذا من جهة حفظه، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون، ومن كتب منهم فإنما كان يُكتب لهم بعد الساع، وكان كثير منهم يروي بالمعنى فكثيرًا ما يعبر عنه بلفظ من عنده فيأتي قاصرًا عن أداء المعنى بتمامه، وكثيرًا ما يكون أدنى تغيير له محيلًا له وموجبًا لوقوع الإشكال فيه، وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى"2.
ولتجويزهم رواية الحديث بالمعنى، لم يحتج أئمة النحو المتقدمين من المصرين بشيء من الحديث في النحو، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب "ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث، لكان الأولى في إثباته فصيح اللغة كلام النبي، صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب"3.
جرى على ذلك الواضعون الأولون لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه من أئمة البصرة، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفة.
فعلوا ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى
__________
1 العراقي، فتح المغيث بشرح ألفية الحديث "3/ 50". أبو رية "78".
2 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "81".
3 الخزانة "1/ 4 وما بعدها".(16/371)
القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية1.
وإذا كان هذا موقف ذاكرة الصحابة من كتاب الله ومن حديث رسوله، فهل يعقل أن تكون حافظتهم أقوى وأشد حفظًا وأكثر دقة في رواية كلام هو دون كلام الله وكلام رسوله، فنصدق قول من قال: إن "سلمة بن غيلان" الثقفي مثلًا دخل في ناس من العرب على كسرى، فطُرح لهم مخادُّ عليها صورته، فوضعوها تحتهم، إلا سلمة بن غيلان فإنه وضعها على رأسه، فقال له: ما صنعت؟ قال: ليس حق ما عليه صورة الملك أن يبتذل، وما أجد في جسدي عضوًا لا أكرم ولا أرفع من رأسي فجعلتها فوقه. فقال له: ما أكلك؟ فقال: الحِنطة. فقال: هذا عقل الحنطة2. أو أن نصدق بكلم وفد "طي" إلى "سواد بن قارب" الدوسي، وامتحانهم إياه، ثم جوابه المسجع على سجعهم3، أو كلام الكاهنة "عفيراء" الحميرية4، أو كلام "ابنة الخس"5، أو كلام "عبد المطلب"، وغيره من سادات قريش مع تبابعة اليمن وحكامها الحبش، وهو كلام مضبوط بالحروف والكلمات، ترويه كتب أهل الأخبار على أنه كلام صحيح صادق، لم ينله تغيير ولا اعتراه تبديل، وكأنه قد سجل على شريط "تسجيل"، أو على أسطوانة، لم تلعب بها يد إنسان.
جاء في "لسان العرب": "قيل لسيدنا محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأمي لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولًا وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة، لأنه، صلى الله عليه وسلم، تلا عليهم كتاب الله منظومًا، تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب، إذا ارتجل خطبة ثم أعاده زاد فيها ونقص"6، فإذا كان هذا شأن الخطيب،
__________
1 الخزانة "1/ 5".
2 المصون "198".
3 بلوغ الأرب "3/ 299 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "3/ 296".
5 في جملة كتب "ثعلب": كتاب: تفسير كلام ابنة الخس، الفهرست "117"، "الفن الثاني من المقالة الثانية من كتاب الفهرست في أخبار العلماء".
6 اللسان "12/ 34".(16/372)
هو مرتجل الخطبة، وصاحبها لا يستطيع إعادة نصها، فكيف يكون حال السامع الذي يسمعها سماعًا، ولا يكتبها على صحيفة، فهل يجوز إذن التصديق بصحة نصوص هذه الخطب وما يروونه عن الجاهليين من أدب منثور!(16/373)
السجع:
وقد جعل "الجاحظ" كلام العرب أنماطًا، جعله "في الأشعار، والأسجاع، والمزدوج، والمنثور"1.
والسجع في تعريف العلماء له: الكلام المقفى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد. وقيل: السجع أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي.
وسجع يسجع سجعًا: نطق بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن2.
وقد ألِف "الكهان" النطق بالسجع، حتى غلب على كلامهم، واختص بهم، كما اختص الشعر بالشعراء، فعرف لذلك بـ"سجع الكهان". "ولما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، في جنين امرأة ضربتها الأخرى، فسقط ميتًا بغرة على عاقلة الضاربة، قال رجل منهم: كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح، فاستهل. ومثل دمه يطل. قال صلى الله عليه وسلم: "أسجع كسجع الكهان". وفي رواية: "إياكم وسجع الكهان". وفي الحديث أنه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن السجع في الدعاء. قال الأزهري: إنما كره السجع في الكلام والدعاء لمشاكلة كلام الكهنة وسجعهم فيما يتكهنونه، فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل السجع، فهو مباح في الخطب والرسائل"3. وروي الحديث على هذه الصورة: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غُرّة، عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثتها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطلّ، فقال رسول
__________
1 الحيوان "7/ 216 ومابعدها"، "عبد السلام محمد هارون".
2 تاج العروس "5/ 376"، "سجع".
3 تاج العروس "5/ 376"، "سجع".(16/373)
الله، صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع" 1.
قال الجاحظ في معرض كلامه على السجع وقول الرسول: "أسجع كسجع الجاهلية"2. "وكان الذي كره الأسجاعَ بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدّعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رئيًا من الجن، مثل حازي جهينة، ومثل شقّ وسطيح، وعُزى سَلمَة، وأشباههم: كانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول بعضهم: والأرض والسماء والعُقاب الصقعاء، واقعة بيقعاء، لقد نفر المجد بني العُشراء، للمجد والسناء.
وهذا الباب كثير. ألا ترى أن ضمرة بن ضمرة، وهرم بن قطبة، والأقرع بن حابس، ونفيل بن عبد العزى، كانوا يحكمون، وينفرون بالأسجاع؟ وكذلك ربيعة بن حذار.
قالوا: فوقع النهيُ في ذلك الدهر، لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة، زال التحريم.
وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخُطب أسجاع كثيرة فلا ينهونهم3.
وقد كان الكهّان حكّامًا كذلك، يفصلون في الخصومات بين الناس. يأتي إليهم المتخاصمون، وبعد أن يؤكدوا لهم رضاهم وقناعتهم بحكمهم، يحكمون بينهم فيما يرونه. وينسب الناس إلى الكهان إدراك الغيب برئي يأتي إليهم فيلقي لهم بما يراه، ويعلمهم من المغيبات عما يسألون، ولذلك ورد: أن الكهانة هي ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع، وورد: الكاهن القاضي بالغيب، وكل من أدل بشيء قبل وقوعه4.
__________
1 شرح الإمام النووي على صحيح مسلم "7/ 196"، "حاشية على إرشاد الساري"، صحيح مسلم "5/ 110".
2 البيان والتبيين "1/ 287"، "لجنة".
3 البيان "1/ 289 وما بعدها" "لجنة"، "1/ 229"، "عبد السلام هارون".
4 بلوغ الأرب "3/ 269".(16/374)
ويفهم من روايات أهل الأخبار ومن كتب الحديث والموارد الأخرى، أن الكهانة كانت شائعة في الناس، فكانوا يقصدونهم في كل شيء لاستشارتهم وللأخذ برأيهم وللفصل في الخصومات والمنازعات. وقد منعها الإسلام، حتى ورد في كتب الحديث: إن من أتى كاهنًا أو عرافًا فقد كفر1.
ونجد في بطون الكتب أمثلة من سجع الكهان. وهو يستحق الدرس والبحث، لتحليل عناصره، وبيان صدقه من كذبه، وصحيحه من فاسده. وفي بعضه مثل ما نسب إلى "زبراء الكاهنة"، محاكاة لأسلوب السور القصيرة من القرآن الكريم2. وهو مرحلة مهمة من مراحل تطور أسلوب الكلام عند العرب، وهو حري إذن بالدراسة وبالبحث.
وقد أشير إلى قول الكهان في القرآن الكريم في آية: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} 3 و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 4. فقد زعموا أنه كاهن، وزعموا أنه مجنون5، فوبخوا لزعمهم هذا، وقيل لهم: إن "محمدًا ليس بكاهن؛ فتقولوا: هو من سجع الكهان"6. "وكانت قريش يدعون أنهم أهل النهى والأحلام"7، "فقال الله: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} أن يعبدوا أصنامًا بكمًا صمًّا، ويتركوا عبادة الله، فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم"8، فانزعجوا منه وقالوا عنه: إنه كاهن، وإنه شاعر، وإنه مجنون. وفي اتهامهم الرسول بأنه كاهن، وبأن القرآن "هو من سجع الكهان"9، دلالة على وجود السجع عند الجاهليين، وأنه كان من نمط الكلام الذي اختصوا به. لا مجال إذن للشك في وجود السجع عندهم، وإن كنا نشك في صحة نصوص السجع المنسوب إليهم.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 270".
2 راجع كلامها لجماعة من قضاعة في بلوغ الأرب "3/ 288 وما بعدها".
3 الطور، الرقم52، الآية29.
4 الحاقة، الرقم69،الآية42، تفسير الطبري "29/ 41".
5 تفسير الطبري "27/ 19".
6 تفسير الطبري "29/ 41 وما بعدها".
7 تفسير النيسابوري "27/ 25"، "حاشية على الطبري".
8 تفسير الطبري "27/ 19".
9 تفسير الطبري "29/ 41".(16/375)
ويذكر أهل الأخبار، أن "ضمادًا" لما قدم مكة معتمرًا، "سمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون. فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته، فجاءه فقال له: يا محمد، إني أداوي من الريح، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك.
فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادًا فقال: أعدها عليّ، فأعادها عليه، فقال: لم أسمع مثل هذا الكلام قط، لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط"1. فالكهنة والسحرة والشعراء هم طبقة خاصة، كانوا يؤثرون في عواطف السامعين باستعمالهم أسلوبًا خاصًّا من الكلام، هو أسلوب السجع، بالنسبة إلى الكهنة والسحرة، والشعر بالنسبة إلى الشعراء. أما الخطباء، فقد كانوا سجاعًا في الغالب، لكنهم كانوا يستعملون المرسل من النثر أيضًا بأساليبه المختلفة.
وقد ذكر "الجاحظ" أن "الكهان" كانوا "يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"2، هذه "زبراء" تنذر "بني رئام"، عن أنباء ستقع، فتقول "واللوح الخافق والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدوا خَتْلا، ويحرق أنيابًا عُصلا، وإن صخر الطود لينذر ثُكلا، لا تجدون معه معلا، فوافقت قومًا أشارى سكارى، فقالوا: يرح خجوج، بعيدة ما بين الفُرُوج، أنت زبراء بالأبلق النتوج. فقالت زبراء: مهلًا يا بني الأعزة، والله إني لأشم ذفر الرجال تحت الحديد، فقال لها فتى منهم يقال له هذيل بن منقذ: يا حذاق، والله ما تشمين إلا ذفر إبطيك، فانصرفت عنهم وارتاب قوم من ذوي أسنانهم، فانصرف منهم أربعون رجلًا وبقي ثلاثون فرقدوا في مشربهم، وطرقتهم بنو داهن وبنو ناعم فقتلوهم أجمعين"3.
وهذا كاهن "بني أسد" "عوف بن ربيعة"، يأتيه "رئيه"، فيتكهن لقومه قائلًا: "يا عبادي، قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخبن هذا دمه ينثعب، وهذا غدًا أول من يُسلب، قالوا: من هو يا ربنا؟ قال:
__________
1 ابن سعد، طبقات "4/ 241"، "الطبقة الثانية من المهاجرين والأنصار".
2 البيان والتبيين "1/ 289 وما بعدها".
3 الأمالي للقالي "1/ 126 وما بعدها".(16/376)
لولا: أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتُكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حُجر فهجموا على قبته"1.
وهذا "خنافر بن التوءم" الحميري الكاهن، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتيًا، يأتيه "رئيه" بعد غيبة طويلة، فيقول: "خُنافر" فيجيبه: "شصار؟ "، فقال: "اسمع أقل"، قال خنافر: قل أسمع، فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قال خنافر: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم، نفرًا من آل العُذام، حكامًا على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت، فقلت: بمَ تهيمنون، وإلام تعترون؟ قالوا: خطابٌ كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنج من أوار النار، قلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مضر، من أهل المدر، ابتُعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دَثَر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشابع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرَّين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق يثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم أملس عني. فبت مذعورًا أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي، وآذنت أعبدي، واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقابها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام وعلّمني سورًا من القرآن، فمن الله علي بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة".
__________
1 الأغاني "9/ 84".(16/377)
وهكذا أسلم -على حد قول أهل الأخبار- والفضل يعود في ذلك إلى "رئيه" "شصار" الذي أسلم قبله، وهو من الجن، والجن مثل البشر، منذ ظهر الإسلام بين مسلم وكافر. ولما أسلم "خنافر"، قال شعرًا يحمد الله فيه على أن منّ عليه بالإسلام، ويذكر "رئيه" "شصار" بالخير، إذ لولاه لكان في نار جهنم1.
وأسندوا له قوله:
ألم ترَ أن الله عاد بفضله ... وأنقذ من لفح الجحيم خنافرا
دعاني شصار للتي لو رفضتها ... لأصليت جمرًا من لظى الهون جائرًا
وهو خبر يرجع سنده إلى "ابن الكلبي". وقد ذكر في الأخبار المنثورة لابن دريد. وقد ذكر أنه أسلم على يد معاذ بن جبل باليمن2. لا أدري كيف حفظه "ابن الكلبي" ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يعد من المستحيلات.
وقد أمات الإسلام "الكهانة"، فقد اجتثها وحاربها، وحث على نبذ سجع الكهان وأساليب الكهان في الملبس، فكان منهم من قاوم، ثم انخذل، بدخول قومه في دين الله، فدخل معهم في. وفي كتب أهل الأخبار قصص على نمط قصة إسلام "خنافر"، وكلام دار بينهم وبين "رئيهم"، دوّنه أهل الأخبار بالحروف والكلم، لم يتركوا منه حرفًا، وكأنهم كانوا كتاب ضبط محضر جلسات أمروا بتدوين كل محضر ساعة وقوعه. وتجد أخبار الكهان، وما لاقوه من عنت من "رئيهم" حين أدركوا الإسلام، وما أخبروا به من قرب ظهور الرسول كأخبار العراف اللهبي "العائف"3، و"الغيطلة" الكاهنة4، والكاهن "خطر"5"،
__________
1 الأمالي "1/ 134 ومابعدها".
2 الإصابة "1/ 457"، "2342"، الاستيعاب "1/ 459 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 ابن هشام، سيرة "1/ 118"، "حاشية على الروض"، "1/ 135 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة، "أخبار الكهان".
4 ابن هشام "1/ 137"، الروض الأنف "1/ 137".
5 ابن هشام "1/ 138".(16/378)
والكاهن "سواد بن قارب" الدوسي1، و"ابن الهيبان"2، والمأمور الحارثي3، وغيرهم وغيرهم.
ولسجع الكهان، طريقة خاصة به، ميزته عن سجع غيرهم، فهو قصير الفقرات، يلتزم التقفيه وتساوي الفواصل من كل فقرتين أو أكثر، يعمد إلى الألفاظ العامة المبهمة المعماة، وإلى تكوين الجمل الغامضة، ليمكن تأويلها تأويلات متعددة، وتفسيرها بتفاسير كثيرة، لا تلزم الكاهن، فيقع في حرج، كالذي يقع لو تكلم بكلام واضح صريح. فيظهر بمظهر الجاهل الكاذب. أما السجع المنسوب إلى الخطباء، ففقره أطول، وكلمه أوضح، طويل النفس، متحرر نوعًا ما من قيود سجع الكهان، بين الفقر تطابق في الطول، وفي فقره بيان مشرق، فواصله كفواصل الشعر من دون وزن. جهد صاحبه أن يجعل الفواصل واضحة صافية، ذات مقاطع مستقلة في الغالب بمعناها، وينتهي الكلام بانتهائها من غير التزام قافية، وقد يكون مرسلًا، خالصًا من تساوي الجمل والتزام القافية، فهو بين سجع وازدواج وترسل. وقد يكون مزدوجًا، فهو سجع خفيف مقبول.
وبالإضافة إلى السجع، واستعمال الألفاظ الغامضة المبهمة، والإيماءة والرموز والتكنية عن الأشياء، تهربًا من التصريح، وحذر افتضاح الأمر، كان الكاهن يلحف في الأسئلة ويمعن في الاستفسار، حتى يستنبط من ذلك بفطنته وذكائه ما يريد السائل، فيعطيه جوابًا مائعًا، شأن جواب السحرة والعرافين، كما كان يعمد إلى القسم بظواهر الطبيعة من كواكب ونجوم، وشمس وقمر، ورياح وعواصف وسحب، وليل ونهار، وشجر وحجر، وأمثال ذلك مما نجده في خطبهم وأقوالهم، وهو شيء يلفت النظر، ويبعث على التعجب من قسم القوم بهذه الأمور. ولكن المتتبع الدارس لعقائد القوم في الجاهلية، ولحياتهم الاجتماعية لا يعجب من ذلك كما لا يعجب من قسمهم بالخبز، والملح، واللبن، والقوس، والعصا، فإن لهذه الأمور وأمثالها معانٍ عميقة عند أهل الجاهلية، فقدت أكثريتها معانيها في
__________
1 ابن هشام "1/ 140".
2 ابن هشام "1/ 141".
3 الأمالي "1/ 276"، الأغاني "15/ 70".(16/379)
الإسلام، بسبب إبطاله لتلك العقائد، وإن بقي حشد منها في نفوس الناس إلى هذا اليوم، بسبب رسوخه في العقل والدم.
وفي القرآن قسم بالسماء، وبالعاديات، وبالتين والزيتون، وبغير ذلك1، ذهب المفسرون في سبب القسم بها مذاهب، ففسروا وتأولوا، ولو فكروا أن هذا النوع من القسم، هو أسلوب من أساليب العرب في القسم قبل الإسلام، وأن القرآن إنما نزل بلسان العرب، ولذلك اتبع طريقتهم في القسم، لأنه خاطبهم على قدر عقولهم وبلغتهم، عرفوا السبب، ولا زال الأعراب على سجيتهم القديمة في القسم بهذه الأشياء، يقسمون بها كما يقسم المتحضر بأعز شيء عنده.
والسجع في الواقع باب من أبواب الشعر، والمرحلة الأولى من مراحله، والبذرة التي أنبتت الشعر العربي. ويتكون من فقرات، وإذا أخذنا الشعر البدائي الذي يكون المرحلة الأولى من الشعر، نرى أنه لا يختلف اختلافًا كبيرًا عن السجع.
و"الكلام المسجع"، هو ضرب من ضروب الشعر عند غير العرب. وقد طوّر الشعراء السجع، وأوجدوا منه الشعر، وإذا درسنا أول الشعر العبراني، أو أوليات الشعر عند الشعوب السامية، وعند الشعوب الآرية، نجد أنه نمط من أنماط هذا الكلام الذي نسميه "السجع"2. وهو لا زال يعد شعرًا عند كثير من شعوب هذا اليوم.
والمزاوجة والازدواج بمعنى واحد. وازدوج الكلام وتزواج أشبه بعضه بعضًا في السجع أو الوزن3، والازدواج لون من ألوان الإفصاح عن الشعور بأسلوب من أساليب الأدب المنثور، أخف على النفس من السجع، وأسهل انقيادًا لأنامل الكتاب منه. وهو على كل حال لون من ألوانه، خفت قيود قوافيه، حتى صار على هذا الشكل. ومن الازدواج قول أحد بني أسد يخاطب رجلًا شيخًا مات ابن له: "اصبر أبا أمامة، فإنه فرط افترطته، وخير قدمته، وذخر أحرزته". فقال مجيبًا له: "ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وُعِدته، والله لئن لم أجزع النفس، لا أفرح بالمزيد"4.
__________
1 تفسير الطبري "30/ 153 وما بعدها".
2 Goldziher, History of classical Arabic Literature, P. 8
3 تاج العروس "2/ 55"، "زوج".
4 البيان والتبيين "2/ 116".(16/380)
وقد تحدث "الجاحظ" في أثناء حديثه عن الشعوبية ومطاعنها على خطباء العرب عن أساليب الجاهليين في الكلام في أمورهم الجليلة مثل المنافرة والمفاخرة، وعقد المعاقدة والمعاهدة وأمثال ذلك، ثم عن أخذهم المخصرة، عند مناقلة الكلام، فقال: "وبمطاعنهم على خطباء العرب: بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام، ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يُقفّ، وبالأرجاز عند المنح، وعند مُجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادة والمحاورة.
وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خطب الحمالة، وفي مقامات الصلح وسلّ السخيمة، والقول عند المعاقدة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة ولا اجتلاب تأليف، ولا التماس قافية، ولا تكلف لوزن. مع الذين عابوا من الإشارة بالعصي، والاتكاء على أطراف القسي، وخدّ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت في كلامها، وافتنت يومَ الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجمُوع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكد شأن المحالفة، وحقق حُرمة المجاورة، وخطهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكف، والتحالف على النار، والتعاقد على المِلح، وأخذ العهد الموكّد واليمين الغموس، مثل قولهم: ما سرى نجم وهبت ريح، وبل بحر صوفة، وخالفت جرةٌ درة"1. فنحن إذن أمام طرق من الكلام، كل طريق منها يؤدي إلى نوع من الكلام، يستخدم في حالة من الحالات، فمساجلة الخصوم، تكون بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لا يقفى، أي: المرسل، أما في حالة الشدة والعمل، مثل المتح، أي: الاستقاء من البئر، وفي حالات البناء ورفع الحجر، وفي القتال، فتستعمل الأرجاز، لتنشيط المهمة. وأما السجع، فيستعمله الكهان، ويستخدم في المنافرة والمفاخرة، وأما المنثور، أي: الكلام المرسل، الخالي من السجع والازدواج، فيستعمل في الحمالة، أي: تحمل ديات قوم لا مال لهم، فيقوم غيرهم بتحمل مبلغ الدية، وفي مقامات الصلح، ودفن الأحقاد والضغائن، إلى غير ذلك من حالات. فالسجع، إذن غير النثر، وغير
__________
1 البيان والتبيين "3/ 5 وما بعدها".(16/381)
المزاوجة، وغير الرجز. وقد جعل "الجاحظ" الكلام المنثور: أسجاعًا، وأزواجًا، ومنثورًا1. هذه في نظره أساليب النثر.
وأنا إذ أصف أسلوب النثر عند الجاهليين، لا أعني أني أثق بصحة هذا النثر المنسوب إليهم، وأثبت صحة نصه، وإنما أنا أصفه مستندًا في وصفي هذا على المدون المعمول عليهم، الوارد إلينا في بطون الكتب؛ لأنه وإن كان في نظرنا مصنوعًا موضوعًا، لكنه صيغ على كل حال وفق أسلوب الجاهليين، وعلى نمط كلامهم، إذ لا يعقل أن يكون الرواة قد اخترعوا تلك الأنماط من الكلام اختراعًا، وأوجدها من العدم إيجادًا، فهم إذ وضعوا على ألسنة أهل الألسنة من العرب، فإنما وضعوا عن تقليد ومحاكاة، وعلى نمط كلام سابق كان مألوفوًا عند أهل الجاهلية الذين أدركوا الإسلام. ودليل ذلك أثره في خطب الخطباء الذين خطبوا أمام الرسول، وفي خطب الخطباء الذين عاشوا في صدر الإسلام.
فأنا حين أرفض النصوص، لا أزعم أنه لم يكن لهم نثر، وأن النثر إنما ظهر وعرف في الإسلام، بل أقر أنه قد كان لهم نثر، وكانت لهم خطب وكان لهم كلام، ولكن أقول إن هذه النصوص المثبتة المدوّنة، هي نصوص لا يجوّز العقل أن تكون صحيحة أصيلة مضبوطة؛ لما قلته من عدم قدرة الذاكرة على المحافظة على أصالة النثر.
وأود أن أستثني الأمثال الجاهلية من هذا التعميم الذي عممته على نصوص النثر الجاهلي، فالأمثال بحكم إيجازها وكثرة انتشارها على الألسنة، ولكونها أداة تعليمية تحفظها الذاكرة، ولا تخطئ فيها كثيرًا، حافظت لذلك على أصلها ونصها، ودليل ذلك أننا لا نزال نضرب الأمثال بها حتى اليوم، ثم إن منها ما قد ضرب به مثلًا في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي خطب الخلفاء الراشدين وكتبهم، ولهذا فنحن لا نتعد عن العلم إن قلنا بصحتها من حيث النص والمعنى، أي: من حيث الضبط بالكلم ومن حيث المحافظة على المعنى2. أما بقية النثر، فأنا على رأيي من عدم إمكان القول بصحة نصوصه، وإن كنت أوافق على جواز بناء بعض النصوص على معان جاهلية، فيكون النص في هذه الحالات من وضع
__________
1 البيان والتبيين "4/ 28".
2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 129".(16/382)
الروة، أما المضمون فجاهلي، تطور وتزوق حسب الأفواه التي روته ودبجته، بحيث ظهر على الصورة التي وصلت إلينا.
وإذا كان الحال على هذا المنوال، فأين يا ترى نجد النثر؟ وجوابي أنك لا تجد النثر الصحيح المنثور بهذه العربية البينة الفصيحة إلا في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم، لكونه كتاب الله وقد دوّن ساعة نزوله، دوّنه كتبة عند نزول الوحي، وأخذه عنهم كتبة آخرون وحفظه الحفاظ، وقرأ الكثير منهم ما كتبه من آي أو ما حفظه منها ومن السور على الرسول، فأيد قراءتهم وثبت كتابتهم، فهو لهذا الكتاب الوحيد المنزل بلسان عربي مبين. لا شبهة في ذلك ولا شك. أرشدنا إلى أساليب الجاهليين في فنون القول، بمخاطبته لهم بلسانهم وبطرق بيانهم، وبأسلوب محاججتهم. وضرب لهم الأمثال بأمثالهم، كي تكون عبرة مقبولة عندهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، بلسان عربي مبين، يفهمه كل العرب، ففيه إذن نجد نثر العرب، وإن كان هو أبلغ النثر، وفيه نجد حياة الجاهليين وعقليتهم.
وقد وصف "الجاحظ" أسلوب القرآن بقوله: "خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحجج"1.
ثم نجد هذا النثر في الحديث، في الحديث النبوي، وفي الحديث موضوع وضعيف، إلا أن فيه ما لا يشك في صحته. وفيه ما روي بالمعنى، لتجويزهم الرواية عن الرسول بالمعنى، خشية الخطأ في النص، والتقول عليه، ومن تقوَّل على رسول الله متعمدًا، تبوأ مقعده في النار. وقد روي الحديث رواية، أي: مشافهة، غير أن من العلماء من ذكر أن "عبد الله بن عمرو بن العاص"، كان قد كتب حديث الرسول، وذلك أنه استأذنه في أن يكتب حديثه فأذن له. وروي عنه أنه قال: حفظت عنه ألف مَثَل، وروي عن "أبي هريرة" قوله: "ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثًا مني. إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب"2. ولكننا لم نسمع بما حل
__________
1 البيان والتبيين "32"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت 1959م".
2 الاستيعاب "2/ 339"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "2/ 343"، "رقم 4847".(16/383)
بالصحف التي دوّن بها "عبد الله" حديث الرسول، ولا أدري إذا كان ما روي عنه في المساند، مثل مسند "أحمد بن حنبل" قد نقل من تلك الصحيفة نقلًا أم رواية1.
وهناك روايات تذكر أن "همام بن منبه"، أخذ عن "أبي هريرة"، حديث رسول الله، وكتب ما أخذه في صحيفة عرفت بـ"الصحيفة الصحيحة" في مقابل "الصحيفة الصادقة" المنسوبة لعبد الله بن العاص، ونجد نقولًا منها في البخاري، وفي مسند "أحمد بن حنبل"2. وقد نشرت هذه الصحيفة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق3. وهذه الصحيفة، إن صح أنها من وضع "همام بن منبه" وأنها أصيلة، ذات أهمية كبيرة بالطبع؛ لأنها أقدم صحيفة نعرفها في الحديث بعد صحيفة "عبد الله بن عمرو بن العاص"، وإن كانت دونها في المنزلة؛ لأنها أخذت عن لسان "أبي هريرة"، وأخذ "عبد الله" حديثه من فم الرسول، ومن الجائز أن يكون حديث أبي هريرة بلسانه، أما حديث "عبد الله"، فربما كان بلسانه أيضًا، غير أنه كان ينقله من فم الرسول فيحفظه ثم يدونه، فهو أقرب إلى الصحة من صحيفة "همام". وربما كان "عبد الله"، قد دوّن حديثه بحضرة الرسول، فإن هذا الموضوع، لا زال مجهولًا، لم يبحث بحثًا علميًّا صحيحًا، وهو ينتظر من الباحثين من يقوم بالبحث عنه.
ويظهر من أحاديث تنسب إلى الرسول مثل حديث: "لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه" 4، ومن أخبار تنسب إلى "أبي بكر" و"عمر" في النهي عن كتابة الحديث، مثل ما نسبوا إلى "عمر" من أنه كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء من الحديث فليمحه، ومن أنه أنشد الناس أن يأتوه بصحف الحديث، فلما أتوه بها أمر بتخريقها، ثم قال:
__________
1 راجع في موضوع الحديث: أبو رية، أضواء على ألسنة المحمدية.
2 مسند الإمام أحمد بن حنبل "2/ 312 وما بعدها"، لقد تحدثت عن "همام بن منبه" في أثناء حديثي عن "موارد تاريخ الطبري"، المنشور في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الأول فما بعده.
3 المجلد الثامن والعشرين "1953"، "الجزء الثاني والثالث"، مصادر الشعر الجاهلي "146".
4 أبو رية، أضواء "46".(16/384)
مثناة كمثناة أهل الكتاب!. ومثل ما نسب إلى "علي" من قوله: "اعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"1، وأمثال ذلك مما نسب إلى الصحابة في النهي عن كتابة الحديث، وفي الحث على تحريق ما قد كان عندهم من صحف وكتب أو إمحائه، أنه قد كان عند الصحابة صحف فيها حديث رسول الله كتبت في أيام الرسول وبعده، كانوا يراجعونها ويستعزون بها، وكان في بعضها ما يشك في صحته وفي صدوره من الرسول، ولخوف الرسول وصحابته من أن يأتي يوم تكون فيه تلك الصحف مرجعًا للناس مثل رجوعهم للقرآن، يتخذونها سندًا لهم، اتخاذ اليهود للمثناة، أي: "المشنا"، أمروا بإتلافها وبالنهي عن التدوين.
والاكتفاء بالحديث مشافهة، وبنشره بالرواية. وهي طريقة غير مأمونة أيضًا، فالتدوين أضمن منها وأسلم، ولكنها طريقة كانت متبعة في ذلك الحين، لأسباب لا أستطيع أن أتحدث عنها في هذا المكان، لأن الحديث عن تدوين حديث رسول الله وعن ورود النهي عن تدوينه يخرجنا عن الحدود المرسومة لهذا الكتاب. "على كل" فإن أخذ المحدثين بمبدأ رواية حديث الرسول بالمعنى، كان هو السبب الذي حمل علماء النحو واللغة على عدم الاستشهاد به في شواهد القواعد واللغة، كما بينت ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.
وفي رسائل الرسول وكتبه ووصاياه وخطه وأوامره، وفي خطب الوفود التي كانت تفد عليه، وفي خطب الصحابة، أمثلة على طبيعة وأسلوب الخطب عند الجاهليين، ولا سيما القديم من تلك الخطب الذي ألقاه الخطاء أمام الرسول قبل دخولهم في الإسلام، فهو في الواقع استمرار لأسلوب الخطب في الجاهلية، ألقي بالطريقة المألوفة عندهم التي تمثل التفكير الجاهلي، والعقلية الجاهلية أيام ظهور الإسلام. وإن كنت أشك في صحة كثير من الخطب والرسائل المنسوبة إلى الرسول ذلك لأننا إذا درسنا نصوص هذه الرسائل، نجد أصحاب السير والتواريخ يروونها بصور مختلفة، وفي اختلافهم هذا، دلالة على أن الرواة لم ينقلوها من أصل مكتوب، وإنما أخذوا النص بطريق المعنى والرواية، فوقع من ثَمّ هذا الاختلاف.
أضف إلى ذلك فعل التزوير، فقد نص المؤرخون وأرباب السير على أن بعض
__________
1 المصدر نفسه "46 وما بعدها".(16/385)
أهل الكتاب وسادات القبائل والرجال، قدموا للخلفاء كتبًا مزورة فيها إقرار قرار وإحقاق حق، للمطالبة بتنفيذ ما جاء فيها، وفي حديث: "من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار" 1، وحديث آخر يشبهه هو: "إن الذي يكذب عليّ يبني له بيتًا من النار"، وأحاديث أخرى من هذا القبيل2، دلالة على وقوع الكذب على الرسول في حياته وبعد وفاته.
وقد ورد أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يُوجّه إليهم الخطاب كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة: حتى قال له علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريًّا في العرب فلم يلتفتوا إليه"3.
فإذا كان الأمر من اختلاف لغات العرب على هذا النحو، وإذا كان الصحابة ومنهم الخلفاء، وهم على ما هم عليه من فصاحة وبلاغة، لم يفهموا كلام الوفود، فهمًا صحيحًا، حتى كان الرسول يفسر لهم ما كان يقوله للوفود، وما كانت الوفود تقوله له، فكيف نصدق بصحة نصوص خطبهم وكلامهم، وقد ألقيت بلهجاتهم الخاصة، ولم يكن هناك كتبة ولا مدوّنون، يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ومحاضر كلامه معهم، وما كان يقع بحضرته من نقاش وكلام؟
وأنت إذا راجعت خطب الرسول التي خطبها في "حجة الوداع" تجدها وقد
__________
1 خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "122"، "تحقيق أكرم ضياء العمري"، "من كذب علي، فليتبوأ مقعده من النار"، "والله ما قال متعمدًا، وأنتم تقولون متعمدًا"، أبو رية، أضواء "62".
2 أبو رية، أضواء "59 وما بعدها".
3 الرافعي "1/ 325".(16/386)
رويت بصورة مختلفة1، وفي هذا الاختلاف دلالة بينة على أنها لم تنقل من أصول مكتوبة، وإنما أخذت من الأفواه، وإلا لما جاز عقلًا وقوعه أبدًا. وسبب ذلك، أن الناس في ذلك الوقت، لم يكونوا قد تعودوا لا في الجاهلية ولا في الإسلام اتخاذ كتّاب لتدوين ما كان يقع لهم من أحداث، ولم يكن عندهم مراسلون يرافقون الملوك والحكّام وسادة القبائل والوفود، لوصف مواكب الملوك ومشاهدهم وحروبهم، وخطبهم ومفاوضاتهم مع سادات القبائل. وكذلك كان الحال في الإسلام، بل ولا رواة لهم ذاكرة قوية، لحفظ أحاديث المجالس والأحداث، وإذاعتها بين الناس؛ لأن العناية بحفظ الأحداث والتواريخ وتخليدها تقتضي وجود وعي بأهمية تدوين التأريخ، ولم يكن هذا الوعي معروفًا آنذاك.
ولهذا جاءت أخبار الحوادث عن طريق شهود عيان رووا ما شاهدوه لأصحابهم، كما يروي أي إنسان ما قد يقع له من أمور لأصدقائه، وهؤلاء قصوا تلك المرويات على أصحابهم وعلى من جاء بعدهم بلغتهم، وبهذه الطريقة وصلت الأخبار إلى المدوّنين عندما بُدئ بالتدوين وليس من المعقول بالطبع محافظة الذاكرة على النصوص الأصلية للخطب وللكلام، ولقول الراوي الأول للأحداث. وليس من المعقول أيضًا وصولها سالمة نقية من كل تغيير أو تبديل أو تحريف، ولا سيما في الأمور العاطفية التي تضرب على أوتار العصبية. ولهذه الأسباب وغيرها فنحن لا نستطيع الاطمئنان إلى صحة هذه الأخبار المروية من الأفواه، لما يحتمل أن يكون قد وقع فيها من زيف أو من تحريف عن عمد أو من غير عمد. ولو كانت الذاكرة تعي كل كلام وتحفظ كل حديث بالحرف والكلمة، لما أجاز العلماء رواية حديث الرسول بالمعنى، إذ كان من الصعب حفظه بالحرف. ولا أظن أن أحدًا يقول: إن حفظ أخبار الجاهلية ونصوص كلام رجالها، أهم عند العرب من حفظ حديث الرسول.
وأنا أشك في صحة أكثر ما نسب إلى "مسيلمة" من كلام وقرآن.
وهو "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، المكنى بـ"أبي ثمامة"، والمنعوت بين
__________
1 راجع كتب السير والتواريخ في خطبة الوداع، الطبري "3/ 149 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 31"، ابن الأثير "2/ 146".(16/387)
المسلمين بـ "الكذاب"1. واسمه الصحيح "مسلمة"، وقد صغر في الإسلام، ازدراء بشأنه. فقد روي أنه صنع قرآنًا مضاهاة للقرآن، غير أنهم لم يتحدثوا بشيء عن قرآنه. وإذا صح ما ذكره أهل الأخبار من أنه ادعى الوحي بمكة أو باليمامة قبل الإسلام، وأنه نزل على نفسه آيات زعم أنها تنزيل من الرحمان، فيكون قد باشر بتأليف قرآنه قبل الوحي2.
وذكر أن في حقه نزلت الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3.
فقد ذكر علماء التفسير أن عبارة: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} ، نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه} نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخي بني عامر بن لؤي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي: عزيز حكيم، فيكتب: غفور رحيم فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء"4.
وكان من حديث "مسيلمة" أن قريشًا قالت للرسول: "بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له: الرحمان، وإنا والله ما نؤمن بالرحمان أبدًا"5، وذكر أهل الأخبار أن قريشًا "حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك" إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"6، لأنهم كانوا قد سمعوا بدعوته إلى عبادة الرحمان، قبل نزول الوحي على الرسول. وورد "أنهم لما
__________
1 "وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هفان بن ذهل، بن الدول بن حنيفة. يكنى أبا أمامة، قيل: أبا هارون، وكان يسمى بالرحمان فيما روي عن الزهري قبل مولد عبد الله والد النبي"، الروض الأنف "2/ 340"، الاشتقاق "209"، "كذاب اليمامة"، مروج الذهب "2/ 303"، المعارف "97، 170، 267، 271، 405، 424، 454"، اليعقوبي "2/ 120"، "النجف 1964م".
2 تحدثت عنه بتفصيل في الجزء السادس من هذا الكتاب في فصل: أنبياء جاهليون.
3 الأنعام، الرقم6، الآية93.
4 تفسير الطبري "7/ 181".
5 تفسير الطبري "15/ 111".
6 اليعقوبي "1/ 120"، الروض الأنف "2/ 340".(16/388)
سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش: أتدرون ما الرحمن؟ هو كاهن اليمامة! ". وقد قالوا لمسيلمة: رحمان، وقالوا أيضا فيه: رحمان اليمامة1.
وأنا لا أستبعد احتمال مجيئة إلى مكة قبل الإسلام. فقد ذكر أنه تزوج "كبشة" "كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"2، وهي من مكة، فلا يعقل عدم مجيئة إلى مكة وإقامته بها بعض الوقت، ومجيئه إليها بين الحين والحين. ومن هنا كان لأهل مكة علم بدعوة مسيلمة إلى عبادة "الرحمان".
وقد زعم أنه "كان يقول: أنا شريك محمد في النبوة، وجبريل عليه السلام ينزل عليّ كما ينزل عليه، وكان رَجّال بن عنفوة من رائشي نبله، والحاطبين في حَبله، والساعين في نصرته. وكان مسيلمة يقول: يا بني حنيفة، ما جعل الله قريشًا بأحق بالنبوة منكم، وبلادكم أوسع من بلادهم، وسوادكم أكثر من سوادهم، وجبريل ينزل على صاحبكم مثل ما ينزل على صاحبهم. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد الناس يتذاكرونه وما يبلغهم عنه، قوله وقول بني حنيفة فيه، فقام يومًا خطيبًا، قال بعد حمد الله والثناء عليه. أما بعد، فإن هذا الرجل الذي تكثرون في شأنه كذّاب في ثلاثين كذّابًا قبل الدجال، فسماه المسلمون مسيلمة الكذاب، وأظهروا شتمه وغيبه وتصغيره، وهو باليمامة يركب الصعب والذّلول في تقوية أمره، ويعتضد برجال بن عنفوة، وهو ينصره ويذب عنه ويصدق أكاذيبه، ويقرأ أقاويله التي منها: والشمس وضحاها، في ضوئها ومن جلاها. والليل إذا عداها، يطلبها ليغشاها، فأدركها حتى أتاها وأطفأ نورها فمحاها"3.
"ومنها: سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحُبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، من بين أحشاء ومعى، فمنهم من يموت ويدس في الثرى، ومنهم
__________
1 الخزانة "2/ 285"، "هارون".
2 كتاب نسب قريش "20"، الروض الأنف "2/ 198، 341"، المحبر "440"، إمتاع الأسماع "1/ 247"، كتاب نسب قريش "147"، الجزء السادس من هذا الكتاب "ص96".
3 ثمار القلوب "146 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 359"، المعارف "178"، التنبيه، للمسعودي "247".(16/389)
من يعيش ويبقى إلى أجل ومنتهى، والله يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه الآخرة والأولى.
ومنها: اذكروا نعمة الله عليكم واشكروها؛ إذ جعل لكم الشمس سراجًا، والغيث ثجاجًا، وجعل لكم كباشًا ونعاجًا، وفضة وزجاجًا، وذهبًا وديباجًا، ومن نعمته عليكم أن أخرج لكم من الأرض رمّانًا، وعنبًا، وريحانًا، وحنطة وزؤانًا.
وكان أبو بكر إذا قرع سمعه هذه الترهات يقول: أشهد أن هذا الكلام لم يخرج من إله"1.
"وكان رجّال بن عنفوة صاحب مسيلمة قدم المدينة مرارًا، وقرأ القرآن وأظهر الإيمان، وأسرّ الكفر. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في أصحابه، إذ سمع وطئًا من خلفه، فقال: "هذا وطء رجل من أهل النار"، فإذا هو رجّال بن عنفوة. فلما قدم وفد حنيفة على النبي صلى الله عليه وسلم -وفيهم مسيلمة إلا أنه لم يلقه- وأظهروا الإسلام وأرادوا الانصراف، أمر لهم عليه الصلاة والسلام بجوائز كعادته في الوفود، وقال: "هل بقي منكم أحد؟ " قالوا: لا، إلا رجل منا يحفظ رحالنا -يعنون مسيلمة- فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس بشرِّكم مكانًا". فلما رجع الوفد إلى مسيلمة وقد بلغه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: قد سمعتم قول محمد في: ليس بشرِّكم مكانا، وقد أشركني في الأمر بعده، فعليكم به. ولما انصرفوا إلى اليمامة أعلن مسيلمة النبوة، وادعى الشركة، وفتن أهل اليمامة، وانقسموا بين مصدّق ومكذّب، وراض وساخط. وكتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كتابًا قال فيه: إلى النبي محمد رسول الله من مسيلمة رسول الله، أما بعد، فإني قد أُشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قومٌ يعتدون ولا يعدلون. وختم الكتاب وأنفذه مع رسولين، فلما قرئ الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهما: "ما تقولان؟ " قالا: نقول ما قال أبو ثمامة، فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا يقتلون لقتلتكما".
__________
1 ثمار القلوب "147 وما بعدها".(16/390)
وأملى في الجواب: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين".
ولما صدر الرسولان إلى مسيلمة الكذاب افتعل كتابًا يذكر فيه أنه جعل له الأمر من بعده، فصدّقه أكثر بني حنيفة.
وبلغ من تبركهم به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو لمريضهم، ويبارك لمولودهم، وجاءه قوم بمولود لهم فمسح رأسه فقرع. وجاءه رجل يسأله أن يدعو لمولود له بطول العمر، فمات من يومه.
وكان ثمامة بن أثال الحنفي يقشعر جلده من ذكر مسيلمة، وقال يومًا لأصحابه: إن محمدًا لا نبي معه ولا بعده، كما أن الله تعالى لا شريك له في ألوهيته، فلا شريك لمحمد في نبوته. ثم قال: أين قول مسيلمة: يا ضفدع نِقي نقي، كم تنقين! لا الماء تكدرين، ولا الشِربَ تمنعين، من قول الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: {حم?، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . فقالوا: أوقح بمن يقول مثل ذلك مع مثل هذا! "1.
وقد روي قول "مسيلمة" في الضفدع على هذا النحو: "يا ضفدع بنت ضفدعين: نقي ما تنقين. نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين"2. وروي أن وفد اليمامة لما قدم على "أبي بكر" بعد مقتل مسيلمة، "قال لهم: ما كان صاحبكم يقول؟ فاستعفوه من ذلك، فقال: لتقولن. فقالوا: يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الشارب3 تمنعين، ولا الماء تكدرين في كلام من هذا كثير. فقال أبو بكرك: ويحكم! إنّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ ولا بر، فأين ذهب بكم"4؟، أو أنه قال: هذا كلام ما أتى من عند إل، أي: من عند الله. وهو في الأسماء الأعجمية إيل، مثل إسرافيل، وجبريل، وميكائيل، وإسرائيل، وإسماعيل"5.
وقيل: الإلّ:
__________
1 ثمار القلوب "148 وما بعدها".
2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "2/ 180".
3 في الأصل "الشراب"، وفي الموارد الأخرى الشارب.
4 الفائق "3/ 122".
5 الإكليل "2/ 7".(16/391)
الربوبية، والأصل الجيد والمعدن الصحيح، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن. ويجوز أن يكون بمعنى النسب والقرابة، من قوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} ، وقول حسّان:
لعمرك إن إلّك من قريش ... كإلِّ السقب من رأل النعام1
وقد ذكر "الطبري" في مقدمة تفسيره، أن القرآن لما نزل على الرسول،"أقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص، إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه غير قادر عليه، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستورًا ومن عيّ لسانه ما كان مصونًا، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا ونحو ذلك من الحماقات المشهبة دعواه الكاذبة"2. والطبري وإن لم يصرح باسم قائل هذه الحماقات، لكنه قصد به مسيلمة من غير شك.
أما أن تلك الآيات آيات قالها "مسيلمة" حقًّا، فتلك قضية لا يمكن إثباتها، فلما قتل، وضع أصحابه عليه أمورًا كثيرة، قد يكون في جملتها هذه الآيات.
أما قرآنه الذي قيل: إنه وضعه يضاهي به القرآن، فقد هلك هلاكه، ولم أجد أحدًا ذكر أنه وقف عليه، ونقل منه، ولعلّه كان كلامًا لم يسجل في حياة مسيلمة، وإنما كان محفوظًا في صدر صاحبه وفي صدور أتباعه، ودخل من دخل من أصحابه في الإسلام طمس أثر ذلك القرآن.
وقد دوّن "الرافعي" الآيات التي أخذتها من تفسير الطبري، على هذه الصورة: "والمُبذرات زَرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردت ثردا، واللاقمات لَقما، إهالة وسمنا لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه،
__________
1 الفائق "3/ 123".
2 تفسير الطبري "1/ 5".(16/392)
والمُعتر فآووه، والباغي فناوئوه"1.
ونسب "الرافعي" له قوله: "والشاءِ وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حم المذق فما لكم لا تمجعون.
وقوله: "الفيلُ ما الفيل، وما أداك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل". وروي أنه "جعل يسجع لهم الأساجيع ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى"2، أو أنه قال: "ألم ترَ على ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى"3. روي أنه قال هذه الآيات لسجاج لما أراد الدخول بها، فقالت: "وماذا أيضًا؟ قال: أوحى إليّ: أن الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قُعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا انتاجا. قالت أشهد أنك نبي، قال: هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وبقومك العرب! قالت: نعم، قال:
ألا قومي إلى النيك ... فقد هُيي لك المضجع
وإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناكِ ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
قالت: بل به أجمع. قال بذلك أوحى إليّ. فأقامت عنده ثلاثًا ثم انصرفت على قومها، فقالوا: س ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئًا؟ قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق! فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: مالك؟ قالت: أصدقني صداقًا، قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي
__________
1 تأريخ آداب العرب "2/ 179".
2 سيرة ابن هشام "2/ 341"، "حاشية على الروض"، ابن كثير، البداية "6/ 326"، الباقلاني، إعجاز "240".
3 الباقلاني، إعجاز "240".(16/393)
الرياحي، قال: علَّي به، فجاء، فقال: ناد في أصحابك أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخر وصلاة الفجر1". وأما "سيف" فذكر أنه صالحها "على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لها بذلك، وقال: خلفي على السلف من يجمعه لكِ، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة"2.
وذكر أن "سجاح" لما دخلت قبة "مسيلمة"، "قالت له: أخبرني بما يأتيك به جبريل؟ فقال لها: اسمعي هذه السورة: انكن معشر النساء خلقن أمواجًا، وجعل الرجال لكن أزواجًا، يولجن فيكن إيلاجًا، لا ترون فيه فتورا ولا إعوجاجا، ثم يخرجونه منكن إخراجا، فقالت له: صدقت، والله إنك لنبيّ مرسل"، وهي قصة أخذت من موارد سابقة، مثل الطبري، غير أنها غيرت فيها بعض التغيير، تنتهي بأنه رفع عن قومها صلاة العشاء والصبح لأجل المهر3.
وزعم أن "من قرآن مسيلمة الذي يزعم أنه نزل عليه، لعنه الله عليه: والنازعات نزعا، والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات ذروا، فالطاحنات طحنا، والنازلات نزلا، فالجامعات جمعا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، والثاردات ثردا، فالآكلات أكلا، والماضغات مضغا، فالبالعات بلعا"4.
وقد اتخذ قتل "مسيلمة" فخرًا، فادعى قتله بنو عامر بن لؤي، وادعى بعض الخزرج قتله، وادعى "بنو النجار" قتله، وادعى "حبشي" قاتل حمزة قتله، وكان "معاوية يدعي قتله" ويدعي ذلك له "بنو أمية". وذكر أن "عبد الملك بن مروان" قضى لمعاوية بقتل مسيلمة5، وهو قضاء سياسي لا أصل له بالطبع.
__________
1 الطبري "3/ 273 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 275".
3 نزهة الجليس "1/ 473 وما بعدها"
4 نزهة الجليس "1/ 474".
5 البلاذري، فتوح "99".(16/394)
ويظهر أن بني حنيفة بقوا على تعلقهم بمسيلمة، حتى بعد مقتله وذهاب أمره.
ففي خبر ينسب إلى "ابن مُعَيْز" السعدي أنه مر على مسجد بني حنيفة، فسمعهم يذكرون "مسيلمة"، ويزعمون أنه نبي، فأتى "ابن مسعود" فأخبره، فبعث إليهم الشرط، فجاءوا بهم فاستتابوا فخلي عنهم، وقدم "ابن النواحة" فضرب عنقه1. هذا، ويدل تعلق "بني حنيفة" وغيرهم من عرب اليمامة بمسيلمة، واستماتتهم في الدفاع عنهم، وتذكرهم له حتى بعد هلاكه، على أنه كان شخصية مؤثرة قوية، سحرت أتباعها، حتى انقادوا له هذا الانقياد. وقد نص "ابن حجر" على قتل "ابن مسعود" لابن النواحة، إلا أنه لم يذكر أن ذلك كان بسبب اعتقاده بنبوة "مسيلمة"، وإنما ذكر أنه "كان قد أسلم ثم ارتد فاستتابه عبد الله بن مسعود، فلم يتب فقتله على كفره وردّته"2. واسم "ابن النواحة" "عبادة بن الحارث" أحد بني عامر بن حنيفة3.
ويروى أن "الأخطل" الضبعي، قال في مسيلمة:
لهفًا عليك أبا ثمامة ... لهفًا على رُكْنَىْ شمامة
كم آية لك فيهمُ ... كالبرق يلمع في غمامة
وكان "الضبعي" شاعرًا، زعم أنه ادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة، ولنا عجزها، وقد ضرب عنقه "عمر بن هبيرة"، ومن شعره لنا شطر هذا الأمر قسمة عادل
متى جعل الله الرسالة تُرتبا4
أي راتبة في واحد.
وسئل "الأحنف بن قيس" رأيه في مسيلمة، فقال: "ما هو بنبي صادق ولا بمتنبئ حاذق"5.
__________
1 الفائق "1/ 603"، الإصابة "3/ 143"، "رقم 6651".
2 الإصابة "3/ 143"، "رقم 6651".
3 البلاذري، فتوح "97".
4 المؤتلف "22".
5 أمالي المرتضى "1/ 292".(16/395)
وأنا لا أستبعد ما نسب إلى "مسيلمة" من دعوى نزول الوحي عليه، وتسمية ذلك الوحي "قرآنًا" أو كتابًا أو سفرًا، أو شيئًا آخر، ولكني استبعد صحة هذه الآيات التي نسبتها الكتب إليه، وأرى أن أكثرها ورد بطريق آحاد، فلما نقلها الخلف عن السلف، وكثر ورودها في الكتب ظهرت وكأنها أخبار متواترة، وصارت في حكم ما أجمع عليه. وقد رويت بعض الآيات مثل: آية الضفدع، بصور متعددة مختلفة، مع أنها أشهر وأعرف آية أو آيات نسبت إليه، فما بالك بالآيات الأخرى، ثم إننا نجد الرواة يناقضون أنفسهم كثيرًا فيما نسبوه إليه، وبعضه مما لا يعقل صدوره من مسيلمة، مثل شعره الذي قاله لسجاح، حين أراد الدخول بها، وهل يعقل أن يقول إنسان يدعي النبوة مثل هذا الكلام الفاحش أمام الناس، ليدون ويسجل عليه!
وقد ذكر "ابن النديم" أن لابن الكلبي مؤلفًا خاصًّا ألفه في مسيلمة دعاه: "كتاب مسيلمة الكذاب"، لم يصل إلينا، وله كتاب آخر في بني حنيفة اسمه: "كتاب أيام بني حنيف"، وهم قوم مسيلمة، وكتاب دعاه: "كتاب أيام قيس بن ثعلبة"1.
وزعم أن من كلام "طليحة" الأسدي الذي قاله لأصحابه: "والحمام واليمام، والصرد والصَّوَّام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام"2.
وروى "الطبري" سجعا من سجع "سجاح"، وكانت نصرانية راسخة في النصرانية، قد علمت من علم تغلب، هو قولها لأتباعها: "عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة"، فلما جاءت مع قومها اليمامة، قال لها مسيلمة: "لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش، فحباك به، وكان لها لو قبلت. فقالت: لا يرد النصف إلا من حنف، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف. فقال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذ طمع، ولا زال أمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشة
__________
1 الفهرست "ص148".
2 الطبري "3/ 260"، "دار المعارف".(16/396)
خلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجّار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار.
وقال أيضا: لمّا رأيت وجوههم حسُنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون يومًا، وتكلفون يومًا، فسبحان الله! إذا جاءت الحياة تحيون، وإلى ملك السماء ترقون! فلو أنها حبة خردلة، لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور.
وكان مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولدًا واحدًا عقبًا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد، حتى يصيب ابنًا ثم يمسك، فكان قد حرّم النساء على من له ذكر"1.
وبلاغة الكلام معروفة عند الجاهليين، فقد كانوا ينعتون المتكلم الجيد بالبليغ، وفي القرآن الكريم: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} 2.والبليغ الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره ونهاية مرامه3. سأل "معاوية" "صحار بن عياش" العبدي4، ما البلاغة؟ فقال: لا تخطئ ولا تبطئ. أو أنه قال له: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز. قال: ما الإيجاز؟ قال: أن لا تبطئ ولا تخطئ. وكان قد دهش من فصاحته وبلاغته، فقال له: ما هذه البلاغة فيكم؟ قال: شيء يختلج في صدورنا فنقذفة كما يقذف البحر بزبده5.
وقد ميز "الطبري" وغيره من العلماء بين الخطباء وبين الفصحاء والبلغاء، فالخطباء هم من جماعة صناع الكلام، وصناعتهم صناعة الخطب، وذكر بعدهم "البلغاء"، صناع البلاغة، ثم "الشعر" والفصاحة، فجعل للشعر في مقابل الفصاحة، ثم السجع والكهانة، وقال: "كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم
__________
1 الطبري "3/ 271 وما بعدها".
2 النساء، الرقم4، الآية62.
3 تاج العروس "6/ 4"، "بلغ".
4 "صحار بن عباس؟ ".
5 تاج العروس "6/ 5"، "بلغ"، الإصابة "2/ 170"، "رقم 4041".(16/397)
وفصيح"1، فالخطيب هو الذي يخطب باسم الوفد أو القوم، وله لذلك عندهم مقام جليل، لأنه عقل من يتكلم باسمهم ولسانهم، والبليغ من يتحدث ويتكلم في المجالس والأندية، بكلام بليغ رصين، والفصيح من يفصح ويعرب بلسانه، ونجدهم يقولون أحيانًا: خطيب فصيح، وشاعر فصيح، فالفصاحة صفة تلحق بالمتكلم ناثرًا كان أو كان شاعرًا.
وللبيان عند العرب مقام كبير. وقد أشاد القرآن بالبيان، فقال: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 2. فجعل البيان في جملة ما علمه الله الإنسان. ونعت القرآن بأنه نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3، ووصف القرآن بقوله: {طس، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} 4. وينسب إلى الرسول قوله: "إن من البيان لسحرا" 5، وورد في المثل: "جرح اللسان كجرح اليد".
هو في شعر امرئ القيس". يضرب في تأثير الوقيعة6، وفي أثر القول في فعل الناس.
وروي أن ذوي الفهم والعلم من قريش تأثروا ببلاغة القرآن وفصاحته، فروي أن "الوليد بن المغيرة"، وكان من بلغاء قريش وفصائحهم ومن علمائهم بالشعر، لما دخل على "أبي بكر" يسأله عن القرآن "فلما أخبره خرج على قريش. فقال: يا عجبًا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون"، أو أنه قال لما سمع القرآن: "والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر"، أو أنه قال: "سمعت قولًا حلوًا أخضر مثمرًا، يأخذ بالقلوب. فقالوا: هو شعر. فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضت عليّ الشعراء شعرهم! نابغة وفلان وفلان. قالوا: فهو كاهن. فقال: لا والله ما هو بكاهن، قد عرضت
__________
1 تفسير الطبري "1/ 5".
2 سورة الرحمن، تفسير الطبري "27/ 67".
3 النحل، الآية 103، الشعراء، الآية195.
4 النمل، الآية1.
5 البيان والتبين "1/ 349"، العسكري، جمهرة "1/ 13".
6 الزمخشري، المستقصى "20/ 50"، "رقم187".(16/398)
عليّ الكهانة. قالوا: فهذا سحر الأولين اكتتبه. قال: لا أدري إن كان شيئًا فعسى هو إذا سحر يؤثر"1، أو أنه قال أشياء أخرى من هذا القبيل، اتفقت في المعنى والمقصد، واختلفت في العبارات.
كما روي أن قومًا من قريش ومن غيرهم، أسلموا بتأثير بيان القرآن عليهم، فقد روي أن "عمر بن الخطاب" أسلم على ما يقال حين سمع القرآن. روي عنه أنه قال: "خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن. فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش. فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} فقلت: كاهن. قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} حتى ختم السورة. قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع"2. وهي رواية تخالف ما جاء في خبر إسلامه، من أنه كان قد خرج يريد قتل الرسول، فتلقاه "نعيم بن عبد الله" النحّام، وكان من المسلمين، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال له: "أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله"، فقال له "نعيم": "أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطّاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه فعليك بهما"، فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه وعندهما "خباب بن الأرت" معه صحيفة فيها "طه" يقرئها إياها، فلما سمعو حس عمر، أخذت "فاطمة" الصحيفة. فلما دخل "عمر"، قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا: ما سمعت شيئًا، ثم قال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأونها أنظر ما هذا الذي جاء به محمد.
فأبت أخته إعطاءها إلا أن يغتسل، فاغتسل عمر، فأعطته الصحيفة وفيها "طه" فقرأها وتأثر بها فأسلم3.
__________
1 تفسير الطبري "29/ 98 وما بعدها"، سورة المدثر.
2 الإصابة "2/ 512"، "رقم 5738"، الروض الأنف "1/ 218"، ورووا له شعرًا، ذكروا أنه قال بعد إسلامه، رواه "ابن إسحاق" الروض الأنف "1/ 218".
3 ابن هشام "1/ 216 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 216".(16/399)
ورووا أن "سويد بن الصامت"، صاحب صحيفة لقمان، كان ممن أعجب بالقرآن ورووا أن "جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل"، وكان من أكابر قريش ومن علماء النسب، قدم على النبيّ، فسمعه يقرأ "الطور"، فأثرت القراءة فيه، وقد أسلم فيما بعد، بين الحديبية والفتح، وقيل: في الفتح1.
والفصاحة في معنى البلاغة، فهي مرادف لها في الاستعمال. والفصيح هو البين في اللسان والبلاغة، ولسان فصيح، أي: طلق2. وقد اشتهر "قس بن ساعدة الإيادي" في الفصاحة حتى ضرب به المثل فيها، فقيل: أفصح من قس وأنطق من قس3، وأبين من قس، أي: أفصح4، وأبلغ من قس وقد ذكره "الأعشى" بقوله:
وأبلغ من قسّ وأجرأ من الذي ... بذي الغيل من خفان أصبح خادرًا
كما ذكره الحطيئة بقوله:
وأبلغ من قس وأمضى إذا مضى ... من الريح إذ مسّ النفوس نكالها5
ونسبوا إلى "قس" قوله ينصح ولده: "إنّ المِعا تكفيه البقلة. وترويه المذقة، ومن عيّرك شيئًا ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلت على نفسك عَدَل عليك من فوقك، وإذا نَهَيْتَ عن شيء فإنْهَ نفسك، ولا تجمع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تحتاج إليه، وإذا ادخرت فلا يكونَنَّ كنزك إلا فعلك. وكن عف العيلة، مشترك الغنى، تسد قومك. ولا تشاورن مشغولًا وإن كان حازمًا، ولا جائعًا، وإن كان فهمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا ولا تضعنّ في عنقك طوقًا لا يمكنك نزعه إلا بشق نفسك. وإذا خاصمت فاعدل،
__________
1 الإصابة "1/ 227"، "رقم1091"، الاستيعاب "1/ 232 وما بعدها".
2 تاج العروس "2/ 197"، "فصح".
3 الزمخشري، المستقصى "1/ 393"، "رقم 1677".
4 المصدر نفسه "1/ 32"، "رقم99"، العسكري، جمهرة "1/ 249"، "رقم 336".
5 المستقصى "1/ 29"، "رقم88".(16/400)
وإذا قلت فاقتصد. ولا تستودعن أحدًا دينك وإن قربت قرابته، فإنك إذا فعلت ذلك لم تزل وجلًا، وكان المستودَع بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت له عبدًا ما بقيت. وإن جنى عليك كنت أولى بذلك، وإن وفى كان الممدوح دونك"1.
وقد اشتهرت "إياد" بالفصاحة والبيان، وبقدرة في اللسان. وقد ظهر منهم جملة خطباء2. واشتهرت "بنو أسد" بالخطابة كذلك، قال "يونس بن حبيب": "ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام، أو شديد العدو"3.
والآن، وبعد أن انتهينا من الكلام على النثر. نقول: هل كان للجاهليين أدب منثور؟ أي: مدونات من الأدب المنثور. لقد ذهب البعض إلى أنه لو كان للجاهليين أدب منثور مدون، لعدّ عجيبًا اختفاء آثاره هذا الاختفاء الكلي، حتى من أحاديث العرب المنقولة4. والواقع أن من غير الممكن في الوقت الحاضر البت علميًّا في هذا الموضوع، لأننا لا نملك أدلة علمية، لنستنبط منها أحكامًا تؤيد أو تنفي وجود التدوين في الجاهلية. أما مسألة عدم ورود نصوص أدبية منثورة إلينا، أو عدم ورود إشارات إلى وجودها في الجاهلية، فإنها أمور لا يمكن أن تكون حجة على إثبات عدم وجود التدوين عند الجاهليين، إذ لا يجوز أنها كانت، ولكنها تلفت، بسبب كونها كانت مكتوبة على مواد سريعة التلف، فهلكت، كما هلكت مدونات صدر الإسلام، حيث لم يصل من أصولها إلا النزر اليسير، وهو نزر يشك في أصالته وصحته.
وذهب بعض إلى وجود أدب منثور، إذ لا يعقل وجود أدب منظوم، ثم لا يكون للعرب أدب منثور. ويتجلى طراز هذا الأدب في الأمثلة والحكم المنسوبة
__________
1 أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، المصون في الأدب "الكويت 1960"، "ص179 وما بعدها".
2 البيان والتبيين "1/ 42 وما بعدها".
3 البيان والتبيين "1/ 174".
4 هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام "ص294 وما بعدها"، "دار العلم للملايين"، "بيروت 1964".(16/401)
إلى الجاهليين. أما مؤلفات وكتب، وصحف مدونة فلم يصل منها إلينا أي شيء.
ولكن ذلك لا ينفي عدم وجودها عند أهل الجاهلية. وقد تحدثت عن موضوع التدوين عند الجاهليين في موضع آخر من هذا الكتاب.
وللجاحظ رأي في كلام العرب، فهو يرى أن "كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام "فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده"، على حين يكون كلام العجم "عن طول فكرة وعن اجتهاد رأي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكير ودراسة الكتُب1. وقد حصر أصناف البلاغة عند العرب بالقصيد والرجز، وهما من الشعر، وبالمنثور، وهو الكلام المرسل، وبالأسجاع، وبالمزدوج وما لا يزدوج من الكلام2.
أما موضوع وجود ترجمات جاهلية عربية للتوراة والإنجيل والكتب الشرعية الأخرى المعتبرة عند أهل الكتاب، فموضوع لم يتفق عليه الباحثون حتى الآن.
نعم ورد في الأخبار أن الأحناف كانوا قد وقفوا على كتب الله، وقرأوها بالعبرانية وبالسريانية، وأنهم كتبوا بهما وبالعربية3، ولكن هذه الأخبار غامضة غير واضحة، يجب أخذها بحذر، كما ورد أن بعض الرقيق من أهل الكتاب ممن كان بمكة كان يقرأ كتاب الله، وكانت قريش ترى رسول الله يمرّ عليه ويجلس عنده ويستمع إليه، فقالت: إنما يتعلم "محمد" منه4، ولكن الأخبار الواردة عن هذا الموضوع لا تشير إلى أن هذا الذي زعم أنه كان يعلم الرسول، كان قد دوّن ترجمة كتب الله، أو تفاسيرها بالعربية، وأن الناس قد وقفوا عليها.
وأما ما ورد من أمر "عمرو بن سعد بن أبي وقاص" "عمرو بر سعد
__________
1 البيان والتبيين "3/ 28 وما بعدها".
2 البيان والتبيين "3/ 29".
3 Georg Graf, Geschichte der Christlischen Arabischen Literatur, I, S. 34.
4 النحل، الآية 103، تفسير الطبري "14/ 119 وما بعدها".(16/402)
بر أبي وقاص" المذكور في تأريخ "ميخائيل السوري" "المتوفي سنة 1169 للميلاد" البطريق "البطريارك يوحنا" بطريق اليعاقبة، ترجمة "الإنجيل" من السريانية إلى العربية ثم ما جاء من وقوع خلاف بين "عمرو" وبين "البطريارك" بشأن الترجمة، ثم من استعانة "البطريارك" بعد ذلك برجال من "تنوخ"، و"عاقولا"، و"طيء"، كانوا يتقنون العربية والسريانية للقيام بالترجمة.
ولترجمة التوراة، مع رجل يهودي، فإنه خبر غير مؤكد، وقد شك فيه بعض الباحثين، وربما وضع للطعن في "البطريارك"، وضعه خصومه عليه1.
ولم تأت جهود "بومشتارك" وتلامذته بنتائج مؤكدة مقبولة عن إثبات وجود كتب للصلاة بالعربية، ترجمت من السريانية إليها قبل الإسلام2. ومن المحتمل أن رجال الدين كانوا يعظون نصارى العرب في الجاهلية بالعربية، أما نصوص الصلاة، فكانوا يلقونها بالسريانية. وربما كان الحال على هذا المنوال بالنسبة إلى رجال الدين المتنقلين مع الأعراب، فقد كانوا يتنقلون معهم، يعلمونهم ويرشدونهم بالعربية، ولكنهم لم يكونوا قد ترجموا كتب الصلوات ترجمة مدونة بلغتهم. وقد ورد أن رجال الدين كانوا يحملون "الدفة" معهم، حيث تحل القبائل، لترتيل الصلوات على المذابح المتنقلة، فعل ذلك رجال الدين مع "بني ثعلب" وقبائل من اليمن وغيرها3. وينطبق ما أقوله على العرب الجنوبيين أيضًا، فلم يعثر حتى الآن على دليل يثبت وجود ترجمات بعربيات جنوبية للتوراة أو الإنجيل أو الكتب الدينية الأخرى. ولكن هناك أخبارًا يذكرها أهل الأخبار تشير إلى وجود مثل هذه الترجمات، غير أننا لا نتمكن من التسليم بها، لما فيها من عناصر تدعو إلى الشك في أمرها وعدم إمكان الأخذ بها في الوقت الحاضر.
__________
1 Michael der Syrer, chronique de Michel le Syrien, II, p. 326, Paris, 1855, Georg Graf, I, 35, f. Nau, un Lollaque du Partiarche Jean Avec l'emir des Agareene in Jounal Asiatque, II, Ser, 5, 1915, 5, 1915, 225-279.
وقد جعله "عمرو بن العاص"، وجعله "لامانس" "سعيد بن عامر".
2 Islamic, 4 1931, 562, f.
3 Georg Graf, I, s. 38.(16/403)
وقد ورد أن عرب بلاد الشام من لخم وجذام وغسان وقضاعة وتغلب وكلب وغيرهم، "وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية"1، وقُصد بالعبرانية السريانية، ولهذا لم يأخذ علماء اللغة عنهم. غير أنهم لم يشيروا إلى ما كانوا يقرأون، ويظهر أنهم قصدوا بذلك الصلوات والكتب المقدسة، يقرأونها عليهم بالسريانية وربا ترجموا ما قرأوه عليهم إلى العربية.
__________
1 المزهر "1/ 212"(16/404)
الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة
والخطابة وجه آخر من أوجه النشاط الفكري عند الجاهليين. وقد كان للخطيب عندهم، كما يقول أهل الأخبار، مقام كبير للسانه وفصاحته وبيانه وقدرته في الدفاع عن قومه والذبّ عنهم والتكلم باسمهم، فهو في هذه الأمور مثل الشاعر، لسان القبيلة ووجهها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء جماعة من الخطباء، اشتهروا بقوة بيانهم وبسحر كلامهم، وأوردوا نماذج من خطبهم. ومنهم من اشتهر بنظم الشعر، وعدّ من الفحول، مثل عمرو بن كلثوم1.
قال "الجاحظ": "وكان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر"2. وذكروا أن الشعراء كانوا في أرفع منزلة عند العرب، وما زال الأمر كذلك حتى أفضى الشعر إلى قوم اتخذوه أداة للتكسب وسعوا به في كل مكان، فوضعوه أمام الملوك والسوقة، سلعة في مقابل ثمن، واستجداء لأكف الناس، فأنف منه الأشراف وتجنبه السادة، ونبهت الخطابة.
وصار للخطيب شأن كبير، ارتفع على شأن الشاعر. ولخص "الجاحظ" ذلك بقوله: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 174".
2 البيان والتبيين "114"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".(16/405)
الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهوّل على عدوّهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"1.
وكانوا يحبّون في الخطيب أن يكون جهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت.
وأن يكون مؤثرًا شديد التأثير في نفوس سامعيه حتى يسحرهم ويأخذ بألبابهم.
وكانوا يجعلون مثل هؤلاء الخطباء ألسنتهم الناطقة إذا تفاخروا أو حضروا المجالس أو تفاوضوا في أمر، أو أرادوا تأجيج نيران الحروب، أو عقد صلح، أو البت في أي أمر جلل. ولذلك صارت الخطابة من أمارات المنزلة والمكانة، فصارت في ساداتهم وأشرافهم الذين يتكلمون باسمهم في المحافل والمجامع العظام.
وقد ذكر "الجاحظ"، أن حمل العصا المخصرة دليل على التأهب للخطبة.
والتهيؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم. حتى أنهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصر بأيديهم، إلفًا لها، وتوقعًا لبعض ما يوجب حملها: والإشارة بها"2. ولا يخطب أحدهم إلا وعنده عصًا أو مخصرة، جرى على ذلك عرفهم حتى في الإسلام. "قال عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي"، وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، فلم ينطق حتى أتوه بمخصرة3. وكانوا يعتمدون على الأرض بالقسي، ويشيرون بالعصا والقنا، ومنهم من يأخذ المخصرة في خطب السلم، والقسي في الخطب عند الخطوب والحروب. وذكر أن من عوائدهم أن يكون الخطيب على زيّ مخصوص في العمامة واللباس4. وأن يخطب الخطيب وعلى رأسه عمامة، علامة المكانة والمنزلة عند الجاهليين. وذكر أيضًا أن من عوائدهم ألا يخطب الخطيب وهو قائد إلا في خِطبة النكاح. كما ذكر أن منهم من كان
__________
1 البيان والتبيين "1/ 241".
2 البيان والتبيين "61"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1959م"، البيان والتبيين "3/ 117"، "هارون".
3 البيان والتبيين "3/ 119 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "3/ 152 وما بعدها"، البيان "1/ 370 وما بعدها".(16/406)
يخطب وهو على راحلته1. وذكر "الجاحظ" أن الشعوبية طعنت على "أخذ العرب في طبها المخصرة والقناة والقضيب، والاتكاء والاعتماد على القوس، والخدّ من الأرض، والإشارة بالقضيب". وذكر أن من المستحسن في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، قليل التلفت، نظيف البزة، وأن يخطب قائمًا على نشر من الأرض، أو على راحلته، وأن يحتجز عمامته، ويكمل هذه الخصال شرف الأصل وصدق اللهجة2.
وقد كان بين الخطباء من كان يقول الشعر بالإضافة إلى علو شأنه بالنثر. غير أن العادة، أن الشعراء لم يبلغوا في الخطابة مبلغ الخطباء، وأن الخطباء دون الشعراء في الشعر. "ومن يجمع الشعر والخطابة قليل"3. ومن الشعراء الخطباء: "عمرو بن كلثوم" التغلبي، و"زهير بن جناب"، و"لبيد"4، و"عامر ابن الظرب العدواني"5.
وذكر "الجاحظ" أن العرب استعملت الموزون، والمقفى، والمنثور في مساجلة الخصوم، والرجز، في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وبعث همة، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة والمحاورة، واستعملت الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعملت المنثور في الأغراض الأخرى6،وقال أيضًا: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر،
__________
1 البيان "1/ 118"، "2/ 20".
2 البيان والتبيين "22"، "بيروت1959م"، "انتقاء الدكتور جميل جبر، المطبعة الكاثوليكية"، البيان والتبيين "3/ 6 وما بعدها".
3 البيان والتبيين "1/ 45".
4 ومن شعر لبيد، قوله:
وأخلف قسا ليتني ولو أنني ... وأعيا على لقمان حكم التدبر
البيان والتبيين "1/ 189، 365".
5 البيان والتبيين "1/ 365".
6 البيان والتبيين "3/ 6 وما بعدها، 28".(16/407)
وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب"1.
ويظهر أن من الخطباء من استعمل السجع في خطبه، ولا سيما في المفاخرات والمنافرات وأمور التحكيم2، وهو في الغالب. ومنهم من كان يستعمل الكلام المرسل وذلك في الأمور الأخرى. ولغلبة السجع على الخطب، قال بعض علماء اللغة: "الخطبة عن العرب: الكلام المنثور المسجع ونحوه"3.
وقسم "الجاحظ" الخطب على ضربين، فقال: "اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين، منها الطوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويًا في الجودة، ومتشاكلًا في استواء الصنعة، ومنها ذات الفِقر الحسان والنتف الجياد. وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حفظه التخليد في بطون الصحف. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع"4.
وقد اقتضى النظام الاجتماعي والسياسي في الجاهلية أن يقيم العرب للخطابة وزنًا خاصًّا في المفاوضات التي تكون في داخل القبيلة للنظر في أمورها وفي شئونها الخاصة بها في أيام السلم وفي أوقات الغزو والغارات، في حالتي الهجوم والدفاع.
وأقاموا لها وزنًا خاصًّا بالمناسبة للمفاوضات التي جرت بين القبائل، أو بين القبائل والملوك. ثم في المفاخرات وفي المنافرات. فكل هذه الأمور وأشباهها استدعت ظهور أناس بلغاء اعتمدوا على حسن تصرفهم في تنظيم الكلم وفي تنسيق الجمل وفي التلاعب بالألفاظ للتأثير على القلوب والأخذ بمجامع الألباب. فربَّ كلمة كانت تقيم قبيلة وتقعدها لتلاعب الخطيب بقلبها بسحر بيانه وفي كيفية اختيار ألفاظه واستخدامه مواضع الإثارة التي يعرف أنها ستثير النار الدفينة في أفئدة سامعيه.
__________
1 البيان والتبيين "3/ 82 وما بعدها".
2 البيان والتبيين "1/ 290".
3 تاج العروس "1/ 238"، "خطب".
4 البيان والتبيين "2/ 7".(16/408)
ولهذا كانوا لا يختارون لمن يتكلم باسم قومه إلا من عرف بسحر لسانه وقوة بيانه، ليتمكن بما وهب من مرونة وتفنن في كلامه من التغلب على خصمه وإفحامه، ولما مات "أبو دليجة" "فضالة بن كلدة" رثاه "أوس بن حجر" بكلمة مؤثرة تعبر عن مبلغ شعوره وشعور قومه للفاجعة الأليمة التي جعلت قوم الخطيب في لبس وبلبال، لعدم وجود من سيحل محله في الدفاع عنهم، إذ حفلوا لدى الملوك، فيقول:
أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ ... أمسوا من الخطب في لبس وبلبال
أم من يكون خطيب القوم إذ حفلوا ... لدى الملوك ذوي أيد وأفضال1
وندخل في الخطباء جماعة عرفت بإلقاء المواعظ والنصائح في أمور الدين والأخلاق والسلوك وفي التفكير، وهم قوم تأثروا بالمؤثرات الثقافية التي كانت في أيامهم بسبب وجود اليهود والنصارى بينهم، وبسب اتصالهم بالرهبان والمبشرين في داخل جزيرة العرب وفي خارجها، فأخذوا يحثون قوهم على التعقل والتأمل والتفكر في أمور دينهم ودنياهم، وترك ما هم عليه من عبادة الأصنام والتقرب إلى الأوثان، وهي حجارة صلبة، أو من خشب أو معدن لا يسمع ولا يجيب.
وينسب إليهم، أنهم كانوا على دين إبراهيم، على ألسنة العربية الأولى دين الفطرة دين التوحيد. وينسب إليهم أيضًا، أنهم كانوا يقرأون ويكتبون، لا بالعربية وحدها، بل بالعبرانية والسريانية أيضًا، وأنهم كانوا يتدارسون التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء، إلى غير ذلك من دعاوى قد تكون وضعت عليهم. وهم قوم سبق أن تحدثت عنهم، وقلت عنهم أنهم الأحناف.
وإذا درسنا الأغراض التي توخاها أهل الجاهلية من الخطابة، نجدها تكاد تتجمع في الأمور الآتية: التحريض على القتال، وإصلاح ذات البين، ولمّ شعث، لكثرة ما كان يقع بينهم من تنافر وتشاحن، ثم السفارات إلى القبائل أو الملوك، لأغراض مختلفة، مثل التهنئة والتعزية، أو طلب حاجة، وحلّ معضل، أو إنهاء خصومة، ثم الجلوس لحل الديات وإنهاء نيران الثأر، ثم التفاخر والتنافر والتباهي بالأحساب والأنساب والمآثر والجاه والمال، ثم في الوفادات حيث تقتضي
__________
1 كارلو نالينو "98"، ديوان أوس "103"، نقد الشعر لقدامة "35".(16/409)
المناسبة إلقاء الخطب، أو في الحث على التعقل والتفكر وتغيير رأي فاسد، كما في خطب قس بن ساعدة الإيادي وفي خطب الأحناف، ثم في المناسبات الأخرى مثل تعداد مناقب ميت، أو خطب الإملاك وما إلى ذلك.
ومن أشهر الخطب المنسوبة إلى الجاهليين، الخطب التي زعم أن "أكثم بن صيفي"، و"حاجب بن زرارة"، وهما من "تميم"، و"الحارث بن ظالم"، و"قيس بن مسعود"، وهما من "بكر"، و"خالد بن جعفر"، و"علقمة بن علاثة"، و"عامر بن الطفيل" من "بني عامر"، قالوها في مجلس كسرى، يوم أرسلهم "النعمان بن المنذر" إليه، ليريه درجة فصاحة العرب ومبلغ بيانهم وعقلهم، مما أثار إعجاب "كسرى" بهم، حتى عجز عن تفضيل أحدهم على الأخر، مما جعله يقر ويعترف بذكاء العرب وبقوة بيانهم وبقوة عقلهم، فقدرهم لذلك حق قدرهم وأكرمهم. وهي خطب مصنوعة موضوعة، قد تكون من وضع جماعة أرادت بها الرد على الشعوبيين الذين كانوا ينتقصون من قدر العرب، ومن لسان العرب، ومن دعوى الإعجاز في لغتهم، فصنعت هذا المجلس، وعملت تلك المحاورة والخطب في الرد عليهم، وهي تتناول صميم ذلك الجدل.
وأكثر ما نسب إلى زيد وأمثاله من الأحناف مختلق، وضع عليهم فيما بعد وأكثر ما ورد عنهم في شرح حياتهم هو من هذا النوع الذي يحتاج إلى إثبات. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من الجاهليين قالوا عنهم: إنهم كانوا من خطباء الجاهلية المشهورين المعروفين، وقد أدخلوا بعضهم في المُعَمرين. والمُعَمَّر في عرفهم من بلغ عشرين ومئة سنة فصاعدًا، وإلا، لم يعدوه من المعرمين1.
وعلى رأس من ذكروا: "دويد بن زيد بن نهد بن ليث بن أسود بن أسلم الحميري"، فهو إذن من حمير. وقد ذكر أنه عاش أربع مئة سنة وستًّا وخمسين سنة، ونسبوا إليه وصية أوصى بها بنيه2. ولكنهم لم يذكروا متى عاش، وفي أي زمان مات، وكيف أوصى بنيه بهذه اللهجة الحجازية، لهجة القرآن الكريم، وهو من حمير، وحمير لها لسانها وكتابتها.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 157 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "3/ 157وما بعدها".(16/410)
وذكر أهل الأخبار اسم "زهير بن جناب بن هبل" في ضمن المشهورين في البيان والفصاحة والمنطق عند الجاهليين، ويذكرون أنه كان على عهد "كليب بن وائل"، وأنه كان لسداد رأيه كاهنًا، ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى "رزاح بن ربيعة"، وقالوا إنه: "كان سيد قومه وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وأوفدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وفارس قومه، وله البيت فيهم والعدد منهم"1. وقد ذكروا له وصية أوصى بها بنيه، وأبيات شعر، زعموا أنه نظمها.
وذكروا أيضًا "مرثد الخير بن ينكف بن نوف بن معد يكرب بن مضحى"، زعموا أنه كان قيلًا حدبًا على عشيرته، محبًّا لصلاحهم. وكان من أفصح الفصحاء وأخطب الخطباء، وزعموا أيضًا أنه أصلح بين القيلين: "سبيع بن الحرث" و"ميثم بن مثوب بن ذي رعين"، وأوردوا ما دار بينهم من نقاش وحوار2 ضبطوه وسجلوه، حتى لكأن كاتب ضبط كان حاضرًا بينهم كُلِّفَ تسجيلَ محضر ذلك الحديث.
وعدّ "الحارث بن كعب المذحجي" من هذه الطبقة البليغة التي اشتهرت بسحر البيان. وقد زعم أهل الأخبار أنه كان على دين "شعيب" النبيّ، وهو دين لم يكن قد دخل فيه غيره وغير "أسد بن خزيمة" و"تميم بن مرّ".
وقد ذكروا له وصيّة لأبنائه، أوصاهم بها حين شعر بدنو أجله، بعد أن عاش على زعمهم ستين ومئة سنة3.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن هذا الدين، دين شعيب. وليس في الوصية المنسوبة إليه ما يميزه عن غيره من الخطباء، مثل قس بن ساعدة الإيادي أو غيره من المتألهين الرافضين لعبادة الأوثان.
وعدّ علماء الأخبار كعب بن لؤي في جملة الخطباء القدماء، وذكروا أنه كان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر. وكان رجلًا طيبًا خيرًا،
__________
1 الأغاني "21/ 93 وما بعدها". بلوغ الأرب "3/ 159".
2 بلوغ الأرب "3/ 161 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "3/ 164".(16/411)
فلما مات، أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل1.
وكان ابن عمار عمرو بن عمار الطائي خطيب مذحج كلها، وكان شاعرًا كذلك، فبلغ النعمان حسن حديث، فاستدعاه، وحمله على منادمته. وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، وكان شديد العربدة، قتالًا للندماء، فنهاه أبو قردودة الطائي عن منادمته، ولكنه لم ينته، فلما قتله النعمان، رثاه أبو قردودة، وهجا النعمان2.
وعدّوا "عبد المطلب" في جملة خطباء قريش، الذين كانوا يخطبون في الملمات وفي الأمور العظيمة، وكان وافد أهل مكة على ملوك اليمن، فإذا مات ملك منهم، أو تولى ملك منهم العرش، ذهب إلى اليمن معزيًّا ومهنئًا. فهو خطيب القوم إذن3.
ومن خطباء "غطفان" في الجاهلية: "خويلد بن عمرو"، و"العُشَراء بن جابر" من "بني فزارة"، وخويلد خطيب يوم الفجار4.
وأما بقية من ذكر أهل الأخبار من خطباء الجاهلية، فهم: "أبو الطَّمَحان القني"، واسمه حنظلة بن الشرقي من "بني كنانة بن القين"5، و"ذو الأصبع العدواني" وهو من حكام العرب كذلك6، و"أوس بن حارثة"7، و"أكثم بن صيفي التميمي"، وهو من حكام العرب أيضًا. وقد ذكر أن "يزيد بن المهلب" كان يسلك طريقته في خطبه ووصاياه8، و"عمرو بن كلثوم"، وهو من الخطباء الشعراء البارزين في الفنين. وقد ذكروا له خطبة نصح ووصية ذكروا أنه أوصى بها بنيه، في الأدب والسلوك9، و"نعيم بن ثعلبة الكناني".
__________
1 البيان "1/ 351"، "هارون".
2 البيان "1/ 222 وما بعدها، 349"، البيان والتبيين "1/ 349"، "هارون".
3 الاشتقاق "43".
4 البيان والتبيين "1/ 351".
5 بلوغ الأرب "3/ 168 وما بعدها".
6 بلوغ الأرب "3/ 169 وما بعدها".
7 بلوغ الأرب "3/ 170 وما بعدها".
8 بلوغ الأرب "3/ 172 وما بعدها".
9 بلوغ الأرب "3/ 174".(16/412)
وكان ناسئًا، ينسئ الشهور، وقيل: إنه أول من نسأها. وكان يخطب في الموسم1، و"أبو سيّارة العدواني"، واسمه "عميلة بن خالد الأعزل"2، و"الحارث بن ذبيان بن لجأ بن منهب اليماني"3.
وفي الملمات والأوقات العصيبة وفي الوفدات على الملوك يُختار خيرة الخطباء المتكلمين المعروفين بأصالة الرأي وبسرعة البديهة والجواب، ليبيضوا الأوجه، ويؤدوا المهمة على أحسن وجه. ولما قدم النعمان بن المنذر الحيرة، بعد زيارته لكسرى، وتفاخره عنده بقومه العرب، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العر وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن عباد "الحارث بن ظالم"، وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المريّ، وهم خيرة من عرفهم في أيامه بالأصالة في الرأي وبقوة البيان، وطلب منهم الذهاب إلى كسرى والتكلم معه، ليعرف عقل العرب وصفاء ذهنها. فذهبوا وتكلموا، فأعجب بهم، وقدرهم حق تقدير4.
وذكر عن حاجب بن زرارة: أنه وفد على كسرى لما منع تميمًا من ريف العراق، فاستأذن عليه، وتحدث معه، فأرضاه، وأذن عندئذ لتميم أن يدخلوا الريف. وقد وفد ابنه عُطارد على كسرى أيضًا بعد وفاة والده5.
وأدرك "الربيع بن ضبيع الفزاري" الإسلام كذلك، ويذكر أهل الأخبار أنه أدرك أيام عبد الملك بن مروان6. وإذا كان هذا صحيحًا، فيجب أن يكون قد عاش معظم أيامه في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان طفلًا، أو شابًّا، وإن ذكر أهل الأخبار أنه كان من المعمرين.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 175 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "3/ 176".
3 بلوغ الأرب "3/ 177 ومابعدها".
4 العقد الفريد "2/ 4 وما بعدها" "وفود العرب على كسرى".
5 العقد الفريد "2/ 20".
6 بلوغ الأرب "3/ 166"، أمالي المرتضى "1/ 183"، الاقتضاب "369"، الدرر اللوامع "1/ 210".(16/413)
ومن الخطباء عطارد بن حاجب بن زرارة، وقد خطب أمام الرسول1.
ومن خطباء غطفان في الجاهلية: خويلد بن عمرو، والعشراء بن جابر بن عقيل2.
وكان الأسود بن كعب، المعروف بالكذاب العنسي، الذي ادعى النبوة من الخطباء كذلك3.
وذكر أهل الأخبار اسم: "قيس بن عامر بن الظرب"، و"غيلان بن سلمة الثقفي" في جملة حكام العرب. وذكروا أنه كان قد خصص يومًا له يحكم فيه بين الناس، ويومًا ينشد فيه شعره. وذكروا من حكام قريش عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف، وأبا طالب والعاص بن وائل4.
وعدّوا "قيس بن زهير العبسي" من خطباء الجاهلية المعروفين، وقد ذكروا عنه أنه جاور "النمر بن قاسط" بعد "يوم الهباءة"، وتزوج منهم. ثم رحل عنهم إلى "غمار"، فتنصر بها، وعف عن المآكل، حتى أكل الحنظل إلى أن مات5. وله أمثلة مذكورة في كتب الأمثال6. وقيل فيه: "أدهى من قيس بن زهير"، ومن أقواله: "أربعة لا يطاقون: عبد ملك، ونذل شبع، وأمة ورثت، وقبيحة تزوجت"، وله أمثال عديدة7. وذكر أنه طرد إبلًا لبني زياد، وباعها من عبد الله بن جدعان، وقال في ذلك شعرًا8.
وأما "سحبان بن زفر بن إياس" المعروف بـ"سحبان بن وائل الباهلي"، فإنه خطيب ضرب به المثل في الفصاحة فيقال: "أخطب من سحبان وائل"، و"أفصح من سحبان وائل"، و"أنطق من سحبان"، و"أبلغ من سحبان"، لمن يريدون مدحه وإعطاءه صفة البيان. وذكر أنه عاش في الجاهلية
__________
1 البيان "1/ 328".
2 البيان "1/ 350 وما بعدها".
3 البيان "1/ 359".
4 مجمع الأمثال "1/ 41".
5 بلوغ الأرب "3/ 165 وما بعدها".
6 أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 268، 299".
7 جمهرة الأمثال "1/ 457".
8 جمهرة الأمثال "1/ 344".(16/414)
وعاش في الإسلام حتى أدرك أيام معاوية1. وقد عرف بخطبته "الشوهاء"، قيل لها ذلك لحسنها. وذلك أنه خطبها عند معاوية فلم ينشد شاعر ولم يخطب خطيب2. "وكان إذا خطب لم يعد حرفًا ولم يتلعثم، ولم يتوقف، ولم يتفكر بل كان يسيل سيلًا"3. وقد ورد أنه توفي سنة "54هـ"4.
ذكر أنه دخل على معاوية وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا، لعلمهم بقصورهم عنه، فقال:
لقد علم الحي اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد أني خطيبها
فقال له معاوية: أخطب، فطلب عصًا، فلما أحضرت له خطب جملة ساعات، فقال معاوية: أنتَ أخطب العرب، قال: أو العرب وحدها، بل أخطبُ الجن والإنس5.
وقد اشتهرت إياد وتميم بالخطابة وبشدة عارضة خطبائها وبقوة بيانهم6. وقد ذكر أن معاوية ذكر تميمًا، فقال: "لقد أوتيت تميم الحكمة، مع رقة حواشي الكلم"7. وهناك قبائل أخرى أخرجت خطباء مشهورين، نسبت إليهم خطب بليغة. وقد يكون من الأعمال المفيدة النافعة، وضع دراسة خاصة بعدد الخطباء الذين نبغوا في القبائل، وبدراسة خطبهم، وبمساكن أولئك الخطباء ومهاجر قبائلهم، فإن دراسة علمية مثل هذه تعيننا كثيرًا على الوقوف على تطور هذه اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، والقبائل التي تكلمت بها سليقة وطبعًا.
وذكر "الجاحظ" أن شأن "عبد القيس" عجب "وذلك أنهم بعد
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 156"، تاج العرس "1/ 294"، "سحب"، ثمار القلوب "102 وما بعدها".
2 البيان "1/ 348"، "لجنة"، وعرفت خطبة قيس بن خارجة بالعذراء.
3 الإصابة "2/ 108"، "رقم 3663".
4 كارلو نالينو "118".
5 أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 248 وما بعدها".
6 البيان والتبيين "1/ 53".
7 البيان والتبيين "1/ 54".(16/415)
محاربة إياد تفرقوا فرقتين: ففرقة وقعت بعمان وشق عمان، وهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين، وهم من أشعر قبيل في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة. وهذا عجب"1. وذكر "الجاحظ" أن "معاوية" كان يعجب من فصاحة "عبد القيس"، ولما اجتمع بـ "صحار بن العباس" "صحار بن العياش"، المعروف بـ"صحار العبدي"، عجب من بلاغته وفصاحته، فقال له: ما هذه البلاغة فيكم؟ قال: شيء يختلج في صدورنا، فنقذفه كما يقذ البحر بزبده. قال: فما البلاغة؟ قال: أن تقول فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ2. وورد في "كتاب الحيوان"، للجاحظ، أنه قال له: "ما الإيجاز؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ"3.
وله كلام فيما يجب أن يقال عند تذكر الأحسان4.
وكان نسابة، وله مع "دغفل" النسابة محاورات5. وقد ذكر "ابن النديم"، أن له من الكتب: "كتاب الأمثال"6، وقد أشاد "الجاحظ" بعلمه في الأنساب، وذكره فيمن ذكر ممن ألف في كتب النسب، من أمثال "ابن الكلبي"، و"الشرقي بن القطامي"، و"أبي اليقظان"، و"أبي عبيدة"، و"دغفل بن حنظلة" النسابة، و"ابن لسان الحمرة"، و"ابن النطاح" اللخمي7.
وكان لبني عبد القيس، اتصال بمكة قبل الإسلام، لهم معها تجارة. يرسلون إليها التمر والملاحف والثياب والتجارة المستوردة من الهند. وقد أشير إليها في خبر إسلام "الأشج": "أشج" عبد القيس، واسمه "المنذر بن عائذ بن الحارث بن المنذر بن النعمان" العبدي. فقد أرسل ابن أخته "عمرو بن عبد القيس".
__________
1 البيان والتبيين وأهم الرسائل، انتقاء الدكتور جميل جبر، "بيروت 1959م"، "المطبعة الكاثوليكية"، "ص24".
2 الإصابة "2/ 170"، "رقم 4041"، البيان والتبيين "1/ 96"، المصون "139".
3 الحيوان "1/ 90 وما بعدها".
4 الحيوان "3/ 367".
5 الإصابة "2/ 170"، "رقم4041".
6 الفهرست "128"، "المقالة الثالثة".
7 الحيوان "3/ 209".(16/416)
إلى مكة عام الهجرة، ومعه تجارة من تمر وملاحف، فلقيه النبي، وهداه إلى الإسلام، وكان مثل قومه نصرانيًّا، فأسلم، وتعلم سورة الحمد واقرأ باسم ربك. فلما باع تجارته وعاد، أخبر خاله "الأشج" بإسلامه، فأسلم وكتم إسلامه حينًا، فلما كان عام الفتح، خرج مع وفد من أهل "هجر" وعبد القيس، وصل المدينة، وقابل الرسول، وأعلنوا إسلامهم، فقدموا بلادهم، وحوّلوا "البيعة" مسجدًا1.
وممن اشتهر من "بني عبد القيس" بالخطابة والفصاحة: "صعصعة بن صوحان" العبدي، وأخواه: "سيحان" و"زيد". وقد شهد "صفين" مع "علي"، وكانت له مواقف مع معاوية، وقد مات في خلافته. "وقال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب"، وله شعر2.
وذكر في أثناء تحدث أهل الأخبار عن "الردة" وادعاء "لقيط بن مالك" الأزدي النبوة، أن "الحارث بن راشد"، و"صيحن بن صوحان" العبدي جاءا على رأس مدد من "بني ناجية" و"عبد القيس"، لمساعدة "عكرمة" و"عرفجة"، و"جبير"،و"عبيد"، فاستعلاهم، فلما وصل المدد انهزم "لقيط"، وقتل ممن كان معه عشرة آلاف3. ولعل "صيحان" هذا هو أخ "صعصعة بن صوحان".
ومن منازل "عبد القيس" "دارين" و"الزارة"، وكان بها رهبان وبيع4، ويظهر أن النصرانية كانت متفشية بين "عبد القيس"،وردت إليها من العراق. وكان "بنو عبد القيس" من العرب المتحضرين بالنسبة إلى أعراب البوادي، ولهم اتصال بالعالم الخارجي، وقد قام المبشرون بنشر الكتابة بينهم، ولا بد وأن تكون كتابتهم بالقلم العربي الشمالي، الذي كان يكتب به النصارى العرب. ونجد في قرى البحرين أناسًا من مختلف الأجناس، بسبب اتصالها بالبحر.
__________
1 الإصابة "2/ 171"، "رقم4041"، "3/ 5"، "رقم5903".
2 الإصابة "2/ 192"، "رقم4130"، البيان "1/ 96"، جمهرة الأمثال "2/ 144".
3 الإصابة "2/ 193"، "4133".
4 الإصابة "2/ 171"، "رقم4041".(16/417)
ومجيء الأقوام إليها من الهند وإيران والعراق، فظهرت فيها ثقافة، امتصت غذاءها من مختلف الثقافات.
وهناك من اشتهر بالخطابة وكان قريب عهد من الإسلام، أو أدركه وأسلم، منهم: "قس بن ساعدة الإيادي". وقد رآه الرسول، وسمعه يتكلم، وهو راكب على جمل أورق. ويذكر أن الرسول قال: "يرحم الله قسًّا، إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة وحده"1. وقد عدّه بعض الباحثين من النصارى، ولكن معظم أهل الأخبار يرى أنه كان على الحنيفية، أي: على التوحيد، لا هو من يهود، ولا هو من النصارى2.
وقد ذكر أهل الأخبار أنه "كان من حكماء العرب وأعقل من سمع به منهم، وهو أول من كتب من فلان إلا فلان، وأول من أقر بالبعث من غير علم، وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"3. وأنه أول من خطب على شرف، وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا4. وكان أحكم حكماء العرب، وأبلغ وأعقل من سمع به من إياد. وبه ضرب المثل في الخطابة والبلاغة5. روي أن الرسول سمع كلام "قس بن ساعدة" الإيادي ورواه، ذكر "الجاحظ" أن رسول الله "هو الذي روى كلام "قس بن ساعدة" وموقفه على جمله بعُكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش والعرب، وهو الذي عجب من حسنه وأظهر من تصويبه"6.
وذكر في موضع آخر من كتابه "البيان والتبيين" أن الرسول قال: "رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعُوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت".
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 155"، نزهة الجليس "1/ 429".
2 المصدر نفسه.
3 مجمع الأمثال "1/ 117"، جمهرة الأمثال "1/ 249".
4 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، الخزانة "2/ 90"، "عبد السلام محمد هارون".
5 ثمار القلوب "121 وما بعدها، 127".
6 البيان والتبيين "1/ 52".(16/418)
وهو القائل في هذه: آياتٌ محكمات، مطرٌ ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبر وآثام، ولباس ومركب، ومطعم ومشرب، ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسماء ذات أبراج. مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم حبسوا فناموا.
وهو القائل: يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد. أين المعروف الذي لا يشكر، والظلم الذي لم يذكر، أقسم قس قسمًا بالله، إن لله دينًا هو أرضى له من دينكم هذا.
وأنشدوا له:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردًا ... للموت ليس لها بصائر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أنّي لا محالة ... حيث صار القوم صائر1
وقد اشتهر قس بخطبته التي خطبها بسوق عكاظ، وبأبيات من الشعر رويت عن "أبي بكر الصديق". وبفصاحته وبلاغته ضرب المثل، فقيل: "أبلغ من قس"2. وقد استشهد ببعض شعر "قس" في كتب الشواهد3. وذكر أنه أول من قال: أما بعد. في العرب.
وفي رواية من روايات أهل الأخبار: أن أول من قال: "أما بعد"، هو كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة4. زعيم قريش، وأحد خطبائها المشهورين.
__________
1 البيان والتبيين "1/ 308".
2 مجمع الأمثال "1/ 117"، البيان والتبيين "1/ 309".
3 الخزانة "1/ 263"، "بولاق".
4 المرزباني، معجم الشعراء "ص341"، الخزانة "4/ 347"، "بولاق"، "الشاهد السابع والستون بعد الثمانمائة".(16/419)
وذكر بعض أهل الأخبار: أنه قيل لقُس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة: قال: معرفة الرجل نفسه، قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قيل له: فما أفضلُ المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجه1.
وقد وردت في الخطة المنسوبة إلى قس بن ساعدة الإيادي هذه الجملة: "إن في السماء لخبرا". ويلاحظ أن العبرانيين كانوا يراقبون السماء لأخذ الأخبار عما سيقع لهم من أحداث منها. وقد تخصص بذلك نفر منهم، عرفوا بـ "خبرى شمايم"، أي: المخبرون عما يقع في السماء؛ و"قيرى شمايم"، أي: قراءة السماء2. وكان العرب يراقبون السماء كذلك، استطلاعًا للأخبار، وفي الجملة المنسوبة إلى "قس" تعبير عن ارتقابه وقوع أمرهم.
و"قس" من المعمرين، زعم بعض أهل الأخبار أنه عمر سبعمائة سنة، وزعم بعض آخر أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة، "وقال المرزباني: ذكر كثير وجعله بعضهم في الصحابة، وأماته بعضهم قبل البعثة. وقال قوم: إنه أول من آمن بالبعث من أصل الجاهلية3. وفي الذي يرويه أهل الأخبار عن خطبة قس ورواية النبي لها تصادم في الروايات. وقد ذكر ذلك العلماء4، وإني أرى أن القصة موضوعة، وهي من هذا النوع الذي وضع للتبشير بقرب ظهور دين جديد.
وقد أشير إلى قس في أبيات نسبت إلى الحطيئة والأعشى ولبيد. وقد ضرب الحطيئة به المثل في البيان، وبقوة تأثيره في نفوس السامعين. أما الأعشى فقد وصفه بالحلم، وأما لبيد فقد قال فيه:
وأخلفن قسًا ليتني ولعلني ... وأعيا على لقمان حكم التدبر
__________
1 العقد الفريد "2/ 254".
2 Hastings, Dict., Vol, I, P. 194
3 الخزانة "2/ 89 وما بعدها"، "عبد السلام محمد هارون"، البيان والتبيين "1/ 52"، "عبد السلام محمد هارون"، الخزانة "1/ 263"، "بولاق".
4 السيرة الحلبية "1/ 210"، اللآلئ "1/ 95".(16/420)
ويقولون: وإنما قال ذلك لبيد، لقول قس:
هل الغيب معطي الأمن عند نزوله ... بحال مسيء في الأمور ومحسن
وما قد تولى فهو لا شك فائت ... فهل ينفعني ليتني ولعلني
ونسبوا إليه أبياتًا من الشعر1.
وورد أن "الجارود بن عبد الله" من "بني عبد القيس"، وكان سيدًا في قوه لما قدم على رسول الله، وأسلم مع قومه، قال له الرسول: "يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قسًّا؟ " قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله، وأنا من بين يدي القوم كنت أقفو أثره. كان من أسباط العرب فصيحًا، عمَّر سبعمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله من العرب، كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول:
هاج للقلب من جواه ادّكار ... وليالٍ خلا لهنّ نهارُ
في أبيات آخرها:
والذي قد ذكرتُ دل على الله ... نفوسًا لها هدى واعتبار
فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه". فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، فإني أحفظه: كنت حاضرًا ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته: يا أيها الناس، اسمعوا وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إلى آخر ما أورده من الوعظ"2.
و"الجارود"، هو "بشر بن عمرو بن حنش بن النعمان"، وقيل: هو
__________
1 المرزباني، معجم "ص338".
2 الخزانة "2/ 89"، سيرة ابن سيد الناس "1/ 69".(16/421)
"أبو المُعلى"، "الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة"1، وقيل: "الجارود بن المعلى"، ويقال: ابن عمرو بن المعلى، وقيل: الجارود بن العلاء، وقيل: الجارود بن عمرو بن حنش، وقيل: اسمه بشر بن حنش، إلى غير ذلك من أقوال تدل على اضطراب أهل الأخبار في معرفته، وكان نصرانيًّا، وكان شاعرًا، وأوردوا له شعرًا يعلن إيمانه بالرسول، وبأنه حنيف حيث كان من الأرض. قيل: إنه قتل بفارس في أيام عمر سنة "21"، وقيل: بقي إلى خلافة عثمان2.
وذكر "الجاحظ" أن من خطباء العرب: "الصباح بن شفي" الحميري، زعم أنه كان من أخطب العرب، وقيس بن شمّاس، وثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي، فقد أوكله الرسول بالردّ على خطاب من كان يخطب أمامه من الوفود، فهو الناطق باسمه بالنثر، كما كان "حسان" الناطق باسم الرسول شعرًا. وذكر أن من خطباء العرب "الأسود العنسي"، وطليحة بن خويلد" الأسدي، تنبأ في خلافة أبي بكر في بني أسد بن خزيمة، وعاضده "عيينة بن حصن" الفزاري، فوجه "أبو بكر" إليه خالد بن الوليد، فهزمه، وأسر "عيينة" سنة "11" للهجرة، وقد أسلم "طليحة" واستشهد بنهاوند سنة "11" من الهجرة3. وذكر "الجاحظ": "مسيلمة" بعد "طليحة"، فقال: "وكان مسيلمة الكذّاب، بعيدًا عن ذلك كله"4، أي أنه نفى الخطابة عنه.
ومن الخطباء الناهين أصحاب الرأي والبيان، خطيب عاش في الجاهلية والإسلام وقد أسلم وحسن إسلامه، هو: سهيل بن عمرو الأعلم، أحد بني حِسْل بن معيص. يقال: إنه كان مؤثرًا جدًّا، أخاذًا يأخذ بعقول الناس، حتى ذكر أن عمر قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انزع ثنيتيه السفليتين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا أبدًا. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
__________
1 خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "61".
2 الإصابة "1/ 218"، "رقم1042".
3 البيان والتبيين "1/ 359".
4 البيان والتبيين "1/ 359".(16/422)
"لا أمثل، فيمثل الله بي، وإن كنت نبيًّا. دعه يا عمر، فعسى أن يقوم مقامًا تحمده". فلما هاج أهل مكة عند الذي بلغهم من وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قام خطيبًا، فقال: "أيها الناس، إن يكن محمد قد مات، فالله حي لم يمت، وقد علمتم أني أكثركم قتبًا في بَرّ، وجاريةً في بحر، فأقروا أميركم وأنا ضامن، إن لم يتم الأمر، أن أردها عليكم". فسكن الناس1.
وهو الذي قال يوم خرج آذن عمر، وبالباب عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلان، وفلان، فقال الآذن: أين بلال؟ أين صهيب؟ أين سلمان؟ أين عمار؟ فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل: لم تتمعر وجوهكم؟ دُعُوا ودعينا، فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لا أعدّ الله لهم في الجنة أكثر2. وفي هذا الجواب دلالة على عقل فاهم للواجب مدرك لمهمات رئيس الدولة، ولما يجب أن تقوم الحكومة عليه، لا يبالي بالعنعنات القديمة وبالعرف القبيلي الجاهلي.
وروي "أنه لما ماج أهل مكة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، قام سهيل بن عمرو خطيبًا. فقال: والله إني لأعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم -يعني: أبا سفيان- فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكنه قد جثم على صدره حسد بني هاشم. وأتى في خطبته بمثل ما جاء به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة"3. وقد كان مخلصًا في عقيدته مطيعًا لأمر الحاكم، ذكر أنه حضر "الناس باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو
__________
1 البيان "1/ 317"، "من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" الإصابة "2/ 29"، "رقم3573"، الاستيعاب "2/ 107 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 58"، "عبد السلام محمد هارون".
2 البيان "1/ 317" "لجنة".
3 الاستيعاب "2/ 109"، "حاشية على الإصابة"، البيان والتبيين "1/ 317".(16/423)
وأبو سفيان بن حرب، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه. فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم. وكان قد أوصى بهم.
فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط! أنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس، لا يلتفت إلينا! فقال سهيل بن عمرو، وقال الحسن: ويا له من رجل، ما كان أعقله، أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابًا، فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم. أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتًا من بابكم هذا الذي تتنافسون فيه. ثم قال: أيها القوم! إن هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم والله إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى الله -عز وجل- أن يرزقكم شهادة، ثم نفض ثوبه وقام ولحق بالشام"1.
فالرجل مؤمن، صاحب مبدأ، يرى الفضل لأصحابه بأعمالهم، لا بالرئاسة والنسب والجاه، كما كان يريد أبو سفيان وقومه.
وقد نعت بـ"خطيب قريش"2، لفصاحته وقوة بيانه، ولهذا اختارته قريش ليكون لسانها حين فاوضت الرسول على الصلح في الحديبية. وقد تكلم فأطال الكلام وتراجع مع الرسول حتى وافق على تدوين كتاب الصلح3. وكان هو لسان قريش يوم وضع الرسول يده على عضادتي باب الكعبة، فقال: "ما تقولون"؟ فقال سهيل: "نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت4.
وتعد "ابنة الخس هند الإيادية"، وهي بنت "الخس بن حابس"، رجل من إياد، من النساء المعروفات بالفصاحة. وقد رووا عنها الأمثال. وذكر أن والدها هو "خس بن حابس بن قريط" الإيادي. وقال بعض أهل الأخبار: إن ابنة الخس من "العماليق". والإيادية هي "جمعة بنت حابس" الإيادي،
__________
1 الاستيعاب "2/ 109 وما بعدها".
2 الإصابة "2/ 92"، "رقم2573".
3 الطبري "2/ 633 وما بعدها".
4 الإصابة "2/ 92"، "رقم3573".(16/424)
وكلتاهما من الفصاح. وذكر بعض آخر، أن الصواب أن ابنة الخس المشهورة بالفصاحة واحدة، وهي من "بني إياد". واختلف في اسمها، فقيل: هند، وقيل: جمعة. ومن قال إنها بنت حابس، فقد نسبها إلى جدها1.
وممن ضرب به المثل في الفصاحة "سحبان بن زفر بن إياس" الوائلي، وائل باهلة. خطيب مفصح يضرب به المثل في البيان، أدرك الجاهلية وأسلم، ومات سنة "54هـ"2. شهرته في الإسلام، كشهرة "قس" في الجاهلية.
واشتهر "هيذان بن شيخ" "هيدان بن سنح"، بكونه خطيب "عبس"، وذكر أن النبي قال للنابغة الجعدي: لا يفضض الله فاك، وقال لهيذان: رب خطيب من عبس3.
والخطابة عند الجاهليين حقيقة لا يستطع أحد أن يجادل في وجودها، ودليل ذلك خطب الوفود التي وفدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن أسلوب الجاهليين في الصياغة وفي طرق الإلقاء. ثم إن خطب الرسول في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء، هي دليل أيضًا على وجود الخطابة بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين. بل نجد أن الخطابة كان لها شأن في الحياة العربية في الجاهلية وفي الإسلام. ففي المناسبات مثل عقد زواج، لا بد للخاطب من خطبة يخطبها أمام العروس والحاضرين، يذكر فيها مناقب موكله ومناقب الأسرة التي رغب العروس في مصاهرتها ولعلها هي التي حملت الناس على نعت هذه المناسبة بـ "الخِطْبة" و"بخطبة العروس"، حتى قيل: "جاء يَخْطِبُ فلانة لفلان"، وإن فرق العلماء بين "الخُطبة" التي هي الموعظة والكلام، وبين "الخِطبة" التي هي طلب المرأة، بالحركة، فذكروا أن الأولى هي بضم الخاء والثانية بكسرها4.
__________
1 تاج العروس "4/ 137"، "خس".
2 الخزانة "4/ 346 وما بعدها"، "بولاق".
3 البيان والتبيين "1/ 273"، الإصابة "3/ 581"، "رقم9028".
4 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص150".(16/425)
ونجد في كتب الأدب والأخبار نصوص خطب نسبت إلى خطباء جاهليين، يخرج المرء من قراءتها ومن قراءة ما ذكره أهل الأخبار عنها، بأنها نصوص دقيقة تمثل الأصل تمام التمثيل، أو كأنها نسخ استنسخت عن نسخ أصلية كتبها الخطباء بأنفسهم، أو دونها كتاب شهود كانوا حضورًا وقت إلقاء الخطب.
ونحن وإن تعودنا على اعتبار هذه الخطب، وكأنها خطب أصيلة لا شك عندنا في أصالتها ولا شبهة. لكننا لا نستطيع إقناع أنفسنا ولا غيرنا بصحة رأينا هذا.
وإذا كنا قد قبلنا ما قيل لنا عن الشعر الجاهلي، فإننا لا نتمكن من قبول ما يذهب إليه الأدباء المقلدون من أن الخطب المنسوبة إلى خطباء الجاهلية، هي نصوص دقيقة صحيحة، أو أن أكثرها صحيح لا شك لأحد في صحته، وذلك لأسباب: منها ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم من قولهم: "وكان الخطيبُ من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"1، ثم ما نجده من اختلاف في رواية خطبة "قس بن ساعدة"، ومنهم أناس حضروا خطابه، فكيف نصدق صحة نصوص خطب لأناس جاهليين تبلغ عدة صفحات.
وكيف يصدق إنسان بصحة ما ينسب إلى الجاهليين من خطب وأقوال، وهو يعلم أن خطبة "حجة الوداع"، قد اختلف الرواة في رواية نصها اختلافًا كبيرًا2، وإذا كانوا قد اختلفوا في ضبط نص خطبة تعد من أهم خطب الرسول، لما جاء فيها من بيان وأحكام، وكلام الرسول أفضل كلام للمسلم، فهل يعقل أخذ موضوع صحة نصوص خطب الجاهليين، على أنه كلام صحيح بالنص والحرف والمعنى! وإذا كان المسلمون قد جوزوا رواية حديث رسول الله بالمعنى، لصعوبة الرواية بالحرف والكلم والنص، فهل يعقل ضبط الناس لخطب الجاهليين، ضبطًا تامًّا كاملًا بالحرف والمعنى، مع أن كلام أهل الجاهلية لا يقاس بكلام الرسول في نظر المسلمين من دون شك.
__________
1 اللسان "12/ 34"، "أمم".
2 راجع نصها في تاريخ اليعقوبي "2/ 99 وما بعدها"، "طبعة النجف".(16/426)
والأمر بالنسبة للشعر الجاهلي من حيث الصنعة والافتعال أهون أمرًا في نظري من موضوع الخطب الجاهلية، فالشعر كلام موزون مقفى وهو غير طويل، يمكن حفظه بسهولة، ويمكن خزنه في الذهن أمدًا طويلًا، أما النثر، فليس من السهل حفظه حرفيًّا؛ وإذا حفظ، فلا يمكن للذاكرة مهما كانت قوية أن تحافظ على صفائه إلى أجل طويل، لا سيما إذا كانت الخطب طويلة، لا تعاد قراءتها إلا في المناسبات. وللسبب المذكور ولخوف المسلمين من التقول على الرسول بما لم يقله من حروف وألفاظ وجمل، جوّزوا رواية حديثه بالمعنى، لصعوبة حفظ النص، فهل تعد خطب الجاهليين أكثر أهمية من حديث الرسول، حتى نقول: إنها نصوص مضبوطة صحيحة، لا غبار على صحتها، ولا شك من نصها!
وطابع الخطب، السجع وقصر الجمل والإكثار من الحكم والأمثال، والتفصيل والازدواج. ويرد غالب السجع في كلام الكهان لذلك وسم بهم، فقيل: "سجع الكهان". والسجع في كلام العرب أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي، وأن يكون في الكلام فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وذكر أن الرسول قال لأحدهم وكان يتكلم سجعًا: "أسجع كسجع الكهان! " وفي رواية "إياكم وسجع الكهان"، وفي الحديث أنه نهى عن السجع في الدعاء. وإنما كره السجع في الكلام لمشاكلته كلام الكهنة1. قال "الجاحظ": "وكان الذي كرّه الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهّان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدعون الكهانة وأن مع كل واحد منهم رئيًا من الجنّ، مثل حازي جُهينة، ومثل شق وسطيح، وعزى سلمة وأشباههم، كانوا يتكهنون ويحكمون بالأسجاع؛ كقوله: والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجدُ بني العشراء، للمجد والسّناء". "فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها فيهم
__________
1 تاج العروس "5/ 376"، "سجع".(16/427)
وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العِلّة زال التحريم". وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في ذلك الخطب أسجاع كثيرة، فلا ينهونهم1.
واتبع الخطباء في الإسلام وبعض الكتاب أسلوب السجع في خطبهم وفي كتبهم، ولا زال السجع محبوبًا عند كثير من الناس، ولهذا فهم يكتبون به.
وأغلب الخطباء هم سادات قبائل وأشراف من أهل القرى ومن أصحاب المكانة والجاه والكهنة والحكام. ومنازلهم تحتم عليهم الخطابة في المناسبات، لأنهم ألسنة قومهم، فللكلام أثر في نفوس العرب، يثير الحرب ويهدئ الأعصاب ويعقد السلم، ويفض المشكل، فصار من ثم للخطيب أثر كبير في الجاهلية.
وكانت القبائل تفتخر بكثرة ما عندها من خطباء. وذكر "الجاحظ" أن رجلًا من حمير قام في مجلس لمعاوية اجتمع فيه الخطباء، فقال: إنا لا نطيق أفواه الكِمال، عليهم المقال، وعلينا الفعال2. ومعناه: إنا لا نستطيع الكلام كما يفعل غيرنا، ولذلك فأنا لا أريد أن أتسابق معهم، ثم أننا معشر عمل لا قول.
و"الكمال"، بمعنى الجمال، جمع جمل، نطق بها بالكاف على لغة أهل اليمن القديمة، لأن لسان حمير ينطق الجيم كافًا مفخمة.
ويلاحظ أن أكثر الذي ذكره أهل الأخبار من كلام الخطباء، هو وصايا زعم أهل الأخبار أن أولئك الخطباء أوصوا بها أبناءهم، وذلك حين تقدمت بهم السن، وحين شعروا بدنوا أجلهم. وهي تمثل خلاصة تجارب الموصى ومجمل ما حصل عليه من اختبارات في هذه الحياة. وهي على الجملة حكم، وآراء في الدنيا، ومواعظ، لا تخطر إلا على بال رجل سئم من الحياة ويئس منها، أو من زاهد متصوف متدين يؤمن بإلَه وبحساب وكتاب، وجد أن الحياة مدبرة، وأنها زائلة فانية، لا تدوم لأحد، لذلك يريد أن يوصي أبناءه بما وجده فيها وخبره ورآه.
ولم يهمل أهل الأخبار ذكر أهل العي والبلادة، وهم على قلتهم وضآلة
__________
1 البيان والتبيين "1/ 290".
2 البيان والتبيين "1/ 398".(16/428)
عددهم مجتمع خاص قائم بذاته، فأشاروا إلى نوادرهم وبعض قصصهم، وجعلوا رأسهم وحامل لوائهم في الجاهلية شخصًا ضربوا به المثل في العي، دعوه "باقلًا" وجعلوه من قيس بن ثعلبة. وقالوا: إن من حماقته وعيّه أنه اشترى عنزًا من الظباء بأحد عشر درهمًا، فقيل: بكم اشتريتها؟ فأطلق كفّيه ومدّ أصابعه وأخرج لسانه، أي: يعده بلسانه وأصابعه، فنفرت العنز، فعُير بذلك. وفيه يقول الشاعر:
يلومون في حمقه باقلًا ... كأن الحماقة لم تخلق1
__________
1 شمس العلوم "الجزء الأول، القسم الأول "ص179".(16/429)
فهرس الجزء السادس عشر:
الفصل الثامن والعشرون بعد المائة
القصص 5
الفصل التاسع والعشرون بعد المائة
الطب والبيطرة 14
الفصل الثلاثون بعد المائة
الهندسة والنوء 53
الفصل الحادي والثلاثون بعد المائة
الوقت والزمان 70
الفصل الثاني والثلاثون بعد المائة
الأشهر الحرم 105(16/430)
الفصل الثالث والثلاثون بعد المائة
النسيء 122
الفصل الرابع والثلاثون بعد المائة
التقاويم والتواريخ 143
الفصل الخامس والثلاثون بعد المائة
اللغات الساميّة 159
الفصل السادس والثلاثون بعد المائة
العربية لسان آدم في الجنّة 171
الفصل السابع والثلاثون بعد المائة
لغات العرب 196
الفصل الثامن والثلاثون بعد المائة
لغة القرآن 229(16/431)
الفصل التاسع والثلاثون بعد المائة
العربية الفصحى 258
الفصل الأربعون بعد المائة
اللسان العربي 305
الفصل الحادي والأربعون بعد المائة
المعربات 328
الفصل الثاني والأربعون بعد المائة
النثر 367
الفصل الثالث والأربعون بعد المائة
الخطابة 405
الفهرست 430(16/432)
المجلد السابع عشر
الفصل الرابع والأربعون بعد المئة: الأعراب والعربية واللحن
الاعراب والعربية
...
الفَصْلُ الرَّابعُ والأربعونَ بعدَ الْمِائَةِ: الإعْرَابُ والْعَرَبِيَّةُ واللَّحْنُ
الإعراب والعربية:
ولا بد لنا وقد تحدثنا عن لغات العرب وعن العربية الفصحى من التحدث عن "الإعراب" لما له من صلة بها. فأقول الإعراب في تعريف علماء اللغة: الإبانة والإفصاح عن الشيء. يقال للعربي: أعرب لي أي بَيِّنْ لي كلامك. وأعرب الكلام وأعرب به بَيَّنَهُ. روي عن النبي أنه قال: "الثيب تعرب عن نفسها"، أي تفصح. وفي رواية أخرى: "الثيب يعرب عنها لسانها، والبكر تستأمر في نفسها". وإنما سمي الإعراب إعرابًا لتبيينه وإيضاحه. ومن هنا يقال أفصح وأبان. وعَرَّبَهُ: علمه العربية. "وفي حديث الحسن أنه قال له البتي: ما تقول في رجل رُعِفَ في الصلاة؟ فقال الحسن: إن هذا يعرب الناس، وهو يقول رُعِفَ، أي يعلمهم العربية، إنما هو رعف". وتعرب واستعرب: أفصح، قال الشاعر:
ماذا لقينا من المستعربين ومن ... قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا1
وعرف الإعراب، بأنه أن لا تلحن في الكلام. يقال أعرب كلامه إذا لم
__________
1 اللسان "1/ 588 وما بعدها"، "عرب"، تاج العروس "1/ 370 وما بعدها".(17/5)
يلحن في الإعراب1. فربطوا هنا بين الإعراب واللحن. وذكروا أيضًا "أن الإعراب الذي هو النحو، إنما هو الإبانة عن المعاني والألفاظ"2، "وإنما سمي الإعراب إعرابًا، لتبيينه وإيضاحه"3، "وعرَّب منطقه أي: هذَّبه من اللحن"4. وروي عن أبي هريرة قوله: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه"، والمراد بالغريب أن تكون اللفظة حسنة مستغربة في التأويل، لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وقد عدُّوا من ذلك في القرآن كله سبعمائة لفظة أو تزيد قليلا 5.
ورد في تأريخ "الطبري" أن رجلا من العباديين مَرَّ بجمع من المسلمين أصابوا جرابًا من "كافور" فحسبوه ملحًا، فأخذوا يلقون منه طعامهم، فقال لهم: "يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم، فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه"6 فاستعمل المعربين في معنى العرب، ولعل العبادين، وهم نصارى الحيرة كانوا يطلقون على العرب الخلص معربين، لوضوح لسانهم بالنسبة لغيرهم ممن كان لا يعرب على طريقة العرب الخلص من أهل البوادي.
وقد ذهب "ابن فارس" إلى وجود "الإعراب" عند العرب العاربة، إذ يقول: "وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا نصبًا ولا همزًا"7. وقد رد على من أنكر وجود الإعراب عن العرب قبل الإسلام8، وأورد حديثًا في ذلك، إذ قال: "وقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أعربوا القرآن"9. وقد ورد أن عمر بن الخطاب، وجَّه كتابًا إلى أبي موسى الأشعري، عامله على البصرة فيه: "أما بعد، فتفقهوا في السُّنَّة، وتفقهوا في العربية،
__________
1 تاج العروس "1/ 372"، "عرب".
2 تاج العروس "1/ 371"، "عرب"، اللسان "1/ 589"، "صادر"، "عرب".
3 اللسان "1/ 588"، "عرب".
4 المصدر نفسه "1/ 589"، "عرب".
5 الرافعي "2/ 57".
6 الطبري "3/ 497".
7 الصاحبي "35".
8 الصاحبي "37" وما بعدها.
9 الصاحبي "66"، "أعربوا القرآن، فإنى عربي"، الزينة "117" وما بعدها.(17/6)
وأعربوا القرآن، فإنه عربي، وتمعددوا فإنكم معديون"1، ووجه إليه كتابًا آخر فيه، "أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفقهوا في العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2. غير أن من العلماء من فسر الإعراب في القرآن بأن المراد به معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة وهو ما يقابل اللحن3.
وعرف الإعراب، بأنه: "الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما ميز فاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت، ولا تعجب من استفهام، ولا صدر من مصدر، ولا نعت من تأكيد. وذكر بعض أصحابنا أن الإعراب يختص بالإخبار. وقد يكون الإعراب في غير الخبر أيضًا، لأنَّا نقول: أزيدٌ عندك؟ وأزيدًا ضربت؟ فقد عمل الإعراب وليس هو من باب الخبر"4، فبالإعراب تميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلمين5. وأنواع الإعراب رفع، ونصب، وجر، وجزم، فالإعراب عبارة عن الحركات6. وقد جعل الإعراب من العلوم الجليلة التى اختصت بها العرب7. والإعراب في الواقع، هو التعرب، أي التكلم بالعربية وفق طريقة العرب الخلص في مراعاة أواخر الكلم، ومراعاة التصرف الإعرابي.
والإعراب في نظري، أن يتكلم الإنسان بطريقة العرب في كلامهم، وذلك بأن يبين وفقًا لقواعد لسانهم، وقد عرفنا ورود لفظة "عرب" و "عربية" في النصوص الآشورية واليونانية والسريانية، فالإعراب إذن من هذا الأصل، أي من العربية، ثم أطلق على النطق وفقًا لأساليب العرب في كلامهم ووفقًا لقواعد لسانهم.
__________
1 كنز العمال "5/ 228"، خورشيد أحمد فارق، حضرت عمر "135"، "القسم العربي".
2 حضرت عمر "139 وما بعدها"، "القسم العربي".
3 السيوطي، الإتقان "2/ 3".
4 ابن فارس، الصاحبي "66، 77".
5 الصاحبي "190 وما بعدها".
6 السيوطي، الأشباه والنظائر "1/ 72 وما بعدها".
7 المزْهِر "1/ 327".(17/7)
وللوقوف على معنى: "العربية"، يجب الرجوع إلى ما ورد عنها في الأخبار. فقد ورد أن الرسول "دخل المسجد فرأى جمعًا من الناس على رجل، فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله، رجل علَّامة، قال: وما العلَّامة؟ قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بشعر، وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر" 1. وهو خبر يرجع سنده إلى أبي هريرة.
ووردت اللفظة في روايات أخرى يرجع الرواة زمانها إلى أيام الخليفة "عمر بن الخطاب". فقد روي عن "عثمان المهري"، أنه قال: "أتانا كتاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء، ويذكر فيها: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة"2. وقد روي أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بجر رسوله، فتوهم عطفه على المشركين. فقال: أَوَ بَرِئ الله من رسوله؟ فبلغ ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية"3. وروي أن الخليفة المذكور، كتب إلى "أبي موسى الأشعري"، يوصيه، فكان مما قاله له: "خذ الناس بالعربية، فإنه يزيد في العقل ويثبت المروءة"4.
ونسبت إلى "عمر" رسائل أخرى، ذكر أنه وجهها إلى عاملة المذكور فيها: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي وتمعددوا فإنكم معديون"5. و"أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"6، أو أنه قال: "تفقهوا في الدين، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وتعلموا العربية"7. وفسر "الحسن" العربية، بأنها التنقيط، أي
__________
1 ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين "1/ 87".
2 صبح الأعشى "1/ 168".
3 صبح الأعشى "1/ 169".
4 اللسان "1/ 155"، "مرأ"، تاج العروس "1/ 117"، "مرأ"، خورشيد أحمد فارق "141"، "النص العربي".
5 كَنْزُ العُمَّال "5/228"، خورشيد أحمد فارق "139"، "النص العربي".
6 القِفْطي، إنباه "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق "139".
7 السجستانى، المصاحف "142".(17/8)
أن ينقط المصحف بالنحو1. وذكر أن النبي قال: "عليكم بتعلم العربية، فإنها تدل على المروءة وتزيد في المودة"2. وروي أن عمر كتب: "أما بعد: فإني آمركم بما أمركم به القرآن، وأنهاكم عنه محمد، وآمركم باتباع الفقه والسنة والتفهم في العربية"3، و "مُرْ من قبلك بتعلم العربية، فإنها تدل على صواب الكلام، ومُرْهم برواية الشعر، فإنه يدل على معالم الأخلاق"4.
وورد أن "عبد الله بن مسعود" كان يتعاطى العربية والشعر، وقد كان يسأل في ذلك "زر بن حُبَيش"، وكان من أعرب الناس5. "قال عاصم: كان من أعرب الناس. وكان ابن مسعود يسأله عن العربية"6. وورد: "كان بعض اليهود قد علم كتاب بالعربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول"7.
وورد أن أهل الحيرة كانوا يتعلمون "العربية" في الكتاتيب، وأن لهم ديوانًا يكتب بالعربية، كما كان للفرس ديوان يدون الرسائل إلى العرب بالعربية، وأن أهل الأنبار كانوا يكتبون بالعربية ويتعلمونها.
وبعد، فما هي تلك العربية التى كان "العلَّامة؟ " المزعوم يعلمها في المسجد وكان من أعلم الناس بها؟ وما هي تلك العربية التى كان الخليفة يوصي حكامه وأصحابه بأخذ الناس بها؟ أو العربية التى علمها اليهود بيثرب؟ عربية بمعنى الإبانة والإفصاح وتحريك الفم تحريكًا كفيلا بإخراج الحروف من مخارجها إخراجًا واضحًا؟ أم عربية أخرى؟ أم عربية الكتابة أي: تقليم الخط، أم بالمعنى الذي دفع "أبا الأسود" على وضع العلامات لضبط الحركات ولصيانة الألسنة من الوقوع في اللحن. ولو سألتني رأيي، لقلت لك حالا: إنها العربية الثانية. العربية الكفيلة بضبط الألسنة وتعليمها كيفية النطق الصحيح وفقًا لقواعد العربية، أي الإعراب وتفسير معانى الألفاظ، أي اللغة، وأوضح دليل على ما أقوله، ما جاء في الرواية المتقدمة من أن "عمر بن الخطاب" لما سمع خطأ الأعرابي
__________
1 السجستاني، المصاحف "142".
2 الفائق "3/ 153".
3 خورشيد أحمد فاروق "140"، "النص العربي".
4 كنز العمال: "5/ 241"، خورشيد أحمد فارق "140".
5 ابن سعد "6/ 71".
6 الإصابة "1/ 560"، "رقم2971".
7 فتوح البلدان، للبلاذري "459"، المعارف لابن قتيبة "192".(17/9)
الفاحش في قراءة الآية أَمَر "أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية"، ومن وصيته بأخذ الناس بالعربية، ومن قوله أيضًا: "تعلموا الفرائض والسنن واللحن كما تعلمون القرآن"، و"تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب في القرآن"، أو "تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم"1.
فلم يكن خطأ "الأعرابي" هو خطأ في كيفية إخراج الحروف من مخارجها، ولا في كيفية الإفصاح وإبانة الكلم، وإنما في جره رسوله، وتوهمه عطفها على المشركين، مما أخرج الآية إلى عكس ما أراده الله منها. أي غلطه في اللغة، ولهذا فزع الخليفة فحثَّ الناس على تعلم العربية، لتكون دليلا لمن يتعلمها وهاديًا له في صون لسانه من الوقوع في الخطأ، وفي هذا الحث دلالة على وجود علم سابق عند العرب بكيفية حفظ الألسنة من الوقوع في الخطأ ومجانبة القواعد العامة. ويعود هذا العلم إلى ما قبل الإسلام.
أضف إلى ذلك ما ذكرته سابقًا من قول عمر: "أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2. فإذا صح هذا الخبر دل على وجود الإعراب في زمن عمر، وعلى أن المراد من الإعراب الذي كلف "أبا الأسود" أن يعلم أهل البصرة به، هو النحو، أي قواعد صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ في الكلام.
ولو تساهلنا فأخذنا "العربية" الواردة في قول "عمر" وغيره بالمعنى اللُّغوي الظاهر في اللفظة، وهو الإفصاح والإبانة وإخراج الكلم حسب أصول النطق عند العرب، فإن هذا المحمل يحملنا على الذهاب إلى وجود علم سابق، كان الناس يراعونه ويسيرون بمقتضى اعتباراته وقواعده في كيفية النطق بالكلم، ويسمونه: العربية.
ويتبين مما ذكره أهل الأخبار من أن "أبا الأسود" "كان أول من وضع العربية"3، أن مرادهم من العربية المذكورة هذه العلامات التى تدل على الرفع
__________
1 اللسان "13/ 381"، "لحن"، صبح الأعشى "1/ 148".
2 القفطي، إنباه "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق "139".
3 المعارف "434"، الصاحبي "37".(17/10)
والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون، تلك العلامات التى استعملها في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسَمَّوا كلامهم نحوًا سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود 1. وبهذا المعنى نستطيع فهم ما ورد في الحديث والأخبار من وجوب الإعراب في القرآن. أي إظهار حركات الكلم عند القراءة. فالعربية، تعنى النحو. "ولما وضع أبو الأسود النحو وأطلق عليه لفظ العربية"2، كان يقصد منه صيانة اللسان من الخطأ، والنطق بصحة. فقد ورد أن الرسول قال: أعربوا القرآن، أو أعربوا القرآن فإنه عربي، وأن "عمر بن الخطاب" "قال: تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه3"، وروي أنه قال: "تعلموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض"4.
وبهذا المعنى وردت "العربية" في حديثهم عن الشاعر عدي بن زيد العبادي، فقد ذكروا أنه تعلم "العربية" في كتاب بالحيرة حتى غدا من أكتب الناس بها، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتاب الفارسية، فتعلم مع أولاد المرازبة5. وذكروا أنه "قرأ كتب العرب والفرس"6، إذ لا يعقل أن يكون مرادهم تعلم حروف الهجاء وحدها، أو الخط، أو مجرد معاني الألفاظ.
وقد تحدثت عن التنقيط عند أهل الكتاب في أثناء حديثي عن نشأة الخط العربي. ويظهر أن كتاب المصاحف، لم يكونوا على اتفاق في موضوع العواشر، أي تعشير القرآن، والتنقيط والخواتم، والفواتح، والألفاظ المفسرة في المصحف، بدليل ما ورد عنهم من اختلاف رأي في هذا الموضوع، فمنهم من كان يأمر بتجريد القرآن من كل ذلك ومنهم من جوَّز، ومنهم من كره نقط القرآن بالنحو7.
__________
1 ضحى الإسلام "2/ 287".
2 الرافعي، تاريخ آداب العرب "1/ 326".
3 الزينة "117 وما بعدها".
4 البيان والتبيين "2/ 219".
5 الأغاني "2/ 96 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "1/ 441".
6 الطبري "2/ 193"، "دار المعارف".
7 السجستاني، المصاحف "138 وما بعدها".(17/11)
وقد اختلف العلماء في تفسير معنى جملة "يريد أن يعربه فيعجمه" الواردة في شعر ينسب لِرُؤْبَة ويقال للحُطَيئة، هو:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
وقوله:
والشعر لا يسطيعه من يظلمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
فذهب بعضهم إلى أن مراد الشاعر أنه يأتى به أعجميًّا، يعنى يلحن فيه، وقيل يريد أن يبينه فيجعله مشكلا لا بيان له، وقيل أزال عجمته بالنقط1.
والذي أراه أن قول العلماء: "العجم النقط بالسواد مثل التاء عليها نقطتان، يقال: أعجمت الحرف والتعجيم مثله"، وقولهم: "معجم الخط هو الذي أعجمه كاتبه بالنقط، تقول: أعجمت الكتاب أعجمه إعجامًا"2، هو تعريف يجب أن يكون قد وضع بعد وضع الإعجام، أي التنقيط، فإذا كان الإعجام من وضع "أبي الأسود" الدؤلي، فيجب أن يكون ظهوره منذ أيامه فما بعد، أما إذا كان قبله فيجب أن يكون من مصطلحات الجاهليين.
ويذكر علماء اللغة أن "أعجم الكتاب خلاف أعربه، أي نقطه" فأزال الكاتب عجمة الكتاب بالنقط3. ومعنى هذا أن النقط قد أزال الغشاوة عن الحروف المعجمة، أي المتشابهة في الشكل، بوضع النقط فوقها، فصارت حروفًا معربة واضحة. ولولا الإعجام لما استبان الكلام، ولوقع سوء الفهم واللبس في كثير من الألفاظ التى ترد فيها الحروف المعجمة، ففي الإعجام لبس ووقوع في خطأ، وفي اللحن مثل ذلك أيضًا، ولهذا أرى وجود صلة كبيرة بين اللحن، الذي هو الخطأ في الكلام، بسبب الجهل بالإعراب. وقد رأيت قول العلماء: "أعجم الكتاب خلاف أعربه"، أي وضحه وصححه بالنقط. فبين الاثنين ترابط في. الأصل، فالإعجام خلاف الإعراب، واللحن خلاف الإعراب كذلك.
__________
1 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".
2 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".
3 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".(17/12)
وقد صار النقط، أو وضع الحركات على الحروف لإرشاد القارئ إلى القراءة الفصيحة الصحيحة، ضرورة لازمة، بدونها قد يخطئ الإنسان فهم المعنى، وقد يقع في أخطاء جسيمة لو أخليت الكتابة من النقط والإعجام. وقد ضرب العلماء الأمثال على أخطاء وقع بها الناس بسبب طريقة الكتابة القديمة التي لم تكن تنقط الحروف ولا تعجمها، فكان القارئ يقع في أخطاء.
والإعراب بعد، لا يختص بالعربية وحدها، بل نجد آثاره في لغات سامية أخرى، وإنما ظهر وعرف في عربيتنا، لأن اللغات الأخرى قد ماتت في الغالب، فلم يبق أحد من الناطقين بها، لنتبين كلامه، ولأن نصوصها غير مشكلة، وهي خالية من الحروف التي تدل على الشكل والحركات، لذلك لا نستطيع التحدث عن وجود الإعراب بها. ولكن بعض النصوص البابلية تشير إلى وجود الإعراب بها، واللاتينية مع أنها من اللغات الآرية فهي لغة معربة، يراعي الكاتبون والمتكلمون بها خصائص الإعراب، واليونانية القديمة هي معربة كذلك. ويخيل لي أن معظم لغات الأدب في العالم القديم كانت تراعي الإعراب، لترتفع بذلك عن ألسنة العامة، ولتكون اللسان الرفيع الذي يخاطب الإنسان به أربابه، ثم خفت حدة الإعراب فيما بعد، مجاراة لتطور العقل الإنساني. ونجد معظم الشعوب في الوقت الحاضر، تبسط لغتها وتختزل قواعدها وجمل كلامها ليتناسب الكلام مع عقلية السرعة التي أخذت تسيطر على الإنسان الحاضر.
وما قلته عن اللغات الأخرى من صعوبة التكلم عن إعرابها، بسبب عدم وجود نصوص مشكلة عندنا تشير إلى طرق الإعراب بها، ينطبق كذلك على اللغات العربية الجنوبية، وعلى اللغات الأخرى، مثل الصفوية، والثمودية واللحيانية، لعدم وجود الحركات بها أو العلامات الدالة على الإعراب. وخلو هذه اللغات من العلامات التي تقوم الإعراب، لا يمكن أن يُتَّخذ دليلا على عدم وجوده في تلك اللغات، لأن العماد في الإعراب، هو بالنطق في اللسان، وهو ما لا يمكن استخراجه من الكتابة العربية الجنوبية، فاللسان هو الذي يشكل ويحرك الألفاظ وفق مقتضيات قواعد الألسنة: أما النبطية، وهي من اللهجات العربية الشمالية، ففيها ظواهر بارزة تشير إلى أنها كانت لغة معربة، وهي في نظري أقرب اللغات العربية الجاهلية إلى عربية القرآن الكريم، فالأسماء في النبطية، معروفة في عربيتنا قليلة في العربيات الأخرى، وهي قريبة من هذه العربية في أمور أخرى نحوية وصرفية.(17/13)
اللَّحْنُ:
من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش، أي بلغتهم، وفي حديث عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن، بالتحريك، أي اللغة"1، ومنه قول "عمر": "تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تعلمون القرآن"2. ومن معانيه الخطأ في الكلام. "قال أبو عبيد في قول عمر -رضي الله تعالى عنه: تعلموا اللحن -أي الخطأ في الكلام- لتحترزوا منه"، وورد: "وأما قول عمر رضي الله عنه: تعلموا اللحْن والفرائض، فهو بتسكين الحاء، وهو الخطأ في الكلام. قال أبو عدنان: سألت الكلابيين عن قول عمر: تعلموا اللحن في القرآن كما تعلمونه، فقالوا: كُتِب هذا عن قوم ليس لهم لغوٌ كلغونا، قلت: ما اللَّغو؟ فقال: الفاسد من الكلام. وقال الكلابيون: اللحن اللغة. فالمعنى في قول عمر: تعلموا اللحن فيه، يقول: تعلموا كيف لغة العرب فيه الذين نزل القرآن بلغتهم"3، "وجاء في رواية تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب بإعرابها"4، ووردت اللفظة بمعان أخرى. وقد أجمل العلماء ما جاء فيها من معانٍ بستة معانٍ: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى5.
وقد ذكر أن الرسول لما أرسل "سعد بن معاذ"، وهو يومئذ سيد الأوس و"سعد بن عبادة"، وهو يومئذ سيد الخزرج إلى "كعب بن أسد"، وكان قد نقض عهده الذي عهده للرسول وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله، قال لهما:"انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقًّا فالحنوا إلى لحنًا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"، فلما أتياهم وجداهم على أخبث ما بلغهما
__________
1 اللسان "13/ 380 وما بعدها"، "لحن"، تاج العروس "9/ 331"، "لحن"، الفائق "2/ 99"، "2/ 457".
2 الأمالي، للقالي "1/ 5". السيوطي، الإتقان "2/ 260".
3 اللسان "13/ 380 وما بعدها" "لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن".
4 اللسان "13/ 381"، "لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن".
5 اللسان "13/ 381"، "لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن".(17/14)
عنهم، نالوا من رسول الله، "وقالوا: من رسول الله! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد"، فلما عادا إلى رسول الله قالا: "عضل والقارة. أي كغدر عضل والقارة"، فاللحن هنا بمعنى الإيماءة والإشارة والرمز1، فاللحن هنا أن تريد الشيء فتوري عنه2.
والذي أريده من اللحن، الخطأ في الكلام، والزيغ عن الإعراب، وهو معنى لا نستطيع فهمه من النصوص الجاهلية، لخلو تلك النصوص من الحركات، ومن الإشارة إلى قواعد لغاتها. ولذلك فلا مناص لنا لفهمه إلا بالرجوع إلى الموارد الإسلامية. وهي تذكر أن اللحن بهذا المعنى، لم يظهر إلا في الإسلام، ظهر بسبب دخول الأعاجم في دين الله، واختلاطهم بالعرب، وأخذهم لغتهم واتصال العرب بهم، ففسدت الألسنة، وظهر اللحن بين الموالي وبين العرب. وقد عيب ظهوره في العربي، حتى عُيِّرَ من ظَهَر اللحن على لسانه، فلما فشا وكثر، صار شيئًا مألوفًا حتى غلب على ألسنة الناس. وهم يذكرون أن العربي القُحُّ الأصيل، لم يكن يخطئ في كلامه، لأنه يتكلم عن طبع وسجية، ومن كان هذا شأنه، لا يقع اللحن في كلامه، أو لأنهم كانوا يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة3.
يقول العلماء: وكان أول لحن ظهر بين العرب على عهد النبي، فقد رووا أن الرسول سمع رجلا يقرأ فلحن، فقال: ارشدوا أخاكم4، أو ارشدوا أخاكم فإنه قد ضل5، ثم فشا وانتشر في مواضع الاختلاط خاصة، حيث اختلط العجم بالعرب، كالعراق وبلاد الشام ومصر، حتى دخل أعمال الحكومة، فأخطأ الكتاب في النحو، وأفحشوا في الإعراب، فكتب كاتب من كتاب "أبي موسى" الأشعري كتابًا فيه، "من أبو موسى ... " أو ما شابه ذلك من خطأ في القول، فكتب "عمر" إلى عامله: "سلام عليك. أما بعد
__________
1 الروض الأُنُف "2/ 190"، ابن هشام، سيرة "2/ 190"، "حاشية على الروض".
2 الأمالي: للقالي "1/ 6".
3 الرافعي "1/ 240"، "وبهذا الاعتبار نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية البتة". الرافعي "1/ 242".
4 كنز العمال "1/ 151".
5 ابن جني: الخصائص "2/ 8"، "دار الكتب".(17/15)
فاضرب كاتبك سوطًا واحدًا، وأخر عطاءه سنة"1: أو "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطًا واعزله عن عملك"2، أو "قنع كاتبك سوطًا"3، أو: "إن كاتبك الذي كتب إلى لحن، فاضربه سوطًا"4، وذكر "الجاحظ"، أن "الحصين بن أبي الحر" كتب إلى "عمر" كتابًا "فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطًا".
وسبب ذلك أنهم كانوا يرون أن اللحن عيب مشين. قال "عبد الملك بن مروان": اللحن هجنة على الشريف، والعُجْب آفة الرأي. وكان يقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه"5.
ولا يمكن تفسير قول القائل أن "اللحن بمعنى الخطأ محدث، لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة"6، إلا أن يكون مراده أن الجاهليين كانوا يتكلمون بطباعهم السليمة بلغاتهم، كل يتكلم بلغته، ووفق سجيته ولسانه الذي أخذه من بيته، فهو ينطق وفق ما سمع وحفظ، فلا يلحن في الكلام بلسانه الذي أخذه من أهله، وهو رأي أقول إنه على الجملة مقبول معقول. أما إذ أريد به، أن العرب كانوا جميعًا يتكلمون بلسان واحد، فلا يخطئ أحدهم فيه ولا يلحن، فإن ذلك يتعارض مع قولهم بوجود اللغات، وبأن تلك اللغات كانت تتباين في أمور كثيرة في جملتها قواعد في النحو والإعراب، كما في "ذي" الطائية، وفي إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرًّا وذلك في لغة "بلحرث" و "خثعم" و "كنانة"، فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان7، وكما في "كم" الخبرية، حيث ينصب "بنو تميم" تمييز "كم"، ولغة غيرهم وجوب جره وجواز إفراده وجمعه، وكما في إعراب "الذين" من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم في لغة
__________
1 مراتب النحْويين "6"، الرافعي "1/ 243".
2 كنز العمال "5/ 224"، حضرت عمر "137"، "القسم العربي".
3 أدب الكتاب، للصولي "129"، حضرت عمر "138".
4 حضرت عمر "138".
5 البيان والتبيين "2/ 216".
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة "5/ 239".
7 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 144 وما بعدها".(17/16)
"هذيل"، أو "عقيل" وفي قول بعضهم: هذه النخيل. وقول بعض آخر: هذا النخيل إلى غير ذلك من مواطن خلاف وتباين بحث فيها العلماء1، لا مجال للبحث فيها في هذا المكان، ووجود هذا الاختلاف، هو دليل في حد ذاته على خروج القبائل على قواعد اللغة، والخروج على القواعد هو اللحن.
لقد أقر علماء العربية بوجود خلاف بين القبائل المتكلمة بلهجات عربية شمالية، وقد أشرت إلى مواضع ذكروها في هذا الباب، وكشف علماء النحو عن خلاف في قواعد النحو في مثل اختلاف القبائل في التذكير والتأنيث، كما في مثل الطريق والسوق والسبيل والتمر، فهي ألفاظ مؤنثة عند أهل الحجاز، وهي مذكرة عند قبائل أخرى، وكشفوا عن أمور أخرى، إن تكلم المتكلم أو كتب بها عَدَّ صدور ذلك لحنًا منه، فهل يعد العربي المتكلم بلهجة من هذه اللهجات المخالفة مخالفًا لقواعد العربية، أي لَحَّانًا، كما نعدُّ الأعجمي الذي يقع في الخطأ نفسه، أم نعده فصيحًا، عربي اللسان والسليقة؟ أما الأعجمي الذي يقع في الخطأ ذاته فنعده لحانًا لحنة!
لقد ذكروا أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللُّغوية، على حين أن أصحابه -رضوان الله عليهم- ومن يَفِدُ عليه من وفود العرب الذي لا يوجه إليهم الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي بن طالب -كرم الله وجهه- وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره؟ فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات"2، فهل يعقل بعد، أن يقال إن العربي كان لا يلحن ولا يخطئ في كلامه ولا يزيغ عن العربية المبينة، والعرب هم على ما هم عليه من اختلاف اللهجات، الذي يدفع حتمًا على وقوع اللحن، لو تكلموا بالعربية القرآنية، أي هذه العربية التي يسميها علماء اللغة لغة قريش، والتي هي اللسان العربي المبين على تسمية القرآن لها.
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 120 وما بعدها".
2 المزهر "1/ 325".(17/17)
ثم كيف نفسر حديث: "أرشدوا أخاكم"، أو "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" مع قولهم إن العربي لا يخطئ في كلامه ولا يلحن، لأنه يتكلم عن طبع وسليقة، ولم يكن هذا الذي لحن أمام الرسول، أعجميًّا، وإنما كان عربيًّا، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف وقع اللحن إذن؟ ثم كيف نفسر خبر سماع الإمام "علي" أعرابيًّا، وهو يلحن في القرآن ويقرأ: "لا يأكله إلا الخاطئين"1، أو خبر ذلك الأعرابي الذي قرأ "أن الله بريء من المشركين ورسولِه" بالجر، لأن رجلا من أهل المدينة أقرأه إياها على هذا النحو، فبلغ ذلك "عمر"، فأمر ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو2، والأعراب هم لب العرب، وصفوتهم في الكلام، فكيف وقع هذا الأعرابي في اللحن يا تُرَى؟ ثم كيف نفسر قول من زعم أن في القرآن آيات فيها لحن، مثل: "إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ"3 {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 4، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} 5، ومواضع أخرى تحتاج إلى تأويل ليستقيم إعرابها6، أو إلى إصلاح إملائها لتنجو من اللحن7.
ثم كيف اختلف قراء القرآن في نصب "الطير" في الآية: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أو رفعها8، واختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 9، واختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} 10، وغير ذلك من مواضع اختلاف، اختلف فيها القراء، مع كونهم من العرب الأَقْحَاح.
ثم كيف نفسر اضطراب العلماء وذهابهم مذاهب في قراءة الآية: {قَالُوا
__________
1 نزهة الألباء "8"، "محمد أبو الفضل إبراهيم".
2 المصدر نفسه.
3 [طه، الآية: 63] .
4 [النساء، الآية: 162] .
5 [المائدة، الآية: 69] .
6 السيوطي، الإتقان "2/ 269".
7 السيوطي، الإتقان "2/ 271".
8 [سبأ: 34، الآية: 10] . تفسير الطبري "22/ 46" وما بعدها".
9 [التوبة، الآية: 128] ، تفسير الطبري "11/ 55"، تفسير الآلوسي "11/ 47".
10 [سورة الروم، الرقم: 30، الآية: 1 وما بعدها] .(17/18)
{إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} 1، وتأويلهم القراءة جملة تأويلات، لأن القاعدة النحوية تقول: "إنَّ هذين" بينما القراءة: "إنَّ هذان"، فعلَّلوها جملة تعليلات، منها أن هذه القراءة نزلت بلغة "بني الحارث بن كعب" ومن جاورهم يجعلون الاثنين، أي المثنى في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، كما في قول بعض "بني الحارث بن كعب":
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغًا لناباه الشجاع لصمما
وقيل إن القراءة، هي قراءة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد ومن وليهم من اليمن2. ونسبها "الزجاج" إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة3.
ثم ما ورد في خبر آخر عن سعيد بن جبير، من قوله: "في القرآن أربعة أحرف لحن: {الصَّابِئُون} 4، {وَالْمُقِيمِين} 5، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} 6، {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 7" إلى غير ذلك من أخبار. ثم ما ورد من قول "عثمان": "إن في القرآن لحنًا، وستقيمه العرب بألسنتها"، وأمثال ذلك8، وما ذكر من أن "أبا بكر"، كان يستحب أن يسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها9، أفلا يدل هذا الخبر، على أن اللحن كان معروفًًا ومتفشيًا في عهد "أبي بكر"، وما روي في رواية تقول: "لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان -رضي الله عنه- فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف
__________
1 [سورة طه، الرقم: 20، الآية: 63] .
2 تفسير الطبري "16/ 136 وما بعدها".
3 تفسير النيسابوري "6/ 118"، "حاشية على تفسير الطبري". السيوطي، الإتقان "2/ 273".
4 [المائدة، الرقم: 5، الآية: 72] .
5 [النساء، الرقم: 4، الآية: 161] .
6 [المنافقون، الرقم: 63، الآية: 10] .
7 [سورة طه، الرقم: 20، الآية: 63. السيوطي، الإتقان "2/ 273".
8 المصاحف "33"، السيوطي، الإتقان "2/ 273 وما بعدها".
9 الرافعي "1/ 240".(17/19)
والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه"1، ثم ما ورد من وقوع اللحن من عرب أقحاح، ومنهم من ولي الحكم وإدارة أمور المسلمين2، ومنهم ابنة "أبي الأسود الدؤلي" التي لحنت أمامه، فعمل باب التعجب على ما يزعمه الرواة3.
وتوحي الأحاديث الواردة في الحث على إعراب القرآن، والكتب التي ألفها العلماء في إعرابه، أن من العرب: من أهل مدر وأهل وبر، من كان يقرأ القرآن بغير إعراب، إما لأن لغته لم تكن معربة، وإما لأن إعرابها كان لا يتجانس مع إعراب القرآن، وسببه أن الجاهليين لم يكونوا يتقيدون جميعًا بقواعد الإعراب، فمنهم من كان يتحلل منه، ومنهم من يعمل به وفق قواعد لغته ولهجته، ودليل ذلك قراءة الصحابة القرآن بألسنتهم، مما سبب في ظهور مشكلة القراءات، وهذا ما أخاف الصحابة، وجعلها تخشى من احتمال ظهور قَرَائِين مختلفة، مما حمل "عثمان" على توحيد لغة القرآن، وتدوين كتاب الله حسب التوصيات التي أعطاها إلى اللجنة التي كلفها بتدوينه.
أضف إلى ذلك ما نجده في الكتب من إجازة إصلاح اللحن والخطأ في الحديث. من مثلما نسب إلى الأوزاعي من قوله: "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقوله: "أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربًا"، ومثل ما نسب إلى "يحيى بن معين" من قوله: "لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية" وإلى "ابن أبي رباح" حين سئل عن الرجل يحدِّث بالحديث فيلحن، هل يحدث به كما سمع منه أم يعرِب، فقال لسائله: لا، بل أعربه. وما ورد في أقوال العلماء في جواز أو عدم جواز إصلاح اللحن في الحديث، واختلافهم فيه4، هو دليل على أن من العرب من كان يقع في اللحن أيضًا، وإن اللحن لم يقع من الأعاجم وحدهم.
__________
1 مفتاح السعادة "2/ 277".
2 "وزعم المدائني أن خالد بن عبد الله قال: إن كنتم "رجبيون" فإنا رمضانيون، ولولا أن تلك العجائب قد صحت عن الوليد ما جوزت هذا على خالد". البيان والتبيين "2/ 216".
3 "كان الذي حداه على ذلك أن ابنته قالت له: يا أبت ما أشدُّ الحر، وكان في شدة القيظ، فقال ما نحن فيه! فقالت: إنما أردت أنه شديد. فقال: قولي: ما أشدَّ، فعلم باب التعجب"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329".
4 محمود أبو ريَّة، أضواء على السنة المحمدية "108 وما بعدها".(17/20)
ثم إن من غير المعقول إلا يقع اللحن من أهل اليمن ومن بقية عرب العربية الجنوبية، الذين كانوا يتكلمون بألسنة عربية جنوبية، رأينا أنها تختلف عن عربيتنا في مفردات الألفاظ وفي وقواعد النحو والصرف.
إن كل من صدر منهم اللحن، ممن أشرت إليهم وممن لم أشر، كانوا من العرب، منهم من كان من أهل الْمَدَر، ومنهم من كان من أهل الوَبَر، بهم بدأ اللحن، أما لحن العجم، فقد بدأ بعد اللحن الذي ظهر في أيام الرسول، وفي أيام "عمر" بدأ بالطبع بالفتوح، فلحن العرب إذن أقدم عهدًا من لحن العجم، يؤيد ذلك ما يرويه العلماء من وقوع الشعراء الجاهليين في أخطاء نحوية، هي لحن وخروج على القواعد في نظرهم. والشعراء الجاهليون عرب، ومن لسانهم استمد علماء النحو نحوهم وصرفهم. قد زعموا أن "النابغة" أخطأ في قوله: "في أنيابها السم ناقع"، ولحن لحنًا شنيعًا، وكان عليه أن يقول: "في أنيابها السم ناقعًا"1، أخطأ ولحن على زعمهم، مع أن كلامه حجة عندهم، واستشهدوا به في قواعد النحو والصرف.
وأخذ "حفص بن أبي بردة"، وهو من أهل الكوفة ومن أصحاب "حماد" الراوية على "المرقش" أنه كان يلحن، زعم أنه لحن في شعره، وقد أشير إلى زعمه هذا في شعر هجاء هجوه به، هو:
لقد كان في عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كثيل العود عما تتبع
تتبعت لحنًا في كلام مرقش ... وخلقك مبني على اللحن أجمع
فعيناك إقواء وأنفك مكفأ ... ووجهك إبطاء فأنت المرقع2
وزعم علماء الشعر، أن "امرأ القيس" حامل لواء الشعر، ومن جاء بعده من الشعراء، مثل: "النابغة"، و"بشر بن أبي خازم"، و"الأعشى"، أقووا في شعرهم، والإقواء: هو اختلاف إعراب القوافي، وهو أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور. ويكثر وروده في
__________
1 ضحى الإسلام "2/ 288".
2 الشعر والشعراء "2/ 601". المرزباني، معجم "280"، السمط "3/ 39". يوهان فك "64"، "فعينك أقواء". البيان والتبيين "2/ 215"، الشعر للشاعر "البردخت"، وهو "علي بن خالد الضبي العكلي"، العقد الفريد "2/ 481".(17/21)
اجتماع الرفع مع الجر، وأما الإقواء بالنصب فقليل. وهو في نظرهم عيب1. وزعموا أن بعضًا من شعراء الجاهلية أكفأوا في شعرهم. والإِكفَاء، المخالفة بين حركات الروي رفعًا ونصبًا وجرًّا، أو المخالفة بين هجائها، أي القوافي: فلا يلزم حرفًا واحدًا تقاربت مخارج الحروف أو تباعدت، ومثله أن يجعل بعضها ميما وبعضها طاء، وقال بعضهم: الإكفاء في الشعر هو التعاقب بين الراء واللام والنون. وهو أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والإصراف، والإكفاء، والسناد2.
وقد روى أهل الأخبار قصة زعموا أنها وقعت للنابغةن وكان لا يعرف شيئًا عن إقوائه بشعره، فلما وقعت له عرف به فعافه، ذكروا أن الناس خافوا تنبيه الشاعر إلى إقوائه، وبقي هو عليه، حى دخل يثرب، فأرادوا إظهار عيبه له فأمروا قينة لهم أن تغنيه شعره، فغنته:
أمن آل مية رائج أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارح أن رحلتنتا غدًا ... وبذاك حدثنا الغراب الأسود3
ففطن إليه ولم يعد إلى إقواء. "قال أبو عمرو بن العلاء: فَحْلان من الشعراء كانا يُقْوِيان، النابغة وبشر بن أبي خازم، فأما النابغة فدخل يثرب فغني بشعره ففطن فلم يعد للإقواء، وأما بشر فقال له أخوه سوادة: إنك تقوي، قال: وما الإقواء؟ قال: قولك:
ألم تر أن طول الدهر يسلي ... وينسي مثل ما نسيت جذامُ
ثم قلت:
وكانوا قومنا فبغوا علينا ... فسقناهم إلى البلد الشآمِ
فلم يعد للإقواء"4.
__________
1 تاج العروس "10/ 307"، "قوي".
2 تاج العروس "1/ 108"، "كفأ".
3 الشعر والشعراء "1/ 106"، "دار الثقافة".
4 الشعر والشعراء "1/ 190"، "دار الثقافة"، الخزانة "2/ 262".(17/22)
ورويت قصة إقواء "بشر بن أبي خازم" بشكل آخر، فقد زعم أن أخاه "سوادة" قال له: إنك تُقْوِي، قال: وما الإقواء؟ قال: قولك:
ألم تر أن طول الدهر يُسلي ... وينسي مثل ما نسيت جذامُ
ثم قلت:
وكانوا قومنا فبغوا علينا ... فتقناهم إلى البلد الشآم
فلم يعد للإقواء"1، أو أن أخاه "سمير"، قال له: "أكفأت وأسأت.
فقال: وما ذاك؟ "2.
وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن المصاحف لما كتبت "عرضت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيروها، فإن العرب ستغيرها -أو قال ستعربها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل توجد هذه الحروف"3، وقد كان كل من اختارهم الخليفة لكتابة القرآن من خالص العرب، ولم يكن من بينهم من هو من المولدين أو الموالي، وقد كانوا من الفصحاء الألباء، فكيف وقع منهم اللحن إذن؟
بل زعموا أن "عمر ضرب أولاده لما لحنوا، وأن "معاوية "كلم "عبيد الله بن زياد"، فوجده كيسًا عاقلا على أنه يلحن فكتب إلى والده بذلك4، وزعموا أن "الحجاج" كان يلحن، زعموا أنه لحن في القرآن، فقرأ: "إنا من المجرمون منتقمون"5، وزعموا أنه لحن في آيات أخرى6، والحجاج من ثقيف، ولم يكن أعجميًّا، حتى يظهر اللحن منه، مع إنهم جعلوه أحيانًا من أفصح العرب، ومن لم يلحن في حياته في جد ولا هزل. قال "الأصعمي": "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 190"، الموشح 59، الخزانة "2/ 262 وما بعدها".
2 مصادر الشعر الجاهلي "49".
3 السيوطي، الإتقان "3/ 270".
4 الفائق "2/ 99"، البيان والتبيين "2/ 210". الخزانة "3/ 14". "بولاق".
5 البيان والتبيين "2/ 218"، "عبد السلام هارون".
6 ابن سلام، طبقات "6"، نزهة الألباء "16 وما بعدها".(17/23)
يوسف، وابن القرية. والحجاج أفصحهم"1. وزعموا أن "الوليد بن عبد الملك"، وأخاه "محمد بن عبد الملك" كانا لحانين2. ذكر أن "الوليد"، خطب الناس يوم عيد، فقرأ في خطبته "يا ليتُها كانت القاضية" بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك3. ورووا قصصًا عن لحنه. وذكر أن "عبد الملك" قال: "أضر بالوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية، يقصد أنه كان يلحن بسبب عدم إرساله إلى الأعراب ليأخذ عنهم اللسان الفصيح. وقد كان أخوه محمد لحانًا كذلك، وذكر أنه لم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة4. قال "الجاحظ": "وكان الوليد بن عبد الملك لحنة، فدخل عليه أعرابي يومًا، فقال: أنصفني من ختني يا أمير المؤمنين. فقال: ومن ختنك؟ قال: رجل من الحي لا أعرف اسمه. فقال عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: من ختنك؟ فقال: هو ذا بالباب. فقال الوليد لعمر: ما هذا؟ قال: النحو الذي كنت أخبرتك عنه. قال: "لا جرم فإني لا أصلي بالناس حت أتعلمه"5. وذكر "الجاحظ" أمثلة على اللحن6. وروى أن كتب "الوليد" كانت تخرج ملحونة. فسأل "اسحاق بن قبيصة" حد موالي "الوليد" ما بال كتبكم تأتينا ملحونة وأنتم أهل الخلافة؟ فأخبره المولى بقولي، فإذا كتابٌ قد ورد علي: أما بعد فقد أخبرني فلان بما قلت، وما أحسبك تشك أن قريشًا أفصح من الأشعرين، والسلام"7.
وقد ورد في شعر "مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري" قوله:
وحديث الذّهُ هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنًا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نًا وخير الحديث ما كان لحنا
وقد ذكر أنه لم يُرِد اللحن في الإعراب الذي هو ضد الصواب، وإنما أراد
__________
1 القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "58".
2 البيان والتبيين "2/ 205".
3 الرافعي "1/ 246".
4 البيان والتبيين "2/ 204 وما بعدها، 216".
5 المحاسن والأضداد "6".
6 المصدر نفسه.
7 البيان والتبيين "2/ 205".(17/24)
الكناية عن الشيء والعريض بذكره، والعدول عن الإفصاح عنه. قيل: تكلمت "
هند بنت أسماء بن خارجة"، أخت الشاعر المذكور فلحنت، وهي عند الحجاج، فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس؟! فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال:
منطق صائب وتلحن أحيا ... نًا وخير الحديث ما كان لحنًا
فقال لها الحجاج: إنما عني أخوك اللحن في القول، إذا كَنَّى المحدث عما يريد، ولم يعن اللحن في العربية، فأصلحي لسانك. غير أن منهم من رأى أن المراد بهذا اللحن، اللحن المخالف لصواب الإعراب1.
وقد ذكر "السهيلي"، أن الجاحظ قد أخطأ حين قال في كتابه "البيان والتبيين"، أن الشاعر لم يقصد اللحن الذي هو الخطأ في الكلام وإنما أراد استملاح اللحن من بعض نسائه، وخطَّأه في هذا التأويل2، قال: فلما حدث الجاحظ بحديث "الحجاج"، "قال: لو كان بلغني هذا قبل أن أُؤَلف كتاب البيان، ما قلت في ذلك ما قلت! فقال له: أفلا تغيره؟ فقال: كيف وقد سارت به البغال الشهب، وانجدَّ في البلاد وغار". و"قال السيرافي: ما عرفت حقيقة معنى النحو إلا من معنى اللحن الذي هو ضده، فإن اللحن عدول عن طريق الصواب، والنحو قصد إلى الصواب"3.
وذكروا أن بعض شعراء الدولة الأموية كان يلحن، وممن وقع منه اللحن "الفرزدق". رووا أن "عبد الله بن يزيد الحضرمي" البصري، كان ينتقده ويتعقب لحنه، فهجاه الفرزدق، بقوله:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى المواليا
فقال له الحضرمي: لحنت. ينبغي أن تقول مولى موالٍ4.
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 15". الأمالي، للقالي "1/ 5".
2 البيان والتبيين "1/ 147".
3 الروض الأنف "2/ 190".
4 الرافعي "1/ 256".(17/25)
"وقالوا: تربع ابن جؤية في اللحن، حين قرأ: "هؤلاء بناتي هنَّ أَطْهَرَ لكم"، وجعلوه حالا، يعني: أطهر. وليس هو كما قالوا"1. و"تكلم معاوية بن صَعْصَعَة بن معاوية يومًا، فقال له صالح بن عبد الرحمن: لحنت. فقال له معاوية: أنا ألحن يا أبا الوليد، والله لنزل بها جبريل من الجنة"2.
وقد فشا اللحن وانتشر حتى بين العلماء، وبين علماء النحو واللغة أيضًا، حتى غلط بعضهم بعضًا، ونسب بعضم اللحن إلى البعض الآخر، قال "ابن فارس": "وقد كان الناس قديمًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب. فأما الآن فقد تجوزوا حتى إن المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب! وإنما نحن محدثون وفقهاء"3. ولما كثر اللحن في الحديث، جوزوا إعرابه. قال "الأوزاعي": "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقال أيضًا: "أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربًا" وقال النضر بن شميل: "كان هشيم لحانًا، فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة، يعني بالإعراب"4.
وبعد، فقد رأيت من روايات أهل الأخبار أنفسهم، أن اللحن لم يكن قاصرًا على العجم، بل كان قد عرف بين العرب كذلك، وعلى هذا يجب ألا نلقي مسئولية ظهوره على الأعاجم، بل على العرب أولا، لأنهم هم الذين بدءوا باللحن، بدءوا به قبلهم بأمد طويل، لحنوا في الجاهلية، أي قبل دخول العجم في الإسلام. فنحن نظلم الأعاجم إذن، إن ألقينا على عاتقهم مسئولية إشاعة اللحن بين العرب. ولكن هل يعقل وقوع اللحن من عرب كالجاهليين، ومن شعراء فحول، استمد علماء اللغة قواعد النحو والصرف من شعرهم مثل "النابغة" الشاعر المعظم، أو من غيره؟ لقد سبق أن ذكر علماء اللغة أن العربي، لا يزال في كلامه وحاشا له أن يلحن أو يخطئ في لسانه، لأنه إذا تكلم تكلم عن سليقة وطبع، وقد حماه الله من الوقوع في زلل الكلام! إذن فكيف
__________
1 مجالس ثعلب "43".
2 مجالس ثعلب "47".
3 الصاحبي "66".
4 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "108 وما بعدها".(17/26)
نفسر ما ذكروه من وقوع النابغة في اللحن، ومن وجود الإقواء في شعره وفي شعر غيره، ومن ظهور اللحن في أيام الرسول؟ هل نرجع ذلك إلى خطأ الرواة في رواية شعر النابغة وأمثاله، أو نرجع ذلك على التزوير، فنقول إن ذلك الشعر مفتعل، وإنه ليس من شعر النابغة، وإنما هو شعر منحول وضع عليه، ومن ثم وقع الخطأ. ولكن الذي نعرفه أن من كان ينحل العرب الشعر وينسبه للجاهليين، كان من أتقن الناس لشعر الجاهلية ومن أعرف الناس بالعربية، ومن البارعين الحاذقين بقواعدها، وأناس على هذا الطراز من الفهم والعلم، هل يعقل وقوع مثل هذا الغلط منهم؟ أو هل نرجع ذلك إلى الخطأ في التدوين والاستنساخ، ولكن كيف غفل العلماء من النص على ذلك؟
وجوابي أن القول بأن اللحن بمعنى الخطأ في الكلام، يستوجب وجود لغة فصيحة ذات قواعد نحوية وصرفية مقدرة ومقننة وثابتة تعد اللغة الفصيحة العالية في نظر أصحابها، من يخالف قواعدها يعد لحانًا لا يحسن القول ولا الكلام. وهو قول لا يعارضه أحد بالنسبة إلى وجوده في الإسلام، بعد أن فرض الإسلام دين الله على المؤمنين به كتابًا سماويًّا ولسانًا عربيًا مبينًا، تثبتت قواعد نحوه وصرفه في الإسلام. فمن سار عليها عدَّ فصيحًا، ومن خالفها عدَّ لحانًا عاميًّا. أما بالنسبة لأهل الجاهلية، فالقول بوجود اللحن عندهم، يقتضي التسليم بوجود لغة فصيحة عُليا لديهم، لها قواعد مقررة، من تكلم وِفْقَهَا عدَّ فصيحًا، حسب درجة إعرابه وملكته في اللغة، ومن خالفها عدَّ عاميًّا جلفًا. وقد أكد علماء اللغة، وجود هذه العربية الفصيحة، التي هي عندهم عربية قريش، عند ظهور الإسلام، وقالوا: إن بها كان نزول عربية القرآن، وبها نظم الشعر الجاهلي، وبها نثر الكلام الجاهلي المنثور. أما اللحن، فقد أنكروا وجوده، ولم يسلموا بوقوعه، وحجتهم ما ذكرته من أن العربي فصيح بطبعه، إذا تكلم تكلم عن سجية فيه وسليقة، لم يلحن ولم يخطئ في كلامه في الجاهلية، إلى أن كان الإسلام، فاختلط العرب بالأعاجم، ودخل الغرباء بين العرب، ففسد الطبع وظهر الخطأ في اللسان، وفشا اللحن.
وقد يعقل تصور وجود هذه العربية الفصحى، إذا افترضنا -مع المفترضين الأخباريين- أن تلك العربية، هي عربية أهل مكة ومن عاش حولهم، وأنها كانت عربية قريش، وأن المتكلمين بها كانوا بشرًا عصموا عن الخطأ في اللسان(17/27)
وجبلوا على التكلم بها على الفطرة، ولكننا لا نستطيع القول أنها كانت عربية كل عرب جزيرة العرب، إذ رأينا العرب الجنوبيين، وقد كانوا يتكلمون بلغات أخرى، ووجدنا عرب أعالي الحجاز، ولهم ألسنة تباين عربية القرآن، ورأينا للقبائل لهجات، تختلف بدرجات عن هذه العربية. فكيف يتصور إذن اتفاق العرب كلهم على التكلم بلسان قريش، وبغير خطأ أو زلل في اللسان.
وفي نفي علماء اللغة وجود اللحن عند الجاهليين تعارض مع رواياتهم القائلة بوجود الإقواء والإكفاء في شعر بعض الشعراء الجاهليين، وبلحن "النابغة" في قوله: "في أنيابها السم ناقع"، وبلحن الأعرابي في حضرة الرسول، وبتباين لغات العرب، تباينًا تحدثت عنه في فصل "لغات العرب" وقد وقع في كثير من صميم خصائص اللغات، ومن بينها أمور تخص قواعد الإعراب، وفيه تعارض أيضًا مع القراءات الشهيرة والشاذة للقرآن، وبينها أمور تخص قواعد النحو والصرف والإعراب، وفيه تعارض مع ما ذكروه من أن "أطراف الجزيرة لم تكن خالصة العروبة في القديم، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم، فلم يكن لهم من معنى اللغة إلا تعاور المنطق والاستبداد بالكلمات يتلقفونها ممن حولهم، لأن ملكات الوضع العربي فيهم غير صحيحة، وشروطه غير تامة، وليس كل عربي الجنس عربي اللسان، وإلا فما بال الحميريين ومن قبلهم من الأمم السالفة؟ "1.
وكيف يعقل نفي اللحن عن العرب مع وجود اللغات، ووجود التعارض والاختلاف البين بين قواعد هذه اللهجات، هل يعقل أن يتكلم العربي الجنوبي، باللغة العربية الفصيحة من غير خطأ ولا لحن، ولسانه غير لساننا، وعربيته غير عربيتنا، وقواعده على خلاف قواعدنا، وإعرابه على خلاف إعرابنا، كما أثبت ذلك بالبرهان القاطع من الكتابات الجاهلية، وبأقوال علماء العربية أنفسهم، وفي مقدمتهم "أبو عمرو بن العلاء"، القائل: "ما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا". ثم إننا إذا أخذنا القراءات المتنوعة التي قرئ بها القرآن، والشواهد الشعرية الكثيرة التي أوردها علماء العربية والنحو على الشواذ، وما يذكره العلماء من خلاف في النحو، فإننا لا يمكن تفسير خروجها على القواعد إلا بأنها أثر من أثر بقايا اللهجات. وخروجها على القواعد، هو لحن. ومن خرج على
__________
1 الرافعي "1/ 258".(17/28)
القواعد عدَّ لحانًا، مهما كان عصره أو جنسه، جاهليًّا كان أم مسلمًا، عربيًّا كان أم أعجميًّا، لأن اللحن لا يختص بعصر أو جنس.
إن ما دعوه باللحن، وما أخذوا الأعاجم عليه، من عدم تمكنهم من التعلق ببعض الحروف، أو من وقوعهم في أخطاء نحوية، نراه قد وقوع للعرب الفصحاء في الجاهلية وفي الإسلام، فما كان ينطقه بعض العرب من إشمام الصاد صوت الزاي، أو من النطق بالجيم "كافًا" على اللهجة المصرية، يعد لحنًا، إن صدر من أعجمي، أما إن صدر من عربي، فلا يقال لذلك لحنًا، بل يقال إنه لغة من لغات العرب. وإذا تصورنا أن عربية الجاهليين، كانت عربية عالية واحدة، على نحو مايراه أهل الأخبار وعلماء اللغة، وجب اعتبار هذه اللغات لغات عامية، المتكلم بها خارج على قواعد اللغة، فهو ممن يلحن ويخطئ سواء كان عربيًّا، أم أعجميًّا، جاهليًّا أم إسلاميًّا، فنحن نتكلم هنا عن أسلوب كلام، لا عن رس وأصل.
أننا حين نقول أن اللحن لم يكن معروفًا بين أهل الجاهلية، نكون قد حصناهم بالعصمة: بعصمة اللسان، ونكون قد جعلناهم بذلك شعبًا مختارًا، فضل بعصمة لسانه على ألسنة سائر البشر، ولكن العلم لا يعرف عصمة ولا حصانة في لسان، وهو يرى أن اللحن لا بد وأن يقع عند أي شعب، أو قوم، أو قبيلة، حتى أن كانت القبيلة في سرة البادية، وفي معزل ناء، لأن الطبيعة توجد من اختلاف قابليات أفراد القبيلة ومن اختلاف مستوى عقلياتهم وثقافاتهم وتباعد سكنهم بعضهم عن بعض، خروجًا على اللسان، فيظهر اللحن الشاذ، ويبرز النشاز في اللغة، مهما كان موطن هذه القبائل، في جزيرة العرب أو في أي موضع آخر من العالم، فاللحن، أي التبلبل في الألسنة من الأمور الطبيعية، التي توجدها طبيعة البشر وطبيعة الأقاليم، وأمور أخرى بحث فيها علماء اللغة والاجتماع، ولا يمكن أن يكون العرب بمنجاة منها!
لقد تحير "السيوطي" وغيره في تفسير خبر ورد عن "سيعد بن جبير" من أنه "كان يقرأ: والمقيمين الصلاة، ويقول: هو لحن من الكتاب". فقل: "وهذه الآثار مشكلة جدًا، وكيف يظن بالصحابة أولاً أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن، وهم الفصحاء واللد! ثم كيف يظن بهم ثانيًا في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنزل، وحفظوه، وضبطوه، وأتقنوه(17/29)
ثم كيف يظن بهم ثالثًا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته! إلخ! وفي بعض هذه القراءات خطأ حصل من الكتابة، قال "هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 2، وعن قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 3. وعن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} 4 فقالت: يا أخي، هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب"5، أي من الرسم، وهو في الأكثر، فهذا الخطأ في الرسم القديم للكتابة، هو الذي جعل العلماء يسمونه لحنًا، وهو ليس بلحن في الأصل، وإنما جاء اللحن من قراءة القراء بألحانهم، أي على حسب لغاتهم، وإلا فلا يعقل تطاولهم على القرآن بقراءاتهم له قراءة مخالفة للإعراب ولما نزل به الوحي. وهكذا كان الأمر بالنسبة للمواضع الأخرى مثل: {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} 6، فقد قرئ بسكون الشين وهي لغة تميم، وكسرها وهي لغة الحجاز، وفتحها وهي لغة7، ومثل "الصراط"، فقد قرأت بالسين وبالصاد، والقراءتان لهجتا قبائل، ومثل"حتى"، فقد قرئت "عتى"، قرأها "ابن مسعود" على لسانه، إذ كان من هذيل.
وقد ذكر "المعري" أمثلة على قراءات في القرآن قرأها علماء مشهورون مثل "حمزة بن حبيب"، هي منكرة في نظر غيره من العلماء، "ينكرها عليه أصحاب العربية، كخفض الأرحام في قوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ"، وكسر الياء في قوله تعالى: "وما أنتم بمصرحيِ"، وكذلك سكون الهمزة في قوله تعال: "استكبارا في الأرض ومكر السيئ"، وجاء بأمثلة أخرى من قراءات غيره للقرآن8.
والخلاف الذي نلاحظه في أمور النحو بين علماء أهل البصرة وعلماء أهل الكوفة، في مثل عمل الأسماء والأدوات: أدوات الجر، أو الخفض، وأدوات النصب، وأدوات الجزم، وأمثال ذلك، هو في حد ذاته دليل على وجود إعراب متعدد
__________
1 السيوطي، الإتقان "2/ 270".
2 [طه: 63] .
3 [النساء، الآية: 162] .
4 [المائدة، الآية: 69] .
5 السيوطي، الإتقان "2/ 269".
6 [البقرة، الآية: 60] .
7 السيوطي، الإتقان "2/ 277".
8 رسالة الغفران "367 وما بعدها".(17/30)
للعرب، وقف العلماء على شيء يسير منه، فوقعوا من ثم في بلبلة من أمره، بسبب عدم اهتمامهم بأمر تلك اللغات، واقتصارهم في جمعهم قواعد النحو على لهجات الأعراب الذين اتصلوا بهم، فظهر لهم وكأنه نشاز، ولو فطنوا يومئذ إلى أنه من إعراب لغات، لكان حكمهم حكمًا آخر ولا شك. ومن هؤلاء الأعراب الذين أخذ عنهم البصريون: قيس، وتميم، وأسد، "فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكل في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف. ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"1، والقبائل المذكورة باستثناء الطائيين، هم من مجموعة "مضر"، وليس فيها قبيلة من "ربيعة"، لذلك نستطيع القول أن العربية قد بنيت على لهجات مضر، وحيث أن علماء اللغة أهملوا لغات القبائل الأخرى وبينها قبائل من مضر كذلك، فلم يأخذوا منها إلا عرضًا، تولد من عملهم هذا بناء العربية على تلك اللهجات وبموجب اجتهاد واستقصاء أولئك العلماء، فظهر من أجل ذلك الغريب والنشاز، والاختلاف في الإعراب، الذي أشار إلى قسم منه العلماء وهو الذي احتاجوا إليه للاستشهاد به في الشواهد والمناظرات وأكثره من لغات مضر، وأهملوا الباقي، ولو هم سجلوا كل ما عرفوه من نشاز لتجمع من ذلك تراث كبير كثير من تراث اللغات الجاهلية من اختلاف في لغة وقواعد إعراب وصرف.
لقد تمسكت القبائل بقواعد ألسنتها حتى في الإسلام، فكان أفرداها ينطقون بلهجتهم، من ذلك ما ذكره "الزجاجي" من اختلاف "عيسى بن عمر" الثقفي، و"أبي عمرو بن العلاء" في رفع أو نصب: "ليس الطيب إلا المسك"، ومن احتكامهما إلى "أبي المهدي"، فلما ذهبا إليه وجداه لا يرفع، فلما حاولا إقناعه بالرفع، أبى عليهما ذلك وقال: "لا، ليس هذا من لحني ولا من لحن قومي"، فلما ذهبا إلى "المنتجع" التميمي، وجداه لا ينصب وأبى إلا الرفع، وذكر "الزجاجي": "ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع"2. وقع ذلك في الإسلام وبعد تثبيت القواعد، وكان هذا حال قبائل الحجاز، وحال تميم في الجاهلية ولا شك،
__________
1 السيوطي، الاقتراح "19".
2 مجالس العلماء "1" وما بعدها".(17/31)
فهل يعد هذا الاختلاف دلالة على عدم وجود اللحن عند أهل الجاهلية، أم يعد دليلاً على وجوده عندهم؟
لقد أدى اقتصار العلماء في أخذهم العربية عن القبائل التي ذكروها وفي تمسكهم برأيهم في أن تلك القبائل، هي صاحبة اللغة الفصيحة، إلى نبذ اللهجات العربية الأخرى، لاعتبارهم أياها لهجات مستقبحة، ولغات حشوية، فخسرت العربية بذلك خسارة كبرى، وظهر بسبب ذلك التنابذ في مذاهب علماء العربية، بسبب اعتمادهم على لغات معينة محدودة، وليس على كل اللغات العربية القريبة من لغة القرآن، ليتمكنوا بذلك من استقرائها كلها واستنباط القواعد الكلية منها.
ومن جملة الأمور التي يجب أن نشير إليها وننتبه إليها، هو أن علماء العربية حين كانوا يشيرون إلى لهجة من اللهجات، مثل لهجة أهل الحجاز، أو لهجة هذيل، أو تميم، وأمثالها، كانوا يشيرون إليها بالتعميم، مثل: جاء هذا على لغة أهل العالية، أو على لغة أهل الحجاز، أو على لغة تميم، مع أن حكمهم هذا لم يؤخذ من دراسة لغة القبيلة المشار إليها، وإنما أخذ من لسان أعرابي أو أكثر، بينما الحكم على منطق إنسان واحد أو اثنين أو ثلاثة، لا يمكن أن يتخذ حجة للحكم على منطق قبيلة بأكملها، أضف إلى ذلك أن القبائل الكبيرة، كانت موزعة منتشرة، والحجاز، وحده ذو قبائل كثيرة، متعارضة اللغات، فكيف يقال: جاء هذا على لغة أهل الحجاز، وكان أسد وتميم متجزئة منتشرة في مناطق واسعة، وهذا مما جعل لهجاتها تتأثر بالإقليمية وبالجوار، فلم يكن لها لسان واحد، غير أن علماء العربية لم يفطنوا إلى هذه الأمور، فوقعوا من ثم في أخطاء، فأخذوا من بعض تميم، ونسبوا ما أخذوه على كل تميم مثلا.
ثم إنهم لم يستخلصوا النحو من القرآن رأسًا، وقد كان عليهم الاعتماد عليه أو لأنهم إنما اتخذوا النحو لصيانة اللسان من الخطأ في القرآن وفي لغة التنزيل، وإنما مالوا عنه إلى الشعر، وإلى كلام أعراب من قبائل معينة وثقوا بصحة كلامهم وزاد ابتعادهم عن الأسلوب العلمي، بأخذهم بالعصبية العلمية، فهرت الآراء المتعصبة للمدن وللعلماء، فهذا رجل محب للبصرة، مفرط في حبها، لا يقدم على علمائها عالم، وهذا كوفي متعصب لنحو الكوفة، لا يقدم على أهل الكوفة أحدًا. ثم زاد هذا التعصب للعلماء، فهذا تلميذ عالم يُتعصب له، ويُأخذ برأيه كأنه رأي نزل من السماء، وهذا عالم كبير يعيب علم عالم(17/32)
منافس له، ويتهجم هو وتلامذته عليه، وهذا نحوي يعيب نحو الآخرين، وقد دفعت هذه العصبية، بعض العلماء إلى الابتعاد عن العلم، باللجوء إلى الوضع والافتعال والاتهام، لإقحام الخصوم، حتى جاء بعضهم بشواهد نحوية وصرفية مفتعلة، وبشهود من الأعراب، تكلموا باطلا لتأييد عالم على عالم، وفي المسألة الزنبورية التي وقعت بين سيبويه والكسائي، وفي مجالس الجدل التي تجادل فيها العلماء في محضر الخلفاء في قضايا النحو واللغة والشعر أمثلة عديدة على ما أقول1.
وعندي أن ما نسب إلى بعض الشعراء الجاهليين من وقوعهم في أغلاط نحوية أو لغوية أو شعرية، لم يكن خطأ بالنسبة لهم، وإنما بان الخطأ عند علماء العربية، حين قاسوا الشعر بمقياس واحد، هو العربية التي جمعوا قواعدها ودونوها في الإسلام، والعروض الذي ضبطه "الخليل" ومن جاء بعده، ولو كانوا قد درسوا لهجات القبائل، وعلموا أن الشعراء، كلهم أو بعضهم كان ينظم شعره بلسانه، وأن الشعر الجاهلي، جاء بألسنة متعددة، لعلموا إذن سر وقوع هذا الاختلاف في الشعر، ولأراحوا أنفسهم من دراسة كثير من هذا الغريب والشاذ الذي أدخلوه كتب النحو واللغة، بعد صقل الشعر وتهذيبه. وقد فطن إلى ذلك "المعري"، فاعتذر عما نسب إلى "امرئ القيس" من خروج عن القواعد بسوء الرواية وبالتصحيف2، وبأنهم في الجاهلية كانوا لا يعدون ذلك خروجًا على قاعدة، وإنا كان ذلك شيئًا مألوفًا عندهم، فملا جاء "المعلمون في الإسلام" "غيروه على حسب ما يريدون"3، وجعله يقول عن "الأقوياء": "لا نكرة عندنا في الإقواء4 واعتذر عما نسب إلى غيره من الشعراء من عيوب أحصاها علماء الإسلام عليهم، بأن قال إن هذه لم تكن من العيوب في أيامهم، وإنما هي صارت عيوبًا في الإسلام.
لقد اعتمد علماء العربية على الشعر الجاهلي وعلى لغات العرب التي وثقوا منها في جمع قواعد العربية وتثبيتها، كما استشهدوا بالقرآن، الذي نزل بلسان عربي مبين، والذي ثبت العربية. أما"الحديث"، فقد اختلفوا في جواز الاستشهاد
__________
1 راجع مجالس العلماء.
2 رسالة الغفران "313 وما بعدها".
3 رسالة "317 وما بعدها".
4 رسالة "220".(17/33)
به، وذلك لأن الحديث لم ينقل كما سمع من النبي وإنما روي بالمعنى، ولهذا فإن أئمة النحو المتقدمين من المصرين: البصرة والكوفة لم يحتجوا بشيء منه، وقد جوز بعض العلماء الاستشهاد به على تقدير التسليم بأن النقل كان بالمعنى، إنما كان في الصدر الأول، وقبل تدوينه في الكتب وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ، ولهذا يجوز الاحتجاج به، لأن السلائق العربية لم تكن قد فسدت بعد. وموضوع الخلاف، هو أن النقل لم يكن بالحرف، وإنما بالمعنى، ولو كان بالأول لما وقع الخلاف في وجوب الاستشهاد به، ولجرى ذلك مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية بموجبه. قال "سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين إنهم يروون بالمعنى"1. وقد وقع اللحن كثيرًا فيما روي من الحديث لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ويتعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، فدخل من ثم هذا اللحن في الحديث، ولهذا امتنع علماء المصرين من الاستشهاد بالحديث في النحو. وقد جوز بعض المتأخرين الاستشهاد بالأحاديث والأمثال النبوية الفصيحة، ولم يجوزوا الاستشهاد في غير ذلك2 للسبب المذكور.
هذا وقد ألف العلماء كتبًا عديدة في إعراب القرآن وفي معانيه وغريبه، وصل بعض منها إلينا. وقد أشار "ابن النديم" إلى أسماء عدد من تلك المؤلفات3. وهي مرجع هام بالنسبة لعلماء العربية، لورود آراء لغوية ونحوية قيمة فيها، تفيد في شرح النحو العربي.
__________
1 الخزانة "1/ 5 وما بعدها".
2 الخزانة "1/ 6 وما بعدها".
3 الفهرست "60".(17/34)
الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو
والنحو في اللغة الطريق والجهة والقصد، ومنه نحو العربية. وهو إعراب الكلام العربي. أُخِذ من قولهم: انتحاه إذا قصده. وهو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره ليلحق به من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها، وإن لم يكن منهم أو إن شذَّ بعضهم عنها رد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع، أي نحوت نحوًا، كقولك قصدت قصدًا ثم خص به انتحاء هذا القبيل مع العلم. وقيل لقول علي بن أبي طالب بعدما علم الأسود الاسم والفعل وأبوابًا من العربية: "انح هذا النحو"1. أو لأن أبا الأسود لما وضع ما وضع في النحو وعرضه على "علي"، قال"علي" له: "ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! ولذلك سمي النحو نحوًا"2. ولكننا نجد "الجاحظ" يشير إلى وجود اللفظة في أيام "عمر"، إذ يقول: "وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا النحو كما تعلَّمون السنن والفرائض"3، ويشبه هذا الخبر خبرًا آخر نسب
__________
1 اللسان "15/ 310"، "نحا". تاج العروس "10/ 360"، "نحا". الفهرست "ص65"، "المقالة الثانية من كتاب الفهرست". "ابن الانباري نزهة" "3 وما بعدها"، المثل السائر "7". الجمحي، طبقات "ص5"، ابن خلكان "1/ 240". إرشاد "1/ 280".
2 ابن الأنباري، نزهة "4 وما بعدها"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم"، "القاهرة 1967م".
3 البيان والتبيين "2/ 219".(17/35)
إليه أيضًا، فقد ذكروا أنه قال: "تعلموا إعراب القرآن تعلمون حفظه"1، وأنه قال: "تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تعلمون القرآن"2. ويظهر أن الكتاب قد صحفوا في خبر "عمر"، فخلطوا بين "اللَّحن" و"النحو"، وعلى تلك فإن بين اللفظين صلة. وإذا صح خبر "الجاحظ"، واعتبرنا لفظة "النحو" لفظة صحيحة غير محرفة، دلت على وجود هذه التسمية علمًا لهذا العلم في أيامه، وقبل أيامه، أي في أيام الجاهليين.
والجمهور من أهل الرواية أن النحو علمٌ ظهر في الإسلام. ظهر بظهور الحاجة الماسة إليه لضبط اللسان وصيانته من الخطأ، ولتعليم الأعاجم نمط الكلام بالعربية. ورجع أكثرهم مصدره وأساسه إلى الإمام "علي بن أبي طالب"، ويقولون إن أبا الأسود الدؤلي "69هـ" أخذ هذا العلم عنه. وأن الإمام ألقى عليه شيئًا من أصول النحو. فاستأذن التلميذ أستاذه أن يصنع نحو ما صنع، فأذن له به، فسمى ذلك نحوًا 3. وذكر بعضهم أن الإمام دفع إلى أبي الأسود رقعة مكتوبًا فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى. وأعلم أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر. ثم وضع أبو الأسود بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى أن وصل إلى باب إن وأخواتها ما خلا "لكن" فلما عرضها على عليٍّ أمره بضم "لكن" إليها، وكلما وضع بابًا من أبواب النحو عرضه عليه"4. وذكر بعض آخر أن أول من أسس العربية وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، أبو الأسود الدؤلي، وضع العربية "حين اضطرب كلام العرب فغلبت السليقة، فكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب،
__________
1 الزينة "117 وما بعدها".
2 الأمالي، للقالي "1/ 5"، الإتقان "2/ 260".
3 الفهرست "66"، الروض الأنف "1/ 69" ابن خلِّكان "1/ 662"، الحلبي، الزبيدي، طبقات "13 وما بعدها"، الفائق "1/ 611"، طبقات، ابن سلام "5". ياقوت إرشاد "4/ 280"، المثل السائر "7".
4 ضحى الإسلام "2/ 285"، "القاهرة 1961"، ابن الأنباري، نزهة "4 وما بَعْدَهَا".(17/36)
والْجَزْم"1. وقال ابن قتيبة: "وهو أول من وضع العربية"2. وذكر ابن حجر، أنه أول من وضع العربية ونقط المصاحف3. وروى ابن النديم أن أربع أوراق، وجدت فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود الدؤلي، وكانت بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا خط علان النحوي، وتحته هذا خط النضر بن شميل4. ففي هذه الأوراق دلالة على أن هذه الأوراق من كلام أبي الأسود، وأنه كان صاحب علم النحو.
وروى ابن النديم رواية أخرى، ذكر فيها أن الطبري قال: "إنما سمي النحو نحوًا لأن أبا الأسود الدؤلي قال لعلي -عليه السلام- وقد ألقى عليه شيئًا من أصول النحو. قال أبو الأسود: واستأذنته أن أصنع نحو ما صنع، فسمي ذلك نحوًا. وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو، فقال أبو عبيدة أخذ النحو عن علي بن أبي طالب أبو الأسود، وكان لا يخرج شيئًا أخذه عن علي -كرم الله وجهه- إلى أحد، حتى بعث إليه زياد أن اعمل شيئًا يكون للناس إمامًا ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئًا يقرأ: "أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه" بالكسر، فقال: ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا فرجع إلى زياد، فقال: افعل ما أمر به الأمير فليبغني كاتبًا لقنًا يفعل ما أقول، فأتى بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتى بآخر. قال أبو العباس المبرد أحسبه منهم، فقال أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فِيَّ بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت فِيَّ فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف. فهذا نقط أبي الأسود. قال أبو سعيد -رضي الله عنه- ويقال: إن السبب في ذلك أيضًا أنه مر بأبي الأسود سعد، وكان رجلا فارسيًّا من أهل زندخان، كان قدم البصرة مع جماعة من أهله فدنوا من قدامة بن مظعون وادَّعوا أنهم أسلموا على يديه، وأنهم بذلك من مواليه. فمر سعد هذا بأبي الأسود وهو يقود فرسه. قال: مالك يا سعد لم لا تركب؟ قال: إن فرسي ضالع أراد
__________
1 ضحى الإسلام "2/ 287".
2 المعارف "ص334".
3 الإصابة "2/ 233"، "رقم4329".
4 الفهرست "ص67 وما بعدها".(17/37)
ظالعًا. قال فضحك به بعض من حضره. فقال أبو الأسود هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة، فلو عملنا لهم الكلام. فوضع باب الفاعل والمفعول"1.
"وقيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم؟ -يعنون النحو- فقال: لقنت حدوده من علي بن أبي طالب –عليه السلام- وكان أبو الأسود من القراء، قرأ على أمير المؤمنين عليه السلام"2.
وتذكر رواية أخرى، أن أبا الأسود دخل على "علي" فوجده مطرقًا مفكرًا، فسأله عن سبب ما به، فذكر له أمر اللَّحن وما فشا من الخطأ في ألسنة الناس، وأنه يريد أن يصنع كتابًا في أصول العربية، فانصرف عنه، وهو مغموم، ثم عاد إليه بعد أمد، فألقى الإمام عليه رقعة كتب فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى"، ثم أمره أن ينحو نحوه، وأن يزيد عليه، فجمع أبو الأسود أشياء وعرضها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكر منها: إن، وأن، وليت، ولعل، وكأن، ولم يذكر لكن، فأشار الإمام عليه بإدخالها عليها3.
وذكر "ابن الأنباري 577هـ"، "أن من وضع علم العربية، وأسس قواعده، وحدَّد حدوده، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأخذ عنه أبو الأسود. "وسبب وضع علي -رضي الله عنه- لهذا العلم، ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء -يعني الأعاجم- فأردت أن أضع لهم شيئًا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى إلي الرقعة، وفيها
__________
1 الفهرست "65 وما بعدها"، القِفْطي، إنباهالرواة "1/ 6"، "ذكر أول من وضع النحو". أخبار النحْويين، للسيرافي "16 وما بعدها"، الإصابة "2/ 233". "4329".
2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 15".
3 القِفْطي "1/ 4"، "ذكر أول من وضع النحو"، معجم الأدباء "14/ 49"، ابن الأنباري، نزهة الألباء "5".(17/38)
مكتوب: الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما جاء لمعنى. وقال لي: أُنْحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، وأعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم.
قال أبو الأسود: فكان ما وقع إلي: إن وإخوانها ما خلا لكن فلما عرضتها على علي -رضي الله عنه- قال لي: وأين لكن؟ فقال ما حسبتها منها، فقال: هي منها فألحقها، ثم قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت، فلذلك سمي النحو نحوًا؟ 1.
وتذكر رواية أن أبا الأسود وضع بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام؛ إلى أن وصل إلى باب إن وإخواتها2.
وهناك رواية تنسب إلى الأصمعي تذكر أنه قال: "سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: جاء أعرابي إلى علي -عليه السلام- فقال، السلام عليك يا أمير المؤمنين، كيف تقرأ هذه الحروف؟ "لا يأكله إلا الخاطون" كلنا والله يخطو، قال: فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: يا أعرابي: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُون} . قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان الله ليظلم عباده، ثم التفت أمير المؤمنين إلى أبي الأسود الدؤلي، فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئًا يستدلون به على صلاح ألسنتهم، ورسم له الرفع والنصب والخفض"3.
وروي من حديث علي -رضي الله عنه- مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئ: "إن الله برئ من المشركين ورسوله" حتى قال الأعرابي: برئت من رسول
__________
1 ابن الأنباري، نزهة "4 وما بعدها".
2 ابن الأنباري، نزهة "5"، "حاشية رقم 2".
3 الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية، لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي "72". "تحقيق حسين بن فيض الله الحرازي"، "دار الكتاب العربي"، "1957"، عبد العال سالم مكرم، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "52"، ابن الأنباري نزهة "8".(17/39)
الله، فأنكر ذلك علي -عليه السلام- ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمه ما لا يجهل موضعه"1.
ونجد رواية أخرى تذكر أن أبا الأسود كان أول من وضع العربية، وأول من أملى في الفاعل والمفعول به، والمضاف، والنصب، والرفع، والجر، والجزم، وكان قد أخذ العلم من "علي بن أبي طالب". وحدث أن ابنته لحنت في فعل التعجب، فقالت لأبيها وكان اليوم حارًّا شديد الحر: "ما أشد الحرُّ"، وكانت تقصد "ما أشد الحرَّ"، أي على باب التعجب. فلما علم أبو الأسود بخطئها، نبهها إلى موضع الخطأ. ثم ذهب إلى "زياد" والي البصرة، وطلب منه السماح بوضع علم النحو، فلم يسمح له. ولما أخطأ رجل أمام زياد كبر عليه ذلك فوضع أبو الأسود قواعد النحو فأخذ عنه "الليثي" هذا العلم ووسعه، ثم وسع "عيسى بن عمر" في كتابيه الجامع والمكمل2.
ورويت قصة وضع النحو بشكل آخر، روي أيضًا أن زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئًا يصلح به الناس كلامهم، ويعرب به كتاب الله تعالى! فأبى أبو الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجَّه زياد رجلا وقال له: اقعد على طريق أبي الأسود، فإذا مر بك، فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ: "أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِهِ" بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجهُ الله أن يبرأ من رسوله! ورجع من حاله إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلي ثلاثين رجلا، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلا من عبد القيس، فقال:
__________
1 الخصائص "2/ 9".
2 القِفْطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة "1/ 16"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم"، "مطبعة دار الكتب المصرية 1950م"، الزبيدي، طبقات النحويين واللغات "13"، "القاهرة 1954". طبقات، لابن سلام "5". العسكري، المصون"118".
John A. Haywood, Arabic Lexicography, Leiden, 1965, p. 12. f.(17/40)
خذ المصحف وصبغًا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف. وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين"1.
"وقيل: إنه دخل إلى منزله، فقالت له بعض بناته: ما أحسن السماءُ! قال: أي بنية نجومها، فقالت: إني لم أرد أي شيء منها أحسن؟ وإنما تعجبت من حسنها، فقال: إذًا فقولي ما أحسن السماءَ! فحينئذ وضع كتابًا"2. و"قيل: وأتى أبو الأسود عبد الله بن عباس، فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت؛ فأردت أن أضع شيئًا لهم يقومون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو؛ أما إنه حق، واستعن بسورة يوسف"3. و"قال أبو حرب بن أبي الأسود: أول باب رسم أبي من النحو باب التعجب. وقيل: أول باب رسم باب الفاعل والمفعول، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم"4.
"ومن الرواة من يقول: إن أبا الاسود هو أول من استنبط النحو، واستخرجه من العدم إلى الوجود، وأنه رأى بخطه ما استخرجه، ولم يعزه إلى أحد قبله"5. وكان"أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها"6. وروي عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل عن أبيه، قال: "كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة"7.
وتذكر رواية أن أبا الأسود الدؤلي إنما وضع النحو بأمر من الخليفة "عمر"، روت أن أعرابيًّا قدم المدينة في خلافته، فقال: "من يقرئني شيئًا مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل سورة براءة فقال: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله! إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه! فبلغ عمر -رضي الله عنه- مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله!
__________
1 ابن الأنباري، نزهة "9"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329".
2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 16"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329".
3 المصدر نفسه.
4 كذلك.
5 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 7".
6 المصدر نفسه "1/ 14".
7 ابن الأنباري، نزهة "10".(17/41)
فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرأني، فأقرأني هذا سورة براءة، فقال: "إن الله بريء من المشركين ورسولِهِ"، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر -رضي الله عنه- ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو"1.
وذكر أن عمر بن الخطاب كتب إلى "أبي موسى" الأشعري، كتابًا فيه: "أما بعد: فتفقهوا في الدين وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2.
ويفهم من هذا الكتاب، أن أبا الأسود كان على علم بالنحو وبالإعراب قبل أيام "علي"، ولهذا طلب الخليفة من عامله أن يكلف أبا الأسود بتعليم أهل البصرة الإعراب.
ويظهر من الرواية التي ذكرتها عن التقاء أبي الأسود بعبد الله بن عباس، وقوله له: أني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع شيئًا لهم يقومون به ألسنتهم، ومن رد عبد الله بن عباس عليه بقوله له: "لعلك تريد النحو"3، إن ابن عباس، كان على علم بالنحو، ودليل على ذلك نصه على اسمه، مما يدل على أنه كان معروفًا. وذكل إن جاز لنا التصديق بصحة هذه الروية، التي أرى أنها من المصنوعات.
وكان أبو الأسود مثل غيره من العرب الفصحاء يكره اللحن واللحانين. روي عنه أنه ذكر اللحن، فقال: "إني لأجد للحن غمزًا كغمز اللحم"4.
ولأبي الحسن أحمد بن فارس المتوفى سنة 395 للهجرة، وهو كما نعلم من مشاهير علماء اللغة، رأي طريف في منشأ هذا العلم خلاصته: أن أبا الأسود كان
__________
1 ابن الأنباري، نزهة "8"، الكشاف، للزمخشري "2/ 191".
2 القِفْطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق، حضرت عمر كي سر كاري خطوط "دهلي1959"، "ص139 وما بعدها"، "القسم العربي"، John A. Haywood, Arabic Lexicography, p. 14.
3 القِفْطي "1/ 16".
4 عيون الأخبار "2/ 158".(17/42)
أول من وضع العربية، لكن هذا العلم قد كان قديمًا، وأتت عليه الأيام، وقلَّ في أيدي الناس، ثم جدده هذا الإمام1. فأبو الأسود الدؤلي هو مجدد هذا العلم وباعثه، وليس موجده ومخترعه.
فنحن إذن أمام رأي جديد، رأي يرجع علم العربية إلى ما قبل الإسلام وكفى لكنه لم يفصل ولم يشرح ولم يتعرض لموضوع متى كان ظهور هذا العلم في القديم وكيف وجد وهل كان للألسنة الأعجمية كاليونانية أو السريانية أثر في ظهوره ونشوئه؟ ثم إنه لم يتعرض للأسباب التي جعلت الأيام تأتي عليه حتى قل في أيدي الناس، إلى أن ظهر أبو الأسود فأعاده إلى الوجود، ولم يذكر كيف عثر أبو الأسود على هذا العلم ومن لقنه به حتى بعثه وجدده؟
تعرض "ابن فارس" لبحث منشأ علم النحو في أثناء كلامه على الخط العربي فقال: "وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا"2. وهو يرى أن رأيهم باطل، وأن بين العرب من كان يقرأ كما كان بينهم من كان أميًّا، وجاء بأمثلة في تفنيد دعواهم، ثم خلص إلى هذه النتيجة: "فإذا لم نزعم أن العرب كلها -مدرًا ووبرًا- قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة"3. ثم قال: "والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أوَّلها:
شاقتك أظعان لليلى ... دون ناظرة بواكر
فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها، لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقًا من غير قصد لا يكاد يكون.
فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية،
__________
1 الصاحبي "ص37 وما بعدها".
2 الصاحبي "ص35".
3 "ص36".(17/43)
وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العلمين قد كانا قديْمًا وأتت عليهما الأيام وقلَّا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان. وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب1.
وقال "ابن فارس": "ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم العربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمزة، والمد، والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا في مثل: الخبء، والدفء، والملء"2.
وقد استخدم ابن عباس لفظة "العربية" في معنى: الإعراب، وذكر لفظة "النحو" قبل كلمة: "الإعراب"، حيث قال كما ذكرت ذلك قبل قليل: "وإنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا". وذكر غيره أيضًا أن أبا الأسود "أول من وضع العربية"، و"أول من نقط المصحف ووضع العربية"3. وقد استنتج المرحوم أحمد أمين من ذلك الاستعمال أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم "نحوًا" سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتًا"4. ففرق "أحمد أمين" بين "العربية" و"النحو" وجعل للعربية سابقة على علم النحو، وجعل النحو وليدًا ولد من العربية. وهو رأي لا يتفق مع رأي "ابن فارس"، الذي نص على النحو بذكر اسمه، كما نص على الإعراب من بعده.
هذا هو المشهور المعروف المتداول بين أكثر الناس عن منشأ علم النحو. وقد تعرض "ابن النديم" لهذا الموضوع فقال: "قال محمد بن إسحاق: زعم أكثر العلماء أن النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأن أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام- ثم روى روايات أخرى،
__________
1 الصاحبي "ص37 وما بعدها".
2 الصاحبي "39".
3 ضحى الإسلام "2/ 287"، الإصابة "2/ 233"، "رقم 4329".
4 ضحى الإسلام "2/ 387".(17/44)
تذكر أن غيره قام برسم النحو، إذ قال: "وقال آخرون رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي، ويقال الليثي. قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب، أنه قال: روى ابن أبي لهيعة عن أبي النضر، قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء"1.
وقد رد "ابن الأنباري" على من ذهب إلى أن علم النحو من صنع رجل آخر غير "أبي الأسود"، إذ قال: فأما زعم من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح، لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضًا نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن"2. وكان قد ذكر ما ورد في الأخبار من قيام أبي الأسود به، ثم رجحها على غيرها بقوله: "والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فإنه روي عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه"3.
ويلاحظ أن الذين رجعوا سبب وضع النحو إلى الخطأ في قراءة الآية: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 4، قد اختلفوا فيما بينهم في العهد الذي لحن فيه قارئ الآية في قراءتها، فمنهم من جعله في عهد عمر 5، ومنهم من صيره في عهد علي6، ومنهم من رجعه إلى أيام "زياد بن أبيه"، فأنت أمام رواية واحدة، لكنك تراها وقد نسبت إلى ثلاثة عهود، ومثل هذا الاختلاف أمر غير غريب بالنسبة إلى مراجعي الموارد الإسلامية، إذ نجد فيها أمثلة كثيرة من أمثاله، ويظهر أن الرواة تلاعبوا في الخبر، فنسبه كل واحد منهم إلى عهد لغاية أرادها، من هذا التحريف والتغيير.
__________
1 الفهرست "ص65".
2 نزهة الألباء "10"، "تحقيق محمد أبي الفضل إبرهيم".
3 المصدر نفسه"11".
4 [التوبة، الآية: 3] .
5 نزهة "8".
6 الخصائص "2/ 9".(17/45)
وقد رجح "أحمد أمين" نسبة النحو إلى أبي الأسود، إذ يقول: "ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وأنه ابتكر شكل المصحف. وواضح أن هذه خُطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو. وعلى هذا فمن قال إن أبا الأسود وضع النحو، فقد كان يقصد شيئًا من هذا، وهو أنه وضع الأساس بضبط المصحف حتى لا تكون فتحة موضع كسرة، ولا ضمة موضع فتحة، فجاء بعد من أراد أن يفهم النحو على المعنى الدقيق، فاخترع تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، والاسم إلى ظاهر ومضمر، وغير ظاهر ولا مضمر، وباب التعجب وباب إن"1.
وقال: "فالذي يظهر أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وإن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم نحوًا سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتًا. فالظاهر أن عمله كان في أول الأمر ساذجًا بسيطًا، وهو وضع علامات الرفع والنصب وما إليهما ولم يزد على ذلك، فلما سمى العلماء بعدُ بعضَ ضروب الرفع فاعلا وبعض ضروب النصب مفعولا قالوا: إن أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول، وإن كان أبو الأسود نفسه لم يعرف فاعلا ولا مفعولا، بل ربما لم يعرف أيضًا رفعًا ولا نصبًا، فإنهم يروون أنه8 قال لكاتبه: إذا رأيتني قد فتحت فِيَّ بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت في فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت. وهو تعبير ساذج يتفق وزمن أبي الأسود"2.
ولإبراهيم مصطفى، رأي قريب من رأي "أحمد أمين". فهو يرى أن المصطلحات والقواعد التي ذكر أن أبا الأسود وضعها بأمر "علي" لا يمكن
__________
1 ضحى الإسلام "2/ 286 وما بعدها".
2 ضحى الإسلام "2/ 287 وما بعدها".(17/46)
أن تتفق وزمنه، لأن المصطلحات النحوية إنما ظهرت في وقت متأخر، ويذكر أن الآراء النحْوية، لم تظهر أيضًا في عهده، بدليل أننا لا نجد في كتاب سيبويه ولا في كتب النحو الأخرى رأيًا له. ويستنتج من ذلك أن عمل أبي الأسود كان وضع الإعراب وضبط المصحف1.
وقد درس المستشرقون موضوع نشأة علم النحو وأصله، فمنهم من قال إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون برأي علماء العربية، من أنه عربي الأصل والنجار، وقد نبت كما تنبت الشجرة في أرضها. وتوسط آخرون، فقالوا: إنه كان من إبداع العرب، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق، وتعلموا أيضًا شيئًا من النحو، وهو النحو الذي كتبه "أرسطوطاليس"، وبرهان هذا أن تقسيم الكلمة مختلف، قال "سيبويه": "فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فيقسم فيها الكلام إلى اسم وكلمة ورباط، أي الاسم هو الاسم، والكلمة هي الفعل، كما يقال له في اللغات الأوروبية VERB، والرباط هو الحرف، كما يقال له في اللغة الأوروبية conjunction أي ارتباط، وهذه الكلمات اسم وفعل ورباط، ترجمت من اليوناني إلى السرياني، ومن السرياني إلى العربي، فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات اسم وفعل وحرف فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت ولا نقلت2.
ثم أن "القياس" هو من أهم الأسس والأصول في المنطق اليوناني، وحيث إنه كان من أهم أدوات علماء النحو في تفريع علم النحو، حتى صار من مميزات مدرسة البصرة، والبصرة غير بعيدة عن "جنديسابور" وعن مدارس نصرانية، كان فيها علماء يدرسون علوم اليونان، ومنها المنطق والنحو، فلا يستبعد تأثر أبي الأسود الدؤلي ومن جاء بعده بهذه الدراسات، ودليل ذلك، هو ظهور هذا العلم في البصرة دون سائر المدن الأخرى، ومنها مدن الحجاز مهد الإسلام.
ويرى "فون كريمر" أن ما يقال من أن ظهور اللحن، كان السبب
__________
1 مجلة كلية الآداب، المجلد العاشر "ص71"، "دسمبر 1948م".
2 ضحى الإسلام "2/ 292 وما بعدها".(17/47)
وضع النحو، دعوى لا يعوَّل عليها، ولا أساس لها، وإنما هو وليد الحاجة التي أحس بها الأعاجم من آراميين وفرس، لتعلم العربية، وللتكلم بها على وجه صحيح1.
وقد ألف بعض المستشرقين بحوثًا في موضوع النحو العربي ومدارسه، منهم المستشرق "فلوكل"2، و"هول"3، و"رايت"4، وغيرهم، وقد تطرقوا فيها إلى قواعد العربية وآراء علمائها فيها.
وقد ذهب بعض المحدثين مذهب المستشرقين القائلين بتأثر النحو العربي بالنحو اليوناني، وذلك لأمور، منها: أن تقسيم الكلم المألوف المتبع في النحو، هو تقسيم يوناني، واعتبار القياس أصلا من أصول النحو، ووجود مدارس سريانية كانت تدرس علوم النحو في مدارسها عند ظهور الإسلام، ووجود يونان وأديرة في العراق، فهذه الأسباب وأشباهها تحمل الإنسان على القول إن النحو العربي قد تأثر بالنحو اليوناني وبمنطق أرسطو خاصة، ولا سيما وأن النحو قد ظهر في العراق، وهو ملتقى الحضارات. وقد تأثر خاصة في عهد "الخليل بن أحمد" الذي كانت له صلات وثيقة مع العلماء السريان، مثل حنين بن إسحاق وأضرابه، حتى ذهب بعض الباحثين إلى وقوف الخليل على اللغة اليونانية.
وقد ذهب "مصطفى نظيف" إلى أن يعقوب الرهاوي، كان من معاصري أبي الأسود الدؤلي، وكان من تلامذة سويرس سيبخت، ومن البارعين في الفلسفة والنحو والتأريخ، ومن المؤلفين في النحو السُّرياني، ومن الذين أدخلوا التنقيط والحركات. وكان في البصرة، والبصرة ملتقى الثقافة، وحولها أديرة ومدارس، وهي غير بعيدة عن "جندبابور"، فلا يستبعد إذن تأثر أبي الأسود بهذه التيارات اليونانية التي كانت هناك5.
__________
1 فون كريمر، الحضارة الإسلامية. "90"، "تعريب مصطفى بدر".
2 Flugel G, Die Grammatischen Schulen der Araber, 1862.
3 M. S. Howell, Grammer of the Classical Arabic Language, 7 Vols, Allahabad, 1880-1911.
4 W. Wright, Arabic Grammer, Cambridge, 1896-8.
5 مجلة المجمع اللُّغوي، المجلد السابع "ص248"، عبد العال سالم مكرم، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النَّحْويَّة "55".(17/48)
وأنا على رأي ابن فارس القائل إن الإعراب كان قديمًا عند العرب، قدم معرفتهم بالحروف، وإن علم العربية كان قديمًا، ثم جدده أبو الأسود الدؤلي على نحو ما حكيته من قوله في ذلك قبل قليل1. وعندي أن علم "العربية" كان معروفًا في العراق، وأنه كان يدرس في مدارس الحيرة وعين التمر والأنبار وربما في مواضع أخرى، كان غالبية سكانها من العرب النصارى، كان يدرسه لهم رجال الدين، الذين كانوا يتقنون الإرمية، وكانوا قد أخذوا علومهم في النحو من اليونان، بتأثير النصرانية ودراسة الأناجيل والكتب الدينية المؤلفة باليونانية. ولما كان أهل المواضع المذكورة من العرب، فلا يستبعد ظهور جماعة من رجال الدين النصارى العرب، اتخذت من مبادئ النحو التي وضعت للسريانية والمنقولة عن اليونانية، قواعد لضبط العربية بموجبها، كما ضبطوا الكتابة بها بالأبجدية التي صارت الأبجدية التي انتشرت بين أهل مكة ويثرب وأماكن أخرى. وبين هذه الأبجدية وبين العربية، من حيث هي قواعد صلة متينة. فلا يستبعد قيام رجال الدين بتعليم العربية والخط للعرب، لأنهم كانوا يقومون بالتبشير، وكان من مصلحتهم نشر الكتابة بين من يبشرون بينهم، وتعليمهم أصول اللغة، ليكون في وسع من يعتنق النصرانية تثقيف المشركين، وكانت هذه طريقتهم في التبشير في المواضع الأخرى من العالم.
وأنا لا استبعد احتمال وقوف علي بن أبي طالب، أو أبو الأسود الدؤلي على تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف. وقفًا عليه باتصالهم بالحيرة أو بعلماء من أهل العراق كانوا على علم النحو وعلوم اللغة في ذلك العهد، وقد كان ذلك في الأسس والمبادئ، فلما جاء الإسلام، وأخذ المسلمون علم العربية عن المتقدمين، زادوا فيه وفرَّعوا واستقصوا وقاسوا، وأخذوا من كلام العرب ومن الشعر، حتى تضخم النحو فبرز على الصورة التي نجدها في "كتاب" سيبويه وفي الكتب التي وضعت بعده.
ومما يؤسف له كثيرًا أن المؤرخين اليونان واللَّاتين والسُّريان لم يذكروا أي شيء عن علوم العربية عند العرب، وفي ضمنهم المؤرخون الذي أرَّخوا تأريخ الكنيسة والنصرانية، بسبب أنهم لم يكونوا يحفلون كثيرًا بأمور العرب، وأكثر ما ذكروه
__________
1 الصاحبي "38 ومابعدها".(17/49)
عنهم إنما تناول الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل على حدود الإمبراطوريتين، فأضاعوا علينا بذلك فوائد كبيرة، كان يمكن الاستفادة منها في تديون تأريخ ظهور الكتابة وعلوم العربية عند العرب. أما الموارد الإسلامية، فقد رأينا رأيها في أول ظهور النحو، وقد رأينا حاصل روايات مضطربة، يكتنفها غموض، ثم هي عاجزة في النهاية عن بيان كيفية توصل الإمام "علي" أو أبي الأسود إلى استنباط هذا التقسيم الثلاثي للكلم، ثم البحث في "العطف" و"النعت" والتعجب والاستفهام، وباب إن وأخواتها، والفاعل والمفعول، ونحو ذلك من قواعد، لا يمكن لإنسان استنباطها بمفرده من غير علم سابق له بقواعد اللغات، مهما أوتي ذلك الإنسان من ذكاء خارق وقوة إبداع!
وأنا لا أستطيع أن أتصور أن إنسان يستطيع أن يجلس بمفرده ثم يجيل النظر في محيط اللغة التي تكلَّم بها قومه، وهو غير مسلح بعلم سابق باللغات ولا بمعرفة مسبقة بقواعدها. ثم تنثال عليه المعرفة ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن لأحد وضعها إلا إذا كان ذا علم بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى، لأنها مصطلحات علمية منطقية، لا يمكن أن تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى نقول إنها حاصل ذكاء وعقل متقد. وكيف يعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط أن الكلمة إما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها هذا الحصر الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى اليوم، بمجرد إجالة نظر وإعمال فكر من دون إن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود جذوره إلى ما قبل الميلاد، ثم كيف يتوصل إلى إدراك القواعد المعقدة الأخرى التي لم يبتدعها إنسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل وعمل الفاعل وما يقع منه الفعل على المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا يمكن أن يتوصل إليها عقل إنسان واحد أبدًا.
لقد كان للبابليين ولغيرهم من أهل العراق علم باللغات، وكان لهم أساس في النحو وفي دراسة اللغة، كما كان لليونان ولغيرهم علم بالمنطق والنحو واللغات، وصل إلى العراقيين قبل النصرانية وبعدها، بطرق لا مجال للتحدث عنها في هذا المكان. وبقي هذا العلم العراقي اليوناني إلى الإسلام، ومنه جاء في نظري علم(17/50)
النحو وعلوم العربية، وبسببه صار العراق القطر الإسلامي الأول الذي نبت فيه علم العربيات والنحو، لا بسبب لحن وقع من أعاجم أو من أعراب جهلاء، ولا بسبب تلك القصص التي ساقوها في أسباب اختراع النحو، وإنما بسبب وجود علم سابق في العربية عند أهل الحيرة والأنبار والقرى العربية الأخرى، وبسبب ظهور الحاجة إليه، لتعليم العرب وغيرهم أصول لغتهم وكيفية صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ، فكان ما كان من وقوف علي أو أبي الأسود وهما من أصحاب الذكاء الخارق والتعطش إلى البحث والاستقصاء، فأخذا به، وتوسع من جاء بعدهما في تفريعه وفي تثبيته في كتب، كملت وتمت بالتدريج، فهي من حاصل ذلك التراث العربي الجاهلي.
ولسابقة العراق هذه في الجاهلية بَزَّ سائر الأقطار الإسلامية في علوم العربية، حتى يثرب ومكة، وهما موطنا الإسلام ومهبطه، لم ينافساه فيها. قال السيوطي: "فأما مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا نعلم بها إمامًا في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة. وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه، وخفيت روايته"1. "وممن كان بالمدينة أيضًا علي الملقب بالجمل، وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا2. وأما مكة، فكان بها رجل من الموالي يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئًا من النحو ووضع كتابًا لا يساوي شيئًا". وفي انفراد العراق، وتفوقه على غيره من الأمصار في هذه العلوم، دلالة على وجود البذور القديمة لها في هذه الأرض قبل الإسلام، فلما دخل العراق في الإسلام أينعت واتسعت، فكان ما كان من ظهورها فيه.
وقد تأثر النحاة والمناطقة في الإسلام بمنطق أرسطو. هذا الإمام الشافعي يشير إلى تأثير القوم بمنطقه، إذ قال: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس"3. وقد توفي الشافعي سنة "204"
__________
1 المزهر "2/ 413 وما بعدها".
2 المزهر "2/ 414".
3 السيوطي، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام "15"، "علي سامي النشار"، "مطبعة السعادة".(17/51)
للهجرة1، فلا بد من أن يكون ميل الناس إلى هذا المنطق قد كان هذا العهد. ولعله قصد بـ"لسان أرسطوطاليس" العلوم اللسانية التي كان قد برع بها اليونان. فتكلموا عن أقسام الكلمة وعن بناء التركيب القياسي وعن الموضوع والمحمول وأنواع الإعراب بحسب لغتهم وعن النعت والضمائر والأفعال وما إلى ذلك من قواعد.
وأبو الأسود الدؤلي، هو ظالم بن عمرو بن سفيان، أو "عمرو بن ظالم بن سفيان" أو "عويمر بن ظليم"، من أشياع علي بن أبي طالب ومن أصحابه. استعمله عمر وعثمان على البصرة، ثم استعمله علي عليها بعد ابن عباس. وقد ذكر أبو عبيدة، أنه كان كاتبًا لابن عباس على البصرة، وكان ابن عباس يكرم أبا الأسود لما كان عاملا بالبصرة لعلي ويقضي حوائجه. وقد اشترك مع علي في وقعة صفين. ويذكر أنه توفي في وباء سنة تسع وستين، وقيل مات بعد ذلك، توفي بالبصرة. قال عنه الجاحظ: "أبو الأسود الدؤلي، معدود في طبقات الناس، وهو فيها كلها مقدم، ومأثور عنه الفضل في جميعها. كان معدودًا في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحْويين، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصلع الأشراف"2. وله أجوبة مسكتة مع معاوية، ومع أشخاص آخرين أرادوا التحرش به3"، تدل على بديهة وذكاء.
ولأبي الأسود الدؤلي شعر، وقد طبع شعره في ديوان، وقد استشهد به في شواهد اللغة والنحو، ونجد نتفًا منه في الكتب التي تعرضت لسيرته4، وليس
__________
1 الفهرست "309".
2 وقد اختلف في اسمه، فقيل أيضا "عمرو بن عمران"، و"عثمان بن عمرو"، الإصابة "2/ 233"، رقم 4329. أدب الكاتب، لابن قتيبة "611". الخزانة "1/ 136" "بولاق". الأغاني "11/ 105 وما بعدها". إنباه الرواة "1/ 12 وما بعدها". المرزباني، معجم "240". السمط "66". تهذيب ابن عساكر "7/ 104"، الشعر والشعراء "1/ 615".
3 أمالي المرتضى "1/ 293 وما بعدها".
4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 542 وما بعدها، 934"، الخزانة "1/ 136 وما بعدها". كتاب خلق الإنسان، لأبي محمد ثابت بن ثابت "241"، "الكويت 1965". "عبد الستار أحمد فراج"، خلق الإنسان، للأصمعي "212". المخصص "2/ 18".(17/52)
شعره على مستوى رفيع من الوجهة الفنية، ولا يتعرض للأحداث التأريخية التي وقعت في أيامه1.
وقد أخذ عن أبي الأسود جماعة من التلامذة، صاروا من مؤسسي علم النحو عند العرب، ومن مبوبيه ومصنفيه. منهم ابنه عطاء. وكان قد بعج العربية وبرز بها2. ومنهم يحيى بن يعمر وهو من عدوان بن قيس، وكان عدده في بني ليث بن كنانة، ولقي ابن عباس وابن عمر، وروى عنه قتادة. ومنهم عنبسة بن معدان، المعروف بـ"عنبسة الفيل"، ويقال إن نصر بن عاصم أخذ عن أبي الأسود3، وأخذ عن نصر "أبو عمرو بن العلاء" البصري، وأخذ عن أبي عمرو "الخليل بن أحمد"، وأخذ عن الخليل "سيبوبه"، وأخذ عن سيبويه "الأخفش"4. وممن أخذ عن أبي الأسود: ميمون الأقرن، وعبد الرحمن بن هرمز 5.
وفي رواية: أن الذي برع بعد أبي الأسود ميمون الأقرن، وبعد ميمون عنبسة الفيل، وبعده عبد الله بن أبي إسحاق، فقاس وأكثر، ثم برع بعده أبو عمرو بن العلاء، ولحقه الخليل بن أحمد، إلا أن نظر أبي عمرو أقدم من نظر الخليل.
ثم أتى الخليل في النحو بما لم يأت بمثله أحد قبله في تصحيح القياس، واللطافة والتصريف.
وكان يونس في عصر الخليل، وبقي بعده مدة طويلة، ويقال إن سيبويه مات قبل يونس.
وكان عيسى بن عمر في عهد أبي عمرو وعهد الخليل وكان بارعًا
أيضًا6. وكان عنبسة الفيل، من أبرع أصحاب أبي الأسود الذين كانوا
__________
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 172".
2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 21".
3 الفهرست "68"، "تسمية من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي".
4 القِفْطي "1/ 6".
5 ابن الأنباري، نزهة "11"، طبقات، لابن سلام "5".
6 العسكري، المصون "119".(17/53)
يتعلمون منه العربية1. وذكر أن الناس اختلفوا إليه بعد أبي الأسود، وكان من بينهم ميمون الأقرن الذي كان من أبرع أصحابه. وقد ذكرت رواية تنسب إلى أبي عبيدة اسم "ميمون الأقرن" قبل عنبسة2.
وأما نصر بن عاصم الليثي 89هـ، 90هـ، فإنه كان فقيهًا عالِمًا بالعربية، فصيحًا قرأ القرآن على أبي الأسود، وقرأ أبو الأسود على "علي"، فكان أبو الأسود أستاذه في القراءة3.
وابن أبي اسحاق الحضرمي، هو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق 117هـ، وكان قيمًا بالعربية والقراءة، شديد التجريد للقياس. ويقال إنه كان أشد تجريدًا للقياس من أبي عمرو بن العلاء، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسع علمًا بكلام العرب ولغاتها وغريبها. ويقال إنه أول من علل النحو. وكان قد قرأ على يحيى بن يعمر، وعلى: نصر بن عاصم، وزعم أنه كان أول من بعج النحو ومد القياس والعلل4.
وأما يحيى بن يعمر العدواني "129هـ"، فكان عالمًا بالعربية والحديث، لقي عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة. وكان يستعمل الغريب في كلامه5. وقد لحق بخراسان، وكتب ليزيد بن المهلب، ألحقه بها الحجاج6.
وكان عيسى بن عمر الثقفي "149هـ"، ثقة عالمًا بالعربية والنحو والقراءة، وصنف كتابين في النحو، يسمَّى أحدهما: الجامع، والآخر الإكمال، وقد ذكرهما الخليل بن أحمد بقوله:
__________
1 ابن الأنباري، نزهة "12 وما بعدها"، إنباه الرواة "2/ 381 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 233".
2 ابن الأنباري، نزهة "13، 406".
3 ابن الأنباري، نزهة "14"، إنباه الرواة "3/ 343"، بغية الوعاة "3/ 313 وما بعدها".
4 ابن الأنباري، نزهة "18 وما بعدها"، إنباه الرواة "2/ 104 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 40"، المزهر "2/ 398، 423". طبقات، لابن سلام "6".
5 بغية الوعاة "2/ 345"، المزهر "2/ 398 وما بعدها"، ابن الأنباري، نزهة "16 وما بعدها".
6 طبقات، لابن سلام "6".(17/54)
ذهب النحو جميعًا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر1
وبلغ النحو درجة كبيرة من التقدم، حين انتقلت الزعامة فيه إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي كان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس"2. "فهو الذي بسط النحو ومد أطنابه وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحجاج فيه حتى بلغ أقصى حدوده. ثم لم يرض أن يولِّف فيه حرفًا ويرسم منه رسمًا. واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، وامتنع على من تأخر بعده"3، وقد كان علم الخليل، في جملة المنابع التي غرف منها سيبويه في كتابه: الكتاب. وقد ذكر سيبويه اسمه في "410" مواضع من كتابه، وأشار إلى آرائه دون أن يذكر اسمه في "174"، مكانًا آخر، وهو وأن لم يشر إلى اسمه، لكن العلماء ذكروا أنه قصده 4.
وأورد سيبويه له في كتابه آراء أستاذه في إعراب آيات القرآن الكريم، وتأويلها، كما جاء له بشواهد من الشعر في شرح قواعد نحوية، منها أشعار نص على أسماء قائليها، مثل أمية بن أبي الصلت، وطرفة والنابغة والأعشى، وغيرهم. ومنها أشعار لشعراء محضرمين وإسلاميين، ومنها أشعار لم يذكر أسماء أصحابها5.
ونعت بأنه "نحوي عروضي، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه أحد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم. وقيل إنه دعا بمكة أن يرزق
__________
1 ابن الأنباري، نزهة "21 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 237 وما بعدها".
2 الفهرست "70".
3 كلما قال سيبويه سألته، أو قال: "قال" من غير أن يذكر قائله، فهو الخليل،
ابن الأنباري. نزهة "55". السيوطي، بغية "244"
Wofgang Reuschel, Al-Halil ibn Ahmad der Lehrer Sibawaih's, Als Grammatiker, Berlin, 1959, S. 9.
وسأرمز إليه بـ: Reuschel.(17/55)
علمًا لم يسبق إليه أحد، ولا يؤخذ إلا عنه، فرجع من حجه، ففتح عليه بالعروض"1. وذكر أنه كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله، وكان أول من حصر أشعار العرب. دخل عليه ولده وهو يقطع العروض، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ماتقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذلتكا3
ويظهر من دراسة كتاب سيبويه أن أثر الخليل عليه كان كبيرًا، لا يدانيه أثر أي عالم آخر عليه، وأن علم الخليل بالنحو، كان غزيرًا جدًّا، يؤيده استشهاد سيبويه بآرائه أكثر من استشهاده برأي أي عالم آخر من علماء هذا العلم، مثل أبي عمرو بن العلاء "154هـ"، وعيسى بن عمر الثقفي "149هـ"، ويونس بن حبيب "182هـ". ويظهر أن الخليل لم يدوِّن علمه بالنحو في رسائل أو كتب، وإنما كان يعلم من يقصده مشافهة3، فكان تلامذته يسمعونه ويحملون العلم عنه، وذلك على طريقة أكثر العلماء في ذلك العهد.
وللخليل بعد، آراء خاصة في النحو، ونجد الخوارزمي يتكلم في الفصل الثاني من فصول النحو، بقوله: "في وجوه الإعراب وما يتبعها على ما يحكى عن الخليل بن أحمد"4، مما يشير إلى وجود آراء خاصة له به، أشير إليها في كتب النحو، وربما وضعها بعضهم في مؤلفات خاصة بآرائه في النحو. ومن آرائه استعماله مصطلح الرفع في الاسم المضموم المنون، ومصطلح الخفض في الاسم المجرور المنون، والنصب في الاسم المفتوح المنون، على حين يسمي بقية الحركات
__________
1 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 342".
2 ابن الأنباري، نزهة "45 وما بعدها"، إنباه الرواة "1/ 341 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 557 وما بعدها"، المزهر "2/ 401 وما بعدها"، مراتب النحويين "37 وما بعدها".
3 Reuschel, S. 63. f, John Sib, Sibawaihs Buch uber die Grammatik, Berlin 1884-1900, Bd, I, 2, I, 2.
4 مفاتيح العلوم "30".(17/56)
العارية من التنوين في الأحوال والصيغ المختلفة بأسماء الحركات العامة، أي: الضم، والكسر، والفتح، كما أنه يسمَّى بالجر حركة الكسر التي تربط بين آخر الصيغة الفعلية وبين همزة الوصل. ولا يوجد عنده ما يدل على تأثير النظرية القائلة بأن اختلاف حركات الكلمات المتصرفة متوقف على العامل النحوي، إلا في التفرقة التي جعلها بين التوقيف، أي عدم الحركة في أواخر الحروف وما شاكلها، والجزم، أي سكون الفعل المجزوم1.
وكان سند علماء العربية ومنبعهم الذي أخذوا منه علمهم في وضع قواعد العربية كتاب الله والشعر وكلام العرب. ويكون كلام العرب، المنبع الأول الذي استمدا منه علمهم في اللغة وفي وضع القواعد، وهو ما أخذ عن القبائل والأفراد، ونجد للهجات أهل الحجاز وتميم أهمية كبرى في كتب الشواهد والقواعد2. ونظرًا لاعتماد العلماء على هذا المورد أكثر من غيره، وقعوا في مشاكل، جعلتهم يتحايلون في حلها، ويرجعون إلى التأويل والتفسير، من ذلك ما وقعوا فيه من عدم تمكنهم من التوفيق بين القواعد التي وضعوها، وبين ما جاء في القرآن أو الشعر من أمور لا تنسجم مع هذه القواعد. وكل هذ الموارد المذكورة، هي موارد أخذ منها بالسماع، وهناك قواعد وضعها العلماء قياسًا على كلام العرب، استنبطوها بطريق القياس، والقياس من أهم الميزات التي ميزت البصرة على الكوفة في وضع قواعد اللغة.
والقياس ركن من ركنين مهمين، قام عليهما علم النحو. أما الركن الأول، فهو السماع. وللدور الخطير الذي قام به القياس في تكوين أصول وقواعد النحو، قال المستشرقون وغيرهم بتأثر النحو العربي بمنطق أرسطو وممن أخذ وعمل به في النحو عبد الله بن أبي إسحاق الخضرمي، قيل عنه: وكان شديد التجريد للقياس. ويقال إنه كان أشد تجريدًا للقياس من أبي عمرو بن العلاء"3. وفرع النحو وقاسه4، وكان أول من بَعَجَ النحو ومدَّ القياس والعلل5.
__________
1 مفاتيح العلوم "30"، يوهان فك، العربية "11".
2 reuschel, s,63.
3 نزهة "18"، مراتب النحويين "18"، بغية "2/ 40".
4 المزهر "2/ 398",
5 ابن سلام، طبقات "6 وما بعدها".(17/57)
وكان الخليل بن أحمد رأس العاملين بالقياس في فتاوي النحو. كان قياسًا بارعًا فيه. قيل عنه: إنه سيد قومه، وكاشف قناع القياس في علمه1. وقد تأثر سيبويه بقياس الخليل، فاستعمله في تثبيت العربية. فتجد في كتابه جملا مثل: وللقياس كذا أو والقياس يأباه، وسألت الخليل عن قول العرب ما أميلحه، فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الأسماء"2.
وقد انقسم علماء اللغة والنحو إلى فئتين بالنسبة لاستعمال القياس في اللغة والنحو. ولكن الأغلبية معه، وقد وقع فعلا، وأثَّر في وضع القواعد أثرًا خطيرًا. فبه أوجد النحاة كليات القواعد. "قال ابن الأنباري: اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يعلم أحد من العلماء أنكره. وينسب إلى الكسائي أنه قال:
إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع3
ولعلماء اللغة، كلام طويل في مدى جواز استعمال القياس، وفي حالة ورود السماع لأن اللغة في نظر بعض منهم سماع، فإذا كانت سماعًا، وجب الأخذ بالسماع، فإذا ورد السماع بطل القياس4. وقد تحدث العلماء عنه. قال ابن فارس: "أجمع أهل الغة -إلا من شذ عنهم- أن للغة العرب قياسًا، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض". غير أنه قال: "وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه، لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها، ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نقيسه الآن نحن"5.
ولابن جني رأي في القياس. قال: "واعلم أنه إذا أدَّاك القياس إلى شيء ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت
__________
1 الخصائص "1/ 366 وما بعدها".
2 ضحى الإسلام "2/ 292".
3 ضحى الإسلام "2/ 281".
4 البَغْدادي، خزانة "3/ 559". أحمد تيمور باشا، السماع والقياس "11".
5 الصاحبي "67"، المزهر "1/ 345 وما بعدها".(17/58)
عليه ما هم عليه، فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته، فأنت فيه مخير، تستعمل أيهما شئت، فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك أنت كنت على ما أجمعوا عليه البتة وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولد، أو لساجع، أو الضرورة، لأنه على قياس كلامهم"1.
والإجماع أن النحو لم يجمع ولم يرتب ترتيبًا علميًّا إلا في الإسلام، وإلا في أيام العباسيين، حيث أظهر علماء العربية نشاطًا عظيمًا في تتبع القواعد واستنباطها من المظان التي أشرت إليها. وقد استقر وثبت، بعد أخذٍ وردٍّ بين علمائه في المسائل الفرعية التي أثارت الاختلاف فيما بينهم، فكانت ردود وتخطئة بعض منهم لبعض، ثم استقر في كتب تمثل اليوم ثروة قيمة تقدر في هذه اللغة الواسعة الثرية بألفاظها وبقواعدها.
ولا بد في نظري لمن يريد فهم النحو العربي فهمًا صحيحًا واضحًا، من دراسة نحو اللغات الجاهلية من عربية جنوبية ومن ثمودية ولحيانية وصفوية ونبطية،
لأنها وإن فارقت العربية القرآنية في أمور إلا أنها عربية في النهاية، ودراستها
تفيدنا فائدة كبيرة في الوقوف على تأريخ تطور عربيتنا والعربيات البعيدة عن الإسلام، وهي كما نعلم من أقدم اللهجات العربية التي أفادتنا في تقديم كتابات مدونة في تلك الأيام، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. وقد تحدثت عن نحو اللهجات العربية الجاهلية وعن أمور من صرفها في الجزء السابع من كتابي الأول المعروف بتأريخ العرب قبل الإسلام، المطبوع ببغداد.
هذا وقد عثر حديثًا على آثار في إمارة أبي ظبي وفي مواضع أخرى من سواحل الخليج، قد تقدم لنا علمًا جديدًا عن لهجات عربية قديمة لا نعرف اليوم من أمرها شيئًا، وبذلك يتسع علمنا عن لهجات العرب قبل الإسلام، وقد نستطيع بواسطتها الوقوف على كيفية تطور اللغة العربية القرآنية وعلى حصر المواضع التي كان سكانها يتكلمون بها، أو بلهجات قريبة منها.
بل أرى ضرورة دراسة اللغات السامية للاستفادة من هذه الدراسة المقارنة في فهم خصائص اللغة العربية ولحل بعض مشاكلها في النحو والصرف والألفاظ. وقد بذل المستشرقون -والحق يقال- جهودًا يشكرون عليها في دراسة هذه اللغات دراسة مقارنة. ولدينا اليوم مؤلفات كثيرة في هذه الدراسة، تعرضت
__________
1 الخصائص "1/ 126".(17/59)
للحروف بنوعيها: الحروف الصامتة the consonant sounds"، والحروف المتحركة "the vowels"، والضمائر، وللأسماء الموصولة وأدوات الوصل، وللأسماء، وللجموع وللأفعال، ولحروف الجر، وغير ذلك من الموضوعات التي تجدها في الكتب التي بحثت عنها1.
ومن أهم الموضوعات التي يجب توجيه العناية إليها، موضوع: علم الأصوات "phonology" بالنسبة إلى اللغات السامية، مثل دراسة مخارج الحروف، والحركات، والإمالة، والتفخيم، والإشمام في العربية على وجه خاص، ثم دراسة صرف هذه اللغات "morphology" مثل جذور الألفاظ التي يغلب عليها الطابع الثلاثي "triconsonantal" المكون من الحروف الصامته، بينما تقل فيها الجذور المكونة من حرفين صامتين أو من أربعة حروف صامتة. ومثل دراسة كيفية تكون الأسماء، وأبنيتها، ودراسة الجنس في هذه اللغات، والعلامات التي تميز الجنس: المؤنث عن المذكر، ثم العدد: المفرد، والمثنى، والجمع. جموع التذكير وجموع التأنيث، وجموع التكسير، ثم الظرف، وحروف الجر، والعطف، ودراسة الأفعال بأنواعها، وحالات الجمل، وغير ذلك من أمور تخص علم اللغات2.
__________
E. Renan, Histoire Generale des Langues Semitigues, Paris, 1855, William Wiight, Lectures on the Comparative Grammar of the Semitic Languages, Amsterdam, 1966, Zimmern Verleichende Grammer D. Semltischen Sprache, Berlin, 1898, De Lacy O'leary, Comparative Grammar the Smltlc Languages,London, 1923.
وللوقوف على أسماء المؤلفات الموضوعة في مثل هذه الدراسات أرجح الرجوع إلى المصادر الآتية:
H Zimmern, Vergleichende Grammatic der Semitischen Sprachen, Berlin, 1898, Barth J., Sprachwlssenschaltliche Untersuchungen zum Semitischen, Lelp2ing, 1907-11, G. Bergstrasser, Elnfuhrung in die Semitischen Sprachen, Munchen, 1928, C. Brockelmann, Grundriss der Vergleichenden Grammatit der Semitischen Sprachen, 2 Bande, Semitlsche Sprachwlssenschaft 2 Aufiage, Leipzig, 1916, P. Dhonne, Langues et Ecritures Semltiques, Paris, 1930, Fleisch, Introduction ft l'6tude des Langues S6mitiques, Paris, 1947, 1. H. Gray, Introduction to Semitic Comparative Linguistics, New YorK, 1934, B. Spuler, Handbuch der Orii ntallstifc, III, Semitistik, Leiden, 1953-54, J. H. Kramers, De Semletische Talen, Leiden, 1949, LevI Delia Vlda, Unguistica Semitlca, Roma, 1961, Noldeke, Beitrage zur Semitischen Sprachwissenschaft, Strsbourg, 1904, Neue Beitrage zur Semitischen Sprach-wlssenschaft, Strasbourg, 1910, G. Kolandi, Le Lingue Semitiche, Torino, 1954, Sabatino Moscti, An Introduction to the Comparative Grammer of the Semitic Languages, Phonology and Morphology, Wiesbaden, 1964.(17/60)
وقد عالج بعض العلماء موضوعات خاصة من موضوعات النحو والصرف، مثل موضوع الفعل في اللُّغات السامية1. وموضوع الصلة بين العربيات الجنوبية وبين اللغة الحبشية2. والصلة بين العربية وبين اللغات السامية الأخرى، أو بين لغة سامية ولغة سامية أخرى من حيث قواعد النحو والصرف3.
__________
1 G Bertin, Suggestions on The Voice-Formation of the Semitic Verb, In Journal of the Royal Asiatic, vol. XV, 4. Prlthlof Rundgren, Erneurung des Verbal aspekts.htm' im Semltlschen Funktlonell-Diachronische Studlen zur Semltlschen Verblehre, Upsala, 1963, G. R. Castellino, The Akkadian Personal Pronouns and Verbal System in the light of Semitic and Hamltlc, 1962, Barth J., Die Nomlnalbldung in den Semitlschen Sprache, Leipzig, 1894, Hurwltz, Root Determinatives In Semitic Speech, New York, 1913.
2 A. Murtonen, Early Semitic, A Dlachronlcal Inquiry Into the Relationship of Ethlopic to the other So-called South-East Semitic Languages, Leiden,1937.
3 De Lagarde, Ubersicht XJber ule im Aramalschen, Arablschen und Hebralschen Ubliche Bildung der Nomlna, Gottlngen, 1889 Barth, Die Nominalbildung in den Semltischen Sprachen, Leipzig, 1889.(17/61)
الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر
مدخل
...
الفَصْلُ السَّادِسُ والْأَرْبعونَ بَعْدَ المائةِ: الشِّعْرُ
الشعر والْحِكَم والكَهَانة والخطابة وأضرابها، هي أهم المظاهر التي تحدد لنا معالم العقلية الجاهلية، وتعطينا فكرة عامة عن العقل الجاهلي.
أما الشعر الجاهلي، فلم يصل إلينا من الجاهلية مدونًا قطُّ، وإنما وصل إلينا مدونًا في الإسلام. وأقصد أننا لم نعثر حتى الآن على أي شيء منه مكتوبًا بقلم جاهلي، أو محفورًا على نص جاهلي. ولك ما نحفظه ونعرفه من ذلك الشعر، هو مما وصل إلينا بنقول الإسلاميين.
وللعلماء، من إسلاميين قدامى ومحدثين، ومن مستشرقين، آراء في هذا الشعر. منهم من يبالغ في اليقين، فيرى أن كل ما وصل إلينا منه صحيح، ومنهم من يبالغ في الشك، فيرى أن أكثر ما وصل هو شعر منتحل فاسد موضوع، وضع لأغراض عديدة يذكرونها: دينية وسياسية وجنسية وغير ذلك، ومنهم من يتوسط فيرى أن فيه الصحيح وفيه الفاسد المدسوس، وإن من الخير البحث فيه من نواحٍ متعددة ودرسه دراسة علمية حديثة ونقده نقدًا علميًّا لتمييز صحيحه من فاسده، ولكل فريق حجج وأدلة مدوَّنة، وكتب أفردوها، فيها رأيهم وحججهم، إليها أَسْتَحْسِنُ رجوع من يريد الوقوف على تلك الآراء.
ومن الكتب المؤلفة في الأدب الجاهلي، واشتهرت خاصة بين أدباء العربيات بنقد الشعر الجاهلي وبتوجيه الشك إلى صحة أكثره، فأثارت لذلك ضجة كبيرة(17/62)
كتاب ألَّفَهُ الدكتور طه حسين في العربية بعنوان: "في الأدب العربي". وقد رد عليه أدباء عديدون في مصر وغيرها من البلاد العربية الأخرى. وقد أوضح الدكتور في كتابه العوامل التي حملته على تكوين رأيه المذكور في الأدب الجاهلي.
وليس مرجع هذا الاختلاف هو في حقيقة وجود شعر جاهلي أصلا، أو في عدم وجوده. فوجود شعر للجاهليين، حقيقة لا يُشَك فيها أبدًا، لأن الجاهليين هم مثل سائر الناس، لهم حسٌّ ولهم شعور، وما دام الحسّ موجودًا، فلا بد أن يظهر على شكل شعر أو نثر. وإنما الاختلاف هو في هذا الشعر المروي لنا، والمدون في بطون الكتب. هل هو جاهلي حقًّا، أو هو منحول فاسد محمول على الجاهليين؟ أو وسط بَيْنَ بَيْن، وفي كمية الصحيح منه، بالنسبة إلى مقدار الفاسد منه؟ هذا موضع الاختلاف بين العلماء.
وقد وصف القديس "نيلوس" المتوى حوالي السنة 430 للميلاد غارة بدوية على دير سيناء، وقعت سنة410م، وتحدث عن تغني الأعراب بأشعارهم وهم يستقون الماء1. كما أشار المؤرخ "سوزيموس" إلى تغني العرب بأشعارهم وذلك في المعارك التي وقعت بينهم وبين الروم في حوالي سنة "440م"، وهي أغانٍ تشبه الأشعار التي كان يتغنى بها الأعراب في حروبهم وغزواتهم، مثل يوم ذي قار2، والمعارك التي وقعت في فتوح العراق والشأم. ولا زال الأعراب يترنمون بالشعر عند غزوهم بعضهم، لأن الشعر عندهم سلاح مهم من أسلحة القتل.
ثم إن شعر المخضرمين، هو في حدِّ ذاته دليل على وجود شعر سابق جاهلي، فشعر مثل هذا لا يمكن أن يكون قد ظهر فجأة من غير شعر سابق ومن غير شعراء ماضين مهدوا الجادة لمن جاء بعدهم ووضعوا لهم البحور المعروفة، وقد وجدها المخضرمون، فنظموا عليها.
وفي القرآن الكريم سورة تسمَّى "سورة الشعراء"3، وهي تدل على كثرة الشعراء، وعلى تأثر الناس بهم، وعلى تأثير شعرهم في النفوس وتلاعبه بأفئدة
__________
1 غرونباوم "133".
2 غروبناوم "134". Die araber, II,s, 330.
3 رقم السورة "26".(17/63)
الجاهليين، وتجاسر بعض الكفار على الرسول، فوصفوه بأنه شاعر. ووصفه بهذه الصفة دليل على ما كان الشعر من أثر في نفوس القوم. وقد ورد في الحديث: أن الرسول قال: "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمًا"، أو "إن من الشعر لحكمة"1. وفي الأخبار أنه كان يرفع أُنَاسًا ويذل آخرين، وأن من الناس من كان يشتري ألسنة الشعراء. وورد في الحديث، أن الرسول ذكر الشعر فقال: "إن من الشعر لحكمة، فإذا ألبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر، فإنه عربي"2. ووردت عنه أحاديث أخرى في حق الشعر3.
وورد في خبر آخر أن "العلاء بن الحضرمي"، لما وفد على رسول الله، قال له الرسول: أتقرأ شيئًا من القرآن؟ فقرأ سورة عبس، ثم زاد فيها من عنده: "وهو الذي أخرج من الحبلى نسمة، تسعى بين شراسيف وحشى، فقال رسول الله كفَّ فإن السورة كافية، ثم قال: أتقول شيئًا من الشعر؟ فأنشده:
وحي ذوي الأضغان تسب قلوبهم ... تحيتك الأدنى فقد يدبغ النَّعلُ
فإن دحسوا بالكره فاعفُ تَكَرُّمًا ... وإن أخنسوا عنك الحديثَ فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه استماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
فقال النبي: "إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما 4 ".
وورد أن الرسول كان يسأل الصحابة أن يسمعوه شعرًا، سأل مرة "الشريد بن سويد الثقفي" أن ينشده شيئًا من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشده مائة بيت، فقال الرسول: كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسْلِم، أو أن كاد ليسلم5. وكان الرسول يقول: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: أَلَا كُلُّ شَيءٍ
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 134".
2 اللسان "4/ 410"، "شعر". العمدة "ص27"، "إذا اشتبه عليكم شيء من القرآن فاطلبوه في الشعر"، مجالس ثعلب "317".
3 العمدة "ص27".
4 بلوغ الأرب "3/ 133 وما بعدها"، "إن من الشعر حكمًا، وإن من البيان سحرًا". وفي هذه الأبيات روايات متباينة، عيون الأخبار "2/ 18"، "طبعة دار الكتب المصرية"، كَنْزُ العُمَّالِ "2/ 178".
5 إرشاد الساري "9/ 100 وما بعدها"، الإصابة "2/ 146"، "رقم3892"، المزهر "2/ 309"، "مائة قافية"، ابن سعد "5/ 376"، صحيح مسلم "7/ 48"، "كتاب الشعر".(17/64)
ما خلا الله باطل، أو أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل1.
وورد أنه استشهد ببيت شعر لطَرَفَةَ بن العبد، هو:
ستبدي لك الأيامُ ما كانت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوَّدِ2
وورد أنه جلس في مجلس من الخزرج، فاستنشدهم شعر: قيس بن الخطيم، فأنشدوه بعض شعره3. وللرواة أخبار عديدة تشير إلى سماع الرسول الشعر وإلى وقوفه عليه وعلمه به، وأنه كان يكلف الصحابة بأن ينشدوه من شعر الشعراء، وذكر أنه نهى من رواية رثاء أمية بن أبي الصَّلت قتلى قريش في معركة بدر، لما فيها من رثاء لمشركين ومن تحريض على الإسلام4. وورد أن الشاعر العباس بن مرداس"، شهد مع النبي حنينًا على فرسه "العُبيد"، فأعطاه النبي أربع قلايص، فقال:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع
وكانت نهابًا تلافيتها ... بكري على المهر في الأجرع
فقال الرسول: اقطعوا عنَّا لسانه5. ولسانه هو شعره.
وروي عن عمر قوله: "نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته فيستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم، مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الأبية، وعز الأنفة، وسلطان القدرة6".
وقديمًا قال ابن عباس: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله، فاطلبوه في
__________
1 إرشاد السَّاري "9/ 101 وما بعدها"، صحيح مسلم "7/ 49"، "كتاب الشعر".
2 معجم الشعراء "202".
3 الأغاني "3/ 7".
4 الأغاني "4/ 122 وما بعدها"، الفائق "3/ 52"، الأغاني "8/ 243"، ابن سعد "5/ 376"، المزهر "2/ 309".
5 الشعر والشعراء "2/ 634"، الاشتقاق "188".
6 بلوغ الأرب "3/ 82".(17/65)
الشعر، فإنه ديوان العرب"1. وقيل إنه -أي ابن عباس- ما فسَّر آية من كتاب الله، إلا نزع فيها بيتًا من الشعر. وروي أن غيره كان يحفظ شيئًا وافرًا من الشعر، الشعر المروي عن أناس عاشوا قبل الإسلام وأناس أدركوا الإسلام، وأنهم كانوا يتداولونه ويتطارحونه ويحفظونه لصلته بكل فرد منهم. ففيه أخبار القبائل وأيام العرب وما قيل فيهم من مدح أو ذم، والحق أننا بفضل هذا الشعر حصلنا على كثير من هذا القصص المنسوب إلى أهل الجاهلية، وبفضله عرفنا الشعراء والقبائل والأيام والحروب، فهو كما قلت في الجزء الأول من هذا الكتاب مورد مهم رئيسي يرد منه المؤرخ في تدوينه تأريخ العرب قبل الإسلام.
ونحن لا نكاد نقرأ قصة من قصص "أيام العرب"، إلا ونجد فيها شعرًا، ينسب إلى بطل من الأبطال الذين ساهموا فيها، أو من شاعر يذكر قومه أو خصوم قومه أو خصومه بالأيام التي انتصروا فيها على خصومهم. وقد ساعد هذا الشعر على تثبيت تلك الأيام في ذاكرة رواتها، حتى وصلت إلى أيام التدوين فدونت، على نحو ما نقرأها في هذا اليوم.
ثم إن كتب الأدب بأنواعها مملوءة بأخبار المساجلات والمطارحات التي وقعت بين الشعراء قبيل الإسلام وفي أيام الرسول والخلفاء. وقد رويت فيها أشعار وقصائد لشعراء جاهليين، ولشعراء مخضرمين. وقد تحدث معظم المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام عن ذكرياتهم في الجاهلية، ورووا ما نظموه فيها من أشعار وما وعوه من المناسبات التي نظموا فيها. ثم إن هذه الكتب مملوءة أيضًا بأخبار مجالس سمر تناولت الحوادث والأيام والشعر والشعراء، وفيها نقد ومفاضلات لما ذكر في تلك المجالس من شعر، وقد روي: أن الرسول كان يجالس أصحابه ويتحدث معهم ويصغي إليهم، ويستمع إلى ما يرْوُونه وما يتذاكرونه من الشعر2. وروي أن الْحُطَيئةَ، وهو شاعر معروف، كان يتذاكر الشعراء ويحفظ أشعارهم3.
وقيل للحسن البصري: "أكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
__________
1 المزهر "2/ 470"، الأخبار الطوال "332"، طبقات الشعراء، للجُمَحِي "ص10"، بلوغ الأرب "3/ 83". جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 36"، العمدة "30"، التبريزي، شرح الحماسة "1 وما بعدها".
2 الأغاني "15/ 55".
3 الأغاني "15/ 94".(17/66)
يمزحون؟ قال: نعم ويتقارضون، أي يقولون القَرِيضَ وينشدونه. والقريض الشعر"1. وروي أن أصحاب رسول الله، كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليتهم، وأن رسول الله كان يجالسهم في المسجد، وهم يتناشدون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسَّم2. وعن أبي سلمة: "لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- متحزقين ولا متماوتين، كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حمَاليق عينيه كأنه مجنون"3.
وقد ذكر أن من الأعاجم من تعلم الشعر العربي ورواه وعشقه، فزعم ابن الكلبي مثلا أن "خرحسرة"، وهو ابن المروزان، كان قد تعرب، أعجبته العربية فتعلمها وروى الشعر، وكان واليًا على اليمن في عهد كسرى، ثم بلغ كسرى تعربه، وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولَّى باذان4.
وللشعر أثر خطير في نفوس العرب كان يهز عواطفهم هزًّا، ويفعل فيهم فعل السحر، فلا عجب إذا ما قرن "رؤبة" الشعر بالسحر، وجعله مثله في التاثير لتلك العلة:
لقد خشيت أن تكون ساحرا ... راوية مرا ومرا شاعرا 5
قال الجاحظ: "وكان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر6.
وقد بقي أثر هذا في نفوس الناس حتى بعد زوال الجاهلية ودخول الناس في الإسلام. فكان مدح الشاعر لقوم، من المآثر والمفاخر، وكان ذمه
__________
1 اللسان "7/ 219"، الفائق "2/ 339".
2 ابن سعد، الطبقات "1/ 2 ص95 وما بعدها".
3 الفائق "1/ 257".
4 الطبري "2/ 215"، "دار المعارف".
5 العمدة "1/ 27".
6 البيان والتبيين "4/ 83".(17/67)
مما يشين ويسيء إلى المهجو. لما هجا جرير "بني نمير" بقوله:
فغضَّ الطَّرْفَ إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابا
أخذ بنو نمير ينتسبون إلى عامر بن صَعْصَعَة، ويتجاوزون أباهم نميرًا إلى أبيه، هربًا من ذكر نمير وفرارًا مما وسم به من الفضيحة والوصمة. مع أنهم كانوا قبل ذلك إذا سئل أحدهم ممن الرجل فخم لفظه ومد صوته وقال: من بني نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب. وكان أحدهم إذا رأى نميريًّا وأراد نبزه والإساءة إليه قال له: غمِّض وإلا جاءك ما تكره، وهو إنشاد هذا البيت1. وصار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر2!
قال الجاحظ: "وفي نمير شرف كثير. وهل أهلك عنْزَة، وجرمًا، وعُكلا، وسلولَ، وباهلة وغنيًا، إلا الهجاء؟!
وهذه قبائل فيها فضل كثير وبعض النقص، فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء. وهل فضح الحبطات، مع شرف حسكة بن عتاب، وعبَّاد بن الحصين وولده، إلا قول الشاعر:
رأيت الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شر بني تميم3
وقد هجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا. وكان حذف الفزاري قد أطعم جُردان الحمار، فقتل الذي أطعمه. وقال: طاح مرقمه، فذهبت مثلا. ففزارة تعير بذلك إلى اليوم. قال الشاعر:
إن بني فزارة بن ذبيان ... قد سبقوا الناسَ بأكل الجردان
وقال آخر:
أصيحانية علت بزبد ... أحب إليك أم أير الحمار4؟
__________
1 الخزانة "1/ 35 وما بعدها"، "بولاق"، البيان والتبيين "4/ 35".
2 البيان والتبيين "4/ 35، 38".
3 البيان والتبيين "4/ 36 وما بعدها".
4 الاشتقاق "1/ 173 وما بعدها"، البيان والتبيين "4/ 38 وما بعدها"، الخزانة "1/ 395"، سمط اللآلي "860".(17/68)
وبين الشعر والسحر صلة، حتى ذهب بعض الباحثين في الشعر إلى أن الشعر هو فن من الفنون التي كان يمارسها السَّحرة في التأثير في مشاعر الناس، إذ كانوا يتخذونه وسيلة من وسائل التأثير في النفوس، لما يستعملونه فيه من كلام مؤثر ساحر يترك أثرًا خطيرًا في نفس سامعه. ولهذا عدُّوا السحرة في جملة أوائل من كان ينظم الشعر من القدماء، كما ذهب بعض الباحثين إلى أن الشعراء كانوا "أهل المعرفة" والفهم، لما كان لهم من ذكاء وصفاء ذهن في فهم تجارب الحياة، وفي نظم خلاصة تلك التجارب على شكل علم أو حكم تفيد في التهذيب وفي التوجيه وفي وعظ الناس، ولهذا كان لهم رأي في السياسة في السلم وفي الحرب.
وفي كتب الأدب والأخبار أمثلة كثيرة عن أثر الشعر في القبائل وفي الأشخاص من مدح وذم، يرينا كيف كان العرب يتأثرون به، وكيف كان يلعب دورًا خطيرًا في حياتهم، والعرب قوم عاطفيون، تلعب العاطفة دورًا خطيرًا في حياتهم، وما الشعر إلا نتيجة لهذا الطبع المتوارث في العربي. وقد كان أثر الشعر في المغازي وفي الحروب أثر السيف في الخصوم، يحرض المقاتلين على الاستبسال في الحروب ولما وقعت الوقائع بين المسلمين والفرس، لعب الشعر والنثر دورًا خطيرًا ففي يوم "أرماث" مثلا، أرسل سعد إلى قادة الكلام، من رجال والشعر، يدعوهم إلى استخدام سلاحهم في هذه المعارك، فكان ممن حضر عنده طليحة، وقيس بن هبيرة الأسدي، وحذيفة، وغالب، وعمرو بن معديكرب، وابن الهذيل الأسدي، وعاصم بن عمرو، وربيع بن البلاد السعدي، وربعي بن عامر وهم من الخطباء، والشماخ، والحطيئة، وأوس بن مغراء، وعبدة بن الطيب وأمثالهم، وهم من الشعراء، فلما تجمعوا، قال لهم سعد: "قوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس، فذكروهم وحرضوهم على القتال"1. فالشعر سلاح ماضٍ عند العرب، مثل الأسلحة الأخرى وربما كان أمضى منها أثرًا في نفوسهم لما كان يفعله فيهم، وكذلك النثر من أثر في النفوس يحملهم
__________
1 الطبري "3/ 533".(17/69)
على الإقدام وعدم التهيب من الموت.
ونحن لا نعرف حربًا أو غزوًا وقع للعرب، ثم لم يقترن خبره بشعر أو بأبيات منه، فقد كان المحاربون، يحاربون خصومهم بألسنتهم وبسيوفهم وبسهامهم ورماحهم في الوقت نفسه، وقد رأينا أنه قد كان للشعر الفضل الأكبر في كثير من الأحايين في حفظ أخبار الحروب وبقاء ذكرها إلى هذا اليوم. ونستطيع القول بأن قسطًا كبيرًا من الشعر الجاهلي، هو من شعر القتال. ولذلك نستطيع جعله صنفًا قائمًا بذاته نسميه شعر القتال والحروب.
ومن هذا الأثر الذي كان يعرفه الشعراء حق المعرفة، كانوا يستعملون ويترفعون به عن غيرهم، كتب هوذة بن عليّ الحنفي، إلى النبي يجيبه على رسالته التي أرسلها إليه: "ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتَّبِعُك"1، فهو شاعر قومه وخطيبهم، وله مكانة في العرب، فهو يرى أن يميز عن غيره بميزات تمنح له، وكان الشعراء يمنون على قومهم بأنهم ألسنتهم المخرسة الناطقة المهاجمة المدافعة، فهم من الطبقة المثقفة الممتازة التي حظيت بالتقدير ونالت الاحترام، بسبب قدرة اللسان، وأثر الشعر في الناس.
ولا زال الشاعر ينال مكانة محترمة عند أهل الحضر وعند أهل الوبر، فهو لسان القبيلة حتى اليوم، يدافع عنها، ويهجوا أعداءها، ويرد على شعرائها، ويشيد بفعال قومه. وللهجاء عندهم مكانة، إلا أنها أخذت تتزلزل عن مكانها، بفعل التحضر الذي أخذ يغزو البوادي، وتغير العقلية، وعدم الاهتمام بالقيل والقال، مما أثر على مكانة الشعر والشاعر أيضًا، فلم يعد الناس يخشون لسان الشاعر، كما كانوا يخشونه أيام الجاهلية، يوم كانوا يسترضون الأعشى والحطيئة، خوفًا من لسانيهما السليطين.
ويطلق على الشعر الذي قيل قبل الإسلام: الشعر الجاهلي، لأنه قيل في الجاهلية التي شرحنا معناها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وأصحابه كلهم ممن عاشوا وماتوا قبل الإسلام. أما الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، فهم الشعراء المخضرمون
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 262"، "ذكر بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرسل بكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام".(17/70)
لأنهم أدركوا عهدين، فعاشوا رِدْحًا من عمرهم في الجاهلية، وقضوا البقية الباقية من حياتهم في الإسلام.
وإذا قلنا الشعر الجاهلي، أو شعر الجاهليين، فلا نريد أو يريد أحد منا الغض من شأنه أو الحطُّ من قدره، فإننا على العكس، نجد علماء الشعر والأدب، يرفعون من قدره، ويرون أنه الأوج الذي بلغه العرب في الشعر، ولا سيما الشعر المختار منه مثل المعلقات، فقد بلغ القمة في نظرهم، وقد بلغ من تقدير بعضهم للشعر الجاهلي، أنهم كانوا أحيانًا يذهبون بعيدًا في تدقيقهم إلى حدِّ التهوين من قيمة شاعر لا يمكن إنكار تفوقه، لمجرد أن ولادته كانت بعد ظهور الإسلام"1.
وروي أن عمر قال: "الشعر علم قوم لم يكن لهم علمٌ أعلم منه" وأنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "مُرْ من قِبَلَكَ بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب"2. ولقد قال الجاحظ: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفَّى وكان ذلك هو ديوانها وعلى أن الشعر يفيد فضيلة البيان، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلة المأثرة، على السيد المرغوب إليه، والممدوح به"3. وقال العسكري: "لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"4، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت إليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحدث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم5.
والواقع أن هذا الشعر الجاهلي قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية فائدة
__________
1 بروكلمن "1/ 36".
2 العمدة "38".
3 الحيوان "1/ 72. "عبد السلام محمد هارون"، المحاسن والأضداد "3".
4 كتاب الصناعتين "104".
5 كارلو نالينو "95 وما بعدها".(17/71)
لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشعر من الوجهة التأريخية على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أمورًا مهمة من أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر1.
ولكن كثيرًا من هذا التراث الذي أريد تخليد عمل العرب به قد ضاع، قبل الإسلام، بسب عدم تدوينه وتخليده في كتاب واعتماد الناس في روايته على الحافظة وحدها، والحافظة لا تحفظ المحفوظ لأمد طويل، فضاع منه ما ضاع، ووصل بعض منه بصورة يرتاب منها، وآفة كل ذلك هو المرض الذي يصيب الذاكرة: مرض النسيان. قال ذو الرُّمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أحب إليَّ من الحفظ. لأن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلامًا بكلام"2.
والشعراء الجاهليون كثيرون، ونجد في كتب اللغة والمعاجم، أسماء شعراء، لم يرد لهم خبر في موارد أخرى، ذكروا لمناسبة الاستشهاد بشعرهم، ونجد في كتب السير والرجال أسماء رجال لهم شعر، لم يرد اسمهم في كتب الشعر. قال ابن قتيبة: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم؛ واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"3.
وأنت إذا قرأت بعض الكتب مثل كتاب: "الاشتقاق"، و"المحبر"، وكتب المجالس والأمالي والشواهد، تجد أمامك أسماء عدد كثير من الشعراء الجاهليين، لم يرد اسمهم في كتب الشعر الجاهلي، ولم يحفل بهم علماء الشعر مع أنهم كانوا في أيامهم من الشعر المعروفين، وقد نص على أنهم كانوا من الشعراء.
__________
1 Charles James Lyall, Ancient Arablan Poetry, London, 1930, p. Introduction.
2 الحيوان "1/ 41"، "نعت الكتاب".
3 الشعر والشعراء "1/ 8".(17/72)
ولا أَجِدُ في كلام قدماء العلماء القائل أن الذي وصل إلينا من أمر الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين، هو قليل جدًّا من كثير جدًّا، وأن الذي فات عن علم العلماء من أمر الشعراء الجاهليين أكثر بكثير مما بقي، أية مبالغة أو تهويل، لأننا نجد في الموارد التي تتحدث عن الصحابة أو عن الأخبار، أسماء رجال كانوا شعراء، لا نجد لها وجودا في كتب الشعر، ثم إن علماء الشعر أنفسهم يعترفون في كتبهم ودفاترهم، أنهم لم يدونوا من أسماء الشعراء إلا من اشتهر أمره وعرف بغزارة شعره، أما من كان دون هؤلاء، فإنهم لم يتحرشوا بهم، إذ لو تعرضوا بهم لاحتاجوا إلى تدوين كتب ضخمة في الشعر والشعراء، أضف إلى ذلك موت ذكر كثير من الشعراء، بسبب عدم وجود التدوين قبل أيام التدوين وعجز الذاكرة عن المحافظة على أسماء الشعراء وعلى شعرهم إلى أمد طويل. ثم أن الشعر سليقة عند العرب، وبديهة، وقلما نقرأ اسم رجل من أهل الجاهلية، إلا وقد نسب له أهل الأخبار البيت أو البيتين، أو أكثر من ذلك من الشعر.
ونحن لا نذكر هنا من الشعراء إلا من نبه منهم، وترك أثرًا في الأدب العربي إلى يومنا هذا.
وقد جرت العادة بأن يدرس الشعر الجاهلي على أسلوب الجادة القديمة، بالاعتماد على الروايات المدونة عنه في الموارد الإسلامية القديمة، وهي روايات لاقت رواجًا كبيرًا بين المعنيين في الشعر الجاهلي، حتى صارت في درجة القضايا البديهية المسلم بصحتها، مع أنها في الواقع أخبار آحاد، وردت في كتب إسلامية قديمة نقلها عنها المؤلفون المتأخرون عن المؤلفين القدماء مع أن الصحيح هو في وجوب درس الشعر الجاهلي، على ضوء شعر المخضرمين والشعراء الإسلاميين الذين عاشوا في صدر الإسلام، وعلى ضوء الدراسات المعروفة عن الشعر عند الساميين، مثل شعر السريان الذي يأخذ أيضًا بالوزن والقافية وله مصطلحات قديمة في الشعر تعود إلى ما قبل الإسلام، ثم الشعر العبراني والشعر البابلي وشعر بقية الساميين.
وفي دراسة شعر القبائل الحاضرة المنزوية في جزيرة العرب، فائدة كبيرة في تشخيص الشعر الجاهلي، لأنها -ولاسيما القبائل القابعة في العربية الجنوبية- لا زالت تنظم الشعر متأثرة بالقوالب القديمة وببحور جاهلية لم يحفل بها "الخليل" أو أنه لم يقف عليها، ففات أمرها على العلماء، وعدت من الشعر العامي المبتذل.(17/73)
الذي لا يليق بالعالم المتزن أن يحفل به. وقد تفيدنا دراسة شعر القبائل العربية، الناطقة بلهجات بعيدة عن عربيتنا بعض البعد، فائدة كبيرة في الحكم على طبيعة ونوع الشعر عند العرب الجنوبيين قبل الإسلام، فألسنة هذه القبائل هي من وحي الألسنة العربية الجنوبية الجاهلية، ونظم الشعر بها بأسلوب خاص وببحور متميزة، هو دليل قاطع على وجود الشعر عند العرب الجنوبيين، وهو شعر لا نعرف اليوم من أمره أي شيء، لعدم وصول نماذج مدونة منه إلينا حتى الآن، ولعدم اهتمام العلماء القدامى به، لاختلافه عن عربية القرآن الكريم، وفي الشعر اليماني القديم الذي نجد نماذج منه في المؤلفات اليمانية، مثل مؤلفات "الهمداني"، فائدة في تشخيص الشعر اليماني الجاهلي، وإن كان هذا الشعر قد صبغ وفقًا للشعر العربي القرآني، بفعل دخول أهل العربية الجنوبية في الإسلام، وأخذهم بلغة القرآن الكريم.
ولا أستبعد احتمال ترك علماء الشعر واللغة كثيرًا من الشعر الجاهلي، لأنه شعر لم ينظم وفق عربية القرآن الكريم أو وفق البحور "الكلاسيكية" المعروفة التي اعتبرت الصور الرفيعة لبحور الشعر العربي الصحيح، نبذوه لأنه كان في أعينهم من الشعر العامي المبتذل الذي لا يليق بالعالم المدقق توجيه عنايته إليه، على نحو ما فعلوه بالنسبة إلى اللهجات العربية الأخرى التي كانت تختلف عن العربية المألوفة التي أخذوها من أفواه القبائل التي اعتبروا لسانها هو اللسان العربي الفصيح، وأما ما سواها فألسنة رديئة لا يؤخذ بها ولا يحتج بما ورد فيها من نثر أو نظم.(17/74)
خبر شعراء الجاهلية
مدخل
...
خبرُ شعراءِ الجاهليةِ:
وقد حصلنا على أسماء شعراء الجاهلية من الموارد الإسلامية، فقد ذكرتُ أن النصوص الجاهلية لم تتعرض لأمر الشعر الجاهلي ولا للشعراء الجاهليين. ونجد أسماء هؤلاء الشعراء في مختلف الموارد، في كتب الأدب وفي ضمنها دواوين الشعر، وفي كتب النثر الباحثة عن الشعر، وفي كتب التفسير والحديث واللغة والمعاجم، بل وفي الشعر الجاهلي كذلك، إذ ذكر بعض أسماء الشعراء، ونجد في شعر بعض الشعراء الذين ظهروا في العصر الأموي أسماء شعراء جاهليين، فنجد في شعر للفرزدق أسماء جاهليين، إذ يقول:(17/74)
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرولُ
والفحل علقمة الذي كانت له ... حلل الملوك كلامه لا ينحلُ
وآخو بني قيس وهن قتلنه ... ومهلهل الشعراء ذاك الأولُ
والأعشيان كلاهما ومرقش ... وأخو قضاعة قوله يتمثلُ
وأخو بني أسد عبيد إذ مضى ... وأبو داود قوله يتنخل ُ
وابنا أبي سلمى زهير وابنه ... وابن الفريعة حين جد المقولُ
والجعفري وكان بشر قبله ... لي من قصائده الكتاب المجملُ
ولقد ورثت لآل أوس منطقًا ... كالسم خالط جانبيه الحنظلُ
والحارثي أخو الحماس ورثته ... صدعًا كما صدع الصفاة المعولُ1
ونجد في شعر "جرير" الذي نقض على الفرزدق قصيدته المذكورة، وفي شعر سراقة البارقي، ذكرًا لأسماء بعض الشعراء إذ يقول:
ولقد أصبت من القريض طريقة ... أعيت مصادرها قرين مهلهل
بعد امرئ القيس المنوه باسمه ... أيام يهذي بالدَّخول فَحَومَل
وأبو داود كان شاعر أمة ... أفلت نجومهم ولما يأفل
أبو ذؤيب قد أذل صعابة ... لا ينصبنَّك رابض لم يذلل
وأرادها حسان يوم تعرضت ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
ثم ابنه من بعده فتمنعت ... وإخال أن قرينه لم يخذل
وبنو أبي سلمى يقصر سعيهم ... عنا كما قصرت ذراعًا جرول
وأبو بصير ثم لم يبصر بها ... إذا حل من وادي القريض بمحفل
واذكر لبيدًا في الفحول وحاتما ... يلومك الشعراء إن لم تفعل
ومعقِّرًا فاذكر وإن ألوى به ... ريب المنون وطائر بالأخيل
وأمية البحر الذي في شعره ... حكم كوحي في الزبور مفصل
واليذمري على تقادم عهده ... ممن قضيت له قضاء الفيصل
__________
1 ديوان الفرزدق "720". النقائض "1/ 189 وما بعدها".(17/75)
واقذف أبا الطمحان وسط خوانهم ... وابن الطرامة شاعر لم يجهلِ
لا والذي حجت قريش بيته ... لو شئت إذ حدثتكم لم آثل
ما نال بحري منهم من شاعر ... ممن سمعت به ولا مستعجل1
وجمع رواة الشعر شعر شعراء الجاهليين وأخبارهم من موارد متعددة، من الشعراء أنفسهم، مثل الحطيئة الذي أدرك الإسلام، ومثل حسان وبقية الشعراء المخضرمين، فقد أمدوا الخلفاء وعشاق الشعر بأخبار من تقدم عليهم من الشعراء. وبما حفظوه من شعرهم، وبما استحسنوه من أشعارهم، كما مونوهم بأخبارهم التي بقيت عالقة في أذهانهم عن الجاهلية، وعن أيامهم في الإسلام. كما جمعوا أخبارهم من أبناء الشعراء الجاهليين من ذوي رحمهم وآلهم، ونجد في كتب الأخبار والأدب أخبارًا كثيرة من شعراء جاهليين، نقلها الرواة من أبناء أولئك الشعراء، أو من ذوي قرابتهم، فقد جاء قسط كبير من شعر الشاعر" تميم بن مقبل" عن ابنته أم شريك، وجاء من شعر "حاتم" وأخباره عن ابنه "عدي"2.
وأخذ الرواة شعر الشعراء الجاهليين من قبائلهم كذلك، فقد كان في القبيلة من يحفظ شعر شعرائها أو شعر المبرزين منهم. وقد رأينا كيف استعزت تغلب بقصيدة "عمرو بن كلثوم" فكانت ترددها دومًا حتى عيبت على ذلك3، وكان في القبائل الأخرى من حفظ شعر شعرائها ونجد كتب الأدب والأخبار تنص على أسمائهم فتذكر اسم الشخص، وتنص على اسم قبيلته، وقد تذكر جملا مثل "سمع أشياخًا من طيء"4، أو "حدثني الطائيون"5، وأمثال ذلك، من جمل تنص على اسم المورد الذي استقى منه الراوية خبره أو شعر الشاعر من القبيلة.
ونجد في كتاب طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي "231هـ"، وفي
__________
1 ديوان سراقة "64 وما بعدها".
2 ديوان حاتم "31".
3 الأغاني "11/ 54".
4 المعمرون "72".
5 ديون حاتم "30".(17/76)
كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة "276هـ"، أسماء شعراء جاهليين، وقد أخذا علمهما بهم ممن تقدم عليهم فألف قبلهم في موضوع الشعر والشعراء، ودوَّن "اليعقوبي" في تأريخه جريدة بأسماء شعراء العرب، وقد جعل أولهم "امرئ القيس"، وذكر النابغة الذبياني بعده، وانتهى بالمخضرمين1، ولكنه لم ينص على اسم المورد الذي أخذ تلك الأسماء منه.
ولا نجد بين أسماء الشعراء الجاهليين اسم شاعر واحد نظم شعره وعاش في العربية الجنوبية أو نظم بلهجة متأثرة باللهجات العربية الجنوبية، فأكثر من ذكروهم من الشعراء إنما هم من الشعراء الذين قضوا أكثر حياتهم خارج العربية الجنوبية، وقد كان في هذه العربية شعراء ولا بد، فليس من المعقول خلوها من الشعر والشعراء، ولكن علماء العربية لم يعتنوا إلا بشعراء القبائل التي احتكوا بها والتي أخذوا العربية عنها، والتي اعتبروا لسانها من أفصح ألسنة العرب، فضاع بسبب ذلك شعر القبائل التي كانت بعيدة عنهم أو التي كان لسانها بعيدا بعض البعد عن العربية التي ارتضوها والتي نزلت بها القرآن الكريم.
ولا نجد في الشعر الجاهلي الواصل إلينا شعرًا نظم في أغراض دينية وثنية، أي في عبادات القوم قبل الإسلام، اللهم إلا ما نسب إلى بعض الشعراء الأحناف من شعر فيه تحنف، وإلا ما نسب إلى بعض آخر من شعر فيه اشارات عابرة إلى عقائد يهودية أو نصرانية، أما شعر وثني خالص، من شعر فيه ترنيم بالأصنام والأوثان، وتحميد لها وتقديس، أو وصف لطقوس دينية وثنية، فهو شعر لم يصل إلينا منه شيء، وسبب عدم وصوله إلينا هو الإسلام، الذي اجتث كل ما يمت إلى الوثنية بصلة قريبة، وقضى عليه، فامتنع المسلمون من رواية هذا النوع من الشعر.
__________
1 اليعقوبي "1/ 230 وما بعدها"، "شعراء العرب".(17/77)
الشَّاعِرُ:
والشاعر متعاطي الشعر ومحترفه ومن يقوله، أو يكثر القول منه. ذكر علماء اللغة أنه إنما سمي شاعرًا، لانه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم، أو لفطنته1.
__________
1 تاج العروس "3/ 301"، "شعر". العمدة "1/ 116".(17/77)
ومن هنا قال البعض أن الشعراء في الجاهلية كانوا أهل المعرفة، يعنون أنهم كانوا من أثقف أهل زمانهم، وأنهم كانوا على مستوى في الفكر والرأي وفي فهم الأمور1.
وجعلوا للشعراء مزايا، ومنحهم العلماء امتيازات خاصة، وقالوا عنهم: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدد، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويؤشرون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون. فأما لحن في إعراب، أو إزالة كلمة عن نهج صواب، فليس لهم ذلك"2.
وفي كتب أهل الأخبار تدل على اعتداد الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي، وعلى تقدير الناس لمدارك الشعراء. جاء أن "الطفيل الدوسي قدم مكة ورسول الله بها، فحذره رجال من قريش من سماع النبي حتى لا يتأثر بقوله: قال الطفيل: فما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ثم قلت في نفسي: وا ثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحا تركته"3، وجاء في خبر آخر، "أن الطفيل لما قدم مكة، ذكر له ناس من قريش أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وسألوه أن يختبر حاله فأتاه فأنشده شعره، فتلا النبي الإخلاص والمعوذتين فأسلم"4. وفي هذا الخبر أن صح دلالة على تقدير الناس لفطنة الشاعر ولسمو مداركه. وقد رأينا ما كتبه "هوذة بن علي" الحنفي، للرسول من أنه شاعر قومه وسيدهم، ونجد في خبر "جلاس بن سويد" الصامت الأنصاري، أن قومه أتوا عليه "فقالوا: إنك امرؤ شاعر ... "5، وفي هذه الأخبار وغيرها دلالة على أن الشعراء كانوا يرون أنفسهم فوق الناس في اللفظة والفهم، وأن الناس كانوا يرون هذا الرأي فيهم، لما يجدونه فيهم من فطنة وذكاء.
__________
1 فجر الإسلام "55 وما بعدها".
2 المزهر "2/ 471".
3 ابن هشام، سيرة "1/ 235"، فجر الإسلام "56".
4 الإصابة "2/ 217"، "رقم4254"، الاستيعاب "2/ 223"، "حاشية على الإصابة".
5 الإصابة "1/ 243"، "رقم1176".(17/78)
ولا يعني هذا أن الشعراء كانوا كلهم من أرقى الناس عقلا، ومن أفهم الناس إدراكًا، ومن أعلمهم بالأمور وأبصرهم بالمعرفة، فبينهم ولا شك تفاوت في الإدراك، وفي مجتمعهم من هو أرقى منهم عقلا وأكثر منهم إدراكا، وهم مع ذلك لا يقولون الشعر أو لا يمارسونه، مثل الحكام والكهنة، وأصحاب الآراء، وإنما الشعر، ملكة، لا تكون إلا عند صاحب حس مرهف، ولا تظهر إلا في إنسان ذكي فطن لبيب، يذل الألفاظ والأبيات، لتنصاع لإرادته، فيخرجها أبياتًا وقصائد تعبر عن مشاعره ومداركه. فالشاعر من هنا من أذكى الناس، ومن أهل الإدراك والمعرفة.
والشعر ككل المبرزين من طبقات مختلفة تباينت في السويات، منهم من نبت من عائلة شريفة، ومنهم من نبت من عائلة أعرابية، ومنهم من نبغ من بيت فقير. وقد سمى أهل الأخبار شعراء بأسمائهم كانوا من أشراف قومهم، وسموا شعراء كانوا من أوساط أقوامهم، أو من النابتة، فالنبوغ لا يختص بجماعة دون جماعة، ولا بطبقة دون طبقة.
وشعر الشاعر هو دليل عقليته ومقدار مداركه، ولهذا تباين واختلف، فنجد في شعر شعراء البادية الروح الأعرابية والخشونة تتجسم في المعاني وفي الألفاظ، ونجد في شعر الحضر أثر النفس الحضرية، ونرى في شعر الجوابين القاصدين للملوك، والذاهبين إلى الحضر والأعاجم، أثر اختلاطهم بهم في شعرهم، كما هو في شعر الأعشى.
والشعراء الجاهليون، هم من قبائل متعددة ذات لهجات وحروف في الكلام مختلفة، ولكننا نرى أن لغة شعرهم وطريقة نظمهم واحدة، لا فرق فيها بين قحطاني وعدناني، ولا بين شاعر من عرب العراق أو بلاد الشأم وشاعر من أهل اليمن أو الحجاز أو نجد. ومعنى هذا أن الشعراء كانوا إذا نظموا شعرا، نظموه ببحور معروفة مقررة، وبلغة عالية، سمت فوق لهجات القبائل، على نحو ما نفعل في الزمن الحاضر من استعمال لغة عربية فصيحة هي لغة القرآن الكريم في النظم والنثر والإذاعة وما شابه ذلك من وسائل الإيضاح والإعلان، ومن استعمال لهجات محلية في الحياة اليومية الاعتيادية في مثل البيت والسوق والتفاهم بين الناس
ولكن هذا لا يعني أن الشعراء لم يكونوا ينظمون الشعر بألسنتهم القبلية،(17/79)
ووفق قواعد منطقهم، فقد ثبت من أقوال علماء الشعر، ومن أخبار أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا ينظمون بلهجاتهم، وكان نظمهم مفهومًا عند غيرهم، وقد تحتاج الأذن إلى تأمل وتفكير، لإدارك كلمات ومعاني ذلك الشعر. قال "ابن هشام" في شرح الشواهد: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن هنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"1. فالشاعر التميمي، ينظم بلهجته، والشاعر الأسدي ينظم بلهجة بني أسد قومه الذين ولد بينهم، والشاعر الثقفي ينظم بلهجة ثقيف، ولكنه إذا أنشده في غير قومه، فهم وعرف معناه، وإن احتيج إلى ترقيع أو تعديل في بعض الأحيان.
ودليل ما أقول: هو ما نجده في شعر الشواهد من اضطراب في القواعد، وخروج على أصول النحو والصرف، وورود ألفاظ في الشعر الجاهلي دعاها علماء اللغة غريبة أو وَحْشِيَّة، أو ألفاظ خاصة ذكروا أنها وردت في شعر الشاعر، لأنها من ألفاظ قبيلته، التي انفردت بها دون سائر القبائل، ولو كان نظم الشعر بغير لغة القبائل، لما شاهدنا فيه هذه الخصائص اللسانية التي وجدها علماء اللغة في شعر بعض الشعراء، ولجاء الشعر كله بلا خصائص قبلية وبلا ألفاظ غريبة، أما وقد صقل العلماء الشعر وحسنوا في بعض ألفاظه، ونقحوا منه ما نقحوه، فإن ذلك دليل في حد ذاته على أن الشعراء كانوا ينظمون الشعر بألسنتهم، وهي غير متباينة تباينًا كبيرًا، فلما ضبطه العلماء، ودونوه، هذبوا ما شذ منه وفق القواعد التي تثبتت في الإسلام، ففي الأخبار أن رواة الشعر، كانوا يجرون تغييرًا في نصوص الشعر، لتحسين الشعر وتصليحه، فقد رووا أن "الأصمعي" رفع لفظة "زنديه" من هذا البيت المنسوب إلى "امرئ القيس":
رب رام بني ثعلٍ ... مخرج زنديه من ستره
فجعله كفيه2، ورووا إجراء إصلاحات أخرى، أدخلها علماء اللغة على شعر امرئ القيس وغيره، اقتضتها قواعد الإعراب أو البلاغة والبيان3
__________
1 المزهر "1/ 261"، "النوع السادس عشر".
2 الموشح "22".
3 الموشح "22، 28، 85، 95". مجالس ثعلب "481".(17/80)
ونجد في "رسالة الغفران" ملاحظة طريفة عن التغيير الذي كان يجريه "المعلمون" في نصوص الشعر، فقد تصور أن "امرئ القيس" قد سئل عن كيفية وجود "الزحاف" في شعره، ثم أجاب على لسانه بقوله: "فيقول امرؤ القيس: أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف:
لك منهن صالح
وأما المعلمون في الإسلام، فغيَّروه على حسب ما يريدون"1.
وورد أن رواة الشعر كانوا ينقحون حتى في شعر الشعراء الإسلاميين، وحجتهم في ذلك أن "الرواة قديمًا تصلح من أشعار القدماء"2. وقد يقوم بذلك رواة الشاعر نفسه. ورد أن رواة الفرزدق كانوا "يعدلون ما انحرف من شعره"، وأن رواة جرير، فعلوا مثل فعلهم في إصلاح شعر صاحبهم3.
والتصحيح المذكور، وإن كان جزئيًا، تناول ألفاظا في الأكثر، لكنه في الواقع تحريف وتزييف، وتغيير للنصوص وتبديل لها، حرمنا من الوقوف على قواعد اللهجات العربية عند الجاهليين، بسبب أن المعدلين المصححين، لم يشيروا في كثير من الأحايين إلى المواضع التي غيروها وأجروا التصحيح فيها، ولو فعلوا ذلك، لكان الأمر علينا سهلا هينًا، إذ يكون في وسعنا إرجاع الأمور إلى نصابها والوقوف على النصوص، وإن كان عملهم هذا هو عمل مخالف للذمة وللحق، حتى في هذه الحالة، لأن من قواعد الأمانة وجوب المحافظة على الأصل.
وعندي أن اللغة التي نظم بها الشعر الجاهلي هي لغة الأعراب، وهي أصل اللغة العربية، ولغة أهل البوادي والقرى التي غذتها البادية بالسكان، ولهذا قال "الجاحظ": "ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابيًّا"4، دلالة على ما للبادية والبداوة من صلة به. ولهذا أيضًا جعل العلماء مقياس الشعر أن يكون عربيًّا بألفاظ نجدية، أي أعرابية خالصة، وهذه العربية كانت تمتد فتشمل لغة أعراب بادية الشأم، بما في ذلك قرى الفرات العربية، التي جاء سكانها العرب
__________
1 رسالة الغفران "318".
2 الموشح "125".
3 الأغاني "4/ 258".
4 البيان والتبيين "1/ 94".(17/81)
من البادية. ولهذا أيضًا حفلوا بالشعر الصلب الصلد، المنظوم بألفاظ بدوية صميمة تمثل الغلظة والشدة والمتانة، ولم يميلوا إلى شعر شعراء أهل القرى، لأنه شعر سهل سلس، خال من صلابة البوادي ومن غلظة الشعر الأعرابي.
وشعراء الجاهلية بعد، إما شعراء ظهروا بين أهل الوبر، فهم شعراء أعراب يمثل شعرهم نفس البادية، وطبيعة البداوة وعقليتها، وإما شعر أهل مدر، وهم الحضر، المستقرون، وسكان القرى. ولشعر شعرائهم طابع خاص يمثل الطبيعة الحضرية حسب درجاتها ومراتبها واختلاط أهلها بالأعاجم، أو انعزالهم في مستوطنات حضرية ظهرت في البادية، فمن سافر من شعرائهم واختلط بالأعاجم، وشاهد بلاد الشأم والعراق، تأثر بما شاهده، فبان ذلك الأثر في شعره، كما يظهر ذلك في شعر الأعشى، وعدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت.
وطبيعي أن يكون بين الشعراء تنافس وتحاسد وتقديم وتأخير وتفضيل. وفي كتب الأدب أمثلة على منافرات ومناظرات جرت بين شعراء، لبيان رأيهم في شعر شعراء آخرين. وطبيعي أيضًا أن يكون بين شعراء الجاهلية كالذي وقع في كل زمان ومكان، شعراء فحول، وشعراء دونهم في المنزلة والدرجة وفي القدرة في الشعر.
وذكر أن شعراء الجاهلية كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، ويتعارضون في قول الشعر، ويمالطون. والممالطة: أن يقول رجل نصف بيت ليتمه الآخر، ويقال لذلك التمليط، وأن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيمًا وهذا قسيمًا، لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه1، وهو نوع من التفاخر والتنافر والتعجيز وإظهار النفس بالتغلب على المنافس.
وللشعراء بعد منازل في قول الشعر، فمنهم الشاعر الفحل، الذي لا يبارى، ذكر أنهم كانوا لا يسمون الشاعر فحلا، إلا إذا كانت له حكمة. ومنهم الشاعر الخنذيذ. والخنذيذ: الفحل، والشاعر المجيد المفلق، وتطلق اللفظة أيضًا على الخطيب البليغ المفوَّه الْمِصْقَع وعلى العالم بأيام العرب وأشعارهم2. وقيل:
__________
1 العمدة "1/ 202"، "2/ 91"، "مالط فلان فلانًا إذا قال هذا نصف بيت وأتمه الآخر بيتًا، يقال ملط له تمليطًا"، اللسان "7/ 409"، "ملط".
2 تاج العروس "8/ 561"، "الخنذيذ"، المزهر "2/ 489".(17/82)
الشاعر الخنذيذ، هو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره، والمفلق، هو الذي لا رواية له، إلى أنه مجود كالخنذيذ في شعره، وقيل: هو الذي يأتي في شعره بالفلق، وهو العجب. ثم يليه الشاعر فقط، وعرفوا الشاعر، أنه الذي لم ينعته علماء الشعر بنعت من هذه النعوت ومن كان فوق الرديء بدرجة. وأما الشعرور، فهو لا شيء، والشويعر، هو من كان دون الشاعر في الشعر1. ويذكرون أن الشعراء أربعة. ذكروا في شعر ينسبه بعضهم إلى الحطيئة، هو:
الشعراء فاعلمن أربعة ... فشاعر لا يرتجى لمنفعةْ
وشاعر ينشد وسط المعمعةْ ... وشاعر آخر لا يجرى معه
وشاعر يقال خمر في دعه
وقالوا: رابع الشعراء، إزدراء وتحقيرًا:
يا رابع الشعراء كيف هجوتني ... وزعمت أني مفحم لا أنطق2
وقسم بعض العلماء الشعراء: ثلاث طبقات: شاعر، وشويعر، وشعرور3.
ورووا: أن امرأ القيس بن حجر أطلق لفظة "الشويعر" على "محمد بن حمران بن أبي حمران"، وهو ممن سمي محمدًا في الجاهلية، وهو شاعر قديم، فقال فيه:
أبلغا عني الشويعر أني ... عمد عين نكبتهن حزيما
فسمى بهذا البيت الشويعر4.
قال "الجاحظ": "والشعراء عندهم أربع طبقات. فأولهم: الفحل الخنذيذ. والخنذيذ هو التام. قال الأصمعي: قال رؤبة: الفحولة هم الرواة. ودون الفحل
__________
1 العمدة "1/ 114 وما بعدها".
2 العمدة "1/ 114 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 9"، المزهر "2/ 490 وما بعدها".
3 البيان والتبيين "2/ 10"، الخزانة "1/ 130".
4 البيان والتبيين "2/ 10" الآمدي، المؤتلف "141"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 26".(17/83)
الخنذيذ الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور. ولذلك قال الأول في هجاء بعض الشعراء:
يا رابع الشعراء كيف هجوتني ... وزعمت أني مقحم لا أنطق
فجعله سكيتًا مخلفًا ومسبوقًا مؤخرًا.
وسمعت بعض العلماء يقول: طبقات الشعراء ثلاث: شاعر، وشويعر، وشعرور. قال: والشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران، سماه بذلك امرؤ القيس بن حجر"1.
ويظهر من القول المنسوب إلى "رؤبة"، أن الشعراء الرواة، كانوا في نظره أرفع منزلة من بقية الشعراء، ولعل ذلك بسبب طول حفظهم للشعر، مما أكسبهم علمًا وخبرة ومرانًا به، فصارت صياغتهم له أعلى من صياغة الشعراء الذين لم يكونوا يحفظون شعر غيرهم من الشعراء، ولم يكن لهم علم بأساليب غيرهم من الشعراء. فبسبب الحفظ، طوعوا الشعر والكلم وركبوا ظهره بكل سهولة، حتى صار طوع أيديهم.
والتقسيم المذكور هو تقسيم إسلامي، كما أن تقسيمهم الشعراء إلى سبع طبقات هو تقسيم إسلامي كذلك. فقد قسموهم إلى أصحاب المعلقات، وأصحاب المجمهرات، وأصاب المنتقيات، وأصحاب المذهبات، وأصحاب المرائي، وأصحاب المشوبات، وأصحاب الملحمات2.
__________
1 البيان والتبيين "2/ 9 وما بعدها".
2 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 79 وما بعدها".(17/84)
عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:
وقد أحصى بعض الباحثين عدد أسماء الشعراء الجاهليين الذين ذكروا في كتب الأدب، فبلغ عدد ما أحصوه "125" شاعرًا1. وهناك أسماء جاهليين استشهد الرواة ببيت أو بأبيات من شعرهم في كتب الأدب واللغة، لو أحصوا
__________
1 زيدان، "1/ 77" تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75".(17/84)
واعتبرناهم من ضمن الشعراء، لاضطررنا إلى تغيير هذا الرقم، بإضافة هؤلاء عليهم. ومع ذلك، فإننا لا نستطيع القول أن هذا الرقم هو رقم نهائي ومضبوط لشعراء الجاهلية، فالمنطق يحملنا على تصور وجود عدد آخر من الشعراء فات خبرهم عن رواة الشعر، لأسباب عديدة، منها قدم أولئك الشعراء، بحيث لم تتمكن ذاكرة حفظة الشعر من استيعابهم، ثم بُعد بعضهم عن الأَرَضِين التي حصر علماء الشعر فيها نشاط بحثهم عن الشعر الجاهلي وعن شعرائه، ثم كون قسم منهم من الشعراء المحليين، أو الشعراء المقلِّين الذين لم ينتشر شعرهم بين الناس.
وقد فطن إلى ذلك القدماء فقال "أبو عمرو بن العلاء": "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"1. وذكر غيره أن العلماء على حرصهم على العناية بجمع شعر الشعراء، لم يتمكنوا مع ذلك من جمع أشعار قبيلة واحدة، فكيف بشعر كل القبائل2! والواقع أن في العرب قابلية على قول الشعر، وبين الصحابة عدد كبير نظموا شعرًا روي في الكتب، ومع ذلك، فلم يعدُّهم العلماء في جملة الشعراء، وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل الجاهلية، فقد كان بينهم عدد كبير ينظم الشعر.
__________
1 المزهر"2/ 474"، ابن سلام، طبقات "23".
2 الشعر والشعراء "1/ 8 وما بعدها".(17/85)
إنشاد الشعر
مدخل
...
إِنْشَادُ الشِّعْرِ:
وللشعراء طريقة خاصة في إنشاد الشعر. يذكرون أن الشاعر منهم كان إذا أراد إلقاء شعر، تهيأ لذلك واستعد له، وأظهر للناس أنه يريد إلقاء شعر. ومن أصولهم في الإلقاء أن ينشد الشاعر شعره وهو قائم1. وأن يلبس الوشي والمقطعات والأردية السود وكل ثوب مشهر2.
وذكر أن من عادة الشعراء في الهجاء، أن أحدهم كان إذا أراد الهجاء
__________
1 العمدة "1/ 26".
2 البيان والتبيين "60"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1959م"، البيان والتبيين "3/ 115"، "هارون".(17/85)
"دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلا واحدة"1. وقد ذكر "المرتضي"، في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر، وكان فيهم "لبيد بن ربيعة"، وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدوا وجه النعمان عنهم، فأرادوا تقديم "لبيد" ليرجز بالربيع بن زياد رجزًا مؤلِمًا ممضًّا، وكان هو الذي صرف الملك بالطعن فيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان. فقام وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة على فعل شعراء الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم أنشد رجزه الذي أثر في النعمان، حتى صار سببًا في إبعاد "الربيع بن زياد" عنه2.
وإذا أراد شاعر إنشاد شعر، وقف وأنشد شعره، بأسلوبه الخاص في الإنشاد3. وقد يترنمون في إنشادهم ليكون الإلقاء أوقع أثرًا في نفوس السامعين. وقد يلقي راوية الشاعر شعر شاعره إذا كان أقدر منه على الإنشاد. وذكر أن "النشيد" هو الشعر المتناشد بين القوم ينشد بعضهم بعضًا، ومنه نشد الشعر وأنشده، إذا رفعه. وأنشد بهم، هجاهم، "وفي الخبر أن السليطين قالوا لغسان: هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا"4. لا يخلو الإنشاد من الترنم على اللحن الذي يتسمح به الطبع، ومن مد الصوت، ليكون للشعر وقع على نفوس سامعيه، وتأثير جميل على المنصتين له.
وذكر أن الشعراء كانوا لا ينشدون إلا قيامًا، وقد يعلو أحدهم موضعًا مشرفًا، أو يركب ناقته، ليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره، وكذلك كان يفعل الخطيب5. وقد استدل بعض المستشرقين من هذا الوصف على أن الشعراء إنما أخذوا تقليدهم هذا من السحرة: الشعراء الأوائل ومن الكهنة، لأن السحرة والكهنة كانوا ينظمون الشعر وينشدونه على هيئة خاصة، يلبسون فيها أَرْدِيَة خاصة ويقفون في وضع خاص حين إنشاد الشعر.
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 191".
2 أمالي المرتضى "1/ 191"، الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 23".
3 العمدة "1/ 26".
4 اللسان "3/ 422 وما بعدها"، "نشد".
5 العمدة "1/ 26".(17/86)
وذكر أن الملوك كانوا يجلسون خلف الستور حين يستمعون إلى شاعر. فروي أن "عمرو بن هند" كان يسمع الشعراء من وراء سبعة ستور1. وأن الشاعر "الحارث بن حِلِّزَة اليشكري" لما طلب قومه منه إنشاد قصيدته أمام "عمر بن هند" قال لهم: "والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء. إذا انصرفت عنه، وذلك لبرص كان به". فلما سمع قصيدته أمر برفع الستور سترًا سترًا، حتى صار مع الملك في مجلسه، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء" "وأمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئًا"2.
ولكن العادة أن الشاعر يقف أمام الملك، الذي قد يكون جالسًا على سرير، فينشده شعره بعد أن يكون قد أستأذنه بذلك. وقد يكون في المجلس جملة شعراء، أذن لهم بالدخول عليه جملة واحدة، لينشدوا الملك شعرهم وما جاءوا به من شعر في مديحه. ويكون المجلس عامرًا بأهل الحظوة من المقربين إلى الملك ومن الشعراء الملازمين له. وكانت مجالس ملوك الحيرة، عامرة بهذه المناسبات، أكثر بكثير من مجالس الغساسنة، لغلبة النزعة الأعرابية على ملوك الحيرة وقلة تأثرهم بالحضارة، وتغلب الحياة الحضرية على الغساسنة وتأثرهم بالحياة اليومية لأهل الشأم، وبنزعة الروم في الحكم وفي آداب السلوك، حتى إنهم كانوا يتلذذون في الاستماع إلى غنائهم، ولهم قيان في قصورهم وبيوتهم يغنين لهم بغناء الروم.
وكان من عادة الأعراب الطواف حول قبة الملك مع رفع الصوت بالرجز، ليسمع الملك صوت الراجز، فإذا عرفه أو أعجبه رجزه، إذن له بالدخول. وكان الملوك يضربون قبة على أبوابهم، يقعد فيها الناس حتى يؤذن لهم3 وقد يكون هذا الرجز مقدمة لدخول الشاعر على الملك حتى يلقي عليه ما يكون نظمه في مدحه وفي مدح آله من شعر.
وكان من عادة الملوك وسادات القوم والأشراف إنهم إذا سمعوا الشاعر، واستحسنوا شعره، طربوا حتى يظهر الطرب عليهم وأظهروا استجادتهم لشعره، وربما شربوا إذا كانوا في مجلس الشرب، وأدنو الشاعر إليهم، وأسقوه من
__________
1 شرح المعلقات، للزوزني "154"، "صادر".
2 شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص379 وما بعدها"، "معلقة عمرو بن كلثوم التَّغلبي".
3 الخزانة "4/ 158"، "بولاق"، "الشاهد الثامن والثمانون بعد السبعمائة".(17/87)
شرابهم حتى يطرب، وقد يطلبون من الشاعر إعادة إنشاد الأبيات المستجادة. وكان الشاعر يستأذن صاحب المجلس أولا ليسمح له بإنشاده شعره. ولما استأذن "النابغة" الجعدي رسول الله، أن ينشده شعره، قال له الرسول: أجدت لا يفضض الله فاك، أي لا يكسر أسنانك، والفم هنا الأسنان1. ولا زال الناس يرددون هذه العبارة عبارة: أعِدْه أحسنت وأجدت، أو أَعِدْ أَعِدْ، يقولونها بحماس وبصوت مرتفع ارتفاعًا يتناسب مع حس الاستحسان إذا قال الشاعر قولا يستجيده العارفون بالشعر.
__________
1 تاج العروس"5/ 69"، "فض".(17/88)
سُوقُ عُكَاظٍ:
ومن مرويات أهل الأخبار، أن الشعراء الجاهليين كانوا يفدون إلى عكاظ، "فيتعاكظون، أي يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، ثم يتفرقون"1. وذكر أن "النابغة" الذبياني، كان ممن يأتيها، فتضرب له قبة حمراء من أدم، تأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وكان ممن تحاكم إليه، الأعشى، وأبو بصير، فأنشده ثم أنشده حسان بن ثابت ثم الشعراء ثم جاءت الخنساء "فأنشدته، فقال لها "النابغة": والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت إنك أشعر الجن والإنس. فقال حسان: والله لأنَا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك. فقبض النابغة على يده، ثم قال: يابن أخي، إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ثم قال للخنساء: أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين"2.
__________
1 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ"، معجم البلدان "6/ 203"، البلدان "3/ 704، اللسان "7/ 447"، "عكظ".
2 الشعر والشعراء "1/ 261"، الأغاني "8/ 194"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 256" وما بعدها. تاج العروس "5/ 255".(17/88)
وروي أن "حسان" كان قد أنشده شعره:
لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقال له "النابغة" أنت شاعر، ولكنك أقللت جفناتك وسيوفك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك1.
وهو خبر مصنوع، شك فيه العلماء، "قال أبو على: هذا خبر مجهول لا أصل له"2. وقد روي عن الآمدي قوله: "أجمعت العرب على فضل النابغة الذبياني، وسألته أن يضرب قبة بعكاظ، فيقضي بين الناس في أشعارهم لبصره بمعاني الشعر، فضرب القبَّة وأتته وفود الشعراء من كل أوب". ثم ذكر القصة، وروي أن الذي فنَّد حسانًا وعاب عليه بيته، هو الخنساء3. والقصة مطعون فيها. "حكى ابن جني عن أبي على الفارسي، أنه طعن في صحة هذه الحكاية"4. فالقصة موضوعة، وما هذا القصص المروي عن "عكاظ"، إلا من روايات أهل الأخبار، وضعوه مع قصصهم الموضوع عن اختيار قريش للغة، وتخيرها أحسن الألفاظ، وتحكيمها في الشعر.
وذكر أن "عمرَو بن كلثوم" كان ممن حضر سوق عكاظ، وقد أنشد فيها قصيدته الشهيرة:
إلا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا
وهي معلقته الشهيرة، وهي قصيدة طويلة، ذهب الكثير منها، قيل إنها كانت تزيد على ألف بيت. وقد ذكر أن الرسول سمع الشاعر ينشد قصيدته هذه بسوق عكاظ5.
__________
1 العسكري، المصون "3 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 430 وما بعدها"، ديوان حسان "371 وما بعدها"، الأغاني "7/ 180".
2 خزانة الأدب "3/ 431".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 256 وما بعدها".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 257".
5 الأغاني "11/ 54"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 122".(17/89)
ولم نسمع أن أحدًا من الشعراء حكم في الشعر في سوق عكاظ قبل "النابغة" ولا بعده، وسوق عكاظ سوق لم تقم إلا قبيل الإسلام، ولعل هذا التحكيم من القصص الذي أوجده أهل الأخبار، وقد يكون "النابغة" قد نظر حقًّا في شعر "حسان"، ولكن ذلك لا يمكن أن يعد حكومة دائمة لسوق عكاظ، اختصاصها النظر والتحكيم في شعر الشعراء الجاهليين، وإذا كان "النابغة" حاكم سوق عكاظ حقًّا، فلم لم نسمع بأحكام أخرى له في حق شعر شعراء آخرين، ما دام كان يحضرها في كل عام، وتضرب له قبة من أدم، يجعلها مقرًّا له ولحكومته، ولمن يحضر إليه من الشعراء رجاء النظر في شعره.
وذكر أن القبائل كانت تَفِد إلى "عكاظ" وتبحث عن مختلف الأشياء وتتداول أشياء قبيحة أو محمودة، وأن الرسول حضرها، للدعوة إلى الإسلام1.
ولم نسمع بأن الشعراء كانوا يتوافدون إلى مكة موسم الحج، لإنشاد شعرهم، على نحو ما ذكر عن سوق عكاظ، مع أن موسم الحج من المواسم المعهودة بالنسبة إلى قريش وإلى من كان يعيش حولها من قبائل، وشرف إلقاء الشعر في موسم الحج أسمى ولا شك من شرف إلقائه بسوق عكاظ وفي الأسواق الأخرى، فلو كان الشعراء كما زعم أهل الأخبار يقيمون وزنًا كبيرًا لحكم قريش في أشعارهم، فلم لا نجد في أخبارهم خبرًا يشير إلى تجمع الشعراء في مكة للتباري في إنشاد الشعر وفي الحصول على شرف التقدير والتقييم من قريش، ليتباهى الفائز بالتقدير على سائر أقرانه الشعراء؟ ثم لِمَ لَمْ نسمع بأسماء القصائد التي نالت منهم شرف التقدير والتعظيم، خلا المعلقات السبع، التي شك في صحة تعليقها حتى المحافظين من أمثال المرحوم "الرافعي"!
__________
1 التأريخ الكبير "1/ 323"، البداية والنهاية "3/ 141"، معجم البلدان "3/ 704"، الأغاني "11/ 6"، المرزوقي، شرح ديوان الحماسة "3/ 1514 وما بعدها"، "القاهرة 1952".(17/90)
يَثْرِبُ:
وإذا كانت سوق عكاظ موضع تحكيم على النحو الذي رأيناه، وإذا كانت مكة، قد نظرت في شعر شاعر، أو شاعرين، فقد كانت يثرب موضع تقدير(17/90)
وتقييم للشعر كذلك. فقد ذكر أهل الأخبار أن "النابغة قدم المدينة، فدخل السوق، فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبتيه، ثم اعتمد على عصاه ثم أنشأ يقول:
عرفت منازلا بعريتنات ... فأعلى الحزع للحي المبين
حتى إذا انتهى من شعره، قال ألا رجل ينشد؟ فتقدم "قيس بن الخطيم" فجلس بين يديه وأنشده قصيدته التي مطلعها: "أتعرف رسمًا كاطراد المذهب" حتى فرغ منها، ثم استمع إلى شعر حسان. وذكر أنه قال لكل واحد منهما: "أنت أشعر الناس"1.
وروي أن "النبي" وضع لحسان منبرًا في المسجد يقوم عليه قائمًا يهجو الذين كانوا يهجون النبي2، وذلك لما كان للشعر من أثر في نفوس الناس آنذاك.
وقد تخصص أناس بإنشاد الشعر، كانوا رواة شعر، ينشدون شعر غيرهم أو شعرهم بأسلوب مؤثر، ذكر أن منشدًا أنشد يومًا رسول الله:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
فالخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان3
__________
1 الأغاني "3/ 10"، "دار الثقافة".
2 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704".
3 الفائق "3/ 52".(17/91)
تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:
وكان الشعراء يتنقلون من مكان إلى مكان، فكان "الأسود بن يعفر"، "يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد"1، وجاب "الأعشى" معظم أنحاء جزيرة العرب والعراق وبلاد الشأم، وكان النابغة يتنقل، فيزور ملوك الحيرة والغساسنة، ويسافر إلى مكة وسوق عكاظ، وكان "عمرو بن كلثوم" من المتنقلة كذلك، وقد علمت أمر "امرئ القيس" وتنقله بين القبائل، وأمر
__________
1 ابن سلام، طبقات "33".(17/91)
"الصعاليك"، الذين كانوا يتنقلون من مكان إلى مكان للحصول على رزقهم، وأمر "حسان" وقصده ملوك الغساسنة ووصوله إلى الحيرة، بل إننا لا نكاد ندرس حياة شاعر جاهلي، حتى نراه جوَّابًا، متنقلا من مكان إلى مكان، حتى صار التنقل من سيماء الشاعر عند الجاهليين، وكان هدفهم في الدرجة الأولى ملوك الحيرة ثم ملوك الغساسنة، أما ملوك اليمن، فقلما نجد في أخبار الشعراء وصولهم إليهم وإنشادهم شعرهم أمامهم، وذلك بسبب أن لسانهم كان لا يشاكل لسان الشعراء، وأما ما نسب إليهم من شعر، وما قيل من مدح بعض الشعراء لهم، فهو من القصص الذي لا يرجع إلى أصل، إلا ما ذكر من شعر في مدح بعض أذواء اليمن، فإن هؤلاء لم يكونوا ملوكًا، وإنما كانوا سادة مواضع وقبائل تقع شمال اليمن في الغالب، وقد كانت على صلة بالعرب الشماليين، وبلغة "آل" في ذلك الحين، ومع ذلك فإن صلتهم بهم لم تكن على نمط صلة الشعراء بسادات العرب الشماليين.
كان الشاعر يتنقل بين القبائل، فينزل على ساداتها ويحل في ضيافتهم، يقصد ملوك الحيرة خاصة، لما كان لهم من نفوذ في جزيرة العرب، ولينال عطاياهم، أو ليتوسط في حل ما بين الملوك وما بين قبيلة الشاعر، أو قبائل أخرى من أمور معقدة ومشكلات مستعصية، كما كان يزور الريف والقرى للميرة ولنيل هبات ساداتها من تمور أو دقيق أو أي شيء آخر يكون عند الحضر. فيمدح ويذم، وينشد شعره في أسواق القرى وفي نواديها ومجتمعاتها، فكان سوق "يثرب"، وهو المحل الذي يتجمع فيه الناس للبيع والشراء الموضع الذي يقصده الشاعر لإنشاد شعره به، ثم حل مسجد الرسول محله في الإسلام.
وقد ورد في الشعر الجاهلي ذكر بعض المواضع التي نزل بها الشاعر، أو التي ارتحل إليها ليزورها، وقد طمست أسماء بعض منها، وبقيت أسماء بعض آخر. وقد أمدتنا هذه الأسماء بمادة طيبة، أفادتنا في الحصول على معارف تأريخية وجغرافية عنها. ففي شعر "الأعشى"، وهو من الشعراء المتنقلة الذين أكثروا من الأسفار، وتنقلوا من مكان إلى مكان نجد أسماء أماكن عديدة وردت في شعره مثل "عانة"، و"بابل"، و"الحيرة"، ومواضع في اليمامة وفي اليمن، وتطرق في شعره هذا إلى أحوال من مر بهم، وذكر أسماءهم وأسماء قبائلهم فصار شعره لذلك موردًا هامًّا بالنسبة لنا، أفادنا في الوقوف على(17/92)
نَوَاحٍ مُهِمَّةٌ منَ التَّأريخِ الجاهِلِي.
رحل "الأعشى" إلى الغساسنة ملوك عرب الشأم، وإلى المناذرة ملوك عرب العراق، وإلى "قيس بن معد يكرب"، وإلى "ذي فائش" في اليمن، وإلى "بني الحارث بن كعب" في نجران، فمدحهم ونال عطاءهم، وأقام عندهم يسقونه الخمر ويسمعونه الغناء الرومي1، مما يدل -إن صح هذا الخبر- على تأثر سادة نجران بالثقافة الرومية، التي ربما أخذوها عن طريق ارتباطهم بالروم بروابط النصرانية، وعلى وجود جالية من الروم في نجران أو رجال دين من الروم، عينتهم الكنيسة لتعليم الناس أمور الدين، فقد كان الروم يرسلون رجال دينهم إلى هذه المواضع وإلى غيرها للتبشير، ولأغراض سياسية في الوقت نفسه.
ونجد في شعر "الصعاليك" أسماء المواضع التي غزوها، والطرق التي سلكوها في طريقهم إلى الغارات، أو في طرق عودتهم منها إلى دارهم، ونظرًا إلى كثرة تنقلهم وخبرتهم بالمواضع، وبأبعادها وبأصحابها، لما في هذه الخبرة من العلاقة بنجاح سوقهم وتجارتهم، أفادتنا إشارتهم إلى المواضع والقبائل فائدة كبيرة إذا حصلنا بواسطتها على معارف عن أحوال أهل الجاهلية، ساعدتنا في سد بعض الثلم الكثيرة من ثلم بنيان التأريخ الجاهلي.
__________
1 الأغاني "6/ 30".(17/93)
طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:
والشعراء في الطبع مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من تتيسر له المرائي ويتعذر عليه الغزل، ومنهم من يحسن الوصف، فإذا صار إلى المديح والهجاء، أو إلى الحكم والموعظة، خانه الطبع، وتأخر عن غيره من الفحول2. ومن هنا لم يبرز فحول الجاهلية، ومن عد في الطبقة العليا من طبقات الشعراء في كل درب من دروب الشعر وطرقه وفنونه. بل ظهروا وبرزوا في أمور، وتأخروا أو لم يبرزوا في أمور أخرى، فذكروا مثلا أن "النابغة" الجعدي، كان أوصف الناس لفرس3. وورد عن "ابن الأعرابي" قوله:
__________
1 الأغاني "6/ 30".
2 الشعر والشعراء "1/ 37"، "الثقافة".
3 ابن سلام، طبقات "27".(17/93)
"لم يصف أحد قط الخيل إلى احتاج إلى أبي داود، ولا وصف الْحُمُر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، ولا وصف أحد النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة، ولا اعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني1.
وقد قال من قدَّم "امرأ القيس" على غيره من الشعراء، أنه "سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منه استيقاف صحبه والبكاء في الديار، ورقة النَّسيب، وقرب المأخذ، وشبَّه النساء بالظباء والبيض والخيل والعقبان والعصي، وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيها"2، فهذه هي المزايا التي ميزت شعره عن شعر غيره من الجاهليين.
وقال علماء الشعر الذي قدَّموا النابغة على غيره، أنه كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثره رونق كلام، وأجزلهم بيتًا، كأن شعره كلام ليس فيه تكلُّف3. وأما الذين قدَّموا "زهيرًا" على غيره، فقالوا: "كان زهير أحكمهم شعرًا وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح"4.
وقلما نجد الشاعر يعنى بوصف الطبيعة أو مظاهرها بشعر خاص، كأن يصف المطر وحده، أو الشمس والكواكب والأجرام السماوية، أو الجبال أو السهول أو الحيوانات أو النبات، وصفًا خاصًّا لا يهرب منه إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا الوصف، ثم إنه قلما يتعمق في الوصف، فيصف الأجزاء والفروع وكل ما في الموصوف من مميزات، وهو إذا وصف الطبيعة، أو تعرض لوصف مشهد بارز بحيث يكون شعره وصفيًّا خاصًّا بالطبيعة، وإنما يقحم الوصف في القصيدة جريًا على العرف الشعري الذي سار عليه الشعراء، وليس عن عمد وتقصد لوصف ما يراد وصفه بالذات. ثم هو لا يصف من الشيء الموصوف ككل، وإنما يصف منه ما يلفت نظره، وما يؤثر على حسه وبصره. فهو إذا وقف
__________
الأغاني "15/ 93".
2 ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها".
3 ابن سلام، طبقات "17".
4 ابن سلام، طبقات "18".(17/94)
أمام شجرة لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة تطير من زهرة إلى زهرة فيرتشف من كل رشفة.
هذه الخاصية في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما نرى في أدب العرب -حتى في العصور الإسلامية- من نقص، وما ترى فيه من جمال.
فأما النقص فما تشعر به حين تقرأ قطعة أدبية –نظمًا أو نثرًا- من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلا دقيقًا، وقلة ارتباطها بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، حتى لو عمدت إلى القصيدة -وخاصة في الشعر الجاهلي- فحذفت منها جملة أبيات أو قدمت متأخرًا أو أخرت متقدمًا، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك -وإن كان أديبًا- ما لم يكن قد قرأها من قبل1.
"وهذا النوع من النظر هو الذي قصَّر نفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، ولا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا.
أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالا خاصًّا، فذلك أن هذا النظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة ولا شمول، فامتلأ أدبهم بالحكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة، وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غَنِيَ به عقلهم، وانطلقت به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معانٍ كثيرة تركزت في حبة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة. ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيرًا من حكم الفرس والهند والروم"2.
وأكثر الوصف الوارد في الشعر الجاهلي، وصف لم يرد لأن، الشاعر قصده وأراده، وإنما هو وصف ورد عرضًا في القصيدة على النسق الذي زعموا أن "امرأ القيس" وضعه وحاكاه فيه غيره ممن عاصره أو جاء بعده من الشعراء.
__________
1 فجر الإسلام "42 وما بعدها"، "الطبعة العاشرة 1965".
2 فجر الإسلام "43 وما بعدها".(17/95)
فالشاعر يبدأ بتذكر الديار وبالبكاء على الأحبة وعلى من فارقهم، فيدفعه ذلك إلى الوصف، بأبيات يجعلها مقدمة لغرض آخر، فهي إذن مقدمة، وليست غاية، ثم هو إذا افتخر وأراد الإشادة بنفسه وبما قام به من عمل بطولي، لم يصف نفسه وصفًا شاملا عامًّا، وإنما يصف من نفسه بعض ما يعجبه وما يريد التبجح به، من مغامرات عجيبة قام بها، ومن صبر وتحمل للجوع وللمشقات وللأهوال ومن عدم تهيب من اقتحام الصحاري الموحشة المخوفة، وحده، لأنه لا يرهب أحدًا، ولا يخشى وحشًا، فإذا جابهه وحش، وصفه وصفًا، لا يتعدى النوحي الخاصة التي يراها تظهر شخصيته وتبرز شجاعته ثم يبالغ في وصف المخاطر والمهالك التي لم يبال بها، للوصول إلى هدفه1. وهو إذا اصطاد صيدًا، بالغ في الجهد الذي صرفه في صيده، ونوَّه بجودة حصانه، وبالطريقة التي صاد بها فريسته.
وهو إذا أراد مدح إنسان، قدم لمدحه مقدمة تزيد على شعر المدح في الغالب، يذكر فيها الأهوال والمخاطر وحر الشوق، والتلهف الشديد وما شاكل ذلك من أمور، لتكون شرح حال له يبين مبلغ حبه له وإخلاصه لمن سيمدحه، ذي الجود والكرم والسخاء، الذي يجود بماله وبما عنده، ولا يحسب لنفسه ولأهله حسابًا، يجود خاصة في السنة الجماد، وفي مواسم القحط والبرد الشديد حيث تموت الماشية والأنعام، ومع ذلك فإن الممدوح، لا يعبأ بكل ذلك، ويسخر من الخوف من العواقب السيئة التي ستحيق به إن بذل ماله. وقد يبالغ الشاعر نفسه، ويشيد بسخائه وجوده، ويتخذ من ذلك قصص شجار يقع بينه وبين زوجه في الغالب، يشاركها ولدها فيه، بسبب تبذير الرجل لما عنده من مال، وعدم اهتمام بما سيحيق بأهله من جوع وفقر.
وهو إذا تغزل، فوصف محبوبته، فإنما يصف منها ما يلفت نظره، من أجزاء في الجسد، أو لون أو ما شاكل ذلك مما يلفت نظره، وقد يقارن بينها وبين بعض الحيوانات التي تعجبه مثل المها والظباء، والخيل والعقبان، وقد زعم
__________
1 غرونباوم "160 وما بعدها".
G. E. Von Grunebaum, Die Wirklichkelte der Fruh-arabisch Dichtung, Wien, 1937, s. 148. f.(17/96)
أهل الأخبار أن "امرأ القيس" كان قد سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعه فيها الشعراء، منها أنه شبه النساء بالأمور المذكورة، فصار تشبيه هذا لهن سنة لمن جاء بعده من قالة الشعر1. وقد يصف الليل وشدة طوله وسهره فيه ومبلغ ما ألَمَّ به من أرق لفراق محبوبته، أو من شدة تذكره لها، وقد يذكر حزنه على فراقها وكيف أنه كان يقضي لياليه ساهرًا يناجي نجوم السماء، ويعدها، ينتظر ذهاب كابوس ليله عنه حتى يتراءى له نور الصباح، وفيه الأمل والرجاء. ووصفه كله، ليس وصفًا كليًّا عامًّا محيطًا، وإنما وصف جزئي، جاء تعبيرًا عن خاطر الشاعر ومحاكاة للطريقة التقليدية التي توارثها الشعراء بعضهم عن بعض. وقد برز بعض الشعراء في وصف بعض الحيوانات، كما أشرت إلى ذلك في مواضع سابقة، فقد اشتهر "أبو دؤاد" بوصف الخيل، حتى صيِّر بطل الشعراء في هذا الميدان، واشتهر النابغة الجعدي بوصف الفرس، واشتهر أوس ابن حجر بوصف الخمر، وعرف علقمة بن عبدة بوصف النعامة2. وقد وصف غيرهم من الشعراء هذه الحيوانات وغيرها، كما نجد ذلك في الأشعار المنسوبة إليهم.
ومن أبرز المواضيع التي تطرَّق إليها الشعراء في وصفهم لمظاهر الطبيعة: المطر، والنخيل، والسحب، ومشاهد من فصول الشتاء، والغدران ومواضع المياه وللسيول والنحل والعسل البري، وبعض الصخور الغريبة، والطيور، أما البحر والسفن، فيردان على لسان الشعراء الساكنين على السواحل، حيث يرون البحر وسفنه3. ولكننا لا نجد وصفًا خاصًّا بهما، يظهر فيه تأثر الشاعر وإحساسه بالبحر، أو بالسفن، من حيث هي سفينة، وإنما ذكر وهمًا عرضًا على سبيل الفخر، ولأمور عرضية أخرى. فالوصف الجاهلي لعناصر الطبيعة خاليًا من المشاعر الخاصة، ومن التصورات المعبرة عن إلهام الشاعر الذاتي4.
وذكر أن من الشعراء من كان يتأله في جاهليته ويتعفف في شعره، ولا يستبهر بالفواحش ولا يهتم في الهجاء، ومنهم من كان ينعي على نفسه ويتعهر،
__________
1 ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "27"، الأغاني "15/ 93".
3 غرونباوم "162".
4 غرونباوم "61".(17/97)
ومنهم امرؤ القيس والأعشى1، وأن منهم من كان يأتي بالحكم في شعره، مثل: زهير والأفوه الأودي، وعلقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن رعلاء الغساني وغيرهم. والحكمة عندهم، هي خلاصة تجارب الشاعر في هذه الحياة، وما حصل عليه من رأي استوحاه من الواقع أو من أفواه الناس وتجاربهم. وهي بديهة من البديهيات صيغت شعرًا. قد يبدع في صياغتها الشاعر فتسير بين الناس مثلا، كقول "عدي بن رعلاء" الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميتُ الأحياءِ2
ويظهر من بيت ينسب إلى "زهير"، هو:
ما أرانا نقول إلا مُعارًا ... أو معادًا من لفظنا مكرورا
إن شعراء الجاهلية كانوا قد وصلوا إلى حالة جعلتهم يقلدون من سبقهم في الشعر ويحاكون طرقهم في النظم، فهم يعيدون ويكررون ما قاله الشعراء قبلهم. وهو كلام يؤيده قول علماء الشعر في القصيدة، من أنها كانت تسير على هدي الشعراء السابقين في نظمها من بدء بذكر الديار والبكاء على الأحبة والأطلال إلى غير ذلك من وصف، حتى صارت هذه الجادة، جادة يسير عليها كل شاعر، مما أثر على البراعة والابتكار وجعل الشعر قوالب معروفة معينة، يختار الشاعر قالبًا منها ليعبر به عما يريد أن يقوله نظمًا. ومن هنا ثار "أبو نُوَاس" وأضرابه من الشعراء الإسلاميين على "التقليد" في النظم، لتبدل العقلية وتغير الزمن، وإن كنت أجد في هذه الثورة مبالغة وإفراطًا في الاتهام. فالقصيدة الجاهلية وإن غلب عليها التقليد والمحاكاة، مما ضيق عليها المعاني، إلا أنها لم تكن كلها على نمط واحد على نحو ما يقوله علماء الشعر والأدب، كان الشعراء يراعون الوزن والقافية والروي، وهي أمور ميزت الشعر العربي عن غيره، ولكنهم كانوا يتحللون فيما عدا ذلك، فيأتون بالمعاني التي تدركها عقولهم، وهي معانٍ استمدت من المحيط، وهو محيط واحد، ألهم الشعراء شعرهم، فمن ثم تقارب الإلهام وقربت المعاني، ولو تعددت طبيعته، لما غلب على شعر أولئك الشعراء ما نأخذه عليهم وقد كان تغير وتنوع معاني الشعر في الإسلام، نتيجة حتمية لتغير المحيط.
__________
1 ابن سلام، طبقات "14".
2 الأصمعيات "171".(17/98)
المغلبون:
ومن الشعراء من كان لا يستطيع الوقوف أمام خصمه، فيغلب، فذكر أن "النابغة" الجعدي، كان مختلف الشعر مغلبا. وكانت العرب إذا قالت مغلبا فهو مغلوب، وإذا قالب غَلََبَ، فهو غالب، وقد غلبت عليه "ليلى الأخيلية" و"أوس بن مغراء" القريعي1. وذكروا أن "تميم بن أبي مقبل" وهو شاعر "خنذيذ" مغلَّب عليه النجاشي، ولم يكن إليه في الشعر، وقد قهره في الهجاء، ثم هاجى النجاشي عبد الرحمن بن حسان فغلبه عبد الرحمن، وكان "ابن مقبل جافيًا في الدين. وكان في الإسلام يبكي أهل الجاهلية ويذكرها، فقيل له تبكي أهل الجاهلية وأنت مسلم، فقال:
وما لي لا أبكي الديار وأهلها ... وقد زارها زوار عكٍّ وحميرا
وجاء قطا الأجباب من كل جانب ... فوقع في أعطاننا ثم طيرا2
ومن المغلبين: الزبرقان، غلبه عمرو بن الأهتم، وغلبه المخبل السعدي، وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الاثنين ولم يجب الحطيئة3.
والهجاء فن، لا يستطيع كل شاعر أن يبرز فيه، لما يجب أن يكون في الشاعر من ذكاء وسرعة خاطر وقابلية على إسكات الخصوم. ولهذا كان يخشى جانب الهجاء فلا يتعرض له إلى من وهب قابلية على الهجاء. وإلا غلب على أمره، وصار من المغلبين4، وهو من أهم أبواب الشعر عند الجاهليين، لما له من أثر في حياتهم، حيث يغض من منزلة المهجو.
وذكر أن الشعراء كانوا ينازعون بعضهم بعضًا على التقدم في الشعر، فذكر أن "امرأ القيس" نازع "الحارث بن التوأم" اليشكري، فقال: إن كنت
__________
1 ابن سلام، طبقات "26 وما بعدها"، العمدة "1/ 104".
2 ابن سلام، طبقات "34".
3 العمدة "1/ 107".
4 العمدة "1/ 111 وما بعدها".(17/99)
شاعرًا، فأجز أنصاف ما أقول فأخذا يتسابقان في ذلك1. وذكر أن عبيد بن الأبرص الأسدي، لقي "امرأ القيس" يومًا، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال له: إلق ما شئت، وأخذا يتسابقان. وكان آخر ما أجاب به "امرؤ القيس" هذا البيت:
تلك الموازين والرحمن أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياسًا2
وهو بيت مفضوح، يحدثك عن أصله وفصله، وعن هذه القصة، وقد فات وضَّاع القصة أن هذا الشعر لا يمكن أن يقع من شاعر جاهلي، لاسيما إذا كان على شاكلة امرئ القيس.
والأبيات الجيدة من الشعر، في نظر نقدة الشعر هي الأبيات التي إذا سمعت صدر البيت فيها، عرفت قافيته3.
__________
1 الشنقيطي، شرح المعلقات العشر "16 وما بعدها".
2 المصدر نفسه "17 وما بعدها".
3 البيان والتبيين "1/ 116".(17/100)
بَدْءُ الشَّاعِرِ:
يبدأ الشاعر بالشعر بعد إحساسه بوجود ميول له إلى الشعر، تدفعه دفعًا على الإقبال عليه، فيبدأ بحفظ الشعر المقال، وبنظمه، ويكون هذا النظم نظمًا تجريبيًّا غير متقن في بادئ أمره، ويقال لهذه المرحلة "الغرزمة". و"الغرزمة" أن يقول الشاعر الشعر قبل أن يستحكم طبعه وتقوى قريحته1. فإذا قوي به وتمكن منه صار من الشعراء المجيدين.
وقد كان الشاعر الجاهلي مثل الشاعر الإسلامي، يبدأ لكي يكون شاعرًا بحفظ شعر غيره، ولاسيما شعر المشهورين من الشعراء المتقدمين عليه، حتى يرويه رواية، وقد يتصل بشاعر يعجبه من شعراء قبيلته أو من غيرهم فيلازمه ويأخذ عنه شعره حتى يصير راوية له، ومتى شعر هذا الراوية الحافظ لشعر غيره، أن عوده قد استوى، وأن له قابلية في النظم، أظهر شعره للناس، وربما بعد
__________
1 الخزانة "1/ 220".(17/100)
أن يكون قد وجد التشجيع ممن اتصل بهم من الشعراء ومن المتذوقة للشعر، العارفين به، ولما كانت الشاعرية موهبة يصقلها المران ومرور الزمن، فإن كثيرًا من الشعراء نظموا الشعر وهم صغار، ولاسيما أولئك الذي نشئوا في بيت برز به شاعر، أو في بيوت عرفت بنبوغ جماعة من أفرادها بنظم الشعر، فهناك بيوت معرقة توارثت الشعر أبًا عن جد. وقد سبق أن ذكرت قول "رؤبة": "الفحولة هم الرواة"1، أي أن فحول الشعراء هم الذين كانوا في بادئ أمرهم رواة شعر.
فحفظ الشعر وروايته هو مران كان لا بد منه لتهيئة شاعر فحل: وقد وجدت هذه النظرة عند الفرس كذلك، قال صاحب "جهار مقالة": "ولا يبلغ الشاعر هذه المنزلة إلا أن يحفظ في عنفوان الشباب وريق العمر عشرين ألف بيت من أشعار المتقدمين ويجعل نصب عينه عشرة آلاف كلمة من آثار المتأخرين ويديم القراءة في دواوين الأئمة ويلتقط منها ليعلم كيف تصرفوا في مضايق القول ودقائق الكلام حتى يرتسم في طبعه صور الشعر وطرائقه، ويتجلى له مزايا الشعر ونقائصه، فيرتقي قوله ويعلو طبعه. فإذا رسخ طبعه في نظم الشعر، وانقاد له الكلام عمد إلى علم الشعر وقرأ العروض. وقرأ نقد المعاني والألفاظ والسرقات والتراجم وأنواع هذه العلوم على أستاذ يحذقها ليكون جديرًا بالأستاذية"2. وهذا الرأي الفارسي الإسلامي، يمثل ولا شك رأي قدماء الفرس كذلك.
ولم يكن الشاعر الجاهلي يعرف بالطبع هذه العلوم والقيود التي عرفت وشاعت في الإسلام، بل لم يكن الشاعر العربي الإسلامي ليحفل بالعروض وبعلوم البيان والبديع، لأن الشعر طبع وموهبة، وإذا لم تكن الموهبة موجودة في إنسان فلن يكون هذا الشخص شاعرًا موهوبًا مرموقًا مهما حفظ من الشعر، وبلغ من علم العروض ومن علوم الصناعة الأخرى التي لها مساس بالشعر. فقد برز شعراء جاهليون قالوا شعرًا وهم بعد أحداث، واشتهروا به بين قومهم وهم بعد شباب. وطَرَفَةُ الشاعر المشهور، كان ولازال شابًّا حين قتل، ومع ذلك، نجد ترتيبه بعد امرئ القيس في ترتيب المعلقات، وفي ترتيبه هذا دلالة على تقدير قصيدته، واشتهار أمره بالشعر. وقد نظم "الخليل بن أحمد" شعرًا، وهو صاحب
__________
1 البيان والتبيين "2/ 9 وما بعدها".
2 غرونباوم "48".(17/101)
العروض، ونظم غيره من فحول هذا العلم، ومن فحول اللغة شعرًا، لم يعد من عيون الشعر العربي، ونظم الفقهاء شعرًا عرف بين نقاد الشعر، وأهل البصر به بـ"شعر الفقهاء" ازدراء به. بل نجد الشعراء الإسلاميين يهزءون من قواعد العروض.(17/102)
أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:
ويذكر أهل الأخبار ويؤكدون أن أهل الجاهلية لقبوا شعراءهم بألقاب، مثل: المهلهل، والمرقش، وذا القروح، والمثقب، والمنخل، والمتنخل، والأفوه، والنابغة قيل عن المهلهل، أنه إنما سمي مهلهلا لهلهة شعره، أي رقته وخفته، وقيل لاختلافه، وقيل: بل سمي بذلك لقوله:
لما توقل في الكراع شريدهم ... هلهلت أثأر جابرًا أو صنبلا
وقيل لأنه كان أول من هلهل الشعر وأرقه وألان ألفاظه1.
وذكر أن "المرقش" الأكبر، إنما عرف بذلك، بقوله:
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم
أو لأنه كان قد عني بتنميق شعره ورقشه2.
وروي أن لقب "المثقب" العبدي، إنما جاءه من قوله:
رددن تحية وكَنَنَّ أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون3.
وعرف المتلمِّس بهذا الاسم بقوله:
فهذا أوان العِرض حيًّا ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمِّس4
__________
1 العمدة "86"، "ويروى: لما توغر" و"لما توعر في الكلاب هجينهم"، و"توعر"، المزهر "2/ 434"، الأغاني "5/ 57".
2 الشعر والشعراء "1/ 138"، تابع العروس "4/ 314"، "رقش"، البيان والتبيين "1/ 375"، المفضليات "1/ 410، 485".
3 الشعر والشعراء "1/ 311".
4 الشعر والشعراء "1/ 114"، البيان والتبيين "1/ 375".(17/102)
وعرف الممزِّق بهذا اللقب لقوله:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق1
وعرف "النابغة" بالنابغة بقوله:
وحلت في بني القين بن جسر ... وقد نبغت لنا منهم شئون2
وذكر أن "منبه بن سعد"، إنما عرف بـ"أعصر"، بقوله:
أعمير إن أباك غيَّر لونه ... مر الليالي واختلاف الأعصر
وأن معاوية بن تميم، إنما عرف بـ"الشقر" بقوله:
قد أحمل الرمح الأصم كعوبه ... به من دماء القوم كالشقرات3
وأن "خالد بن عمرو بن مرة"، إنما قيل له "الشريد"، بقوله
وأنا الشريد لمن يعرفني ... حامي الحقيقة ما له مثل
وأن صريم بن معشر الغلبي، إنما عرف بـ"أفنون" بقوله:
منيتنا الود يا مضنون مضنونا ... أزماننا إن للشباب أفنونا4
وأن معاوية بن مالك، سمي معود الحكام لقوله:
أعوّد مثلها الحكام بعدي ... إذا ما الأمر في الأشياع نابا5
وذكر "الجاحظ" أن "عمرو بن رباح" السُّلمي أبا خنساء ابنة عمرو، غلب عليه الشريد، لقوله:
تولي إخوتي وبقيت فردًا ... وحيدًا في ديارهم شريدا6.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 314"، البيان والتبيين "1/ 375".
2 الشعر والشعراء "1/ 98"، المزهر "2/ 432، 436".
3 المزهر "2/ 434".
4 المزهر "2/ 435".
5 المزهر "2/ 436".
6 البيان والتبيين "1/ 375".(17/103)
وعرف "خداش بن بشر"، "خداش بن لبيد بن بيية"، "خداش بن بشر بن خالد بن بيبة" من بني مجاشع بالبعيث، لقوله:
تبعث مني ما تبعث بعدما ... أمرت حبالي كل مرتها شزارا1
وذكروا أن "الفند"، واسمه "شهل بن شيبان"، إنما سمي الفند، لأنه قال يوم "قضة": ما ترضون أن أكون لكم فندًا. وأن طفيلا الغنوي، إنما عرف بالمحبر، لتحسينه الشعر2، وأن علقمة بن عبدة، إنما لقب بالفحل، لأنه تزوج امرأة امرئ القيس، بعد أن حكمت له بتفوقه على زوجها في الشعر أو لأنه كان في قومه علقمة آخر عرف بـ"علقمة" الخصي، وأن "الأعشى" إنما عرف بصناجة العرب، لكثرة ما تغنت العرب بشعره 3، وأن عنترة إنما لقب بالفلحاء لفلحة كانت به4.
وأما الأغربة من الشعراء، فهم عنترة، وخفاف بن ندبة السلمي، وأبو عمير بن الحباب السلمي، وسُلَيك بن السُّلَكَة، وتأبَّط شرًّا، والشَّنْفَرى، وكلهم من الشعراء الجاهليين5.
إلى آخر ما ذكروه من تعليلات عن أسباب تلقيب الشعراء الجاهليين بألقابهم التي عرفوا بها، تجد بقيتها مدونة في كتب الأدب واللغة والأخبار6.
ولعلماء الشعر بعد، آراء في أحسن وأجود ما قيل من شعر في فن واحد من فنون الشعر، فقيل أرثى بيت قيل في الجاهلية، قول أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
__________
1 وقيل: سمي البعيث لقوله:
تبعث مني ما تبعث بعدما
استمر فؤادي واستمر عزيمي
البيان والتبيين "1/ 204، 374"، المؤتلف "56".
2 المزهر "2/ 430".
3 المزهر "1/ 431".
4 المزهر "2/ 432".
5 المزهر "2/ 431".
6 المزهر "2/ 436 وما بعدها".(17/104)
وهذا على رأي الأصمعي1، وقدم غيره قول عبدة:
فما كان قيسٌ هُلْكَهُ هلْكَ واحدٍ ... ولكنه بنيانُ قومٍ تهدَّما2
ومنهم من قدم شعر الخنساء3.
وقيل إن قول امرئ القيس في الماء، هو أحسن ما قيل فيه4. وإن وصف "أوس بن حجر" للسحاب، هو أحسن ما قيل فيه5، وإن أهجى بيت قالته العرب، قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصًا6
وأن أمْدَحَ بيت قالته العرب قول زهير:
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك معطيه الذي أنت سائلُه
وبيت النابغة:
بأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب7
ولكنك لو أطلت النظر في كتب الأدب، تراها تختلف في هذا الاختيار وفي اسم الشاعر، وسبب ذلك اختلاف أمزجة العلماء، واختلاف وجهات نظرهم في نقد الشعر8.
وللعلماء كلام في أَوْصَفِ الشعراء للدِّرع، أو للفرس، أو للنجوم والكواكب، أو الدنيا إلى غير ذلك من أشياء9
__________
1 ديوان أوس "13"، المصون "16"
2 المصون "16".
3 المصون "17".
4 المصون "18"، ديوان امرئ القيس "111".
5 المصون "19".
6 ديوان الأعشى "19".
7 "كأنك"، "لأنك"، ديوان النابغة "13"، المصون "21 وما بعدها".
8 راجع المصون "22 وما بعدها"، ترى العلماء يختلفون في أمدح بيت ورد في شعر الجاهليين.
9 المصون "ص24 فما بعدها".(17/105)
وقد عرفت القصائد التي يكون الشاعر فيها منصفًا في شعره، بالمنصفات، والمنصفة هي القصيدة التي يكون الشاعرفيها قد أنصف من تحدث عنه، فإذا كان في فخر واستعلاء على قوم فخر بقومه، وذكر في الوقت نفسه فضائل خصوم قومه، وشجاعتهم واستبسالهم في معاركهم مع قومه. ومن المنصفات قصيدة "العباس بن مرداس" السينية التي قالها في يوم "تثليث"، حيث غزت "سليم" مرادًا، فجمع لهم "عمرو بن معديكرب"، فالتقوا بتثليث، فصبر الفريقان، ولم تظفر طائفة منهما بالأخرى، فصنع العباس بن مرداس قصيدته المذكورة1.
وزعم علماء الشعر، أن الشعراء الجاهليين كانوا في سرقة الشعر مثل الشعراء الإسلاميين، فقد كان منهم من يسطو على شعر غيره، فيدخله في شعره، وينحله نفسه، أو يضمِّن شعره من معانيه، ولهم في ذلك بحوث. وذكروا أن من الشعراء الإسلاميين من سطا على شعر الشعراء الجاهليين، أو أخذ منه2.
__________
1 العمدة "2/ 217".
2 المصون "66 وما بعدها".(17/106)
الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:
يقول الرواة والعلماء بالشعر: من أراد الغريب فعليه بشعر هذيل، ومن أراد النسيب والغزل من شعر العرب الصلب، فعليه بأشعار عذرة والأنصار، ومن أراد طرف الشعر وما يحتاج إلى مثله عند محاورة الناس وكلامهم فذلك في شعر الفرسان.
وأشعر الفرسان: دريد بن الصمة، وعنترة، وخفاف بن ندبة، والزبرقان بن بدر، وعروة بن الورد، ونهيكة بن إساف، وقيس بن زهير، وصخر بن عمرو، والسُّلَيك بن سُلَكَة، وأنس بن مدركة، ومالك بن نُوَيرَة، ويزيد بن الصعق، ويعدُّ من الفرسان الأشراف، ويزيد بن سنان بن أبي حارثة1.
__________
1 المصون "173 وما بعدها".(17/106)
التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:
يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر، أنفة وتعززًا، وإنما يصنع أحدهم ما يصنع مكافاة عن يد لا تستطيع على أداء حقها إلا بالشكر إعظامًا لها. بقوا على ذلك دهرًا، حتى نشأ النابغة الذُّبياني فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وقد كان أشرف بني ذُبْيَان، وكان قادرًا على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته، وله مال يكفيه، فسقطت منزلته، وكسب مالا جزيلا حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضَّة وأوانيهما من عطايا الملوك. وذكر عنه من التكسب بالشعر مع النعمان بن المنذر ما فيه قبح من مجاعلة الحاجب ومجاملته والتودد إليه تقربًا وتزلفًا ليوصله إلى النعمان، ومن دس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك1. هذا، وإنما امتدح ملكًا، فكيف بشاعر يمدح من هم دون الملوك والأشراف من السوقة وسواد الناس، طمعًا في صلة وعطاء2!
وتكسب زهير بن أبي سلمى يسيرًا مع "هَرِم بنِ سِنَان"، ونال أمية بن أبي الصَّلت عطايا عبد الله بن جدعان لمدحه إياه، فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجرًا يتجر به نحو البلاد، وقصد حتى مَلِكِ العجم فأثابه، لعلمه بقدر ما يقول عند العرب، واقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استخف به واستهجنه لكنه حذا حذو ملوك العرب3.
ثم إن الْحُطَيئة أَكْثَرَ من السؤال بالشعر وانحطاط الهمة فيه، حتى مقت وذل أهله، واستصغر شأنه، وعرف بتكسبه بشعره 4.
وقد عيب "من تكسب بشعره والتمس به صلات الأشراف والقادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين"5. وإنما المقبول ما جاء بما لا يزري بقدر ولا مروءة، مثل الفلتة النادرة، والمهمة العظيمة، وعن باب التودد والتلطف
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 91 وما بعدها"، العمدة "1/ 80"،
2 العمدة "1/ 40 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "3/ 91"، العمدة "1/ 81".
4 العمدة "1/ 81".
5 البيان والتبيين "2/ 13 وما بعدها".(17/107)
والتذكر، فأما من وجود الكفاف والبلغة فلا وجه لسؤاله بالشعر1.
ومن هنا زعم أهل الأخبار أن أشراف أهل الجاهلية، كانوا يأنفون من قول الشعر، وكانوا ينهون أولادهم من قوله، فلما خالف امرؤ القيس وهو شريف وابن مَلِكٍ، أمر والده من وجوب ترك الشعر، واستمر على قوله، طرده بسببه من بيته، وأخرجه من داره، فصار من الضليلين، وهو زعم عارضه ابن رشيق ورد عليه بقوله: "وقد غفل أكثر الناس عن السبب، وذلك أنه كان خليعًا، متهتكًا، شبب بنساء أبيه، وبدأ بهذا الشر العظيم، واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان إليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، لكن من جهة الغي والبطالة، فهذه العلة، وقد جازت كثيرًا من الناس ومرت عليهم صفحًا"2. فلم يكن طرد امرئ القيس من بيت أبيه أذن بسبب قوله الشعر، وإصراره عليه، وإنما بسبب أعماله من خلاعة وتهتك واستهتار، وهي أعمال تنافي أخلاق الأشراف.
وقد قيل في الشعر إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وأنه أسنى مروءة الدني، وأدنى مروءة السري. وقيل إن الشريف كان يتحاشى قول الشعر، ويمنع أولاده من قوله. لأن قول الشعر مثلبة للرجل الشريف. وقد فسر هذا الزعم بعض العلماء بقوله: "إن الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسبًا، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم"3. مدحه ولم يكن في حاجة إليه، وكان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك. وبين الشعراء الجاهليين من كان من السادة الأشراف، ولم يجد مع ذلك غضاضة في قوله الشعر،
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 91 وما بعدها".
2 العمدة "1/ 43".
3 في قول "ابن رشيق" "وصاحب البؤس والنعيم، هفوة، لأن صاحب البؤس والنعيم، هو "المنذر بن ماء السماء"، وصاحب النابغة هو "النعمان بن المنذر"، العمدة "1/ 41"، البيان والتَّبْيِينُ "1/ 241".(17/108)
ومن غُضَّ من قَدْرِه، هو من اسْتَجْدَى بشعره، واتخذ شعره سببًا من أسباب التَّكَسُّب.
وما يقوله أهل الأخبار عن التكسب بالشعر يمثل وجهة نظرهم فحسب، وهو رأي لا أساسَ له، بسبب أن علمهم بالشعر لا يستند إلى دليل جاهلي مكتوب، وإنما هو من رواية ولدت في الإسلام لَاكَتْهَا الألسن، وتناولتها الكتب، حتى صارت في حكم الإجماع، يردده الْخَلَف عن السلف إلى هذا اليوم. والشعراء في نظرنا قبل النابغة وبعده بشر، فيهم المترفع وفيهم المستجدي الذليل، الذي لا يبالي أن تُمْتهن كرامته في سبيل الحصول على مال. وإذا كان في هذا اليوم شعراء يمدحون ويذمون لغاية الكسب والحصول على مَغْنَم، فلم نجعل شعراء ما قبل أيام النابغة الذُّبياني ملائكة، لا يمدحون إلا الشريف المستحق للمدح، ولا يذمون إلا الحقير الذي يستحق الذَّم، وما شعراء تلك الأيام، إلا كشعراء أيام النابغة، وما بعده، فيهم الشاعر المترفع، وفيهم الشاعر المترذل، وفيهم من لا يبالي بشعره، يمدح اليوم، ثم لا يبالي من ذمه بعد حين. وفي حقهم جميعًا جاء في القرآن: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 1، ونحن نظلم النابغة إن جعلناه أول المتكسبين بالشعر، ونخرج عن المنطق إن ذهبنا هذا المذهب.
وذكر أن ممن رفعه الشعر من القدماء الحارث بن حِلِّزة اليَشْكُرِيُّ، وكان أبرص، فلما أنشد الملك عمرو بن هند قصيدته:
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثواء
وبينه وبينه سبعة حجب، فما زال يرفعها حجابًا فحجابًا لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبقِ بينهما حجاب، ثم أدناه وقربة. وأمثاله ممن رفع من قدرهم الشعر كثير2.
ورووا أن المحلق كان ممن رفعه الشعر بعد الخمول، وذلك أن الأعشى قدم مكة
__________
1 [سورة الشعراء، الرقم: 26، الآية: 224 وما بعدها".
2 العمدة "1/ 43 وما بعدها".(17/109)
وتسامع الناس به، وكانت للمحلق امرأة عاقلة، وقيل بل أم، وكان المحلق فقيرًا خامل الذكر، ذا بنات، فأشارت عليه، أن يكون أسبق الناس إليه في دعوته إلى الضيافة، ليمدحهم، ففعل، فلما أكل الأعشى وشرب، وأخذت منه الكأس، عرف منه أنه فقير الحال، وأنه ذو عيال، فلما ذهب الأعشى إلى عكاظ أنشد قصيدته:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
ثم مدح المحلق، فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جريًا يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى1.
هذا ما يرويه أهل الأخبار عن أثر الشعر في الناس. وروي أن الأعشى أنشد قصيدته المذكورة كسرى، فقال: "إن كان سهر من غير سقم ولا عشق فهو لص"2.
"قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يَقْدُمُ على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة البيان"3.
ويذكر الرواة أن القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به، وفرحت بنبوغه، وأتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، وتباشروا به لأنه حماية لهم، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم وأحسابهم وشرفهم بين الناس. وكانوا لا يُهَنِّئُون إلا بغلام يولد أو فرس تنتج
__________
1 العمدة "1/ 49".
2 الشعر والشعراء "1/ 180".
3 البيان والتبيين "1/ 241، العمدة "1/ 82 وما بعدها".(17/110)
أو شاعر ينبغ فيهم1. فالشاعر هو صحيفة القبيلة ومحطة إذاعتها، وصوته يحطُّ ويرفع ويخلد لا سيما إذا كان مؤثرًا، فيرويه الناس جيلا بعد جيل.
وكان أثره في الناس أثر السيف في الحروب، بل استخدمه المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز، ثم يعمد إلى السيف أو الرمح أو آلات القتال الأخرى، ولأثره هذا، ورد في الحديث عن الرسول قوله: "والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون لهم من الشعر"2 مخاطبًا بذلك شعراء المسلمين، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك، سلاح الشعر، وقد كان الوثنيون قد أشهروه أيضًا وحاربوا به المسلمين.
وطالما قام الشعراء بدور السفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك وبين القبائل، أو بين القبائل والقبائل، فلما أَسَرَ الحارثُ بن أبي شمر الغساني "شأس بن عبدة" في تسعين رجلا من بني تميم، وبلغ ذلك أخاه "علقمة بن عبدة"، قصد الحارث، فمدحه بقصيدته:
طحا بك قلب بالحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
فلما بلغ طلبه بالعفو عن أخيه وعن بقية المأسورين، قال الحارث: نعم وأذنبة، وأطلق له شأسًا أخاه، وجماعة أسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم3.
ولم يقلّ أثر الشاعر في السلم وفي الحرب عن أثر الفارس، الشاعر يدافع عن قومه بلسانه، يهاجم خصومهم ويهجو سادتهم، ويحث المحاربين على الاستماتة في القتال، ويبعث فيهم الشهامة والنخوة للإقدام على الموت حتى النصر، والفارس يدافع عن قومه بسيفه، وكلاهما ذابٌّ عنهم محارب في النتيجة. بل قد يقدم الشاعر على الفارس، لما يتركه الشعر من أثر دائم في نفوس العرب، يبقى محفوظًا في الذاكرة وفي اللسان، يرويه الخلف عن السلف، بينما يذهب أثر السيف،
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 84"، العمدة، "1/ 49، 65"، المزهر "3/ 236"، العقد الفريد "3/ 93".
2 الأغاني "15/ 26".
3 العمدة "1/ 57"، "أسرة الحارث بن أبي شمر الغساني مع سبعين رجلا من بني تميم"، الشعر والشعراء "1/ 147 وما بعدها".(17/111)
بذهاب فعله في المعركة، فلا يترك ما يتركه شعر المديح أو الهجاء من أثر في النفوس، يهيجها حين يذكر، وكان من أثره أن القبائل كانت إذا تحاربت جاءت بشعرائها، لتستعين بهم في القتال. فلما كان يوم أُحُد، قال صفوان بن أمية لأبي عمرو بن عبد الله الجمحي: "يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، فاخرج معنا. فقال: إن محمدًا قد من عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: فأعنَّا بنفسك فلك الله عليَّ أن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة شعرًا إلى السير مع قريش لمحاربة المسلمين1.
وكان الرسول شاعره حسان بن ثابت يدافع عن الإسلام والمسلمين، وكان للمشركين من أهل مكة شاعرهم "عبد الله بن الزبعري" يرد عليه ويهاجم المسلمين في السلم وفي المعارك، وقد دوَّنت كتب السير والأخبار والتواريخ أشعارهم وما قاله أحدهم في الآخر، وقد فات منه شيء كثير، نص رواة الشعر على أنهم تركوه لما كان فيه من سوء أدب وخروج على المروءة. وكان إلى جانب الشاعرين شعراء آخرون، منهم من ناصر المسلمين لأنه كان منهم، ومنهم من ناصر المشركين لأنه كان منهم، بل كان المحاربون إذا حاربوا، فلا بد وأن يبدءوا حربهم بتنشيطها وبتصعيد نارها برَجَزٍ أو بقَرِيْضٍ.
ومن خوفهم من لسان الشاعر، ما روي من فزع أبي سفيان، لما سمع من عزم الأعشى على الذهاب إلى يثرب ومن إِعْدَادِه شعرًا في مدح الرسول، ومن رغبته في الدخول في الإسلام. فجمع قومه عندئذ، وتكلم فيما سيتركه شعر هذا الشاعر من أثر في الإسلام وفي قريش خاصة إن هو أسلم، ولهذا نصحهم أن يتعاونوا معه في شراء لسانه وفي منعه من الدخول في الإسلام بإعطائه مائة ناقة فوافقوا على رأيه وجمعوا له ما طلبه، وتمكن أبو سفيان من التأثير عليه، فعاد إلى بلده "منفوحة" وما بها دون أن يسلم2.
قال الجاحظ: "ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، أنهم
__________
1 الروض الأنف "2/ 126 وما بعدها"، "غزوة أحد".
2 الشعر والشعراء "136 وما بعدها"، زيدان، آداب "1/ 119".(17/112)
إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدُّوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص الحارثي حين أسرته بنو تيم يوم الكلاب1. وعبد يغوث بن وقاص، شاعر قحطاني، كان شاعرًا من شعراء الجاهلية، فارسًا سيد قومه من بني الحارث بن كعب، وهو الذي قادهم يوم الكلاب الثاني فأسرته بنو تيم وقتلته، وهو من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والإسلام، منهم اللجلاج الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه مسهر فارسٌ شاعرٌ، ومنهم من أدرك الإسلام: جعفر بن علية بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث"، وكان شاعرًا صعلوكًا2.
ولما مدح الحطيئة "بغيض بن عامر بن لاي بن شماس بن لاي بن أنف الناقة"، واسمه جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وهجا "الزبرقان"، واسمه الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن عوف بن كعب، صاروا يفخرون ويتباهون بأن يقال لهم "أنف الناقة"، وكانوا يعيرون به ويغضبون منه، ويَفْرَقُون من هذا الاسم، حتى إن الرجل منهم كان يسأل مِمَّن هو فيقول من "بني قريع" فيتجاوز جعفرًا أنف الناقة، ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى أن قال الحطيئة هذا الشعر فصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة، إذ قال:
قوم هم الأنفُ والأذنابُ غيرهمُ ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا3
وقد تعزز الأعشى على قومه، وبين مكان فضله عليهم، إذ كان لسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم، الهادي لأعدائهم بشعر هو كالمقراض يقرض أعداء قومه قرضًا.
وأدفع عن أعراضكم وأعيركم ... لسانًا كمقراض الخافجي ملحبا4
__________
1 البيان والتبيين "4/ 45".
2 الخزانة "1/ 317"، "بولاق".
3 قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا
البيان والتبيين "4/ 38"، "هارون"، الاشتقاق "156"، زهر الآداب "1/ 19". الخزانة "1/ 567"، العمدة "1/ 50".
4 ديوان الأعشى "117"، القصيدة "14" البيت "31".(17/113)
وذكر أن بني تغلب كانوا يعظمون معلقة عمرو بن كلثوم ويروونها صغارًا وكبارًا، حتى هجاهم شاعر من شعراء خصومهم ومنافسيهم: بكر بن وائل، إذ قال:
ألهي بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدًا مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسئوم1
ولسلاطة ألسنة بعض الشعراء، ولعدم تورع بعضهم من شتم الناس ومن هتك الأعراض، ومن التكلم عنهم بالباطل، تجنب الناس قدر إمكانهم الاحتكاك بهم، وملاحاتهم والتحرش في أمورهم، خوفًا من كلمة فاحشة قد تصدر منهم، تجرح الشخص الشريف فتدميه، وجرح اللسان كجرح اليد، كما عبر عن ذلك امرؤ القيس أحسن تعبير2. ولأمر ما قال طرفة:
رأيت القوافي تتلجن موالجا ... تضايق عنها أن تولجها الإبر
وفي هذا المعنى دون الجاحظ هذه الأبيات:
وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله
ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... وداراهم مدارة جميلة
إذا وضعوا مكاويهم عليه ... وإن كذبوا- فليس لهن حيله3
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عالمًا بالشعر، قليل التعرض لأهله: استعْدَاهُ رهط تميم بن أبي مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت، فرارًا من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان -على علمه بالشعر- أبصر من عمر -رضي الله عنه- بوجه الحكم، وأن اعتل فيه بما اعتل"4.
__________
1 الأغاني "11/ 54"، الاشتقاق "204"، وقد روي هذا الشعر بأوجه مختلفة، البيان والتبيين "4/ 41".
2 العمدة "1/ 78".
3 العمدة "1/ 78".
4 العمدة "1/ 52، 76"، "باب تعرض الشعراء".(17/114)
"وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان، ثم قضى على الحطيئة بالسجن"1، وقد كان عمر قد كره أن يتعرض للشعراء، فاستشهد حسان، فلما بين حسَّان رأيه في الشعر، أنفذ حكمه، فتخلص "عمر" بعرضه سليمًا2.
وتميم بن مقبل بن عوف بن حنيف العجلاني، من الشعراء الذين أدركوا الإسلام فأسلم، وكان يهاجي النجاشي، فهجاه النجاشي يومًا، فاستعدى تميم عمرَ عليه، فلما قرأ النجاشي على عمر ما قاله في تميم أمر بضربه وحبسه. وكان يبكي أهل الجاهلية3.
"وسئل أبو عبيدة أي الرجلين أشعر: أبو نواس، أم ابن أبي عيينة؟ فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا؟! "4 وذلك خوفًا ولا شك من لسان الشاعر الحي. "ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشراف ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحًا فتعود جدًّا"5.
وكانوا يهابون الشاعر الهجَّاء البذيء اللسان المتمكن من شعر الهجاء، أكثر من غيره من بقية الشعراء، لما كان يتركه هجاؤه من أثر فيهم، حتى الشعراء المبَرَّزين كانوا يتقون شر الشاعر الهجاء ويبتعدون عنه. فلما هجا عبدُ الله بن الزبعري بني قصي، خاف قومه من هجاء الزبير بن عبد المطلب، فرفعوه برمته إلى عتبة بن ربيعة، فلما وصل إليهم أطلقه حمزة بن عبد المطلب وكساه، وكان الزبير غائبًا بالطائف، فلما وصل مكة وبلغه الخبر هجا قوم ابن الزبعري هجاء مرًّا6، بقوله:
فلولا نحن لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا
__________
1 العمدة "1/ 76"، ابن سلام، طبقات "25".
2 "البيان والتبيين "1/ 240".
3 الإصابة "1/ 189"، "رقم 862"، البيان "1/ 239"، الخزانة "1/ 113".
4 العمدة "1/ 76".
5 العمدة "1/ 77".
6 العمدة "1/ 65 وما بعدها".(17/115)
ثيابهم سمالٌ أو طمارٌ ... بها دسم كما دسم الحميت
ولكننا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت
وكان عبد الله بن الزبعري قد قال حين أطلقه حمزة:
لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي ... وإن صالحت إخوانها لا ألومها
فود جناة الشرّ أن سيوفنا ... بأيماننا مسلولة لا نشيمها
فإن قصيًّا أهل عزّ ونجدة ... وأهل فعالٍ لا يُرامُ قديمها
هم منعوا يومي عُكاظ نساءنا ... كما منع الشول الهجان قرومها1
ونظرًا لأثر شعر الهجاء في الناس، من أفراد وقبائل، صاروا يصطنعون الشعراء ويحسنون جهدهم إليهم خشية ألسنتهم، يفعلون ذلك بشعرائهم وبشعراء القبائل الأخرى ممن يخشون سلاطة ألسنتهم. يفعلون ذلك حتى إذا كان الشاعر قد أساء إليهم، على أمل التكفير عن ذنبه، بمدحهم بشعر ينفي أثر ما قاله فيهم من هجاء. حتى إنهم كانوا يعفون عن شاعر قد يقع أسيرًا في أيديهم، إذا أعطاهم العهود والمواثيق ألا يعود إلى هجوهم، وألا يقول شعرًا في ذمهم. وقد يغدقون عليه بالهدايا والألطاف تأليفًا للسانه، وأملا في مدحه لهم، والقاعدة عندهم أن أثر الهجاء يمحوه المدح.
وبين الشعر الجاهلي والشعر والإسلامي فروق واضحة في الأسلوب وفي الاتجاه وفي الجزالة واختيار الكلمات، اقتضتها طبيعة اختلاف الزمان وتغير الحال واتصال العرب بغيرهم، وخلود أكثرهم إلى الحضارة، إلى غير ذلك من أسباب.
ومما امتاز فيه الشعر الجاهلي عن الشعر الإسلامي، هو أن شعراءه كانوا من العرب، إلا بضعة شعراء، كانوا من أصل خليط، مثل الأغربة، الذين كانت أمهاتهم من أصل إفريقي ولا أعلم اسم شاعر جاهلي، يرجع أصله إلى فارس أو الروم، إلا ما ذكره ابن الكلبي من أمر "خرخسرة". أما في الإسلام فقد زاحم الفرس بصورة خاصة العرب على تراثهم التليد، وهو الشعر، برز منهم فيه فحول، طوروا الشعر ولونوه، وأضافوا إليه معاني جديدة، اقتضتها
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 84 وما بعدها".(17/116)
طبيعة الامتزاج بين العقليتين والتطور الاجتماعي الجديد الذي ظهر في المجتمع الجديد، مجتمع العرب والموالي.
ولعلماء الشعر آراء في الشعر الجاهلي وفي شعراء الجاهلية، وفي شعرهم وفي الاستشهاد بالشعر الجاهلي. ولهم آراء في ذلك دونوها في كتبهم. من ذلك أن العرب كانت لا تروي شعر شاعر، أو لا تعجب به إذا كانت ألفاظه ليست نجدية، ذكروا أن "العرب لا تروي شعر أبي داود وعدي بن زيد. وذلك لأن ألفاظهما ليست بنجدية"1. وذكروا عن شعر عدي بن زيد العبادي، أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية. وكان نصرانيًّا من عباد الحيرة قد قرأ الكتب"2. وقالوا عنه أيضًا "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جدًّا، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة"3.
وجزالة الألفاظ وشدة وقعها على الأسماع وغرابتها، هي من أهم المعايير التي اتخذها علماء الشعر في تقدير قيم الشعر الجاهلي، والقصيدة الجيدة الحسنة هي القصيدة الجزلة الفخمة الألفاظ التي لا تتسم بالسهولة واللِّيونة، والتي لا تفهم إلا بالرجوع إلى الشروح والتعليقات والإيماءات والإشارات. ومن هنا فَوَّقُوا شعر الأعراب على شعر الحضر، لوجود لين في شعر أهل المدر، ولسهولته، ومن هنا قالوا: إن في شعر قريش لينًا وسهولة، وفي شعر أهل الحيرة وأهل القرى مثل ذلك.
وقد تعرض ابن رشيق لموضوع الشعر الجاهلي القديم والشعر الإسلامي المحدث، فقال: "إنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين ابتدأا: هذا بناه فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه فالكلفة ظاهرة على هذا وأن حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن"4.
__________
1 الشعر والشعراء "121".
2 الشعر والشعراء "115"، الأغاني "15/ 93".
3 الشعر والشعراء "111".
4 العمدة "1/ 57".(17/117)
الْخَمْرُ والشِّعْرُ:
وقد كان الشعراء يقبلون على شرب الخمر، إقبال أكثر الجاهليين على شربها(17/117)
لتُنْسِيهم همومهم وفقرهم، حتى إن منهم من كان يبيع ما عنده ليشتري الخمر. وقد كان الشعراء يشربون ليستوحوا الوحي من الشرب، حتى إن الأعشى لما قدم ليسلم، فقيل له: إن الإسلام يحرم الخمر، توقف، ولم يسلم، إذ شق عليه هذا التحريم، ولم يتمكن بعضهم من تركها، فحدُّوا على شربها. وقد هرب ربيعة بن أمية بن خلف الجحمي، من بلاد الإسلام ولحق بالروم، لأن عمر جلده الحد في الخمر، وكان من آنف العرب وأسخاهم، فحلف أن لا يقيم بأرض حد فيها ولا يدين من حده، فحمله الأنف إلى أن آتى الروم فمات بها نصرنيًّا1. ويروى أنه قال:
لحقت بأرض الروم غير مفكر ... بترك صلاة من عشاء ولا ظهر
فلا تتركوني من صبوح مدامة ... فما حرم الله السُّلاف من الخمرِ
إذا أمرت تيم بن مرة فيكم ... فلا خيرَ في أرضِ الحجازِ ولا مصر
فإن يك إسلامي هو الحق والهدى ... فإني قد خليته لأبي بكر
ويذكر المعري أنه قد جرى له مع أبي بكر خَطْب، فلحق بالروم2.
__________
1 الاشتقاق "80 وما بعدها"، الأغاني "13/ 112".
2 رسالة الغفران "440 وما بعدها".(17/118)
شَيطَانُ الشَّاعِرِ:
ولا بد لي من أن أشير إلى ما كان يعتقده الجاهليون من أن الشعراء كانوا يستلهمون وحيهم بالشعر من شيطان، كنوا عنه بـ"شيطان الشاعر". فقالوا: "لكل شاعر شيطان". وهم يعبرون بذلك عن الحس الذي يصيب كل إنسان حساس شاعر عندما يهز مشاعره وإحساسه شيء ما يؤثر عليه فيستولي على عقله وشعوره ويستهويه، ولا يتركه يستقر ويهجع حتى يعبر عن شعوره هذا الذي يسطر عليه وملكه، بشعر يأتيه وكأنه وحي ينزل عليه تنزيلا، وعندئذ فقط يستقر ويهجع، بعد أن يكون قد نسب هذا الشعور المرهف الذي ألَمَّ به إلى وحي شياطين الشعر.(17/118)
وكان الكهناء، يقولون في الجاهلية: إن الشياطين كانت تأتيهم1، فهم مثل الشعراء يعتقدون بأن وحيًا يوحي إليهم بما يقولونه للناس، يتجلى لهم على صورة "رئي"، الرئي يقول سجعًا، والشيطان ينظم شعرًا.
وقد بلغ من اعتقاد بعضهم بوجود شياطين الشاعر أن رووا قصصًا تذكر كيف أن شياطين الشعر كانوا يعلمون الشعراء قول الشعر حين ينحبس الشعر عنهم وحين تقف قريحتهم حتى ليصعب على الشاعر أن ينظم بيتًا واحدًا، حتى إذا حار في أمره، استجار بشيطانه وتوسل إليه لإنقاذه من محنته، فيرِقَّ شيطانه عليه، ويلقي عليه الشعر إلقاء فيأتي على لسان الشاعر وكأنه سيل متدفق. ولاعتقاد الشعراء هذا بوجود قرين لهم من الشياطين، أو من الجن، سموا شياطينهم بأسماء، فكان اسم شيطان الأعشى "مسحلا"، وقيل هو تابعه وجنِّه الذي كان يوحي إليه بالشعر. كما أشار هو إليه في شعره:
دعوت خليلي مسحلا، ودعوا له ... جهنام، جدعًا للهجين المذمم2
وللأعشى أشعار أخرى ذكر فيها فضل شيطانه عليه في قول الشعر. من ذلك قوله:
وما كنت ذا قول ولكن حسبتني ... إذ مسحل يبري لي القول أنطق
خليلان فيما بيننا من مودة ... شريكان جني وإنس موفق3
وجنّه هو الذي حباه بموهبة الشعر، وبفيض الخواطر، ينظمه كلامًا محبوكًا، فهو يشكره ويفديه بنفسه:
حباني أخي الجني نفسي فداؤه ... بأفيح جياش العشيات مرجم4.
واسم هاجس الأعشى وشيطانه "مسحل بن أوثاثة"، وكان هو الذي يلقي الشعر على لسان الأعشى. وقد رآه الأعشى ودخل خباءه وهو من شَعْر،
__________
1 مجالس ثعلب "20".
2 اللسان "11/ 331"، ثمار القلوب "70"، "جهغام جدعا" الحيوان "6/ 226".
3 ثمار القلوب "70".
4 ثمار القلوب "70"، الحيوان "6/ 226".(17/119)
وكان الأعشى في أول أرض اليمن يريد الذهاب إلى قيس بن معديكرب بحضرموت، فضل طريقه، فابصر هذا الخباء، فذهب إليه، وسأله الشيخ أن ينشده شعرًا، فكان إذا تلا عليه مطلع القصيدة أوقفه، واستدعى جارية من جواريه لتتلو عليه بقية القصيدة، حتى سُقِط في يدي الأعشى وتحيَّر، واغتشته رعدة، فلما رأى الشيخ ما حلَّ به، قال: "ليفرج روعك أبا بصير، أنا هاجسك مسحل بن أوثاثة الذي ألقي على لسانك الشعر". ثم ودَّعه وأرشده الطريق1.
وكان للأعشى شيطان، اسمه جهنَّام، وهو تابعة، أي شيطانة أنثى. وكان لقب عمرو بن قطن من بني سعد بن قيس بن ثعلبة، وكان يهاجي الأعشى، وقال فيه الأعشى:
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له ... جهنام جدعًا للهجين المذلل2
وقيل إن جهنام كان شيطان الأعشى الأول، ثم اتخذ الأعشى مسحلا بعده 3.
وزعم أن امرئ القيس كانت له قصائد ومطارحات مع عمرو الجني. وأن اسم شيطان امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ. وأن اسم شيطان عبيد بن الأبرص هو هبيد، وهو اسم شيطان بشير بن أبي خازم؟ بشر بن أبي خازم كذلك. وأن اسم شيطان النابغة الذبياني، هو هاذر بن ماهر، وأن اسم شيطان المخبل السعدي، هو عمرو4.
وقد بقي هذا الاعتقاد في شياطين الشعراء إلى الإسلام، فكان الشيطان الذي يلقي الشعر إلى جرير هو إبليس الأباليس، وكان اسم شيطان الفرزدق عمرًا، واسم شيطان بشار بن برد شنقناق. وكان جني حسان وصاحبه الذي يوحي إليه الشعر من بني شيصبان، "وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه، وتعينها عليه، وتدعي أن
__________
1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 968 وما بعدها".
2 تاج العروس "8/ 235"، "جهنام".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 50".
4 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 51". الشنقيطي، شرح المعلقات العشر "8".(17/120)
لكل فحل منهم شيطانًا يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود"1، وورد أن الفرزدق كان يرى أن للشعر شيطانين، يدعى أحدهما: الهوبر، والآخر: الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره2.
وقد زعم أبو النجم أن شيطانه الذي يوحي إليه الشعر شيطان ذكر، أما شياطين بقية الشعراء فإناث:
إني وكل شاعرٍ من البشرِ ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
فما يراني شاعرٌ إلا استتر ... فعل نجوم الليلِ عاين القمر3
وقال آخر:
إني وإن كنت صغير السن ... وكان في العين نبو عني
فإن شيطاني أميُر الجنّ ... يذهب بي في الشعر كل فن4
وروي أن السعلاة لقيت حسان بن ثابت في بعض طرقات المدينة، وهو غلام قبل أن يقول الشعر، فبركت على صدره، وقالت أنت الذي يرجو قومك أن تكون شاعرهم؟ قال: نعم. قالت: فأنشدني ثلاثة أبيات على روي واحد وإلا قتلتك، فقال:
إذا ماترعرع فينا الغلام ... فما أن يقال له من هوه
إذا لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشيصبان ... فحينًا أقول وحينًا هوه5
فخلت سبيله. فهذا الأبيات هي على زعم أهل الأخبار أول شعر حسان. قالها بوحي من شيطانه الشيصبان.
__________
1 ثمار القلوب "69 وما بعدها".
2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 51".
3 الحيوان "6/ 229"، ثمار القلوب "71"، ديوان المعاني "1/ 113"، الراغب، محاضرات "1/ 280".
4 ثمار القلوب "72"، الخصائص "1/ 225".
5 الخزانة "1/ 418 وما بعدها"، "بولاق".(17/121)
وليس هذا الشيطان الذي تصوره الجاهليون، يلهم الشعراء وحيهم ويلقي إليهم الشعر إلقاء بقذفه في قلوبهم، ليخرج على ألسنتهم، هو من وحي الجاهليين ومن تخيلاتهم وتخرصاتهم وحدهم، بل هو شيء معروف عند غيرهم أيضًا. فقد تصور اليونان أن للشعر آلهة تقذف الشعر في نفوس الشعراء، فينطلق على ألسنتهم1. والرئي الذي يوحي إلى الكاهن علمه بالكهانة، هو ضرب من هذه الشياطين التي تخيلوها للشعراء، فبفضل الرئي يقول الكاهن سجعه لمن يطلب منه أن يتكهن عن أمر سأله عنه، وهو يجيب السائل بما يلقيه رئية عليه، يلقيه سجعًا، أما شيطان الشاعر، فيلقيه على شاعره شعرًا، ومن هنا وقع الفرق بين قول الشاعر وبين قول الكاهن.
وكانوا يسمون الشعراء كلاب الحي، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم:
وقد هرَّت كلاب الحي منَّا ... وشذبنا قتادة من يلينا2
وأما كلاب الجن، فشعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم3.
__________
1 B. Snell, Die Entdeckung des Geistes, Hamburg, 1946, S. 117. ff.
2 الحيوان "1/ 350".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 52".(17/122)
الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر
مدخل
...
الفَصْلُ السَّابِعُ والأرْبَعونَ بَعَدَ المائَةِ: حَدُّ الشِّعْرِ
عرف علماء العربية الشعر بقولهم: "والشعر: منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرًا من حيث غلب الفقه على علم الشعر". وعرَّف الأزهري الشعر بقوله: "الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم"1. وعرفه ابن خلدون بقوله: "الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والرَّوي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العربية المخصوصة به". فهو يجعل التقفية والوزن من شروط الشعر، ويشترط أيضًا استقلال كل بيت منها بغرضه2.
وعرف بأنه الكلام المقفى الموزون قصدًا، والتقييد بالقصد مُخْرِج ما وقع موزونًا إتفاقًا، فلا يسمى شعرًا3. وقد قصد بهذا التعريف الإسلامي، إخراج من قال الشعر اتفاقًا لا عن قصد واحتراف. بل عفوًا وسجية. ولما جاء في القرآن الكريم، من رمي المشركين للرسول بأنه شاعر بقول الشعر، فنزل الوحي
__________
1 اللسان "4/ 410"، "صادر"، "شعر"، الصاحبي، "273".
2 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 59".
3 إرشاد الساري "9/ 88".(17/123)
بنفي ذلك عنه. وحدد العلماء صفة الشاعر بأنه الذي يحترف الشعر ويقوله قصدًا، حتى لا تنطبق هذه الصفة على من يقول سطرًا بوزن اتفاقًا من غير قصد1.
وقد عرفه بعضهم بقوله: "الشعر كلام موزون مقفى، دالٌّ على معنى، ويكون أكثر من بيت"2. وهو تعريف وضعه علماء الشعر في الإسلام، وهو لا ينطبق بالطبع على وصف الشعر عند الأعاجم من الآريين والساميين، لأن للشعر عند هذه الأمم مفاهيم آخرى، تختلف باختلاف وجهة نظرها إلى الشعر. فقد يكون الشعر سجعًا عند الأمم الأخرى، وتعد الأمثال عند بعض الشعوب في جملة أبواب الشعر3، كما أنه لا يمكن أن ينطبق على الشعر الجاهلي القديم، إذ ليس في استطاعة أحد حق التحدث عن الشعر الجاهلي المتقدم على شعر أقدم من وصل اسمه إلينا من الشعراء الجاهليين، لعدم وجود نصوص مدونة أو مروية عن ذلك الشعر، وما دمنا لا نملك نصوصًا منه، فلا حق لنا إذن في التحدث عنه.
وعندي أن الشعر الجاهلي المروي والمدون في المؤلفات الإسلامية ببحوره المعروفة إنما يمثل المرحلة الأخيرة من مراحل تطور هذا الشعر، أي مرحلة الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، ولكننا لا نستطيع كما قلت سابقًا الزعم بأن الشعر الجاهلي الأقدم كان على نفس هذه البحور، أي أنه كان متمسكًا بالوزن والقافية إذ من الجائز أن يكون قد كان على شاكلة الشعر القديم الذي نظمه الشعراء الساميون، من عدم تقيد بالقافية وبوزن الأبيات، كما نجد ذلك في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى وإنما كانوا يراعون فيه النغم، بحيث يتغنى به، أو التأثير في العواطف، بمراعاة نسق الكلام المبني على البلاغة. ولهذا عد السجع نوعًا من أنواع الشعر، لأن في السجع من الوصف والعاطفة والحس ومعالجة الموضوع، ما يجعله شعرًا، وفي بعضه نغم يجعله صالحًا لأن يتغنى به، وبين الغناء والشعر صلة ونسب. وقد جعل بعض العلماء الشعر وليدًا من أولاد الغناء، لأن الشعوب القديمة كالبابليين، والمصريين، واليونيين والعبرانيين، كانت تقرن شعرها بالموسيقى، وعرف هذا الشعر بالإنشاد، وقد كان الإنشاد في المعابد، نوعًا من
__________
1 الصاحبي "273".
2 المزهر "2/ 469"، "النوع التاسع والأربعون، معرفة الشعر والشعراء".
3 The Bible Dictionary, II, p. 305.(17/124)
التراتيل الموجهة الآلهة، كما كان يستخدم في الحروب. ولهذا رأى العلماء أن الموسيقى، أولدت الإنشاد، والإنشاد هو والد الشعر.
والشعر معروف عند كل شعوب العالم، معروف موجود حتى عند الشعوب البدائية، لأنه نوع من أنواع التعبير عن الحس. والإنسان مهما كانت ثقافته ومنزلته لابد له من التعبير عن إحساساته بمختلف الصور، وبشتى الوسائل، من كلام أو تدوين أو نقش أو صراخ أو غناء أو رمز، إلى غير ذلك من الأنواع وفي جملتها الشعر. فهو لا يخص إذن شعبًا معينًا، ولا جنسًا خاصًّا، وإنما هو تعبير إنساني، يؤديه كل إنسان، متى كانت عنده المواهب ووجد عنده الحس المرهف الذي يدفعه إلى تأليف الشعر دفعًا، يؤديه على نحو ما يتأثر به إحساسه وذوقه، في أسلوب يختلف عن الكلام المعتاد المألوف، ولكنه ليس على نمط واحد عند جميع البشر، فقد يكون الشعر شعرًا عند أمة، وهو ليس شعرًا عند أمم أخرى، والمصطلح العربي الذي ذكرته للشعر، يختلف عن المصطلح المفهوم للشعر عند اليونان مثلا أو عند الرمان أو عند البابليين، كما أن أبوابه وأنواعه قد تختلف بين أمة وأخرى.
فقد كان العبرانيون يحبون الشعر، حب العرب له، ويقولون له: "هـ - ش"، أي الشعر وكانوا ينظمون أشعارًا رتلوها في مختلف المناسبات، في الأفراح وفي الأتراح في المدح وفي الهجاء، وفي الغزل وفي الوصف، وفي تمجيد الرب، وكانوا يستعينون بالشعر في القتال، ينشدونه في قتالهم ويجعلونه عونًا لهم في شحذ الهمم وفي تقوية العزائم للنصر، كما نرى ذلك في أسفار التوراة1. ونجد ثلث التوراة شعرًا، لا سيما في أسفار أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد. وفي مواضع من "التكوين" وكتب الأنبياء. ولكن شعرهم ليس وزنًا وقافية، على نمط الشعر العربي، بل هو شعر من طراز آخر. هو شعر بالنسبة للعبرانيين، وهو ليس بشعر بالنسبة لمصطلحنا المحدد للشعر.
وقد بدأ الشعر بداية متحررة، فلم يكن الإنسان في بادئ أمره بالشعر يتقيد بالوزن والقافية، وإنما كان يميز بينه وبين النثر بالنغم الذي يجعله فيه، وبالنبرات
__________
1 الخروج، الإصحاح 15، والقضاة، الإصحاح الخامس وفي المزامير.(17/125)
التي يخرجها مخارج الغناء، ولهذا نجد المقطوعات الشعرية القديمة التي وصلت إلينا مدونة في كتابات مختلف الشعوب لا تشبه الشعر المعروف، إذ فيه تحرر، وفيه اعتماد على الترنم والإنشاد وعلى فن الإلقاء، أما الاعتبارات الفنية المعروفة، فهي من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلُّوا الوزن محل الإلقاء، ووضعوا قواعد فنية في نظم الشعر. فلم تكن الأبيات الشعرية في الشعر القديم متساوية، ولم تكن هناك قوافي بالضرورة، حتى إنك لا تستطيع تمييز القطعة الشعرية عن غيرها، إلا بالإنشاد 1.
والشعر من أقدم الأحاسيس التي عبر بها الإنسان عن نفسه، فهو يعبر عن عواطفه وعن أحاسيسه، من سرور أو حزن، أو ألم, عن اهتمامه بالأمور وعن تصوراته، وعن كل ما يدور في رأسه من أمور تسترعي حسه، فيشعر عندئذ بالترفيه عنه بإخراجها كلامًا فيه نغم "Rhythm"، أي إيقاع ووزن، وفيه توازن ونظام بين أجزائه، على غرار ما يفعله الراقص في رقصه، من إقران رقصه بحركات موزونة. وهو من العواطف المولودة في الإنسان. ولهذا تعد العواطف التي يعبر بها الإنسان عن نفسه شعرًا، وإن خرجت بغير بحور، وبدون وزن ولا قافية ففي كلام سارة: "وقالت سارة قد أنشأ الله لي فرحًا فكل من سمع يفرح لي، وقالت من كان يقول لإبراهيم إن سارة سترضع ابنًا، فقد ولدت ابنًا في شيخوخته"2، وفي الآيات: "ثم أخذت مريم النبية أخت هارون الدف في يدها وخرجت النساء كلهن وراءها بدفوف ورقص. فجاوبتهم مريم: سبحوا الرب، لأنه قد تعظم بالمجد. الفرس وراكبه طرحهما في البحر"3، وفي مباركة يعقوب أبناءه عند شعوره بدنو أجله، وفي كلام موسى حين قهر فرعون، معانٍ شعرية، وتعد من أقدم أنواع الشعر السامي التصويري.
وذلك لأن الشعر السامي القديم، لم يكن يتقيد بالقافية "phyme"، ولا بالتفعيلات "feets" أو بالمقاطع القصيرة "short syllables"، وإن حاول ولا سيما
__________
1 Hastings, dictionaryof the Bible, Vol, IV, p. 7.
2 التكوين، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية "6 وما بعدها".
3 الخروج، الإصحاح الخامس عشر، الآية "20 وما بعدها".(17/126)
فيما بعد، أن يضع في كل شطر أو بيت عددًا من الكلمات أو المقاطع، يعادل ما يضعه في الشطر أو البيت الثاني منها، ليتولد من ذلك الوزن1.
ويقسم الغربيون الشعر عادة إلى "Epic"، وهو شعر الملاحم، حيث يمتاز بطول قصائده وفخامة أسلوبه، وبقصصه الذي يدور حول أبطال الملحمة والأحداث التي تعرض لها هذا النوع من الشعر. وشعر يقال له "Dramatic"، وهو شعر مسرحي، أي تمثيلي. وشعر يقال له "Lyric"، وهو شعر غنائي. وشعر يقال له "Didactic"، وهو شعر تعليمي، أريد به التعليم ووعظ الإنسان. ونجد النوع الأول منه عند اليونان والرومان والهنود والفرس والألمان وهم من الشعوب الهندو أوروبية، أي الشعوب الآرية.
ولا نجد من شعر الملاحم، ومن شعر "الدراما" في التوراة، ولكننا نجد ما يشبه "الدراما" "Semi Dramatic" في سفر أيوب، ويكثر الشعر الغنائي المعد للترتيل Lyric فيه. ففي كلمات موسى على البحر الأحمر، التي تمثل غناء النصر "Triumphal Odes"، وفي غناء "دبوره" "Deborah"، وفي المزامير، أشعار غنائية معدة للتراتيل2.
وقد أشير إلى إنشاد الشعر جماعة في التوراة، فلما وصل العبرانيون إلى البئر التي قال الرب فيها لموسى اجمع الشعب حتى أعطيهم ماء، وحينئذ ترنم اسرائيل بهذا النشيد: اصعدي يا بئر تجاوبوا لها. بئر احتفرها الرؤساء، احتفرها أشراف الشعب بمخصرة عصيهم"3. وقد لازم الترنم الشعر منذ أوائل أيامه، ففي الترنم به تقوية له. وما النغم سوى إيقاع يجعله نوعًا من أنواع الغناء "نوطته" التفعيلات التي تكوِّن بحوره في الأدب العربي. ولهذا نجد الشعر قد رافق الغناء بل هو نوع منه منذ نشأته.
ونجد القديس نيلوس "Nilus" "المتوفى حوالي سنة 430م"، يصف غارة بدوية على دير سيناء وقعت سنة 410م، وتحدث في أثناء حديثه عنها عن إنشاد الأعراب أناشيد بترانيم عندما كانوا يأخذون الماء، وهي ترانيم لم يشر
__________
1 John D. Davis A Dictionaryof the Bible, London, 1958, p. 616.
2 John D. Davis, A Dictionary of the Bible, p. 616.
3 العدد، الإصحاح 21، الآية 16 وما بعدها.(17/127)
القديس إلى نوعها، ولكني لا أستبعد أن تكون من الرجز، الذي يقال في المناسبات، في استنباط الماء، وفي حفر الآبار. أو رفع الأثقال، أو في بناء، وأمثال ذلك مما لا يزال مألوفًا، ويشاهد حتى بين أهل القرى. وإن كان بعضها ترانيم غير فنية ولا مصقولة، ولكنها ذات إيقاع على كل حال1.
ومن هذا القبيل الأشعار التي أنشدها العرب في انتصارهم على الرومان سنة 372م، والتي أشار إليها المؤرخ "سوزومن" في كتابه "تأريخ الكنيسة"، فقد ذكر أن العرب كانوا ينشدون الشعر في قتالهم هذا مع الرومان2. والواقع أننا لا نكاد نقرأ خبر معركة إلا ونجد الشعر فيها في مقدمة الأسلحة التي تستخدم فيها، وقد يسبق السيف في الضرب، حيث يخرج الفارس وهو يرتجز رجزًا يشيد بنفسه، وبقومه، مهونًا من أمر من سينازله ثم يقابله من يتبارى معه برجز آخر، يشيد فيه بنفسه، ردًّا على خصمه.
والشعر العبراني القديم نوعان: النوع المعد للترتيل، والنوع التعليمي. ومن النوع الأول المزامير، ومن النوع الثاني الأقسام الشعرية من كتب الأنبياء. والمزامير "Psalms" هي من أفصح الأشعار الدينية في التوراة، وهي تعبر عن الحس الديني عند الإنسان، وعن شعور البشر تجاه خالقهم، وهي تمجيد وحمد له، واعتراف بضعف الإنسان تجاه خالقه، فهو يرتل فيها حمد الله والثناء عليه. أما الأمثال والجامعة، وبعض أقسام كتب الأنبياء، فهي وإن كانت دينية في الأصل، إلا أنها وضعت لغايات تعليمية، لإرشاد الناس وتقديم النصح لهم.
ولا توجد القوافي والبحور في هذا الشعر، ومع أن بعض الأشعار العبرانية قد نظمت أحيانًا على الحروف الأبجدية، لكن أشطرها لم تتضمن عددًا مماثلا من المقاطع، ليتولد منها الوزن، أي النغم. وإنما نظمت على مقابلة الأفكار في الشطر الأول والثاني، أو في الشطرين الأولين والثالث، وقد يشرح فكر الشاعر على نوع مقابلة فكرين، إما لوجه المشابهة بينهما، وإما لوجه المخالفة بينهما. ومن أمثلة أوجه المشابهة:
__________
1 غرونباوم"133وما بعدها".
2 غرونباوم "134".(17/128)
فمن هو الإنسان حتى تذكره ... أو ابن آدم حتى تفتقده1
وما جاء في المزمور التاسع عشر من قوله:
السموات تحدث بمجدِ اللهِ ... والفلك يخبر بعمل يديه
يوم إلى يوم يذيع كلاما ... وليل إلى ليل يبدي علما2
ومن أوجه المخالفة بينهما:
لأن عاملي الشر يقطعون ... والذين ينتظرون الرَّب هم يرثون الأرض3
وما جاء في الأمثال:
الجواب اللين يصرف الغضبَ ... والكلام الموجعُ يهيج السخط
لسان الحكماء يحسن المعرفة ... وفم الجهال ينبع حماقة4
وقد ذهب بعض العلماء إلى وجود "التفاعيل، feet" و"الوزن، metre" في الشعر العبراني، وذهب بعض آخر إلى عدم وجود التفاعيل فيه وذهب بعض إلى وجود القافية "Rhyme" والوزن "Rhythm" في الشعر العبراني. وهو شعر يختلف عن شعرنا المألوف، وهو وإن أمكن تقسيمه إلى أشطر وأبيات، إلا أن له خصائص يختلف بها عن الشعر العربي. فنرى مثلا أن الأبيات في
__________
1 المزامير، المزمور الثامن، الآية4.
2 الآية: 1 وما بعدها.
3 المزمور 37، الآية: 9.
4 الأمثال. الإصحاح الخامس عشر، الآية: 1 وما بعدها".(17/129)
القصيدة العبرانية غير متساوية، فقد يطول فيها بيت، وقد يقصر فيها بيت آخر. وقد ترتب الأبيات على ترتيب حروف الهجاء، كما في الأمثال وفي المزامير1.
ومن أهم أبواب الشعر العِبْرَاني، باب يقال له: "parallelism" في الإنكليزية، أي التطابق، وهو أنواع. وقد بحث فيه العلماء2.
وقد يكون الشعر على صورة أفكار متسلسلة متتابعة، فتتقدم الفكرة تدريجيًّا، وتوضح الأبيات التالية السابقة مثل:
قاموس الرب كامل يرد النفس ... شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيمًا
وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب ... أمر الرب طاهر ينير العينين
خوف الرَّب نقي ثابت إلى الأبد ... أحكام الرب حق عادلة كلها
أشهى من الذهب والإبريز الكثير ... وأحلى من العسل وقطر الشهاد3
ومن أنواع الشعر في التوراة، ما نقول له "ترادف المتطابقات"Synonymous parallelism"، وذلك أن تكون فكرة الشطرين مترادفة، وكذلك المصطلحات الورادة فيهما، فترتبط فكرة الشطر الأول بالشطر الثاني من البيت، مثل: "وقال لآمك لامرأته عادة وصلة: اسمعا قولي يا امرأتي لآمك واصغيا لكلامي، إنني قتلت رجلا لجرحي وفتى لشدخي"4، فالشطر الأول هو: "وقال لآمك ... إلخ"، والشطر الثاني المتمِّم هو: "أنني قتلت رجلا لجرحي"، ومثل: "أنقذ من السيف نفسي. من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب لي"5. ومثل:
__________
1 The Bible Dictionary, vol, II, p. 305. ff.
2 John D. Davis, A Dictionary of the Bible, p. 616.
3 المزمور 19، الآية 7- 10، قاموس الكتاب المقدس "1/ 621".
4 التكوين، الإصحاح الرابع، الآية: 23".
5 المزامير، المزمور 22، الآية: 20 وما بعدها".(17/130)
كيف ألعن من لم يلعنه الله ... وكيف أشتم من لم يشتمه الرَّب1
وما نقول له بـ"تناقض المتطابقات"، أو "تضاد المتطابقات،Antithetic parallelism". وذلك أن يكون الشطر الثاني مثل الشطر الأول في احتوائه على الحقيقة، أي الفكرة، ولكنه جاء بها بصورة أخرى، أي متضادة Contrast. فالشكل مُتَطابق تمامًا، وأحد جزئي الشطر مترادف، أما الجزءان الآخران، فمتعارضان، وأكثر ما يقع ذلك في المثل:
الابن الحكيم يسر أباه ... والابن الجاهل حزن أمه2
ونوع آخر يقال له "الإيقاع المتصاعد"، أو "الوزن الصاعد"، "Ascending Rhythm" "Stair-like"، وهو شعر يرد في الشطر الثاني، منه جزء مما ورد في الشطر الأول، أو مختصر الشطر الأول، ليضاف عليه شيء جديد. مثل:
حتى يعبر شعبك يا يهوه ... حتى يعبر الشَّعب الذي اقتنيته3
ونوع يقال له "المتطابقات المركبة" "Synthetic Parallelism" أو "Constructive" وذلك بأن يكون ما يرد في الشطر الثاني مخالفًا، أو على الأكثر لما وَرَدَ في الشطر الأول: على أن المتطابقات في الشطرين تكون موجودة. مثل:
لا تجاوب الجاهل حسب حماقته ... لئلا تعدله أنت
جاوب الجاهل حسب حماقته ... لئلا يكون حكيمًا في عيني نفسه4
__________
1 العدد، الإصحاح 23، الآية: 8.
2 الأمثال، الإصحاح العاشر، الآية: 1.
3 الخروج، الإصحاح الخامس عشر، الآية: 16.
4 الأمثال، الأصحاح 26، الآية: 4.(17/131)
ومثل: ارفعن أيتها الأرتاج رءوسكن وارفعنها أيتها الأبواب الدَّهريات فيدخل ملك المجد.
من هو هذا ملك المجد، رب الجنود هو ملك المجد. سلاه 1.
ومن النوع المعروف بـ"Progressive parallelism"، ما ورد في "أيوب" من قوله: "هناك يَكُفُّ المنافقون عن الشغب وهناك يستريح المتعبون. الأسرى يطمئنون جميعًا، لا يسمعون صوت المسخر. الصغير كما الكبير، والعبد حر من سيده"2. وقد جاء الشطر الثاني بمعانٍ إيضاحية جديدة، لها صلة بما ورد في الشطر الأول من معنى3.
ومن النوع الذي يقال له: "Climatic parallelism"، ما ورد في "المزامير": "صوت الرَّب يولد الأيل، ويكشف الوعور وفي هيكله الكل قائل المجد، الرب بالطوفان جلس ويجلس الرب ملكًا إلى الأبد. الرب يعطي عزًّا لشعبه، الرب يبارك شعبه بالسلام"4، وقوله: صوت الرب بالقوة. صوت الرب بالجلال. صوت الرب مكسر الأرز ويكسر الرب أرز لبنان، ويمرحها مثل عجل. لبنان وسِرْيون مثل غرير البقر الوحشي"5. حيث تعاد الألفاظ فيه حسب سلم ارتفاع المعاني.
ويتكون الـ"Parallelism" في العادة من بيتين، أو شطرين، فهو من نوع "Distich"، غير أنه يتكون أحيانًا من ثلاثة أبيات "Tristichs"، ومن أربعة أبيات "tetrastichs"، ومن خمسة أبيات "Pentastichs".
ولا يرد الشعر العبراني على صورة مقطوعات أو قصائد بالضرورة، ومع ذلك فقد ورد في بعض المزامير على شكل قصيدة مكونة من ثلاثة أقسام متساوية يربط بين أجزائها رابط، هو بيت مكرر "Recurring verse". ونرى أن أحد المزامير قد تألف من ثلاث مقطوعات، كل قطعة منها بثلاثة أبيات، وفي
__________
1 المزامير، المزمور 24، الآية: 9 وما بعدها".
2 أيوب، الإصحاح الثالث، الآية: 17 وما بعدها".
3 Jond D. Davis, A Dictionary of the Bible, p. 616
4 المزامير، المزمور 29، الآية: 9 وما بعدها".
5 المزامير، المزمور 29، الآية: 5 وما بعدها".(17/132)
نهاية كل مجموعة علامة "سلاه" "Selah". وقد تنتهي المجموعتان بعبارة تتكرر على نحو موصول في قصيدة أو أغنية "Refrain"
ونجد في المزامير شعرًا ورد منظومًا على ترتيب الأبجدية، فقد ورد مكونًا من اثنتين وعشرين قطعة، أي بعدد حروف الهجاء، تكونت كل قطعة منها من ثمانية أبيات "Verses"، وتبدأ كل قطعة بالحرف العددي. ونجد أن الـ"Lamentations"، قد رتب على الحروف2، وهي مقاطع شعرية حزينة ومراثي "Elihies" تمثل شعر المراثي الأصيل "Threnody" في العبرانية. ويتوفق وزنها على بناء كل بيت ولكن البيت فيها لا يشبه بيت الشعر في اللغة اللاتينية من نوع الأبيات المكونة من ستة تفاعيل "Hexameter"، أو من الخماسي التفاعيل "Pentameter"، وإنما يتكون من خمسة ألفاظ أو ستة أو سبعة، مكونة ما يعادل أحد عشر مقطعًا "SyllabLes". يتكون كل بيت منها من شطرين غير متساويين أحدهما من ستة، والآخر من خمسة، أو من أربعة والآخر من ثلاثة، يفصل بينهما الإحساس والقواعد النحْوية3.
ونجد Sirach من أسفار "الأبوكريفا" "apocrypha"، وقد نظم على هيئة "دوبيت" Stichoi من حيث الوزن وعدد المقاطع. وهو من الشعر التعليمي: "Diadactic".
وقد قسَّم بعض العلماء الشعر العِبْراني الوارد في التوراة إلى أقسام: شعر يتمثل بما ورد منه في أسفار "أيوب" "Job" وفي نشيد "سليمان"، ونوع يتمثل بما جاء في "المزامير" وهو شعر غنائي، أي يتغنى به، وقد ينشد على إيقاع "المزمار"، وهو يقال له "Lyric" في الإنكليزية، وشعر ثالث يتمثل في "الأمثال" وفي أسفار الحكمة "Ecclesiaticus" التي هي في التهذيب وفي تعليم الإنسان "Didactic"، وفي الحكم الموجزة المفيدة "Sententious". والنوع الأول هو شعر فني، وأما النوع الثاني فمختصر موجز، نظم لينشد، ولكل قسم طرق وبحور5.
__________
1 المزامير، المزمور الرابع والعشرون، المزمور السادس والثلاثون.
2 Jond D. Davis, A Dictionary of the Bible, p. 616
3 Hastings, p. 527.
4 Hastings, vol, 4, p. 7.
5 The Bible Dictionary, Vol, II, p. 305.(17/133)
ولأجل إحلال الإيقاع أو النغم في الشعر، فقد يضطر أحيانًا إلى مزج كلمتين قصيرتين، ليتلفظ بهما ككلمة واحدة. كما يفعل ذلك لأسباب أخرى منها مراعاة "القافية" التي يقال لها "ميفق، مقف، Maqqeph" في العبرانية. أما إذا كان العكس، وذلك بأن تكون الكلمة ثقيلة وطويلة، فقد تقرأ وكأنها ذات مقطعين، أو جزءين.
وإذا كان الشعر مؤلفًا من أبيات عديدة، تكون وِحْدة واحدة، فيطلق عليها "مقطوعة شعرية" "strophe". ولكن المراد بها في الغالب القطعة الكبيرة من الشعر، أي "القصيدة". وأما الشعر القصير، المؤلف من بيتين، أي من "دوبيت" وهو يقال له: "Couplet" أو "Distich" في الإنكليزية، فإنه يكون الطابع الغالب على الشعر في هذه اللغة. يتكون من "Parallelism"، أي "موازنات" أو "متطابقات". وقد نظمت الأشطر والأبيات، بحيث تتناسب فيما بينها في الألفاظ والجمل والمعاني. فيرد في الشطر الثاني جزء مما ورد في الشطر الأول بنصه أو باختيار لفظة منه، لتذكير القارئ بالشطر المتقدم، فيتخرط مراد ذلك الشطر1.
ونجد في التوراة قطعاً عدَّها العلماء مقطعات شعرية، بينما هي خالية من النغم، أي الوزن، ونجد قطعًا ذات نغمة موسيقية، أي ذات وزن، فهي من الشعر الصحيح، المقرون بنغم. والنوع الأول هو نثر "Prose" خالص، لكنه يمتاز عن النثر المألوف باستعماله المجاز والاستعارة والكتابة والتعابير الفنية والألفاظ المؤثرة في التعبير عن الرأي. فهو يعبر عن شعور عميق كامن في النفس بأسلوب أدبي رفيع لذلك عدَّ من الشعر، مع أنه نثر في الواقع.
ويتكون البيت من شطرين. ومن مقاطع "Stanza" ومن "Strophe"، أي مقطوعة. ويتكون الشطر والبيت من مقاطع، أي من ألفاظ نظمت بعضها إلى بعض بحيث إذا ما قرئت بصوت مرتفع، فإنها تقرأ بنغمة، وبموسيقى مؤثرة. ويتقضى ذلك تنظيم الألفاظ والمقاطع بشكل منسق ذي نغم، لتتولد منه موسيقية الشعر. فللشعر ارتباط وثيق بالموسيقى والغناء. ونجد موسيقى الأشطر والأبيات متناسبة ومن إيقاع واحد، أي من بحر واحد، وتحافظ القطعة الشعرية،
__________
1 Hastings, p. 737, "Poertry"(17/134)
على هذه الموسيقى، حتى لا يقع تنافر فيها، فتبدو متنافرة نابية على السمع، فلا تعدُّ شعرًا من صميم الشعر.
ويدخل "الترنيم" في باب الشعر الذي يقرأ مع الموسيقى، وتعد الأمثال في جملة أنوع الشعر. ونظرًا لعدمِ وجود نصوص شعرية في العبرانية، وفي اللغات السامية، مدوَّنة بصورة واضحة تبين مقاطعها كيفية التغني أو النطق بها، ونظرًا لجهلنا أصول الإيقاع عند القدماء وطرق الغناء التي تغنى بها، ليس من السهل علينا في الوقت الحاضر إبداء رأي واضح عن الشعر عن قدماء الساميين، وفي جملتهم العرب بالطبع.
فنحن لا نعرف اليوم عن الشعر العربي القديم، الذي سبق الإسلام بعصور كثيرة، أي شيء. وليس في النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا، نص فيه شعر أو فيه تلميح عنه. وكل ما يقال عنه، هو حدس وتخمين وظن وقياس قيس على ما نعرفه عن الشعر عند بقية الساميين، وما نعرفه عن ذلك الشعر هو بحد ذاته شيء قليل. وما لم يعثر على نصوص شعرية جاهلية، فإن من غير الممكن التحدث عنه بشيء ذي بال.
والشعر هو شعور وتعبير عن أحاسيس وخواطر قائله، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يتناسب مستواه من الرقي أو السَّذَاجة مع مستوى الشاعر العقلي. ومعنى هذا أنه بدأ ساذَجًا بسيطًا، ثم نما وتطور بنمو وتطور عقل قائله. وعلى هذا فشعر كل أمة بدأ كما يبدأ كل مولود ساذجًا بسيطًا، ثم نما وتطور، وهو لا يزال يتطور ما دام العقل الإنساني خاضعًا لسنة التطور، وما دام الإنسان حيًّا. ولد من هذا الكلام الاعتيادي المرسل المنثور، بأن ميز عنه بعض التمييز، ثم زادت هذه الميزات أو العلامات الفارقة، حتى صار صنوًا للنثر، بحيث صار الكلام نثرًا ونظمًا.
وقد أشير إلى الشعراء في العهد الجديد، أي في الإنجيل. ورد في "أعمال الرسل" "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد. كما قال بعض شعرائكم أيضًا"1 مما يدل على أهمية الشعراء في ذلك العهد.
__________
1 أعمال الرسل، الإصحاح السابع عشر، الآية: 28".(17/135)
والشعر أوقع أثرًا على النفس من النثر، لما فيه من سحر النغم ومن جاذبية في الموسيقى، ومن توازن وتطابق في بنائه، ومن انسجام في تكوين أجزائه، بحيث إذا أسقط جزء من شطر بيت أو وضع جزء غريب في موضع الساقط، وهو ليس في وزنه اختلَّ التوازن فيه أي النغم: ولهذا اقترن الشعر بالغناء، لوجود النغم فيه، والنغم من أساس الغناء. فكان الشاعر يترنم بشعره ويتغنى به، ويقرأه بنغمة خاصة ليؤثر بذلك على سامعيه، وقد يقرن ترنيمه هذا بتحريك رأسه أو يديه أو جسمه من شدة انفعاله وتأثره بشعوره، ليؤثر بذلك في السامعين فيشبه موقفه هذا موقف السَّحرة في الأيام القديمة. ونظرًا لتغني اليونان والرومان عند تلاوتهم أشعارهم، قالوا: غنَّى شعرًا، بمعنى نظم شعرًا1، أو قال شعرًا أو صنع شعرًا. ونحن نقول في عربيتنا "أنْشَدَ شعرًا، نريد: قال شعرًا، وقرأ شعرًا، وأنشد الشعر، قرأه, وأنشد بهم، أي هجاهم. "وفي الخبر أن السليطيين قالوا لغسان هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا. وتناشدوا أنشد بعضهم بعضا"2. و"النشيد رفع الصوت. قال أبو منصور: وإنما قيل للطالب ناشد لرفع صوته بالطلب، وكذلك المعرّف يرفع صوته بالتعريف يسمى منشدًا. ومن هذا إنشاد الشعر، وإنما هو رفع الصوت"3. وفي هذا التفسير دلالة على أن الشعراء كانوا يرفعون صوتهم عند قولهم الشعر ويترنمون به، والترنيم والترتيل والإنشاد من ألوان الغناء. ولا استبعد كون قدماء الشعراء الجاهليين كانوا يترنمون في أشعارهم، أي أنهم كانوا ينشدونها إنشادًا، بطريقة غنائية، قد تصاحب بآلة موسيقية، وربما كانوا يتغنون بالشعر أمام الأصنام، تمجيدًا لها وتقربًا إليها، ومن هنا جاء مصطلح: "أنشد شعرًا" ولا استبعد أن يكون هذا شأن العرب الجنونبيين في معابدهم، نظرًا لما كان لهم من معابد ضخمة وطقوس دينية وتقرب إلى الأصنام.
ولا يستبعد احتمال ترنيم بعض الشعراء الجاهليين شعرهم على نغم آلة من آلات الطرب، على نحو ما يفعله اليوم بعض الشعراء الذين ينشدون أشعارهم بالعامية على "الرباب" "الربابة"، ينشدونه عند أبواب البيوت في الأعياد وفي المناسبات،
__________
1 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 64".
2 تاج العروس "2/ 514"، "نشد".
3 تاج العروس "2/ 514"، "نشد".(17/136)
يستجدون به أصحاب البيت والناس الذين قد يجتمعون حولهم لسماع الغناء. وقد يكون هؤلاء من ترسبات أولئك الشعراء الجاهليين.
وقد بدأ الشعر بداية أي شعر آخر، بدأ بداية بسيطة، بدأ جملا مُقَفَّاة، الكلام فيه يوالي بعضه بعضًا على روي واحد. أي سجعًا1. أو كلامًا يشبهه، فيه نغم وإيقاع وتعبير عن إحساس. ثم تَفَنَّن فيه، وزيدت أنغامه، أي بحوره وأغلبها من الأنغام البسيطة السهلة، المتناسبة مع الحياة الأولية، ثم تقدم بتقدم الحياة، واتخذ صورًا متعددة تتناسب مع حياة الأمم وظروفها وعقلياتها، وماتت أوزان، وتولدت أوزان، وظهرت فيه أساليب عند أمة، لم تعرف عند أمم أخرى، لاختلاف الحياة والأذواق والأجواء التي يولد فيها الإنسان.
والشعر الجاهلي الواصل إلينا، إما أبيات، نسبت إلى شعراء، وقد لا تنسب، وإما جملة أبيت يقال لها: قطعة، Fragment"، وإما "قصيدة" "Ode" وهي ما زاد عدد أبياتها على حدود القطعة التي رسمها لها علماء الشعر.
وقد لعب السجع دورًا هاًًّا في حياة الجاهليين، تكلم به الكهان بصورة خاصة. ولهذا اشتهر وعرف باسمهم فقيل: سجع الكُهَّان، ونطق به الخطباء، وقد تعمقوا فيه فاستعملوا أقصى ما ملكته بلاغتهم من أساليب التأثير على النفوس، لسحر عقول المستمعين لهم. فصار نوع من أنواع الكلام المقفى، ظاهره القافية والروي، وباطنه سحر معاني الشعر. فهو في الواقع شعر مقفى ينقصه الوزن ليكون شعرًا تامًّا. والروي حرف القافية، الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، ويلزم في كل بيت منها في موضع واحد2. فلما أضيف إليه النغم، أي الوزن صار شعرًا، له أوزان وبحور، عل نغمها ينظم الشاعر شعره.
والسجع، وإن ظهر في عربيتنا كلام مقفى خالٍ من الوزن، إلا أنه في الواقع كلام موزون، روعي فيه، أن يكون الشطر الثاني من الجملة موازٍ أي مساوٍ للشطر الأول منها، بحيث يكون بوزنه وبقافيته. ومن هنا عدَّ شعرًا عند الأمم الأخرى لأنك إذا قرأت السجع الأصيل المعتنى به، أو السجع الذي استرسلت به السليقة، والخارج من قلب إنسان ذي حس مرهف، تجد فيه الميزان الصحيح
__________
1 تاج العروس "5/ 375"، "سجع".
2 تاج العروس "10/ 159"، "روي".(17/137)
والمقابلة التامة والمطابقة الصحيحة بين الأجزاء. كل كلمة فيه تقابل كلمة مثلها، وكل عيار فيه يقابله عيار في وزنه وثقله. وفي معانيه معانٍ شعرية وسحر بيان، ثم إنك إذا قرأته بصوت مرتفع، وبحركات صوتية ذات ترنم، بنغم فيه حركات وسكنات، صار شعرًا. ومن هنا رمت قريش الرسول بقول الشعر، وبأنه شاعر لما سمعت القرآن. فرد عليهم بقول تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} 1. و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2.
وما كانت قريش لترمي الرسول بقول الشعر، وتزعم أن القرآن شعر أو أن فيه شعرًا، لو أنها كانت تعتبر الشعر الكلام الموزون المقفى حسب ولا غير ولا تدخل التخيل فيه، أي المعنى الشعري. ومن هنا قال المفسرون: "لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس. أما من حيث اللفظ فظاهر، لأن الشعر كلام موزون مقفى، وألفاظ القرآن ليست كذلك، إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد. وأما من جهة التخيل، فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها"3. وهذا المذهب الذي ذهبت قريش فيه في تفسير الشعر، هو الذي حمل علماء التفسير على الاحتراس كثيرًا في تفسير معنى الشعر وفي تحديده، وتحديد مفهوم الشاعر. فقالوا: "الشعر وهو الكلام المقفى الموزون قصدًا. والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزونًا اتفاقًا، فلا يسمى شعرًا، وما يجوز من الرجز، وهو نوع من الشعر عند الأكثر"4.
على أن علماء العربية لم يغفلوا أو لم يشاءوا أن يخفوا حقيقة واقعة، هي أن
__________
1 سورة يس، الآية: 69، تفسير الطبري "23/ 18"، ابن كثير، تفسير "3/ 578 وما بعدها".
2 الحاقة، الآية: 40 وما بعدها"، تفسير الطبري "29/ 41".
3 تفسير النيسابوري، "29/ 37"، "حاشية على تفسير الطبري"، "بولاق". "وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا مفتعل ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال"، تفسير ابن كثير "3/ 578"، "في تفسر سورة يس".
4 إرشاد الساري "9/ 88".(17/138)
في القرآن آيات، إذا تأملت فيها وجدتها وكأنها شعر منظوم، أو من قبيل الشعر المنثور. مثل سورة الانفطار: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} 1
والجواب على ذلك، أن ما نجده في القرآن من آيات تبدو وكأنها شعر موزون، هو من قبيل ما يقع في كلام الناس عفوًا ومن غير تعمد من كلام، أو تأملت فيه وجدته كلامًا موزونًا، ولكن لم يقصد به أن يكون شعرًا، والشعر لا يعدُّ شعرًا إلا إذا كان قد صدر عن تفكر وعمل خاطر، وإعمال رأي، ومن رجل اتخذ الشعر صنعة له.
وليس لدى أحد علم بكيفية تطور الشعر العربي من حالته البدائية إلى بلوغه درجة البحور. ولا يستطيع أحد إثبات أن هذه البحور التي ثبتها الخليل والأخفش، وحدَّداها، هي كل بحور الشعر الجاهلي، فربما وجدت بحور أخرى لم يصل خبرها إلى علم هذين العالمين أو غيرهما، ولا سيما في الشعر القبلي الذي لم يشتهر أمره، ولم يعرف إلا بين السواد، ومنه الشعر العامي، أي الشعبي، أو المحلي، المنظوم باللهجات الخاصة، إذ لا يعقل عدم وجود شعر شعبي في ذلك العهد، نظمه سواد الناس، على غرار الشعر العامي الذي يقال له الشعر النبطي في جزيرة العرب، فالشعر هو شعور، ولا يقصر الشعور على طبقة من الناس دون أخرى.
ونحن لا نملك في الوقت الحاضر تعريفًا علميًّا للشعر، نستطيع أن نقول بجزم وبتأكيد أنه من تحديد الجاهليين له. والتعريف المألوف له، هو كما ذكرت تعريف إسلامي محض. وقد رأينا كيف احترس علماء التفسير في تعريفه، فقيدوه بكونه "الكلام المقفى الموزون قصدًا" لإخراج ما وقع موزونًا من الكلام اتفاقًا
__________
1 [سورة الانفطار، 82، الآية: 1- 5] .(17/139)
من الشعر، وهو ما وقع في القرآن وفي كلام الرسول، مما يدل على أن العرب في أيام الرسول كانوا أوسع إدراكًا لمفهوم الشعر من الإسلاميين، وأنهم كانوا يدخلون فيه ما أخرجه من جاء بعدهم في الإسلام منه، بسبب فرية قريش على القرآن والرسول. وبسبب هذه الفرية، وقع جدل فيما بين الإسلاميين في موضوع الرجز، هل هو شعر، أو هو باب خاص من أبواب الكلام لا يدخل في باب الشعر، لثبوت ورود الرجز على لسان الرسول!
وقد أدرك العلماء أن هنالك فروقًا بين العرب وبين العجم في نظرتهم إلى الشعر. قال الجاحظ في معرض كلامه على ميزات اللسان العربي وتفوقه على ألسنة الأعاجم: "والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسبر. والدليل أن البديهة مقصورة عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاص فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسمية الروم والفرس شعرًا، وكيف صار النسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يصاب في العرب إلا القليل اليسير، وكيف صارت العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونًا على موزون، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على موزون على غير موزون"1. فهذا رأي الجاحظ في الشعر العربي وفي الشعر عند الأعاجم.
وللشعر أوزان، هي بحوره. ضبطها: الخليل بن أحمد الفراهيدي في الإسلام ثم من جاء بعده. استنبطت من الشعر المألوف الذي كان سائدًا في أيامه، وضبطت بأوزان هي التفعيلات. بيد أننا لا نستطيع أن نقول: إن الأوزان التي ضبطها الإسلاميون، تمثل جميع بحور الشعر الجاهلي، وأن علماء الشعر كانوا قد استعرضوا كل ذلك الشعر، وحصروه حصرًا، ودرسوه درسًا، فوجدوه لا يخرج خارج هذا الحصر، فلم يفتهم منه ولا بحر واحد. فقول مثل هذا لا يمكن أن يقال وهل هنالك من دليل يؤيده ويسنده؟ وأنا لا استبعد احتمال عدم وقوف علماء الشعر على بحور أخرى، لم يصل علمها إليهم بسبب موتها قبل الإسلام، أو لقلة من كان ينظم بها، إلا لأنها كانت من الأشعار التي لم يصل علمها إلى علماء الشعر؛ لكونها من أشعار العرب الجنوبيين الذين كانوا يتكلمون
__________
1 البيان والتبيين "33"، "بيروت المطبعة الكاثوليكية 1959م"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".(17/140)
باللهجات العربية الجنوبية، أو لكونها أشعار مناطق بعيدة لم يألف علماء اللغة والشعر الذهاب إليها، أو لأنها من الشعر "العامي"، البعيد عن العربية المصطفاة، ولأسباب أخرى.
ونجد في خبر لهيب بن مالك اللهبي، المعروف بلهب، سجعًا ورجزًا، نستطيع أن نقول إنه -إن صح- يمثل مرحلة من مراحل الشعر عند الجاهليين، تفيدنا دراستها فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الشعر الجاهلي. فقد ذكر أنه سمع الكاهن خطر بن مالك، وكان من أعلم كهان بني لهب، يقول:
عودوا إلى السحر ... ائتوني بسحر
أخبركم الخبر ... ألخير أم ضرر
أم لأمن أو حذر
وذكر أنه سمع الكاهن يقول:
أصابه أصابه ... خامره عقابه
عاجله عذابه ... أحرقه شهابه
زايله جوابه ... يا ويله ما حاله
بلبله بلباله ... عاوده خباله
فقطعت حباله ... وغيرت أحواله
ثم أمسك طويلا، وهو يقول:
يا معشر بني قحطان ... أخبركم بالحق والبيان
أقسمت بالكعبة والأركان ... والبلد المؤمن والسدان
قد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب بكف ذي سلطان
من أجل مبعوث عظيم الشان ... يبعث بالتنزيل والقرآن
وبالهدى وفاصل الفرقان ... تبطل به عبادة الأوثان
ثم قال خطر:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس1
__________
1 الإصابة "3/ 312"، "رقم 7564"، الاستيعاب "3/ 312 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".(17/141)
وهو كلام مصنوع، لكنه يفيدنا مع ذلك في الوقوف على نماذج من الشعر، روعي في صنعه محاكاة طريقة الكهان في نظم الكلام. فهو يفيدنا من هنا في الوقوف على أسلوب من أساليب نظم الكهان في أيام الجاهلية، كما أنه يفيدنا في دراسة موضوع صلة الكهانة والسحر بالشعر.
والشعر بعد، تعبير عن الخواطر والأحاسيس وخوالج النفوس، فلا يمكن أن تنحصر أغراضه في غرض واحد، لأن التعبير عن الحياة العامة للإنسان يحتاج إلى ألوان كثرة من ألوان التعبير الشعري، والشعر الجاهلي على كونه ضيقًا، لضيق أفق الحياة الجاهلية وبساطتها، فقد تنوعت فنونه، تنوعًا انبثق من صميم حياة الجاهليين، وأدى بذلك المعاني التي كانت تتطلبها حياتهم أداء يتناسب مع درجة عقليتهم ومستواهم المعاشي وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. وقد استعرض الإسلاميون تلك الأغراض التي قيل الشعر فيها فحصرها أبو تمام وهو نفسه من مشاهير الشعراء في الإسلام في عشرة أبواب: هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب "النسيب"، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء. وجعلها غيره: الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، والملح، وباب مفرد للسؤال والجواب1. وحصرها ابن رشيق في النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء، والاستنجاز، والعتاب، والوعيد، والإنذار، والهجاء، والاعتذار2. وورد في ديوان المعاني أن "أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح، والهجاء، والوصف، والتشبيه، والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسمًا سادسًا وهو الاعتذار، فأحسن فيه"3.
وقد تعرض أبو العباس ثعلب، لهذه الأغراض فجعلها الأمر والنهي، والإخبار، والاستفهام. وهذه الأغراض الأساسية للشعر تتفرع إلى المديح، والهجاء، والرثاء، والاعتذار، والغزل، والتشبيه، والوصف4. وجعل
__________
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب"3/ 71".
2 العمدة "2/ 113 وما بعدها"، "باب في أغراض الشعر وصنوفه".
3 ديوان المعاني "1/ 91".
4 جوستاف فون جرونباوم، حضارةُ الإسْلامِ "333".(17/142)
أبو هلال العَسْكَرِيّ أغراض الشعر: المديح، والهجاء، والفخر، والغزل، وجعلها: المديح، والهجاء، والرثاء، والغزل، والوصف، في موضع آخر1.
ونلاحظ أن بعض هذه الأبواب مثل الفخر والمدح، والهجاء، عامرة، وبعضًا منها فقيرة، حتى لا نكاد نجد فيها مما يخص الشعر القصصي Epique غير نزر يسير، وفي هذا القليل ما هو مشكوك في صحته، وأما الشعر الديني الخاص بالأصنام والأوثان، فلا نجد منه في الشعر الواصل إلينا لا قطعة ولا قصيدة. ولا يعقل بالطبع ألا يكون للجاهليين شعر في هذا الباب، إذ كانوا يتوسلون ويلوذون بها ويتقربون إليها بالنذر، فلا يعقل ألا يكون لهم شعر في آلهتهم. ولا يعقل أيضًا قول من قال: إن الجاهلي رجل مادي، لم يحفل بالدين ولا بالمعاني الروحية ولا بالآلهة، وهو من أبعد الناس عن الدين والتدين، لذا لم يحفل بها في شعره. فلو كان الجاهلي على هذا النحو المذكور من الابتعاد عن الدين والتدين، لما تقرب إليها بالنذور وبالقرابين أحد، لورود ذكرها في النصوص الجاهلية، وفي القرآن الكريم، والذي أراه أن سبب عدم وصول شيء من الشعر الديني الوثني الجاهلي إلينا، لا يعود إلى تقصير الجاهليين في هذا الباب، بل إلى انصراف الرواة عنه، وامتناعهم من تدوينه بسبب الإسلام، لأنه من صميم ديانة أهل الجاهلية التي اجتثها الإسلام، إلا أن يكون ذلك الشعر من النوع الذي يتفق مع مبادئ الإسلام، أو لا يتعارض معها، فلم يجدوا غضاضة من روايته، ولذلك رووه.
وقد ذكر علماء الشعر "أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدِّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرِّبع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك النسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه". وذكر أن امرأ القيس أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف
__________
1 ديوان المعاني "1/ 31، 91"، حضارة الإسلام "333".
2 الشعر والشعراء "1/ 20".(17/143)
ما فيها، ثم قال: دع ذا -رغبة عن المنسبة- فتبعوا أثره، وهو أول من شبه الخيل بالعصا، واللقوة والسباع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف". وكان أول من بكى الديار1.
والشاعر المجيد عندهم من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمِلّّّّّّ السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد"2، "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج على مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيَّد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يَرِد على المياه العِذَاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشبح والحنوة والعرارة"3.
وقد جعل علماء الشعر النسيب بابًا من أبواب الشعر، ودعاه بعضهم التشبيب، وجعل بعضهم الغزل بابًا من أبواب الشعر، بأن أدخل النسيب فيه4. وطالما نجد الناس يخلطون بين الغزل والنسيب والتشبيب. والغزل في رأي بعض علماء اللغة اللهو مع الناس، وقيل محادثة النساء، وقيل: الغزل والنسيب هو مدح الأعضاء الظاهرة من المحبوب أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك، وذكر بعضهم أن الغزل والنسيب والتشبب كلها بمعنى واحد، وقيل: إن النسيب والتشبيب، والغزل ثلاثتها متقاربة، ولهذا يعسر الفرق بينها حتى يظن أنها واحدٌ 5. وذكر أن النسيب التغزل، وأن قول الرجل نسب الشاعر بالمرأة، بمعنى شبب بها في الشعر وتغزل وذلك في أول القصيدة، ثم يخرج إلى المديح، والنسب هو الغزل في الشعر والنسيب في الشعر، هو التشبيب فيه6، والتشبيب: ذكر أيام الشباب واللهو والغزل، ويكون في ابتداء القصائد، وسمي ابتداؤها
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 68"، دار الثقافة".
2 الشعر والشعراء "1/ 21".
3 الشعر والشعراء "1/ 22".
4 العمدة "1/ 120 وما بعدها".
5 تاج العروس "8/ 43"، "غزل".
6 تاج العروس "1/ 483"، "نسب".(17/144)
مطلقًا وإن لم يكن فيه ذكر الشباب. وقيل تشبيب الشعر ترقيق أوله بذكر النساء1.
ولو دققنا النظر في معاني هذه المصطلحات، نجد أن هناك فرقًا بين الغزل وبين النسيب، والتشبيب في الأصل، غير أن الناس خلطوا بين معانيها، فلم يفرقوا بينها. فالنسيب مصطلح استعمل في الشعر للتعبير عن ذكر الدِّيار والأحبة في ابتداء القصيدة، فكأنه أخذ من النسب، حيث يقص الشعر نسب أحبته ومكانهم، ومرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم وغير ذلك مما فصلوه وسموه التشبيب2، فهو ليس بغزل إذن، فقول امرئ القيس:
قفا نبكِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ ... بسقط اللِّوى بين الدَّخُول فَحَوْمَل
لا يعد غزلا بالمعنى المفهوم من الغزل، وإنما هو تذكر وتوجع على الأحبة والأصدقاء، لمفارقته الدِّيار، وتركه الأحباب. أما الغزل، فهو شيء آخر، يمثل عاطفة الحب نحو المرأة، وما يتعلق بها، وهو ما يقال له: love poem في الإنكليزية. وأما التشبيب، فهو تذكر أيام الصبا والشباب، والغزل فيه لما فيه من المغازلة والمنادمة3، ونظرًا لما بين هذه الأمور من تداخل، تداخلت المعاني في الإسلام، وأخذت تعني معاني متقاربة، أو شيئًا واحدًا.
وشعر الهجاء "lampoon"، هو من أهم أبواب الشعر المهمة عند الجاهليين. ويتناول هجاء الأشخاص وهجاء القبائل. ونظرًا لما كان يتركه الهجاء من أثر في النفوس؛ كان قوم الشاعر يَرْوُونه ويحفظونه للحطِّ من شأن المهجو. ولهذا الأثر الخطير الذي كان يتركه الهجاء في المهجو من كسر في الاسم وتحطيم في المنزلة، فسَّر "كولدزيهير" لفظة قافية بمعنى تحطيم القفى، أي تحطيم الجمجمة. وذهب إلى أن القافية، كانت بهذا المعنى في الأصل، ثم فسرها العلماء بعد ذلك تفسيرها المألوف، وهو تفسير مخالف للأصل4.
قال أهل الأخبار: "وليس في العرب قبيلة إلى وقد نيل منها، وهجيت،
__________
1 تاج العروس "1/ 308"، "شبب".
2 تاج العروس "1/ 16"، "نسب".
3 تاج العروس "1/ 483"، "نسب".
4 Goldziher, Historyof Classical Arabic Literature, p. 9.(17/145)
وعيرت، فحطَّ الشعر بعضًا منهم بموافقة الحقيقة، ومضى صفحًا عن الآخرين لما لم يوافق الحقيقة، ولا صادف موضع الرمية.
فمن الذين لم يُحْكَ فيهم هجاء إلا قليلا على كثرة ما قيل فيهم: تميم بن مُرَّة، وبكر بن وائل، وأسد بن خزيمة، ونظراؤهم من قبائل اليمن.
ومن الذين شقوا بالهجاء، ومزقوا كل مُمَزَّق -على تقدمهم في الشجاعة والفضل- أحياء من قيس: نحو غنى وباهلة، ونحو محارب بن خصفة بن قيس عيلان، وجسر بن محارب، "ومن ولد طابخة بن إلياس بن مضر: تيم وعُكَل ابنا عبد مناة، بن أد، "وعدي بن عبد مناة"، كانوا قطينًا لحاجب بن زرارة، وأراد أن يستملكهم ملك رق بسجل من قبل المنذر، والحبطات". ولم تمدح قبيلة قط في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم1.
وقد تعرض الجاحظ لهجاء الشعراء للأشراف، فقال: "وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال، حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه. ومن طلب عيبًا وجده. فإن لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكره، وجد من يغلظ فيه ويحمله عنه. ولذلك هُجي حِصن بن حذيفة، وهجي زُرَارة بن عدس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة"2.
فالحسد في نظر الجاحظ من جملة عوامل الهجاء. فالنباهة والشرف والظهور في المجتمع من العوامل التي تكون سببًا دافعًا إلى الهجاء، بسب داء الحسد، ولهذا أمن الخامل من هجاء الهجائين، وسلم من أن يضرب به المثل في قلة ونذالة وبخل، إذ ليس فيه ما يحمل الشاعر على النيل منه وعلى ما يغيظه، ولا يحسده حاسد، حتى يدفع الشاعر على التحرش به وهجائه. وقد هجيت قبائل بأقذع أنواع الهجاء مع ما لها من شرف وفضل ومكانة وخير عميم، بسبب حسد الحساد، وغيظ القبائل الضعيفة، أو التي لا خير فيها منها، فتحرَّش شعراؤها بها، ودفع الحسد الهجائين إلى هجائها، على كونهم من غمار الناس ومن الخاملين في الحسب والنسب3.
__________
1 العمدة "2/ 182 وما بعدها".
2 الحيوان "2/ 93".
3 الحيوان "1/ 357 وما بعدها".(17/146)
وقد هجيت الملوك، فتناولتهم ألسنة الهجائين، ولا سيما أولئك الملوك الذين رزقوا طبعًا حادًّا، وعصبًا حساسًا متوترًا، مثل عمرو بن هند، والنعمان بن المنذر الذي نال أكبر نصيب من الهجاء. ومما قيل فيه:
ملك يلاعب أمه وقطينَهُ ... رخو المفاصل أيره كالمرود
وقد نسب قوله إلى النابغة الذبياني، ويمكن أن يكون قد صنعه غيره ودسه عليه حسدًا له، للإيقاع به عند الملك. ونسب إليه قوله:
قبح الله ثم ثنَّى بلعن ... وارث الصائغ الجبان الجهولا
من يضر الأدنى ويعجز عن ضر ... الأقاصي ومن يخون الخليلا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا1
وقيل إن قائل تلك الأبيات هو عبد قيس بن خفاف التميمي، قاله على لسانه للإيقاع بينه وبين النعمان2.
وللهجاء عند الجاهليين وقع شديد. ولقد بكى قوم من الأشراف من شدة هول الهجاء عليهم3. ولما أمعنت قريش في هجاء الرسول والمسلمين، وجندت الشعراء للنيل من الإسلام، أعدَّ الرسول حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة للرد عليهم، وقد قال الرسول لحسان: "اهجهم -أو هاجمهم- وجبريل معك"4، وقال: "إن قوله فيهم أشد عليهم من وقع النَّبْل"5. "وكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر ويذكران مثالبهم. وكان عبد الله بن رَوَاحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع، فكان قوله يومئذٍ أهون القول عليهم. وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم. قلما أسلما وفقهوا، كان أشد القول عليهم،
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 99"، "لعن الله ثم ثنى بلعن"، الحيوان "4/ 379". الأغاني "9/ 158".
3 الشعر والشعراء "1/ 99"، الحيوان "4/ 379".
3 الحيوان "1/ 357 وما بعدها".
4 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704".
5 الاستيعاب "1/ 337"، "حاشية على الإصابة".(17/147)
قول عبد الله بن رواحة"1. وورد أن الرسول قال لحسان: "هيج الغطاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام"2: وفي هذا المعنى ورد في شعر عبد قيس بن خفاف البرجمي:
فأصبحت أعددت للنائبا ... ت عرضًا بريئًا وغضبًا صقيلا
ووقع لسان كحد السنان ... ورمحًا طويلا القناة عسولا3
وفي هذا المعنى ورد أيضًا قول طَرَفَة:
بحسام سيفك أو لسانك والكلـ ... ـم الأصيل كأرغب الكلم4
وقول امرئ القيس الكندي:
ولو عن نثًا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد5
وقول طرفة:
رَأَيتُ القَوافي يَتَّلِجنَ مَوالِجًا ... تَضَايقُ عَنها أَن تَوَلَّجَها الإِبَر6
وعكس الهجاء هو شعر الفخر والمدح، وله أهمية عند العرب لا تقل عن أهمية الهجاء، لما له من مكانة في المجتمع. وقد لعب دورًا خطيرًا في السياسة كذلك، ولا زال يلعب دوره هذا فيها إلى هذا اليوم. ولا يعني هذا المدح أن الشاعر كان صادق اللهجة في مدحه، مخلصًا في مدحه لمن مدحه، إنما المدح هو في مقابل إحسان أو طلب إحسان في الغالب، فإذا قطع المحسن إحسانه عن الشاعر أو إذا حرض إنسان الشاعر على من مدحه وأعطاه ليهجوه، هجاه، وقد يهجوه بأقذع هجاء، ومن هنا كان الأشراف وأصحاب التستر، يبتعدون عن الشعراء، لا يريدون مدحهم ولا حمدهم، لأنهم لا يعلمون متى ينقلب الشاعر عليهم،
__________
1 الاستيعاب "1/ 337"، "حاشية على الإصابة".
2 البيان والتبيين "1/ 273".
3 المفضليات "386".
4 الحيوان "1/ 156"، ديوان طرفة "61".
5 الحيوان "1/ 156".
6 الحيوان "1/ 158".(17/148)
149
فيهجوهم بأشد هجاء، أو ينهش أعراضهم، لتقصيرهم في إعطائه المال. ومن هنا نعتوا بالتلون وبالكذب: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 1.
وسبب هذا التلون عامل اقتصادي، فقد كان الشاعر مثل غيره من الناس يتعيش بشعره، يبذله لمن يعطيه، ويحجبه عمن لا يعطيه، وإذا مدح أمل الإثابة، ليعيش عليها، وإن حرم منها، أو وجد أن شاعرًا آخر نال من ممدوحه أكثر مما أعطاه غضب، وقلب مدحه ذمًّا، فيشتمه ويتنقص من شأنه وأن كان قد أغرق بالأمس في مدحه له. وقد يثيره حساد الممدوح، بأن يعطوه أكثر مما أعطاه ممدوحه، فيغريه المال، ولا يجد عندئذ رادعًا أخلاقيًّا يمنعه من التهجم عليه ومن هجائه بأقبح هجاء، فالموضوع موضوع مال، ولو كان للشعراء ثراء وغنى أو سوق رائجة تباع فيها دواوينهم، لما ركب الشاعر ولا شك هذا المركب، ولما تزلف وتقرب، ولكان حاله حال الشعراء الغربيين. يعتمدون على الرأي والفكرة والإبداع والفن، فيشتري الناس شعرهم للاستمتاع به، فما يهمهم لذلك مدح هذا أو ذاك.
ويرى "بروكلمن" أن "كثيرًا ما كان الشاعر يتجه بفنه أيضا إلى مدح بطل أو أمير من قبيلته، ولكنه لم يكن يفكر قديمًا في الجائزة الرنانة، التي نزلت بمكانة شعراء المديح المحترفين في بعض الأحيان -منذ عهد النبي- إلى دَرَك المتسولين بالغناء"2. وهو يجاري بذلك أهل الأخبار القائلين بأن الشعراء المتقدمين لم يكونوا يمدحون طمعًا في مغنم ومال، وإنما كانوا يمدحون عن رأي، وأن أول من تسول بشعره الأعشى، فحط بعمله هذا من قدر الشعراء، ثم أفرط الحطيئة في ذلك، حتى أهان نفسه، فصيروا المتقدمين من الشعراء ملائكة، ورموا الأعشى بخطيئة التسول، بأن جعلوه رأس المتسولين، وما الأعشى إلا بشر، وما المتقدمين عليه إلا بشر مثله، فإن تسول الأعشى، فمن يثبت أنه كان أول من تسول، وأن خطيئة التسول لم تكن معروفة بين المتقدمين عليه.
والرثاء Elegy من سنن الجاهليين القديمة، يقال رثيت الميت رثيًا ورثاء
__________
1 سورة الشعراء، رقم 26، الآية 224 وما بعدها.
2 بروكلمن "1/ 57".(17/149)
ورثاية، ومرثاة، ومرثية، بمعنى بكيته وعدَّدت محاسنه، أو نظمت فيه شعرًا، والمراد به المدح1. وهو من أبواب الشعر المهمة كذلك، لما كان لرثاء الميت من أهمية كبيرة عند أهل الجاهلية. وقد كانوا يوصون أهلهم بأن يقيموا النياحة عليهم، ليقال فيما يقال من الشعر في حقهم2. ونجد في الشعر الجاهلي قصائد وأشعارًا في الرثاء. وقد نبغت النساء الراثيات في هذا الباب، واستنبطن فيه أساليب بديعة لم يتنبه لها الفحول لما طبعن عليه من رقة الطباع وشدة الجزع في المصائب، وصدق الحس، ورقة العاطفة3. وقد جمع الأب لويس شيخو مراثي الشاعرات الجاهليات، في كتاب، جمع فيه مراثي إحدى وستين شاعرة عدا شعر الخنساء. والخنساء، هي من أشهر شاعرات الرثاء، اشتهرت برثاء أخويها: صخر ومعاوية4.
وشعر الرثاء وإن كان من واجب النساء النائحات في الغالب، وقد بلغ الغاية في شعر "الخنساء"، إلا نه كان من واجب الشعراء كذلك. فلكثير من الشعراء رثاء لآبائهم ولإخوانهم ولأقاربهم ولأصدقائهم ولذوي الفضل عليهم، وقد ترك أوس بن حجر جملة مراثي رائعة، وترك غيره قصائد في رثاء الملوك وسادات القبائل والآباء والأخوة، ويلاحظ أن رثاء الشعراء إنما كان في رثاء الأموات الرجال في الغالب، وذلك نابع عن طبيعة المجتمع، التي تمجد الرجل، ولا ترى ذكر النساء الحرائر إلا في المدح والفخر.
أما شعر التوجع والتألم "elegies" و"threnody" الذي نجده في كتاب "المراثي" "Lamentations Book"، المنظوم في الكارثة التي أنزلها "بختنصر" في اليهود عام "586" قبل الميلاد، فلا نجد مثله في الشعر الجاهلي، إنما نجد أبيات في النكبات التي كانت تحل بالقبائل بسب الغارات والغزوات، وأروعه ما جاء في رثاء قتلى بدر. وهو ذو طابع شخصي في أكثر الأحيان، إذ يدور حول انفعال الشاعر وتأثره لمصرع شخص كان يحبه أو يقدره. ويدخل ما وضع
__________
1 تاج العروس "10/ 144"، "رثي".
2 Goldziher, Historyof Classical Arabic Literature, p. 9.
3 لويس شيخو، رياض الأدب في مرائي شواعر العرب "ص1"، "بيروت 1897م"،
4 كارلو نالينو "81".(17/150)
من شعر حول تخرب سد مأرب، وأمثال ذلك في هذا الباب بالطبع.
وقد رثي بعض الشعراء أنفسهم حين شعروا بدنو أجلهم، ونجد في كتب الشعر والأدب شعرًا من هذا النوع، فكأن الشاعر أراد أن يفتتح به رثاء الراثيات والنائحات، ليكون لهن مقدمة ينسجن عليها شعرهن في رثائه.
وتعد المراثي من عيون الشعر والتراث الخالد عند الشعوب القديمة، ولازال الناس يقيمون للرثاء وزنًا كبيرًا، لأنه تخليد وتقدير لشأن الميت. ونجد في الأدب القديم مكانة كبيرة له فيه. وفي التوراة وصف لرثاء الناس لموتاهم. وهو سجع أو رجز يناسب ظروف الميت وحاله ومكانته، يرنم بأنغام حزينة مؤثرة، ومنه جاء شعر المراثي. ويلاحظ أن شعر الرثاء في العربية لا يختلف من حيث الوزن عن بقية الشعر، فهو يقال في كل البحور، والفرق بينه وبين غيره هو في المعنى، وفي غلبة التوجع والألم فيه على المعاني الأخرى.
ولم يصل إلينا شعر جاهلي طويل، مؤلف من مئات أو آلاف من الأبيات، مثل الشعر القصصي الذي نجده عند الشعوب الآرية في سرد حكايات الآلهة والأبطال والحروب ونحو ذلك، ومثل الشعر الغنائي "Lyrique"، ومثل الشعر التمثيلي "Dramatique"، الذي يستند على التمثيل والحوار والغناء، وشعر الجاهليين شعر قصير في الغالب، لا تتجاوز القصيدة فيه، وهي أطول قطعة من الشعر مائة بيت.
أما القصة الشعرية القصيرة، فنجدها في قصيدة الأعشى التي وصف فيها وفاء السموأل. ونجد في شعر عدي بن زيد قصصًا قصيرة عن أحداث تأريخية، أوردها في شعره على سبيل العظة والاعتبار، كما نجد في شعر أمية بن أبي الصَّلت قصصًا، أخذ بعضه من قصص أهل الكتاب، وأخذ بعضًا آخر منه من أساطير العرب القديمة. وكل هؤلاء هم ممن نستطيع أن نقول عنهم: إنهم من الحضر، أو من المتأثرين بعقلية أهل القرى والحضارة. ويمكن عد قصة الأعشى عن السموأل من هذا النوع المسمى "Ballad" في الإنكليزية. ويرى بروكلمن أن محاولة الأعشى إنشاء شعر القصة La ballade واختراع أسلوب الملحمة، في إشادته بوفاء السموأل، فقد بقيت عملا فذًّا لم ينسج أحد على منواله"1.
__________
1 بروكلمن "1/ 62".(17/151)
ونجد في شعر للنابغة قصة زرقاء اليمامة، وقصة الحية، إذ يقول:
تذكر أني يجعل الله فرصة ... فيصبح مال ويقتل واترهْ
فلما وقاها الله ضربة فأسه ... وللبر عين لا تغمض ناظرهْ
فقالت: معاذ الله أعطيك إنني ... رأيتك غدَّارًا يمينك فاجره
أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقرهْ
والقصة: أن بلدة امتنعت على أهلها بسبب حية غلبت عليها، فخرج أخوان يريدانها، فوثبت على أحدهما فقتلته، فتمكن لها أخوه في السلاح، فقالت: هل لك أن تؤمنني فأعطيك كل يوم دينارًا؟
فأجابها إلى ذلك حتى أُثري، ثم ذكر أخاه، فقال: كيف يهنؤني العيش بعد أخي؟ فأخذ فأسًا وصار إلى جحرها، فتمكن لها، فلما خرجت ضربها على رأسها، فأثر فيه ولم يمعن، ثم طلب الدينار حين فاته قتلها! فقالت: إنه ما دام هذا القبر بفنائي وهذه الضربة برأسي فلست آمنك على نفسي! وكان العرب تضرب أمثالا على ألسنة الهوام1.
وللحية قصص عند الشعوب القديمة، وقد صوروها بصور مختلفة، وأشير إليها في التوراة. وقد جعلت رمزًا للحيل والإغراء والشر والغدر2، والأرجح أن واضع القصة التي نظمها شعرًا على لسان النابغة، إنما أخذها من أهل الكتاب.
ونجد لعمرو بن آلة بن الخنساء شعرًا حكى فيه قصة سابور، والحضر، منه:
ألم ينبئك والأنباء تنمي ... بما لاقت سراة بني العبيد
ومصرع ضيزن وبني أبيه ... وأحلاس الكتائب من شريد
أتاهم بالفيول مجللات ... وبالأبطال سابور الجنود
فهدم من أواسي الحضر صخرًا ... كأن ثقاله زبر الحديد3
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 96".
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 400".
3 الروض الأنف "1/ 59".(17/152)
وقد لعبت قصة فتح "سابور" "شابور" للحضر، دورًا خطيرًا في قصص الجاهليين. فقد وردت في شعر أبي دؤاد، الذي يقول:
وأرى الموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون
صرعته الأيام من بعد ملك ... ونعيم وجوهر مكنون1
ونجد عدي بن زيد العبادي، يذكر قصة الحضر في شعره كذلك، ذكرها في القصيدة التي تنسب إليه ومطلعها:
أرواح مودع أم بكور ... فانظر لأي ذاك تصير
ثم يذكر القصة، ويصف قصر الحضر، ثم يذكر قصصًا آخر أورده على سبيل العظة والاعتبار، قالها وهو في سجنه، للتأثير على النُّعمان لحمله على العفو عنه2.
وذكر عدي بن زيد الحضر في شعر ينسب إليه، منه:
والحضر صابت عليه داهية ... من فوقه أيد مناكبها
ربية لم توق والدها ... لحينها إذ أضاع راقبها
إذ غبقته صهباء صافية ... والخمر وهل يهيم شاربها
فكان حظ العروس إذ جشر الصـ ... بح دماء تجري سبائبها
وخرب الحضر واستبيح وقد ... أحرق في خدرها مشاجبها3
وقد ورد في هذه القصيدة:
ما بعد صنعاء كان يعمرها ... ولاة ملك جزل مواهبها
رفعها من بني لدى قزع الـ ... مزن وتندى مسكًا محاربها
محفوفة بالجبال دون عرى ... الكائد ما ترتقي غواربها
يأنس فيها صوت التهام إذا ... جاوبها بالعشي قاصبها
ساقت إليه الأسباب جند بني ... الأحرار فرسانها مواكبها
__________
1 الروض الأنف "1/ 56".
2 الروض الأنف "1/ 58".
3 ابن هشام، سيرة "1/ 59"، "حاشية على الروض".(17/153)
وفوزت بالبغال توسق بالـ ... حتف وتسعى بها توالبها
حتى رآها الأقوال من ... طرف المنقل مخضرة كتائبها
يومًا ينادون آل بربر ... واليكسوم لا يفلحن هاربها
وكان يومًا باقي الحديث ... وزالت أمة ثابت مرتبها
وبدل الفيح بالزرافة ... والأيام جون جمّ عجائبها
بعد بني تبع نخاورة ... قد اطمأنت بها مرازبها1
والأعشى، ممن أدخل قصة الحضر في شعره أيضًا، تطرق في شعره إلى محاصرة المدينة، وكيفية عشق نضيرة بنت الضيزن لسابور لما أبصرته، فقال:
أقفر الحضر من نضيرة فالـ ... مرباع منها فجانب الثرثار2.
ثم تطرق إلى إقامة "شاهبور" "شابور" "سابور" حولين في الحضر، ثم إلى ما لاقته نضيرة من جزاء، بسبب خيانتها لوالدها، وذلك بقوله:
ألم ترَ للحضر إذا أهلُهُ ... بنعمى وهل خالد من نعم
أقام به شاهبور الجنو ... د حولين تضرب فيه القدم
فلما دعا ربه دعوة ... أناب إليه فلم ينتقم3
ونجد قصة الغار مسجلة في شعر ومجمل القصة أن رجلا من"بني ضبة" كان له في الجاهلية سبعة بنون، فخرجوا بأكلب لهم يقتنصون، فأووا إلى غار فَهَوتْ عليهم صخرة فأتت عليهم جميعًا، فلما استراث أبوهم أخبارهم اقتفى آثارهم حتى أتى إلى الغار فانقطع الأثر، فأيقن بالشر، فرجع وأنشأ يقول:
أسبعة أطواد وسبعة أبحرٍ ... أسبعة آسادٍ أسبعة أنجم
رزئنهم في ساعة جرّعتهم ... كئوس المنايا تحت صخر مرضم
وتأتي أبيات بعدهم في وصف حزنه، ثم لم يلبث أن مات كمدًا4.
__________
1 ابن هشام، سيرة "1/ 53 وما بعدها".
2 الروض الأنف "1/ 56".
3 سيرة ابن هشام "1/ 59".
4 الأمالي، للقالي "1/ 61".(17/154)
ويجب ألا ننسى شعر المعارك والحروب، وهو شعر نستطيع أن نسميه شعر "الحماسة"، فالعادة عند العرب أنهم ينشدون الشعر عند الغزو وفي أثنائه، وفي المعارك والحروب. فالمقاتل حين يندفع بين المحاربين ليقاتل خصمه، ينشد شعرًا يفتخر فيه بنفسه وبعشيرته وبقبيلته، ويكون في الغالب من الرجز، لأنه شعر سهل مطاوع، يصلح لمثل هذه المواقف، ونجد في أخبار الأيام وفي الفتوح الإسلامية شعرًا وافرًا من شعر المعارك من الرجز ومن بحور الشعر الأخرى.
ومن أبواب الشعر عندهم شعر الوصايا والحكم. فنجد بين الشعر المنسوب إلى الجاهليين شعرًا فيه وصايا يوصي الشاعر بها ولده وأقاربه أو عشيرته بخلاصة ما حصل عليه ذلك الشاعر في حياته من تجارب. كما نجد بينه حكمًا عرف بها بعض الشعراء مثل زهير بن أبي سُلْمَى، والأفوه الأودي وآخرون.
وقد تغنى الجاهليون بشعرهم، فكانوا ينشدونه بنغم خاص، قد يصحب بآلة موسيقية، وقد يشربون ويغنون، أو يسمعون مغنيًا يغنيهم بشعر فلما انتهى "خالد بن الوليد" إلى "سوى" وأهله من بهراء، وجد ناسًا منهم يشربون خمرًا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريب وما ندري1
ونجد في الأخبار أن ملوك الحيرة والغساسنة والأثرياء كانوا يستمعون إلى الغناء وهو شعر ينشد على نغم، توقعه قينة على آلة من آلات الموسيقى، مثل الصنج والبربط، والدُّف، والْمِزْهَر، وآلات أخرى أخذت من الروم والفرس، وقد سبق أن تحدثت عن وجود قينتين بمكة كانتا لعبد الله بن جدعان، تغنيان له، واتخذ غيره من الموسرين والشعراء قِيانًا، يغنين لهم الأغاني، وأكثرهن من الموالي من روم وفرس.
والغناء كلام يجب أن يتماشى من النغم، ولهذا ينظم نظمًا يتناسب مع الإيقاع.
ونجد عند اليونانيين شعرًا ينظم للغناء خاصة، يقال له: الشعر الغنائي "Lyric"،
__________
1 الطبري "3/ 417"، فتوح البلدان "118"، "ذكر شخوص خالد بن الوليد إلى الشام وما فتح في طريقه".(17/155)
وهو يختلف عن الشعر المألوف الذي لا يمكن أن يتغنى به دائمًا لثقله، وعدم اتساقه مع الإيقاع. ونجد في التوراة شعرًا نظم خصيصًا للإنشاد والتغني به، وهو يختلف في نظمه عن الشعر المألوف.
ولم يُشِر أهل الأخبار إلى وجود شعر من هذا النوع عند الجاهليين، وإن ذكروا أن الجاهليين كانوا يتغنون بالشعر، وكانت قيانهم يتغنين بشعر الشعراء. ومعنى هذا أنهم كانوا يغنون ببحور الشعر المألوفة، لا بشعر غنائي خاص. ونجد في خبر "أحد" أن "هندًا" قامت في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضرب خلف الرجال ويحرضونهم، فقالت "هند" فيما تقول:
إن تقبلوا نُعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نُفَارق ... فراق غيرِ وامق
وتقول:
ويهًا بني عبد الدار ... ويهًا حماة الأدبار
ضربًا بكل بَتَّار1
فهذا شعر، ينسجم التغني به مع الإيقاع على الدُّفوف، ووزنه يناسب ذلك النغم، لكنه ليس من شعر الغناء الخالص، الذي يتناسب مع الألحان المبنية على ارتفاع وانخفاض الصوت، وعلى التغيير في النَّبرات، وعلى الجرِّ والمطِّ، والقصر والجزم، وما شاكل ذلك من حركات يقتضيها إيقاع اشتراك جملة آلات دفعة مع الشعر الذي يتغنى به في وقت واحد، وربما اشترك في الغناء جملة مغنين.
ويذكر أهل الأخبار أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه "الركبانية"، "وأول من نقل الغناء العجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجح، ومن أهل المدينة سائب خاثر، وأول من صنع الهزج طويس"2، وهو كلام قصد به أن الغناء العربي
__________
1 الطبري "2/ 512".
2 نهاية الأرب "4/ 239".(17/156)
قبل الإسلام لم يكن كثير التنويع، وإنما كان مقصورًا على طرق معينة، ثم تطور في الإسلام بدخول الأعاجم فيه، وباحتكاك العرب بهم. فالشعر الجاهلي إنما كان يتغنى به بتلك الطرق المحدودة، ونحن لا نستطيع البت في هذا الموضوع، لأنه من أخبار أهل الأخبار، ولكن لا يعقل في نظري أن يقتصر غناء الحضر على هذه الأنغام البدوية، وبينهم مغنون أعاجم وقيان استوردن من فارس والروم، وكن يحسن الغناء، ويتغنين بالشعر، فكان لعبد الله بن جدعان قينتان أعجميتان، تغنيان له ولضيوفه، وكان لغيره قيان، وقد ورد أن بعضهن كنَّ يغنين بهجاء الرسول. ثم إن ملوك الحيرة كانوا على اتصال بغناء الفرس وغناء بني إرم والنبط، فلا يعقل ألا يتأثروا بدروب غناء الأعاجم، فيدخلوها في غنائهم، وينوعوا في التغني بالشعر، وألا يبرز بينهم من يضع أشعارًا تنسجم مع ألحان الغناء
وكان من غناء العرب "النصب"، وقد عرف به الأعراب، وهو غناء يشبه الحداء، إلا أنه أرق منه. وهو العقيرة، يقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب1.فهو غناء يتغنى به بشعر على طريقة معلومة، اشتهرت بها العرب، أهل البوادي.
وقد لعب الجمل دورًا خطيرًا في الشعر الجاهلي، وكيف لا يستأثر بمكانة مهمة في الشعر الجاهلي وهو مرافق الأعرابي، والحيوان الوحيد الذي رضي مصاحبته ومرافقته في الصحاري الموحشة المتعبة، ولهذا نال حقه من المدح والثناء عليه، كما ألهب مشاعر الأعراب فجعله يصفه في شعره، وصفًا كاد يحيط بجميع أجزاء جسمه2، وحظيت الخيل بمكان مرموق أيضًا في مملكة الحيوان المذكورة في الشعر، فالفارس لا يكون فارسًا إلا بفرسه، وكان يقدم فرسه على نفسه وأهله في الطعام، لأهمية الفرس في حياته، فلا عجب إذا ما أبدع الشاعر الجاهلي في وصف الفرس، وأشاد بذكر الخيل في شعره. وحظيت الحيوانات الوحشية مثل المها والظباء، والحمار الوحشي، والأسود، على مكانة في الشعر الجاهلي كذلك، لما لها من صلة بحياة العربي.
يقول بروكلمن: "والقصيدة، المؤلفة على نظام دقيق، ينبغي استهلالها
__________
1 اللسان "1/ 761 وما بعدها"، "نصب".
2 بروكلمن "1/ 56".(17/157)
بالنسيب، والحنين إلى الحبيبة النائية، ذلك الحنين الذي يعتري الشاعر عند رؤية أطلالها الدائرة وهو راكب في القفار. ثم يتحول الشاعر في تخلص نموذجي من موطن لوعته وذكرياته إلى وصف مسيره في المفاوز دون انقطاع، وهو وصف قد يخرج أحيانًا إلى مجرد تعداد لأسماء ما يجتازه من أماكن. ثم يخلص من ذلك إلى وصف راحلته، فإذا هو عمد في هذا الوصف إلى تشبيه راحلته ببعض حيوان الوحش استطرد أحيانًا إلى وصف هذا الحيوان وصفًا شاملا. ثم لا يتجه الشاعر إلى التعبير عن حقيقة قصده إلا في آخر القصيدة.
هذا المنهج لا بد أن يكون قد رسخ منذ زمن طويل. وقد ذكر امرؤ القيس سلفًا له في الشكوى والبكاء على الإطلال، يدعى ابن خذام، وإن لم يستطع أدباء العصر العباسي تعيين هذا الشاعر، وتبع المتأخرون هذا المنهج ولم يكادوا يجسرون على تغييره"1.
وقد أكثر الشعراء من استعمال بعض الجمل في افتتاح شعرهم، مثل "بانت سعاد". ذكر أن "بندر الأصبهاني" كان يحفظ تسعمائة قصيدة أول كل منها "بانت سعاد"2.
والشعر الجاهلي، شعر صلد متين، يميل إلى الرَّصَانة وإلى استعمال اللفظ الرَّصين، الذي يغلب عليه طابع البداوة، وشعر هذا طابعه، لا يمكن أن يتحرر، وأن يعبر عن المعاني بحرية، إذ يكون الشاعر مقيدًا بقيود الخضوع للعرف وللشكليات التي اصطلح عليها الشعراء والناس، ولهذا لم يتمكن الشعراء من التطرق إلى مختلف المعاني والتصورات الإنسانية، وصار الطابع الغالب عليه هو الطابع اللغوي، فخشونة الشعر، وجزالته وغرابته، من مميزات هذا الشعر ومن محبباته إلى النفوس، وكلما كان الشعر غريبًا وبألفاظ غريبة، نال التقدير والاستحسان، ولقد عمل الأصمعي قطعة كبيرة من أشعار العرب، لكنها لم تنل الاستحسان ولم يَرْضَ عنها العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"3. والشعر الذي ينال التقدير، هو الشعر الخشن، الذي روي بألفاظ نجدية، ولذلك لم يحفل العلماء بشعر عدي بن زيد،
__________
1 بروكلمن "1/ 60".
2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 529".
3 الفهرست "89".(17/158)
لأن فيه ليونة1، والعلماء يبحثون عن الشعر الخشن، الذي على العالم أن يفكر فيه ويعمل رأيه فيه طويلا، ويفكر ويغوص فيه حتى يجد معناه.
واشتهر بعض الشعر بشهرة عرف ونعت بها، مثل قصيدة سويد بن أبي كاهل، واسمه عطيف بن حارثة اليَشْكُري ويقال الوائلي، ويقال الغطفاني، التي عرفت باليتيمة، وهي قصيدة عينية. قيل عرفت بذلك لما اشتملت عليه من الأمثال. وهو من الشعراء المخضرمين2. وعرفت القصيدة التي نظمها خداش بن زهير، في هشام والوليد ابني المغيرة المخزوميين، وفي عبد الله بن جدعان بالمنصفة3. وذلك لإنصافه خصومه في شعره. ومن المنصفات قول المفضل النُّكْري:
كأن هزيزنا يوم التقينا ... هزيز أباءة فيها حريق
وكم من سيد منَّا ومنهم ... بذي الطرفاء منطقة شهيق4
لقد مر الشعر بمراحل، سنة كل شيء في هذه الدُّنيا. بدأ بدائيًّا لبداءة أصحابه، ثم تطور بتطور الناس، تطور من حيث معانيه وأفكاره، وتطور من حيث قوالبه وأشكاله، أي بحوره. واقتضى هذا التطور ومرور الزمن وتغير الإنسان، ظهور أوزان جديدة، أوجدها الشعراء هروبًا من التقليد، وخروجًا على التقاليد، وابتداعًا من الشاعرية، لتقدم لعشاق الشعر لونًا جديدًا من ألوان النظم، يمتاز على المعروف المألوف المتوارث، بنفس جديد، وموسيقية حديثة تناسب الزمان والمكان، كما هو شأن الشعر عند كل أمة، فتعددت ألوانه وبحوره، حتى إذا كان الإسلام ضبطت ألوانه في بحور جمعها علم العروض المعروف.
أما أسماء أولئك المجددين في الشعر الجاهلي، فقضية لا يمكن البتُّ بها، ولا إصدار حكم فيها. فنحن لا نعرف من أمر الشعر الجاهلي إلا هذا الذي يرويه أهل الأخبار عنه، وهو لا يستند -كما قلنا- إلى سند جاهلي مدون، ولا إلى كتاب من كتب أهل الجاهلية ولا إلى ديوان من دواوينهم، بل روي رواية وحكى
__________
1 الشِّعر والشُّعراء "1/ 150"، "دار الثقافة".
2 الأغاني "11/ 165"، الإصابة "2/ 117"، "رقم 3721".
3 ابن سلام، طبقات "33".
4 الأصمعيات "233".(17/159)
حكاية، وأقام الإسلاميون على هذا المروي قواعد نظرياتهم في الشعر الجاهلي، ولم يرد في هذا المروي أي شيء عن كيفية ظهور بحور الشعر الجاهلي، ولا عمن جدد وأوجد هذه البحور. وليس لنا أي أمل في إمكان الحصول في المستقبل على علم جديد عن تطور ذلك الشعر وعن ابتكار رجاله الجاهليين فيه، ما دام سند علمنا هذا المورد القائم على الرواية القديمة. أما إذا عثر على نصوص مدفونة عربية جاهلية أو أعجمية فيها بحوث عن الكلام المنظوم عند العرب، فذلك شيء آخر بالطبع. ومثل هذه النصوص هي التي يكون في وسعها وحدها تقديم صورة علمية واضحة عن الشعر الجاهلي.
ومن رأي بعض أهل الأدب، أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدِّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرِّبع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل، فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد"1.
وزعموا أن هذا كان نهج شعراء الجاهلية في نظم شعرهم، ونهج شعراء صدر الإسلام، حتى اختلط العرب بالعجم، وانتقل العرب من حياة إلى حياة، وظهر الشعراء الأعاجم الذي لم يتمكنوا من غسل أدمغتهم من المعاني الأعجمية، ومن التفكير الأعجمي، فنظموا الشعر بالعربية، ولكن بمعانٍ أعجمية جديدة، وجاءوا
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 20 وما بعدها"، "دار الثقافة".(17/160)
ومن تأثر بالحضارة العربية الجديدة التي ظهرت في البلاد المفتوحة بآراء مستجدة، وظهرالتجديد في الشعر العربي وابتعد بذلك عن أسلوب الشعر الجاهلي.
ويتوقف طول الشعر وقصره على نَفْسِ الشاعر، أي على الظروف النفسية التي تحيط بالشاعر حين ينظم شعره، وبالمؤثرات التي أثرت عليه. وقد سئل أبو عمرو بن العلاء "هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم ليسمع منها. قيل: هل كانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ عنها. ويستحب عندهم الإطالة عند الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب والإصلاح بين القبائل كما فعل زهير والحارث بن حِلِّزة ومن شابههما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع والطوال للمواقف المشهورة"1.
وقد ذهب "غرونباوم" إلى إمكانية تقسيم الشعر الجاهلي إلى مدارس أدبية متميزة، جعلها ستة مدارس أو اتجاهات أو مذاهب بتعبير أصح. تضم الشعراء الذين ولدوا ما بين سنة 440 و530م على وجه التقريب. "وليس معنى هذا أنه ليس هنالك شعراء تتجافى طبيعتهم نفسها عن مثل هذا التقسيم وتشذ عنه. فإن الشاعرين الصعلوكين الشهيرين تَأَبَّطَ شرًّا والشَّنْفَرَى، هما الْمِثْلان البارزان على مثل هذا المواهب الفردية. ولعل من أمتع الأمور، ما يتجلى في آثار تلك الفئة من الشعراء، الذين عاشوا في بلاط الحيرة، من مظاهر الحضارة الساسانية. فأبو دؤاد الإيادي حوالي "480- 550م" والشاعر النصراني عدي بن زيد حوالي "545- 585م" يتجلى في شعرهما خليط من العقلية البدوية والتفكير الحضري. وطرفة "حوالي 535- 538م" وكذلك الأعشى، ينقلان إلى العراق سياقًا فنيًّا آخر لمدرسة أخرى ينتمي أعلامها إلى قبيلة قيس بن ثعلبة، من بني بكر بن وائل؛ هذا وليس من شك في أن الأعشى هو أكبر مالك لأزمة اللغة بين شعراء الجاهلية، وأن المشاهد البهجة في قصائده تنم عن تأثير الشعراء الساسانيين. ثم إن امرأ القيس بن حجر الأمير الكندي "حوالي 500- 540م" أشهر شعراء العرب الجاهليين وأبعدهم أثرًا، قد كان نظير طَرَفَة، صاحب إحدى القصائد النموذجية المعروفة بالمعلقات. ومعاصره عبيد بن الأبرص يمثل قمة مدرسة أخرى من هذه المدارس.
__________
1 العمدة "1/ 124"، بلوغ الأرب "3/ 83".(17/161)
وقبل أن يتجرم القرن السادس، كانت وحدة اللغة واتساق الأسلوب، قد قطعا مرحلة واسعة نحو التبلور. وقد تداخلت هذه المدارس عن طريق تجمع المفردات وتوارد الصور الشعرية، لكن هذا التطور لم يتسع فيشمل جماعات الشعراء التي عاشت إلى جانب التيار الرئيسي الذي جرى فيه الشعر العربي. وأهم مدارس هذا العصر المتأخر هي مدرسة الشعراء الهذليين التي برزت آثارها ما بين سنة 550- 700م. وكان من الموضوعات التي اختصت بها هذه الجماعة وصف النحل والعسل. ومثل هذه الأوصاف قد استتبعت ضربًا من الخصوبة في مشاهد الطبيعة لاسيما حيث ألحت بالشاعر الرغبة في جمع العسل البري.
ويشتمل ديوان الهذليين على قصائد كثيرة لأفراد ما نظموا الشعر إلا لمامًا. ولا بد ههنا من التأكيد أنه كان إلى جانب الشعراء المحترفين، عدد عظيم من الشعراء الهواة والذين عمدوا، بين الفَيْنَةِ والفينة، إلى التعبير بالشعر عن عواطفهم ورغباتهم. وهذا يعلل لنا ما نجده دائمًا من أبيات هي من حيث التأريخ وليدة عصر واحد، لكنها ليست كذلك من حيث درجة الإتقان. فشعر غير المحترفين يغلب أن يكون دون شعر المحترفين بنحو من جيل على أقل تقدير. ولما لم تكن هذه الظواهر قد أخذت حتى الآن بالاعتبار الكافي، فقد ساعد ذلك على استمرار الاعتقاد بجمود الشعر القديم في سياقه الموحد. وقد بقي في مؤخرة الركب -لكن ثقافيًّا لا فنيًّا- الرجز الذي هو أقرب إلى الأدب الشعبي. على أن الفاصل ما بين الرجز والقَرِيض -وهو الشعر بالمعنى المعروف- قد ظل حادًّا إلى عهد متأخر جدًّا"1.
وبعد، فهناك مسائل تتصل بتطور الشعر الجاهلي أرى أن من المستحيل حلها في الوقت الحاضر، لعدم وجود أدلة علمية مقبولة يمكن أن يركن إليها لحل ما عندنا من عقد مستعصية، مثل نشأة وتطور الشعر العربي، وكيف نشأت القصيدة، وعدد الأوزان والبحور العروضية التي سار عليها الجاهليون في وزن الشعر، والتزام القافية أو عدم التقيد بها في الشعر، ومتى نشأت القصيدة، ثم هل كانت لغة الشعر لغة واحدة، خاصة كما نراها في الشعر الجاهلي المدون، أم لم تكن، وإنما كان الشعراء ينظمون بلهجاتهم من الوجهة اللفظية والنحوية والصرفية، ولكن علماء
__________
1 غرونباوم "140 وما بعدها".(17/162)
الشعر في الإسلام، هذَّبوا تلك الأشعار حتى جعلوها بهلجة واحدة، هي اللهجة التي وصلت إلينا، وإذا كان هذا هو ما جرى، فما هي نسبة التحوير التي أوقعها العلماء على ذلك الشعر؟(17/163)
الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:
مشكلة القديم والحديث، وتصادم الحديث مع القديم، وتفضيل الناس القديم على الحديث، من المشاكل التي شغلت الإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض حتى اليوم. فالحديث ينافس القديم، ليحل محله، والقديم يصر على حقه في البقاء وفي جدارته في الخلود. والجيل الجديد يريد أخذ القيادة من الجيل القديم، والجيل القديم لا يريد إعطاءها لأحد إلا إذا كان من جيله، لأنه أقدر في نظره على إدراك الأمور، وأكثر تجاربًا وخبرة وحكمة من الأحداث جماع الجيل الجديد، مع أن كل قديم هو محدث في زمانه الإضافة إلى من كان قبله، وكل جديد سيصير قديمًا بالنسبة إلى من يأتي بعده، ولسبب آخر، هو أن القديم، هو الحاكم المتنفذ، فلا يهون عليه التنازل عن حقه لمستجد.
وقد شغلت هذه المشكلة أذهان الجاهليين ولا شك، كما شغلت أذهان الإسلاميين، فشعراء العصر الأموي، كانوا يرون في شعرهم إبداعًا لم يكن عند من سبقهم من المخضرمين والجاهليين غير أن الناس في أيامهم، لم يكونوا يعطون شعرهم من التقدير ما أعطوه للشعر القديم، كانوا يرونه مولدًا بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين، وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين1.
وكان الشعر القديم، هو الشعر الممتاز المقدم عند علماء الشعر واللغة، فكان أبو عمرو بن العلاء يقول: "لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته" لكنه لم يستشهد به، ولم يجعل الجيد الممتاز من الشعر المولد في منزلة الشعر القديم، لسبب واحد هو قدم الشعر الجاهلي. وقال الأصمعي: جلست إليه ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين، فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم،
__________
1 العمدة "1/ 90".(17/163)
ليس النمط واحدًا، ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نطع. هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه: الأصمعي، وابن الأعرابي، أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب، ويقدم مَنْ قبلهم، وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون ثم صارت لجاجة"1.
وقد رجع الجاحظ سبب هذا الركض وراء الشعر الجاهلي إلى لجاجة علماء اللغة في البحث عن كل شعر يستفاد منه في الشواهد، إذ يقول: "ولم أَرَ غاية النَّحْويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أَرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل"2. ويقول: "طلبت علم الشعر عند الأصمعي، فوجدته لا يعرف إلا غريبه، "الألفاظ والمعاني العربية"، فسألت الأخفش، فلم يعرف إلا إعرابه، فسألت أبا عبيدة فرأيته لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار، ولم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب وغيره"3.
لقد كان القدم، هو المقياس الأول في تقدير الشعر في ذلك الحين. فالشعر القديم محبوب مطلوب مقدم على الحديث، مهما كان في الشعر الحديث من إبداع في المعنى وفي القالب. قال عبد الله التميمي، "كنا عند ابن الأعرابي، فأنشده رجل شعرًا لأبي نواس أحسن فيه فسكت. قال له الرجل: أما هذا من أحسن الشعر؟ قال: فقال: بلى، ولكن القديم أحب إلي"4.
وقد بلغ من تعظيم بعضهم للقديم، أنهم كانوا يرون المعاني على مقادير أصحابها من الشعراء، فالمعنى الذي يكون لامرئ القيس يكون كامرئ القيس في اعتباره وإجلاله وتحاميه أن يتلقى بالرد والمواجهة، ولذا فشا الغلط بينهم في تفسير الشعر وأخذ منه التصحيف كل مأخذ5.
فالقدم وحاجة العلماء إلى الشعر القديم للاستشهاد به، والبحث عن الغريب، كانت كلها من العوامل التي أعطت للشعر القديم منزلة لم ينلها شعر المعاصرين،
__________
1 العمدة "1/ 90 وما بعدها"، الخزانة "1/ 3 وما بعدها".
2 البيان "4/ 24".
3 الرافعي "1/ 421"
4 الموشح، للمرزباني "384".
5 الرافعي "1/ 420".(17/164)
فأغاظ ذلك الشعراء المحدثين، وجعلهم يحنقون على علماء اللغة، ويسخرون منهم ومن عروضهم ونحوهم، ولم يخفف من غلواء هؤلاء العلماء إلا تغير الزمن، وبروز الأدباء الذين نظروا إلى الأدب نظرة أخرى، نظرة تقدر الجيد من الشعر من غير نظر إلى زمانه أو قائله.
ولابن قتيبة رأي في الشعر يخالف رأي أبي عمرو بن العلاء وأصحابه، رأيه في قيمة الشعر رأي الجاحظ الذي ذكرته، وقد عرضه بقوله: "رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرَّصين، ولا عيب له عنده إلى أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله.
ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره، وكل شرف خارجية في أوله".
وقال: "ولم أسلك، فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من قلد، أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حظه، ووفرت عليه حقه"1.
قال خلف الأحمر: قال لي شيخ من أهل الكوفة: أما عجبت من الشاعر قال:
أنبت قيصومًا وجثجاثا ... فاحتمل له، وقلت أنا
أنبت إجاصًا وتفاحًا ... فلم يحتمل لي؟ "2
ومن شدة عجب الناس بالشعر الجاهلي أنهم جعلوه أنموذجًا لشعرهم ودليلا لهم
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 10 وما بعدها"، "دار الثقافة".
2 الشعر والشعراء "1/ 22".(17/165)
وهاديًا في أصول نظم الشعر، من محافظة على مظهر القصيدة وعلى "عمود الشعر". وجعلوا الشكل الخارجي، الذي رسم للقصيدة من ذكر الديار والدِّمن والآثار إلى آخر ما قالوه عن ترتيب المراحل التي يجب أن تمر بها القصيدة، ثم عمود الشعر مقياسين، قاسوا بموجبهما الشعر الجيد من الشعر الرديء، وميزوا بينهما بهذين المقياسين. "فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعلوا واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنقوس ظمأ إلى المزيد"1.
وكان "الجاحظ" وهو من شيوخ الأدباء، يرى مذهب الأديب في تقدير الشعر وتثمينه، يرى أن الشعر بمواضع الحسن منه، وبالمعاني الجليلة التي فيه، وعلى الألفاظ العذبة التي تشتمله، وفي ذلك يقول: "وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين، ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الأحاديث والقصائد والفقر والنتف من كل شيء، ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب عباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في نسيب العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سنيات وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر أو فتياني متغزل.
وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعي ويحيى بن نجيم وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلف يجمع ذلك كله.
ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامتهم -فقد طالت مشاهداتي لهم- لا يقفون على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 21".(17/166)
الجيد وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إن صارت في الصدور عمَّرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حِسَانِ المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعر أظهر، ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وبما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أن يقولوا شعرًا جيدًا، لمكان إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون عيابًا ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة"1.
وكانت نظرة المبالغة هذه في تقدير الشعر القديم من جملة العوامل التي حملت جهابذة العلماء الخبراء بأساليب الشعر الجاهلي المتقنين له على وضع الشعر على ألسنة الجاهليين وعلى إذاعته ونشره بين الناس. فقد وجدوا أن سوقه رائجة، وأن ما يقدمونه منه لطلابه يقدر تقديرًا عظميًا، وأن ما ينظمونه هم وينشرونه باسمهم لا ينال مثل ذلك التقدير. وقد يحفل به. وأن بعض خلفاء بني أمية كان لهم عشق خاص بشعر الجاهلية، وأنهم كانوا يبحثون عنه، وإذا سمعوا بوجود راوية عرف بحفظه ذلك الشعر، أرسلوا إليه، ليتحفهم بما عنده، ثم يجزلون له العطاء، على حين كانوا لا يعطون على الشعر الذي ينظمونه أو ينظمه الشعراء الأحياء إلى قليلا، وإلا إذا كان مدحًا لهم وتزلفًا إليهم. فدفعهم حرصهم المادي هذا على صنع الشعر وإسناده إلى الشعراء الجاهليين. وهم لو نسبوه إليهم لصار فخرًا لهم، يثمنه لهم من يجيء بعدهم، ولكنهم ما كانوا ليحصلوا عليه شيئًا مغريًا، ففضلوا المادة على الشهرة التي تأتي إليهم بعد الموت.
وقد اتخذ بعض علماء الشعر ورجال الأدب موقفًا وسطًا بين المحدثين، من الشعراء الذي قيل لشعرهم: المولد، وبين الشعراء المتقدمين، فقال "ابن رشيق": "ليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقًا سفسافًا، ولا باردًا غثًّا، كما ليست الجزالة والفصاحة أن يكون حوشيًا خشنًا، ولا أعرابيًّا جافًّا، ولكن حال بين حالين.
__________
1 البيان والتبيين "4/ 23 وما بعدها". الرافعي "1/ 423 وما بعدها".(17/167)
ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والأعشى إلا بحلاوة الكلام وطلاوته، مع البعد من السخف والركاكة، على أنهم لو أغربوا لكان ذاك محمولا عنهم، إذ هو طبع من طباعهم، فالمولد المحدث -على هذا- إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الاتباع، ومعرفة الصواب، مع أنه أرق حوكًا، وأحسن ديباجة1.
__________
1 العمدة "1/ 93".(17/168)
الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد
مدخل
...
الفَصْلُ الثَّامِنُ وَالأَرْبَعونَ بَعْدَ المائة: الْقَرِيضُ والرَّجَزُ والقَصِيدُ
ويقال للشعر: القريض وهو الاسم كالقصيد، والقرض: قول الشعر خاصة، والتقريض صناعته. وقد فرَّق الأغلب العجلي بين الرَّجز والقَرِيض بقوله:
أرجزًا تريد أم قريضًا؟ ... كليهما أجدُ مستريضا1
وقد ورد أن أصحاب رسول الله كانوا يتقارضون، أي يقولون القريض وينشدونه. وورد أن المنذر ملك الحيرة حين أراد قتل عبيد بن الأبرص قال له: أنشدني من قولك، فقال عبيد: حال الجريض دون القريض، فذهب قوله مثلا2. و "قال النحاس: القريض عند أهل اللغة العربية الشعر الذي ليس برجز"3.
ويلاحظ أن العرب وإن قالوا: "نظمت الشعر ونظمته"، وقصدوا
__________
1 اللسان "7/ 218 وما بعدها.
أرجزًا تريد أم قصيدًا
لقد طلبت هينًا موجودا
الأغاني "14/ 97"، تاج العروس "5/ 75"، "قرض".
2 اللسان "7/ 218 وما بعدها". "قرض"
3 العمدة "1/ 184".(17/169)
بالنظم الشعر، وعرفوا الشعربأنه "منظوم الكلام"1، غير أنهم كانوا يقولون أيضًا: "قال شعرًا"، و"هو يقول الشعر"، وفي القرآن: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُون} 2، و {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 3. ويقولون: قول شاعر.
والشعر في تعريف علمائه: "منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية"، وهو "الكلام المقفى الموزون قصدًا"4، ومن صيروا الكلام نوعين: كلام منظوم، وكلام منثور. والفرق بينهما هو في وجود الوزن والقافية في الشعر، وفي عدم وجودهما في الكلام المنثور. وتوجد هذه النظرة عند أفلاطون، وفيتاغورس، وهي تختلف بعض الاختلاف عن رأي أرسطو في الشعر5.
"وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزًا أو قطعًا، وأنه إنما قُصِّد على عهد هاشم بن عبد مَنَاف، وكان أولَ من قصَّده مهلهلُ وامرؤُ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونَيِّف وخمسون سنة. ذكر ذلك الجمحي وغيره. وأول من طول الرجز وجعله كالقصيد الأغلب العجلي شيئًا يسيرًا، وكان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أتى العَجَّاج فافتَنَّ فيه فالأغلب العجلي والعجاج في الرجز كامرئ القيس ومهلهل في القصيدة"6.
والقصيدة من الشعر ما تمَّ شطر أبياته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه. قال ابن جني: "سمي قصيدًا لأنه قصد واعتمد وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه نحو الرَّمَل والرَّجَز شعرًا مرادًا مقصودًا. وذلك أن ما تَمَّ من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدمًا في أنفسهم مما قصر واختلَّ، فسموا ما طال ووفر قصيدًا، أي مرادًا مقصودًا، وإن كان الرمل والرجز أيضًا مرادين مقصودين،
__________
1 اللسان "0/ 578".
2 [الحاقة، الآية 41] .
3 [الشعراء، الآية 224 وما بعدها] .
4 اللسان "4/ 410"، "شعر". الصاحبي "273"، إرشاد السَّاري "9/ 88".
5 إنحليزي
6 بلوغ الأرب "3/ 83"، العمدة "1/ 89 وما بعدها"، طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".(17/170)
والجمع قصائد"1. وذكر علماء الشعر: "سمي الشعر التام قصيدًا، لأن قائله جعله من باله قصدًا ولم يحتسه حسيًا على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل روَّى فيه خاطره واجتهد في تجويده، ولم يقتضبه اقتضابًا، فهو فعل من القصد". "وقالوا شعر قصيد إذا نُقِّح وجوِّد وهذِّب"2. جاء في قول شاعر:
قد وردت مثل اليماني الهزهاز ... تدفع عن أعناقها بالأعجاز
أعيت على مقصدنا والرُّجَّاز
يقال: أقصد الشاعر وأرمل وأهزج وأرجز، من القصد والرمل والهزج والرجز3.
والرجز عند العرب كل ما كان على ثلاثة أجزاء، وهو الذي يترنمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به. هذا هو تعريفه عند بعض العلماء. وعرفه بعضهم: أنه بحر من بحور الشعر معروف ونوع من أنواعه يكون كل مصراع منه مفردًا، وتسمى قصائده أراجيز، واحدتها أرجوزة، وهي كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، ويسمى قائله راجزًا كما يسمى قائل بحور الشعر شاعرًا. وعرَّفه آخرون أنه الشعر ابتداء أجزائه سَبَبَان ثم وَتِد، وهو وزن يسهل في السمع ويقع في النفس4. وذكر أن كل شعر تركب تركيب الرجز سمي رجزًا5. والرجز في الوقع سجع موزون. ونجد شبهًا في التوراة، حيث ورد على ألسنة الحكماء العبرانيين في سِفْر الأمثال6 وعلى لسان بلعام الحكيم7، الذي جعله بعض العلماء لقمان الحكيم المذكور في القرآن.
__________
1 تاج العروس "2/ 467".
2 المصدر نفسه "2/ 468".
3 تاج العروس "2/ 466".
4 اللسان "5/ 350 وما بعدها"، "رجز"، البيان والتبيين "2/ 184"، "1313"، العمدة "1/ 121 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "186".
5 اللسان "5/ 351".
6 الأمثال، الإصحاح 21، الآية 27 وما بعدها.
7 العدد، الإصحاح 22، الآية 5 وما بعدها.(17/171)
وذكر بعض العلماء أن الرجز إنما سمي رجزًا لأنه تتوالى فيه في أوله حركة وسكون ثم حركة وسكون إلى أن تنتهي أجزاؤه، يشبه بالرجز في رجل الناقة ورعدتها، وهو أن تتحرك وتسكن ثم تتحرك وتسكن1، وقيل سمي بذلك لتقارب أجزائه واضطرابها وقلة حروفه، وقيل لأنه صدور بلا أعجاز. وقيل الرجز ضرب من الشعر معروف وزنه: "مُسْتَفْعِلُنْ" ست مرات، فابتداء أجزائه سببان ثم وتد، ولذلك جاز أن يقع فيه المشطور وهو الذي ذهب شطره، والمنهوك، وهو الذي قد ذهب منه أربعة أجزاء وبقي جزءان2. وذهب بعض العلماء إلى أن الرجز ثلاثة أنواع غير المشطور، والمنهوك، والمقطع3.
وهو تام ومختصر. والمختصر أنواع: المجزوء والمشطور والمنهوك. وذكر أن الذي جرى على لسان الرسول من الرجز ضربان: المنهوك والمشطور4.
والأرجوزة القصيدة من الرجز، وهي كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، والجمع أراجيز. ويسمى قائله راجزًا ورجَّازًا، ورجازة، ومرتجز5.وقد فرق علماء الشعر بين الشاعر والراجز، فأطلقوا لفظة "الشاعر" على من ينظم الشعر، أي "القصيدة"، وأطلقوا كلمة "الراجز" على من يرتجز الرجز. فنجدهم يقولون: الأغلب الراجز، والعجاج الراجز، وأبو الزحف الراجز ودكين الراجز وغيرهم6.
وقد اختلف العلماء في طبيعة الرجز، فمنهم من جعله شعرًا صحيحًا، وضربًا من الشعر، معروف وزنه، ومنهم من جعله صنفًا من أصناف الكلام قائمًا بنفسه ليس بشعر، ولا بسجع، وإنما مجازه مجاز الشعر. ونسب إلى الخليل قوله: الرجز شعر صحيح في رواية، وقوله: إنه ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث في رواية أخرى7. ومردُّ اختلافهم فيه هو ما ورد على لسان الرسول من الرجز المنهوك والمشطور، وما ورد في القرآن الكريم من قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاه
__________
1 اللسان "5/ 351"، "رجز".
2 تاج العروس "4/ 36"، "رجز".
3 العمدة "1/ 182".
4 اللسان "5/ 351".
5 تاج العروس "4/ 37"، "رجز".
6 الشعر والشعراء "2/ 493، 508، 511، 578".
7 تاج العروس "4/ 36"، "رجز"، اللسان "5/ 350"، "رجز".(17/172)
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} 1، و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وما ورد في كتب الحديث والأخبار من أن الرسول لم يكن ينشد الشعر ولا يقوله وينظمه، لأنه لم يكن شاعرًا وما كان له أن يقوله، وأنه إذا استشهد بالشعر، لم يقمه على وزنه، وإنما كان ينشد الصدر أو العجز، ثم يجيء بالنصف الثاني على غير تأليف الشعر، لأن نصف البيت لا يقال له شعر ولا بيت، ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعر، لقيل لجزء منه شعر. وقد جرى على لسان النبي: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. فلو كان شعرًا لم يَجْرِ على لسانه3. وجاء على لسانه.
هل أنت إلا أصبعٌ دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت4
فالرجز إذن ليس بشعر.
وقد رد من يقول إن الرجز شعر على قول من يقول إنه ليس بشعر، بقوله: "معنى قول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاه الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، أي لم نعلمه الشعر فيقوله ويتدرب فيه حتى ينشئ منه كتبًا، وليس في إنشاده صلى الله عليه وسلم البيت والبيتين لغيره ما يبطل هذا لأن المعنى فيه أنا لم نجعله شاعرًا"5، مطبوعًا على نظم الشعر وقوله، ولهذا فلا صلة لموضوع أصل الرجز، هل هو نوع من الشعر، أو ليس بنوع منه مع ما جاء من نفي الشعر عن الرسول.
وورد في الحديث، أن الرسول كان يرتجز برجز عبد الله بن رواحة الأنصاري، الشاعر النقيب، وهو ينقل التراب يوم الخندق ويقول:
__________
1 [سورة يس، الآية: 69] ، تفسير الطبري "23/ 18"، تفسير الآلوسي "23/ 43".
2 [الحاقة، الآية: 40 وما بعدها] ، تفسير الطبري "29/ 41"، تفسير الآلوسي "29/ 52".
3 تاج العروس "4/ 36"، "رجز"، إرشاد الساري "9/ 88"، اللسان "5/ 350"، "رجز".
4 العمدة "1/ 185".
5 تاج العروس "4/ 36 وما بعدها"، "رجز"، اللسان "5/ 350 وما بعدها"، تفسير القرطبي "15/ 52 وما بعدها".(17/173)
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأعداءَ قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا1
ورويت الأبيات بصورة أخرى. فقد رُوي أنه "لما خرج عامر بن الأكوع إلى خيبر جعل يرجز بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسوق به الركاب، وهو يقول:
تا الله لولا الله ما اهتدينا ... وما تصدقنا ولا صلينا
الكافرون قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا2
وموضوع أصل الرجز إذن موضوع ظهر في الإسلام، لما ورد في الأخبار من ارتجاز الرسول بعض الرجز، ولما ورد في القرآن الكريم وفي الحديث من نفي قول الشعر ونظمه عنه. فرأي فريق من العلماء إخراج الرجز من الشعر، لما بينته من أسباب. ورأي فريق آخر، أن الرجز جزء من الشعر، وأن ارتجاز الرسول الرجز، لا يتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم، لأن الرسول لم يتدرب عليه ولم يتعلمه ولم ينشأ منه أراجيز، وإنما ارتجز منه قليلا من غير قصد ولا عمد، ولا علاقة لذلك بالانكباب على تعلم الشعر والتخصص به. والدليل على أن الرجز نوع من أنواع الشعر، هو ما يرويه أهل الأخبار أنفسهم من أن قريشًا اجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة وكان ذا سن فيهم، ليتدبروا أمر الناس إذا حضر الموسم، ولإيجاد جواب موحد لهم في أمر القرآن وفيما يجب قوله فيه. فلما قالوا هل: نقول إنه قول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه
__________
1 إرشاد الساري "5/ 157"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 286 وما بعدها".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 287".(17/174)
ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر"1. فالرجز -إن صح هذا الخبر- هو مثل الهزج والقريض والمقبوض والمبسوط صنف من أصناف الشعر، ولون من ألوانه، ومن هذه الأصناف المذكورة تكون الشعر في نظر الجاهليين.
فالرجز إذن صنف من أصناف الشعر، وبحر من بحوره، له وزن وإيقاع، هكذا كانت نظرة أهل الجاهلية إليه. وهو في الواقع شعر. و"الرجاز شعراء عند العرب وفي متعارف اللسان"2.
"وليس يمتنع الرجز على المقصد امتناع القصيد على الراجز، ألا ترى أن كل مقصد يستطيع أن يرجز وإن صعب عليه بعض الصعوبة، وليس كل راجز يستطيع أن يقصد، واسم الشاعر وإن عمَّ المقصد والراجز فهو بالمقصد أعلق، وعليه أوقع، فقيل لهذا شاعر، ولذلك راجز، كأنه ليس بشاعر، كما يقال خطيب أو مرسل أو نحو ذلك"3.
ولسهولة الرجز على اللسان لم ينظر إليه نظرة إكبار مثل نظرتهم إلى الشعر، هذا أبو العلاء المعري، يجعل جنة الشعراء جنة سامقة، لها بيوت عالية، أما جنة الرجز، فجنة أبياتها ليس لها سموق أبيات الجنة، جُعل فيها: أغلب بني عجل، والعجاج، ورؤبة، وأبو النجم، وحميد الأرقط، وعُذافر بن أوس، وأبو نخيلة، ثم يقول: "تبارك العزيز الوهاب! لقد صدق الحديث المروي: "إن الله يجب معالي الأمور ويكره سفاسفها". وإن الرجز لمن سفساف القريض، قصرتم أيها النفر فقصر بكم"4.
ويعد الرجز من أقدم أنوع الشعر، ومن أبسطه وأيسره على الإنسان، ثم هو خفيف على النفس، فيه طرب وتأثير، وهو مطاوع يؤدي أغراضًا مختلفة، ويصلح لأن يعبر عن أحاسيس متنوعة، حتى يكاد أن يكون مطية الشعراء، يركبها كل من له طبع وذوق وحس مرهف، ومن هنا صار شعر من كان لا يقول الشعر أو لا يحضره إلى في الملمات والأزمات.
__________
1 الروض الأنف "1/ 173"، اللسان "5/ 350".
2 العمدة "1/ 185".
3 العمدة "1/ 186".
4 رسالة الغفران "373 وما بعدها".(17/175)
وهو في نظري أقدم من القصيد، لأنه أبسط منه وأسهل على النظم، فهو يمثل المرحلة الأولى من مراحل الشعر المألوف. وقد تكون سهولته في النظم، هي التي جعلت كبار الشعراء يأنفون من النظم به، فهو باب يمكن أن يلجه الشعراء الصغار، وربما يتغلبون به على كبار أهل القصيد، ولعل سهولته هذه قصرت في عمره، إذ جعلت الذاكرة تنساه بسرعة، لسهولته هذه، كما يسرع نسيان السجع والكلام الاعتيادي من الذاكرة فضاع بسبب ذلك الرجز الجاهلي، ولم تبق منه غير بقية قليلة.
واستعمل الرجز في أحوال البديهة والارتجال، وقد ارتجز في القتال، وفي الحداء والمفاخرة، وما جرى هذا المجرى، واستعمل في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وإثارة همم، لما فيه من ملاءمة لذلك. فلما بنى المسلمون مسجد الرسول بالمدينة، وكان الرسول يحمل اللَّبن معهم، كان الصحابة يرتجزون الرجز لإثارة الهمم وللتخفيف من وطأة العمل. قال "أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد. فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء. وقال غيره: أول من طوَّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم، وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحًا، لأنه إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك"1.
وبعد "الأغلب بن جشم بن عمر بن عبيدة بن حارثة العجلي" أول من نحا بالرجز منحى القصيد، فأسبغه وأطاله. وهو من المخضرمين. وقد قتل بنهاوند سنة "21هـ". وهو الذي جاء إلى "المغيرة بن شعبة"، فقال له:
أرجزًا تريد أم قصيدًا ... لقد طلبت هينًا موجودا
وكان الخليفة "عمر" -على ما يذكره أهل الأخبار- كتب إلى المغيرة وهو
__________
1 العمدة "1/ 89 وما بعدها"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "18/ 164".(17/176)
على الكوفة أن استنشد من قبلك من الشعراء عما قالوه في الإسلام مكان الشعر، فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه أن أنقص من عطاء الأغلب خمسمائة فزدها في عطاء لبيد1.
وروي أن العجاج، وهو عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف بن عمرو أبو الشعثاء التميمي، والد الشاعر رؤبة، هو أول من رفع الرجز وشبهه بالقصيد، وجعل له أوائل2. وهو من شعراء الإسلام، وكان يفد على ملوك بني أمية من أمثال الوليد بن عبد الملك3، وسليمان بن عبد الملك4.
وهو قليل الورود في شعر الشعراء الجاهليين، فقلما استعمل "نوابغ الشعراء في زمان الجاهلية" الرجز، كأنه ليس أهلا لمنزلتهم. ففي ديوان امرئ القيس لا نعثر إلا على أربع مقطعات صغيرة منه. أعني اثنتين من المشطور واثنتين من غير المشطور. وأكثر من امرئ القيس ارتجازًا لبيد بن ربيعة من الذين أدركوا الإسلام تنسب إليه خمس عشرة مقطعة في الرجز المشطور، تدور على المفاخرة والحكمة والمعاتبة والمديح والرثاء، وتشتمل إحداهما وهي أطولها على ستة عشر بيتًا.
أما دواوين النابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وعلقمة الفحل، فلا شيء فيها من الرجز. وعلى كل حال لم يكن الارتجاز في زمان الجاهلية إلا بصفة قطع صغيرة يقولها الناس غالبًا في الهجاء أو في الحرب وعند اللقاء. أما في القرن الأول للهجرة، فأخذ بعض الشعراء من الفحول ينظمون الشعر في ذلك البحر المحتقر فإلى هذا التغير أشار ابن رشيق القيرواني في كتاب العمدة حين قال: قال أبو عبيدة إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك إذا حارب أو شاتم أو فاخر حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده ونسب فيه وذكر الديار واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها
__________
1 المؤتلف والمختلف "22"، طبقات الشعراء "148 وما بعدها"، الأغاني "18/ 164 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 225"، الشعر والشعراء "2/ 511"، الإصابة "1/ 71"، "رقم 225"، الخزانة "1/ 223"، أسد الغابة "1/ 105".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 49".
3 بروكلمن "1/ 226".
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاء "2/ 493".(17/177)
وبَكَى على الشباب ووصف الراحلة كما فعلت الشعراء بالقصيد، فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء، وقال غيره أول من طوَّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم. وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحًا، لأنه إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك.
ولكن لا شك في وقوع سهو في آخر كلام ابن رشيق، لأنه من الواضح أن الجمحي إنما أراد بقوله استعمال بحر الرجز في نظم الشعر مثل القصائد، فليس من الممكن أن رجلا عالمًا بتأريخ الشعر ودقائقه مثل الجمحي جهل ما هو متداول عند كل العلماء أن الرجز من أقدم فنون الشعر عند عرب الجاهلية. وقول الجمحي صواب تؤيده عدة نصوص منها شهادة العجاج من أشهر شعراء الأراجيز الذي قال مفتخرًا:
وإن يكن أمسي شبابي قد حسر ... وفترت مني البواني وفتر
إني أنا الأغلب أضحى قد نشر
يعني أنه أحيا طريقة شعر الأغلب. وهو الأغلب بن جشم العجلي عاش في الجاهلية مدة وأدرك الإسلام وأسلم وله شعر في سجاح لما تزوجت مسيلمة الكذاب"1.
والهزج نوع من أعاريض الشعر، من الأغاني وفيه ترنم2. وهو باب معروف من أبواب الشعر عند الجاهليين، كباب الرجز، بدليل جعل الوليد بن المغيرة إياه صنفًا من أصناف الشعر. وقد عرف من كان يقول الهزج بالهزاج. وأهزج إذا هزج الهزج، أي قال به. والهزاجون طبقة امتازت عن غيرها بقولها الهزج، وكانوا يرددونه ترديد الغناء، ولذلك عد من الأغاني، وقالوا: الهزج صوت مطرب. قيل سمي بذلك تشبيهًا بهزج الصوت، وقيل لطيبه لأن الهزج من الأغاني3. فهي إذن من الشعر الغنائي "Lyric"
__________
1 كارلو ناليو، تأريخ آداب اللغة العربية "186 وما بعدها".
2 اللسان "2/ 390 وما بعدها"، "هزج".
3 تاج العروس "2/ 116"، "هزج".(17/178)
وقد استعمل العرب الهزج في أناشيد التنشيط للقتال، وفي المناسبات العامة، مثل الأفراح، والتجمعات، حيث يترنم القوم جماعةً بأنغام الهزج، فالهزج شعر مقرون بغناء وترنيم.
والرَّمَل من الشعر كل شعر مهزول غير مؤتلف البناء. قال بعض العلماء عنه: "وأما الرمل فإن العرب وضعت فيه اللفظة نفسها، عبارة عندهم عن الشعر الذي وضعه أهل الصناعة، لم ينقلوه نقلا علميًّا ولا نقلا تشبيهيًّا. وبالجملة فإن الرمل كل ما كان غير القصيد من الشعر وغير الرجز"1. وقد أخذ علماء العروض اللفظة والمعنى كما سمعوها من العرب ولم يحدثوا عليهما أي تغيير. مما يدل على أنه كان من الأبواب المميزة المعروفة عند الجاهليين. وذلك مثل الرجز والقصيد2، والمقبوض والمبسوط، على نحو ما ذكرت قبل قليل.
وأما "القصيد" من الشعر، فما تم شطر أبياته أو شطر أبنيته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه. سمي قصيدًا لأنه قصد واعتمد، وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه نحو الرمل والرجز شعرًا مرادًا مقصودًا، وذلك أن ما تم من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدمًا في أنفسهم مما قصر واختل، فسموا ما طال ووفر قصيدًا، أي مرادًا مقصوداً، وإن كان الرمل والرجز أيضا مرادين مقصودين3. وقيل "القصيد من الشعر المنقح المجود المهذب الذي قد أعمل فيه الشاعر فكرته ولم يقتضبه اقتضابًا كالقصيدة"4.
والقصيد، جمع القصيدة، وقيل: الجمع قصائد وقصيد. سمي قصيدًا لأن قائله احتفل له فنقحه باللفظ الجيد والمعنى المختار، وقالوا: سمي الشعر التام قصيدًا لأن قائله جعله من باله فقصد له قصدًا ولم يحتسه حسيًا على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل روى فيه خاطره واجتهد في تجويده ولم يقتضبه اقتضابًا5. ويقال قصد الشاعر وأقصد، إذا أطال وواصل عمل القصائد. والذي في العادة أن يسمى ما كان على ثلاثة أبيات أو عشر أو خمس عشرة قطعة، فأما ما زاد
__________
1 اللسان "11/ 296"، تاج العروس "7/ 351"، "رمل".
2 اللسان "11/ 296".
3 اللسان "3/ 354"، "قصد"، تاج العروس "2/ 467"، "قصد".
4 تاج العروس "2/ 468".
5 اللسان "3/ 354"، "قصد".(17/179)
على ذلك فإنما تسميه العرب قصيدة1. "وقيل: إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة، ولهذا كان الإيطاء بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس. ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوزها ولو ببيت واحد. ويستحسنون أن تكون القصيدة وِترًا، وأن يتجاوز بها العقد، أو توقف دونه"2. فالقصيدة إذن كلمة طويلة بالنسبة إلى القطعة فيها وحدة أطول هي وحدة القصيدة، التي تعرف بفتافيتها3. ويعبر عنها بلفظة "كلمة" "الكلمة" مجازًا، كما عبر عنها في المؤلفات القديمة4.
وينسب إلى الأخفش قوله: "القصيد من الشعر هو الطويل، والبسيط التام، والكامل التام، والمديد التام، والوافر التام، والرجز التام، والخفيف التام، وهو كل ما تغنى به الركبان، ولم نسمعهم يتغنون بالخفيف"5. و"القصد" مواصلة الشاعر عمل القصائد وإطالته كالإقصاد. قال الشاعر:
قد وردت مثل اليماني الهزهاز ... تدفع عن أعناقها بالأعجاز
أعيت على مقصدنا والرجاز6.
وكلمة "قصيدة" من الكلمات المستعملة في الشعر الجاهلي. جاء أن أحد شعراء "بكر بن وائل" سخر من تغلب لما كانت تتباهى به من ترديدها لقصيدة شاعرها عمر بن كلثوم في مدح نفسه وقومه، فقال:
ألهي بني تغلب عن كلمة مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدًا مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسئوم7
وورد في شعر للمسيب بن علس قوله:
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع8
__________
1 اللسان "3/ 355"، تاج العروس "2/ 467"، "قصد".
2 العمدة "1/ 189".
3 بروكلمن "1/ 58".
4 الآمدي، المؤتلف "106"، ابن سلام، طبقات "27"، ابن سعد "3/ 176".
5 تاج العروس "2/ 467"، "قصد".
6 تاج العروس "2/ 466"، "قصد".
7 الأغاني "11/ 54".
8 الْمُفَضَّلِيَّات "62".(17/180)
فاللَّفظة إذن من الألفاظ التي استعملها الجاهليون، بمعناها المفهوم. وقد بحث في أصلها علماء اللغة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب1. وللمستشرقين كلام في أصلها وفي معناها. ذهب بعض منهم إلى أنها من القصد والغرض، وأنها قيلت في شعر الطلب أولا، ثم أطلقت على كل شعر آخر، ولهذا اقترح بعضهم ترجمتها بشعر الطلب أو شعر التسول، وعارض هذا التفسير بعض آخر، لأن التسول في رأيهم لم يكن الغرض الأول من نظم الشعر، وإنما كان غرضًا من أغراضه، ثم إن أقدم الشعراء الذين قصدوا القصائد لم يكونوا من الشعراء المتسولين، وإنما كانوا من المترفعين المتعالين، ولهذا رفضوا تفسير القصيد بشعر التسول والطلب1، وقال "بروكلمن": "إن صح أن لفظ القصيد بعيد القدم، فمن الممكن أن يكون الغرض والقصد بحسب الأصل غرضًا من أغراض السحر، وكثيرًا ما صار غرضًا سياسيًّا في وقت متأخر، ثم صار يستعمل بأوسع معاني الكلمة في جميع أغراض الحياة الاجتماعية، وإن كان من الحق أنه استعمل أيضًا منذ عهد قديم في أغراض أنانية محضة"2.
وتعرف القصيدة بالقافية كذلك. واستشهد العلماء على ذلك بقول الخنساء:
فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء
وبقول آخر:
نبئت قافية قيلت تناشدها ... قوم سأترك في أغراضهم ندبا
وذكروا أن القافية في قول حسان بن ثابت:
فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء
قد تعني القصيدة، وقد تعني البيت منها. "قال الأزهري: العرب
__________
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 59".
Goldziher, Historyof Classical Arabic Literature, p. 10.
2 بروكلمن "1/ 59".(17/181)
تسمي البيت من الشعر قافية، وربما سموا القصيدة قافية، ويقولون رويت لفلان كذا وكذا قافية1. والقافية هي "ميقف" في العبرانية.
وأطلقت على القصيدة لفظة "كلمة"، وقد استعملها ابن سلام في مواضع من كتابه "طبقات الشعراء"، فتجده يقول: "ومن شعر حسان الرائع الجيد ما مدح به بني جفنة من غسان ملوك الشأم في كلمة"، ثم ذكر القصيدة، ثم يقول: "وقوله في الكلمة الأخرى الطويلة"2، و"قال في يوم أحد كلمة قال فيها"3، ويقول "وكان أبو الصلت يمدح أهل فارس حين قتلوا الحبشة في كلمة قال فيها"4، و"السموأل بن عادياء يقول في كلمة له طويلة"5، ووردت في مواضع عديدة أخرى بهذا المعنى وفي بقية كتب الشعر والأدب.
وتتألف القصيدة من أبيات. والبيت هو بيت الشعر6. ويتكون البيت من شطرين. والشَّطْرُ نصف الشيء. فشطر البيت نصفه7. والبيت في القصيدة الجاهلية وحدة معنوية مستقلة قائمة بذاتها، إذا انتزعت بيتًا منها، أو تركت بيتًا، أو قدمت فيها بيتًا على بيت، أو أخرت في أبياتها، فإنك لا تكاد تفصم عرى القصيدة ولا تؤثر على ترابط معناها في الغالب، لأن كل بيت منها وحدة قائمة بذاتها لا تتصل بما قبلها أو بما بعدها إلا بسبب الوزن والقافية.
وقد عرفت بعض الأبيات بالأوابد. والأوابد من الشعر: الأبيات السائرة كالأمثال8. وذكر أن الأوابد الشوارد من القوافي9، ورد في كتب اللغة: "ومن المجاز أبد الشاعر يأبد أبودًا، إذا أتى العويص في شعره. وهي الأوابد والغرائب وما لا يعرف معناه على بادئ الرأي"10.
__________
1 تاج العروس "10/ 300"، "قفو".
2 "ص53، 54".
3 طبقات "58".
4 طبقات "66".
5 طبقات "71".
6 تاج العروس "1/ 530"، "بيت".
7 تاج العروس "3/ 298"، "شطر".
8 العمدة "2/ 185".
9 اللسان "3/ 69"، "أبد".
10 تاج العروس "2/ 286 وما بعدها"، "أبد".(17/182)
وتكون القصائد طويلة في الغالب، أما القطع، فهي أقصر من القصيدة، وفيه كان "ابن الزبعري"، لا ينظم القصائد الطوال، ويميل إلى القطع، وكان عذره "أن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل". وللشعراء الطوال والقصار، كل حسب المناسبة1. وقد اختتمت بعض القصائد الجاهلية بالحكم والأمثال وبالأقوال المأثورة. وللقصائد الطوال المحبوكة حبكًا حسنًا، والمنظومة نظمًا جيدًا، سابقة وقدم على مثيلاتها من القصائد الوسط أو القصيرة، ومن هنا اختار حماد الراوية "السبع الطوال" "السبع الطول" من الشعر الجاهلي، وزعم في أصلها ما زعم. ونظم القصيدة الطويلة، يحتاج إلى نفس طويل، وإلى تمكن من الشعر، وإلا أصابها الوهن والعجز، ومن هنا عد أصحاب المطولات الجيدة من أحسن الشعراء.
وقد ذهب "غرونباوم" إلى أن القصيدة العاشرة من القصائد المنسوبة إلى "عمرو بن قميئة"، ربما تكون أقدم قصيدة تامة وصلت إلينا من الشعر الجاهلي، "على أنها لم تكن بعد تفي بجميع مقتضيات النقاد النظريين، لأنها لا تشمل، في الأبيات التسعة عشر التي تلي النسيب، إلا على وصف سحابة ممطرة، ومدح رجل يدعى امرأ القيس بن عمرة. ولو أن هذه القصيدة تأخرت عن العصر، بوقت قصير، لاعتبرت أثرًا غثًّا. وليس السبب في ذلك أن عدد أبيات القصيدة من بعد قد ازداد إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف، أو بلغ أو جاوز المائة، وإنما هو في كثرة المشاهد التي حشدت حتى تحققت هذه المنظومات الرائعة. ومن شواهد ذلك قصيدتان للأعشى "حوالي 565- 629م" هما الأول والسادسة من ديوانه، وأولى قصائد أبي ذؤيب الهذلي "ت حوالي 650م"، وفيها تصوير لسلطة القدر المحتوم في ثلاثة مشاهد مؤثرة تمثل مصرع حمار الوحش القوي وثور الوحش الهائج، والفارس الشاكي السلاح المستجن بدرعه. وإذ كان الحافز لقول القصيدة هو وفاة ابن الشاعر، فقد جمعت هذه القصيدة جمعًا موفقًا بين مزايا المرثية وخصائص القصيدة"2.
وقد بلغ الشعر الجاهلي ذروته عند ظهور الإسلام. كان الشعراء في هذا العهد ينظمون القصيد ببحوره التي ضبطت وثبتت في الإسلام، في مقاصد أشرت إليها
__________
1 العمدة "1/ 186 وما بعدها".
2 غرونباوم "139".(17/183)
في موضع آخر من هذا الجزء من الكتاب، كما كانوا قد طوروا الرجز وتفننوا فيه. وقد أدى ظهور الإسلام إلى إحداث تغير في نمط نظم القصائد، لأن الإسلام حدث تأريخي جاء برأي في شئون الحياة جديد، فكان لا بد للشعراء من مجاراة هذا التيار الفكري، لا سيما بعد خروج العرب من جزيرتهم وانتشارهم في أرضين جديدة غنية، وحكمهم لأقوام كانت لهم حضارة، فكان لا بد من تأثر النفس بالوضع الجديد، والشعر تعبير عن النفوس والأحاسيس.
والقافية من الشعر الذي يقفوا البيت، سميت قافية لأنها تقفوه، أو لأن بعضها يتبع أثر بعض. وقيل: هي آخر كلمة في البيت، أو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، وهو المسمى رويًّا. وعرف الخليل القافية بقوله: "القافية من آخر حرف ساكن فيه، أي في البيت، إلى أول ساكن يليه مع الحركة التي قبل الساكن"1. وأرى أن هذا التعريف قد أخذه الخليل من أهل الكتاب. فالقافية بهذا التعريف تقابل Maqqeph "مقف" "مقيف" عند العبرانيين2، و"المقيفات" هي التي تحدد الشعر، وتجعل من الكلام المؤلف من "مقيفات" شعرًا، ولا يستبعد استعمال الجاهليين لهذا المصطلح استعمال العبرانيين والسريان له، لما دوَّن الخليل علم العروض أخذ هذا المصطلح منهم، ودليل ذلك ورود لفظة "قافية" و"القوافي" في الشعر قبل أيام الخليل3، ثم اختلاف العلماء وتباين آرائهم في معنى القافية4.
ويذكر أهل الأخبار أن مهلهل بن ربيعة، وهو خال امرئ القيس الشاعر، وجد عمرو بن كلثوم هو أول من قصد القصائد. وقد قال الفرزدق فيه:
ومهلهل الشعراء ذاك الأول5
فهو أول شعراء القصائد، وهو متقدم على امرئ القيس.
__________
1 تاج العروس "10/ 300"، "قفو".
2 Hastings, p, 737.
3 تاج العروس "10/ 300"، "قفو".
4 نزهة الجليس "1/ 120".
5 العمدة "87"، الشعر والشعراء "164".(17/184)
ويرى "فون غرونباوم" أن الشعراء حرصوا منذ حوالي السنة 500م على التصريع في المطلع، ثم التزام قافية واحدة في جميع أبيات القصيدة، من أولها إلى آخرها، بحيث يسوغ القول: إن القافية الواحدة أدل على وحدة القطعة الشعرية من المعاني الواردة فيها.
"ويتجلى في أقدم المحفوظ من الشعر العربي تنويع عظيم في الوزن، وصقل بارع في التعبير اللغوي. وهذا يعني أنه كان قد نشأ، قبل ذلك، مذهب شعري ينص على التنويع والصقل المشار إليهما. وأخذت الأقطار المختلفة تؤثر أوزانًا مختلفة، ويكاد يكون من المرجح أن الفرس قد تركوا، في شعر الأقدمين من شعراء العراق، تأثيرًا بالغًا في الطريقة الفنية. فهنالك وزنان على الأقل، امتاز بهما هؤلاء الشعراء هما الرمل والمتقارب، وربما زدنا إليهما الخفيف. ويبدو أنها جميعًا اقتبست من أصول فارسية بهلوية، وحورت بما يلائم الأوضاع العربية.
وربما كان للسريان فضلٌ ما في وضع المصطلحات الفنية الأولى مثل كلمة "البيت" أي "الخيمة" لتدل على الوحدة الجزئية من القصيدة. لكن كان لنظرية الفن العروضي، على العموم نشأة مستقلة، فالخليل بن أحمد "ت175هـ- 791م"، وضع قواعد العروض العربي بعد ذلك بزمن طويل، وقد بقيت قواعده معتمد الأدباء عبر القرون. فقد أقر الخليل ستة عشر وزنًا، واطرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها. ثم إنه جرى على طريقة، جرى عليها النحاة من بعد في الرمز إلى صيغة اللفظة، فأشار إلى وحدة الإيقاع الشعري بصيغة مشتقة من فعل"1.
وقد تكلف الناس كثيرًا، وحملوا أنفسهم حملا ثقيلا، باعتذارهم عن أمور متكلفة وردت في شعر زعم أنه كان للقدماء من الشعراء، فالتصريع مثلا، إذا كثر استعماله في القصيدة دل في نظر العلماء بالشعر على التكلف، إن كان من المحدثين، أما إذا كان من المتقدمين، لا يعد متكلفًا في نظرهم، واعتذروا عنه بأنه جرى على عادة الناس، لئلا يخرج عن المتعارف. ومن هذا القبيل التصريع المنسوب إلى امرئ القيس:
__________
1 غرونباوم "134 وما بعدها".(17/185)
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا عليك بأن تنتظر
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر
وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر1
ونسبوا إلى امرئ القيس "المسمط" من الشعر. والشعر المسمط الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة، وتجمعها قافية مخالفة لازمة للقصيدة حتى تنقفى. وقيل: أبيات مشطورة تجمعها قافية واحدة، وهو الذي يقال له عند المولدين "المخمس". ومن أنواعه المسبع والمثمن، وقيل المسمط من الشعر أبيات تجمعها قافية واحدة مخالفة لقوافي الأبيات. وقيل المسمط من الشعر ما قفي أرباع بيوته وسمط قافية مخالفة. يقال: قصيدة مسمطة وسمطية. ومن الشاعر المسمط المنسوب إلى امرئ القيس قوله:
ومستلثم كشفت بالرمح ذيله ... أقمت بعضب ذي سفاسق ميله
فجعت به في ملتقى الخيل خيله ... تركت عتاق الطير تحجل حوله
كأن على أثوابه نضح جريال
ونسب له قوله:
توهمت من هند معالم أطلال ... عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصايف ... يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف ... وكل مسف ثم آخر رادف
بأسحم من نوء السماكين هطال2
وتعرض المعري للتسميط في رسالة الغفران، حين التقى بامرئ القيس، فسأله: "أخبرني عن التسميط المنسوب إليك، أصحيح هو عنك؟ وينشده الذي يرويه بعض الناس:
__________
1 العمدة:1/ 174".
2 تاج العروس "5/ 161"، "سمط"، "كأن على سرباله، نفح جريال"، اللسان "7/ 322 وما بعدها"، "سمط".(17/186)
يا صحبنا عرِّجوا ... نقف بكم أسج
مهرية دُلُج ... في سيرها مُعج
طالت بها الرحل
فعرجوا كلهم ... والْهَمّ يشغلهم
والعيس تحملهم ... ليست تعللهم
وعاجت الرمل
يا قوم إن الهوى ... إذا أصاب الفتى
في القلب ثم ارتقى ... فهد بعض القوى
فقد هوى الرجل
فيجيب المعري على لسانه بقوله: "لا والله ما سمعت هذا قط، وإنه لقرى لم أسلكه، وإن الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليّ! أبعد كلمتي التي أولها:
ألا أنعم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالي
وقولي:
خليليّ مرّا بي على أم جندب ... لأقضي حاجات الفؤاد المعذب
يقال لي مثل ذلك؟ والرجز من أضعف الشعر، وهذا الوزن من أضعف الرجز"1.
ونسبوا إليه كثرة التصريع في غير أول القصيدة، وكثرة استعمال الضرب المقبوض في الطويل، وكثرة الأقواء في القافية2. ويعد الأقواء من عيوب الشعر، غير أننا لا نستطيع مجاراة علماء العروض في هذا الرأي، إذ يجوز ألا يكون الاقواء عيبًا عند أهل الجاهلية، وإنما صار عيبًا في الإسلام، بعد تثبيت قواعد اللغة والبحور. ونجد هذا الرأي مثبتًا في رسالة الغفران.
__________
1 رسالة الغفران "319 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 99".(17/187)
ولا يمكن أن نتصور أن القصائد الجاهلية الطويلة قد نظمت على نحو ما يرويها أهل الأخبار، دون إجراء أي تغيير أو تحوير عليها. فقد كان الشاعر ينفصل فيتعلم قصيدته ويحفظها راويته ويذيعها بين الناس، ثم يحدث أن تخطر له خواطر أو يسمع نقدًا لبعض أبياتها، أو توجيهًا يبديه له بعض أصدقائه أو يسمع تنبيهًا موجهًا إليه بوجود شيء في قصيدته غفل عنه، فيجري بعض التغيير عليها من تعديل أو زيادة أو نقصان، قد يحفظ ويروى، وقد يهمل ويترك، ولهذا فنحن لا نستطيع الادعاء: أن نظم القصائد كان نظمًا تامًّا، لم يشمله أي تعديل أو تبديل وأن الشاعر لم يكن ينشد قصيدته إلا بعد أن يكون قد اطمأن منها وضبطها ضبطًا تامًّا.
"ومن الشعراء من يحكم القريض ولا يحسن من الرجز شيئًا، ففي الجاهلية منهم: زهير، والنابغة، والأعشى. وأما من يجمعهما فامرؤ القيس وله شيء من الرجز، وطرفة وله كمثل ذلك، ولبيد وقد أكثر"1.
وليس في مستطاع أحد إثبات أن البحور المدونة في علم العروض، هي كل بحور الشاعر الجاهلي وأوزانه، لم يهمل منها وزن، ولم ينس منها بحر، لأن على من يدعي هذه الدعوى، إثبات أن الإسلاميين الذين جاءوا بعد الجاهليين قد أحاطوا علمًا بكل الشعر الجاهلي، وأنهم أحصوه عددًا، فلم يتركوا منه بيتًا ولا قطعة ولا قصيدة. وعلماء الشعر ينفون ذلك ويقولون: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"2.
ويرى "غرونباوم" أن الشعر الجاهلي قد تطور: "وتتجلى فيه معالم التطور بصورة واضحة: فمن ذوبان اللهجات المتعددة في لغة واحدة، تجمَّع فيها تراث المدارس المختلفة واللهجات المتباينة بصورة متزايدة حتى تحقق حوالي سنة 600، إلى زيادة القيود في نظام العروض الفني، فإن ظفر بعض الفئات باستنباط تعابير
__________
1 البيان والتبيين "4/ 84".
2 الشعر والشعراء "7 وما بعدها"، "دار الثقافة".(17/188)
جديدة لم تلبث أن شاعت تدريجيًّا في أوساط أخرى، وأخيرًا إلى اتجاه سياق الشعر نحو الاتساع وعدد أبيات القصيدة إلى الازدياد. إن تحليل هذا النمو السريع نسبيًّا، على ضوء ما نعرفه عن المخلفات القديمة ليحملنا على الاعتقاد بأن وضع تأريخ معين يحدد بدء الشعر العربي الفني أمر متعذر، ولكن الغالب على الظن أن أوائل هذا الشعر لا تتخطى أقدم المدونات التي بلغتنا بزمن طويل. وهذا الحكم إنما ينطبق على الطبقة الشعرية الثالثة والأخيرة لا غير. ولئن تعاصرت هذه الطبقات الشعرية الثلاث معًا في الفترة الجاهلية المذكورة، فمن البدهي أنها لم تبرز إلى الوجود في وقت واحد"1.
__________
1 غرونباوم "135وما بعدها".(17/189)
التمليط:
وهو أن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيمًا وهذا قسيمًا لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه1، وفي الحكاية أن امرأ القيس قال للتوأم اليشكري: إن كنت شاعرًا كما تقول فملط أنصاف ما أقول فأجزها، قال نعم. فقال امرؤ القيس:
أحار ترى بريقًا هب وهنا
فقال التوأم اليشكري:
كنار مجوس تستعر استعارا
فقال امرؤ القيس:
أرقت له ونام أبو شريح
فقال التوأم:
إذا ما قلت قد هدأ استطارا
فقال امرؤ القيس:
كأن هزيمه بوراء غيث
__________
1 اللسان "7/ 409"، "ملط".(17/189)
فقال التوأم:
عشار وإله لاقت عشارا
فقال امرؤ القيس:
فلما أن علا كتفي أضاخ
فقال التوأم:
وهت أعجاز رييِّه فحارا
فقال امرؤ القيس:
فلم يترك بذات الشر ظبيًا
وقال التوأم:
ولم يترك بجهلتها حمارا
فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك الحرس من يمانته، آلى ألا ينازع الشعر أحدًا آخر الدهر.
وذكر أن شعر التوأم في هذا التمليط، أقوى من شعر امرئ القيس، لأن امرأ القيس مبتدئ ما شاء، وهو في فسحة مما أراد، والتوأم محكوم عليه بأول البيت، مضطر في القافية التي عليها مدارها جميعًا، ومن ههنا عرف له امرؤ القيس من حق المماتنة ما عرف. ونازع أيضًا علقمة بن عبدة، فكان من غلبة علقمة عليه ما كان1.
والمماتنة المعارضة في جدل أو خصومة، والمباهاة في الجري أو في الشعر، بأن يتماتن شاعران أو أكثر ليتبين أيهم أشعر2.
وقد يمتحن الشعراء بعضهم بعضًا قول الشعر، كأن يقول أحدهم بيتًا أو نصف بيت، ثم يقول لصاحبه: أجز، ليقدم مثله، قيل: قال زهير بن أبي سلمى بيتًا ثم أكدى، ومر به النابغة الذبياني، فقال له: يا أبا أمامة، أجز، قال: ماذا؟ قال:
__________
1 العمدة "1/ 202 وما بعدها"، "2/ 91".
2 تاج العروس "9/ 240"، "متن".(17/190)
تزال الأرض إما مت خفا ... وتحيا ما خييت بها ثقيلا
نزلت بمستقر العز منها ... ....................
فماذا قال؟ فأكدى النابغة أيضًا، وأقبل كعب بن زهير، وهو غلام، فقال له أبوه: أجز يا بني، فقال: ماذا؟ فأنشده البيت الأول ومن الثاني قوله: نزلت بمستقر العز منها، فقال كعب:
فنمنع جانبيها أن يزولا1
ومن الإجازة قول حسان بن ثابت:
متاريك أرباب الأمور إذا اعترت ... أخذنا الفروع واجتنبنا أصولها
وأجبل، فقالت ابنته: يا أبت، ألا أجيز عنك، فقال: أو عندك ذاك؟ قالت: نعم، قال: فافعلي، فقالت:
مقاويل للمعروف خرس عن الخنا ... كرام يعاطون العشيرة سولها
فحمى حسان عند ذاك، فقال:
وقافية مثل السنان ردفتها ... تناولت من جو السماء نزولها
فقالت ابنته:
يراها الذي لا ينطق الشعر عنده ... ويعجز عن أمثالها أن يقولها2
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 97 وما بعدها".
2 العمدة "2/ 98".(17/191)
الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض
...
الفَصْلُ التَّاسِعُ والأربعون بعدَ المائةِ: الْعَرُوضُ
والعروض ميزان الشعر، سمي به لأنه به يظهر المتزن من المنكسر عند المعارضة بها. وذكر الأخباريون جملة تفسيرات لسبب تسميتهم العروض عروضًا، منها أنه علم الشعر، ألهم الخليل به بمكة، ومكة من العروض، فقيل لهذا العلم عروضًا1، ومنها: أنه إنما سمي عروضًا لأن الشعر يعرض عليه، ومنها: أنه إنما عرف بعروض الشعر، بقولهم: فواصل أنصاف الشعر، وهو آخر النصف الأول من البيت. فالنصف الأول عروض؛ لأن الثاني يبنى على الأول والنصف الأخير الشطر أو لأن العروض طرائق الشعر وعموده مثل الطويل، فيقال هو عروض واحد. واختلاف قوافيه يسمى ضروبًا2. أو لأنه إن عرف نصف البيت، وهو العروض سهل تقطيع البيت حينئذ، ولذلك قيل له العروض3. وذهب البعض إلى أنه إنما عرف بذلك من العرض، لأن الشعر يعرض على هذه الأوزان فما وافق كان صحيحًا وما خالف كان سقيمًا. وقيل من العروض، أي الطريق التي في الجبل، والمراد الطريق التي سلكتها العرب، وقيل لما شبهوا البيت من الشعر ببيت الشعر، شبهوا العروض الذي يقيم وزنه بالعروض، وهي الخشبة المعترضة
__________
1 تاج العروس "5/ 41"، "عرض".
2 اللسان "7/ 184"، "عرض".
3 الخوارزمي، مفتاح العلوم "51".(17/192)
في سقف البيت، كما شبهوا الأسباب بالأسباب والأوتاد بالأوتاد، والفواصل بالفواصل1. وعلم العروض، هو علم الشعر والقافية، ويرادفه علم الوزن: وزن الشعر، ويدل اختلافهم الشديد في تعريفه على عدم وجود رأي واضح عند العلماء عن منشئه وعن كيفية ظهوره2.
وعندي أن في اختلاف العلماء هذا الاختلاف الشديد في سبب تسمية العروض عروضًا، دلالة على أن اللفظة من الألفاظ التي كانت مستعملة قبل الإسلام، وأنها لم تكن من وضع "الخليل" وإنما كانت لفظة قديمة جاهلية قصد بها النظر في الشعر والبصر بدروبه وأبوابه وطرقه، فلو كانت الكلمة إسلامية ومن وضع "الخليل" لما وقع بينهم هذا الاختلاف، وما كان "الخليل" ليهمل السبب الذي حمله على اختيار هذه التسمية، ولسأله العلماء حتمًا عن السبب الذي جعله يسمي هذا العلم عروضًا، فقد عودنا العلماء، أنهم إذا وقفوا أمام أمر قديم جاهلي، وهم لا يعرفون من خبره شيئًا، جاءوا بآراء متباينة وبتعليلات مختلفة، لبيان العلل والأسباب. ولو كان العروض من العلوم أو المسميات التي وضعت في الإسلام، لما اختلفوا في تعريفه هذا الاختلاف، وفي اختلافهم هذا الاختلاف في تعريفه، دلالة على قدمه قياسًا على ما عرفناه عنهم، من اختلافهم في تفسير المصطلحات والمسميات القديمة.
وقد قال قوم في الإسلام لا حاجة إلى العروض، لأن من نظم بالعروض شق ذلك عليه وأتى به متكلفًا، ومن نظم بالطبع السليم والسليقة جاء شعره طبيعيًّا سليمًا3. ولا بد وأن تكون هذه المعارضة قد ظهرت بعد ظهور علم العروض وتدوينه وتثبيت قواعده، ومحاولة العروضيين فرض سلطان قواعدهم على الشعر والشعراء، ولما كان الشعراء ينظمون الشعر بسليقتهم وفق عرفهم الذي ألفوه وتعودوا عليه، وعن طبع وموهبة فيهم، لم يحفلوا بالعروض، وصار العروض علمًا يحفظه من لا يقرض الشعر الرفيع العالي المنبعث عن شاعرية وعاطفة وهيجان خاطر، وصار شعر العروضي شعرًا متكلفًا في الغالب، لا يداني شعر الشعراء
__________
1 نزهة الجليس "1/ 115".
2 Ency, Vol. i. p, 463.
3 نزهة الجليس "1/ 116".(17/193)
الذين يقولون الشعر، وهم أحرار طلقاء، لعدم وجود الموهبة الشعرية فيهم، والبصر بالعروض يجعل من حافظه شاعرًا.
والمعروف بين الناس أن العروض في الإسلام، وضعه "أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم" الفراهيدي الأزدي اليحمدي "100- 170، 175"1. استخرج الأوزان، ودون البحور، "وكان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس. وهو أول من استخرج العروض وحصن به أشعار العرب"2. وقد عرف بـ"صاحب العروض"3. وقيل عنه: كان "الغاية في تصحيح القياس، واستخراج مسائل النحو وتعليله"4، "وهو أول من استخرج علم العروض، وضبط اللغة. وكان أول من حصر أشعار العرب. روي عنه أنه كان يقطع العروض فدخل عليه ولده في تلك الحالة فخرج إلى الناس وقال: إن أبي قد جن. فدخل الناس عليه وهو يقطع العروض فأخبروه بما قال ابنه، فقال له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما أقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذلتكا5
و"الخليل" نفسه من الشعراء، وقد أورد العلماء له شعرًا6. وقد أورد "ابن قتيبة" له أبياتًا، عقب عليها بقوله: "وهذا الشعر بَيِّن التكلف رديء الصنعة. وكذلك أشعار العلماء، ليس فيها شيء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الأصعمي، وشعر ابن المقفع، وشعر الخليل، خلا خلف الأحمر، فإن كان أجودهم طبعًا وأكثرهم شعرًا7.
وقد تعرض "أبو الحسين أحمد بن فارس" لموضوع نشأة النحو والعروض في الإسلام، فقال: "فإنا لم نزعم أن العرب كلها -مدرًا ووبرًا- قد عرفوا
__________
1 الفهرست "69 وما بعدها"، "المقالة الثانية"، القِفْطِي، إنباه الرواة "1/ 342"،
2 الفهرست "70".
3 السيوطي، بغية "243"، ياقوت، إرشاد "4/ 181"، ابن الأنباري، نزهة "55".
4 نزهة الألباء، لابن الأنباري "29"، "بغداد 1959م".
5 نزهة الألباء "29 وما بعدها"، "بغداد 1959م".
6 المحاسن والأضداد "50"، الشعر والشعراء "1/ 16"، "2/ 630".
7 الشعر والشعراء "1/ 16".(17/194)
الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم: فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة، وأبو حية كان أمس، وقد كان قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخط ويقرأ، وكان في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتبون". "أفيكون جهل أبي حية بالكتابة حجة على هؤلاء الأئمة؟
والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض. والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها:
شاقتك أظعان للي ... ى دون ناظرة بواكر
فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقًا من غير قصد لا يكاد يكون.
فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول إن هذين العلمين قد كانا قديمًا، وأتت عليهما الأيام، وقلَّا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان، وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب. وأما العروض فمن الدليل على أنه كان متعارفًا معلومًا اتفاق أهل العلم على أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا -أو من قال منهم- إنه شعر. فقال الوليد بن المغيرة منكرًا عليهم، لقد عرضت ما يقرأه محمد على أقراء الشعر: هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أره يشبه شيئًا من ذلك. أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحور الشعر؟ وقد زعم ناس أن علومًا كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها درست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصبحت منقولة من لغة إلى لغة. وليس ما قالوا ببعيد"1.
"ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر. فكتبوا ذوات
__________
1 الصاحبي "ص36 وما بعدها".(17/195)
الياء بالياء، وذوات الواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا في مثل "الخبء" و"الدفء" و"الملء" فصار ذلك كله حجة، وحتى كره العلماء ترك أتباع المصحف من كره"1.
فابن فارس إذن من الذين رأوا أن العرب الجاهليين كانوا على علم بالعربية وبعروض الشعر، قبل أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي. وأن فضل الرجلين على العلم، إنما هو في جمع علم الأوائل وتثبيته وتدوينه، وهو فضل لا ينتقصه عليهما منتقص. وهو استنتاج يتفق مع قواعد المنطق تمام الاتفاق. لأن من غير المعقول أن يضع إنسان قواعد لغة أو قواعد شعر، من غير أن يكون له علم سابق بأنواع الكلام وباختلاف الإقراء وبالأسس اللغوية والنحوية التي لا بد من تعلمها حتى يتمكن المرء من بناء قواعد أساسية عليها ومن حصر دائرة العلم والإحاطة بأغصان شجرة ذلك العلم، ويكاد يكون من المستحيل وضع قواعد العربية، أو علم العروض على النحو الذي يعرضه علينا علماء اللغة والشعر، من رجل لا علم مسبق له بقواعد اللغة وبأمور الشعر.
وفي خبر أن رسول الله دخل المسجد فرأى رجلا يحدث الناس بأنساب العرب وأيامها وبالأشعار، والعربية، فقال رسول الله: "ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه، وإنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة وما خلاها فهو فضل"2. والأمور المذكورة هي مما كان يتحدث به أهل العلم والثقافة من الجاهليين. والشعر في طليعة تلك الموضوعات، ولا يراد به إنشاده فقط، بل كانوا ينشدونه ويذكرون المناسبات المتعلقة به ومزاياه وعيوبه، ولا أعتقد أن المراد بالعربية مجرد تفسير المفردات، بل كل ما يخصها من أمور. وفي جملة ذلك أخطاء القول، وقواعد العرب في القول.
ويذكر أهل الأخبار أن الذي حمل الخليل على وضع العروض، هو أنه مر بسوق الصفارين أو بحارة القصارين، فسمع الدق بأصوات مختلفة، فأعجبه، وقال: والله لأضعن على هذا المعنى علمًا غامضًا، فصنع هذا العروض على حدود
__________
1 الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها "38 وما بعدها".
2 الكليني "12".(17/196)
الشعر وجعل بحورها ستة عشر بحرًا1. وهي قصة باردة من قصص أهل الأخبار، فقد كانوا يضعون مثل هذا القصص حين يسألون عن أمور، لا يكون لهم علم بها، وهل يعقل أخذ الخليل بحوره من دق مطارق الصفارين المزعجة، التي تخرش الأذن، وتبعد الإنسان عن التفكير، وتطير من الدماغ ما قد يكون فيه من علم. فالقصة من مخترعات أهل الأخبار وضعوها في إيجاد سبب لوضع هذا العلم، فربطوا بين دق مطارق الصفارين وبين تقطيع الشعر.
ولا يعقل في نظري أن يكون الخليل قد وضع العروض من غير علم مسبق بأصول نظم الشعر عند أهل الجاهلية. إذ لا يمكن للحس المرهف وحده أن يبتكر العلم ابتكارًا من غير علم مسبق وقواعد سابقة وأصول مقررة معروفة. ولا يعقل أن يكون الخليل قد وضع الأسماء والمصطلحات والتعاريف بنفسه من غير رجوع إلى علم سبق للشعراء الجاهليين أن وضعوه، ومن رجوع إلى قواعد ومصطلحات سبق أن كانت مقررة، ففي أخبار أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كان لهم علم بالشعر، كالذي ذكرته من مثل "حال الجريض دون القريض"، وما روي على لسان الوليد بن المغيرة من قوله في اتهام قريش للرسول من أنه شاعر: "لقد عرفت الشعر ورجزه وهزجه وقريضه فما هو به"2. وما روي عن إسلام أبي ذر الغفاري ومن قول أخيه أنيس له: "لقيت رجلا على دينك يزعم أن الله أرسله" فلما سأله أبو ذر "فما يقول الناس؟ قال: "يقولون ساحر كاهن شاعر. وكان أنيس أحد الشعراء، فقال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد، أي على طريق الشعر وبحوره"3. وقد ورد أن أهل يثرب كانوا يعرفون الإقواء والإكفاء في الشعر، وكانوا يعدونهما من عيوب الشعر4. وقد علمنا أن مصطلح الرجز والهزج والرمل والقصيد، وأمثال ذلك هي من مصطلحات أهل الجاهلية. ثم إن أكثر مصطلحات العروض هي مصطلحات كانت معروفة في الجاهلية، وقد أخذت
__________
1 نزهة الجليس "1/ 124".
2 اللسان "5/ 350".
3 الطبقات "4/ 220"، "صادر، تاج العروس "1/ 371"، "الكويت"، الفائق "1/ 518"، تاج العروس "1/ 103"، "قرأ"، الإصابة "1/ 88"، "رقم 289".
4 الموشح "59".(17/197)
من حياتهم، فهي ليست بمصطلحات مبتكرة، حتى نقول إن الخليل أوجدها من عنده، وإن علم العروض علم مستحدث نتيجة لذلك، أوجده الخليل بملاحظاته وذكائه من دون علم سابق بأصول الشعر.
وورد أيضًا، أن عتبة بن ربيعة لما مدح القرآن، لما تلاه رسول الله، قالت له قريش: هو شعر، قال: لا لأني عرضته على أقراء الشعر، فليس هو بشعر. أقراء الشعر: طرائقه وأنواعه1. وسئل الحطيئة عن زهير بن أبي سلمى، فقال: "ما رأيت مثله في تكفيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها حيث شاء"2. وكلام مثل هذا لا يمكن أن يصدر إلا من رجال لهم علم بالشعر وبدروبه وبحوره وأنواعه.
والذي أراه، أن شعراء الجاهلية كان لهم علم سابق بالشعر وضعوه قبل الإسلام، ولهم قواعد ورثوها من أسلافهم القدماء في كيفية نظم الشعر ببحور. كانوا يعرفون البحور، وربما كانوا قد وضعوا لها أسماء، على نحو ما يفعله شعراء الشعر العامي في هذا اليوم، وأكثرهم ممن لا يحسن الكتابة والقراءة، غير أنهم يعرفون طرق الشعر العامي ودروبه، سموها بأسماء، وعرفوها، ووضعوا لها أوزانًا وزنوا بها شعرهم، وحكموا بموجبها حكمهم على الشعر، فتراهم ينتقدون شاعرًا فيرفعون شعره، أو يذمونه، يزنون حكمهم بميزان علمهم المتوارث والمتعارف عليه عن الشعر. وقد وضع بعض المحدثين كتبًا في هذا الشعر، وفي ضبط دروبه وتسجيل قواعده. والذي فعله الخليل لا يخرج عن هذا العمل: حصر وسجل ما كان معروفًا بين الشعراء عن بحور الشعر وأبوابه وقواعده، ثم جمعه في كتاب فعد بعمله هذا مؤسس علم العروض. وإنما هو في الواقع جامع شتات هذا العلم ومسجل قواعد الشعر وبحوره. فهو بذلك أول من فعل هذا الفعل على ما أعلم. وهو عمل يشكر بالطبع عليه.
والذي أعانه وساعده على هذا الحصر والجمع، هو وجوده في العراق، وكان أهل العراق يتدارسون النحو والشعر واللغة قبل الإسلام. كانوا قد نقلوا إلى
__________
1 اللسان "15/ 175"، "قرأ"، "أقراء الشعر: أنواعه وطرقه وبحوره"، تاج العروس "1/ 103"، "قرأ"، الفائق "1/ 518"، ابن سعد، طبقات "4/ 1 ص116 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 81".(17/198)
السريانية -لغة الثقافة والعلم- علم اليونان باللغة والنحو والشعر، فساعدهم هذا النقل على تهذيب ما ورثوه من رجالهم من علم بهذه المعارف، وقاسوه بأقيسة ونظموه تنظيمًا علميًّا، وظلوا يتداولونه، فلما دخل منهم من دخل في الإسلام، أو احتك بالمسلمين، وكان عند العرب كلام في اللغة وفي الشعر، ولا سيما عند عرب العراق النصارى، فلا يستبعد عرض هؤلاء ما كان عندهم من علم اللغة والشعر إلى من كان له ميل لمثل هذه الدراسات، كأبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد، فصار هذا العرض سببًا لظهور الأسس في النحو وفي العروض. وقد أدرك ذلك العلماء، فقال الصفدي: "إن الشعر اليوناني له وزن مخصوص ولليونان عروض لبحور الشعر. والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل، قلت ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخيل بن أحمد شيء من ذلك أعانه على إبراز العروض إلى الوجود"1. فهو من ثم "أول من استخرج علم العروض وحصر أشعار العرب فيها"2، ولكنه لم يكن مخترع هذا العلم وموجده من العدم. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن عروض"Prosody أرسطو هو الذي علم الخليل طريقة وضع العروض واستنباط تفاعيل الشعر وبحوره3.
ولابن خلِّكان رأي طريف في المنبع الذي استمد منه الخليل علم العروض، تراه يتحدث عنه فيقول: "وله معرفة بالإيقاع والنغم، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض، فإنهما متقاربان في المأخذ"4. وكان الخليل صاحب علم بالموسيقى، ومن بين كتبه "كتاب النغم"، فرجل ذو علم بالموسيقى، وبتقاطيعها وأوزانها، يكون له ميل إلى الشعر وأوزانه، خاصة وأن بين الشعر والغناء والموسيقى روابط قديمة. فقد "كانت العرب تغني النصب، وتمدّ أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء. فقال حسان:
تغن بالشعر إما أنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار5
__________
1 نزهة الجليس "1/ 116".
2 نزهة الجليس "1/ 124".
3 Freytag, Darstellung d. Arabi, Verskunst, S. 18, William Lindsay Alexander, A Cyclopaedia of Biblical Literature, vol, I, p. 188.
4 ابن خلكان "1/ 216 وما بعدها".
5 المرزباني، الموشح "39".(17/199)
وروي أن الخليفة عمر قال يومًا للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك. فأسمعه كلمة له، قال له: وإنك قائلها؟ قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جِمَال الخطاب"1. فإذا كان العرب قد وزنوا الشعر بالغناء، فلا يستبعد أن يكون الخليل قد ألهم من فعل العرب هذا قبله.
وقد ذكرت في الجزء الخامس من هذا الكتاب2، أنه قد كان للشعر علاقة كبيرة بالغناء، فالغناء هو التغني بالشعر، ولذلك قالوا: تغنى بالشعر، وفلان يتغنى بفلانة إذا صنع فيها شعرًا. وله علاقة بالحداء أيضًا. قال: حدا به، إذا عمل فيه شعرًا3. فالغناء نغم ووزن ويكون لذلك بكلام موزون. وهو الشعر الذي يناسب نغم الغناء. قال الجاحظ: "العرب تقطع الألحان الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في الوزن اللحن، فتضع موزونًا على غير موزون4. وقال ابن رشيق: "وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به مسقطة لمروءته. ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، تكسوه جلالة الحكمة"5.
ولا يستبعد تغني الشعراء الجاهليين بشعرهم، واستعمالهم آلات الموسيقى مثل الرباب لترافق غناهم بشعرهم، كما يفعل شعراء البادية في هذه الأيام. وقد ذكر أن الشاعر عروة بن أذينة، وهو من شعراء العصر الأموي "كان شاعرًا لبقًا في شعره، غزلا. وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين"6. وكان من شعراء المدينة7.
__________
1 العقد الفريد "4/ 90".
2 "ص105 وما بعدها".
3 اللسان "15/ 135"، "غنى"، تاج العروس "10/ 272".
4 رسائل الجاحظ "2/ 158".
5 العمدة "1/ 26".
6 العقد الفريد "4/ 96".
7 الأغاني "31/ 105 وما بعدها"، الشعر والشعراء "2/ 483 وما بعدها"، المرتضى، أمالي "1/ 408 وما بعدها"، السمط "236"، درة الغواص "135"، المعارف "492".(17/200)
ومن آيات علم الجاهليين بصناعة الشعر وبفنونه وحذقهم بأساليبه، استعمالهم بحور الشعر حسب المواقف والمناسبات واتخاذهم الإيقاع والنغم وجرس الألفاظ أساسًا في النظم ليكون الشعر مطابقًا للمناسبة التي سينظم لها. فللغناء بحور، وللقتال بحور تثير القلوب وتلهبها، وللسفر وزن، والمناسبات المؤلمة مثل الرثاء والتوجع وزن يناسبها، وكل ذلك ناتج عن طبع وتطبع وعلم بالمناسبة، وقد أشير على هذا الاستعمال في الأخبار. وهذه المناسبات هي التي خلقت تلك البحور.
ومن آيات علم الجاهليين بالشعر، ما نقرأه في الأخبار عن علم أهل الجاهلية بطرائق الشعر وأبوابه وبعيوبه وضعفه، ومن أخذهم على الشعراء في أيام الجاهلية وقوعهم في الأخطاء، أو مخالفتهم لأصوله ونغمه وخروجه على ما هو متعارف عليه. وأمثال ذلك مما يدل على أن الشاعر وإن كان ينظم الشعر عن طبع وسليقة، وعن موهبة كامنة فيه، لكنه كان يراعي في نظمه قواعد موروثة معلومة، وأصولا محفوظة، على نحو ما نراه اليوم عند الشعراء الشعبيين، الذين ينظمون الشعر العامي "الشعر النَّبطي"، المقال باللهجات العامية، وفق قواعد مقررة عندهم معروفة، وأبواب مسماة عندهم موسومة، يحفظونها حفظًا، لأنها هي غير مدونة، ثم إن أكثرهم ممن لا يقرأ ولا يكتب.
ومما يؤيد هذا الرأي ما جاء في "لسان العرب": "قال أبو الحسن الأخفش: النصب في القوافي، أن تسلم القافية من الفساد، وتكون تامة البناء، فإذا جاء ذلك في الشعر المجزوء، لم يسمَّ نصبًا، وإن كانت قافيته قد تمت، قال: سمعنا ذلك من العرب، قال: وليس هذا مما سمى الخليل، وإنما تؤخذ الأسماء عن العرب"1. فالأسماء والأصول أخذت من العرب، ومعنى هذا أنه قد كان للعرب علم سابق بأصول الشعر وبقواعده، وقد تمكن "الخليل" بذكائه وبتتبعه للعلوم من جمع تلك القواعد، في العروض ومن أخذ ما كان عند الشعراء والعارفين بفنونه من مصطلحات وعلم، فكوَّن من كل ذلك: العَرُوض.
هذا وإن المعلوم أن "أرسطو" كان قد ألَّف كتابًا في الشعر وفي العروض "Prosody" وقد تطرق فيه إلى الوزن "Metre" أي وزن الأبيات والقصيدة، كما تلكم عن "التفعيلات"، وعن أنواع النظم، وقد درس كتابه علماء ذلك الوقت.
__________
1 اللسان "1/ 761"، "نصب".(17/201)
ووقف عليه السريان قبل الإسلام، ونقل إلى العربية في الإسلام، قال "ابن النديم": "الكلام على أبوطيقا: ومعناه الشعر، نقله أبو بشر متى من السرياني إلى العربي، ونقله يحيى بن عدي"1. وتوجد ترجمة كتاب "الشعر" في العربية مطبوعة في هذا اليوم، وثبت أيضًا أن البابليين وغيرهم من أهل العراق، كانوا قد وضعوا قواعد في نظم الأشعار وفي تأليف أبياتها، وفي أصول نظمها، فلا استبعد وصولها إلى المتأخرين من العراقيين الذين عاشوا إلى أيام الإسلام، فوقف عليها الخليل، واستنبط منها فكرته في وضع العروض.
والذي أراه أن للبت في منشأ علم العروض، لا بد من البحث عن المصطلحات العربية الجاهلية التي كانت شائعة عند العرب في الجاهلية وعند ظهور الإسلام، عن تكوين الشعر وأصول نظمه، ثم تتبع مصطلحات الشعر عند الساميين، مثل الكلدانيين والعبرانيين ومقارنة مسمياتها بالمسميات العربية المنسوبة إلى الخليل، لمعرفة صلتها بعضها ببعض. ومن دراسة البحور، وتفاعليها، وأصول نظمها، فقد ثبت أن لتلك الشعوب قواعد في نظم الشعر، راعاها الشعراء في نظمهم شعرهم2.
ولفظة "بحر" و"البحور" المستعملة في العروض، هي من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين. ورد في كتب اللغة أن الشاعر إذا اتسع في القول، قالوا استبحر3. ولما جاء الحارث بن معاذ بن عفراء على حسان بن ثابت؛ ليستحثه في هجاء النجاشي الذي هجا الأنصار، ألقى عليه حسان ثمانية أبيات، ثم توقف ومكث طويلا على الباب يقول: والله ما أبحرت4. وذكر أن أبا بكر كان يقدم النابغة على غيره من الشعراء، فلما سئل عن ذلك قال: "هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا"5. ومن هذا المعنى أخذ مصطلح "بحر" و"بحور الشعر" و"بحور العروض".
وكان الجاهليون أصحاب علم إذن بطرق الشعر وببحوره وبمقاصده وإنحائه،
__________
الفهرست "ص263 وما بعدها".
2 Otto Weber, Die Literatur der Babylonter und Assyrer, Leipzig, 1907, S. 35.
3 اللسان "4/ 44".
4 خزانة الأدب "4/ 55 وما بعدها"، ديوان حسان "131 وما بعدها".
5 العمدة "ص95، 136 وما بعدها".(17/202)
وكانوا يطلقون على أنواع وعلى ما ذكرت "أقراء الشعر"1. وكانوا ينقحونه ويحكون به حتى يرضون عنه. ويقال للشعر الذي لم يُحْكم ولم يجود "شعر خشيب" و"شعر مخشوب"، عكس الشعر المنقح المجود. ورد على لسان "جندل بن المثنى" قوله:
قد علم الراسخ في الشعر الأرب
والشعراء أنني لا أختشب
حسرى رذاياهم ولكن اقتضب2
والإقراء في الشعر طرائقه وأنواعه، واحدها قرو وقرى3.
والإكْفاء أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والإصراف، والإكفاء، والسِّناد. وقد عرفه العرب الفصحاء، بأنه الفساد في آخر البيت والاختلاف. وكانوا يقولون لمن يخالف بين حركات الروي: أكفأ أو أكفأ الشاعر. وقد كان النابغة يكفئ في شعره. وقد نبَّه إلى ذلك، فتجنب بعضه وهذَّبه4.
والإقواء عيب آخر من عيوب الشعر. وللنابغة في هذا خبر. فلما دخل يثرب، وأنشد داليته المشهورة، عيب عليه فيها فلم يفهم موطن العيب فيه، وهو الإقواء، فلما غنته المغنية بالقصيدة مطلت واو الوصل، فأحس بالإقواء واعتذر منه وغيره فيما يقال إلى قوله:
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
ثم قال: "دخلت يثرب وفي شعري صنعة، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب"5. وكان بشر بن أبي خازم يقوي في شعره كذلك6. وذكر أن
__________
1 تاج العروس "1/ 371" "الكويت".
2 تاج العروس "2/ 354".
3 تاج العروس "10/ 293"، "قرو".
4 تاج العروس "1/ 396" "الكويت"، العمدة "1/ 164 وما بعدها"، الموشح "60".
5 اللسان "15/ 209 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 39، 190"، "دار الثقافة"، الموشح "59 وما بعدها".
6 الموشح "60".(17/203)
أخاه قال له: إنك تقوي1.
وبينما نرى أهل الأخبار يرمون النابغة بالوقوع في الإكْفاء وفي الإقواء، وبعدم إدراكه للإقواء مع تلميح الناس له، حتى دبَّر أهل يثرب حيلة، أظهرت إقواءه له، فعلمه، وخرج، وهو يقول: "دخلت وفي شعري صنعة، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب"، يذكرون أن أبا ذكوان، وهو من العلماء بالشعر يقول: "ما رأيت أعلم بالشعر منه. ثم قال: لو أراد كاتب بليغ أن ينشر من هذه المعاني ما نظمه النابغة ما جاء به إلا في أضعاف كلامه. وكان يفضل هذا الشعر على جميع أشعار الناس"2.
والإقواء أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور، وقيل نقصان الحرف من الفاصلة يعني من عروض البيت. وأقوى في الشعر، خالف بين قوافيه. وقيل هو رفع بيت وجر آخر. وذكر أن الإقواء كثير في كلام العرب، لكن ذلك في اجتماع الرفع مع الجر وأما الإقواء وإن كان عيبًا لاختلاف الصوت، فإنه قد كثر في كلامهم"3، وكان أبو عمرو بن العلاء يذكر أن الإقواء: هو اختلاف الإعراب في القوافي، وذلك أن تكون قافية مرفوعة، وأخرى مخفوضة. كقول النابغة:
قالَت بَنو عامِرٍ خالوا بَني أَسَدٍ ... يا بُؤسَ لِلجَهلِ ضَرّارًا لِأَقوامِ
وقال فيها:
تبدو كواكبه والشمسُ طالعةٌ ... لا النور نور ولا الإظلام إظلامُ"4
"وبعض الناس يسمي هذا الإكْفاء: ويزعم أن الإقواء نقصان حرف من فاصلة البيت، كقول حجل بن نضلة، وكان أسر بنت عمرو بن كلثوم وركب بها المفاوز، واسمها النوار:
__________
1 الشعر والشعراء "146".
2 إنباه الرواة "3/ 10"، ديوان المعاني "1/ 17"، المصون "156"، بغية الوعاة "375".
3 تاج العروس "10/ 307"، "قوو".
4 الشعر والشعراء "1/ 39"، "دار الثقافة".(17/204)
حنَّت نوار ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أجنَّت
لما رأت ماء السلا مشروبًا ... والفرث يُعصرُ في الإناء أرنت
سمي إقواء لأنه نقص من عروضه قوة". "وكان يستوي البيت بأن تقول: متشربًا"1.
وقد تعرض المعري لموضوع الإقواء وأمثاله في رسالة الغفران، إذ يسأل امرأ القيس عنه، ثم يجيب على لسانه. يقول للشاعر: "كيف ينشد:
جالَت لِتَصرَعَني فَقُلتُ لَها اِقصِري ... إِنّي امرُؤٌ صَرعي عَلَيكِ حَرام
أتقول: حرامُ فتقوي؟ أم تقول: حرامِ فتخرجه مخرج حذامِ وقطامِ؟ وقد كان بعض علماء الدولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك. فيقول امرؤ القيس: لا نكرة عندنا في الإقواء"2. فهو يرى أن الإقواء لم يكن منكرًا عند أهل الجاهلية: وإنما عيب عليه في الإسلام.
ومن مصطلحات علماء الشعر: "الإيطاء"، قال العلماء: أطأ كرر القافية لفظًا ومعنى مع الاتحاد في التعريف والتنكير، فإن اتفق اللفظ واختلف المعنى فليس بإيطاء، وكذا لو اختلفا تعريفًا وتنكيرًا. وقال بعضهم الإيطاء رد كلمة قد قفيت بها مرة نحو قافية على رجل وأخرى على رجل فهذا عيب عند العرب، لا يختلفون فيه، وقد يقولونه مع ذلك. ووجه استقباح العرب الإيطاء، أنه دال عندهم على قلة مادة الشاعر ونزارة ما عنده حتى اضطر إلى إعادة القافية الواحدة في القصيدة بلفظها ومعناها فيجري هذا عندهم مجرى العي والحصر، وأصله أن يطأ الإنسان في طريقه على أثر وطئ قبله فيعيد الوطء على ذلك الموضع، وكذلك إعادة القافية من هذا. وقال أبو عمرو بن العلاء: "الإيطاء ليس بعيب عند العرب، وهو إعادة القافية مرتين"، أما إذا كثر الإيطاء في قصيدة مرات فهو عيب عندهم3.
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 39 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "320".
3 اللسان "1/ 200"، "وطئ"، تاج العروس "1/ 135"، "وطئ"، الشعر والشعراء "1/ 41".(17/205)
والمضمن من الشعر ما لا يتم معناه إلا في البيت الذي بعده. وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من عدَّه عيبًا، ومنهم من لم يعده عيبًا، ويراه مذهبًا أجازه العرب لسببين: السماع، والآخر القياس. أما السماع فلكثرة ما يرد عنهم من التضمين، وأما القياس فلأن العرب قد وضعت الشعر وضعًا دلت به على جواز التضمين عندهم، وحجة من قال بتقبيح التضمين أن كل بيت من القصيدة شعر قائم بنفسه فمن هنا قبح التضمين. وقد أوردوا للنابغة ولغيره من الشعراء أمثلة من التضمين1. وهو بهذا المعنى معروف عند غير العرب من الساميين والآريين، إذ إن الأبيات عندهم ترتبط معانيها بعضها ببعض، فلا يفهم معنى بيت إلا بالبيت الذي يليه. ولهذا تكون أبيات القطعة أو القصيدة مرتبطة بعضها ببعض، ولا سيما في أشعار الملاحم والغناء.
والإصراف في الشعر، إذا أقوى فيه وخولف بين القافيتين2. وأما السِّناد، فاختلاف الأرداف. وقال "الأخفش" أما ما سمعت من العرب في السناد، فإنهم يجعلونه كل فساد في آخر الشعر ولا يحدون في ذلك شيئًا وهو عندهم عيب". وقد أشير إليه في قول الشاعر:
فيه سناد وإقواء وتحريد3 ... وتحريد الشيء تعويجه
وقيل: السناد: هو أن يختلف أرداف القوافي، كقولك علينا في قافية وفينا في أخرى4.
وقد تحدث الجاحظ عن الأوتاد، والأسباب، والخرم والزحاف، فقال: "وكما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابًا لم تكن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، وكما ذكر الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر، والكامل، وأشباه ذلك، وكما ذكر
__________
1 اللسان "13/ 258 وما بعدها"، "ضمن"، تاج العروس "9/ 265"، "ضمن"، العمدة "2/ 84"، "باب التضمين والإجازة".
2 اللسان "9/ 193".
3 اللسان "3/ 223".
4 الشعر والشعراء "1/ 40".(17/206)
الأوتاد، والأسباب، والخرم، والزحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارهم السناد، والإقواء، والإكفاء، ولم أسمع بالإيطاء. وقالوا في القصيد، والرجز، والسجع، والخطب، وذكروا حروف الروي والقوافي، وقالوا هذا بيت وهذا مصراع"1.
وقد أباح علماء الشعر للشاعر ما لم يبيحوه للناثر من ضرورة دعوها: "ضرورة الشعر". وقد جاءوا بأمثلة على ذلك، اعتذروا عن بعضها، وأوجدوا لها مخارج في الإعراب، وعدوا بعضًا منها من "العيب في الإعراب"2، وورد: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويومئون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون. فإما لحن في إعراب، أو إزالة كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذلك"3.
وقد تعرض بروكلمن لموضوع "العروض"، فقال: "وعلى الرغم من أنه لا تزال تعوزنا بحوث شاملة لفن العروض عند قدامى الشعراء، يمكن أن نقرر اليوم بحق أن هذا الفن كان يعتمد عندهم على قواعد ثابتة. نعم نجد في بعض قصائد الشعراء الأقدمين أبياتًا خارجة عن العروض الذي وضعه الخليل بن أحمد، وما وضعه سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط في كتابه العروض، كما في قصائد المرقش الأكبر، وعبيد، وعمرو بن قميئة، وامرئ القيس، وسلمى بن ربيعة. ويبدو أن هذه الظواهر آثار قليلة لمرحلة من النمو لم نقف على كنهها بعد.
وبذل الشعراء المتأخرون محاولات للتخلص من قوانين العروض العربي ولكنهم قلما خرجوا عليه4.
وقد تعرض الهمداني لموضوع الشعر العربي وقواعد العروض، وخروج الشعر على سلطة هذا العلم، فقال: "أنشدني سعيد بن أبحر الهمداني، وكان شاعرًا بدويًّا مطبوعًا:
__________
1 البيان والتبيين "1/ 139".
2 الشعر والشعراء "1/ 42 وما بعدها".
3 المزهر "2/ 471".
4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 54".(17/207)
يا سمع يا بصري لو جاءكم خبري ... لكان في عذر ناع على كور
وفي بني عامر ناع على خاطرٍ ... وفي قرى صافر حزن وتثبير
وكان للجاهلية الجهلاء مذهب في الشعر من الأزحاف وغيره ما يستنكره الناس اليوم كقول علقمة:
ومنا الذي نودي بسبعة آلاف ... غلامًا صغيرًا ما يشد إزارا
وكقوله:
كأن به سيد حلاحل ... تصر من دونه الطروق
وقول بعض حمير في أيام جديس، النصف الأول من رَوِي والنصف الآخر من روي، قصيدته:
لله عينا من رأى حسان ... قتيلا في سالف الأحقاب
ومن ذلك شعر مالك بن الحصيب اللعوي، وهو قديم في حلف ربيعة، وأوله:
أنا مالك وأنا الذي جددت حلفا ... لكندة قبلنا قد كان سلفا
الشعر، وفي وزنه زيادة حرفين"1.
وقد يحسن العلماء في المستقبل بدراستهم لما ورد في مؤلفات الهمداني وغيره من شعر قديم ينسب إلى قدماء شعراء اليمن وإلى الشعراء اليمانيين والعرب الجنوبيين عامة الذين نظموا بأسلوبهم الخاص، لما في هذه الدراسة من فائدة كبيرة في إعادة بناء نظريات العلماء الحالية عن الشعر الجاهلي.
وفي الدواوين وكتب الأدب أمثلة على أمور خرج فيها الشعر على قواعد العروض أو النحو. من ذلك قول امرئ القيس:
كأن أبانًا في أفانين وَدْقه ... كبير أناس في بجاد مزمَّلُ
__________
1 الإكليل "2/ 49 وما بعدها".(17/208)
فقد ضم اللام في نهاية البيت، وهي مكسورة في المعلقة جميعها1. ورووا أمورًا أخرى وقعت في شعره أيضًا2، وفي قصيدة "عبيد بن الأبرص":
أقفر من أهله ملحوبُ ... فالقطبيات فالذنوبُ
فهي من مخلع البسيط، قلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعيله أو زيادة3. وفي قصيدة المرقش الأكبر:
هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان رسم ناطقًا كلمْ
فهي من السريع، وقد خرجت شطور أبياتها على هذا الوزن، كالشطر الثاني من هذا البيت:
ما ذنبنا في أن غزا ملك ... من آل جفنة حازم مرغم
فإنه من الكامل4. ورووا اضطرابًا وقع في شعر عدي بن زيد العبادي، على النحو المذكور، خرج فيه من السريع إلى وزن المديد5، وفي شعر غيره كذلك مثل نونية سلمى بن ربيعة:
إن شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون
فهي خارجة عن عروض الخليل6.
ورووا وقوع مثل ذلك في قصيدة عدي بن زيد العبادي:
تعرف أمس من لميس الطلل ... من الكتاب الدارس الأحول
__________
1 دكتور شوقي ضيف: العصر الجاهلي "185".
2 راجع قصيدته:
عيناك دمعهما سجال
كأن شأنيهما أوشال
ديوان 189، العصر الجاهلي "184".
3 العصر الجاهلي "184".
4 المصدر نفسه.
5 كذلك.
6 كذلك "ص185".(17/209)
فهي من وزن السريع، وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت:
أنعم صباحًا علقم بن عدي ... أثويت اليوم أم ترحلْ
فإنه من وزن المديد1.
وتستحق هذه الأمور وأمثالها أن تكون موضع دراسة خاصة، لما لها من أهمية في تكوين رأي علمي دقيق عن تطور العرض في الجاهلية. ولا يعقل في نظري أن يكون الشعر الجاهلي قد كان بغفلة عن تلك الأمور التي عدها الإسلاميون من مواطن الاضطراب والخروج عن القواعد وإذا قسنا هذا الخروج في الوزن على مقاييس وزن الشعر عند الساميين، نرى أنه لم يكن خروجًا، لعدم تقيد ذلك الشعر بالوزن في كل القطعة أو القصيدة، وإنما كانوا يتقيدون بوزن البيت فالقطعة أو القصيدة عندهم منسجمة ذات نغم ووزن وإن تكونت من بحر أو من جملة بحور، وربما كان هذا شأن القصيدة عند الجاهليين كذلك. ثم إنه في هذه الاضطرابات دلالة على أن في العروض الجاهلي ما فات أمره عن علم الخليل، وأن العروض الإسلامي لا يمثل كل عروض الشعر الجاهلي.
وللخليل كتاب في العروض، اسمه "كتاب العروض" لا أعرف من أمره شيئًا، وهو أول كتاب ألف في هذا الباب، وحمل هذا الاسم، على ما أعلم، وله كتاب اسمه: "كتاب النغم"، وكتاب آخر اسمه "كتاب الإيقاع"، وكتاب اسمه: "كتاب الشواهد"، وكتاب اسمه "كتاب النقط والشكل"، وكتاب باسم "كتاب فائت العين"2.
ولأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش "215هـ"، "221هـ"، وهو أحد أصحاب سيبويه، كتاب في العروض، اسمه: "كتاب العروض"3.
__________
1 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "185".
2 الفهرست "71".
3 الفهرست "84".(17/210)
وعرف الخليل بسعة علمه باللغة، وإليه ينسب وضع أول معجم في اللغة العربية، هو كتاب "العين". وقد نظمت حروفه على ما يخرج من الحلق واللهوات1. وهو ترتيب يرى بعض المستشرقين احتمال أخذ الخليل له من ترتيب الأبجدية السنسكريتية وذلك عن طريق "خراسان" التي لها صلة وثيقة بثقافة الهند2. وقد نسب بعض العلماء كتاب العين إلى غيره، نسب إلى الليث بن نصر بن سيار الخراساني، ومنهم من زعم أن الخليل عمل قطعة من كتاب العين من أوله إلى حرف الغين وكمله الليث ولهذا لا يشبه أوله آخره3.
وقد كان للهنود حب شديد للشعر، وقد نظمت كتبهم الدينية شعرًا، وقد أدرك البيروني الواسع الاطلاع بأحوال الهند هذا الحب الشديد له، فقال: "أكثر الهنود يهترون لمنظومهم ويحرصون على قراءته، وإن لم يعرفوا معناه، ويفرقعون أصابعهم فرحًا به، واستجادة له، ولا يرغبون في المنثور وإن سهلت معرفته". وقد كانوا يزنون شعرهم بميزان، فـ"عملوا من التفعيلات قوالب لأبنية الشعر، وأرقامًا للمتحرك منها والساكن، يعبرون بها عن الموزون، فكذلك سمى الهند لما تركب من الخفيف والثقيل" أسماء يشيرون بها إلى الوزن المفروض4. فإذا كانت للهنود تفعيلات وزنوا بها شعرهم، وهي أقدم عهدًا من تفعيلات الخليل، أفلا يجوز أن يكون الخليل قد اقتبس تفعيلاته من تلك التفعيلات، وبين الهندي و "الإبلة" التي حلت البصرة محلها في الإسلام اتصال جد قديم، وقد كان بين سكانها عدد كبير جاءوا قبل الإسلام من الهند.
وحيث إن العلماء ينصُّون على أن الخليل، هو موجد البحور المعروفة في العروض، وهو وازنها، وحيث إن أساس المعايير التي قيست بها الأبيات، للوقوف على البحور هي "فعل" فيجب أن تكون هذه التسمية من ابتكاراته إذن. ولم أجد أحدًا وضح كيف اهتدى الخليل إلى إيجاد هذا المعيار، ولِمَ
__________
1 الفهرست "70 وما بعدها".
2 John A. Haywood, Arabic Lexicography, p. 8..
3 القِفْطِي، إنباه الرواة "1/ 343"، المزهر "1/ 76".
4 البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة "66".(17/211)
سماه بهذه التسمية، إن من المستحسن في نظري الاهتمام بهذا الموضوع، ودراسة موازين الشعر عند الهنود، لمعرفة أسماء معايير الشعر عندهم، للوقوف عليها، فقد تكون لهذه التفعيلات صلة بتفعيلات شعر الهنود. ويلاحظ أن ابن جني، كنى بالتفعيل عن تقطيع البيت الشعري، لأنه إنما نزنه بأجزاء مادتها كلها "فعل"1.
__________
1 تاج العروس "8/ 65"، "فعل".(17/212)
الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة
...
الفَصْلُ الخمْسونَ بَعْدَ المائةِ: البَصْرَةُ والكُوفَةُ
لا بد لنا من التعرض لأثر البصرة والكوفة في عمل القواعد وفي وراية الشعر الجاهلي، إن أردنا فهم هذا الشعر وكيف جمع ودوِّن، وكيف نحل المنحول منه، فقد كان للمدينتين الأثر الأكبر في جمع هذا الشعر وفي تدوينه ونحله.
ولا بد من التحدث أولا عن أثر العصبية القبلية في هاتين المدينتين. فقد بنيتا على أساس هذه العصبية. فلما بنيت الكوفة، جعلت قسمين: قسم لليمن، وقسم لنزار، وكانت الأغلبية لليمن. ووزعت المحلات والسكك حسب القبائل1، وكذلك كان الأمر بالبصرة حين شرع ببنائها، فقد روعي في بنائها، توزيع أحيائها على حسب النسب والقبائل2، فكانت عصبية الحي للعشيرة أولا، وللقبيلة ثانيًا، ثم للمدينة ثالثًا. وهكذا غرست بذور العصبية في أرض المدينتين، منذ شرع بوضع أساس التأسيس.
وتجمعت العصبية القبلية في العصبية للمدينة، فتعصب عرب الكوفة ومواليها للكوفة، وتعصب عرب البصرة ومواليها للبصرة، "يفخر كل منهما بطبيعة الأرض وموقعها الجغرافي، ويفخر كل بما كان على يده من فتوح البلدان، ويفخر كل ممن نزل عندهم من صحابة رسول الله، ويعير كل الآخر بما نبت عنده من
__________
1 البلاذري، فتوح البلدان "274"، "تمصير الكوفة"، "طبعة رضوان محمد رضوان".
2 البلاذري "341"، "تمصير البصرة".(17/213)
دعاة للضلالة، وأخيرًا كانوا يتفاخرون بالعلم. وظهرت هذه المفاخرات العلمية والمناظرات وتعصب كل مدينة لعلمائها، ظهورًا بينًا في كثير من فروع العلم، فالبصريون والكوفيون في المذاهب الدينية وعلم الكلام، والبصريون والكوفيون في الأدب؛ يقول أعشى همدان:
اكسع البصري إن لاقيته ... إنما يكسع من قلّ وذلّ
واجعل الكوفي في الخيلِ ولا ... تجعل البصريَّ إلا في النفل
وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل
بين شيخ خاضبٍ عثنونه ... وفتى أبيص وضاح رفل
جاءنا يخطر في سابغة ... فذبحناه ضحى ذبح الحمل
وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأَجَل"1
والكوفة بظاهر الحيرة. المدينة التي كان يقصدها الشعراء والتجار، وفيهم تجار مكة وأشرافها، مثل عبد الله بن جدعان، وأبو سفيان. ومنه انتقل الخط إلى مكة، على حد قول أهل الأخبار، ومنها انتقلت النسطورية إلى العرب النساطرة، وقد اشتهرت برجال برزوا فيها في العلوم الدينية النصرانية وبالعلوم اللسانية في لغة بني إرم، وبكنائسها وبأديرتها التي كانت تعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، وتهيئ الطلاب للتبحر في علوم الدين وفي العلوم الدنيوية المعروفة في ذلك الوقت، ولما أُنشئت الكوفة انتقلت إليها بأبنيتها وأناسها، فقد هدمت منازلها ونقلت حجارتها إلى الكوفة، لتبني بيوتها بها، وانتقل أهلها إلى الكوفة، لأنها أخذت مكانها في الحكم، وصارت مقر الولاة، فشايع أهلها أهل الكوفة في السكن وفي الالتفاف حول قصر الوالي، وانتقل ما كان قد تبقى من بقية علم من الحيرة إلى الكوفة كذلك، وتجسم في هذا الذي نسميه بعلم أهل، أو بمدرسة الكوفة.
وقد كان في أهل الحيرة قوم من النبط، أي من بني إرم أهل العراق، وقوم من الفرس، فتأثر لسان أهلها العرب بلسان النبط ولسان العجم، كما تأثروا بحياة الحضارة والاستقرار، فَلَانَ لسانهم وسهل منطقهم2؛ وثقل نطقهم بالعربية،
__________
1 فجر الإسلام "181"، البلدان، لابن الفقيه "163 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "31".(17/214)
فلم يعد ينطق لسانهم نطق الأعراب من حيث الوضوح والإفصاح1. والذي عند علماء العربية أن في لسان الأعراب جفاء وشدة وغلظة، دخلت عليه من خشونة البادية ومن طباعها، فإذا خالط أهل البادية البلديين والأعاجم، لان جفاؤهم وسهل لسانهم، فيبتعد بذلك عن اللسان العربي القُحّ، ولهذا طلب علماء اللغة جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، وأخذوا عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة، وبقيت في سرة البادية أو فاضت حواليها، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف2.
أما البصرة، فأخذت مكانة "الأبلة" المدينة الشهيرة المعروفة باسم "أبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية، وبـ Apologus "أبولوكس" في النصوص الكلاسيكية3، وهي أقرب إلى جزيرة العرب من الكوفة، ولها اتصال ببلاد الخليج وبالهند، فكانت سفن الهند وسيلان تأوي إليها، وسكن قوم من الهند بها، كما سكن بها قوم من الفرس، خالطوا العرب، ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن شأن الموالي بالبصرة كان أقوى منه بالكوفة، لاتصال البصرة بالهند وببلاد فارس، وبعد الكوفة عنهما، وقد أثر هذا الاتصال في لسان عرب البصرة، مما أدى إلى ظهور اللحن في الكلام، وظهور أثر اللغات أهل الهند في لسان أهل "الأبلة" ثم البصرة، بسبب نزوح جاليات كبيرة من الهند إلى "الأبلة"، وذلك قبل الإسلام.
وأما "بغداد" التي ظهرت بعد المدينتين بأمد، فقد أسسها أبو جعفر المنصور العباسي، فإنها كانت مدينة ملك، ولم تكن مدينة علم، وما فيها من العلم، فمجلوب للخلفاء وأتباعهم، "قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، لم يكن بها من يوثق به في كلام العرب، ولا من ترتضى روايته، فإن أدعى أحد منهم شيئًا رأيته مخلطًا صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة"4. وللأصمعي كلام يستهزئ به على علم أهل بغداد. قال "خرجت إلى بغداد وما فيها أحد
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 150"، "وكان عدي بن زيد يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه".
2 الرافعي "1/ 343".
3 كتابي هذا، الجزء الثاني "ص20".
4 المزهر "2/ 414".(17/215)
يحسن شيئًا من العلم، لقد جاءني قوم يسألوني عن الجعطرى، فأخبرتهم أنه المكتل. قالوا: وما المكتل؟ قلت: هو المعضل! قالوا: وما المعضل؟ وكان بقربي بقال ضخم، فقلت: هو مثل ذلك البقال! فرووا عني"1.
ونجد المعري يتهم رواة بغداد بعدم الفهم في الشعر، ترى رأيه هذا فيهم في رسالة الغفران، حيث يسأل امرأ القيس: "يا أبا هند، إن رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك، هذه الأبيات بزيادة الواو في أولها، أعني قولك:
وكأن ذرى رأس المجيمر غدوة
وكأن مكاكي الجواء
وكأن السباع فيه غرقى
فيقول: أبعد الله أولئك! لقد أساءوا الرواية. وإذا فعلوا ذلك فأي فرق يقع بين النظم والنثر؟ وإنما ذلك شيء فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون أصلا في المنظوم، وهيهات هيهات"2.
وأما المدن الأخرى، فلم تبلغ في العلم شأو البصرة والكوفة ثم بغداد. فلم يعترف أحد من علماء العربية بوجود إمام في العربية بدمشق أو يثرب أو مكة. وقد زعم الأصمعي، أنه أقام بالمدينة زمانًا ما رأى بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان بها عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب المعروف بابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكان شاعرًا وعلمه بالأخبار أكثر. وكان بها علي الملقب بالجمل، وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا.
"وأما مكة فكان بها رجل من الموالي، يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئًا من النحو، ووضع كتابًا لا يساوي شيئًا"3.
وقد دفعت العصبية إلى المدن، أهل المدينتين على التحاسد والتفاخر والتنافر، فادعى أهل كل مدينة أنهم أرسخ علمًا من أهل المدينة الثانية، وأنهم أكثر إحاطة
__________
1 الرافعي "1/ 404".
2 رسالة الغفران "313 وما بعدها".
3 المزهر "2/ 413 وما بعدها".(17/216)
به من خصومهم، ومن ثم صار أهل الكوفة يتمرءون بخصومهم، فينتقصونهم ويلصقون بعلمهم وبعلمائهم التهم، ويغمزون فيهم، وصار أهل البصرة يكيدون لأهل الكوفة وينتقصونهم، وكانوا "يرون أن أصحابهم لو ركبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة، وقد رموهم في باب الكذب بقمص الحناجر، والأخذ عن كل بر في الرواية وفاجر، وجعلهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق"1. ووجدت هذه المنافسة أرضًا صالحة في قصور الخلفاء والوزراء والأكابر ببغداد، حتى تحولت إلى مؤامرات ومهاترات، ابتعدت عن أدب العلم والعلماء، حتى نزلت أحيانًا إلى درك مهاترات العامة. وإلى التزوير، والاستعانة بالشهود الزور لتأييد عالم على عالم، كالذي وقع في المسألة الزنبورية في الخلاف الذي كان بين سيبويه والكسائي.
وقد وقعت العصبية بين المدينتين حتى في قراءة القرآن ففضل أهل كل مدينة قارئ مدينتهم، واعتبروا قراءة صاحبهم أحسن القراءات، فأهل الكوفة يتعصبون لقراءة عبد الله بن مسعود ويرون أن مصحفه أصح المصاحف، وأهل البصرة يتعصبون لأبي موسى الأشعري، ويأخذون بقراءته وبلحنه، "وكأنما يسمون مصحفه لباب القلوب"2. والكوفيون يكتبون "والضحى" بالياء، وأهل البصرة يكتبونها بالألف3.
وكانت أولية العربية بالبصرة، "لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل بها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كل أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين، ثم انتقل النحو إلى الكوفة". ثم استفاض نحو الكوفيين، فنبغ فيه من سكنة الكوفة أبو جعفر الرؤاسي، ومعاذ الهراء، واضع التصريف، والكسائي، والفراء4. وذكر أنه لم يعلم أن أحدًا من علماء البصريين أخذ شيئًا من النحو واللغة عن أحد من أهل الكوفة، بينما أخذ الكوفيون عن أهل البصرة، وما من أساتذتهم أحد إلا وقد تلمذ لبصري5. وقد قدم ابن سلام أهل البصرة على غيرهم في
__________
1 الرافعي "1/ 429".
2 الرافعي "2/ 17".
3 المقتنع "35"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "35".
4 الرافعي "1/ 430 وما بعدها".
5 الرافعي "1/ 432 وما بعدها".(17/217)
العربية، قال: "وكان لأهل البصرة في العربية قدمة بالنحو وبلغات العرب والغريب عناية"1. وابن سلام نفسه من علماء البصرة، ومن المتعصبين لها على أهل الكوفة.
وروي أن أبا الخطاب المعروف بالأخفش، وهو من علماء البصرة، كان أول من فسر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله، وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسروها2، فلأهل البصرة قدمة على أهل الكوفة في هذا المضمار.
ومن أهم ميزات أهل البصرة، هو استعمالهم القياس في النحو، فقد سبقوا به أهل الكوفة. أما أهل الكوفة، فقد أخذوا بالقياس في الفقه. فالقياس من أهم وسائل استنباط الأحكام الشرعية في فقه أبي حنيفة، وهو من علماء الكوفة. كان علماء البصرة يطبقون القياس على النحو واللغة، فما يسمعونه يقيسونه على ما جمعوه من قواعد استنبطوها من القرآن ومن الشعر ومن لغة العرب، ثم يحكمون حكمهم عليه. أما أهل الكوفة، فقد تحرروا منه، وكانوا على ما قيل عنهم، يأخذون بالشاذ والغريب، ولو خالف القياس. ومن هنا اتهموا بالضعف، وبعدم التروي في البحث والاستقصاء، وبالأخذ بالخبر من غير نقد ولا تمحيص. وهو اتهام، قد يكون للعاطفة يد فيه. وقد صار هذا القياس سببًا في إخضاع اللغة إلى حكم قواعد ثابتة اتفق عليها، استنبطت من الاستقراء، ومن تطبيق حكم القياس عليها، إلا أنه صار في الوقت نفسه سببًا في إهمال اللهجات المخالفة التي سماها العلماء لغات شاذة أو غريبة، وتركها لعدم استحقاقها في نظرهم شرف التسجيل والتثبيت، ولم يقدروا آنذاك أهميتها بالنسبة لمن يريد تتبع تأريخ لغات العرب وتطورها منذ الجاهلية إلى الإسلام.
وكان لأهل البصرة ميزة قربهم من أعراب نجد والبوادي، فكانوا يأخذون منهم القواعد واللغة، أما أهل الكوفة، فقد اعتمدوا على أشباه الأعراب من المقيمين في أطراف البادية، وهم ممن رفض أهل البصرة الأخذ عنهم، لأنهم
__________
1 طبقات "5".
2 الْمُزْهِرُ "2/ 400".(17/218)
مِمَّنْ خالط أهل الريف، وأقاموا على أطراف الحواضر1. كما أن قياس أهل البصرة في النحو، بني على قواعد بنوها هم وأقاموها، وفق دراساتهم، وأخذهم عن الأعراب من نثر وشعر، ولهذا سخروا من علم أهل الكوفة ومن علم علمائهم في النحو، وتتجلى سخريتهم في أشعار نظموها في أهل الكوفة وفي شيخهم "الكسائي". ترى استهزاء أهل البصرة بعلم وبقياس وبعلماء أهل الكوفة في مثل هذا الشعر:
كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه ... على لغي أشياخ قطربل
فكلهم يعمل في نقض ما ... به يصاب الحق لا يأتلي
إن الكسائي وأشياعه ... يرقون في النحو إلى أسفل2
وتراه في شعر آخر، هو:
وقل لمن يطلب علمًا ألا ... ناد بأعلى شرف ناد
يا ضيعة النحو، به مغرب ... عنقاء أودت ذات إصعاد
أفسده قوم وأزروا به ... من بين أغتام وأوغاد
ذوي مراء وذوي لكنة ... لئام آباء وأجداد
لهم قياس أحدثوه هم ... قياس سوء غير منقاد
فهم من النحو، وإن عمروا ... أعمار عاد، في أبي جاد
والكسائي، الذي طعن البصريون في علمه، وقدموا صاحبهم سيبويه عليه، ناظر خصمه بحضرة الرشيد أو في مجلس البرامكة على رواية، وغلبه بمؤامرة يقال إنها حكيت، للإيقاع به. وذلك في المسألة التي عرفت بـ"المسالة الزنبورية" في كتب العلماء3. وكان الكسائي قد أخذ النحو عن أبي جعفر الرؤاسي، وهو أول من وضع من الكوفييين كتابًا في النحو، وقيل إن كل ما في كتاب سيبويه: "وقال الكوفي كذا.." إنما عنى به الرؤاسي هذا، وكتابه يقال
__________
1 نزهة الألباء "108". بغية، للسيوطي "336"، إرشاد "7/ 290"، يوهان فك "62".
2 السيرافي، أخبار النحويين "23"، يوهان فك "62".
3 مجالس العلماء "8 وما بعدها"، السيوطي، الأشباء والنظائر "3/ 15".(17/219)
له الفيصل، وكان له عم يقال له معاذ بن مسلم الهراء، وهو نحوي مشهور، وهو أول من وضع التصريف. وقد طعن رواة البصرة في علم الرؤاسي. قال أبو حاتم: "كان بالكوفة نحوي يقال له: أبو جعفر الرؤاسي، وهو مطروح العلم ليس بشيء، وأهل الكوفة يعظمون من شأنه، ويزعمون أن كثيرًا من علومهم وقراءتهم مأخوذ عنه"1.
وسبقت الكوفة البصرة في رواية الشعر، وقد خاطب علي بن أبي طالب أهل الكوفة بقوله: "إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقًا عِزِينَ، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار"2، فالأمثال والشعر من أهم الموضوعات التي كان يتدرسها أهل الكوفة في أيام نشأتها الأولى، فهم على سنن الجاهليين في ضرب الأمثال ورواية الشعر. روي أن المفضل كان يروي للأسود بن يعفر ثلاثين ومائة قصيدة، وكان أهل الكوفة يروون له أكثر من غيرهم، ويتجوزون فيه أكثر من غيرهم3، وقد انفردوا برواية شعر امرئ القيس، خلا نتف أخذت من أبي عمرو بن العلاء وبعض الرواة الأعراب4. وروي أن "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بيِّنٌ في دواوينهم"5. وقد زعم أهل الكوفة، أن علمهم بالشعر القديم، إنما ورد إليهم من "الطنوج"، وهي الكراريس التي أمر النعمان بن المنذر بتدوين أشعار العرب عليها، وما مدح به هو وأهل بيته، ثم أمر بدفنها في القصر الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، احتفرها، "فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"6.
وكان حماد الراوية رأس أهل الكوفة في رواية الشعر وتدوينه، فقد بلغ الغاية في العلم بشعر الجاهليين، يقابله فيه خلف الأحمر عند أهل البصرة، وكان خلف أول من أحدث السماع في البصرة، "وذلك أنه جاء إلى حماد الرواية فسمع
__________
1 المزهر "2/ 400".
2 الرافعي "1/ 382".
3 ابن سلام، طبقات "34".
4 الرافعي "1/ 432".
5 المزهر "2/ 407".
6 الخصائص، لابن جني "1/ 392".(17/220)
منه الشعر، ثم تابعه البصريون فأخذوا عن حماد بعد ذلك، لانفراده بروايات من الشعر، فإنه هو الذي أخذ عنه كل شعر امرئ القيس، إلا شيئًا أخذوه عن أبي عمرو بن العلاء"1. وذكر أن الخثعمي، و"أبا البلاد" كانا من رواة أهل الكوفة في الشعر قبل "حماد، وكانا في خلافة عبد الملك بن مروان2.
ونسب إلى بعض العلماء إضافتهم البيت أو الأبيات على ألسنة الشعراء، لتوجيه الحجة وتزيين الخبر، والاستشهاد على قاعدة نحوية أو صرفية. وذكر أن بعضًا منهم قد اعترف بذلك، وأقر الوضع3. وفي هذه الاعترافات المنسوبة إليهم، ما هو باطل مصنوع. صنعه عليهم حاسدهم ومنافسوهم في الصنعة، ورموه بين الناس على أنه إقرار من أولئك العلماء بالوضع، ولا يعقل صدور مثل هذه الاعترافات منهم، لشهرتهم ولمكانتهم بين الناس، ولخوفهم من السمعة السيئة، واشتهارهم بالكذب والانتحال. وليس معنى هذا أنهم لم يضعوا ولم يصنعوا شيئًا على الشعر الجاهلي، إنما أشك في صحة ما قيل على ألسنتهم من اعترافهم بالدس والوضع.
وذكر أن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيرًا والنابغة4. وقد كان من اللازم أن يتعصب أهل الكوفة لامرئ القيس، فقد روى أكثر شعره حماد ورواة آخرون من أهل الكوفة. وقد كان يونس بن حبيب، وهو من البصريين ومن المتعصبين لمدينته يقول: "يا عجبًا للناس، كيف يكتبون عن حماد وهو يصحف ويكذب ويلحن ويكسر"5.
وقد اتهم الكوفيون بأنهم كانوا أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها، "لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولا يقاس عليها". "وأول من سنَّ لهم هذه الطريقة شيخهم الكسائي، قال ابن درستويه: كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك". و"قال الأندلسي في شرح المفصل: والكوفيون لو سمعوا
__________
1 الرافعي "1/ 423".
2 المصدر نفسه.
3 الرافعي "1/ 383 وما بعدها".
4 طبقات، ابن سلام "16".
5 رسائل الجاحظ "1/ 226"، "كتاب البغال".(17/221)
بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه، بخلاف البصريين"1.
واتهموا أنهم كانوا يصنعون الشاهد من الشعر فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم، ولذلك تجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر2، وربما أخذوا من العرب المتحضرة، "ومن أجل هذا وأمثاله كان البصريون يغتمزون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكوامخ3. ومن الأعراب الذين أخذ الفراء -عالم الكوفة بعد الكسائي- عنهم اللغة، أبو الجراح، وأبو مروان، وأهل البصرة يمتنعون من الأخذ عن أمثال هؤلاء الأعراب، ولا يرون في قولهم حجة. وقال أبو حاتم: إذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها، وحكيت عن العرب شيئًا، فإنما أحكيه عن الثقات منهم، مثل أبي زيد. والأصمعي، وأبي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم، ولا التفت إلى رواية الكسائي، والأحمر والأموي، والفراء، ونحوهم"4.
واتهموا بأنهم كانوا يكثرون من الشعر، يقولونه على ألسنة الشعراء، قال ابن سلام في أثناء حديثه عن الأسود بن يعفر الشاعر الجاهلي: "وذكر بعض أصحابنا أنه سمع المفضل يقول: له ثلاثون ومائة قصيدة، ونحن لا نعرف له ذلك ولا قريبًا منه. وقد علمت أن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي، ويتجوزون في ذلك أكثر من تجوزنا"5. وكان الأسود، يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد. وله في ذلك أشعار. له قصيدة جيدة، طويلة رائعة تعد من أول الشعر، وهي:
نام الخلي فما أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وسادي6
__________
1 الرافعي "1/ 370".
2 الرافعي "1/ 370 وما بعدها".
3 الرافعي "1/ 371".
4 المزهر "2/ 410"،
5 ابن سلام، طبقات "33 وما بعدها".
6 ابن سلام، طبقات "33".(17/222)
ونسمع قصصًا عن تغليط علماء البصرة والكوفة بعضهم البعض، فنجد خلفًا الأحمر، وهو شيخ البصرة في الشعر، يذكر أنه أخذ على المفضل الضَّبِّي في يوم واحد تصحيف ثلاثة أبيات1. ونجد الأصمعي وهو من علماء البصرة كذلك، يحمل على علم الضبي في الشعر، ويرميه بعدم الفهم2. وتجد قصصًا روي عن علماء مشاهير مثل ثعلب وغيره، يحمل فيه أولئك العلماء بعضهم على بعض، وينتقص بعضهم على البعض الآخر3.
ونحن إذا أردنا الوقوف موقفًا علميًّا، فلا نستطيع إلا أن نقول: إننا لا نستطيع تبرئة أهل الكوفة من الصنعة والوضع، كما لا نستطيع تبرئة أهل البصرة منهما، لأن في كل مدينة من المدينتين منافسات بين العلماء، وتزاحم على الرئاسة، وحسد يدفع الإنسان على الوضع والصنعة والأخذ بالخبر مهما كان شأنه لإقحام الخصوم، والتغلب عليهم. فإذا كان حماد عالم الكوفة في الشعر من الوضاعين، وكان يصحف ويكذب ويلحن ويكسر4، فقد كان خلف الأحمر وهو عالم البصرة، مثله في الصنعة والوضع والكذب. وكان "شوكر" وهو من أهل البصرة، ومن رجال المائة الثانية، ممن يضع الأخبار والأشعار، وفيه يقول خلف الأحمر:
أحاديث ألفها شوكر ... وأخرى مؤلفة لابن دأب5
وقد نقح علماء الشعر من المدرستين والمدارس الأخرى ما أخذوه من الشعر الجاهلي، وأجروا على ما لا يتفق منه والقواعد التي ثبتوها للنحو وللعروض تهذيبًا وتشذيبًا، وعابوا منه أمورًا مثل الإقواء والزحاف، واختلال الوزن، وما شاكل ذلك. وقد تحدث عن ذلك المعري في رسالة الغفران، وهو شاعر ومن نقدة
__________
1 المصون "191 وما بعدها".
2 المصون "192 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 202 وما بعدها".
4 رسائل الجاحظ "1/ 226"، "كتاب البغال".
5 لسان الميزان "3/ 158"، "4/ 409"، رسائل الجاحظ "1/ 225"، "كتاب البغال".(17/223)
الشعر، في أحاديثه التي وضعها على ألسنة الشعراء في الجنة أو في النار، وفي أسئلته التي وجهها إليهم، أو وجهها غيره إليهم. كما في استفساره من امرئ القيس عن رواة أهل بغداد في إنشادهم أبياتًا من قصيدته: "قفا نبك" بزيادة الواو في أولها، فوضع الجواب على لسانه، بقوله: "باعد الله أولئك! لقد أساءوا الرواية. وإذا فعلوا ذلك فأي فرق يقع بين النظم والنثر؟ وإنما ذلك شيء فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون أصلا في المنظوم، وهيهات هيهات! "1. ثم يقول: "لو شرحت لك ما قال النحويون في ذلك لعجبت"2.
ونرى المعري يوجه أسئلة إلى امرئ القيس، فيقول له: "أخبرني عن كلمتك "الصادية"، و"الضادية"، و"النونية" التي أولها:
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يمان
لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السمع، كقولك:
فإن أمس مكروبًا فيا ربَّ غارةٍ ... شهدت على أقب رخو اللبانِ
وكذلك قولك في الكلمة الصادية:
على نقنق هيقٍ له ولعرسه ... بمنقطع الوعساء بيض رصيص
وقولك:
فأسقى به أختي ضعيفة إذ نأت ... وإذ بَعُدَ المزدارُ غير القريضِ
في أشباه لذلك، هل كانت غرائزكم لا تحس بهذه الزيادة؟ أم كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وأنتم عالمون عما يقع فيه؟ كما أنه لا ريب أن زهيرًا كان يعرف مكان الزحاف في قوله:
__________
1 رسالة الغفران "313 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "314".(17/224)
يطلب شأو َامرأين قدّما حسبًا ... نالا الملوك، وبذَّا هذه السوقا
فإن الغرائز تحس بهذه المواضع"1.
ثم يجيب المعري على لسان امرئ القيس بقوله: "أدركنا الأولين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك، ولا أدري ما شجن عنه "فأما أنا وطبقتي فكنا نمر في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فنى وقارب، تبين أمره للسامع"2.
ثم نراه يسأل امرئ القيس عن قوله:
ألا رب يوم لك منهن صالحٍ ... ولا سيما يوم بدارة جلجل
أتنشده: لك منهن صالح؟ أم تنشده على الرواية الأخرى. فيجيب على لسانه بقوله: "أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف:
لك منهن صالح
وأما المعلمون في الإسلام، فغيروه على حسب ما يريدون"3.
وقد سأله المعري عن الشعر المسمط المنسوب إليه، فأنكر على لسانه أن يكون قد سمع به قط، قائلا "وإنه لقرى لم أسلكه، وإن الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إلي"4. ولما سأله عن الإقواء في شعره، قائلا له: "وقد كان بعض علماء الدولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك"، أجاب على لسانه: "لا نكرة عندنا في الإقواء"5.
وقد كان من أصعب الأشياء على بعض رجال المدرستين ألا يجيبوا على أسئلة توجه إليهم إجابة تفيد بوجود علم لهم عنها، ولهذا كانوا يعمدون إلى الصنعة والافتعال. نجد ذلك عند أهل الأخبار، وعلى رأسهم ابن الكلبي، كما نجد ذلك عند رواة الشعر مثل حماد الراوية، وخلف الأحمر، كما نجد عند علماء
__________
1 رسالة الغفران "315 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "317".
3 رسالة الغفران "317 وما بعدها".
4 رسالة الغفران "319".
5 رسالة الغفران "320".(17/225)
اللغة. وقد أشرت في صفحات هذا الكتاب إلى أمثلة عديدة من هذا القبيل، اضطر فيها المجيب على افتعال جواب وصنعه، ليظهر نفسه بمظهر العارف بكل شيء.
ويجب الانتباه إلى أن علماء البصرة أو الكوفة أو غيرهم، مهما سموا في العلم وارتفعوا، فإنهم بشر، لم يرزقوا العصمة، وهم في التأثر والانفعال مثل أي كائن حي، فقد يتأثر عالم من عالم متقدم عليه، فيحاول الغمز في علمه أو الطعن به. قال علي بن العباس: "رآني البحتري ومعي دفتر، فقال: ما هذا؟ فقلت شعر الشنفرى. قال: وإلى أين تمضي؟ قلت أقرأه على أبي العباس أحمد بن يحيى. قال: رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام، فلم أرَ له علمًا بالشعر مرضيًا، ولا نقدًا له، ورأيته ينشد أبياتًا صالحة ويعيدها، إلا أنها لا تستوجب الترديد والإعجاب فيها"1. وروى أحمد بن يحيى ثعلب، خبر مناظرات وقعت بين أبي عمرو الشيباني، والأصمعي، ترينا مبلغ التنافس الذي كان بين العالمين، واستهتار الأصمعي بخصمه، استهتارًا تجاوز الحد2.
وقد حاول السيوطي إيجاد عذر لغمز العلماء بعضهم في بعض، بأن قال: "فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به من المصرين كثيرًا ما يهجن بعضهم بعضًا، فلا يترك له في ذلك سماء ولا أرضًا؟ قيل: هذا أدل دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم، ألا ترى أنه إذا سبق إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة سبَّ بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها، ولعل أكثر ما يرمى بسقطة في رواية، أو غمزة في حكاية، محمي جانب الصدق فيها، برئ عند الله من تَبِعَتها؛ لكن أخذت عنه إما لاعتناق شبهة عرضت له، أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاة، مغموض الطرف دون مداه، وقد عرض الشبهة للفريقين، ويعترض على كلا الطريقين" ثم أخذ يعتذر عن ذلك، بأنه وقع في سبيل العلم والحق، ثم قال: "وإذا كانت هذه المناقضات والمنافسات موجودة بين السلف القدي ... جاز مثل ذلك أيضًا في علم العرب"3.
__________
1 المصون "4".
2 المصون "193 وما بعد".
3 المزهر "2/ 416 وما بعدها".(17/226)
ومن هنا يجب الاحتراس كثيرًا حين قراءتنا الطعون التي ترد على ألسنة العلماء يطعن فيها بعضهم ببعض، فأكثر هذا المروي عنهم، صادر عن طبيعة بشرية، تظهر بين الزعماء نتيجة التنافس الذي يقع بينهم على الزعامة والصدارة، ولو في زعامة العلم. ولا تقتصر هذه الطعون والمغامز على طعن علماء البصرة بعلماء أهل الكوفة، أو العكس، بل نجدها بين علماء المدينة الواحدة أيضًا، لأن الموضوع موضوع زعامة ورئاسة، والتحاسد بين المتحاسدين لا ينحصر بقوم دون قوم، وقد يقع بين الإخوة الأشقاء.(17/227)
الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر
مدخل
...
الفَصْلُ الْحَادِي والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: العَصَبِيَّةُ والشِّعْرُ
رأيت أن أهل الكوفة كانوا يفضلون بعض الشعراء الجاهليين على غيرهم وأن أهل البصرة كانوا يرجحون غيرهم عليهم، فلا يرون التقدمة لمن اختارهم أهل الكوفة، ورأيت أن أهل الحجاز يقدمون شعراء آخرين على الشعراء الذين قدمهم أهل الكوفة أو أهل البصرة.
وموضوع من هو أشعر شعراء أهل الجاهلية، موضوع تضاربت فيه الآراء كثيرًا، وكثرت فيه الأقوال، لما له من تماس بروح العصبية، والعصبية إذا دخلت قضية أفسدتها. ثم إنه قائم على أحكام الأذواق، وأذواق الناس في الشعر وفي الذوق والتذوق متفاوتة متباينة، ثم هو لا يستند إلى أسس مقررة تعود إلى أيام الجاهلية، كنقد علمي ودراسة عامة شاملة قام بها الجاهليون في أيامهم، وإنما مرجعه أقوال قيل إنها صدرت من خبراء الشعر وعلمائه، لا أدري مقدار ما فيها من صدق أو كذب. وكل ما أستطيع أن أقوله: إنها آراء دونت في الإسلام، وهي مرسلة، محمولة على المبالغة في الاستحسان لقصيدة أو لقطعة أو لبيت، بل ولنصف بيت أحيانًا، وهي تمثل تذواقًا شخصيًّا، لحالة من الحالات، لا لغالب شعر الشاعر وعامة ما روي عنه، ولما فيه من فن وإبداع، ثم إنك تجدها أحيانًا متناقضة متضاربة، تجد رواية تقول إن الشاعر الفلاني، أو عالم الشعر فلان قال: أشعر الناس فلانًا ثم تجد رواية ثانية تذكر أنه قدم شاعرًا آخر محله فجعله أشعر الشعراء، ثم لا تلبث أن تجد رواية ثالثة، تذكر(17/228)
أنه اختار شاعرًا غيرهما، فجعله أشعر شعراء الجاهلية، وأشعر الناس، فتحتار في أمر هذا التناقض، كيف وقع، وكيف حدث والحاكم رجل واحد؟ هل وقع هذا حقًّا، أو أنه كان من وضع المتعصبين للشعراء، أرادوا تقديم شاعر لهم على سائر الشعراء، فاحتاجوا إلى حجة وسند وإثبات، لإثبات دعواهم، وتأكيدها، فاختلقوا قولا نسبوه إلى عالم معروف وصنع قوم غيرهم مثل ما صنعوا، فاختلقوا قولا نسبوه إلى هذا العالم أيضًا، فمن ثم تعددت الأقوال وتصادمت، فليس للعماء إذن يد في هذا التناقض أو أي ذنب، وإنما الذنب هو ذنب المختلقين الذي دسوا دسهم على العلماء.
وقد لا يكون للاختلاق يد في ظهور هذا التناقض، وإنما سببه، أن شخصًا يسأل عن شاعر، فيخطر بباله خاطر عن شعره، جعله يستعذبه أو يستعذب جزءًا منه، يراه أنه أحسن ما قيل من نحوه، فيرجحه على الجميع، ويحكم من هذه الناحية على أنه أشعر الناس، ثم يمضي وقت، ينسى فيه ما قال، فيسأله أشخاص: من أشعر الناس: فيتخطر خاطرًا، أو يحمله المجلس الذي كان يدور فيه الحديث إذ ذاك على خاطر، يحمله على الحكم بتفوق شاعر آخر، وهكذا ومن هنا كان سبب هذا التناقض والاختلاف في الرأي.
وقد كان من السهل وقوع مثل هذا التناقض، لأن العلم كان بالمشافهة، ولم يكن عن تدوين وقراءة كتب، وكان بالذاكرة والتذكر، وكان حكمهم بنصف البيت وبالبيت وبالقطعة وبالقصيدة، أو بجملة قصائد، لا بمراجعة شعر كل شاعر، وبمقابلته بشعر الشعراء الآخرين، واستنباط ما في مجموع شعر كل شاعر من مزايا، للمقابلة بينهما، ثم الحكم للمتفوق الأجود، فذلك أمر لم يكن من الممكن حدوثه، لعدم وجود التدوين عندهم، ثم إنه لم يكن معروفًا عندهم، فلما وقع التدوين، وأخذ علماء الشعر في التنقير في كل جهة بحثًا عن الشعر وما قيل فيه، ظهر ذلك التناقض وبان، ودون كل ما أمكن تدوينه، بعد أن ضاع من الشعر ومن الآراء التي قيلت عنه ما ضاع، وكانت الخلاصة هذا الواصل إلينا.
وقد أشار أهل الأخبار إلى ما كان للعصبية من أثرها في تفضيل الشعراء بعضهم على بعض: عصبية قبلية، وعصبية محلية، وعصبية منافسة وتراكض على الزعامة. فالقبائل تقدم شعراءها على شعراء غيرها وتجعل في أيديهم ألوية الشعر، وقيادة الشعراء في معارك القصيد، وأهل العصبية إلى عدنان، يقدمون شعر ربيعة وأولهم(17/229)
المهلهل على غيره، ويرون أنه مفتق الشعر ومهلهله، وأول من قصد القصائد1، وأهل اليمن يرون تقدمة الشعر لليمن، يزعمون أنه بدأ في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بالحسن بن هانئ، وأصحابه: مسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ودعبل، وكلهم من اليمن، وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين: حبيب، والبحتري، ويختمون الشعر بأبي الطيب، وهو خاتمة الشعراء لا محالة، ويرجعون نسبه إلى اليمن2.
قال ابن رشيق في "العمدة": "والشعراء أكثر من أن يحاط بهم عددًا، ومنهم مشاهير قد طارت أسماؤهم، وسار شعرهم، وكثر ذكرهم، حتى غلبوا على سائر من كان في أزمانهم، ولكل أحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له، وقل ما يجتمع على واحد، إلا ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في امرئ القيس: "أنه أشعر الشعراء ... "3.
وكان علماء البصرة يقدمون امرأ القيس، أما أهل الكوفة فكانوا يقدمون الأعشى، وأما أهل الحجاز والبادية، فقدموا زهيرًا والنابغة. وكان أهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحدًا، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحدًا. وهذا ما أتت به الرواية عن يونس بن حبيب النحوي4.
ولكنك إذا تتبعت وأحصيت ما قيل على ألسنة أهل البصرة أو الكوفة أو الحجاز من أقوال، ترى تناقضًا بين هذه الرواية وبين ما حصلت عليه من دراسة تلك الأقوال، تناقضًا ينبئك أن هذا المروي، هو وجهات نظر وآراء أشخاص، ولا يمثل إجماع أهل الكوفة، أو إجماع أهل البصرة ولا إجماع أهل الحجاز، أو إجماع أهل البادية، ثم هو كله آراء وردت في الإسلام، وإن حاولت إرجاع أصلها إلى الجاهلية.
ويذكر من يقدم امرأ القيس على غيره، أن الرسول ذكره يومًا، فقال: "ذلك رجل مذكور في الدنيا، منسي في الآخرة، يجيء يوم القيامة وبيده
__________
1 العمدة "1/ 86 وما بعدها"، "باب تنقل الشعر في القبائل".
2 راجع رأي علماء الشعر في أصل نسب المتنبي، العمدة "1/ 89 وما بعدها".
3 العمدة "1/ 94"، المزهر "2/ 478".
4 ابن سلام، طبقات "16"، العمدة "1/ 98"، المزهر "2/ 482".(17/230)
لواء الشعراء يقودهم إلى النار"1. أو أنه قال: "إنه أشعر الشعراء، وقائدهم إلى النار. يعني شعراء الجاهلية والمشركين"2.
وروي أن عمر بن الخطاب كان يفضل امرأ القيس على غيره، ذكر أنه قال للعباس بن عبد المطلب، "وقد سأله عن الشعراء: امرؤ القيس سابقهم: خَسَفَ لهم عين الشعر، فافتقر عن معانٍ عور أصح بصر"3. "يريد أنه أول من فتق صناعة الشعر وفنَّن معانيها واحتذى الشعر على مثاله"4. وذكر أن علي بن أبي طالب كان يرى له التقدم على غيره، وذلك بقوله "رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة"5. فأنت ترى أن الرسول وعمر وعلي، قدَّما امرأ القيس على غيره، وهم من أهل الحجاز. ولكننا نجد في الوقت نفسه رواية تذكر أن ابن عباس قال: قال لي عمر: أنشدني لأشعر شعرائكم. قلت من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير، قلت: ولِمَ كان ذلك؟ قال: كان لا يعاضل بين الكلام، ولا يتتبَّع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه"6. فهو يفضل في هذه الرواية زهيرًا على غيره، بما فيهم امرئ القيس، إذ لم يشر إليه باستثناء.
تم نجد رواية أخرى تذكر أن عمر بن الخطاب قال: أي شعرائكم يقول:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
قالوا: النابغة. قال هو: أشعرهم"7. "وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يقدم النابغة، ويقول: هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا"8. فأبو بكر وعمر في هذا الموقف سواء، فَضَّلا النابغة على سائر الشعراء.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 93"، المزهر "2/ 478".
2 العمدة "1/ 94".
3 العمدة "1/ 94"، الفائق "1/ 343".
4 تاج العروس "3/ 475"، "فقر".
5 العمدة "1/ 41 وما بعدها، 94"، تاج العروس "7/ 412"، "ضلل".
6 طبقات ابن سلام "18"، العمدة "1/ 98"، الفائق "2/ 165"، الشعر والشعراء "1/ 76".
7 ابن سلام، طبقات "17"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 79 وما بعدها".
8 العمدة "1/ 95".(17/231)
ولو استعرضنا رأي الشعراء في أشعر الشعراء، وجدناه غير متفق، فقد يفضل شاعرٌ شاعرًا، وقد يخالفه فيه شاعر آخر، وقد ينسب لشاعر رأي، ثم ينسب له رأي مخالف. سئل "لبيد": "من أشعر الناس؟ قال: الملك الضليل، قيل: ثم من؟ قال: الشاب القتيل، قيل: ثم من؟ قال: الشيخ أبو عقيل -يعني نفسه". و"روى الجمحي أن سائلا سأل الفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح، قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول:
وقاهم حدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأما دعبل فقدمه بقوله في وصف عقاب:
ويلمَّها من هواء الجو طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
وهذا عنده أشعر بيت قالته العرب"2.
وقد سئل الفرزدق مرة: "من أشعر العرب؟ فقال: بشر بن أبي خازم، قال: بماذا؟ قال: بقوله:
ثوى في ملحدٍ لا بدَّ منه ... كفى بالموت نأيًا واغترابا
ثم سئل جرير فقال: بشر بن أبي خازم قال: بماذا؟ قال بقوله
رهينُ بِلَى، وكلُّ فتى سيبلى ... فَشُقِّي الجيب وانتحبي انتحابا
فاتفقا على بشر بن أبي خازم كما ترى"3. وقد رأيت أن الفرزدق كان قد سئل السؤال نفسه: من أشعر الناس؟ فأجاب: ذو القروح، أي امرئ القيس. بسبب بيت فوَّقه به على غيره من الشعراء. بينما هو يقدم بشر بن أبي خازم في هذه الرواية. وينسب أهل الأخبار لجرير رواية أخرى تزعم أنه سئل من أشعر الناس، فقال: النابغة4. فخالفت هذه الرواية ما جاء في الرواية الأخرى.
__________
1 العمدة "1/ 95"، المزهر "2/ 479"، ابن سلام، طبقات "16".
2 العمدة "1/ 95"، ابن سلام، طبقات "16"، المزهر "2/ 481".
3 العمدة "1/ 96".
4 العمدة "1/ 97".(17/232)
"وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن أشعر الشعراء في الجاهلية وأشعر شعراء وقته، فقال: أشعر شعراء الجاهلية امرؤ القيس، وأضربهم مثلا طَرَفَة. وأما شعراء الوقت، فالفرزدق أفخرهم، وجرير أهجاهم، والأَخْطَل أوصفهم"1. "وفضل النقاد العرب طَرَفَة على سائر الشعراء بإجادته وصف الناقة في معلقته على نحو لم يسبق إليه، ويميل بعضهم إلى عَدِّه أشعر شعراء الجاهلية"2.
"وقيل لكثير أو لنصيب: من أشعر العرب؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب"3. فهو رأي قدم الشعراء المذكورين على غيرهم في حالات معينة، ولم يقدم امرأ القيس على غيره بصورة مطلقة. وزعم ابن أبي الخطاب أن أبا عمرو كان يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس، والنابغة، وطرفة، ومهلهل"4.
"وقالت طائفة من المتعقبين: الشعراء ثلاثة: جاهلي: وإسلامي، ومُوَلَّد، فالجاهلي امرؤ القيس، والإسلامي ذو الرُّمة، والمولد ابن المعتز. وهذا قول من يفضل البديع وبخاصة التشبيه على جميع فنون الشعر"5.
وحجة من قدم امرأ القيس على غيره "أن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء، واتبعوه فيها، لأنه أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيد، وقرَّب مأخذ الكلام، فقيَّد الأوابد وأجاد الاستعارة والتشبيه"6، "وكان أحسن طبقته تشبيهًا"7.
__________
1 العمدة "1/ 96"، المزهر "2/ 481".
2 بروكلمن "1/ 92".
3 العمدة "1/ 95".
4 العمدة "1/ 97"، المزهر "2/ 481".
5 العمدة "1/ 100".
6 الشعر والشعراء "1/ 478 وما بعدها"، العمدة "1/ 94"، ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها"، الرواية ترجع إلى "يونس" وقد دونها ابن سلام وابن قتيبة المتوفى بعده "276هـ"، مع شيء يسير من الاختلاف في النص.
7 ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها".(17/233)