ضرائب الزراعة:
وعلى أصحاب الأرض والمزارعين دفع نصيب الحكومة من الحاصل, وقد عينت الحكومات موظفين لجباية حصتها، عرفوا بـ"حزرو" في نصوص المسند, وواحدهم: "حزر"1؛ "الحازر" والخارص في لغة القرآن الكريم. ويذكر علماء اللغة أن "الحزرة" من المال خياره. وفي الحديث أن الرسول بعث مصدقًا، فقال له: "لا تأخذ من حزرات أنفس الناس شيئًا، خذ الشارف والبكر" يعني في الصدقة2.
والخرص: الحزر والحدس والتخمين, هذا هو الأصل في معناه. ومنه خرص التمر والنخل؛ لأن الخرص إنما هو تقدير بظن لا إحاطة, وفاعل ذلك "الخارص", وما يقدر هو خرص الأرض، وخرص النخل, وكان هؤلاء الخراص يذهبون في المواسم إلى البساتين والمزارع لخرصها. وفي الحديث كان النبي يبعث الخراص على نخيل خيبر عند إدراك ثمرها, فيحزرونه رطبًا كذا وتمرًا كذا3.
__________
1 Rhodokanakis, katba. Texte, II, S. 75, 99
2 تاج العروس "3/ 138"، "حزر".
3 تاج العروس "4/ 385"، "خرص".(14/169)
ولا نستطيع أن نأتي بتأريخ ثابت معين عن مبدأ فرض الضرائب الزراعية والضرائب الأخرى في العربية الجنوبية، ولا في أي مكان آخر من جزيرة العرب؛ لعدم ورود نصوص جاهلية عن ذلك. ويظهر أن ما نسميه بالضرائب، كان في بادئ أمره صدقة يدفعها المتمكن عن نفسه وعن أمواله؛ قربة للآلهة وزكاة لنفسه ولأهله ولأمواله، لترضى عنه الآلهة، ولتمن عليه بالصحة والعافية. ومن هذا القبيل النذور، التي كان يكثر منها الإنسان في السابق, فكانت تكوّن موردا حسنا من موارد الحكومة والمعبد. فلما ظهر الملوك، وصارت الحكومة حكومتهم، فرضوا ضرائب إلزامية لتكون واردًا يموّن الملوك وحكومتهم بما يحتاجون إليه من مال ونفقات.
والضرائب عالية في الغالب، بالنسبة إلى المزارعين المالكين لأرضين صغيرة, وللمزارعين الذين يشتغلون بأجور أو يستغلون الأرض بعقود, فعلى هؤلاء دفع عوائد أخرى إلى سادتهم أصحاب الملك، وإلى رجال الدين الذين يطالبون المزارعين بدفع زكاة زرعهم لهم قسرًا، فلا يبقى لدى هؤلاء من غلتهم إلا النزر اليسير الذي لا يكاد يكفيهم. فعاش الفلاح في ضنك من العيش, وهذا مما أثر على الوضع العام للدولة بالطبع.
أما كبار الملاكين وسادات القبائل والأشراف، فلم يكونوا يدفعون إلى حكومتهم إلا جزءًا صغيرًا من دخلهم الذي يحصلون عليه من الزرع؛ فقد كانوا يتحايلون عليها في تقدير غلاتهم، كما كانوا يحملون المزارعين والمستأجرين لأملاكهم وأفراد قبيلتهم العبء الأكبر في دفع الضرائب. فقد كانوا هم الذين يقومون بجمع الغلة وتوزيعها وإفراز حصة الحكومة وحصة المعبد والحقوق الأخرى المترتبة على المزارع. فكانوا يتناولون حصصهم كاملة وزيادة، ويحملون مزارعيهم ومن يشتغل في خدمتهم دفع حصة الحكومة والمعبد، فلا يقع عنهم من باقي الحصة إلا الشيء القليل, يقع ذلك والحكومة عارفة به، ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا؛ لنفوذ كبار الملاكين وسادات القبائل وسلطانهم على أتباعهم الموروث من العادة والعرف.
ولضمان تحصيل حصص الحكومة من الزرع، كان جباة الضرائب يأتون المزارع، فيأخذون ما قدروه وخرصوه من خيار الزرع ويتركون الباقي للفلاح. وقد يثبتون حصة الحكومة عند حلول أوان التقدير ويعينونها، فإذا حان وقت(14/170)
جمع الحاصل، جاءوا فأخذوا غلة ما عينوه, ويقولون لهذا الذي تأخذه الحكومة من الغلة "رزم"1. يأخذونه وهو بعد على الأرض، قبل نقله إلى موضع التجميع والتخزين.
والمزارع الصغير مغبون في كل شيء، وكذلك الفلاح. كان على المزارعين والفلاحين أن يبدءوا عملهم بالاستدانة من وكلائهم الذين يتوكلون عنهم في تصريف حاصلهم أو من رب الأرض، فيحملونهم ربا الدين ويتحكمون عندئذ في أمورهم، ويحصلون منهم على ربح يؤثر عليهم، حتى إذا انتهى الموسم، أو حال الحول وجد هؤلاء أنفسهم وقد أثقلتهم ديونهم، وتكاثرت عليهم التزاماتهم، وقد صاروا تابعين لأصحاب الأرض، لا يستطيعون ترك أرضهم إلا بعد ترضيتهم وتسوية ديونهم.
وكما يفعل بعض الناس في الزمن الحاضر من التهرب من دفع الضرائب بمختلف الطرق، كذلك يهرب الناس في الجاهلية من دفع الضرائب إلى الحكومات، بالرغم من العقوبات الصارمة التي فرضت على المتهربين والمخالفين, وفي ضمن ذلك الاستيلاء على الحاصل الزراعي كله، وتهديم المذاخر التي قد يخفى فيها الحاصل, وتهديم أملاك صاحبه. ونجد في أحد النصوص أن من يخفي حاصله ولا يدفع ما عليه, ويخفيه في القنن -جمع قنة "قنت"، أي: المخازن- ويتستر عليه، فإنه يصادر عليه ويؤخذ منه، بل يُستولَى على كل ما يعثر عليه في المزرعة ويتلف، ويعاقب بالقتل أيضا2.
أما بالنسبة إلى الضرائب الزراعية عند أهل العربية الغربية أو أهل المواضع الأخرى من جزيرة العرب، فلا نملك نصوصًا جاهلية عن هذا الموضوع, ولكنا نجد في القرآن الكريم وفي كتب التفسير إشارة إليها. ورد فيه: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 3, وورد: {وَهُوَ الَّذِي
__________
1 تاج العروس "8/ 310 وما بعدها"، "رزم".
2 REP. EPIGR. 2860, Tome, V, p. 192
3 سورة الأنعام، الرقم 6، الآية 138 وما بعدها.(14/171)
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 1, وورد: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2. ففي الآيات المذكورة, أن أهل الجاهلية كانوا جعلوا لله ولشركائه من ثمراتهم ومالهم نصيبًا، فإذا كان يوم حصاد الزرع أو قطف الثمر، أخرجوا من كل عشرة واحدًا، فهي العشور؛ عشور كل شيء من نخل أو عنب أو حبّ أو فواكه أو قصب. وأما أموالهم، فقد جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميًا وأنعامًا لا يذكرون اسم الله عليها3.
ونجد في كتب رسول الله إلى الملوك وسادات القبائل إشارة إلى "العشر"، أي: إلى هذا الحق الذي كانوا قد فرضوه على أنفسهم، ففي كتابه إلى "عبد يغوث بن وعلة الحارثي": "إن له ما أسلم عليه من أرضها وأشيائها -يعني: نخلها- ما أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأعطى خمس المغانم في الغزو، ولا عشر ولا حشر"4. وفي كتابه لقيس بن الحصين ذي الغصة، أمانه لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد: "إن لهم ذمة الله وذمة رسوله، لا يحشرون ولا يعشرون"5، وفي كتابه لبني جُعيل: "لهم مثل الذي لهم، وعليهم مثل الذي عليهم، وأنهم لا يحشرون ولا يعشرون"6. وفي كتابه إلى "العلاء بن الحضرمي": "وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور"7. وفي كتابه لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حاذت صحار: "ليس عليهم في النخل خراص ولا مكيال مطبق حتى يوضع في الفداء, وعليهم في كل عشرة أوساق وسق"8، أي: العشر.
__________
1 سورة الأنعام، الرقم 6، الآية 141.
2 سورة الأنعام، الرقم 6، الآية 136.
3 تفسير الطبري "8/ 30 وما بعدها".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 268".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 268".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 270".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 276".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 286".(14/172)
ونجد في كتاب رسول الله لعمرو بن معبد الجهني وبني الحرقة من جهينة وبني الجرمز: "وما كان من الدين مدونة لأحد من المسلمين قضى عليه برأس المال وبطل الربا في الرهن, وأن الصدقة في الثمار العشر"1, فجعل الصدقة بمعنى العشر، أي زكاة الثمار. ونجد العلماء يجعلون الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى2، ونجدهم يفرقون بينهما في بعض الأحيان، إذ تكون الصدقة تطوعًا، بينما الزكاة حكمًا مفروضًا، له حدود معلومة على نحو ما حددته كتب الفقه والأحكام.
وقد كان هذا شأن أهل الحجاز، ولا سيما أهل يثرب, يؤدون عشر حاصل زرعهم يوم حصاده وعند الصرام، وبقوا على حالهم هذه حتى فرضت الصدقة المعلومة، أي: الزكاة، فسن العشر ونصف العشر، وترك عشر الجاهلية، على نحو ما نجده في كتب الفقه والأحكام3. وفي الحديث: "فما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية والغروب والدلاء نصف العشر"4.
وقد أشير إلى "العشر" في كتاب "عمر" إلى "زياد بن حدير"، حيث جاء: "إن أقاموا ستة أشهر فخذ منهم العشر، وإن أقاموا سنة فخذ منهم نصف العشر"5. وفي كتاب آخر بعث إليه أيضًا, هذا نصه: "لا تعشرهم في السنة إلا مرةً"6.
وعرف من كان يجمع "الصدقة" في الإسلام بـ"المصدق", وهو آخذ الصدقات، أي: الحقوق من الإبل والغنم يقبضها ويجمعها، والمتصدق: معطيها7. وقد جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله، فقالوا: إن ناسًا من المُصدّقين
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 271 وما بعدها".
2 الأحكام السلطانية، للماوردي "113".
3 تفسير الطبري "8/ 42 وما بعدها".
4 صحيح مسلم "3/ 67"، "باب ما فيه العشر أو نصف العشر"، الأحكام السلطانية "118"، تاج العروس "1/ 405"، "غرب"، "10/ 185"، "غرب".
5 كتاب الخراج، للقرشي "172"، خورشيد أحمد فارق، حضرت عمركه سركاري خطوط "ص135".
6 كتاب الخراج، للقرشي "172"، خورشيد أحمد فارق "ص136".
7 تاج العروس "6/ 406"، "صدق".(14/173)
يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله: "ارضوا مصدقيكم"1. وقد حث الرسول على إرضاء المصدق2.
و"الساعي" مثل المصدق، من يستعمل على الصدقات ويتولى استخراجها من أربابها, وفي حديث وائل بن حجر، أن وائلًا يستسعي ويترفل على الأقيال، أي: يستعمل على الصدقات3. وقد أهمل استعمال لفظة "الساعي" في هذا المعنى فيما بعد، واستعملت في أمور أخرى مثل سعاة البريد. وقيل لمن يتولى أمر الصدقات ويشرف على سعاتها: "عامل الصدقة"، و"عمال الصدقات".
ونجد في كتب اللغة لفظة "السمرج"، في معنى له صلة بالضرائب، يذكر علماء اللغة أنها لفظة فارسية معربة تعني استخراج الخراج في ثلاث مرات، أو اسم يوم ينقد فيه الخراج، ويوم جباية الخراج, أو هو يوم للعجم يستخرجون فيه الخراج في ثلاث مرات4. وذكر بعض علماء اللغة أن "الشمرج" اسم يوم جباية الخراج للعجم، وقد عربه "رؤبة" بأن جعل "الشين" سينًا5.
هذا, ونستطيع حصر الضرائب التي كان يدفعها أهل الجاهلية في ثلاثة أصناف: ضرائب الأرض أي: ما يؤخذ عن غلة الأرض، وضرائب الرءوس أي: ما يقال الجزية في الإسلام، وضرائب التجارة والأرباح. وقد كانت تقدم إلى الحكومة أو سادة القبائل على شكل نقود، أو سبائك ذهب أو مصوغات, حيث تحفظ في خزائنهم, وفي خزائن المعابد في حالة الضرائب التي تدفع إلى المعبد6.
وكانت الجباية بأنواعها من المآكل والمطاعم بالنسبة لبعض من يتولون أمرها، يأكلون ما يتمكنون من أكله، ويسلمون الباقي إلى من عيَّنهم عليها. ونجد في الموارد الإسلامية إشارات إلى الرشوة والمرتشين وآكلي الصدقات وإلى "المصانعة" أي: الرشوة، يقال: صانع الوالي أو الأمير, إذا رشاه7.
__________
1 صحيح مسلم "3/ 74"، "باب إرضاء السعاة".
2 صحيح مسلم "3/ 121"، "باب إرضاء الساعي ما لم يطلب حرامًا".
3 تاج العروس "10/ 178"، "سعى".
4 تاج العروس "2/ 60"، "سمرج".
5 تاج العروس "2/ 65"، "شمرج".
6 Hastings, p. 944. f
7 تاج العروس "5/ 442"، "صنع".(14/174)
الفصل الحادي عشر بعد المئة: النقود
...
الفصل الحادي عشر بعد المائة: النقود
وفي الموارد الإسلامية بعض الأخبار عن نقود كانت متداولة في الحجاز عند ظهور الإسلام, وقد سميت تلك النقود بأسمائها، وأشير إلى وزنها ومقدارها. وعثر الباحثون على نماذج من نقود جاهلية تعود إلى عهود مختلفة في مواضع متعددة مختلفة من جزيرة العرب، قدمت لنا بعض المعارف عنها وعن مصادرها. فمن الموارد الإسلامية ومن بعض كتابات المسند التي أشير فيها إلى نقود جاهلية ومن قطع النقود الجاهلية التي عثر عليها المنقبون، جمعنا ما سنقوله عن نقود أهل الجاهلية.
وقد استعمل أهل العربية الجنوبية النقود في معاملاتهم، استعملوا نقودًا سكّت من ذهب، ونقودًا سكّت من فضة، وأخرى سكّت من نحاس ومن معادن أخرى, وقد عثر على نماذج من كل نوع من هذه الأنواع. كما تعاملوا بالنقود الأجنبية كذلك، مثل النقود اليونانية والرومانية والمصرية والحبشية والفارسية, وقد عثر على نماذج من هذه النقود في مواضع متعددة من العربية الجنوبية: في اليمن، وفي حضرموت، وفي مواضع أخرى. وقد زاد تعامل أهل اليمن بالنقود الحبشية والساسانية في أثناء احتلال الحبش والساسانيين لليمن، ولا شك.
وفي بعض المتاحف ودور الآثار وعند بعض هواة جمع النقود والأشياء القديمة، قطع من نقود جاهلية ضربت في العربية الجنوبية، بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعض آخر من نحاس، ومنها الكبير، ومنها نقود صغيرة دوّن(14/175)
على بعضها اسم الملك الذي ضربت في أيامه، أو الحرف الأول من اسمه، وعلى بعض آخر رموز وصور ألف العرب الجنوبيون ضربها على النقود، مثل صورة "أثينة" أو "البوم" وهي من الطيور التي ألف العرب الجنوبيون إظهار صورتها على النقد، وعلى الحجارة المكتوبة, وعلى جبهات البيوت.
والعملة تطور خطير من التطورات التي أثرت في الحياة الاقتصادية للبشر, أحد اختراعها انقلابًا كبيرًا في النظم الاقتصادية والاجتماعية، ويعد إيجادها من المخترعات الكبرى التي لعبت دورا خطيرا في حياة الإنسان ولا تزال تلعبه. قلصت أعمال المقايضة المرهقة المتعبة، وقضت على التعامل بالوزن في تقدير الأثمان؛ أعني التعامل بوزن الذهب والفضة في تقدير قيم الأشياء، بأن يعطي إنسانٌ إنسانًا قيراطًا من ذهب، أو نصف مثقال، أو مثقالًا مقابل سلعة ثم التساوم على سعرها, أو وزن مثقال من فضة أو أقل من ذلك أو أكثر في مقابل سعة يريدها المشتري, وهو نظام سبق نظام النقد، الذي ولدت منه فكرة العملة. وهو نظام متقدم بالنسبة إلى نظم المقايضة التي سبقته، قلَّص من صعوباتها كثيرًا، وأراح التاجر في التعامل، حتى ولدت فكرة سك العملة، فقلصت منه ومن تعقيداته، لسهولة التعامل بالعملة، ولاكتسابها صفة رسمية وسعرًا ثابتًا مقررًا ووزنًا معينًا حددته الحكومات.
وفي وسعنا إطلاق مصطلح "النقد الطبيعي" على نظام المقايضة، أي: مبدأ مبادلة سلعة بسلعة, فهو في الواقع نظام يستند على مبدأ التسعير وتثمين السلع وبيع سلعة بثمن سلعة أخرى. ولما وجد الإنسان صعوبة كبيرة في التعامل بهذه الطريقة، هداه عقله وتقدمه الفكري إلى ابتداع طريقة التعامل بالذهب والفضة وزنًا؛ فخفف الإنسان بذلك كثيرا من التعقيدات والصعوبات التي كان يجابهها في تعامله بالمقايضة، فكان إذا أراد شراء حاجة عامل صاحبها بمقدار موزون من الذهب أو الفضة، يقدمه إليه في مقابل شرائها, ثم انتقل بعد ذلك إلى طريقة سك العملة. فسهل بذلك معاملاته في البيع والشراء كثيرا، ولا زال هذا النظام سائدًا في كل أنحاء العالم، مع نظام العملة الورقية ونظام التعامل بالصكوك.
وقد تعامل الجاهليون بالطرق الثلاثة المذكورة؛ تعاملوا بالمبادلة، أي: المقايضة، وتعاملوا بوزن الذهب والفضة، وتعاملوا بالعملة. ولما ظهر الإسلام كانت هذه الطرق لا تزال مألوفة عندهم متبعة، فكانوا يبيعون تمرًا بتمر، وشعيرًا بشعير،(14/176)
وحنطةً بحنطة, وقد أشير إلى هذه الأنواع في كتب الحديث، وأشرت إليها في باب البيوع. ولم يراع أهل الجاهلية تنوع الصنف في البيع، كأن يبيعوا حنطة من جنس معلوم بحنطة من جنس آخر، بل كانوا يبيعون الحنطة بالحنطة من نفس الجنس والنوع، بوزن مختلف لوجود تباين في الجودة أو تراب أو حبوب غريبة في إحدى الحنطتين. كما تعاملوا بتنوع السلع، مثل بيع حنطة بشعير وبالعكس، وبيع تمر بصوف أو بجلود، وما شاكل ذلك لوجود حاجة ولقلة النقد.
وتعاملوا بوزن الذهب والفضة، فاشتروا الرقيق بأواقٍ يحددونها من ذهب أو من فضة، وباعوا التجارة بأواقي الذهب والفضة, تعاملوا بالأواقي وبأقل منها وبأكثر حسب قيم الأشياء ودرجة تثمينها1. ونجد ذكر هذا التعامل في كتب الحديث والفقه؛ لما له من دور خطير في معاملات الناس في الجاهلية وفي والإسلام.
و"النقد" في مصطلح علماء العربية: تمييز الجيد من الرديء. قال الشاعر:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدنانير تنقاد الصياريف
والنقد: إعطاء النقد, ونقد الثمن: أعطاه نقدا معجلا2. ويظهر أن الجاهليين كانوا يطلقون لفظة "النقد" على العملة، وعلى التعامل بها من أخذ وقبض وتمييز الجيد من الرديء منها.
و"السِّكة": حديدة منقوشة كتب عليها، يضرب عليها الدنانير والدراهم. ومنه الحديث أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس, أراد بها الدرهم والدينار المضروبين. سمى كل واحد منهما سكة؛ لأنه طبع بالحديدة المعلمة له3.
ونجد في كتب الحديث رواية تذكر أن أول من ضرب الدينار تبع، وهو
__________
1 "وكانوا يتبايعون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم, وهو الرطل الذي هو اثنتا عشرة أوقية, والأوقية هي أربعون درهمًا"، الأحكام السلطانية "159"، "حاشية رقم 1".
2 تاج العروس "2/ 516"، "نقد".
3 تاج العروس "7/ 143"، "سكك".(14/177)
"أسعد بن كرب"، وأن أول من ضرب الفلوس وأدارها في أيدي الناس: "نمروذ بن كنعان"1.
وقد وردت في كتابات سبئية وقتبانية إشارات إلى نقود سبئية وقتبانية كانت مستعملة في تلك الأيام, ويرجع بعض العلماء تأريخ أقدمها إلى حوالي سنة "400" قبل الميلاد2. وقد ورد ذكر بعضها مع أسماء ملوك سبئيين وقتبانيين، في تدوين عقود زراعية أو ضرائب في الغالب، وقد ذكرت حين الإشارة إلى دفع مبلغ أو إلى تحديد غرامات, ولكن ورود أسمائها في تلك العقود وفي الأوامر الملكية لأولئك الملوك لا يدل على أنها سكت في أيامهم وضربت في عهدهم، فقد يجوز أن تكون قد ضربت قبل أيامهم بأمد طويل أو قصير، وأنها كانت مستعملة قبل أيامهم وفي أيامهم في الأسواق؛ ولذلك أشير إليها في تلك الكتابات.
ونجد في أحد وجهي بعض النقود رأس رجل ظهرت ملامح وجهه إلى العنق، يحيط به غصنا شجر على هيئة دائرة، وقد تدلى شعر الرأس إلى العنق، وظهرت عليه تموُّجات الشعر على هيئة خصل محفورة, وأما صورة الأوجه، فهي جانبية اتجاهها نحو اليمين في الغالب. ولولا وجود بعض حروف المسند عليها لحسبتها من النقود المضروبة عند اليونان, ونجد في الوجه الآخر من النقد صورة البوم في الغالب؛ جسمها جانبي، أي قد امتد نحو الجانب. أما الوجه، فقد صور وكأنه ينظر إليك، وقد برزت عيناه بصورة واضحة ظاهرة حتى بدتا في شكل لا يتناسب أحيانًا مع حجم الوجه. ومن ينظر إلى هذا الوجه يخيل إليه أنه ينظر إلى رأس بومتين, لا بومة واحدة3.
وتحمل بعض النقود إشارات ورموزًا لها صلة بديانة العرب الجنوبيين قبل الإسلام. ومن ذلك الهلال، إشارة إلى الإله القمر4, والهلال وفي داخله
__________
1 مسند أبي حنيفة "ص163".
2 Handbuch, I, S. 96
3 انظر الألواح المصورة للنقود الملحقة بكتاب:
G. Fr. Hill, A Catalogue of the greek Colins of Arabia, Mesopotamia and Persia, London, 1922
وسيكون رمزه: Hill
4 Handbuch, I, S. 35(14/178)
أو في مقابله كوكب ذو رءوس تلتقي بنقطة في الوسط، وأحيانا على هيئة قرص دون رءوس, يمكن اعتبارهما أساس الكوكب والهلال "النجمة والهلال" المستعملين في بعض الأعلام الإسلامية واللذين يشاهدان على قبب المساجد ويعتبران عند المسلمين وعند الغربيين شعارا للإسلام. وهما في الأصل من شعائر الوثنيين الجاهليين, وقد يكون الكوكب ذو الرءوس أو القرص رمزًا يشير إلى الشمس.
وللعلماء الباحثين في النقود العربية الجنوبية آراء في الحروف المقطعة المضروبة على النقود, وفي الحروف المتصلة المربوطة بعضها ببعض في بعض الأحيان على هيئة الطغراء. وذهب بعضهم إلى أن هذه الحروف هي الأحرف الأولى لأسماء الملوك الذين ضربت تلك النقود في أيامهم, وذهب آخرون إلى أنها أسماء المواضع التي ضربت فيها تلك النقود, وذهب آخرون إلى أنها رموز للآلهة، وقد ضربت تبركًا باسمها. ومهما يكن من شيء، فبين الباحثين في النقود العربية الجنوبية اختلاف في هذا الموضوع، لم يتوصلوا فيه إلى حل متفق عليه1.
ومن الملوك الذين ضربت بعض النقود في أيامهم، ملك ذكر لقبه وحده، وهو "ينف" "ينوف"، دون اسمه الأول الذي يعرف به, وإذ قد تلقب جملة ملوك بهذا اللقب، فمن الصعب البتّ في تعيين الملك صاحب هذا النقد2, وملك ذكر اسمه الأول، وهو "شمر"، والظاهر أنه "شمر يهرعش" ملك سبأ وذي ريدان3, و"كرب آل وتر يهنعم" وهو ابن الملك "ذمر على بين", و"عمدن يهقبض"، و"عمدن بين"، وملوك آخرون4.
وقد وردت لفظة "بلط" في نصوص المسند، ترجمت بـ"نقد" وبـ"Coin" في الإنجليزية5. و"أبلط" في عربيتنا بمعنى لصق بالأرض وافتقر، وذهب ماله، وأفلس, والبلطة: المفلس6.
وقد ذكر "نزيه مؤيد العظم"، أن أهل اليمن يطلقون على النقود لفظة
__________
1 Hill, XIVI
2 Hill, P.P. IVII
3 Hill, p. IX
4 Hill, p. IXVIII
5 Jamme, South Arabian Inscriptions, p. 428, Rhodokanakis, Kaba. Texte, II, S. 25, anm. 3
6 تاج العروس "5/ 111"، "بلط".(14/179)
"ظلط"1، ولعل لهذه اللفظة صلة ببعض أسماء النقود اليمانية قبل الإسلام.
وهناك لفظة أخرى وردت في نصوص المسند، هي "خبصتم"، "خبصت", ويرى "رودو كناكس" أنها اسم نقد أقل سعرًا وثمنًا من سعر نقد الذهب، وأنه لم يكن من الذهب ولا من الفضة بل من المعادن الأخرى2.
ووردت لفظة "رضيم" "رضى" بعد العدد خمسة في نص سبئي، ذكرت مع العدد في أمر يشير إلى غرامة تفرض على المقصر والمتماهل في العمل، فحمل ذلك بعض الباحثين على الذهاب إلى أنها تسمية لنوع من النقد الذي كان مستعملا آنئذ. ولكن هناك من يرى أن اللفظة ليست تسمية وسمة لنوع من أنواع النقود، وإنما هي صفة لها، بمعنى مرضية ومرضٍ وبمعنى تامة وافية صحيحة، غير مزيفة ولا منقوصة في الوزن3.
وإذا كنا لا نستعمل اليوم في لغتنا الألفاظ والتعابير التي تدل على صحة النقود وسلامتها من الغش والتزوير كثيرًا، فإن القدماء ولا سيما صيارفتهم وأصحاب المال كانوا يستعملونها في معاملاتهم اليومية وفي عقودهم التي كانوا يدونونها؛ لأن سك العملة وضربها لم يكن يومئذ متقنا ولا مضبوطا من حيث المادة أو الوزن. وكان من السهل تقليد العملة وغشها والتلاعب بوزنها؛ ولذلك كان ثمنها عرضة للتغير والتلاعب بالسعر في بعض الأحيان. كما كان من السهل غش الناس بإعطائهم العملات المزيفة، حتى حفظت كتب الماضين أمثلة عديدة على ذلك، وكتب القدماء فصولًا في كشف الغش في النقود وفي معاقبة المسئولين عنه.
ومن الألفاظ التي استعملها أهل العربية الجنوبية للتعبير عن صحة العملة وسلامتها من الغش والتي دونوها في كتاباتهم، لفظة "مصعم" "مصع"، بمعنى نصع وخلص، أي: خالصة من كل غش، صحيحة لا شائبة فيها. ولفظة "رضيم" المتقدمة، ولفظة "خبصتم" "خبصت" من هذه التعابير على رأي بعض الباحثين4.
__________
1 رحلة "85".
2 Rhodokanakis, katab. Texte., II, S. 26
3 Rhodokanakis, katab. Texte., II, S. 25
4 Rhodokanakis, katab. Texte., II, S. 26(14/180)
ويلاحظ وجود أثر للسكة اليونانية على السكة العربية الجنوبية, وقد وجد شبه أيضا بين بعض النقود العربية الجنوبية ونقود الساسانيين. ونظرًا إلى وجود صلات تجارية بين اليونان والساسانيين والعرب الجنوبيين، فلا يستبعد تأثر دور ضرب السكة في اليمن وفي حضرموت بطريقة ضرب النقود عند اليونان والساسانيين1. ومن أهم ملامح تأثر ضرب النقود بنقود اليونان، هو وجود صورة "البوم" رمز "أثينة" مطبوعًا على النقود، على نحو ما طبعت على النقود اليونانية، حتى صار من الصعب التفريق بينهما، فكأنما أخذ عمال ضرب النقود قالبًا للنقد اليوناني، ثم حفروا عليه حروف المسند وضربوه2. ثم صور الملوك، وكراسي جلوسهم عليها، والصولجان الذي بأيديهم، فكل هذه نقلت نقلا عن النقود اليونانية.
ولا بد أن تكون في اليمن دور لضرب النقود سكّت فيها عملتهم. وإني لآسف إذ لم أقف على كتابات جاهلية فيها ما يفيدنا عن كيفية ضرب النقود عند العرب الجنوبيين أو عند غيرهم وأوزانها وأنواعها، وما شابه ذلك من أمور تتعلق بها، وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بها غير الترقب والانتظار، فلعل يقظة العرب تولي تأريخ العرب القديم ما يستحقه من عناية ورعاية وبحث، فيجدُّون في تتبع مواطن الآثار الغنية المطمورة لاستخراج دفائنها التأريخية الثمينة التي تظهر لنا أمورًا كثيرة من تأريخ تلك الأيام.
وقد عثر في بصرى وفي مواضع من المنطقة التي عرفت بـ"المقاطعة العربية" "الكورة العربية" على نقود معظمها من نقود الرومان واليونان، كما عثر على نقود نبطية. ويذهب بعض الباحثين في النمّيات، أن الملك "الحارث الثالث" "87 - 62ق. م."، هو أول ملك نبطي أمر بضرب النقود، أخذ السكة من اليونان أثناء استيلائه على دمشق. وقد عثر على نقد من فئة "دينار" طبع عليه رمز يمثل اتفاق الحارث و"سكاورس" وصورة جمل وشجرة. وعثر على نقود أمر "الحارث" هذا بضربها، تشبه النقود التي ضربها "ديمتريوس
__________
1 Carlo Conti Rossini, Monete Sud-Arabiche, Rendiconti della R. Acad. Dei Lincai, 30, 1922, p. 239, Handbuch, I, s. 96, 175
2 Mardtmann und Mittoch, Saba. Inschri, S. 8(14/181)
الثاني" "الثالث" "Demetrius Eukairos III" بمدينة "دمشق" شبهًا كبيرًا؛ ولهذا يرى الباحثون أنها تقليد ومحاكاة لها. ولم يصل إلينا نقد من نقوده يحمل كتابة مدونة بالنبطية1.
وجاد "عبادة" الثالث من ملوك النبط علينا بقطع من النقود، يرى الملك على أحد وجهيها ومعه صورة امرأة يظن أنها صورة أمه، وأنها تشير إلى مبدأ حكمه إذ كان قاصرًا، فكانت أمه تدير الملك باسمه نيابة عنه، وذلك بالنسبة إلى النقود التي ضربت في أوائل أيام الحكم, وأما في النقود المتأخرة، فإنها صورة زوجته، التي كانت تساعده وتؤازره2. وتشاهد صورة نسر واقف قابض على جناحيه في الوجه الثاني من أحد النقود، وعلى طرفي الصورة كتابة، وصورة رأس رجل في القطعتين المرقمتين "7" و"8" يرى أنها رأس الملك وعلى طرفي الصورة كتابات نبطية وتأريخ الضرب.
وتعد النقود التي ضربت في أيام "الحارث" الرابع من خير ما ضرب من النقود في أيام النبط، ولم يعثر على نقد له ضرب في مدينة "دمشق" في المدة التي استولى فيها على تلك المدينة، وقد ضرب بعضها باسم الملك وباسم زوجته "خلدو" "خلد"، زوجته الأولى. وصورت صورة زوجته هذه على النقد، وضرب بعضها باسمه وباسم زوجته الأخرى "شقيلة" وطبعت صورتها على النقد كذلك, وضرب بعض آخر باسم الملك وحده. وهي مختلفة: بعضها من الفضة، وبعض آخر من البرنز، وعلى عدد منها تأريخ الضرب3.
وضرب اسم "شقيلة" الثانية ملكة النبط مع اسم الملك "ملكو" "مالك" الثاني في نقد وصل إلينا, وقد وصفت في النقود بأنها أخته. أما القطع التي وصلت إلينا، فبعضها مصنوع من الفضة وبعض آخر من البرنز، وعلى نقوده شيء من التبديل والتغيير عن النقد الذي ضرب في أيام "الحارث" الرابع4.
وتُبُورك في بعض النقود مثل نقود "بصرى" بضرب صور الآلهة أو نعوتها
__________
1 G. Fra-Hill, Catalogue of the Greek Coins of Arabia, Mesopotamia and Persia, London, 1922, pp. XI, Die Araber, I, S. 298
2 Hill, p. XIV, XV, XVI, 4,Pi. 1, 6, 7, 8, Morey, Rev. Num, 1911, p. 79
3 Hill. P. XVII, 5, P 1, 9, 10, 11, 12, 13, 14, 15, 16, 17, 18, 19, 20, 21, II, 1-12Dalman, Neue Petra Forschungen, S. 106.
4 Hill, p. XIX, II, P1, II, 13-17(14/182)
أو رموزها على النقود، فقد ضرب نعت الإله "دو شرى" "ذو الشرى" على نقد ضرب في "بصرى". كما أشير إلى هذا الإله في نقد ضرب بـ"بصرى" بتصوير منظر من مناظر الاحتفالات السنوية التي كانت تقام في كل عام إكرامًا له، وتعرف بـ"Actia Dusaria"1. أما آلهة المدينة التي ضربت صورتها على بعض النقود، فتشبه صورتها صورة "عشتاروت" "عشتروت" المعروفة بفلسطين وفينيقية, ويظهر أنها "اللات"2. وتشبه في بعض النقود صورة "أثينة"، وقد دعيت بـ"Tyche"، و"أثينة" هي "اللات" عند أهل حوران3.
وعثر في جزيرة "فيلكا" على نقود يونانية من بينها درهم ضرب في عهد الملك "أنطيوخس" الثالث من ملوك السلوقيين، ويعود تأريخ هذا الدرهم إلى حوالي السنة "212" قبل الميلاد. وتبين أن بعض الدراهم قد ضرب في "جرها" "Gerhha" "الجرعاء"، كما عثر على نقود ضربت من النحاس، تبين أن قطعة منها ضربت في عهد "سلوقيوس" الأول, ضربها باسم الملك "الإسكندر" الأكبر, وأن قطعتين منها ضربتا في أيام "أنطيوخس" الثالث. فهي تعاصر الدراهم المذكورة4.
أما أهل الحجاز، فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية: تعاملوا بالدنانير، وتعاملوا بالدراهم، وتعاملوا بالدانق, وتعاملوا بنقود أهل اليمن، ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل الحبشة كذلك. فقد كان أهل مكة خاصة تجارًا يتاجرون مع اليمن ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام والحبشة, وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود.
ولم يرد في الأخبار ما يفيد قيام أهل العربية الغربية أو أي مكان آخر في جزيرة العرب بضرب النقود الجاهلية فيها، لكن ذلك لا يمنع من احتمال عثور النقابين في المستقبل على نقود محلية, ضربت في مكة أو في الطائف أو في يثرب أو في مكان آخر ولو على نطاق ضيق محدود.
__________
1 Hill, p. XXVII
2 HILL, p. XXIX
3 HILL, p. XXX
4 نقود يونانية من جزيرة فيلكا، وزارة التربية والتعليم: قسم الآثار والمتاحف، مطبعة حكومة الكويت.(14/183)
وكان تعامل أهل مكة بالدنانير، ترد إليهم من بلاد الشام، ولا سيما دنانير هرقل, وبالدراهم الفارسية البغلية، "فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر, وكان المثقال عندهم معروف الوزن، وزنه: اثنان وعشرون قيراطًا إلا كسرًا، ووزن العشرة الدراهم، سبعة مثاقيل، فكان الرطل اثنتي عشرة أوقية, وكل أوقية أربعون درهمًا, فأقر رسول الله" ذلك ومن جاء بعده إلى أيام "عبد الملك بن مروان"، فأمر أن تضرب الدراهم على خمسة عشر قيراطًا من قراريط الدينار1. وذكر أن الدنانير التي كانت ترد مكة في الجاهلية رومية، والدراهم كسروية2.
وقد اشتهرت دنانير "هرقل"، وعرفت بـ"الهرقلية"، حتى إنها كانت تسمى الدنانير عامةً "الهرقلية"3. والظاهر أن ذلك بسبب كونها مجلوَّة مطبوعة طبعًا حديثًا، لم تطمس آثارها ولم يمض زمن طويل عليها، أو لأن العرب حصلت في عهده على أكثر دنانيرها، فنسبتها إليه.
والدينار عملة من الذهب، عرف علماء اللغة أنها من الألفاظ المعربة، ولكنهم لم يتأكدوا من أصلها، فذهبوا إلى أنها من أصل فارسي4, وهي معربة من أصل يوناني هو "ديناريوس" "Dinarius" مختصر"Dinarius" Aureus" "Aureus Denarius"" كما جاء ذلك في تأريخ "بلينيوس"5. والظاهر أن العرب استعملوا التسمية التي كانت شائعة في بلاد الشام، منذ عهد إصلاح "قسطنطين" الأول "309 - 319م" لنظام النقد, فأطلقوا على العملة الذهب لفظة دينار. وقد كان أهل الشام قد اقتصروا على لفظة "Dinarius" منذ ذلك العهد6.
وقد ورد ذكر الدينار في القرآن الكريم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 7,
__________
1 فتوح البلدان "452"، "أمر النقود،
Josef Von Karabaek, zur Orientalischen Alterumskunde, Wien, 1908. S. 61
المخصص "12/ 27"، جامع الأصول "1/ 371".
2 فتوح البلدان "453".
3 "دنانير شيفت من هرقل بروسم"، الجواليقي "ص349"، المخصص "12/ 22"، حاشية على الصفحة 371 وما بعدها من الجزء الأول من كتاب: جامع الأصول من أحاديث الرسول، لابن الأثير الجزري.
4 تاج العروس "3/ 211"، "دينار".
5 Pliny, Hist. Nat., Book, XXXIII, 13
6 Ency., I, p. 975
7 آل عمران، الآية 75، المفردات "171".(14/184)
والقنطار وزن. وتأويل الكلام: أن من أهل الكتاب الذي إن تأمنه على عظيم من المال كثير يؤده إليك ولا يخنك فيه, ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه، فلا يؤده إليك إلا بالتقاضي والمطالبة1.
ويعرف "الدينار" بـ"العين", والعين الذهب عامة2، فكأنهم سموا عينًا، لأنه من ذهب.
وقد فكر المسلمون قبل "عبد الملك بن مروان" في موضوع النقود، وفي ضرورة تحويلها إلى نقد إسلامي, وكان "عمر" في جملة من فكر في ذلك. إنه أراد أن يجعل الدراهم من جلود الإبل، فلما استشار ذوي الخبرة، لم يقروه على رأيه فأمسك3, وذكر أنه أمر بضرب الدراهم، فضربت سنة ثماني عشرة من الهجرة4, وضرب "عثمان" الدراهم كذلك. ثم إن معاوية ضرب الدراهم السود، وضرب أيضا دنانير عليها تمثال متقلد سيفًا5, وضرب "زياد" النقد كذلك. ولما قام عبد الله بن الزبير بمكة ضرب دراهم مدورة, وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة. وضرب "مصعب بن الزبير" دراهم بالعراق، ثم غيرها "الحجاج"، حتى استقر الأمر لعبد الملك، فعرب النقد على نحو ما هو معلوم6.
وقد بقي العرب يتعاملون بالدنانير الرومية إلى أيام عبد الملك، حيث أمر بضرب الدنانير، فضربت بدمشق, وقد نعت الدينار الجديد بـ"أحرش" إذ كانت فيه خشونة لجدته. ومنه الحديث أن رجلًا أخذ من رجل آخر دنانير حرشًا، وهي الجياد الخشنة الحديثة العهد بالسكة التي عليها خشونة النقش7.
ومن أسماء الدينار "السِّكِّي"8.
__________
1 تفسير الطبري "3/ 225 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "3/ 225 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري".
2 تاج العروس "9/ 288"، "عين".
3 فتوح البلدان "456"، "أمر النقود".
4 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "160 حاشية".
5 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "160 حاشية".
6 الأحكام السلطانية، "160 وما بعدها".
7 تاج العروس "4/ 296"، "حرش".
8 تاج العروس "7/ 143"، "سك".(14/185)
وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة الدرهم فارسية الأصل، وقد عربت، وقالوا في جمعها: دراهم ودراهيم1, وهو نقد من الفضة. وقد عرف بـ"درم" Diram في الفارسية وبـ"درخمة" "درخما" Drachma في اليونانية. والظاهر أن العرب أخذوا بالتسمية الفارسية, وقد استعملوا في تعاملهم دراهم الفرس ودراهم اليونان.
وأشير إلى الدراهم في الآية: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} 2. ويذكر المفسرون أنه كان من عادة الجاهليين التعامل بوزن الدراهم بالأواقي إن زاد عددها على وزن أوقية، وكان وزن الأوقية أربعين درهمًا. فما نقص عن هذا المقدار، جرى التعامل عليه بالعدد، وما زاد عليه جرى التعامل عليه بالوزن3.
وكانت الدراهم مختلفة كبارًا وصغارًا، فكانوا يضربونها مثقالًا، وهو وزن عشرين قيراطًا، ويضربون عشرة قراريط، وهي أنصاف المثاقيل. وكان أهل الجاهلية يتعاملون بها حسب وزنها, وهي دراهم الأعاجم4.
وقد قسم العلماء الدراهم التي كان يستعملها الجاهليون من أهل مكة وغيرهم إلى نوعين: الدراهم السود الوافية، والدراهم الطبرية العتق, والوافية هي البغلية, وكان لهم دراهم تسمى "جوراقية". والدرهم الطبري: ثمانية دوانق، والدرهم البغلي: أربعة دوانق، وقيل العكس. والدرهم الجوراقي: أربعة دراهم ونصف5.
وورد أن الدراهم كانت في أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان: منها درهم على وزن المثقال عشرين قيراطًا، ودرهم وزنه عشرة قراريط، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطًا6.
__________
1 قال الفرزدق:
تنفي يداها في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
تاج العروس "8/ 298"، "درهم".
2 سورة يوسف، الآية 20، المفردات "168".
3 تفسير الطبري "12/ 102 وما بعدها".
4 فتوح البلدان "451"، "أمر النقود".
5 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي "ص108، 158 وما بعدها"، "تحقيق محمد حامد الفقي"، الأموال، لأبي عبيد "رقم 1622".
6 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "159"، الأحكام السلطانية للماوردي "153".(14/186)
وعرفت دراهم الأكاسرة بـ"دراهم الأسجاد", قيل: إنها عرفت بذلك؛ لأنها كانت عليها صور يسجدون لها، وقيل: كانت عليها صورة كسرى، فمن أبصرها سجد لها، أي: طأطأ رأسه لها وأظهر الخضوع. وإياها عنى الأسود بن يعفر النهشلي في رواية من الروايات بقوله:
من خمر ذي نطف أغنّ منطق ... وافى بها كدراهم الأسجاد1
وذكر في رواية أخرى، أن الأسجاد: اليهود والنصارى، أو معناه: الجزية2.
وكان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم من العين والورق غير خالصة، إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفوًا لعدم تأثيره بينهم إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص3.
وورد أنه كانت باليمن دراهم صغار، في الدرهم منها دانقان ونصف4, وورد أن الدرهم اليمني كان دانقًا5. ويظهر أنه كان من أيام الحميريين، بدليل تسمية "الماوردي" لهذه الدراهم بدراهم حميرية، وكانت كما يقول قليلة6.
وعلى هذا يكون أهل مكة قد تعاملوا في الجاهلية بعملة الروم, وبعملة الفرس، وهي الدراهم على الأكثر، وبعملة اليمن، وأشار بعض العلماء إلى عملة مغربية، لم يذكروا عنها شيئا7.
وذكر أن "عمر بن الخطاب"، أمر بضرب الدراهم على نقش الكسروية، وشكلها بأعيانها، غير أنه زاد في بعضها: "الحمد لله"، وفي بعضها: "محمد رسول الله"، وفي بعضها: "لا إله إلا الله وحده". وكان ذلك سنة ثماني عشرة من الهجرة, وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل. فلما بويع "عثمان" ضرب في خلافته دراهم نقشها: "الله أكبر".
__________
1 تاج العروس "2/ 372"، "سجد".
2 تاج العروس "2/ 372"، "سجد".
3 الأحكام السلطانية، للماوردي "154"، لأبي يعلى "163".
4 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "159".
5 المصدر نفسه "ص162"، الأحكام السلطانية, للماوردي "154".
6 الأحكام السلطانية، للماوردي "154".
7 شرح النووي على صحيح مسلم "4/ 323"، "حاشية على إرشاد الساري".(14/187)
وفي عهد "معاوية"، ضرب الدراهم السود الناقصة من ستة دوانق، فتكون خمسة عشر قيراطًا، تنقص حبة أو حبتين. وضرب منها "زياد"، وجعل وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وكتب عليها، فكانت تجري مجرى الدراهم. ولما قام "عبد الله بن الزبير" بمكة ضرب دراهم مدورة، وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة، وكان ما ضرب منها قبل ذلك ممسوحًا غليظًا قصيرًا، فدورها عبد الله. وضرب مصعب بن الزبير دراهم بالعراق، وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل, فلما استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان، ضرب الدنانير والدراهم في سنة ست وسبعين من الهجرة1.
وجاء في رواية أخرى أن أصحاب رسول الله كانوا يتعاملون بدراهم العجم، فكان إذا زافت عليهم أتوا بها السوق، فقالوا: من يبيعنا بهذه؟ وذاك أنه لم يضرب النبي، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا معاوية2. وإن أول من ضرب المنقوشة عبد الملك بن مروان3, ونجد بين العلماء اختلافًا في أول من أمر بضرب الدنانير والدراهم في الإسلام.
وذكر بعض أهل الأخبار، أنه كانت لقريش أوزان في الجاهلية، فدخل الإسلام فأقرت على ما كانت عليه. كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهمًا، وتزن الذهب بوزن تسميه دينارًا، فكل عشرة من أوزان الدراهم سبعة أوزان من الدنانير. وكان لهم وزن الشعيرة وهو واحد من الستين من وزن الدرهم، وكانت لهم الأوقية وزن أربعين درهمًا، والنش وزن عشرين درهمًا، وكانت لهم النواة وهي وزن خمسة دراهم، فكانوا يتبايعون بالتبر على هذه الأوزان, وقد أقرهم الرسول على ذلك4. وكانوا يحتفظون بالأوزان المقررة، حتى إذا حدث اختلاف على الوزن، رجعوا إلى الوزن المقرر المعتبر. وكان "أبو وداعة بن ضبيرة السهمي" يمتلك وزن مثقال في الجاهلية، يوزن به5.
__________
1 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي "ص160 وما بعدها الحاشية".
2 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "165".
3 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "164"، وللمقريزي رسالة في النقود القديمة والإسلامية مطبوعة.
4 فتوح البلدان "452 وما بعدها"، "أمر النقد".
5 فتوح البلدان "452"، "أمر النقد".(14/188)
وقد كانوا يثلمون أطراف الدينار والدرهم، أو يقطعونهما قطعًا، فيتعاملون بالقطع حسب الوزن، ويفعلون ذلك غشًّا، كما كانوا يكسرون النقود؛ للتأكد من صحة معدنها، أو لتحويل الدنانير إلى تبر1. وقد نهي في الإسلام عن التلاعب بالعملة، مثل قرضهم أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض؛ لغرض الاستفادة من تلك القراضة، إذ يجمعونها فيسبكونها، فيخرجون بذلك النقد المقروض عن سعره2.
والدرهم إذا عدل المثقال، فهو درهم وافٍ، وهو الذي لا يزيد ولا ينقص بل وَفََّى بزنته3.
وأطلق علماء اللغة على الدرهم لفظة "الوَرِق"، وعلى الموسر المالك للدراهم المورق، وسموا الفضة وَرِقًا4, وقد وردت اللفظة في نصوص المسند، وكأنها نوع من أنواع العملات، أو وزن. فورد "خمسي ورقم"، أي: "خمسين ورق"5، و"عشر ورقم"، أي: "عشر ورقٍ"، فكأن لفظة "ورق" هنا اسم علم لنوع معين من العملة، أو وزن معين وعيار كان معروفًا عندهم. وذهب بعض العلماء إلى أن الورق: الذهب, وهذا التفسير ينطبق مع ما ذهب إليه المستشرقون من أن لفظة "ورق" في المسند، تعني ذهبًا. ولو فسرناها بهذا المعنى أيضا، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون المراد من "ورقم" عملة خاصة ضربت من ذهب, وأرجح أن المراد منها عملة خاصة عرفت بهذه التسمية.
وذكر بعض العلماء أن الورق: المال، ورجل وَرَّاق: كثير المال, والدراهم بعينها والفضة6.
__________
1 "وفي الحديث: نهى عن كسر السكة الجائزة بين المسلمين إلا من بأس، يعني الدنانير والدراهم المضروبة، أي: لا تكسر إلا من أمر يقتضي كسرها، إما لرداءتها أو في صحة نقدها ... وقيل: كانت المعاملة بها في صدر الإسلام عددًا لا وزنًا، وكان بعضهم يقص أطرافها فنهوا عن ذلك"، اللسان "6/ 20"، "بأس".
2 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "166".
3 تاج العروس "10/ 394"، "وفى".
4 تاج العروس "7/ 85 وما بعدها"، المخصص "12/ 24"، "باب بيع الورق بالذهب نسيئة"، عمدة القاري "11/ 296"، اللسان "1/ 374 وما بعدها"، "ورق".
5 Rep. Epigr. 4337
6 الاشتقاق "102".(14/189)
وأطلق أهل الحجاز على الدرهم والدينار لفظة "الناض"، وذلك إذا تحول عينًا بعد أن كان متاعًا. وفي حديث "عمر" كان يأخذ الزكاة من ناض المال، وهو ما كان ذهبًا أو فضةً، عينًا أو ورقًا, وقالوا: إن النض هو الدرهم الصامت1. أما إذا كان الدرهم رديئًا، فيعبرون عنه بلفظة "بهرج" و"قسيّ", فيقولون: درهم بهرج، أي: رديء، وكل مردود عند العرب بهرج ونبهرج. وذكر بعض العلماء أن اللفظة فارسية من "نبهرة"، وأنها بمعنى الباطل والرديء، والدرهم البهرج الذي لا يباع به لرداءته والذي فضته رديئة, وكل رديء من الدراهم وكل مردود عند العرب بهرج2.
وتعرف الدراهم بـ"قطاع" بلغة هذيل3.
ودرهم زائف مغشوش، مردود لغش فيه, يقال: درهم زيف وزائف, وزاف فلان الدراهم: جعلها زيوفًا4, ودراهم فسول: دراهم زائفة، وأفسل عليه دراهمه: إذا زيفها. "ومنه حديث حذيفة أنه اشترى ناقة من رجلين وشرط لهما من النقد رضاهما، فأخرج لهما كيسًا فأفسلا عليه، ثم أخرج كيسًا فأفسلا عليه، أي: أرذلا وزيفا منها. وأصلها من الفسل وهو الرديء الرذل من كل شيء"5. وكان "عبد الله بن مسعود" يكسر الزيوف وهو على بيت المال6.
ويعبر عن الدراهم الموزونة بـ"دراهم مجربة"7؛ لأنها مجربة. وقد ظهر من التجربة أنها صحيحة غير منقوصة.
وقد ورد في الأخبار، أن خمسمائة الدرهم، كانت تعادل في أيام النبي اثنتي عشرة أوقية ونشًّا8, وأن الدرهم سبعة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة
__________
1 تاج العروس "5/ 90"، "نضَّ".
2 تاج العروس "2/ 10 وما بعدها"، "بهرج".
3 تاج العروس "5/ 474"، "قطع".
4 المخصص "12/ 27"، تاج العروس "6/ 133"، "زاف".
5 تاج العروس "8/ 58"، "فسل".
6 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "167".
7 تاج العروس "1/ 181"، "جرب".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 262".(14/190)
مثاقيل1. و"النش" نصف أوقية، وهو عشرون درهمًا؛ لأنهم يسمون الأربعين درهمًا أوقية، ويسمون العشرين نشًّا، ويسمون الخمسة نواة2.
وقد ذكر علماء اللغة نقدًا دعوه "النُّمّي"، وقالوا: إنه الدرهم الذي فيه رصاص أو نحاس، وقال بعض آخر: إنه الفلس من الرصاص بالروميَّة، وكانت بالحيرة على عهد النعمان بن المنذر3. قال النابغة أو أوس بن حجر:
وقارفت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنمي سفسير4
و"الدانق" من الأوزان ومن النقد. وهو "داناق" أيضًا، من أصل فارسي هو "دانك" في الفهلوية، ومن Dang و"دانك" Danak في الفارسية، وهو "دنك" Dank في الآرمية5. وهو يعادل سدس الدينار أو سدس درهم, وكان معروفا عند أهل مكة في الجاهلية6.
أما "الفلس"، فلفظة لاتينية يونانية الأصل، عربت من أصل Follis اللاتيني، ويراد بها نقود مسكوكة من النحاس, وقد استعملها العرب في تعاملهم واحتفظوا بالأصل الأجنبي. وقد كان الفلس في أيام القيصر "أنستاس الأول" "أنسطاسيوس الأول" "491 - 518م" زهاء ثلاثين جرامًا، ووسم بالحرف M, وظهرت بعد ذلك فلوس بأوزان تقل عن هذه. ولما ضرب المسلمون النقد، كانت الفلوس في جملة ما ضرب من نقد7.
__________
1 شرح النووي على صحيح مسلم "4/ 324"، "حاشية على الإصابة".
2 تاج العروس "4/ 356"، "نش".
3 تاج العروس "9/ 85"، "نم"، "ن/ م/ م"، "10/ 378"، "نمى"، اللسان "12/ 593"، "نمم".
4 تاج العروس "3/ 272"، "السفسير"، "9/ 85"، "ن/ م/ م".
5 Ency., I, p. 912
6 اللسان "11/ 394"، "دنق"، القاموس "3/ 232"، تاج العروس "6/ 349"، "دنق".
7 تاج العروس "4/ 210"، "الفلس"، Ency., II, p. 47(14/191)
وذكر بعض أهل الأخبار أن "القيراط" جزء من الدينار أو الدرهم. وقد ذكر "القيراط" في الحديث؛ في حديث رعي الرسول غنم قريش وفي أحاديث أخرى1. وذكر بعض العلماء أن العرب لم تكن تعرف القيراط الذي هو من النقد2. وذكر "ابن الأثير" أن القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشرة، ويظهر أن منهم من كان يستعمله وزنًا، ومنهم من جعله جزءًا من الدنانير والدراهم3.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 127".
2 المصدر نفسه.
3 تاج العروس "5/ 203".(14/192)
الفصل الثاني عشر بعد المئة: الصناعة والمعادن والتعدين
مدخل
...
الفصل الثاني عشر بعد المائة: الصناعة والمعادن والتعدين
الصناعة حرفة الصانع وعمله الصنعة. ورجل صنع: حاذق في الصنعة، وعماد الصانع على يديه، يستعملها في صنع الأشياء، كما يعتمد على ذكائه في تحويل الأشياء إلى أشياء أخرى أهم منها أو أي شيء آخر يريده، أو يطلب منه. وهو بالطبع من أهم العناصر المنتجة اللازمة في الحياة الاقتصادية، فهو محور الإنتاج، وعلى قدر إنتاج أمة يقاس غناها ومقدار تقدمها في الحياة وتكون منزلتها بين الشعوب. فبالصناعة يتم تحويل المواد الخام الفائضة عن الحاجة، إلى مواد أخرى أفيد منها، تستهلك في الأسواق المحلية، أو تُبَاع في الأسواق الخارجية.
والحرفة: الطعمة والصناعة التي يرتزق منها، وهي جهة الكسب. وكل ما اشتغل الإنسان به وضري به، أي أمر كان, فإنه عند العرب يسمى "صنعة" و"حرفة", يقولون: صنعة فلان أن يعمل كذا، وحرفة فلان أن يفعل كذا، يريدون دأبه وديدنه. ذكر أن "علي بن أبي طالب" قال: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا, سقط من عيني"1.
و"المهنة" عند العرب: الحذق بالخدمة والعمل, وامتهنه: استعمله للمهنة
__________
1 تاج العروس "6/ 69"، "حرف".(14/193)
وابتذله، والماهن: العبد والخادم1, والمهنة: العمل، والعامل: هو الذي يقوم بعمل ما، والعَمَلَة: العاملون بأيديهم، وهم الذين يرتزقون بعمل أيديهم, والعمالة: رزق العامل الذي جُعل له على ما قلد من العمل. ومن العملة: العاملون في طين، أو في حفر، أو في بناء, أو غير ذلك, وعامله معاملة: سامه بعمل, والاعتمال الذين يقومون بما تحتاج إليه من عمارة وزراعة وتلقيح وحراسة ونحو ذلك, وما يعطاه العامل من أجر العمل هو "العملة"2.
وأغلب العَمَلة فقراء لا يملكون شيئًا، رزقهم بعملهم، فإذا مرض أحدهم أو أصيب بعاهة انقطع رزقه. ثم إن أجورهم قليلة وأرزاقهم من عملهم شحيحة؛ ولذلك كانت حياتهم ضنكًا, عليهم العمل قدر الإمكان لإعاشة أنفسهم وذويهم، والمشي على أرجلهم بحثًا عن عمل؛ ولهذا فلا عجب إذا ما عرفوا بـ"بني عمل". و"بنو عمل": المشاة على أرجلهم من المسافرين, الذين وصفهم أحد الأعراب, فقال:
يحث بكرًا كلما نص ذمل ... قد احتذى من الدماء وانتعل
ونقب الأشعر منه والأظل ... حتى أتى ظل الأراك فاعتزل
وذكر الله وصلى ونزل ... بمنزل ينزله بنو عمل
لا ضفف يشغله ولا ثقل3
والحرفة، أي: العمل باليد, من الأمور المستهجنة عند الأعراب، وعند أكثر العرب أيضًا، فلا يليق بالعربي الشريف الحر أن يكون صانعًا؛ لأن الصناعة من حرف العبيد والخدم والأعاجم والمستضعفين من الناس. وقد سبق أن تحدثت عن مكانة الصناع في المجتمع، وعن ازدراء الناس لهم، على الرغم من احتياجهم إليهم، وكونهم الطبقة المنتجة المثمرة في المجتمع، وأن أيديهم هي التي تصنع ما يحتاج الإنسان إليه من حاجات، ومدحهم الرجل الصنع اليد بقولهم: "رجل صنع اليدين", أي: حاذق ماهر في الصنعة, مجيد, من قوم صنعي الأيدي،
__________
1 تاج العروس "9/ 354 وما بعدها"، "مهن".
2 تاج العروس "8/ 35"، "عمل".
3 تاج العروس "8/ 35"، "عمل".(14/194)
حتى إنهم كانوا إذا وصفوا إنسانًا بالبلاغة، قالوا: رجل صنع اللسان, ولسان صنع. قال الشاعر حسان بن ثابت:
أَهدى لَهُم مِدحَتي قَلبٌ يُؤازِرُهُ ... فيما أَرَادَ لِسانٌ حائِكٌ صَنَعُ1
ولا تقوم صناعة، إلا في مكان تتوفر فيه إمكانياتها من استقرار وأمن، ومن وجود حاجة إليها، ومن توفر المواد الأولية فيها، والمواد الخام اللازمة لها, ومعنى هذا وجود مكان حضري. أما البداوة، فحاجاتها إلى الإنتاج قليلة؛ لسذاجة الحياة وبساطتها فيها؛ ولهذا تكون الصناعة فيها بسيطة بساطة تتناسب مع بساطة ذلك المجتمع البدوي، ومع درجة بداوته؛ ولهذا تفاوتت مستويات الصناعة البدوية بتفاوت مستوى البداوة، وبتفاوت درجة حاجاتها إلى الأشياء. فالبداوة المنعزلة عن الحضارة، التي قلَّ اتصال أبنائها بالحضر وبالعالم الخارجي، وشحت خيراتها ومواردها الأولية، لا يمكن أن تظهر فيها صناعة متطورة، ولا يعقل نمو عمل مزدهر فيها؛ لانعدام الموارد الطبيعية المغذية للعامل وللسادة أصحاب المال، ولعدم وجود حاجة إليها مع تلك البداوة القانعة بالبساطة في الحياة. ومن هنا نجد أن الصناعة، لم تتطور، إلا في المجتمعات المتطورة التي توفرت فيها إمكانيات التصنيع، وشعرت بضرورة الاستفادة من الثروات الطبيعية المتوفرة لديها بتصنيعها، أي: بتحويلها إلى موارد أخرى يحتاج إليها، وتوفرت فيها الوسائل اللازمة لظهور الصناعة.
والمجتمعات البدوية مهما كانت من البداوة أو البدائية، فإنها لا تخلو من وجود صناعات بها؛ صناعات بدائية، هي من ناتج حاجات ذلك المجتمع، وناتجها يتناسب بالطبع مع حالة تلك البداوة. ولا يصح نفي وجود الصناعة بها.
وقد لعب الرقيق والموالي دورًا كبيرًا في أعمال الحرف والزراعة في جزيرة العرب, إذ استخدموا في التعدين وفي الزرع. وقد ذكر "الهمداني" أنه كان بمعدن "شمام" ألوف من المجوس الذين يعملون المعدن، حتى إنه كان لهم بيتا نار يعبدان في ذلك المكان2, وذكر أنه كان بـ"جهران" قوم من وضيع
__________
1 تاج العروس "5/ 421"، "صنع".
2 الصفة "149".(14/195)
تبع، أي: من الطبقة الوضيعة، وكذلك بـ"قتاب"، حيث نسبوا إلى "تبع" قوله:
فسكنت العراقَ خيار قومي ... وسَكَنت النبيط قرى قتاب1
وكان بمدينة العقيق، وهي معدن، مائتا يهودي2, ولم يذكر "الهمداني" متى كانوا هناك ولا سبب وجودهم بهذا الموضع؛ للاتجار أو للعمل بالمعدن.
وقد نتج من هجرة الأجراء والصناع إلى القرى والمدن اختلاط في السكان، لا يحدث مثله عند أهل الوبر, وهو مما جلب ازدراء الأعراب على الحضر، فكان سكان "ذمار" جمعًا من حمير ومن أنفار من الأبناء, وكان أهل "جهران" من بطون حمير، وقوم من وضيع تبع3. وقد استعمل الهمداني لفظة "أخلاط" للتعبير عن اختلاط سكان موضع ما، ووجود عناصر متباعدة فيه لا ترجع إلى قبيلة واحدة4. واستعمل لفظة "خليط" كذلك5؛ لأن مدن اليمن وقراها كانت خليطًا من بطون ترجع إلى عشائر مختلفة, وهي سمة الحياة الحضرية، حيث يفد الناس إلى مواضع الحضارة من مختلف البطون والعشائر.
وقد استعمل "الهداني" لفظة "لخوم العرب" في معنى بطون العرب، وكذلك لفظة "طخوم" في المعنى ذاته6. وذلك في أثناء حديثه عن المواضع التي اختلط فيها السكان؛ لوجود فرص العمل بها والرزق الوافر الجزيل.
__________
1 الصفة "104".
2 الصفة "153".
3 الصفة "104".
4 الصفة "95"، "وفيهم أخلاط من بني غيلان ... ".
5 الصفة "54".
6 الصفة "165".(14/196)
الإجارة:
والأجر والأجرة يقال فيما كان عن عقد وما يجري مجرى العقد7. والإجارة:
__________
1 المفردات "ص9".(14/196)
ما أعطيت من أجر في عمل1, وهي شرعًا: عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم2, وهي واسعة تشمل نواحي متعددة من فروع الاستئجار.
والأجير: من يشتغل لغيره في مقابل أجر يدفع له, والأجرة: الكراء, وهو ما يعطى الأجير في مقابل العمل3. منهم من يشتغل في الحرف، مثل النجارة والحدادة والبناء وأمثال ذلك، ومنهم من يشتغل في الزراعة، ومنهم من يستأجر لأداء أعمال لأجل، مثل خدمة القوافل، أو حراسة زرع, وما شابه ذلك، فإذا انتهى الأجل انتهى العمل.
وما يدفع إلى الأجير في مقابل عمله، يتوقف على الشروط التي اتفق صاحب الأرض مع الأجير عليها. فقد يكون الأجر نقدًا، ويقال لذلك: "ورقم" "ورق" في لغة المسند, وهو في القليل؛ لقلة النقد آنذاك. وقد يكون حصة، أي: نصيبًا يتفق عليه مع الملاك يؤخذ من الحاصل، وقد يكون مقايضة، بأن يدفع للأجير ما يحتاج إليه في حياته من ملبس, أو غذاء، أو حيوان، وأمثال ذلك، في مقابل جهده وتعبه.
ومن ذلك استئجار الإنسان للقيام بتنفيذ عقد يحدد ويبين ويتفق عليه، كأن يقوم برعي النعم والماشية مقابل مبلغ من مال أو شيء آخر يتفق عليه، كالذي رُوِيَ من أن الرسول رعى غنم قريش على قراريط4, أو استئجار شخص أو أشخاص للعمل في سفينة أو في أرض أو لإرشاد قافلة أو نفر إلى طريق للوصول إلى موضع5, أو استئجار رجل ليعمل عملًا يحدد بأجل، أي بوقت، كأن يحدد بالساعات أو النهار أو الليل كالحراسة, أو أيامًا أو شهورًا أو سنة أو أكثر أو بغير أجل موقوت6, أو استئجار رجل للقيام بعمل محدد معين كالغزو7، أو الحمل، أي أن يحمل حملًا ينقله إلى موضع يعين له, أو ينقله من مكان إلى مكان8.
__________
1 اللسان "4/ 10".
2 إرشاد الساري "4/ 126".
3 تاج العروس "3/ 7"، "أجر".
4 إرشاد الساري "4/ 126 وما بعدها".
5 إرشاد الساري "4/ 127 وما بعدها".
6 إرشاد الساري "4/ 131 وما بعدها".
7 إرشاد الساري "4/ 129 وما بعدها".
8 إرشاد الساري "4/ 135".(14/197)
ومن ذلك استئجار النبي "عبد الله بن أريقط" من "بني الديل"، ثم من "بني عدي" ليكون هاديًا له لطريق يوصله إلى يثرب، فساحل به وبأبي بكر وبعامر بن فهيرة، حتى بلغ يثرب. وكان قد ساحل؛ لأن أهل مكة كانوا يتبعون طريق "بدر" إلى المدينة، فأراد التخلص بذلك من تعقيبهم له1. واستئجار المقاتلين للقتال عنهم, فقد كان أحدهم يعتذر عن المشاركة بنفسه في القتال لوجود أسباب مانعة، فيرسل غيره للقتال عنه، يدفع إليه أجرًا عن ذلك2.
و"الكروة" و"الكراء": أجرة المستأجر, والمكاري: هو الذي يكري دابته لغيره في مقابل "كروة"3, والمكارون: هم الذين يكرون دوابهم، وتدخل الإبل فيها، فقد كان من أصحاب الإبل من يكاري إبله للتجار ولغيرهم, تنقلهم إلى مسافات بعيدة أو قريبة.
ويستخدم الملاكون وسادة الأرض الأجراء -ممن لا أرض لهم, ولا مال لديهم يحصلون به على أرض يستغلونها- في الاشتغال بأرضهم وبمزارعهم لإصلاحها وزرعها وبنائها, ويعرف هؤلاء بـ"ملجا" في بعض نصوص المسند, واللفظة من أصل "لجا" التي هي لجأ في عربيتنا. ويقيم اللاجئ في ملجئه ويتمتع بحماية صاحبه وسيده ما دام فيه، يزرع ويبني لسيده في مقابل هذه الحماية التي يتمتع بها, والحماية التي تحميه من أي ظلم أو اعتداء4.
ويعبر عن الأجراء الذين يستخدمهم الملَّاكون في زراعة الأرض واستغلالها مقابل أجر يدفع لهم بلفظة "أجرم" في المسند5, أي: أجير وأجراء. والأجراء جماعة كبيرة، تنقلت من ملك إلى ملك، ومن خدمة سيد إلى خدمة سيد آخر؛ لتخدم ملاكًا في مقابل أجر يتفق عليه، وعقد يبرم بين المالك والأجير، فإذا انتهى العقد أو العمل، أو رأى المالك انتفاء الحاجة إلى خدمة الأجير، أنهى عمله. وقد كان الأجراء طبقة بائسة لا تملك شيئًا غير عمل يدها؛ ولهذا كانت مضطرة بحكم فقرها هذا إلى التنقل من مكان إلى مكان للحصول على عمل تقتات
__________
1 إرشاد الساري "4/ 128".
2 إرشاد الساري "4/ 130".
3 تاج العروس "10/ 313"، "كرى".
4 Kat. Texte, II, S. 36
5 Jamme, South Arabian Inscriptions, pp. 76, 77(14/198)
منه؛ فكانت من جملة المشكلات الاجتماعية التي تعرضت لها حكومات جزيرة العرب في ذلك العهد.
وجاء في أحد النصوص المعينية: "كل معنم حرم وأجرم"، أي: "كل معين أحرار وأجراء", ويقصد بـ"كل معين" كل شعب معين1؛ فقسم هذا النص شعب معين إلى أحرار، وإلى أجراء, وهم أكثر حرية من "الأدم"، أي: "العبيد" والرقيق؛ لأنهم يشتغلون بأجر وبعقود يتفقون عليها، فإذا انتهى العقد أو حصل خلاف، جاز للأجير الانتقال إلى موضع آخر، أو إلى صاحب محل آخر للعمل لديه، على حين لا يجوز للعبد فعل ذلك؛ لأنه ملك يمين.
ومن أجراء الزراعة أجراء "المحاينة"، يؤدون خدماتهم موسم الحصاد، وينالون أجرهم في مقابل حصاد الحصاد، حسب ما اتفق عليه. فهم يحصدون الزرع وينقلونه مع سنبله إلى موضع تجميعه2, ويكون ذلك في المزارع الكبيرة التي تحتاج إلى أعداد كبيرة من حُصَّاد الزرع.
واليمن، هي في مقدمة أجزاء جزيرة العرب في الصناعة، ولا نكاد نجد في جزيرة العرب مكانًا يسبقها فيها. وهي الأولى في الإنتاج أيضا, وقد عرفت منتجاتها في كل موضع من بلاد العرب. وهي المكان الوحيد فيها، الذي زادت صادراته فيه على وارداته، وكان مستواه المعاشي فيه أعلى من المستوى المعاشي لبقية أجزاء جزيرة العرب, وكان مستهلكًا ومنتجًا، لحاجته إلى الاستهلاك. ثم هو المكان الوحيد، الذي نجد فيه التمايز الطبقي، والعنعنات الطبقية واضحة ظاهرة؛ لتباين الظروف المعاشية التي عاشت فيها طبقات المجتمع؛ فأسياد أغنياء، وطبقات وسط، وطبقات فقيرة معدمة لا تجد رزقها إلا بشق الأنفس.
ولم تبرز صناعة اليمن في نوع واحد أو في صنف معين، بل برزت في كل نوع من أنواعها المعروفة في ذلك العهد، والتي دعت الحاجة إلى ظهورها، والتي وجدت موادها الأولية فيها, مثل صناعة الحديد, واستخراج المعادن وتحويلها إلى مصنوعات، والتجارة, والحياكة، والدباغة، والأصباغ والصموغ، وغير ذلك من صناعات اشتهرت اليمن بها وارتبط اسمها بها.
__________
1 النقش رقم 5، الفقرة 3 من كتاب خربة معين "ص5".
2 تاج العروس "9/ 188"، "حين".(14/199)
و"الذهب" هو "ذهبن" في لغة المسند، أي: "الذهب", ويقال له: التبر أيضًا. وذكر أن "التبر" الذي في المعدن، والذي لم يضرب ولم يصنع1, ومن أسمائه "العسجد". وقيل: العسجد اسم جامع يطلق على الجوهر كله كالدر والياقوت2. وذهب "إبريز" بمعنى خالص, و"العقيان": الذهب الخالص، أو الذهب الذي لا يستذاب من الحجارة، وإنما هو ذهب ينبت نباتًا3. مما يدل على أنهم يقصدون وجود حبيبات منه خالصة في معادنه، يجمعونها, فيحصلون عليه من غير نار ولا إذابة حجر. وكانوا يطحنون أحجار الذهب، ويذرون تراب المعدن؛ لاستخلاص الذهب منه, يقال: "ذريت تراب المعدن: طلبت ذهبه"4. ويقال لتراب الذهب: "السحالة", وهي أيضًا قشر البر والشعير والأرز5.
وكانوا يضعون المعدن في التنور ليميع، ثم يجعلونه في "الكوج"؛ ليتخلص المعدن وينقى من الشوائب6.
وقد ذكر الجغرافيون العرب أسماء مواضع عرفت بوجود خام الذهب بها، مثل موضع "بيشة" أو "بيش"، وقد كان الناس يجمعون التبر منه، ويستخلصون منه الذهب7, و"ضنكان" وكان به معدن غزير من التبر8, والمنطقة التي بين القنفذة ومرسى "حلج"9. وورد أن بـ"بيش" عدة معادن10, وذكر "الهمداني" أن بقرية "بنات حرب" شيئًا من الذهب11, وأن معدن "صعاد"، وهو من ديار "عقيل" هو أغزر معدن في جزيرة العرب، وهو الذي ذكره
__________
1 تاج العروس "1/ 258"، "ذهب".
2 تاج العروس "2/ 422"، "العسجد".
3 تاج العروس "10/ 249"، "عقى".
4 تاج العروس "10/ 136"، "ذرو".
5 تاج العروس "7/ 372"، "سحل".
6 بلاد العرب "380 وما بعدها".
7 البلدان "2/ 333 فما بعدها"، الصفة "127، 153، 257"، المسالك والممالك "188"، فؤاد حمزة، في بلاد عسير "61 فما بعدها"، Moritz, S. 105
8 الصفة "120"، "وضنكان: وهو معدن غزير ولا بأس بتبره".
9 Moritz, S. 110, Glaser, Skizze, S. 29
10 تاج العروس "4/ 285"، "بيش".
11 الصفة "257".(14/200)
الرسول في قوله: "مُطِرَتْ أرضُ عقيل ذهبًا " , مما يدل على أنه كان معدن ذهب1. وقد ذكر بعض العلماء أن العرب تسمي معدن الذهب "خُزَيْبَة"2.
ومن معادن الذهب، معدن "القُفاعة"3، ومعدن "الأحسن"، "الحسن" وهو معدن لبني كلاب، من أول عمل المدينة وأدنى عمل المدينة إلى اليمامة4, ومعدن "المؤخرة"، وهو من مياه "بني الأضبط" من بني كلاب, وهو معدن ذهب وجزع أبيض5، و"ثخب"، وهو جبل بنجد لبني كلاب، عنده معدن ذهب ومعدن جزع6، و"القَشْراء"7، و"خُصْلة"، ومعدن "خصلة" بحذائها، وكان به ذهب8، ومعدن "شيبان"، وبه معادن الذهب والفضة والصفر9، ومعدن "موزر" بضرية من ديار كلاب10، و"ناضحة" بين اليمامة ومكة11, ومعدن "الهردة"12، ومعدن "المخلفة", وهو معدن ذهب جيد بأرض حجور. وقد وصفه الهمداني، وذكر ما كان يستخرج منه من الذهب13, وقد ضبط معدن الهردة بـ"الهروة" في موضع آخر من "تاج العروس"، وقال: إنه عند "الحوأب" وبه معدن ذهب14، ومعدن
__________
1 الصفة "177".
2 كجهينة، تاج العروس "1/ 232"، "خزب".
3 الصفة "67، 73"، العرب، السنة الثانية "الجزء الحادي عشر" "آب 1968"، "ص980 وما بعدها"، "أشكر الدكتور صالح أحمد العلي على تقديمه هذا العدد وأعدادًا أخرى من هذه المجلة إليَّ للاستفادة منها، ولتقديمه كتبًا أخرى لم تكن متيسرة لديَّ"، الصفة "67".
4 بلاد العرب، للحسن بن عبد الله الأصفهاني "ص370، 387" "1968"، "تحقيق حمد الجاسر والدكتور صالح أحمد العلي".
5 بلاد العرب "198"، العرب "آب 1968"، "ص984".
6 بلاد العرب "159، 199"، تاج العروس "1/ 162"، "ثخب"، العرب "984"، "آب 1968".
7 بلاد العرب "199"، العرب "979 وما بعدها"، "آب 1968".
8 بلاد العرب "45".
9 بلاد العرب "398".
10 بلاد العرب "200"، العرب "984 وما بعدها"، "آب 1968".
11 بلاد العرب "166"، العرب "985"، "آب 1968".
12 بلاد العرب "154"، تاج العروس "2/ 546"، "هرد"، العرب "989"، "آب 1968".
13 الصفة "113"، العرب "983"، "آب 1968".
14 تاج العروس "3/ 56", "بقر".(14/201)
"الهجيرة"1, ومعدن "الحراضة"، ويقع بين "ينبع" والمروة معادن للذهب2, ومعدن "الحُفير" بناحية "عماية" وهو معدن ذهب غزير، ومعدن "الحسن"، ومعدن "الثنية", ثنية "حصن بن عصام الباهلي"، ومعدن تياس، ذهب مخف بتياس3, و"العقيق" وهو من معادن الذهب4, وهو مدينة كان فيها مائتا يهودي ونخل كثير وآبار5, ومعدن الضبيب، عن يسار الضبيب6.
ويظهر أن منجم "مهد الذهب"، هو المنجم الذي كان لبني سُليم، فعرف باسمهم وقيل له: "معدن بني سليم" "معدن سُلَيم"، وقد أقطعه الرسول "بلال بن الحارث"7. وقد عثرت شركة التعدين السعودية العربية على أدوات فيها استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل: رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تكون الذهب. وقد عرف معدن "بني سليم" بـ"فران" "قران"، وقد نسب إلى "فران بن بلي" دخلوا في "بني سليم"، ويأخذ عليه طريق الكوفة إلى مكة8.
وتعرف "الفضة"، في نصوص المسند بـ"صرفن" "الصرف", والفضة من المعادن المشهورة المعروفة في اليمن, و"الصريف": الفضة الخالصة9. وقد كانت جزيرة العرب في جملة الأسواق التي موَّنت العبرانيين بهذا المعدن10.
ومن المواضع التي عرفت بالفضة "عوسجة" في بلاد هذيل, فقد كان
__________
1 الصفة "154"، العرب "989"، "آب 1968"، الصفة "154".
2 العرب "990"، "آب 1968".
3 الصفة "152"، البلدان "2/ 277".
4 الصفة "166".
5 الصفة "153"، البلدان "2/ 277".
6 الصفة "153".
7 "بلال بن الحارث بن بجير"، الإصابة "1/ 168 وما بعدها"، "رقم 735"، الصفة "131"، Naval, p. 517
8 بلاد العرب "148، 174، 179، 401، 403"، "وفران بن بلي بن عمران بن الحافي في قضاعة"، تاج العروس "9/ 300"، "فرن".
9 تاج العروس "6/ 163"، "صرف".
10 Hastings, p. 619(14/202)
معدنًا للفضة1, ومعدن "شمام" معدن فضة ومعدن نحاس وصفر، "وكان به ألوف من المجوس الذين يعملون المعدن، وكان به بيتا نار يعبدان2"، ومعدن "شيبان"3، ومعدن "اليحموم".
وقد ذكر "الهمداني" أن بـ"قرية المعدن" معدن فضة، فضة لا نظير لها في الغزر، وبقربه معدن الرضراض4، وهو معدن فضة كذلك، لا نظير له5. وذكر صاحب كتاب بلاد العرب أن "خزبة" معدن من معادن اليمامة، وكانت جبالها إنما هي فضة، ثم مسخت معادنها فصارت شيئًا آخر؛ إذ صيرت إلى "الكوج" التي كانت تخلص فيه، وتخلصت تصدعت كتصدع الزجاج، لا ينتفع بها6.
و"اللجين": الفضة7، و"الوذيلة": القطعة من الفضة، وقيل: السبيكة منها، وقيل: القطعة من الفضة المجلوة، ولعل ذلك هو الذي حمل الطائيين على تسمية المرآة "الوذيلة"؛ لأن المرآة في ذلك الوقت صفيحة من المعدن مجلوة، ينظر فيها8.
وقد كانت السلطات الحاكمة تأخذ "الخمس" من معادن "الفرع"، و"نجران"، و"ذي المروة"، و"وادي القرى"9. مما يدل على أن الناس كانوا يستغلون مناجم هذه الأرضين في الإسلام.
ويظهر أن ما كان يستخرجه أهل الجاهلية من الذهب والفضة من معادنهما لم يكن بمقياس واسع, وبكميات كبيرة تصلح للتصدير إلى الخارج، بدليل أننا لم نعثر على خبر عنه لا في كتابات المسند ولا في روايات أهل الأخبار، ثم إنهم لو كانوا يستخرجون المعدنين المذكورين بكميات وافرة، لاستمروا على الاستخراج ولحسنوا كيفية استخلاص المعدنين المذكورين من معدنهما إلى ظهور الإسلام،
__________
1 تاج العروس "2/ 74"، "عسج"، بلاد العرب "241"، الصفة "147، 149، 153".
2 بلاد العرب "236"، الصفة "149، 154".
3 بلاد العرب "398".
4 الصفة "81".
5 الصفة "202".
6 بلاد العرب "379 وما بعدها".
7 تاج العروس "9/ 330"، "لجن".
8 تاج العروس "8/ 153"، "وذل".
9 البلاذري، فتوح "27".(14/203)
ولأشير إلى ذلك حتمًا في الموارد الإسلامية، ولما سكتت هذه الموارد عن الإشارة إليهما.
وقد استخدم أهل اليمن الرصاص في كثير من الأعمال، منها صبه في أسس الأعمدة, وبين مواضع اتصال الحجارة؛ لترتبط بعضها ببعض, وقد عثر المنقبون على بقايا منه في مواضع متعددة من الأماكن الأثرية باليمن. والرصاص ضربان: أسود وهو الأسرب والأبار، والأبيض وهو القلعي. وقد عرف بالآنك، والأسرب، والأسرف، والصرفان, وشيء مرصص مطلي به, وكانوا يطلون الأواني به، ويشربون بها1. وذكر أن "الآنك" هو الأسرب، وهو الرصاص القلعي، أو أبيضه، أو أسوده، أو خالصه، وذكر أن الآنك بمعنى الخالص، وأنهم كانوا يقولون: هذا رصاص آنك، بمعنى: هذا رصاص خالص2, وقال بعض العلماء: الآنك هو القزدير "القصدير". وورد في الحديث: "من استمع إلى مغنية صبَّ الله الآنك في أذنيه يوم القيامة"3. والأسرب، الآنك، وهو الرصاص، واللفظة من المعربات، عربت من أصل فارسي4. والأسرف، لفظة معربة أيضًا، تعني الآنك، من أصل فارسي، هو "سرب"5, و"الصرفان" هو الرصاص القلعي، وقيل: النحاس6. وأرى أن الرصاص القلعي، هو رصاص استخرج من "القلعة" موضع باليمن، بوادي "ظهر" به معدن حديد، وإليه نسبت السيوف القلعية, زعموا أن "الجن" تغلبت عليه7.
وللحديد معدن في "رُغافة" باليمن على مرحلة من صعدة8. وفي "قساس" -ذكر أنه جبل بديار بني نمير، وقيل: بني أسد- فيه معدن حديد. وذكر أهل الأخبار اسم موضع آخر عُرف بوجود معدن الحديد فيه، قالوا: إنه بأرمينية منه
__________
1 القاموس "2/ 304"، تاج العروس "4/ 397"، "رصَّ".
2 تاج العروس "7/ 104"، "أنك".
3 تاج العروس "7/ 104"، "أنك".
4 تاج العروس "1/ 297"، "سرب".
5 تاج العروس "6/ 138"، "سرف".
6 تاج العروس "6/ 164"، "صرف".
7 تاج العروس "5/ 480"، "قلع".
8 العرب "199 وما بعدها"، "آب 1968".(14/204)
السيوف القساسية1. وذكر "الهمداني" أن باليمن معادن حديد غير معمولة بنقم وغمدان2.
ولعل كثرة الحديد باليمن، واشتهارها به، جعل أهل الأخبار يروون أن أول من عمل السنان من حديد هو "ذو يزن" "ديرون الحميري"3، وإنما كانت أسنة العرب من صياصي البقر4. وقد اشتهرت اليمن بسيوفها، فالسيوف اليمانية هي من السيوف الجيدة التي اكتسبت سمعة طيبة عند الجاهليين.
و"النحاس" الصفر، وقيل: ما سقط من شرار الصفر، أو الحديد إذا طرق5. والصفر: النحاس الجيد، وقيل: هو ضرب من النحاس، وقيل: هو ما صفر منه, والصفر: الذهب أيضا6.
واستعملت لفظة "هاع" بمعنى: سال وذاب, في نصوص المسند. استعملت لمناسبة صب الرصاص الذائب في أساس الأبنية وبين فواصل أحجار الأعمدة؛ لتشدها شدًّا محكمًا.
والكبريت من المعادن الموجودة في اليمن, و"ذَمار" هي مركزه ومنها يجلب إلى سائر أعمال اليمن7. وذكر أنهم كانوا يكبرتون أباعرهم؛ يطلونها بالكبريت مخلوطًا بالدسم والخضخاض، وهو ضرب من النفط أسود رقيق لا خثورة فيه، وليس بالقطران؛ لأنه عصارة شجر أسود خاثر. وكانوا يستحمون في العيون التي يجري منها الماء مشوبًا به، ولها رائحة الكبريت8.
و"الجزع" من الأحجار التي تستعمل في الفصوص التي توضع في الأختام.
__________
1 قال الراجز:
أخضر من معدن ذي قساس ... كأنه في الحير ذي الأضراس
ترمي به في البلد الدهاس
تاج العروس "4/ 217"، "قس"، العرب "992"، "آب 1968".
2 الصفة "202".
3 ثمرات الأوراق "2/ 133"، "حاشية على المستطرف".
4 ثمرات الأوراق "2/ 133"، العقد الفريد "3/ 370"، اللسان "2/ 452"، الروض الأنف "1/ 9"، تاج العروس "2/ 145".
5 تاج العروس "4/ 254"، "نحس".
6 تاج العروس "3/ 337"، "صفر".
7 ابن المجاور "2/ 190 وما بعدها".
8 تاج العروس "1/ 575"، "كبرت".(14/205)
وقد تحفر عليها كتابة أو صور1. وقد عثر على فصوص من هذا النوع في مواضع عديدة من الآثار, في اليمن وفي العربية الجنوبية والغربية وفلسطين. وذكر علماء اللغة أن الجزع: الخرز اليماني الصيني، وزاد بعضهم: الصيني، فيه سواد وبياض, تشبه به الأعين. قيل: إنه سمي جزعًا؛ لأنه مجزع، أي: مقطع بألوان مختلفة, وقد أشير إليه في شعر امرئ القيس2. ومن الجزع: الجزع السماوي، وهو العشاري من وادي عشار3.
وقد اشتهرت "ظفار" بالجزع, فقيل: "جزع ظفار"4. قيل: إنه من "ظفار الحقل"، قرب صنعاء على مرحلتين منها، وقيل: إنه منسوب إلى "ظفار أسد" مدينة باليمن5, وكان لعائشة عقد من جزع ظفار6. واستخرج أيضا من جبل شبام7, ومن معادنه معدن ضهر، ومعدن سعوان، ومعدن عذيقة، مخلاف خولان8. ومن الجزع الموشى والمُسيّر، وهو في مواضع من اليمن، منها النقمى9.
وعرفت اليمن بالعقيق، تتخذ منه الفصوص, يؤتى به من اليمن من معدن له على مرحلة من "صنعاء" يقال له: "مقرأ "مقرى", وهو أجود من عقيق غيرها10. ويوجد عقيق آخر يستورد من الشحر, وقد تختم
__________
1 الإشارة إلى محاسن التجارة "ص18".
2
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقال أيضًا:
فأدبرن كالجزع المفصل بينه ... بجيد معم في العشير مخول
القاموس "3/ 12"، "جزع"، تاج العروس "5/ 300"، "جزع"، ابن المجاور "2/ 184".
3 الإكليل "8/ 30"، العرب "998"، "آب 1968".
4 قال المرقش الأكبر:
تحلين ياقوتًا وشذرًا وصنعة ... وجزعًا ظفاريًّا ودارًا توائما
تاج العروس "5/ 300"، "جزع".
5 تاج العروس "3/ 370"، "ظفر".
6 تاج العروس "5/ 300"، "جزع".
7 ابن المجاور "2/ 184".
8 الإكليل "8/ 30"، العرب "997 وما بعدها"، "آب 1968".
9 الصفة "202".
10 تاج العروس "1/ 103"، "قرأ".(14/206)
به1, وذكر أنه يستخرج من جبل شبام2, ومن "الهام"، ومن "ألهان"، ومن "شهارة"، ومن قساس3. وذكر "الهمداني" أن العقيق الأحمر، والعقيق الأصفر العتيقين من ألهان4.
وقد عرف معدن "بقران" بالأحجار التي تستخرج منها الفصوص البقرانية, وهو في مخلاف بني نجيد من اليمن5. وذكر "الهمداني" أن "البقران" ألوان، ويبلغ المثلث بها مالًا، إذ يشترى بأسعار عالية، وهو أن يكون وجهه أحمر، فوق عرق أبيض، فوق عرق أسود. ويوجد البقران بجبل أنس، وهو ينسب إلى أنس بن ألهان بن مالك6.
ومن الأحجار الأخرى: الفصوص السعوانية من سعوان، وادٍ إلى جنب صنعاء، وهو فص أسود فيه عرق أبيض، ومعدنه بشُهارة، وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم، وظليمة والجمش من شرف همدان. والعشاري، وهو الحجر السماوي7.
ومن الفصوص الثمينة: "الدهنج" كالزمرد، حصى أخضر تتخذ منه الفصوص، وأجوده: "العدسي"8. ومن معادنه حرة بني سليم9، وحرة النار10.
ومن الجواهر الأخرى: "الزمرد"11, والزبرجد12، و"الشذر": قطع من الذهب تلقط من معدنه بلا إذابة الحجارة، ومما يصاغ من الذهب فرائد يفصل بها اللؤلؤ والجوهر، وقيل: خرز يفصل بها، أو اللؤلؤ الصغار13.
و"الجسمت" معدن يستخرج من "الصفراء"، على ثلاثة أيام من المدينة،
__________
1 تاج العروس "7/ 15"، "عقَّ".
2 ابن المجاور "2/ 184".
3 العرب "998"، "آب 1968".
4 الصفة "202".
5 تاج العروس "3/ 56"، "بقر".
6 الصفة "202".
7 الصفة "202".
8 تاج العروس "2/ 46"، "دهنج".
9 العرب "995"، "آب 1968".
10 العرب "995"، "آب 1968"، تاج العروس "3/ 135", "حرر".
11 تاج العروس "2/ 364"، العرب "996"، "آب 1968".
12 تاج العروس "2/ 363"، "الزبرجد".
13 تاج العروس "3/ 294"، "شذر".(14/207)
وهو في جملة ما يقال له: "القوارير"1. والبلور، ويستخرج من البراري من بين الحصى، ومن "ضهر"، و"سعوان"، ومن "عذيقة" مخلاف خولان، ومن وادي عشار، ومن ألهان، وشهارة2.
و"الدرة": اللؤلؤة العظيمة، وما أعظم من اللؤلؤ3, ويستخرج اللؤلؤ من الخليج، وقد اشتهرت البحرين به منذ أيام ما قبل الإسلام. وأما "الياقوت"، فأجوده الأحمر الرماني، وقد استورد من سرنديب "سيلان"4.
والزاج، مشهور في اليمن، ويقال له: الشب اليماني، وهو من الأدوية5. و"الشب": حجارة يتخذ منها الزاج وما أشبهه، وأجوده ما جلب من اليمن، وهو شب أبيض له بصيص شديد، وقد استعمل في دباغة الجلود, وقد أشير إليه في الحديث. وذكر بعض العلماء أن الزاج كثير الأصناف، وهو غير الشب، وينبعثان من معدن واحد، والشب من المعادن الأربعة التي لم تكمل صورتها، وهي: الزاج والملح والنوشاذر والشب, والشب يشبه الزاج وفيه بعض حموضة، وأما الزاج فحموضته أكثر، والشب أنواع6. وقد ذكروا أنه ماء يقطر، فيجمد قبل أن يصل إلى الأرض، فيصير هذا الشب اليماني. ومن معدنه "إسبيل"، جبل من ديار عنس من مذحج، بقربه مقطر الشب7، ومعدن الأشعر. ويظهر من أقوال أهل الأخبار أنهم كانوا يستخرجونه من "غرض" الجبال، وهي شقوق تكون في الجبل، يحفرون بها، ويستخرجون منها الشب8.
ويطلق العرب على الموضع الذي يستخرجون المعدن منه "المعدن". وقد عرفوا "المعدِن"9 بأنه منبت الجواهر من ذهب ونحوه، ومكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه، نحو معدن الذهب والفضة والأشياء. ومنه حديث بلال بن الحارث
__________
1 تاج العروس "3/ 491"، "قرر"، العرب "996"، "آب 1968".
2 الإكليل "8/ 30"، العرب "997"، "آب 1968"، الصفة "202".
3 تاج العروس "3/ 204"، "در".
4 تاج العروس "1/ 598"، "ياقوت".
5 تاج العروس "2/ 55"، "زوج".
6 تاج العروس "1/ 308"، "شبب".
7 العرب "993"، "آب 1968".
8 العرب "994"، "آب "1968".
9 كمجلس.(14/208)
أن الرسول أقطعه معادن القبيلة جلسيها وغوريها, وهي المواضع التي تستخرج منها جواهر الأرض1. وهي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: ناحية من نواحي الفرع، بين نخلة والمدينة2. ومن المعادن: معدن الغاف3، ومعدن النقرة، منزل لحاج العراق بين إضاخ وماوان، وبها سوق, وبها بركة وثلاثة آبار وآبار صغار للأعراب تنزح عند كثرة الناس، وعندها تفترق الطريق؛ فمن أراد مكة نزل المغيثة، ومن أراد المدينة أخذ نحو العسيلة فنزلها4. و"العصيان" من معادن بلاد العرب5.
ومن المعادن التي لم يخصص أهل الأخبار نوع معدنها: معدن "البئر"6، ومعدن النميرة7 "التميرة"، ومعدن "حليت"8، ومعدن "الخربة"9، ومعدن "خزبة"10، ومعدن "خصلة"11، ومعدن "الشبيكة"12, ومعدن "الشجرتين"13، ومعدن "عراقيب"14، ومعدن "ذي العوسج"15، ومعدن "العيصان"16 لبني نمير، ومعدن "عيهم"17، ومعدن "قساس"، وقد كشف فيه حديثًا معدن الحديد18، ومعدن "الكوكبة"، ويظهر أنه كان
__________
1 تاج العروس "9/ 275"، "عدن".
2 تاج العروس "8/ 73"، "قبل".
3 تاج العروس "6/ 214"، "غيف".
4 تاج العروس "3/ 582"، "نقر".
5 تاج العروس "4/ 411"، "العيص".
6 بلاد العرب "74".
7 بلاد العرب "382"، العرب "988"، "آب 1968".
8 بلاد العرب "107".
9 بلاد العرب "379".
10 بلاد العرب "379، 382".
11 بلاد العرب "38، 45".
12 بلاد العرب "241".
13 بلاد العرب "96".
14 بلاد العرب "107".
15 بلاد العرب "210".
16 بلاد العرب "370، 382"، البلدان "3/ 753".
17 بلاد العرب "183".
18 بلاد العرب "236".(14/209)
من معادن الفضة1، ومعدن المزبدة2، ومعدن "النقيب"3، ومعدن "منضح"، وهو اسم معدن جاهلي بالحجاز عند جوبة ماء عظيمة يجتمع فيها الماء4، ومعدن اللقط5، ومعدن "ماوان"، وهو معدن مشهور6، ومعدن "النصب" من معادن القبلية7، ومعدن "النقرة"8, وبـ"بيش", وهو مخلاف من مخاليف مكة, عدة معادن9, ومعدن شمام، و"بحران"، وهو بناحية الفرع من الحجاز, به معدن للحجاج بن علاط البهري، له ذكر في سرية "عبد الله بن جحش"10، و"حوراء" بناحية المدينة وبها معدن البرام11, ومعدن "فران"، وينسب إلى "فران بن بليّ بن عمرو"12, ومعدن "المحجة" بين العمق وبين أفيعة13, ومعدن هبود لبني نمير14.
والملح من المواد التي تاجر بها الجاهليون, وتوجد معادنه في مواضع متعددة من جزيرة العرب. وقد كان بعضهم يستحضره من المياه المالحة، ومنهم من كان يستخرجه من مناجم تُحفَر، فيستخرج منها. وقد ذكر "الهمداني" أسماء مواضع وجدت فيها معادن الملح15, وقد أشير في "المسند" إلى الملح وإلى الاتجار به، وإلى وجود كيَّالين كانوا يكيلونه ويرسلونه إلى الأسواق لبيعه فيها.
ومن أشهر مواضع الملح في اليمن: جبل الملح في بلاد مأرب، وهو ملح صافٍ كالبلور، وكان النبي قد أقطعه "الأبيض بن جمال"16.
__________
1 بلاد العرب "382 وما بعدها".
2 بلاد العرب "394".
3 بلاد العرب "181".
4 تاج العروس "2/ 240"، "نضح"، العرب "984"، "آب 1968".
5 العرب "981"، "آب "1968".
6 العرب "982"، "آب 1968".
7 العرب "985"، "آب 1968".
8 ابن خرداذبة "127، 128، 131، 137"، تاج العروس "3/ 582"، "نقر"، العرب "987 وما بعدها"، "آب 1968"، الصفة "184 وما بعدها".
9 تاج العروس "4/ 285"، "بيش".
10 تاج العروس "3/ 31"، "بحر".
11 تاج العروس "5/ 229"، "نبط".
12 الصفة "170".
13 الصفة "154".
14 بلاد العرب "382".
15 الصفة "155".
16 الصفة "201".(14/210)
وقد استغل التجار "مكر" في العربية الجنوبية تجارة الملح، فأخذوا يستغلون مناجمه، ويحملونه منها قوافل إلى الأسواق. ونظرًا إلى سعة هذه التجارة وإلى كثرة الملح المستخرج، ظهرت جماعة عرفت بـ"زلا" "سلا" في لغة المسند، تخصصت بكيل الملح وتعبئته في الجوالق؛ لإرساله إلى الأسواق1.
__________
1 Glaser 1571, Arabien, S. 124(14/211)
الأحجار:
واستُفِيدَ من الأحجار في البناء، ولا سيما في العربية الجنوبية، إذ كان الحجر مادة البناء عندهم. ويقطع من المقالع قطعًا بعضها ضخمة استخدمت في بناء الأبنية المهمة مثل: قصور الملوك والمعابد والسدود وبيوت السادات.
ولتثبيت الأحجار ولصقها بعضها فوق بعض، استخدم "الجص"، ويقال له: "القص" بلغة أهل الحجاز, واللفظة معربة على ما يذكره علماء اللغة1. و"النورة" حجر يحرق ويستخدم في البناء، و"البورق"، وهو حجر يحرق أيضا، ويستعمل لتبييض الجدران، ومواد أخرى تشبه "السمنت" في قوتها وفي صلابتها وفي تثبيت الأحجار بعضها فوق بعض.
ويقال لبعض أنواع الأحجار "المُسنى"، وتعمل منها نصب السكاكين2. و"الشزب"، حجر يعمل منه ألواح وصفائح وقوائم سيوف ونصب سكاكين ومداهن وقحفة3, و"الهيصمي" وهو حجر يشاكل الرخام، إلا أنه أشد بياضًا يخرط منه كثير من الآنية4.
وقد نحت النحاتون من بعض الحجارة قدورًا للطبخ، عرفت عندهم بـ"البُرمة". وقيل: البرمة: قدر نحت من حجارة أو عمل من حديد أو نحاس, و"المبرم": صانعها أو من يقتلع حجارتها من الجبال فيسويها وينحتها, وقيل للمعدن الذي تقتلع منه هذه الحجارة: "معدن البرم" و"معدن البرام"5. ومن هذه المعادن
__________
1 تاج العروس "4/ 377"، "جص".
2 الصفة "202".
3 الصفة "203".
4 الصفة "202".
5 تاج العروس "8/ 198"، "برم"، الصفة "121".(14/211)
"قدقد"، جبل به معدن البرام1.
وكانوا يحفرون المعادن ويدخلون المنجم لاستخراج المعدن منه, وقد ينهار المعدن على حافره فيقتله. وإلى ذلك أشير في الحديث: "المعدن جبار, والبئر جبار, والعجماء جبار"؛ ومعناه: أن تنفلت البهيمة العجماء فتصيب في انفلاتها إنسانًا أو شيئًا، فجرحها هدر، وكذلك البئر العادية يسقط فيها إنسان فيهلك، فدمه هدر, والمعدن إذا انهار على حافره فقتله, فدمه هدر, ومعناه: إذا انهار على من يعمل فيه فهلك، لم يؤخذ به مستأجره2.
__________
1 تاج العروس "2/ 461"، "قد".
2 تاج العروس "3/ 85"، "جبر".(14/212)
النسيج والحياكة:
وقد اشتهرت اليمن عند ظهور الإسلام بالنسيج والحياكة, وهي قد أصدرت أنواعًا عديدة من الأقمشة والثياب إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب اكتسبت شهرة بعيدة في كل مكان؛ لجودة صنعها ونفاسة مادتها. ومن ثياب أهل اليمن الناعمة الثياب التي تعرف باسم "الخال"، وهو ثوب ناعم وضرب من البرود، وقيل: برد أرضه حمراء فيها خطوط سود1. و"الوصائل"، وهي ثياب يمانية حمر أو ثياب حمر مخططة، أو برود حمر فيها خطوط خضر2. والعصب، وهي ضرب من البرود وضرب من الثياب، يعصب غزلها، أي: يدرج ثم يحاك، وليس من برود الرقم, وقيل: العصب: برود يمانية يعصب غزلها، أي: يجمع ويشدّ ثم يصبغ وينسج, فيأتي موشى لبقاء ما عصب فيه أبيض، لم يأخذه صبغ, وقيل: برود مخططة. وورد أن "عمر بن الخطاب" أراد أن ينهى عن عصب اليمن, وقال: نبئت أنه يصبغ بالبول، ثم قال: نهينا عن التعمق. ويدل هذا الخبر, إن صح، على أن البرود العصب هي البرود المشدودة المصبوغة بالعصب، ولا ينبت العصب والورس إلا في اليمن. وهو يدل أيضا, على أن العصب
__________
1 قال الشماخ:
وبردان من خال وتسعون درهمًا ... على ذاك مقروظ من الجلد ماعز
تاج العروس "7/ 311"، "خول" "7/ 313"، "خيل".
2 تاج العروس "8/ 156"، "وصل".(14/212)
صبغة تستخرج من نبات العصب، تصبغ بها البرود ونحوها من الأشياء1.
والممرجل "الممرحل": ثياب من الوشي فيها صور المراجل2, ويظهر أنها المراجل، جمع "المرجل", والمرجل "المرحل" برد يماني. ومن أمثالهم: حديثًا كان بردك مرجليًّا، أي: إنما كسيت المراجل حديثًا، وكنت تلبس العباء. ويظهر أنها كانت موشاة وكانت من ألبسة المترفين، ففي الحديث: "حتى يبني الناس بيوتًا يوشونها وشي المراحل"، يعني تلك الثياب، ويقال لها أيضا: المراجل بالجيم3. وذكر أن "المرحل"، برد فيه تصاوير رحل وما ضاهاه3.
وقد صورت بعض ثياب أهل الجاهلية ونمقت، ومنها ثياب صلبت، أي: نقشت بالصلبان. وقد نهى الرسول عن لبس هذه الثياب، وذكر أنه نهى عن الصلاة بالثوب المصلب4.
والمقطعات من الثياب كل ما يفصل ويخاط من قمص وجباب وسراويلات وغيرها، وما لا يقطع منها كالأردية والأزر والمطارف والرياط التي لم تقطع وإنما يتعطف بها مرة ويتلفع بها أخرى. وقيل: القصار من الثياب، وبرود عليها وشي5.
والحبرة، وهي ضرب من ضروب البرود كذلك، وهي البرود الموشاة المخططة, وقيل: ضرب من برود اليمن منمر. وذكر أن الحبير الثوب الجديد الناعم, وفي حديث أبي ذر: الحمد لله الذي أطعمنا الخمير وألبسنا الحبير6. وفيه دلالة على أن "الحبير" من ألبسة المتمكنين، وليس في وسع الفقراء اقتناؤها.
والمعاجر، من ضروب الثياب المصنوعة في اليمن, والمعجر ثوب تعجر به المرأة، أصغر من الرداء وأكبر من المقنعة, وقيل: ثوب يمني يلتحف به ويرتدي7. و"السيراء"، وهي ثياب مخططة، ونوع من البرود، فيه خطوط صفر،
__________
1 تاج العروس "1/ 382 وما بعدها"، "عصب".
2 تاج العروس "7/ 339"، "رجل"، القاموس "3/ 382".
3 قال امرؤ القيس:
فقمت بها أمشي تجر وراءنا ... على أثرنا أذيال مرط مرحل
يروى بالحاء والجيم، أي: معلم. تاج العروس "7/ 347"، "رحل".
4 تاج العروس "1/ 337"، "صلب".
5 تاج العروس "5/ 475"، "قطع".
6 تاج العروس "3/ 118"، "حبر".
7 تاج العروس "3/ 383"، "عجر".(14/213)
أو يخالطه الحرير والذهب الخالص، وقيل: ثوب مسير فيه خطوط تعمل من القز كالسيور، أو خطوط من الذهب, وهي من حلل الأغنياء والكبراء. روي أن "أكيدر" أهدى إلى الرسول حلة سيراء، وفي حديث عمر: رأى حلة سيراء تباع1.
والثياب السحولية: أثواب كرسف من ثياب "سحول" موضع اليمن تنسج به الثياب السحولية، وتحمل منه إلى سائر الأنحاء, وهي ثياب قطن بيض. قال طرفة:
وبالسفح آيات كأن رسومها ... يمان وشته ربذة وسحول2
وذكر أن السحل ثوب أبيض رقيق من القطن، أو من الكرسف من ثياب اليمن. والسحيل: الخيط غير مفتول، والغزل الذي لم يبرم، فأما الثوب، فإنه لا يسمى سحيلًا ولكن يقال له: السحل، وقيل: السحيل: الخيط غير مفتول، ومن الثياب ما كان غزله طاقًا واحدًا, والمبرم المفتول الغزل طاقين. و"المتأم" ما كان سداه ولحمته طاقين ليس بمبرم ولا مسحل, والسحل والسحيل: الحبل الذي على قوة واحدة، والمبرم: الذي على طاقين. وذكر أن السحيل من الحبل الذي يفتل فتلًا واحدًا كما يفتل الخياط سلكه، والمبرم أن يجمع بين نسيجتين فيفتلا حبلًا واحدًا3. ولما توفي الرسول، كفن في ثلاثة أثواب سحولية، ويروى في ثوبين سحوليين4.
وقد اشتهرت عدن بصنع البرود كذلك, ورد في الحديث أن الرسول كان قد استعمل هذه البرود5, وقد عرفت بـ"العدني" وبـ"العدنيات". وهي ثياب كريمة نسبت إلى عدن، واشتهرت برياطها، فقيل: "رياط عدنيات"6.
__________
1 تاج العروس "3/ 287"، "سير".
2 تاج العروس "7/ 372"، "سحل".
3 تاج العروس "7/ 371"، "سحل".
4 جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى لابن حزم، تحقيق الدكتور إحسان عباس والدكتور ناصر الدين الأسد، "ص6"، "دار المعارف" بمصر، تاج العروس "7/ 372"، "سحل".
5 مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "10/ 38 وما بعدها".
6 تاج العروس "9/ 276"، "عدن".(14/214)
وقد اشتهرت قطر بنوع من الثياب يقال لها: الثياب القطرية، كما اشتهرت بنوع من النجائب, هي "النجائب القطريات"1, وذكر أنها برود من غليظ القطن، أو هي برود خمر لها أعلام فيها بعض الخشونة. وجاء في الحديث أن الرسول توشَّح بثوب قطري2.
واشتهرت "هجر" بثيابها كذلك، واعتبرت من الملابس الفاخرة التي تستحق الإهداء. ولما أرسل الرسول "سليط بن عمرو العامري" إلى "هوذة بن علي الحنفي"، أجاز هوذة "سليطًا" بجائزة, وكساه أثوابًا من نسج هجر3.
وقد اشتهرت برود وثياب اليمن بجودة النسج وبحسن الصنعة والدقة, كما امتازت بألوانها وبوشيها، والوشي: النمنمة والنقش4. ومنها المرحل، وهو برد فيه تصاوير رحل، والمرط المرحلة، ومنه الحديث: "كان يصلي وعليه من هذه المرحلات"، يعني: المرط المرحلة5.
ومن برود اليمن المعروفة "الخمس"، ويقال لها أيضًا: الخميس. ذكر أنه إنما قيل للثوب خميس؛ لأن أول من عمله ملك باليمن يقال له الخمْس، أمر بعمل هذه الثياب فنسبت إليه6. و"الفوف" من برود اليمن، وهي ثياب رقاق موشاة7.
ولأهل المعافر ثياب جيدة، وهم يستعملون "السكينية" في رءوسهم، وهم من حمير، وملوكهم "آل الكرندي"8.
واشتهرت "صحار"، قصبة عمان مما يلي الجبل، بثياب عرفت بها، فقيل لها: "ثوب صحاري"، وثياب صحارية. وفي الحديث: "أن رسول الله كفن في ثوبين صحاريين"9.
وقد اشتهرت "الحيرة" بنوع من الأنماط، تزين به الرحال، حتى عرف
__________
1 القاموس "2/ 119".
2 تاج العروس "3/ 500"، "قطر".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 262".
4 تاج العروس "10/ 391"، "وشى".
5 تاج العروس "7/ 341"، "رحل".
6 تاج العروس "4/ 140"، "خمس".
7 تاج العروس "6/ 215"، "فوق".
8 الصفة "99".
9 تاج العروس "3/ 327"، "صحر".(14/215)
بها، فقيل: "الحاري"1. والنمط: ظهارة فراش ما، أو ضرب من البسط، أو ثوب صوف يطرح على الهودج، له خمل رقيق. وقيل: ضرب من الثياب المصبغة، ولا تكاد العرب تقول: نمط، إلا لما كان ذا لون من حمرة أو خضرة أو صفرة، فأما البياض فلا يقال: أنماط2.
وقد اشتهرت صناعة البسط في جزيرة العرب, وهناك أنواع عديدة منها تنسب إلى مواضع متعددة. وهي تصنع من الأصواف ومن شعر المعز, ويشتغل بنسجها النساء والرجال, وقد اشتهر بعضها باسم "العبقري" و"العباقري", وفي الحديث: "أنه كان يسجد على عبقري"، وهي هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش. وذكر بعض العلماء أن "عبقرة" موضع باليمن أو بالجزيرة يوشى فيه الثياب والبسط، ثيابه في غاية الحسن والجودة، فصارت مثلًا لكل منسوب إلى شيء رفيع3.
وقد اشتهرت اليمن بكثرة المشتغلين من أهلها بالحياكة، وعرفت بها بقية العربية الجنوبية. وقد قيل في انتقاص أهل اليمن وفي النيل منهم؛ أنهم بين حائك برد وسائس قرد, ونسوة حوائك، يشتغلن بالحياكة. ورد في شعر ذي الرمة قوله يصف محلة:
كأن عليها سحق لفق تأنقت ... بها حضرميات الأكف الحوائك4
وأشير إلى الحياكة في نصوص المسند، إذ كانت صناعة النسيج من أهم الصناعات في اليمن, وقد عرف "الحائك" عندهم بـ"أنم"5. وكان أهل مكة يقصدون اليمن، فيشترون منها الألبسة اللطيفة الجيدة ويحملونها إلى الأسواق لبيعها، ومنها أسواق بلاد الشام.
وقد نشأت من الألياف والخوص وعيدان بعض الأشجار صناعة، فاستفيد من خوص الدوم في صنع أحفاش النساء، والدوم شجر المقل، واحدته دومة6.
__________
1 تاج العروس "3/ 166"، "حار".
2 تاج العروس "5/ 234"، "نمط".
3 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر".
4 تاج العروس "7/ 124"، "حاك".
5 Glaser 1000 A, Arabien, S. 24
6 تاج العروس "8/ 297"، "دوم".(14/216)
واستفيد من لحاء الخزم في صنع الحبال، ويقال لصانعها: "الخزام"1، وسفّ الخوص على هيئة سفرة، ويقال لذلك: السمهة2. وصنعت الحصر من بردى وأسل ومن الخوص3, وقيل للحصير المنسوج من سقف النخل: "الفحل", وأما الحصير المنسوج من الدوم، فيقال له: "الطليل"4. والبارية: الحصير, قال بعضهم: الحصير المنسوج من القصب5.
وتاجر أهل اليمن بـ"الخضاب"، ويكون ذلك بالحناء، وإذا كان بغير الحناء قيل: صبغ شعره. وذكر أهل الأخبار أن "عبد المطلب" أول من خضب بالسواد من العرب، وكل ما غير لونه فهو مخضوب6. وكانوا يخضبون به الأطراف كذلك7, واختضبوا بـ"الوسمة" كذلك8, وكانوا إذا أرادوا الحصول على لون أسود قاتم، ليبدو الشعر به أسود، خلطوا الحناء بالوسمة. والحناء ورق نبات، وكذلك الوسمة، يدقان حتى يصيرا كالطحين الناعم جدًّا، أو يطحنان, ثم يعجن الطحين بالماء فيخضب به. ويخلطون بالحناء دقيق ورق البشام فيسود الشعر9.
__________
1 المخصص "11/ 136 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 274"، "خزم".
2 تاج العروس "9/ 392"، "سهم".
3 تاج العروس "3/ 143".
4 تاج العروس "7/ 420".
5 تاج العروس "3/ 60 وما بعدها".
6 تاج العروس "1/ 236"، "خضب".
7 تاج العروس "1/ 236"، "خضب".
8 تاج العروس "9/ 94"، "وسم".
9 تاج العروس "8/ 203"، "بشم".(14/217)
الفصل الثالث عشر بعد المئة: حاصلات طبيعية
الصبغ
...
الفصل الثالث عشر بعد المائة: حاصلات طبيعية
الصبغ:
والصبغ ما يُلوَّن به, وقد استخرج أهل الجاهلية الأصباغ من بعض النبات؛ لاستعمالها في الصناعة أو في البناء وفي صبغ الأنسجة. واشتهرت مواضع من جزيرة العرب بحذقها في الصباغة، وبإتقانها استخراج الصبغ من النبات وبعض المعادن. وقد كانت سلعة مطلوبة رائجة؛ لأنها جيدة ثابتة لا تتغير بسرعة.
وقد عصفر الجاهليون ثيابهم بالعصفر. وهو نبات ينبت بأرض العرب، سلافته الجريال، صبغ أحمر1, وبزره "القرطم"، الذي يصبغ به منه2, وصبغوا بـ"الفرصاد", وهو صبغ أحمر, وبـ"الفوّة"، عروق يصبغ بها. وقيل: هي عروق حمر دقاق لها نبت يسمو في رأسه حب أحمر شديد الحمرة كثير الماء يكتب بمائه وينقش. قال الأسود بن يعفر:
جرت بها الريح أذيالًا مظاهرة ... كما تجرّ ثياب الفوة العرس
واستعملت "الفوة" دواءً لمعالجة الجلد4.
__________
1 تاج العروس "7/ 255"، "جرل".
2 تاج العروس "3/ 408"، "عصفر".
3 تاج العروس "2/ 451"، "الفرصد".
4 تاج العروس "10/ 285"، "الفوة".(14/218)
و"الإحريض": العصفر، يقال: حرض ثوبه: إذا صبغه بالإحريض1.
و"النكع": اللون الأحمر، وزهرة حمراء يصبغ بها, و"النكعة": ثمر النقاوى، وهو نبت أحمر، ومنه الحديث: "كانت عيناه أشد حمرةً من النكعة", وهي صمغة القتاد "القناد"2. و"الصِّرف": صبغ أحمر تصبغ به شرك النعال3, و"الك": نبات يصبغ به، وهو صبغ أحمر يصبغ به جلود البقر والمعز وغيرها، و"اللكاء": الجلود المصبوغة بالك4.
وأكثر أصباغهم هي أصباغ أخذت من النبات, وهو شيء طبيعي لسهولة استحصال الأصباغ من النبات، ولتوفره لديهم في الحضر وفي البر. أما الأصباغ المستخرجة من المعادن، فهي أقل بكثير من الأصباغ المستخرجة من النبات؛ لما يحتاج استخراج الأصباغ منها إلى مهارة وحذق وتقدم في الصناعة والعلم.
__________
1 تاج العروس "5/ 19"، "حرض".
2 تاج العروس "5/ 531"، "نكع".
3 تاج العروس "6/ 164"، "صرف".
4 تاج العروس "7/ 174"، "لك".(14/219)
العصير:
والعصير: هو ما يحلب من الشيء إذا عصرته، وهو العصارة. ويعصر كل ما له دهن أو شراب أو عسل، وأمثاله, و"المعصرة" موضع العصر، والمعصر: ما يعصر فيه العنب، والمعصار: الذي يجعل فيه الشيء فيعصر حتى يتحلب ماؤه. والعواصر: ثلاثة أحجار يعصر بها العنب، يجعلون بعضها فوق بعض1.
وتعصر الأشياء للشرب كالخمور والأشربة، أو للتداوي؛ لاستعمال العصير دواء يتداوى به، أو لاستخراج الدهن من المعصور. وقد استعمل المزارعون المعاصر لعصر الأعناب أو لاستخراج الزيوت من البذور, وتسمى "المعصرة" "موهت" في المسند، من أصل "وهت"2. ومن معاني هذه اللفظة الضغط وشدة الدوس، وهي تستعمل في الحقول كما تستعمل في البيوت وفي محلات الاتجار بالزيوت.
__________
1 تاج العروس "3/ 405"، "عصر".
2 REP. EPIGR. 2876, V. p. 209(14/219)
و"القطران": عصارة الأبهل والأرز، وهو ثمر الصنوبر. يطبخ فيتحلب منه، ثم يهنأ به الإبل1. ويتخذ القطران من الإثرار، وهو شجر يقتدح سريعًا إذا كان يابسًا2, كما يتخذ من العرعر3.
والزفت، كالقير، وقيل: هو القار، والزفت: المطلى به، وهو غير القير الذي يقير به السفن، إنما هو شيء أسود أيضا يمتن به الزقاق الحمر, وقد نهي في الحديث عن المزيت والمقير. والزفت أيضا دواء, وهو شيء يخرج من الأرض يقع في الأدوية4. وذكر أهل الأخبار، أنهم كانوا يستخرجون "الزفت" من أعجاز شجر "الأرز" وعروقه، وأنهم كانوا يستصبحون بخشب الأرز, وقد أشير إليه في الحديث5. وقد استخرجوا الزفت من شجر "التنوب" وغيره من ضروب الصنوبر، وهو قريب من دهن القطران6.
__________
1 تاج العروس "3/ 499 وما بعدها"، "قطر"، نهاية الأرب "11/ 323".
2 عرام، أسماء جبال تهامة "408".
3 عرام "403".
4 تاج العروس "1/ 546"، "زفت".
5 تاج العروس "4/ 3"، "أرز".
6 نهاية الأرب "11/ 324".(14/220)
الزيوت والدهون:
ويستعمل الحضر الزيت في أكلهم وفي تزييت شعرهم وفي أمور أخرى, وهم يحصلون عليه من النبات بعصر لبّ الثمر المتشبع بالزيت. واليمن هي على رأس الأمصار العربية في إنتاج الزيت, زيت الزيتون وغيره، وقد كانت تصدره إلى الحجاز وإلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. والزيت في اللغة دهن، وهو عصارة الزيتون1. ويعد التزييت، أي: التدهن بالزيت الجيد المطيب من علائم النعيم والرفاه.
و"السليط": الزيت عند عامة العرب وعند أهل اليمن دهن السمسم، وقد ذهب بعضهم إلى العكس. وقيل: هو كل دهن عصر من حبّ, وذكر أن دهن
__________
1 تاج العروس "1/ 546"، "زيت".(14/220)
السمسم هو السيرج والحل1. و"السيرج" هو "الشّيْرج"2: دهن السمسم3، و "الحَل"، هو الشيرج، أي: دهن السمسم4.
ومن الدهن، دهن يستخرجه أهل اليمن من "الكاذى", والكاذى شجر شبه النخل في أقصى بلاد اليمن، وطلعه هو الذي يصنع منه الدهن. وذكر أنهم كانوا يقلعون طلع "الكاذى" قبل أن ينشق، فيلقى في الدهن ويترك حتى يأخذ الدهن ريحه ويطيب5. ودهن الغار، دهن يستخرج من شجر الغار، وهو شجر الغار، وهو شجر له حمل أصغر من البندق أسود يقشر، له لب يستخرج منه الدهن، وورقه طيب الريح يقع في العطر، ويستعمل ثمره في الأدوية, ويستصبح بدهن الغار6.
واستخرج أهل "الشوع" دهنًا منه، كما يستخرج أهل السمسم دهنًا منه. وذكر أن "الشوع" شجر البان، الواحدة: "شوعة", وهو يريع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، وهو مطلوب مرغوب، فكان الناس يسلفون في ثمره الأموال7. و"البان"، شجر يستخرج من حبّ ثمره دهن طيب, يستعمل في التدهين, وفي معالجة أمراض عديدة, وقد ذكر في شعر "امرئ القيس"8.
وزيت مقتت، إذا أُغلِيَ بالنار ومعه أفواه الطيب، ودهن مقتت مطيب طبخ فيه الرياحين، أو خلط بأدهان طيبة, والتقتيت جمع الأفاويه كلها في القدر وطبخها9.
واستخرج من موم العسل شمع، وهو ما يستصبح به. ويذكر علماء اللغة أن "الموم" لفظة مولدة جاءت من الفارسية، وأن لفظة "الشمع" لفظة مولدة كذلك10. ونظرًا لوجود العسل بكثرة في اليمن وفي "السراة" وفي مواضع أخرى
__________
1 تاج العروس "5/ 158"، "ملط".
2 كصيقل وزينب.
3 تاج العروس "2/ 64"، "شرج".
7 تاج العروس "7/ 286"، "حلل".
5 تاج العروس "10/ 312"، "كذا".
6 تاج العروس "3/ 457"، "غار".
7 تاج العروس "5/ 404"، "شوع".
8 تاج العروس "9/ 147"، "البون".
9 تاج العروس "1/ 571"، "قتّ".
10 تاج العروس "5/ 402"، "شمع".(14/221)
من جزيرة العرب في الجاهلية، فلا أستبعد استخدام أهل الجاهليين شمع العسل لصنع الشموع؛ للاستصباح ولأغراض أخرى.
والحرض: الأشنان تغسل به الأيدي على أثر الطعام, وشجرته ضخمة وربما استظل بها، ولها حطب وهو الذي يغسل به الناس الثياب, وقد مدح الأشنان النابت بجو الخضارم باليمامة. والحرّاض من يحرقه للقلي، أي: الذي يوقد على الحرض ليتخذ منه "القلي" للصبَّاغين. يحرق الحمض رطبا ثم يرش الماء على رماده فينعقد فيصير قليًّا. قال عدي بن زيد العبادي:
مثل نار الحراض يجلو ذرا المز ... ن لمن شامه إذا يستطير1
و"القصيص" نبت ينبت في أصول الكمأة، يجعل غسلًا للرأس. وقد ذكر في شعر عدد من الشعراء، منهم امرؤ القيس والأعشى وعدي بن زيد العبادي2.
__________
1 تاج العروس "5/ 19"، "حرض".
2 تاج العروس "4/ 423"، "قصص".(14/222)
الصمغ:
الصمغ في تعريف علماء العربية: غراء القرظ، وهو الصمغ العربي، ولكل شجر صمغ، وهو نضحه فيسيل منه1. وكانوا يشرطون الشجر ليخرج منه غراءه، أو كانوا يعصرون بعض النبات, فيخرج منه عصير، يستخرجون منه صمغًا. ومن الأشجار التي استخرجوا منها الصمغ "الصاب"، يشرط فيخرج منه غراء، وهو شيء مرّ، ينعقد كالصبر2. واستخرجوا صمغًا من "القرظ"، وهو شجر معروف في بلاد العرب، استخرجوه من عصارته، استفادوا منه في الطب، دعاه الأطباء الإسلاميون: "أقاقيا"3. و"الصرب"، صمغ أحمر يستخرج من الطلح، وقيل: هو صمغ الطلح والعرفط، وهي حمر كأنها سبائك تكسر بالحجارة4.
__________
1 تاج العروس "6/ 22"، "صمغ".
2 تاج العروس "1/ 340"، "صوب"، "6/ 22"، "صمغ".
3 تاج العروس "5/ 258"، "قرظ".
4 تاج العروس "1/ 334"، "صرب".(14/222)
والعرب تسمي صمغ العرفط عسلًا لحلاوته، وعسل اللبنى طيب، وهو صمغ ينضح من شجرة يشبه العسل لا حلاوة له، ويتبخر به. وعسل الرمث شيء أبيض يخرج منه كالجمان1.
و"الأيدع"، صمغ أحمر يؤتى به من "سقطرى" ويتداوى به, داووا به الجراح. وذكر أن الأيدع صبغ أحمر، وهو خشب البقم. وقيل: هو دم الأخوين, وقيل: الأيدع شجر له حب أحمر يصبغ به أهل البدو ثيابهم, وإن البقم يحمل في السفن من بلاد الهند. وقد اشتهرت جزيرة سقطرى بأحسن أنواع الأيدع والصبر، حتى قيل: صبر سقطرى2. وذكر أن "دم الأخوين" هو "القاطر المكي"، وهو عصارة حمراء3.
وقد عرفت جزيرة العرب بتصديرها بعض أنواع الصمغ واللثى، وهو شيء يسقط من شجر السمر، أو هو ماء يسيل من الشجر كالصمغ، فإذا جمد، فهو صعرور. وقيل: شيء يسيل من الثمام وغيره، وللعرفط لثى حلو يقال له: المغافير4, والمغافير: هو صمغ شبيه بالناطف ينضحه العرفط، وقد يكون المغفور للعشر والسلم والثمام والطلح وغير ذلك. وورد أن المغافير: صمغ الرمث والعرفط، وذكر أن المغافير عسل حلو مثل الرب إلا أنه أبيض5.
و"العلك": المضغ، وصمغ الصنوبر والأرزة والفستق والسر والينبوت والبطم، وهو أجودها. يمضغ في الفم؛ للتسلية ولمنع العطش بظهور اللعاب في الفم، ولأغراض طبية6. وقد اشتهر علك الضرو، المستخرج من شجر الضرو، الذي ينبت باليمن, ويعالج به في الطب7.
و"الكندر" اللبان، وهو ضرب من العلك يستخدم في الطب8. واللبان شجيرة شوكة لا تسمو أكثر من ذراعين, ولها ورقة مثل ورقة الآس، وثمرة مثل
__________
1 تاج العروس "8/ 17"، "عسل".
2 تاج العروس "5/ 564"، "أيدع".
3 تاج العروس "3/ 501"، "قطر".
4 تاج العروس "10/ 323"، "لثى".
5 تاج العروس "3/ 453"، "غفر".
6 تاج العروس "7/ 164"، "علك".
7 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى".
8 تاج العروس "3/ 529"، "الكندر".(14/223)
ثمرته، ولها حرارة في الفم, وهي من الصمغ. وذكر أن اللبان شجر الصنوبر1, وذكر أن لحب ثمر البان دهنًا طيبًا، وحبه نافع لمعالجة جملة أمراض جلدية وأمراض داخلية2, وذكر أن "الشوع"، شجر البان، أو ثمره. قيل: إنه يريع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، والناس يسلفون في ثمره الأموال. وأهل الشوع يستعملون دهنه، كما يستعمل أهل السمسم دهن السمسم, وهو جبلي، وقيل: ينبت في السهل والجبل3.
وورد أن الكندر لا يكون إلا بالشحر من اليمن، ومنابت شجره الجبال، وقد استعمل دواء لمعالجة أمراض عديدة4.
والصبر، أنواع فيه العربي والأسقطري، وأجوده "الأسقطري". وهو عصارة شجر، تترك حتى تثخن، ويشمس حتى يجف. وفي اليمن نوع منه أحمر ملمع بصفرة5.
و"الضجاج" مثل شجر "اللبان" يكون في أرض عمان, وهو صمغ أبيض تغسل به الثياب, فينقيها مثل الصابون6. وذكر أنه ثمر ينبت أو صمغ تغسل به النساء رءوسهن7.
والمقل, يستخرج من شجر يشبه الكندر، طيب الرائحة، وأكثر نباته فيما بين الشحر وعمان، وذكر أن المقل المكي هو صمغ الدوم؛ لأن الدوم هناك يدرك ويصمغ8.
و"الدبس" عسل التمر وعصارته، وهو ما يسيل من الرطب, ويقال له: "الصقر" في لغة أهل يثرب. وذكر أنه ما سال من جلال التمر, وأطلق أيضا على تحلب من الزبيب والعنب9. و"الصقر" عند أهل البحرين ما سال
__________
1 تاج العروس "9/ 329"، "لبن".
2 تاج العروس "9/ 147"، "البون".
3 تاج العروس "5/ 404"، "شوع".
4 نهاية الأرب "11/ 299 وما بعدها".
5 نهاية الأرب "11/ 304 وما بعدها".
6 نهاية الأرب "11/ 309".
7 تاج العروس "2/ 68".
8 نهاية الأرب "11/ 321 وما بعدها".
9 تاج العروس "4/ 145"، "دبس".(14/224)
من جلال التمر التي كنزت وسدك بعضها على بعض في بيت مضرج تحتها خواب خضر، فينعصر منها دبس خام كأنه العسل1.
والصبيب: عصارة ورق الحناء والعصفر، وقيل: هو العصفر2.
__________
1 تاج العروس "3/ 339"، "صقر".
2 تاج العروس "1/ 331"، "صبب".(14/225)
الدباغة:
والدباغة حرفة الدَّبَّاغ، دبغ الإهاب بما يدبغ به1, والإهاب: الجلد من البقر والغنم والوحش، أو هو ما لم يدبغ2. وقد استخدم الدباغون في ذلك مواد مختلفة، بعضها بدائية، وعالجوا الجلد قبل دبغه لترقيقه وتنظيفه وصقله. وقد اشتهرت في ذلك جملة مواضع، منها: مدينة "جرش"، وهي من مخاليف اليمن من جهة مكة، وقد نسب إليها الأدم المعروف بـ"أدم جرش"، و"أدم جرشي"، وهي مدينة تسقى بالآبار، يستخرج منها الماء بالدلاء على الإبل، وقد فتحت في حياة النبي في سنة عشر للهجرة صلحًا على الفيء، وأن يتقاسموا العشر ونصف العشر3, وقد اشتهرت بإبلها كذلك التي نسبت إليها4. ومنها "صعدة"، في مخلاف خولان، وكانت تسمى في الجاهلية "جماع"، وكان بها قصر قديم ضخم. ذكر "الهمداني" أنها كورة بلاد خولان وموضع الدباغ في الجاهلية، وذلك أنها في موسط بلاد القرظ, وقد اشتهرت أيضا بالنصال5. ونعتها بأنها "بلد الدباغ في الجاهلية الجهلاء، وهي في موسط بلد القرظ، ربما وقع فيها القرظ من ألف رطل إلى خمسمائة بدينار مطوق على وزن الدرهم القفلة"6.
والأدم من السلع المهمة المشهورة في تجارة أهل الجاهلية, والأديم: الجلد الذي قد تم دباغه, وقيل: الجلد ما كان أو أحمره أو مدبوغه، وقيل: هو بعد
__________
1تاج العروس "6/ 8"، "دبغ".
2 تاج العروس "1/ 151"، "أهب".
3 البلدان "3/ 85".
4 تاج العروس "4/ 287"، "جرش".
5 الصفة "66 وما بعدها".
6 الصفة "114".(14/225)
226
الأفيق، وذلك إذا تمّ واحمرّ1. ويدخل في الحرف التي تقوم على تحويل الجلد إلى سلع، مثل الأحذية وصنع القباب التي تضرب للملوك وللسادة وللأشراف أمارة على الرئاسة والسيادة. وتصبغ جلودها بلون أحمر في الغالب, وكانت غالية؛ لذلك لم يستعملها إلا أصحاب الجاه والمال. فكان سادة مكة إذا نزلوا منزلا ضربوا قبابًا من أدم2، وكان حكام عكاظ والسادات الذين يحضرون السوق، يضربون لهم قبابًا، وأما سائر الناس، فيضربون لهم بيوت الشعر, وبيوت الشعر أرخص ثمنًا من قباب الأدم.
وقد اتخذ العرب بيوتًا من جلد عرفت بـ"القشاعة" و"القشوع"، وذكر بعضهم أن "القشاعة" بيت من أدم, وربما اتخذوا من جلود الإبل صوانًا للمتاع3. وذكر أن البيت من أدم، هو "الطراف", وهو بيت من بيوت الأعراب ليس له كفاء، قال طرفة بن العبد:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد4
وقد اشتهرت اليمن بدباغة الجلود وبالاستفادة من هذه الجلود في أغراض مختلفة، وبتصدير الجلود إلى أماكن أخرى من جزيرة العرب. ولا تزال اليمن تصنع الجلود على الطريقة القديمة، وتصدرها إلى الخارج. وقد ذكر "ابن المجاور" أن الأديم يدبغ في جميع إقليم اليمن والحجاز، وأنهم يبيعونه طاقات بالعدد، وقد اشتهرت مكة بدبغ الجلود كذلك، جلود الجمال والبقر والغزلان5. واشتهرت الطائف في دباغة الجلود كذلك, وذُكر أن مدابغها كانت كثيرة، وأن مياهها كانت تنساب إلى الوادي فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية6. وكانوا يدبغون
__________
1 تاج العروس "8/ 181"، "أدم"، المفضليات، للضبي "56"، "أحمد محمد شاكر"، "دار المعارف 1964م".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 1، ص41".
3 تاج العروس "5/ 467 وما بعدها"، "قشع".
4 تاج العروس "6/ 179"، "طرف".
5 ابن المجاور، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز، المسماة تأريخ المستبصر, القسم الأول "ص13".
6 البلدان "6/ 10 وما بعدها".(14/226)
بصورة خاصة الأدم الثقيل المليح1. وذكر "الهمداني"، أنها "بلد الدباغ، يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة"2.
وقد ذكر علماء اللغة أسماء مواد كثيرة استعملت في دباغة الجلود، وذكروا أيضًا طرقًا متعددة في كيفية الدبغ وفي أسماء الجلود المدبوغة والمواد التي تصنع من مختلف الجلود3. والواقع أن اعتماد العرب الجاهليين على الجلود كان كبيرا؛ لأنها كانت متيسرة لديهم، وهي أسهل في العمل من الخشب أو الحديد أو الأشياء الأخرى بالنسبة إلى عمال جزيرة العرب في ذلك العهد.
و"القرظ" من أهم ما استعمل في دباغة الأدم، يجلب فيطحن بحجر الطواحين، ثم يستعمل في الدباغة, ومن "العقيق" يجلب القرظ إلى مكة لاستعماله في الدباغة4. وقد أشار بعض الإخباريين إلى ضخامة حجر الطواحين التي يطحن بها القرظ5. واستعمل "الغرف" في الدباغة كذلك وعرفت الجلود التي تدبغ به بالجلود الغرفية، ومنها جلود يمانية وجلود بحرانية, وسقاء غرفي دبغ بالغرف, وكذلك مزادة غرفية6.
ومن المواد التي استعين بها في دباغة الجلد: "الدهناء". وهي عشبة حمراء لها ورق عراض يدبغ به7، و"القرضم" قشر الرمان، ويدبغ به8, و"الشث" نبت طيب الريح مرّ الطعم يدبغ به، قيل: ينبت في جبال الغور وتهامة ونجد. وذكر بعضهم "الشب" في جملة ما كان يدبغ به9, و"الأرطى" شجر دبغ به، وعرف الجلد الذي يدبغ به بـ"المأروط" وبـ"الأرطى"، وبـ"أديم مرطى"10.
__________
1 ابن المجاور "1/ 25".
2 الصفة "120".
3 المخصص "4/ 100 وما بعدها".
4 تاج العروس "5/ 258"، "قرظ"، ابن المجاور "1/ 32".
5 ابن المجاور "10/ 20".
6 تاج العروس "6/ 209"، "غرف".
7 تاج العروس "9/ 205"، "دهن".
8 تاج العروس "9/ 24"، "قرضم".
9 تاج العروس "1/ 627"، "شث".
10 تاج العروس "5/ 101"، "أرط".(14/227)
وعرف الجلد الذي يدبغ بغير "القرظ" بـ"الجلد الحوري"1, و"الأفيق" الجلد الذي لم يتم دباغه، أو الأديم دبغ قبل أن يخرز أو قبل أن يشق. وقيل: هو ما دبغ بغير القرظ والأرطى وغيرهما من أدبغة أهل نجد، وقيل: هو حين يخرج من الدباغ مفروغًا منه، وقيل: رائحته، وقيل: ما يكون من الجلد في الدباغ2.
__________
1 تاج العروس "3/ 161"، "حور".
2 تاج العروس "6/ 280"، "أفق".(14/228)
الخمور:
وقد اتخذوا من التمور والكروم والشعير والذرة خمورًا، وذكر أن الخمر ما أسكر من عصير العنب خاصة, وتستعمل لفظة "الشراب" في معنى الخمر كذلك. وفي الحديث: "حرمت الخمر وما شرابهم يومئذٍ إلا الفضيخ البسر والتمر"، ونزل تحريم الخمر التي كانت موجودة من هذه الأشياء لا في خمر العنب خاصة1. وأما النبيذ، فهو ما نبذ من عصير ونحوه، كتمر وزبيب وحنطة وشعير وعسل، يقال: نبذت التمر والعنب، إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا، وقد ينبذ في وعاء عليه الماء ويترك حتى يفور فيصير مسكرًا. وسواء أكان مسكرًا أم غير مسكر، فإنه يقال له: نبيذ، ويقال للخمر المعتصر من العنب نبيذ، كما يقال للنبيذ خمر2.
ويظهر من كتب الحديث، أن أكثر خمور أهل المدينة هي خليط من البسر والتمر3, وأن منهم من كان يخلط الزبيب والتمر، أو الرطب والبسر. وكانوا ينتبذونها في الدباء، والمزفت، والحنتم، والنقير، والمقير4.
وذكر أن الخليفة "عمر" حدد المواد التي تعمل منها الخمور بخمسة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل, وجعل الخمر ما خامر العقل5.
__________
1 تاج العروس "3/ 176 وما بعدها"، "خمر".
2 تاج العروس "2/ 580"، "نبذ".
3 صحيح مسلم "6/ 88".
4 صحيح مسلم "6/ 92 وما بعدها".
5 صحيح مسلم "8/ 245"، "باب في تحريم نزول الخمر".(14/228)
وقد ذكر هذه الأشياء؛ لأنها كانت هي الشائعة المعروفة عند أهل مكة ويثرب في ذلك العهد على ما يظهر، لأن هناك خمورًا عملت من غير هذه الأشياء.
وكان لأهل اليمن شراب عرف عندهم بـ"البتع"، وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، وذكر أنهم كانوا يطبخون العسل حتى يعقد، فيكون البتع, وشراب عرف بـ"المزر"، وهو من الذرة1. وخطب "أبو موسى الأشعري"، فقال: "خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن البتع وهو من العسل، وخمر الحبش السكركة"2. وقد ذكر "ابن عمر" الأنبذة، فقال: "البتع نبيذ العسل, والجعة نبيذ الشعير، والمزر من الذرة، والسكر من التمر، والخمر من العنب"3, وذكر أن المزر نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل: نبيذ الذرة خاصة4. ويظهر أن إطلاق المزر على أنبذة الحبوب، هو من باب التجوز والتعميم، وأن الأصل هو نبيذ الذرة.
و"الضريّ": الماء من البسر الأحمر والأصفر يصبونه على النبق, فيتخذون منه نبيذًا5.
وقد اشتهرت "دُرْنى" بخمورها المصنوعة من الكروم، وقد ذكرها "الأعشى" في شعره, وكان الأعشى يزورها. وذكر أنها هي "أثافت" التي ذكرها "الأعشى" أيضًا في شعره، فقال:
أحب أثافِتَ وقت القطاف ... ووقت عصارة أعنابها
وكان كثيرًا ما يزورها، وله بها معصر للخمر يعصر فيه ما أجزل له أهل أثافت من أعنابهم6. وورد أنها من قرى اليمامة، كما ذكرت ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.
__________
1 صحيح مسلم "6/ 99 وما بعدها"، "باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام".
2 تاج العروس "5/ 269"، "بتع".
3 تاج العروس "3/ 451"، "مرز".
4 المصدر نفسه.
5 تاج العروس "10/ 220"، ضرى".
6 الصفة "66".(14/229)
وأنا لا أستبعد استخدام الجاهليين للماء في إدارة المطاحن، وقد ذكر "الهمداني" أن أهل اليمن بأودية: سربة، وشُراد، وبنا، وماوة، والموفد، وجمع، ويصيد، وأودية رعين، ووادي ضهر، كانوا يديرون مطاحنهم بالماء1, ولم يشر "الهمداني" إلى تأريخ استعمال هذه المطاحن التي تدار بالماء، ولكني لا أستبعد أخذهم هذه الصناعة من الجاهليين. وقد أشير إلى الطحن والمطاحن والطحين في نصوص المسند؛ ورد في بعضها أن الحكومات كانت تتقاضى الإتاوة من الناس إما نقدًا، وإما "ورقًا"، أي: ذهبًا سبائك، وإما "طحنًا" أي: طحينًا، وهو الدقيق, ويقال له "طحنم" و"طحن" في المسند، وإما "دعتم"، أي: بضاعة، بمعنى مواد عينية. فذكر "الطحين" في هذه النصوص، يشير إلى وجود المطاحن بكثرة في اليمن، وربما كانت تصدر الفائض منه إلى الخارج.
__________
1 Handbuch, I, s. 137(14/230)
الفصل الرابع عشر بعد المئة: الحرف
مدخل
...
الفصل الرابع عشر بعد المائة: الحرف
من الحرف المتداولة بين الجاهليين النجارة والحدادة والحياكة والنساجة والخياطة والصياغة والدباغة والبناء ونحوها من حرف يحترفها الحضر في الغالب. أما الأعراب فقد كانوا يأنفون من الاشتغال بها، وينظرون إلى المشتغلين بها نظرة احتقار وازدراء؛ لأنها في عرفهم حرف وضيعة، خُلقت للعبد والرقيق والمولى ولا تليق بالحر، حتى إن الشريف منهم وذا الجاه، كان لا يحضر وليمة يدعوه إليها شخص من أصحاب هذه الحرف، استنكافًا وازدراء؛ لأنه ليس في منزلته ومكانته. وقد كان عمل الرسول كبيرًا في نظر رؤساء القوم يومئذ، حينما جوَّز حضور طعام الخياط والصائغ وأمثالهما، وكان يحضر منازلهم، فعد القوم ذلك عملًا غير مألوف ومخالفًا للعرف والتقاليد1.
وقد كان أكثر أهل القرى ينظرون إلى الحرف والمحترفين بها نظرة ازدراء كذلك، ويأنفون لذلك من التزاوج معهم، ويعيِّرون من يتزوج من امرأة أبوها قين أو نجار أو دباغ أو خياط، ويلحق هذا التعيير الأبناء كذلك. وينظرون هذه النظرة إلى المشتغلين بزراعة الخضر مثل البقول في الغالب، ولا تزال هذه النظرة معروفة في جزيرة العرب, وفي أماكن أخرى خارج حدود هذه الجزيرة
__________
1 "وفيه جواز أكل الشريف طعام الخياط والصائغ وإجابته دعوته"، "باب ذكر الخياط"، عمدة القاري "11/ 210 وما بعدها".(14/231)
كالعراق. وهذه هي مشكلة من جملة المشكلات التي أثرت في الاقتصاد العربي وفي الحياة الاجتماعية، وإن كانت قد أخذت تخف في هذه الأيام.
ولم يكن العرب وحدهم ينظرون إلى الحرف والمشتغلين بها نظرة ازدراء، بل كانت شعوب العالم كلها تقريبًا تنظر إلى طبقة أصحاب الحرف مثل هذه النظرة؛ لأن الحرف هي من أعمال الطبقات الدنيا من سواد الناس الرقيق والموالي, أما الحر فلم يخلق لها ولم تخلق له. كذلك كانت نظرة قدماء اليونان إلى هذه الحرف؛ لأنها عندهم من الأعمال التي يقوم بها سواد الناس ورقيقهم1.
وهذه الحرف لم يختص بها الجاهليون وحدهم، بل كانت عامة معروفة ومتداولة عند جميع الشعوب لتلك العهود, وهي لبساطتها وبداءتها متشابهة، لا تجد اختلافًا في آلاتها وأدواتها المستعملة عند الشعوب. فأدوات النجار تكاد تكون واحدة، سواء أكانت عند النجار العربي الجاهلي، أم النجار العبراني، أم النجار النبطي, وكذلك قل عن أدوات الحداد والصائغ وغيرهما من الطبقات العاملة التي ترتزق وتعيش على هذه الحرف التي تعتمد على اليد.
ونجد في كتب اللغة والأدب وأمثالها ألفاظًا عديدة معربة، استعملها أهل الجاهلية وذلك بتعريبها ونقلها من أصول أعجمية معروفة، فيها الفارسي والآرامي واليوناني واللاتيني والحبشي والنبطي. وهي مما يدخل في باب الآلات والأدوات والمآكل والملابس والبيت والثقافة والعلم، دخلت العربية؛ لأنها كانت مصطلحات متداولة عند أهلها معروفة، أخذها العرب منهم باحتكاكهم وبتأثرهم بهم، وقد صقل بعضها وهذب ووسم بسمة عربية، وأدخل على بعض آخر بعض التعديل ليتناسب مع أسلوب النطق العربي، وقبل بعض آخر على نحو ما كان في أصله واستعمل في العربية, حتى صار في ظن من لا وقوف له على العربية أنه عربي صميم.
والألفاظ المعربة التي نعنيها قديمة، دخلت قبل الإسلام بمئات السنين, وقد استعملتها الألسن وتداولتها، وصارت بهذا الاستعمال ألفاظًا عربية مستساغة, ومنها ما هو مستعمل حتى الآن. وجمع هذه الكلمات وضبط معانيها وتبويبها وتصنيفها، عمل مهم نافع أرجو أن يتهيأ له أصحاب العلم والاختصاص، فبها
__________
1 Hastings, p. 52(14/232)
نتمكن من الوقوف على الاتصال الفكري الذي كان بين العرب وغيرهم، وبها نتمكن أيضًا من الوقوف على مدى الاتصال ومقدار تغلغله في جزيرة العرب. وبأمثال هذه الدراسة سنتمكن أيضًا من تكوين صورة علمية صحيحة للتأريخ الجاهلي وهي صورة ستغير، ولا شك، كثيرًا من هذه الآراء القديمة عند كثير من الناس عن الجاهليين، تكونت من دراستهم لروايات أهل الأخبار عن العرب قبل الإسلام.
ولم يخفَ أمر هذه المعربات عن قدماء علماء اللغة، فقد أدركوا وجودها ودخولها في العربية قبل الإسلام، وألفوا فيها، وأشاروا إليها في معجمات اللغة ووضع بعضهم بحوثًا في معربات القرآن. وهي تفيدنا فائدة كبيرة بالطبع في الوقوف على الصلات الثقافية التي كانت بين العرب والعالم الخارجي قبل الإسلام، وإن كانت تلك البحوث والمؤلفات قد كتبت بطريقة ذلك العهد، استنادًا إلى الروايات دون التثبت منها وتعرف أصولها وتتبع مواردها, بدراسة اللغات الأجنبية ومقارنتها ومطابقتها بالأصل. وهي طريقة أوقعتهم في أغلاط، ولكنها أفادتنا مع ذلك فائدة كبيرة في معرفة هذا الغريب الدخيل، وفي تكوين رأي في الدراسات اللغوية عند علماء اللغة القدامى1.
وقد عثر الرحالون والمنقبون على ألواح من الخشب وعلى شبابيك ومواد خشبية أخرى في اليمن وفي حضرموت منقوشة نقشًا بديعًا ومحفورة حفرًا يدل على دقة الصنعة وإتقان في العمل. وهي شاهد على تمكن النجار من مهنته، وعلى قدرته فيها، وعلى حسن استعماله ليده وعلى سيطرته عليها في استخدامها للأدوات النجارية, في صنع النفائس والطرائف من الخشب.
والحرف وراثية في الغالب, يتعلمها الابن عن والده، وتنحصر في العائلة فتنتقل من الآباء إلى الأبناء. ولا يسمح لغريب أن يتعلم أسرار الحرفة وأن يقف عليها وخاصة في الحرف المربحة, وفي الحرف التي تحتاج إلى مهارة ودقة وذكاء؛ خوفًا من وقوع المنافسة، وانتقال سر العمل والنجاح إلى شخص غريب, فينافس أصحاب الحرفة في عملهم, وينتزع منهم رزقهم. لذلك حُوفظ على أسرار المهنة، ولم يبح بأسرارها حتى لأقرب الناس إليهم، وفي حالة اكتشاف رجل طريقة جديدة غير
__________
1 المعرب، للجواليقي، الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي "1/ 231".(14/233)
معروفة في حرفته، فإنه يحتفظ بسره حتى لا يتسرب إلى الغرباء, ومنهم من لا يعلِّم حتى أولاده سر المهنة إلا في حالة شعوره بعجزه عن العمل أو بقرب وفاته ودنو أجله؛ خشية انتقال السر منهم إلى غيرهم، فينافسونهم على رزقهم ومصدر قوتهم من هذا السر.
وينضمُّ أصحاب الحرف بعضهم إلى بعض مكوِّنين "صنفًا"، أي: طبقة خاصة، تتعاون فيما بينها تعاون النقابات الحرفية والمهنية في الوقت الحاضر، يتولى رئاستها أبرز رجال "الصنف". وإذا مات أحدهم تعاونوا في تشييعه ودفنه وفي مساعدة أهله ومواساتهم؛ وذلك لحماية رجال الحرفة من كل سوء قد يقع عليها وللمحافظة على حياتهم، ولا يسمح "الصنف" بدخول غريب بينهم؛ لأنهم جماعة ورثت حرفتها، فلا يجوز لغريب مزاحمتهم فيها.
ويتجمع رجال بعض الحرف في أماكن معينة، كما هو الحال في الوقت الحاضر، كأن يتجمع الحدادون في منطقة معينة, والصاغة في حي، والصفارون في حي, والنجارون في حي؛ وذلك للتعاون فيما بينهم، وتنسب تلك المحلات إليهم.
وقد تشتهر مدينة ما بحرفة من الحرف، فيكون لمنتوجها شهرة واسعة ويباع بأسعار عالية, وقد تشتهر منطقة بجملة صناعات. فقد اشتهرت اليمن بالبرود كما اشتهرت بسيوفها، التي اكتسبت شهرة بعيدة واسعة في كل جزيرة العرب, واشتهرت بعقيقها كذلك وبأنواع أخرى من التجارات. واشتهرت مكة ببعض أنواع العطور, واشتهرت ثقيف بالدباغة والأدم.
وقد كانت أجور العمل معروفة عند الجاهليين, فتُدفع للعمال والصناع أجور يومية، كما تدفع لهم أجور مقطوعة عن عمل معين, وليس لهؤلاء العمال من أتعاب عملهم سوى ذلك الأجر المتفق عليه. أما الرقيق, فلا يدفع لهم في العادة أي شيء، سوى ما يقدم لهم من طعام وملبس وحماية, وعليهم في مقابل ذلك الاشتغال بالشغل الذي يوكل إليهم به أسيادهم، ولا حق له بالنسبة لقوانين ذلك الوقت الامتناع عن القيام بالعمل الذي كلفوه به.
والأجور قد تكون يومية وقد تكون سنوية وقد تكون مقطوعة, ولا يشترط في الأجر أن يكون نقدًا، فقد يدفع عينة، أي: مالًا مثل طعام، أو كساء؛ لندرة النقد في ذلك الوقت. ومن أمثلة الحرف التي تدفع عنها الأجور، حرفة(14/234)
البناء، فيُدفع للعامل أجر يومي في الغالب, والنجارة والحصاد، وتدفع عنها أجور مقطوعة على الأكثر, والرعي وأمثال ذلك من حرف، يقوم بها سواد الناس لإعاشة أنفسهم منها.
ويمكن تصنيف وجمع الحرف التي عرفت عند الجاهليين في حرف النجارة، وهي تنجير الخشب وتحويله إلى متاع وأثاث أو إلى عمل البناء أو إلى تماثيل وزخارف وما أشبه ذلك، ثم حرف البناء، وتتناول كل ما يتعلق بالبناء من أعمال، ثم حرف الإعاشة، ثم حرف التعدين والمعادن، ثم حرف الجلود وحرف الملابس وحرف التجميل وحرف أخرى.(14/235)
النجارة:
والنجارة من الحرف القديمة المهمة في المدن, وقد عثر على نماذج من مصنوعات خشبية في اليمن تدل على حذق النجار وذكائه وتقدمه في مهنته. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن أهل مكة والمدينة لم يكونوا على حظ كبير في النجارة؛ ولذلك كانوا يستعينون بالرقيق وبالأجانب في أعمال نجارتهم كاليهود أو الروم, وفي الذي رووه عن تسقيف الكعبة في أيام الرسول وقبل نزول الوحي عليه ما يدل على ندرة النجارين في مكة في تلك الأيام. ويعلل أهل الأخبار ذلك بسبب أنفة العربي من الاشتغال بالحرف, فاعتمد على الأجانب -وأغلبهم من الرقيق- في أداء هذه الحرفة.
والنجار، هو الذي ينجر الخشب, فيقوم بنشره وحفره وإصلاحه وعمله على النحو المطلوب وحرفته: النجارة. وفي هذا المعنى: نجارة الخشب1.
ومادة النجارة الخشب, وهو نوعان: نوع مستورد من الخارج، إما من الهند وإما من أفريقية، وهو من النوع الجيد الصلب القوي المقاوم, وهو ثمين غالٍ. لهذا استعمل في صنع الأثاث الفاخر الثمين, وفي الأدوات التي تحتاج إلى خشب صلب مقاوم, وفي المعابد والقصور, وفي الأبنية المهمة، ومن أهم أنواعه:
__________
1 اللسان "5/ 193"، Hastings, A dicti. Of the Bible, I. p. 356(14/235)
الساج والأبنوس والعندل, ونوع هو من حاصل أرض جزيرة العرب وناتجها. وهو دون الخشب الأول في المقاومة والجودة، وفي الاستفادة منه في أعمال النجارة؛ لأن معظمه ليس من النوع الناضج الغليظ الصلد القوي، لا يصلح إلا للأعمال النجارية الاعتيادية وللوقود، ما خلا أنواعًا قليلة منه استخرجت من بعض الأماكن مثل "النضار"، وهو خشب غليظ بعض الشيء ينبت شجره في غور الحجاز، وبعض أشجار اليمن والمناطق الجبلية الأخرى1.
وترد في كتابات المسند كلمة "عضم" "عض"، ويراد بها "الخشب" في لهجتنا2. ترد في كتابات البناء بصورة خاصة، أي: الكتابات التي هي عبارة عن وثيقة بناء، إذ كان أرباب الدور والأبنية يذكرون المواد التي استخدموها في البناء، وفي جملة ذلك الخشب, وقد وردت لفظة "العضم" في كتب اللغة بمعنى خشبة ذات أصابع يُذرَى بها الطعام3. ويشترك العبرانيون مع العرب الجنوبيين في تسمية الخشب بـ"عض"4.
وقد استخدم الخشب في تقوية الجدر، استخدموا الخشب القوي الصلد منه. ولا تزال آثاره باقية ظاهرة فيما تبقى من أبنية الجاهليين، وبعضه قوي لم يَعِثْ به الزمن فسادًا ولم يَفْنِهِ، كما استخدم في صنع السقوف والأبواب وفي تقوية السلالم، وفي صنع الشبابيك وأمثال ذلك من الأعمال التي تدخل في صلب البناء، وتكون جزءًا منه. وقد استورد معظم هذا الخشب الصلد القوي: الساج5 والأبنوس والصندل6 من الهند ومن أفريقية؛ لعدم وجوده في جزيرة العرب، ولا تزال آثاره وقطع منه باقية, على الرغم من مرور مئات من السنين عليه.
واستخدم الخشب في صنع أثاث البيت وفي كثير من الأدوات المستخدمة في حياة الإنسان. وقد عثر على بعض مصنوعات من الخشب استخدمت أثاثًا، تدل على مهارة صناعها وعلى حسن تصرفهم في صنعها وفي هندستها. ويعبر عن الأثاث في المعينية بلفظة "رثد", وهي في مقابل متاع, وتؤدي أيضًا معنى التنظيم
__________
1 تاج العروس "3/ 571"، "نضر".
2 Rep. Epi., Num. 2789
3 تاج العروس "8/ 401"، "عضم".
4 راجع المعجمات في العبرانية.
5 تاج العروس "2/ 61".
6 تاج العروس "7/ 408".(14/236)
والترتيب وتنسيق الأشياء. وفي المسند لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى هي لفظة "ربب" ومعناها: السناد والأساس أيضًا1, وبالمعنى المذكور ترد لفظة "رثد" في عربية القرآن الكريم2.
وقد ذكر في القرآن الكريم أسماء بعض الأثاث، مثل: الأرائك3 والسرر4 {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَة} ، "وسررًا عليها يتكئون"، و {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَة} ، و {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِين} ، و {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَة} ، والكرسي5. وقد تصنع السرر من سعف النخيل، كما يصنع الكرسي من هذه المادة أيضًا، وتصنع المشاجب من الأعواد المركبة توضع عليها الثياب6. وإذا بُوعِدَ بين الأشياء المنسوج بها السرير أو غيره من سعف النخل، قيل لذلك: مرمل، فيقال: سرير مرمل، إذا كان قد نسج وجهه بالسعف، وبوعد فيه بين الأشياء المنسوج بها7.
وقصد بالكرسي، الكراسي الكبيرة المرتفعة، وقد استخدم خاصة لجلوس الملوك وفي غرف الاستقبال. وقد أشير إلى الكرسي في القرآن الكريم, فورد: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
والعرش من الألفاظ الواردة في القرآن الكريم كذلك، وهو من البيت سقفه، ويجمع على عروش، والعرش شبه الهودج أيضًا. وقد يصنع من الخشب، يقوم بصنعته النجار، وقد يكون من حجارة أو غير ذلك. ومن ذلك العرش الذي يتربع عليه الملوك, والعرش: الخيمة من خشب وثمام، والتابوت أيضا أي: سرير الموت والخشب تطوى به البئر8. والعرش هو السرير الذي ينام عليه, قد يكون له حاجز يمنع النائم من السقوط، وقد لا يكون له حاجز, وهو بهذه التسمية "عرش" عند العبرانيين9.
__________
1 Rhodokanakis, Stud. Lexi, II, S. 53
2 شرح القاموس "2/ 350".
3 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني "ص14"، وسيكون رمزه: المفردات، "وقال الزجاج: فراش في حجلة. وقيل: هو السرير مطلقًا سواء كان في حجلة أو لا, أو كل ما يتكأ عليه"، شرح القاموس "7/ 1000"، شمس العلوم "1/ 72".
4 المفردات "ص228".
5 المفردات "441".
6 جامع الأصول "4/ 339"، شرح القاموس "1/ 309".
7 جامع الأصول "9/ 347"، "شرح القاموس "7/ 352".
8 المفردات "ص332"، تاج العروس "4/ 321"، "عرش"
9 Smith, Vol., I, p. 177(14/237)
وقام النجار بصنع أواني الطعام أيضًا، ولا سيما الأواني الكبار التي تستعمل في إطعام عدد من الناس في المناسبات، وتدخل بيوت الملوك وسادات القبائل والأغنياء الكرماء في الغالب وفي بعض الظروف والمناسبات، مثل المآتم والأفراح. ومنها "الجفنة"، وهي -كما يقول بعض علماء اللغة- أعظم ما يكون من القصاع، يوضع فيها الطعام؛ ليتناول منه عدد من الناس, وقد افتخر الشاعر "حسان بن ثابت" بـ"الجَفَنَات" دلالة على الكرم والجود1. و"القصعة" وهي تلي الجفنة في السَّعة، يشبع الضخم منها عشرة أشخاص2, ثم "الصحفة" وتجمع على "صحاف", وقد وردت في شعر معزوٍّ للأعشى:
والمكاكيك والصحاف من الفضة ... والضامرات تحت الرجال
وتصنع من الفضة كذلك، كما رأينا في هذا البيت المتقدم، وذكر أنها تشبع خمسة أشخاص3. ويليها في الحجم والسعة "المئكلة"، تشبع الرجلين والثلاثة, ثم الصحيفة، وتشبع الرجل4.
وتصنع بعض هذه الأواني من مواد أخرى كالأدم, أو من المعدن كما قلت في "الصحاف" حيث تصاغ من الذهب والفضة لبيوت الملوك والأمراء والشيوخ والأغنياء.
وقام النجار، ولا سيما من تخصص بالقداحة منهم، بعمل القدح النضار، وهو القدح المعمول من النضار. والنضار خشب معروف في الحجاز في أيام الرسول يكون بغور الحجاز، يعمل منه ما رقَّ واتسع وغلظ من الأقداح؛ وذلك لتحمل هذا الخشب ما لا تتحمله الأنواع الأخرى من الخشب المستخرج من الحجاز. وقد كانوا يدفنون هذا الخشب حتى ينضر، ثم يعمل فيكون أمكن لعامله في ترقيقه, وقد كان عند الرسول قدح نضار عريض. ويعبر أيضا عن الأقداح المنحوتة من الخشب بـ"الخشيب"5.
__________
1 تاج العروس "9/ 162".
2 تاج العروس "5/ 469"، "المعرب "ص274".
3 تاج العروس "6/ 161".
4 تاج العروس "6/ 161".
5 تاج العروس "1/ 233"، "3/ 571".(14/238)
كما جهز النجارون أصحاب الحرف الأخرى بالأدوات المساعدة التي تساعدهم في حرفهم، فصنع لأهل الطعام "الروسم" أو "الروشم"، وهو خشبة فيها كتاب منقوش يختم به الطعام لئلا يسرق منه، ويستخدمه الحناطون وأمثالهم من باعة الطعام، وقيل: الطابع التي يطبع به رأس الخابية, واللفظة من الألفاظ المعربة على رأي بعض العلماء1. وصنع للمزارعين "النورج"، وهو المدوس، يداس به الطعام، وقد يصنع من الحديد أيضًا2, و"الهاون"، وهو المهراس والمنحاز، ويدق به، وقد أدخل في المعربات. وقد يصنع من حجر3, فيدق اللحم أو الحبوب فيه لسحقها.
وصنع النجار "الميتدة"، وهي مطرقة من خشب, يستعملها الأعرابي بصورة خاصة لدق أوتاد خيمته في الأرض. وتعرف بـ"مقبة" "مقابة" عند العبرانيين4.
وصنع النجار أبواب البيوت، ويقال للخشبة التي تدور فيها رجل الباب "النجران", ويقال لأنف الباب الرتاج، ولمترسه القُنَّاح والنجَّاف. وعمل "النجيرة": السقيفة من خشب, ليس فيها قصب ولا غيره5.
وصنع النجار صناديق من خشب؛ لخزن الأشياء فيها، تقفل بقفل. وقد عني بزخرفتها بتلوينها أو بالحفر على أوجهها، وذلك بالنسبة للصناديق الثمينة التي تستعملها الطبقات الراقية.
وفي جملة مصنوعات النجار "الحدوج"، مركب من مراكب النساء يشبه المحفة، تركبه نساء الأعراب على الإبل. وذكر أن الحدج مركب ليس برحل ولا هودج تركبه نساء الأعراب6. والهودج مركب للنساء مقبب وغير مقبب
__________
1 المعرب "ص160"، تاج العروس "8/ 313".
2 المعرب "ص335"، تاج العروس "2/ 105".
3 المعرب "ص346"، "والهاون الذي يدق فيه، فارسي معرب"، تاج العروس "9/ 369".
4 Hastings, Dict Of the Bible, Vol. I, p. 291
5 اللسان "5/ 193".
6 تاج العروس "2/ 19"، "حدج".(14/239)
يصنع من العصي ثم يجعل فوقه الخشب فيقبب. وذكر أنه محمل له قبَّة تستر بالثياب يركب فيه النساء1.
ويستعين النجار بجملة أدوات في صنعته، بعضها من صنع الحداد؛ لأنها من الحديد، مثل الفأس على اختلاف أنواعها والمنشار والمحفرة والمحفار والمنقار والمسحل والمثقب والكلبتان والمسامير والأوتاد وغير ذلك من أدوات تستعمل في قطع الخشب وفي تنظيمه وصقله وهندسته لجعله صالحًا للعمل2. ونجد في كتب اللغة ألفاظًا عديدة تتعلق بهذا الموضوع.
ومن الأدوات التي يستعين بها النجارون في قياس تربيع الخشب "الكُوس", وهي خشبة مثلثة3.
ويستعمل النجار المنشار في قطع الأخشاب والأشجار, ويقال لنحت الخشب النشر كذلك4. أما المنقار، فهو حديدة كالفأس مستديرة لها خلف ينقر بها، ويقطع بها الحجارة والأرض الصلبة والخشب5, ولا سيما في نقش الخشب وحفره. والحفرة, وتعرف بالمحفار أيضًا، حديدة يحفر بها الشيء6، وتستعمل في حفر الخشب لأغراض متعددة، مثل نقشه أو الكتابة عليه. وأما المِحْل، فالمنحت، آلة ينحت بها الخشب كالمبرد7, والمثقب آلة يثقب بها8, والكلبتان آلة يستعملها النجار والحداد؛ يستعملها النجار في إخراج المسامير, ويستعملها الحداد في أخذ الحديد المحمي9. وأما المسامير، فما يشد به10.
ونجد في "الكتاب المقدس" -في التوراة والإنجيل- أسماء أدوات عديدة استعملها النجار في عمله، منها ما استعمل لقطع الخشب وإعطائه الشكل المطلوب،
__________
1 تاج العروس "2/ 115"، "هدج".
2 بلوغ الأرب "3/ 396 وما بعدها".
3 المعرب "ص288"، "الكوس: خشبة مثلثة تكون مع النجار, يقيس بها تربيع الخشب. وهي فارسية"، تاج العروس "4/ 236".
4 تاج العروس "3/ 565".
5 تاج العروس "3/ 580".
6 تاج العروس "3/ 151".
7 تاج العروس "7/ 372".
8 تاج العروس "1/ 196".
9 تاج العروس "1/ 461".
10 تاج العروس "3/ 278".(14/240)
ومنها ما استعمل لنشر الخشب وقصه، ومنها ما استعمل لثقبه باستعمال المثاقب الآلية أو اليدوية التي تعمل الثقوب بالطرق وبطريقة الحفر، كما أشير فيه إلى المسامير1. وقد ذكر في القرآن الكريم ألواح الخشب التي تستعمل في صنع السفن، و"الدسر" وهي المسامير, والسفن في ذلك العهد من صنع النجارين. وآلات النجارة المذكورة في التوراة وفي الأناجيل، معروفة ومستعملة عند الجاهليين, وقد تصنع الدسر من الخشب.
وهناك نجارون تخصصوا بصنع القوارب والسفن؛ لاستعمالها في صيد السمك وفي البحار للتجارة البحرية والنقل. ونظرًا لعدم وجود الأنهر الكبيرة والبحيرات في جزيرة العرب، انحصرت حرفة صنع القوارب والسفن في السواحل. ويستورد أهل هذه السواحل الخشب القوي الصلد من أفريقية والهند لصنع السفن الكبيرة التي يكون في مقدورها الابتعاد عن الساحل, والسير إلى الأماكن البعيدة.
ولا يستبعد قيام النجار الجاهلي بصنع العربات والمركبات؛ وذلك لاستخدامها في السلم وفي الحرب. فقد كان المصريون والعراقيون وأهل بلاد الشام يستخدمونها، وليس من المعقول عدم وجود علم للجاهليين ولا سيما لأهل اليمن بصنعها وبالاستفادة منها. والعربة هي "عجلة" "ع ج ل هـ" عند العبرانيين وتستخدم في نقل الحاصلات, وقد أشير إليها في التوراة2. وقد عرفت بـ"م ر ك ب هـ" "مركبة" كذلك، وبـ"مركب" أيضًا، من أصل "ركب" إحدى الألفاظ التي ترد في اللهجات السامية. وهي "مركبة" في عربيتنا و"نركبتو Narkabtu" في الآشورية و"مركبثا Markabtha" في السريانية. وقد تعني الحيوان وحده الذي يركب عليه3.
ويراد بـ"عجلة"، العربة التي تستخدم في نقل الحاصلات الزراعية في الغالب، وقد عثر على صور عربات في الآثار المصرية والآشورية واليونانية والرومانية, وبينها عربات استخدمت في القتال, ولبعضها مظلات لتحمي ركابها من الشمس والمطر. ويسحب العربات الزراعية ثور أو ثوران في الغالب, وقد
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 23"، Hastings, p. 53
2 Gen, XIV, 19, 27, Num, VII, 3, 7, 8, Smith, Dict, Vol. I, p. 281. Ency. Bib1, vol. I, P. 724, Hastings, Dict, vol. I, p. 372
3 Ency, Biblica, vol. I, p. 724 ff(14/241)
تستخدم الحمير والبغال, أما عربات القتال فتجرها الخيل. وقد كانت دواليب العربات من الخشب، إلا أنها صنعت من الحديد أيضًا. والغالب أن يكون للعربة دولابان، ولكن العربات ذات الأربعة الدواليب كانت معروفة أيضا ومستعملة، ولا سيما في أمور النقل. وقد كان الأكاسرة يستعملونها لنقل عوائلهم، ولها ستائر وسقف1.
وذكر علماء العربية أن العجلة: الدولاب2, وأن "المركب" واحد مراكب البر والبحر3. والظاهر أن العجلات والمركبات كانت نادرة الوجود في أكثر مواضع جزيرة العرب, إذ لا نجد لها ذكرًا في أخبار الإخباريين عن الجاهليين ولا في كتب اللغة.
__________
1 Smit, Dict, vol. I, P. 295, Hastings, Dict, vol. I, P. 357 Ency. Bibli, Vol. I, P. 724.
2 اللسان "11/ 428".
3 اللسان "1/ 431".(14/242)
الحدادة:
وقد دفعت حاجة الإنسان إلى المعادن لاستخدامها في أمور حربية وزراعية وفي البيت على انصرافه إلى الاشتغال بها لتحويلها إلى أشياء نافعة. فظهرت الحدادة والصياغة وأمثالها، واشتغل بعض الناس بالبحث عن الحديد وعن المعادن الأخرى واستخلاصها من المواد الغريبة المختلطة بها, كما اشتغلوا في خلط المعادن لإيجاد أنواع جديدة منها. وقد وقع ذلك بين أهل الحضر في الغالب، أما أهل الوبر، الأعراب، فلبساطة حياتهم لم يشعروا بحاجة لهم إلى هذه الصناعات، وإذا شعروا بوجود حاجة لهم فيها اشتروها من أهل المدن، واحتقروا الصناعات وأهل الصناعة والمحترفين بالحرف.
ويعرف الحدَّاد بـ"القين" كذلك عند الجاهليين1, وهو الذي يعد للزرَّاع الأدوات التي تستعمل في حرث الأرض، مثل: المسحاة والمحراث والمنجل والأدوات
__________
1 "والحداد ككتان معالجه، أي: الحديد، أي: يعالج ما يصنعه من الحرف. ومن المجاز: الحداد السجان؛ لأنه يمنع من الخروج، أو لأنه يعالج الحديد من القيود"، شرح القاموس "2/ 331"، تاج العروس "2/ 331"، "حدد".(14/242)
الأخرى، يصنعها من الحديد، كما أنه يعد للحرف الأخرى ولأهل البيوت كثيرًا من الآلات، يصنعها من الحديد. وكان فضلًا عن ذلك, الخبير الاختصاصي بصنع السلاح على اختلاف أنواعه وتجهيز الحكومات والأفراد بالسلاح الذي يستعمل في الدفاع وفي الهجوم؛ لذلك كانت حرفته مهمة خطيرة، ولا يزال الحداد يعد للناس في جزيرة العرب السلاح؛ كالسيوف والخناجر والدروع والسكاكين والنصال المعدنية وغير ذلك من أدوات كانت تستعمل في الحروب لذلك العهد، وسأفرد لها بحثًا خاصًّا.
وذكر بعض علماء اللغة أن القين هو العامل بالحديد, وقال بعض آخر: إن القين الذي يعمل بالحديد ويعمل بالكير، ولا يقال للصائغ قين. وذكر بعض آخر أن القين الحداد، ثم صار كل صائغ عند العرب قينًا, وذكر بعض آخر أن القين هو الذي يصلح الأسنة، إلى غير ذلك من آراء. وكان من بين أصحاب الرسول من كان قينًا، مثل "خباب بن الأرت"1، ذكر أنه كان يشتغل للعاص بن وائل. وكان العاص هذا من الزنادقة، ومثله: عقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وأُبيّ بن خلف2. وكان خبَّاب يضرب السيوف الجياد ويدقها، حتى ضرب به المثل، ونسبت إليه السيوف3, كما اشتهر بها رجل آخر عرف بـ"ريش المقعد"، أي: النبل, والمقعد اسم رجل كان يريش السهام4, والنبل: السهام، والنبَّال: صاحب النبال وصانعها، وحرفته النبالة5. وتحبس في الجعبة، يحملها صاحبها معه، فإذا أراد الرمي، فتحها ليستخرج منها ما يشاء.
ومن الحدادين الأعاجم الذين ذكرهم أهل الأخبار، الأزرق بن عقبة أبو عقبة
__________
1 تاج العروس "9/ 316"، "قين"، البلاذري "1/ 175 وما بعدها".
2 عمدة القاري "11/ 208 وما بعدها"، "وخباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة الخزاعي، وقيل: التيمي، وهو أصح، أبو عبد الله، من السابقين في الإسلام، وشهد بدرًا، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة سبع وثلاثين"، شرح القاموس "1/ 228".
3 تاج العروس "1/ 228".
4 تاج العروس "1/ 228".
5 تاج العروس "8/ 125".(14/243)
الثقفي، غلام الحارث بن كلدة الثقفي، ذكر أنه كان روميًّا حدادًا1.
ويرجع في رواية تنسب إلى "ابن الكلبي" مبدأ الحدادة عند العرب إلى "الهالك بن عمرو بن أسد بن خزيمة"، فهو في هذه الرواية أول من عمل الحديد من العرب، وكان حدادًا، فنسب إليه الحداد، فقيل لكل حداد: هالكي. ولذلك قيل لبني أسد: القيون، وقال لبيد:
جنوح الهالكيّ على يديه ... مُكِبًّا يجتلي نقب النصالِ2
وعرف القين الذي يقوم بطبع السيوف وصقلها بـ"الطباع" و"الصقل"3. وقد عرفت اليمن بإجادتها صنع السيوف وطبعها وصقلها، حتى اشتهرت بذلك في جميع أنحاء جزيرة العرب, واشتهرت السيوف المصنوعة من حديد بيحان بالجودة؛ لجودة حديدها وقوته4. ومن الأدوات التي يستعملها "الصيقل" في صقل السيوف "المصقلة"، وهي خرزة يصقل بها5.
ويقال: طبع الطبَّاع السيف، أي: صاغه، وكذلك طبع الطباع الدرهم. والطبع عند علماء اللغة هو الختم، والتأثير في شيء ما، وتصوير الشيء بصورة مثل طبع السكة وطبع الدرهم، وهو عندهم أعم من الختم وأخص من النقش6.
ويعتني الحداد باختيار الحديد عند صنعه السيوف الجيدة الثمينة، ويخرج منه خبثه، وينفق جهده في صقل السيف وفي إتقان عمل الحديد الملتهب قبل تبريده، وإلا صار خشنًا قليل الفائدة لا يُشترَى بثمن جيد, ويقال لهذا النوع من السيوف الخشنة: الخشيب. وتستعمل اللفظة في الضد أيضا، فتطلق على السيف الصيقل، وتطلق على السيف الحديث الصنعة كذلك7.
ومن أنواع الحديد الجيد الذي يستخدمه الحداد في صنع المصنوعات الثمينة، "الفالوذ" أي: "الفولاذ", ويقال له "بلدو" Poldo في السريانية و"فلدة"
__________
1 البلاذري "1/ 157"، "الإصابة "1/ 29".
2 اللسان "10/ 507"، "الهالك بن مراد بن أسد بن خزيمة"، العمدة "2/ 232".
3 بلوغ الأرب "3/ 401 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 404".
4 بلوغ الأرب "1/ 204".
5 تاج العروس "7/ 403".
6 تاج العروس "5/ 438".
7 تاج العروس "1/ 233".(14/244)
"فلداة" في العبرانية, وتصنع منه الأسلحة بصورة خاصة1. وهو معروف في العربية، وعرف بقولهم: "وهو مصاص الحديد, المنقى من خبثه"2.
ويستعين الحداد بأدوات في طرق الحديد وفي تغيير شكله على النحو المطلوب. ومن أهم هذه الأدوات "الكير"، وهو المنفاخ، وهو زقّ ينفخ فيه الحداد، أو جلد غليظ ذو حافات، يستعمل لإثارة النار وإيقادها؛ كي ترتفع درجات حرارتها فتؤثر في الحديد وتجعله لينًا يسهل طرقه وإعطاؤه الشكل المطلوب3. والكور وهو مجمرة الحداد, وهي مبنية بالطين وبالحجارة، وتوقد فيها النار، ويسلط عليها الكير، ويوضع الحديد على النار ليحمى ويلين4. ومن أصل "كوّر" "كور" و"كير"، ويراد بها الموضع الذي تحرق فيه القرابين من بخور وذبائح, تهيأ للحرق تقربًا إلى الآلهة5. ويعرف الكور بـ"كور" عند العبرانيين, وقد وردت اللفظة في التوراة6.
ويطرق القين الحديد المحمى على "السندان"؛ ليحوله إلى الشكل الذي يريده, ويعرف بـ"العلاة" أيضا7.
وقد استغل اليهود أنفة أهل المدينة والعرب الصرحاء من الاشتغال بالحدادة، فاحتكروها لأنفسهم، وربحوا منها ربحا طيبا، وذلك بإنتاجهم الأدوات والآلات الزراعية وبصنعهم الأسلحة اللازمة لكل إنسان لحماية نفسه، مثل صنع السيوف والخناجر والدروع. وقد سلحوا أنفسهم بها، كما باعوا منتوجهم لغيرهم. وتصنع الدروع من الحديد الثقيل، كي تقاوم قراع السيوف8. وقد تزرد الدروع؛ لتقاوم في الدفاع، ويقال عندئذ: "درع مزرود"9.
والسرد عند علماء اللغة نسج الدرع، وهو تداخل الحلق بعضها في بعض.
__________
1 Smith, Dict. Of the Bible, Vol. III, p. 1377
2 اللسان "3/ 503".
3 عمدة القاري "11/ 220"، تاج العروس "3/ 532"، مجمع الأمثال "1/ 6".
4 تاج العروس "3/ 530، 532".
5 Rhodokanakis, Stud., II, S. 33, 170
6 Smith, Dict. Of the Bible, Vol. I, p. 637
7 شرح ديوان لبيد "ص96".
8 تاج العروس "5/ 325".
9 تاج العروس "2/ 363".(14/245)
والسرد اسم جامع للدروع وسائر الحلق, وسمي سردًا؛ لأنه يسرد فيثقب طرفا كل حلقة بالمسمار، فذلك الحلق المسرد, والمسرد هو المثقب, وهو السرَّاد1. ويراد بالحلقة السلاح عامًّة، قيل: الدرع خاصة، وإنما ذلك لمكان الدروع ولشدة غنائه. وقد سمى "النعمان" دروعه حلقة2.
وتصنع النصال من الحديد أيضًا, والنصل حديدة السهم والرمح، ويقال: نصل السيف ونصل السكين. وقد ذكر أيضًا أن نصل السيف حديدة السيف ما لم يكن له مقبض, فإذا كان لها مقبض، فهو سيف. وقيل: إنه النصل السهم العريض الطويل، والمشقص على النصف من النصل3.
ومن المجاز: الحداد السجان؛ لأنه يمنع من الخروج, أو لأنه يعالج الحديد من القيود. وفي هذا المعنى ورد:
يقول لي الحداد وهو يقودني ... إلى السجن: لا تفزع فما بك من باس
والحداد البواب؛ لأنه يمنع من الخروج4.
والعتلة: حديدة كأنها رأس فأس عريضة، في أسفلها خشبة تحفر بها الأرض والحيطان، وليست بمعقفة كالفأس، ولكنها مستقيمة مع الخشبة، أو هي العصا الضخمة من حديد, لها رأس مفلطح، يهدم بها الحائط. وقيل: هي بيرم النجار5.
ومن مصنوعات الحداد "الإبزيم"، وهو حلقة لها لسان يدخل في الخرق في أسفل المحمل، ثم تعض عليها حلقتها، والحلقة جميعها "إبزيم", وقد أدخلها الجواليقي في باب المعربات6 من الفارسية. ومن مصنوعات الحداد "المقدحة"، الأداة التي استعان بها الإنسان في إيجاد النار, وهي حديدة يقدح بها حجر يوضع عليه مادة قابلة للالتهاب ولأخذ النار، مثل الصوف، فيورى منها النار7.
__________
1 تاج العروس "2/ 375".
2 تاج العروس "6/ 319".
3 تاج العروس "8/ 136".
4 تاج العروس "2/ 331"، "حَدَّ".
5 تاج العروس "8/ 3".
6 المعرب "ص24"، تاج العروس "8/ 202".
7 تاج العروس "2/ 202".(14/246)
ويهيئ الحداد أقفال الأبواب، وقد يصنعها النجار أيضا. ويُوضَع خلف الباب وتد من حديد لتسميره، فلا يمكن فتحه1، كما يهيئ البيت بما يحتاج إليه من أدوات تستعمل في الطبخ وفي الغسيل وفي الزينة. ويجهز الرجل والمرأة بالأدوات المساعدة للتجميل كـ"المدرى"، وهو شيء يسرح به شعر الرأس محدد الطرف من حديد، وقد يصنع من غيره مثل الخشب, وهو كسنّ من أسنان المشط، أو أغلظ قليلًا، إلا أنه أطول2.
وقد ذكر أصحاب اللغة بعض أسماء الآلات والأدوات التي كان يستعملها الحدادون في حرفتهم، نذكر بعضًا منها، مثل: "القرزم"، و"العلاة", والقرزم: لوح الإسكاف المدور, و"المِطرقة"، و"الفطيس" وهي أكبر من المطرقة، وهي "الميفعة" أيضا, و"المِبرد" الذي يبرد به الحديد، و"البرادة" ما سقط منه3. وأما "فسالة الحديد" فما تناثر من الحديد عند الضرب إذا طبع، و" المشحذ" مبرد للحديد، أعظمها وأخشنها. وقال بعض اللغويين: المشحذ المسنُّ، و"المفراص" وهو للحديد كالمقراض للثوب، والمنفاخ "المنفاخة" وهو ما ينفخ به الكير، والكير الذي ينفخ فيه4. وأما المبني من الطين، فهو الكور, و"المشرجع": مطرق لا حروف لنواحيه، ومطرقة مشرجعة: مطولة ولا حروف لنواحيها. أما إذا كان الشيء مربعًا، وقد نحتت حروفه، قيل له: "شرجعة". و"العسقلان"، أصغر مطرقات الصائغ, و"الغُداف": الحديدة التي يدخل في أحد طرفيها الخاتم ويركزها على الجبأة، والخشبة التي بين يديه. أما "الحِملاج"، فمنفاخ الصائغ، وهو حديدة مجوفة ينفخ فيها الصائغ، إذا أراد النفخ في كيره, وله الكلبتان والمثقب5.
وقد وردت في التوراة لفظة "أج ن" "أجن"6، وهي "إجانة" و"إجان" في العربية, وهي إناء يعجن فيه العجين، أو يوضع فيه سائل أو أية مادة أخرى.
__________
1 المعرب "ص264".
2 جامع الأصول "7/ 571".
3 شمس العلوم "1/ 145".
4 المغرب "2/ 220".
5 أخذت ذلك من بلوغ الأرب "3/ 403 وما بعدها".
6 Hastings, Dict. Of the Bibl., Vol. I, p. 533(14/247)
ولا تزال الكلمة حية معروفة، وتصنع من المعدن في الغالب، ولكنها قد تصنع من خشب في بعض الأحيان.
ويستخدم الحداد المطرقة في طرق الحديد المحمى؛ لتحويله إلى الشكل المطلوب, ويقال للمطرقة الكبيرة: "الفطيس"، وتقابلها لفظة "بطيش" Pattish عند العبرانيين1, وقد أشار علماء اللغة إلى "الفطيس"2. ويستخدم الـ"قدوم"، وهي مطرقة كذلك، تسمى بـ"قردم" "قردوم" عند العبرانيين3, وذكر علماء العربية أن "القدوم" التي ينحت بها4.
ومن أنواع المطارق مطرقة دُعيت بـ"جرزن" عند العبرانيين، وتستخدم في القطع: في قطع الأشجار والأخشاب التي تستعمل في البناء. ويرى بعض العلماء أنها أخف من "القردم"5, وبين "جرزن" و"الجرز" اللفظة العربية تقارب وارتباط. وقد ذكر علماء اللغة أن "الجرز" من السلاح، والعمود من الحديد, وأن الجراز بمعنى: قاطع؛ ولذلك قالوا: سيف جراز ومدقة جراز6. وهي الفاس في العبرانية، ولعلها بهذا المعنى في العربية أيضا, وتستعمل لقطع الأحجار والأخشاب ولتكسيرها7.
والمطارق الحديثة المستعملة في الشرق الأوسط وفي بلاد العرب، لا تزال محافظة على شكلها وهيئتها التي كانت عليها عند الجاهليين وعند غيرهم قبل الإسلام, كما يظهر ذلك من النماذج التي عثر عليها ومن صور المطارق المصورة على بعض الآثار. وبعض هذه المطارق ذات رأسين، وبعضها ذات حافتين, ويختلف شكلها باختلاف المهمة التي تستخدم فيها. واستخدمت المطارق في الحروب كذلك، حملها المحاربون معهم في قتال الأعداء وفي فتح الثغرات في الجدر والأسوار وتحطيم الدبابات والآلات الأخرى المستخدمة في حروب تلك الأيام.
__________
1 Hastings Dict. Of the Bible, Vol. I, p. 291
2 شمس العلوم "1/ 145"، المغرب "2/ 220".
3 Smith, Dict., Vol. I, p. 142
4 اللسان "12/ 417".
5 Hastings Dict, Vol. I, p. 205, Smith, Dict., Vol. I, 141 f., Ency. Bibll., Vol. I, p. 392.
6 اللسان "5/ 317".
7 The Bible, Dictionary, I, p. III(14/248)
الصياغة:
و"الصائغ": من يحترف الصياغة، وذلك في اللهجة العربية الشمالية، ويشتغل في صياغة الذهب والفضة, وقد كان بين أصحاب الرسول من احترف هذه الحرفة. وقد ورد عن أبي رافع الصائغ, أن عمر بن الخطاب كان يمازحه بقوله: "أكذب الناس الصواغ، يقول اليوم وغدًا"1. وكلام عمر بن الخطاب هذا يدل على أن الصاغة لذلك العهد كانوا يخلفون أيضا في المواعيد، ولا يحافظون على الأوقات.
وقد تحدث بعض الكَتَبَة اليونان عن أثاث وحليّ مصنوعة من الذهب والفضة، ذكروا أن السبئيين كانوا يستعملونها في بيوتهم، ولكننا لم نقف على شيء مهم من ذلك، إلا قطعًا متآكلة من المعدن وصلت إلينا، لتتحدث عن عمل الصاغة والحدادين في العربية الجنوبية, وأكثرها من المصنوعات المعمولة من البرنز. فلدينا مصباح من البرنز مصاب ببعض العطب، عثر عليه في "شبوة"، على طرفه جسم "أيل" جميل، صنع وكأنه متهيئ للوثوب. وهناك قطع أخرى تمثل إحداها جملا، وأخرى حصانا، كما عثر على عصي مصنوعة من البرنز، وعلى ألواح من هذا المعدن أيضا, عليها كتابات, وهي محفوظة في المتاحف الأوروبية. وهذا الذي عثر عليه هو شيء قليل بالطبع بالنسبة إلى ما سيعثر عليه، متى سمح للآثاريين بالبحث عن الآثار والكشف عن المطمور في جزيرة العرب، ولا سيما في العربية الجنوبية, حيث تشاهد تلول من الأتربة منتشرة تضم تحتها كنوزًا ثمينة من الآثار.
ويقال للذهب: الأنضر، وقد ذكر بعض علماء اللغة أن لفظة الأنضر اسم للذهب والفضة، وكذلك النضار. أما النضرة فإنها السبيكة من الذهب, ونُضار الجوهر الخالص من التبر2.
وقد عرف التبر بأنه الذهب كله، وقيل: هو من الذهب والفضة وجميع جواهر الأرض من النحاس والصفر والشبه والزجاج وغير ذلك مما استخرج من المعدن قبل أن يصاغ ويستعمل. وقيل: التبر هو الذهب المكسور، وقيل: الفتات
__________
1 تاج العروس "6/ 23".
2 تاج العروس "3/ 571".(14/249)
من الذهب والفضة قبل أن يصاغا، فإذا صِيغا فهما ذهب وفضة, وورد التبر ما كان من الذهب غير مضروب فإذا ضرب دنانير فهو عين. وقد يطلق التبر على غير الذهب والفضة من المعدنيات؛ كالنحاس والحديد والرصاص، وأكثر اختصاصه بالذهب, وورد في الحديث: "الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها1". وأما "الجذاذ"، فإنه حجارة فيها ذهب، أي: الحجر الذي يقلع من مناجم الذهب، ثم يسحن بالمساحن لاستخلاص الذهب من المواد الأخرى, والمسحنة: حجر يدق به حجارة الذهب2.
والحلي، ويراد بها ما يزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة3، هي من أهم أعمال الصائغ عند الجاهليين، يقوم بصنعها من الذهب أو الفضة، ويزينها ببعض الحجارة في بعض الأحيان, وقد اشتهر "بنو قينقاع" في منطقة "يثرب" بإجادتهم حرفة الصياغة وإتقانهم لها. ومن هذه الحلي ما يعلق على الصدر، ومنها ما يوضع في الأيدي أو في الأصابع، ومنها ما يوضع حول الساق, وما يعلق في مواضع أخرى من الجسد مثل الأذنين أو الأنف أو على الجبين، كما أن بعضه مما يحلى به الحيوان أو الأشياء النفيسة في البيت.
ومن الحلي المشهورة عند الجاهليين القلادة, وتصنع من الذهب أو الفضة في الغالب، وقد تكون من ربط حجارة أو عظام أو خرز بعضها إلى بعض, وتربط حول العنق، وتتدلى على الصدر, على أن القلادة في اللغة لفظة عامة تطلق على أمور كثيرة. وقد كان الجاهليون يضعون قلادة في عنق البدن، مثل عروة مزادة، أو خلق نعل، أو غير ذلك؛ ليعلم أنها هدي. كما كانوا يقلدون الإبل بلحاء شجر الحرم، ويعتصمون بذلك من أعدائهم4.
والأسورة من أدوات الزينة كذلك, وقد استعملها أهل الجاهلية، تضعها المرأة في يديها. ويذكر علماء اللغة أن "السوار" الفظة معربة، عربت من الفارسية وأصلها في الفارسية "ستوار"، فأخذها العرب وعربوها, واشتقوا منها "سوَّرت
__________
1 اللسان "4/ 88".
2 المعاني الكبير "2/ 848".
3 تاج العروس "6/ 23".
4 تاج العروس "2/ 475"، "جامع الأصول "5/ 409".(14/250)
الجارية" و"جارية مسوّرة"1. على أن بعض المحاربين كانوا يستعملون الأسورة، ويتباهون بها في الحروب.
وأما "العصمة"، فقيل: إنها القلادة، وقيل: إنها شبه السوار، توضع حول اليد. وأما المعصم، فإنه موضع السوار من اليد أو الساعد2. وأما القرط، فمن حلي الأذن يعلق بشحمة الأذن3، سواء أكان درّة أم ثومة من فضة أم معلاقًا من ذهب4.
والخلخال من أدوات الزينة التي تستعملها النساء، يوضع على الساق, يصاغ من الذهب أو الفضة5. وقد يحشى بالقار، كما تحشى الأسورة أيضا في بعض الأحيان لتبدو غليظة, ويستعمل القير والقار في طلي السفن؛ لمنع الماء من الدخول فيها. والعرب تسمى الخضخاض قارا، وهو قطران وأخلاط تهنأ بها الإبل. وقد ذكر أنه صعد يذاب، فيستخرج منه القار6. ولا يزال أهل البادية والقرى يتحلون بالخلخال, وللأجراس الصغيرة التي تعلق به رنين خاص ونغمات. وهو من أدوات الزينة المستعملة بين شعوب الشرق الأوسط منذ القديم, وقد أشير إليه في التوراة7.
وقد نهى الإسلام عن تبختر النساء بالخلاخل، وإثارتهن نغماتها؛ لما في ذلك من إثارة للرجال وتأثير عليهم8.
والخاتم من عمل وصنع الصائغ، وهو من حلي الإصبع، ويحلى بالحجارة الكريمة في الغالب، مثل الياقوت والماس والشذر وغير ذلك. ويستعمل الخاتم للختم كذلك, أي: للطبع بدلًا من التوقيع، وذلك بحفر رمز أو كلمة أو عبارة أو اسم صاحب الخاتم على الخاتم، فإذا أريد كتابة كتاب أو تصديق قرار أو وثيقة ختم به على
__________
1 تاج العروس "3/ 283"، المفردات "ص274"، جامع الأصول "5/ 408".
2 تاج العروس "8/ 400".
3 جامع الأصول "7/ 526"، المغرب "2/ 117".
4 تاج العروس "5/ 202".
5 قال امرؤ القيس:
كأني لم أركب جوادًا للذة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
تاج العروس "7/ 309".
6 المعرب "ص266".
7 Hastings, Dict. Of the Bible, I, p. 99
8 السورة 24, الآية 31.(14/251)
الشيء المراد ختمه، فيقوم إذ ذاك مقام التوقيع والاعتراف بصحة المذكور. ويقال لما يوضع على الطينة وما يختم على اللبنة الخاتم كذلك1؛ ولذلك عد الخاتم عند الشعوب القديمة رمزًا للتفويض والتصديق والملك. وختم الملك يدل على إرادة الملك ورضائه وأمره؛ ولذلك قيل: خاتم الملك2.
وقد يصنع الخاتم من الشبه أو الصفر أو الحديد، ويعمل على صور وأشكال متعددة متنوعة. وقد كان خاتم رسول الله من حديد ملوي، عليه فضة3.
وفي المتاحف وعند الناس عدد كبير من الأختام، عثر عليها في مواضع متعددة من جزيرة العرب. وهي تكون عند علماء الآثار دراسة خاصة؛ لما كان لها من أهمية عند الشعوب القديمة, ولما في بعضها من دقة في الصنعة ومن تفنن وإبداع. وبعض هذه الأختام مستورد من الخارج وبعضه متأثر بالأختام الأجنبية، مثل: الأختام العراقية أو الأختام اليونانية أو الفارسية.
ويقوم الصائغ بعمل الزينة للرأس، ومنها التيجان, وقد كان ملوك الحيرة يضعون التيجان على رءوسهم. وقد ورد في شعر لمالك بن نويرة أن تاج النعمان بن المنذر كان من الزبرجد والياقوت والذهب4.
ومن حلي النساء الفتخ والخُرص والسخاب والحلق, وقد حلي بها الأولاد كذلك5, وكذلك المسكة من ذهب والسلسلة والأطواق والأجراس والجلاجل. ويراد بالفتخ الخواتيم الضخام, يكون في اليد والرجل، بفص وبغير فص. وقيل: الخاتم أيًّا كان، أو حلقة من فضة6. وأما المسكة، فسوار من ذبل أو عاج، فإذا كانت من غيرهما أضيفت إلى ما هي منه7, وتوضع السلسلة في العنق، وأما الأجراس فتوضع في الأرجل8.
__________
1 تاج العروس "8/ 266"، اللسان "12/ 163"، "صادر".
2 Smith, Vol. III, p. 1044
3 جامع الأصول "5/ 402".
4
لن يذهب اللؤم تاج قد حييت به ... من الزبرجد والياقوت والذهب
المعرب "ص356"، تاج العروس "2/ 12".
5 جامع الأصول "5/ 404 وما بعدها".
6 جامع الأصول "5/ 408"، تاج العروس "2/ 270".
7 جامع الأصول "5/ 493".
8 جامع الأصول "5/ 410".(14/252)
ومن الحلي: "الحُبلة": ضرب من الحلي يصاغ على شكل ثمرة "الحبلة", يوضع في القلائد في الجاهلية1.
ويقال للنقوش والزينة المزوقة والتصاوير المموهة بالذهب "الزخرف". وذكر علماء اللغة أن "الزخرف" الذهب, وهو الأصل، ثم قيل لكل زينة زخرف، وكذلك كل شيء مُوّه به. وقد ورد في كتب الحديث والأخبار أن الكعبة كانت قد زينت بالزخرف، أي: بنقوش وتصاوير، وكانت بالذهب. فلما كان يوم الفتح، لم يدخل الرسول الكعبة، حتى أمر بالزخرف فنحي، وبالأصنام فكسرت، فدخل بعد ذلك الكعبة2.
وقد ألف أهل مكة وغيرهم استعمال الآنية المصنوعة من الذهب والفضة، فاستعملوا الأكواب والأباريق والكئوس والقوارير والأواني, وبعضها عليه صور مرسومة أو محفورة. وقد أشير في القرآن الكريم إلى هذه الأواني، وذكرت في كتب الفقه، وقد ورد النهي عن الشرب بأواني الذهب في الحديث3، وفي ذلك دليل على وجودها واستعمالها عند العرب قبل الإسلام.
وقد ذكر علماء اللغة أن من الأواني المستعملة من الفضة الجام4، وعرفوا الكوب بأنه كوز لا عروة له، أو هو المستدير الرأس الذي لا خرطوم له. وقد ذكر في شعر عدي بن زيد العبادي5، وفي شعر نفر آخر من الشعراء الجاهليين ممن ألفوا الحضارة. وورود "أكواب" جمع "كوب" في القرآن الكريم، دليل على استعمال أهل مكة للأكواب.
واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية, وتقابل لفظة Cup في الإنجليزية. وقد أخذت من هذا الأصل اليوناني.
والكوب، هو في معنى "كوس" عند العبرانيين، أي: كأس في عربيتنا. وتصنع الكئوس من المعدن، كما تعمل من الطين, وعُمِلَتْ كئوس الملوك وكبار
__________
1 اللسان "11/ 140".
2 تاج العروس "6/ 126".
3 شمس العلوم "1/ 103".
4 تاج العروس "8/ 234".
5
متكئًا تصفق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب
تاج العروس "1/ 464".(14/253)
الأغنياء من الذهب والفضة. ولبعضها يد أو علَّاقة ليحمل الكأس بها1, وقد ذكرت لفظة "كأس" في القرآن الكريم.
واستعمل أهل مكة الأباريق المصنوعة من الذهب والفضة كذلك. وقد ذهب علماء اللغة إلى أن لفظة "إبريق" لفظة معربة، أصلها فارسي هو: "آب رى". وقد وردت لفظة "الأباريق" في القرآن، كما وردت لفظة "إبريق" في شعر منسوب إلى عدي بن زيد العبادي2.
وأخذ تجار مكة من الفارسية بعض الألفاظ الحضارية التي لها علاقة بالصياغة، بحكم اتصالهم بالعراق، مثل لفظة "زركش"، وهي من أصل فارسي معناه: الراسم والناقش على الذهب3.
وصاغ الصياغ خرزًا من الفضة، جعلوه على أمثال اللؤلؤ، وعرف عندهم باسم "الجمان", وقد وردت لفظة "جمانة" في شعر منسوب للبيد. وذكر الجواليقي أن اللفظة معربة من أصل فارسي، وأنها تكلمت بها العرب قديمًا4.
ويصنع الصائغ إطارات للمرائي، جمع المرآة، وهي ما تراءيت فيه، وما ترى فيه صور الأشياء5. وقد يصنع الصائغ المرآة على هيئة سبيكة مصقولة من الفضة, إذا نظر إليها بان وجه الإنسان. وقد ذكر العلماء نوعًا من المرائي دعوه "السجنجل"، وقد وردت هذه اللفظة في معلقة امرئ القيس، وذكر العلماء أن اللفظة معربة من أصل رومي6.
وقام الصائغ بعمل كل ما طلب منه، فعمل قبيعة السيف من الذهب والفضة وزين السيوف بالذهب والفضة. بل صنع بعضهم أنوفًا من ذهب لمن أُصيبت
__________
1 Smith, Vol. I, p. 372
2
ودعا بالصبوح يومًا فقامت ... قينة في يمينها إبريق
تاج العروس "6/ 286"، وورد "فجاءت"، المعرب "ص23"، شمس العلوم "1/ 145".
3 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق "ص381، تموز 1960".
4 المعرب "115"، تاج العروس "9/ 163".
5 تاج العروس "10/ 139".
6 المعرب "ص179".
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
تاج العروس "7/ 371".(14/254)
أنوفهم. فذكر أن صائغًا صنع أنفًا من ذهب لعرفجة بن سعد، وكان قد أصيب أنفه يوم الطلاب في الجاهلية1.
وزينت الدروع والدرق بالذهب كذلك, ووجد الصائغ عملًا مهمًّا له في المعابد، إذ أمدها بزخارف مموهة بالذهب وضعت على أبوابها, وعلى الأماكن المقدسة فيها. كما أمدها بالتماثيل المصنوعة من الإبريز وبالقناديل والمصابيح المصنوعة من الذهب والفضة.
ومن أدوات الصاغة المهمة التي يستعملونها في صناعتهم "الحماليج"، وهي المنافيخ، وتستخدم في إيقاد النار وفي زيادة لهبها؛ كي تتمكن من صهر المعدن أو جعله لينًا, ليحوله الصائغ على الشكل الذي يريده2.
ومن الأدوات المصنوعة من الحديد ومن النحاس والبرنز أيضًا "التور"3 و"الطست"4 و"الطاجن"5، وهي أوانٍ يوضع فيها الماء في الغالب. وذكر بعض علماء اللغة أنها كلها ألفاظ معربة من الفارسية6.
وقد عرف التور بأنه إناء من الأواني، وقيل: إنه إناء من صفر أو حجارة كالإجانة, وقد يتوضأ منه7.
ومن الأدوات التي يصنعها النحاسون "القمقم", ذكر بعض علماء اللغة أنه الجرة أو ما يستقى به من نحاس8. واللفظة ما تزال حية معروفة في العراق،
__________
1 جامع الأصول "5/ 410 وما بعدها"، اللسان "8/ 259".
2 المعاني الكبير "2/ 763".
3 المعرب "ص86"، تاج العروس "3/ 70".
4 المعرب "ص86"، تاج العروس "1/ 563"، المغرب "2/ 14"، فرائد اللغة "ص238".
5 "الطجن: القلو، دخيل في العربية ... والمطجن, كمعظم: المقلو في الطاجن"، تاج العروس "9/ 268".
6 المعرب "ص86".
7 اللسان "4/ 96".
8 المعرب "ص260": والقمقم كهدهد: الجرة عن كراع, وأيضًا آنية من نحاس وغيره، يسخن فيه الماء، ويكون ضيق الرأس. قال الأصمعي: هو رومي معرب "كمكم" بكافين عجميتين. وقال عنترة:
وكان ربا أو كحيلا معقدا ... حش القيان به جوانب قمقم
ومنه استعير لإناء صغير من نحاس أو فضة أو صيني يجعل فيه ماء الورد، تاج العروس "9/ 33".(14/255)
تطلق على وعاء يوضع فيه ماء الورد، يسكب منه في المآتم خاصةً.
وقد اشتهرت بعض مواضع اليمن بالمعادن، وتُعرَف الأرضون المحتوية على خاماتها بـ"مَعْدِن" عند أهل الأخبار. ويذكر بعد هذه اللفظة اسم المكان الذي يوجد فيه المعدن ثم نوعه، فقد ورد مثلًا "معدن عشم" و"معدن ضنكان"، وقد اشتهرا بالذهب, وذكر أن ذهبهما من النوع الجيد الجليل. أما "معدن القفاعة" ففيه ذهب كذلك، لكنه دون ذهب المعدنين المذكورين، وهو خير من ذهب "معدن بني محيد"1.
وقد استغل الناس مناجم الذهب والفضة والحديد، وعثر عند بعضها على أدوات استخدمت في إذابة المعدن؛ لاستخلاصه من المواد الغريبة العالقة به. وقد ذكر "فؤاد حمزة" في كلامه على جبل "تَهْلَل" بجوار السودة في عسير، وبه معدن الحديد2، أنه عثر فيها على آثار عشرات النقر لإذابة المعادن. وقد كانوا يضعون خام الحديد المستخرج من منجمه في هذه النقر ومعه الخشب والأغصان التي توقد لإيجاد النار الكافية لإذابة المعدن, واستخلاصه من المواد الغريبة المختلطة في خامه. فإذا ذاب المعدن وخلص من المواد الغريبة التي كانت ممتزجة به، عُولِج معالجةً خاصةً لتنقيته ولاستخراج فحمه والمواد الأخرى التي تجعله هشًّا قابلًا للكسر والثلم بسهولة. وقد يعالج جملة مرات إن أريد استعماله في أمور تستدعي استعمال حديد نقي صافٍ, في مثل السيوف الجيدة التي بجب صنعها من هذا الحديد.
واستعمل الأتون أيضا في إذابة المعادن لتنقيتها وإذابتها ولإحالتها إلى الشكل المطلوب. وتوقد النيران في أسفل الأتون؛ لتذيب المعدن وتحيله إلى سائل يسيل من فتحة تقع في جانبه ليحوله المعدن إلى الشكل الذي يريده. ويخرج الدخان من فتحة تكون في نهاية موقد النار، وتقوم هذه المدخنة بتهوية الموقد في الوقت نفسه. وطريقة إذابة المعادن وتنقيتها هذه، معروفة عند الرومان واليونان والفرس والعبرانيين, ويطلق العبرانيون على الأتون، لفظة "أتون" كذلك3.
وأشير إلى معادن أخرى في اليمن، منها: الفضة، وقد وجد في "معدن
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 204".
2 في بلاد عسير: "ص113 وما بعدها".
3 Smith, Dict. Of the Bible, Vol., I, p. 637(14/256)
الرصاص"، موضع بين "فهم" من همدان، بين خولان العالية ومراد، ومعها الرصاص، وعليه كان اعتماد أهل اليمن. وكان في الموضع قرية تسمى "قرية الرصاص"، وأهلها من العرنيين, وقد ارتدوا، فقتلهم رسول الله1. وعرف الرصاص الخالص بالآنك2, وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها من أصل آرمي هو "أنكو" Anko3.
ومن المعادن: الجزع، واليفران، والعقيق, وهو في مواضع عديدة من اليمن، بعضه بعدن أبيض، وبعضه بأرض وادعة بين صعدة والحجاز، وفي نجران وبيحان4.
والنحاس، هو "نحشت" في العبرانية, ويعرف بـ"صبرو" Siparu في البابلية. ومن هذه اللفظة "الصفر"، المستعملة في العراق بمعنى نحاس5. وذكر علماء اللغة أن النحاس ضرب من الصفر والآنية شديدة الحمرة6, وذكروا أن الصفر: النحاس الجيد، وقيل: ضرب من النحاس, والصفار: صانع الصفر7.
وقد عرف المشتغلون بالمعادن طريقة خلط المعادن، فاستعملوها في أغراض شتى. فخلطوا بين الفضة والرصاص أو النحاس في صنع النمي، وهي الفلوس, وكانت في الحيرة على عهد النعمان بن المنذر8. وخلطوا الحديد بمعادن أخرى؛ ليتناسب مع طبيعة الأشياء التي يراد صنعها منه, ويكون خلط المعادن بنسب مقدرة معلومة؛ كي تؤدي الغاية المرجوة منه. ومن هذه المعادن: الشبه, وقد ذكر علماء اللغة أنه ضرب من النحاس, يلقى عليه دواء فيصفر9.
وفي العبرية لفظة "فولاذ"، وتعني معنى Steel في الإنجليزية، أي: نوعًا خاصًّا من أنواع الحديد, وتقابل لفظة "فلدو" "بلدو" في السريانية و"فلداة"
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 204".
2 شمس العلوم "1/ 102".
3 غرائب اللغة "ص172".
4 بلوغ الأرب "1/ 204".
5 Ency. Bibli. Vol, I, p. 893
6 اللسان "6/ 227".
7 اللسان "4/ 461".
8 تاج العروس "9/ 85".
9 اللسان "13/ 505".(14/257)
في العبرانية. ويظهر أن الفولاذ كان معروفًا عند الشعوب القديمة قبل الميلاد1.
ولم يختلف أهل اليمن القدماء عن أهل اليمن المحدثين في طرقهم البدائية في استخراج المعادن واستخلاصها من خاماتها، ولا يزال أهل اليمن يضرمون النار في الحجارة المحتوية على المعدن، فيسيل المعدن بتأثير الحرارة، فإذا سال سكب عليه الماء، فيبرد، وتتكون قطع منه، يستعان بها في صنع ما يحتاجون إليه من آلات وأدوات.
ولا يزال كثير من سكان جزيرة العرب يمارسون الصناعات على الطريقة القديمة، يعتمدون فيها على الأيدي وعلى الآلات البدائية التي ورثوها من الماضي، فيدبغون الأدم على طريقتهم الموروثة، ويصنعون سرج الخيل وهوادج الإبل، والأحذية، وينسجون الأنسجة من صوف الأغنام أو الماعز أو الوبر، للملابس، ولبيوتهم التي تنتقل بتنقلهم.
والعِطارة من الحرف القديمة المعروفة، وقد ذكرت في التوراة2. والعطَّار وإن كان اسمه قد جاء من العطر بسبب تعاطيه بيع الطيب والعطور، يبيع أيضا مختلف الأعشاب والعقاقير والأدوية. فهو صيدلي في الواقع، وإليه تأتي وصفة الطبيب تعيّن الأعشاب والعقاقير التي يحتاجها المريض. وقد كان العطارون يبيعون في مكة ويثرب وأماكن أخرى أنواع العطور والطيوب، وفي جملتها المسك. وقد ضرب الرسول المثل "بصاحب المسك" أي: العطار، إذ جعله مثال الجليس الصالح3 للرجل.
ويبيع العطارون عدة أشياء تستعمل في الطب وفي الطعام، مثل الزعفران والكركم وهو أصغر، وذكر أنه "الهُرد"، وهو عروق يصبغ بها4. ومثل "المصطكا"، وهو علك رومي، ويدخل في الأدوية أيضًا5.
وقد يحمل العطارون آلتهم معهم، يضعونها في خريطة من أدم، يطلقون عليها "القفدانة" و"القفدان". وهي لفظة فارسية معربة، وتطلق على المكحلة كذلك, كما يقول بعض علماء اللغة6.
__________
1 Smith, A dicti. Of the Bible, Vol, III, p. 1377
2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 22".
3 عمدة القاري "11/ 220".
4 المعرب "ص291".
5 المعرب "ص320".
6 المعرب "ص263"، تاج العروس "2/ 474".(14/258)
حرف الإعاشة:
وأعني بها الحرف التي تهيئ الأكل للإنسان من تقديم أكل وشراب وما يتعلق بهما من أعمال مساعدة في تهيئة ذلك, فيدخل فيها طحن الحبوب والطبخ والخبز والأواني التي يوضع فيها الطعام وما شابه ذلك من أمور.
ولا بد للإنسان من سحق الحبوب وطحنها؛ ليكون في إمكانه أكلها والاستفادة منها. لذلك فقد يدقها دقا بين حجرين أو بآلات صلبة، ثم يلهم الحبوب المدقوقة لهمًا أو يحمصها على النار أو يمزجها بمادة أخرى؛ لتكون طيبة المذاق, مستساغة في الطعم. وقد يطحنها طحنًا، أي: يحولها إلى دقيق بواسطة الرحى، وهي حجران من حيث الأساس, أحدهما ثابت وهو الأسفل، والآخر متحرك وهو الحجر الأعلى وهو أصغر قليلًا من الحجر الأسفل، به فتحة توضع الحبوب بها فتنزل منها إلى سطح الحجر الثاني، فتقع بواسطة حركة الحجر الأعلى بين الحجرين وتداس فتسحق، وبواسطة استمرار الحركة وثقل الحجر الأعلى تتحول الحبوب إلى طحين يخرج من بين الحجرين إلى الخارج, حيث يسقط في حفرة أمامية عملت لتجميع الطحين بها، وذلك فيما إذا كان الحجر الأسفل مبنيًّا على قاعدة، أما إذا كان متحركًا فيسقط الطحين على أطراف الرحى على قماش أو أي شيء يوضع تحت الحجر الثاني، ثم يجمع الطحين.
وهذا النوع من الرحى هو من النوع المحسن الذي يمثل تقدمًا في صناعة طحن الحبوب. وقد عثر على نوع هو أبسط من الرحى المتقدمة، فهو عبارة عن حجر مائل نوعًا ما، أحد طرفيه مرتفع عن الطرف الآخر، يوضع الحب عليه ثم يسحق بحجر أسطواني الشكل في الغالب, يمسك بالأيدي من مقبض نحت منه على كل طرف من طرفيه, ثم يحرك على الحبوب لسحقها، وقد يقبض بطرفي الحجر ثم يحرك نحو الأسفل فالأعلى حتى تسحق تلك الحبوب وتتحول إلى طحين.(14/259)
ولا أستبعد استعمال العرب الجنوبيين للطواحين الكبيرة التي تدار بالماء، وذلك بالإضافة إلى الطواحين التي تديرها الحيوانات؛ وذلك لبيع الطحين في الأسواق. وقد كان الناس يستعملون الرحى في الغالب للحصول على الطحين، فلم يكد يخلو بيت منها؛ ولذلك كانت صناعة الرحى من الصناعات النافقة المربحة في ذلك الزمان.
والطحن من الأعمال التي تخصص بها النساء، وتقوم به الخادمات في البيوت الكبيرة. وقد توضع جملة رحى في البيت الكبير, حيث تخبز كميات وافرة من العجين لإعاشة أفراد البيت.
ولمكانة الرحى عند القوم يومئذ، تخصص أناس بإصلاح الحجر لتحويله إلى رحى صالحة لطحن الحبوب أو لعمل الزيوت. وليس يصلح كل حجر لأن يكون حجر رحى؛ ولهذا فعلى الخبير بالرحى اختيار الحجر الصالح، ثم عليه إصلاحه ليكتسب الاستدارة وعمل ثقب فيه ونقرة وغير ذلك مما يتعلق بهذا العمل. وتكون حجارة الرحى مختلفة في الحجم، باختلاف العمل الذي يوكل إليها أداؤه, فبعض الرحى كبيرة ثقيلة ذات قطر واسع، وتستخدم في طحن بعض المواد الصلبة مثل العفص ومواد الدباغة الأخرى والمواد التي تستخدم في إنتاج الزيت والطحين, ويستخدم الحيوان لإدارة مثل هذه الرحى. وقد عثر على حجارة رحى ضخمة استخدمها العرب قبل الإسلام في تلك الأغراض.
وبائع الحنطة يقال له: الحنَّاط، يعيش من الاتجار بالحنطة، وقد يبيع معها الشعير والحبوب الأخرى. وقد ورد ذكر "الحناطين"، في كتب الحديث1.
والخبز في العادة هو من الأعمال البيتية, أي: من الأعمال التي تتم في البيت، حيث تقوم الزوجة بخبزه، ويقوم الرقيق أي: الخدم بخبزه في البيوت الكبيرة الغنية. وهو من اختصاص النساء.
وقد احترف بعض الناس الخبازة، وعرف واحدهم بـ"الخباز"، إذ يصنع الخبز المصنوع من الحنطة أو المصنوع من الشعير أو من الذرة ومن الأرز. والخبز على أنواع، فيه الغليظ وفيه الطري وفيه الناشف، وفيه ما يضاف إليه
__________
1 المعرب "ص141"، تاج العروس "5/ 121 وما بعدها".(14/260)
السكر. وقد ذكر أن من الخبز الغليظ ما يقال له "جرذق" و"جردق" و"الجردقة"، واللفظة فارسية معربة وأصلها "كردة"1.
والخبز المصنوع من الحنطة، هو أجود أنواع الخبز وأغلاها؛ ولذلك يعتبر خبزها خبز الأغنياء وخبز الطبقة المتمكنة, أما خبز الأعراب والفقراء وأهل القرى فهو الخبز المصنوع من الشعير أو من الذرة. ويقتات فلاحو بلاد الشام واليمن بخبز الذرة؛ لوجوده بكثرة عندهم، ولرخص ثمن الذرة بالنسبة إلى القمح. كما يقتات بعضهم بالخبز المصنوع من "الدخن"، وهو من الحبوب القديمة وقد أشير إليه في التوراة2.
ومن أنواع الخبز "المرقق"، أي: الرقاق، وقد ورد ذكره في كتب الحديث3، ويقال له "المرقوق" في بلاد الشام، ويعرف بـ"رقيقيم" أي: "الرقيق" عند العبرانيين4, ولا زال معروفًا مستعملًا. ويكون ناشفًا رقيقًا يمكن حفظه وخزنه مدة طويلة؛ ولذلك يدخر للشتاء وللأسفار. ويرقق خبز الرقاق بآلة تسمى: المرقاق5.
والخبز الجيد هو الخبز المصنوع من الطحين المنقى الصافي من قشرة الحبوب، وذلك بنخل الطحين في منخل فيسقط لب الطحين ويعزل عن القشرة التي تبقى في المنخل، حيث يستعمل لأغراض أخرى كعلف للحيوان، أو لتنظيف الأواني, وما شابه ذلك من أعمال.
و"الكعك"، هو نوع من الخبز اليابس, ويحمل في الأسفار أيضًا، حيث يبقى مدة طويلة محافظًا على طعمه ونكهته. وقد ذكره بعض اللغويين في المعربات6. والسميذ، نوع من أنواع الخبز اليابس كذلك.
وقد يحلى الخبز، بوضع مادة حلوة فيه، وقد يعجن بالدهن أو الزيت،
__________
1 المعرب "ص95، 115"، تاج العروس "6/ 305".
2 حزقيال، الإصحاح الرابع، الآية التاسعة، Hastings, Dict., Vol., I, p. 315 f
3 المعرب "ص197"، فتح الباري "9/ 464"، اللسان "10/ 123".
4 Hastings, Dict, of theBible, vol. I, p. 318, Hastings, a dict. Of Christ and the Gosple, bol, I, p. 231
5 تاج العروس "6/ 359".
6 تاج العروس "7/ 174"، المعرب "ص297".(14/261)
وقد توضع فيه بعض المواد لإعطائه نكهة خاصة، أو يوضع عليه السمسم أو غيره، كما نفعل اليوم.
ويخبز الخبز عند الحضر وأهل الريف في "التنور". و"التنور" من الألفاظ الواردة في عدد من اللغات السامية؛ فهو "تنورو" Tanuru في الآشورية1, و"تنور" في العبرانية2, والتنور العربي هو نفس البابلي القديم نفسه3.
وقد عيّر "حسان بن ثابت" رهط "النجاشي" الشاعر, بأنهم لم يكونوا أهل حرب ولا طعان ولا فرسان، وإنما هم قوم لا يعرفون غير الأكل والجلوس حول التنانير، يأكلون ما يخبز فيها4.
وعاش بعض الناس على بيع الحليب واللبن والزبدة والجبن. أما "اللبن"، فإنه الحليب المثخن، أي: الحليب الغليظ, غلظ بتسخينه وبإضافة خميرة إليه. وأما الزبدة، فتستخرج من خض الحليب وتحريكه، فتتجمع مادة دهنه وتكون الزبدة. وأما الجبن، فإنه من أكل أهل القرى والمدن في الغالب, أما الأعراب، فلم يستعملوه بكثرة، ولا زالوا على هذه العادة. وقد يستعمل بعضهم اللبن المجفف، فبعد تحويلهم الحليب إلى لبن، يجففون اللبن، ويستعملونه عند الحاجة. وقد ذكر الجبن في التوراة بـ"جبينة" من أصل "جبن" أحد الألفاظ السامية القديمة5.
ويعيش أناس من الجِزارة، فكانوا يبيعون اللحم ويتكسبون بهذه الحرفة، كما كانوا يقومون بالجزارة للناس في مقابل أجر يتقاضونه، قد يكون نصيبًا يدفع إليهم من الذبيحة، وقد يكون شيئًا آخر يحصل التراضي عليه6. ولكن العادة أن يقوم الذبَّاحون بذبح الذبائح لأهل البيوت مقابل دفع شيء إليهم من الذبيحة أو بعض الأشياء التي يحتاجون إليها، وقد يقوم بالذبح أصحاب البيوت أو الخدم أو الطباخون, وذلك في العوائل الكبيرة؛ ولهذا فحرفة الجزارة لم تكن من الحرف
__________
1 Reallexkon, Bd, I, S. 5 Lieferung, S. 387
2 Hastings, A Dictionary of the Bible, P. 315
3 Reuther, Innenstadt bon Babylon, S. 26, F, 53, 107. 118
4
ألا طعان، ألا فرسان عادية ... إلا تجشؤكم حول التنانير
ديوان حسان "ص215" "البرقوقي".
5 Smith, Vol., I, p. 237
6 جامع الأصول "4/ 396".(14/262)
الشائعة، لا سيما وأن سواد الناس لم يكن في إمكانهم تناول اللحوم في كل يوم؛ لغلائها بالنسبة لهم، بل كانوا يعيشون على الخبز وبعض الإدام الرخيص؛ ولهذا صار الخبز المادة الأساسية في معيشة الإنسان، ومن هنا قيل له "العيش"، وقيل للطعام: "العيش". كما كان اللبن أساسًا لمعيشتهم، وقد يتأدمون بالتمر مع الخبز1.
وأحسن اللحوم عند العرب لحوم الإبل، لا يفضلون شيئًا عليها، ومنهم من كان يستطيب أكل الضب2, وهم في أكل لحم الجمل على عكس يهود الذين يحرمون أكل لحوم الجمل. أما لحوم الغنم والماعز، فإنها تكون عند أهل القرى والمدن، حيث يبيعها الجزارون, وقد يأكون لحوم الخيل. وفي الأدب العربي قصص عن ذبح فرس لضيف قادم، حين لا يكون لدى المضيف من حيوان سوى الفرس. وقد يأكون الحمر الوحشية، والحيوانات الأخرى حيث يصطادونها, أما الدجاج, فإنه من مآكل أهل القرى والمدن حيث تربى عندهم ويبيعونها في السوق.
وكان مأكولهم في غالب الأزمان لحوم الصيد والسويق والألبان، وكان الغالب من أهل باديتهم لا يعاف شيئًا من المأكل لقلتها عندهم. وكان الاصطياد ديدنًا لهم وسيرة فاشية, حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم؛ لاضطرارهم إلى النقلة في الغالب وتشاغلهم بالحروب وغزو بعضهم بعضًا، ولضيق ذات يدهم، فكانوا يتغلبون على كل ذلك بالاصطياد وبمطاردة الحيوانات بكل طريقة ممكنة لأكل لحومها3.
والطِّباخة من الحرف التي كانت معروفة عند الجاهلين, وقد ورد في كتب اللغة والأخبار وكتب الحديث أسماء بعض الأطعمة التي كان يستعملها أهل الجاهلية وبينها أسماء أطعمة معربة، اقتبسها العرب من الفارسية والآرمية واليونانية. ومن هذه الأطعمة المعربة، "الخرديق" "الخردق"، وهو طعام شبيه بالحساء أو
__________
1 اللسان "6/ 322".
2 بلوغ الأرب "1/ 380"، وكان الرسول ممن لا يستسيغ أكل العنب، كتاب التأريخ الكبير، لأبي عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري "المتوفى سنة 256هـ"، "1/ 170"، "طبعة حيدر آباد الدكن سنة 1363هـ".
3 بلوغ الأرب "1/ 380 وما بعدها".(14/263)
"الخزيرة"1, وقيل: المرفة بالشحم. ذكر العلماء أنها من أصل فارسي، هو "خورديك"2, و"الحشنكان"3.
وتقوم المرأة صاحبة البيت بالطبخ، أما إذا كانت الأسرة غنية موسرة، فتستخدم طبَّاخات للطبخ, وقد يقوم "طباخ" بذلك. وفي الولائم الكبيرة حيث يدعى عدد كبير من الناس، يصعب على الطبَّاخات الطبخ بالقدور الكبيرة؛ ولهذا يقوم الرجال بذلك.
وقد استخدم أصحاب المال والثراء طباخين أعاجم لطبخ الأطعمة لهم؛ وذلك لإتقانهم عمل الطبخ, ولتفننهم فيه، ولمعرفتهم بأنواع المآكل الأعجمية التي لا يعرفها العرب. وقد ذكر أن "عبد الله بن جدعان" جاء بطباخ فارسي من العراق ليطبخ له مأكولات لا يعرفها أهل مكة وقد أعجبته، ومنها الفالوذج، وهو من مأكولات الفرس.
وتستعمل القدور في طبخ الأكل, والعادة أن تكون هذه القدور من معدن؛ مثل نحاس أو حديد, ولكنها قد تصنع من الحجارة المنحوتة أو طين مشوي بالنار، أي: قدور من فخار. وتستخدم المقلاة للقلي، فيقلى فيها أو في القدر ما يراد قليه من لحم أو غير ذلك. وقد يسلق اللحم أو الخضر سلقًا، ويعبر عن ذلك في العبرانية بلفظة "سلق" كذلك, أما "المرق"، فيقال له "مرق" في العبرانية كذلك. وقد يهيأ الطعام بطريقة الشوي على النار، بأن يشوى اللحم أو السمك على النار، ويعبر عن ذلك بالشواء؛ يعلق اللحم أو السمك بعود أو أعواد أو بعمود من حديد، ثم يقرب من اللهيب أو الجمر حتى ينضج اللحم أو السمك فيرفع للأكل.
وقيل للقدر: "البرمة" بلغة أهل مكة, والجمع "بِرَام". وقد وردت لفظة "قدور" في القرآن الكريم: "وجفان كالجوابي وقدور راسيات"4 والمفرد: قدر, و"القدير" ما يطبخ في القدر, وقيل: ما طبخ من اللحم بتوابل، فإن لم يكن ذا توابل فهو طبيخ. والقدَّار: الطباخ، وقيل: الجزَّار، وقيل: الجَزَّار
__________
1 المعرب "ص128".
2 تاج العروس "6/ 327".
3 المعرب "ص134".
4 اللسان "5/ 80"، البيان "1/ 19".(14/264)
هو الذي يلي جزر الجزور وطبخها. قال مُهلهل:
إنا لنضرب بالصوارم هامها ... ضرب القدار نقيعة القدَّام1
وعرفت البرمة بقولهم: البرمة: قدر من حجارة, والجمع: برم وبرام. وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن2.
ويطلق على الحجارة التي تنصب عليها القدر الأثافي، واحدتها: أثفية، وعلى المسافة بين أثافي القدر التي يجتمع فيها الحجر "الرَّبعة"3.
وطعام ابن البادية طعام محدود؛ لضيق أرضه وسذاجة حياته. أما الحضر، ولا سيما أصحاب الحضارة ومن كان منهم على اتصال بالروم والفرس، فكانت أطعمتهم متعددة متنوعة، فيها تفنن ومهارة في الطبخ. وقد يبقى الأعرابي مدة لا يذوق فيها طعامًا مطبوخًا باللحم؛ لأن اللحم نادر في البادية، إلا إذا جاء ضيف فنحر له، أو وقع له صيد. ولهذا أكل بعضهم الضباء والأرانب والحيوانات الأخرى التي تقع أيديهم عليها؛ لحاجتهم إلى اللحوم، وأكلوا الجراد. والأغلب شيُّ لحوم الصيد؛ لسهولة ذلك.
أما الحضر وسادات القبائل وذوو اليسار، فكانوا يطبخون. وقد وردت أسماء بعض أطعمتهم في الشعر وفي الحديث النبوي، ومنها الثريد, وهو لحم مقطع يغلى في الماء، وقد يوضع البصل معه أو مادة أخرى، وبعد نضجه يثرد خبز ويلقى اللحم والمرق عليه، فيسمى الأكل ثريدًا. وقد كان من الأكل الطيب المحبوب, وقد ذكر في كتب الحديث, ويقدم في الولائم وللضيوف. والخبز ممدوح عند العرب؛ ولذلك مدح هاشم حين هشم الخبز, والثريد عام في الأشراف، يقدمونه للناس، ويرون أكل الخبز سببًا في صفاء العقل؛ ولهذا ذكروا أن كسرى مدحه، حينما سمع حديث هوذة بن علي الحنفي معه. فلما رأى رجاحة عقل هوذة وحسن ذكائه، قال له: "ما غذاؤك ببلدك؟ قال: الخبز. فقال كسرى: هذا عقل الخبز، لا عقل اللبن والتمر. ويقال: إن عبد الله بن حبيب العنبري كان يعاف التمر، ولا يرغب في اللبن، ولا يأكل
__________
1 اللسان "5/ 80".
2 اللسان "12/ 45".
3 المخصص "11/ 33".(14/265)
إلا الخبز، فقيل في المثل: "أقرى من آكل الخبز", وكان من الأجواد1.
وفي كتاب الأغاني: أن كسرى قال كلامه المذكور المتقدم إلى غيلان بن سلمة، وهو من ثقيف، وكان قد جاء مع أبي سفيان في تجارة إلى العراق. وقد خاف أبو سفيان من الفرس ومن احتمال مصادرتهم أموال تجارتهم، فتقدم غيلان ودخل مع الداخلين إلى بلاط كسرى، وتحدث معه، فأعجب كسرى به، وأخذ يسائله حتى سرّ منه، فاشترى منه تجارته، وقال له ذلك القول المذكور، وكساه، وبعث له معه من الفرس من بنى له أُطمًا بالطائف، فكان أول أُطم بني بها"2.
وفي المآدب الكبيرة يكون "الثريد"، هو الطعام الرئيسي. ويهيأ بسلق قطع اللحم الملقاة في الماء، وقد يضاف إليه البصل والحمص، فإذا سلق اللحم ونضج وتولد منه مرق، ألقي مع مرقه على الخبز المثرود في قصع وصحاف، ليأكله المدعوّون. والثريد من الأطعمة المحببة إلى نفوس أهل مكة والحجاز, وقد قدم "أبرهة" الثريد إلى الجنود والفعلة الذين أتموا سد مأرب، وذلك يوم الاحتفال بانتهاء العمل. وقد يقابل ذلك ما يقال له "سلوق" و"سليقوت" عند العبرانيين3. وقد أشير إلى الثريد في قصة ذهاب "هاشم بن عبد مناف" إلى بلاد الشام، والتقائه بهرقل، وتثريده لمن معه ولأهل مكة.
ولازدراء العرب ممن يزرعون البقول والخضر، أحجم الناس عن زراعتها، فقلَّ وجودها في مطابخ أهل الحضر. أما أهل البادية، فإن مآكلهم تكاد تكون خلوًّا من الخضر المطبوخة؛ لندرة الخضر في البادية، ولأنها تحتاج إلى لحم، وهو نادر في البادية أيضًا. ثم إن الطبخ المعقد لا يناسب الحياة في الصحراء؛ لهذا كان المطبخ الجاهلي، مطبخًا يكاد يكون مستغنيًا عن الخضرة المطبوخة باللحوم. لا يستثنى من ذلك إلا السادة المتصلون بالروم وبالفرس وأهل اليمن، والأغنياء من أهل المدن والقرى، فقد كان في إمكانهم الحصول عليها، ومن هنا استعملوها في الطبخ، يطبخونها مع اللحم.
__________
1 مجمع الأمثال "2/ 73"، بلوغ الأرب "1/ 86 وما بعدها".
2 الأغاني "12/ 46".
3 Ency. Bibli., Vol., I, p. 888(14/266)
لذا صار عماد الأكل الجاهلي والتمر واللبن والسمن والدقيق المصنوع من البر أو الشعير والشحوم والعسل، وذلك عند أهل الحضر في الغالب، والجراد والأقط. وإذا دققنا في قائمة المأكولات الجاهلية، رأينا موادها لا تتعدى هذه الأشياء، وهي تختلف باختلاف خلط هذه المواد وباختلاف مزجها وطبخها, ولكنها كلها لا تخرج عن حدود الأشياء المذكورة.
ونجد في قائمة مأكولات أهل الجاهلية أكلات تقوم على استعمال الدقيق في الطبخ, من ذلك الحساء: وهو طبيخ يتخذ من دقيق وماء ودهن, وقد يحلَّى ويكون رقيقًا يحسى1.
وقد يستعمل الدقيق مع الحليب، بأن يطبخ، ومن ذلك الحريرة: الحساء من الدسم والدقيق، وقيل: هو الدقيق الذي يطبخ بلبن؛ وقيل: الحريرة من الدقيق, والخزيرة من النخال2. وقد عرفت قريش بإكثارها من أكل أكلة عرفت بـ"سخينة"، ولاكثار قريش من أكلها عيّرت بها حتى قيل لها: "سخينة". والسخينة: أكلة ارتفعت عن الحساء وثقلت عن أن تُحسى، وهي طعام يتخذ من الدقيق دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء، وذكر أنها دقيق يلقى على ماء أو لبن فيطبخ, ثم يؤكل بتمر أو يحسى، وقيل: تعمل من دقيق وسمن. وذكر أن الناس يأكلون السخينة في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال3.
ويذكر أهل الأخبار أن أول من لقب قريشًا بـ"سخينة" "خداش بن زهير"، حيث يقول:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرمُ
فذهب ذلك على أفواه الناس حتى كان من التمازح به ما كان بين معاوية بن أبي سفيان وبين الأحنف بن قيس التميمي، حين قال له: ما الشيء الملفّف في البجاد؟ فقال له: السخينة يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر:
__________
1 اللسان "14/ 177".
2 اللسان "4/ 184".
3 اللسان "13/ 206".(14/267)
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرَّك أن يعيش فجيء بزاد
بخبز، أو بلحم، أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد
يريد: وطب اللبن، وأراد الأحنف قول خداش بن زهير: يا شدة ما شددنا.. البيت. وحتى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن مالك الأنصاري: "أترى الله نسي قولك؟ يعني:
زعمت سخينة أن سَتَغلب ربها ... وليغلبنّ مغالب الغلاب1".
وورد في بعض الروايات أن البيت المتقدم هو من شعر حسان بن ثابت2.
ومن المآكل التي يأكلها أصحاب العيال إذا غلب عليهم الدهر: النفيتة، وهي الحريقة، أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب حتى تنفت، ويتحسى من نفتها، وهي أغلظ من السخينة. وقد قيل عنها: حساء بين الغليظة والرقيقة3. والحريقة اسم مرادف للنفيتة4.
ومن المآكل الحدرقة, وهي دقيق يلقى على ماء أو على لبن فيطبخ, ثم يؤكل بتمر أو يحسى وهو الحساء، فهي مثل السخينة والنفيتة والخزيرة والحريرة. وقيل: الحريرة أرق منها5, و"النجيرة": العصيدة, وهي لبن وطحين يخلطان6. ومنها "الصحيرة"، وهي اللبن يغلى ثم يذر عليه الدقيق, ومنها "العكيسة", وهي لبن يصب عليه الإهالة وهي الشحم المذاب. ومنها "الغريقة"، وهي حلبة تضم إلى اللبن والتمر وتقدم إلى المريض والنفساء، ومنها "الرغيدة" وهي اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق7.
ومن مآكلهم: "الأصية"، وهي دقيق يعجن بلبن وتمر، ومنها "الرهية"، وهي برّ يطحن بين حجرين ويصب عليه لبن. ومنها "الوليقة" وهو طعام
__________
1 العمدة "1/ 76 وما بعدها", "القاهرة 1963م".
2 العقد الفريد "6/ 292"، "كتاب التأريخ الكبير، للبخاري "1/ 70"، بلوغ الأرب "1/ 381 وما بعدها".
3 اللسان "2/ 100"، بلوغ الأرب "1/ 383".
4 اللسان "10/ 43".
5 اللسان "2/ 100"، "10/ 40".
6 اللسان "5/ 194".
7 بلوغ الأرب "1/ 383".(14/268)
يتخذ من دقيق وسمن ولبن، ومنها "الخزيفة"، وهي شحمة تذاب ويصب عليها ماء يطرح عليه دقيق فيلبك به، ومنها "الرغيغة"، وهي حسو من دقيق وماء وليست في رقة السخينة، و"الربيكة"، وهي طعام يتخذ من بر وتمر وسمن. ومنها "التلبينة"، وهي حُثالة تتخذ من دقيق أو نخالة ويجعل فيها عسل. ومنها "الوشيقة"، وهي أن يُغلى اللحم ثم يرفع, و"العثيمة": طعام يطبخ ويجعل فيه جراد وهو الغشيمة" أيضا, و"البغيث" و"الغليث": الطعام المخلوط بالشعير1.
و"العريقة"، وهي شيء يعمل من اللبن, و"البكيلة": السمن يخلط بالأقِط، وقيل: الدقيق يخلط بالسويق, ثم يبل بماء أو بسمن أو بزيت2.
ومن مآكلهم "الخزيرة"، وهي أن ينصب القدر بلحم يقطع صغارًا على ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق, فإن لم يكن لحم، فهو عصيدة. وينسب صنعها إلى سويد بن هرمي؛ ولذلك قال شاعرهم لبني مخزوم:
وعلمتم أكل الحزير وأنتم ... على عدواء الدهر صم صلاب3
وعرفت الخزيرة: أنها اللحم الغابُ يؤخذ فيقطع صغارًا في القدر, ثم يطبخ بالماء الكثير والملح، فإذا أميت طبخًا ذرَّ عليه الدقيق فعصد به, ثم أدم بأي إدام شيء، ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم، فإذا لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. وقيل: الخزيرة مرقة، وهي أن تصفى بلالة النخالة ثم تطبخ، وقيل: الخزيرة والخزير: الحساء من الدسم والدقيق, وقيل: الحساء من الدسم4.
وصنع أهل مكة طعامًا, عدَّ عندهم من رقيق العيش، هو لباب البرّ بصغار المعزى5.
وهناك أكلات أخرى بسيطة، مثل أكل تمر مع لبن، أو الزبد مع الرطب،
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 383 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "1/ 384".
3 بلوغ الأرب "1/ 384 وما بعدها".
4 اللسان "4/ 237".
5 البيان "1/ 18"، الحيوان "5/ 481".(14/269)
أو خلط لبن بلبن آخر ذكر أسماءها علماء اللغة1, لا أرى حاجة إلى ذكرها؛ لعدم وجود أهمية لها وعلاقة كبيرة بهذا الموضوع.
وقد استورد الحضر بعض مآكلهم من الخارج؛ لاستساغتهم واستحسانهم، فقد قيل: إن عبد الله بن جدعان سيد قريش كان قد زار العراق، ودخل قصر كسرى وأكل عنده, وكان في جملة ما أكل "الفالوذج"، فتعجب منه، وسأل عنه، فوصف له. ويقال: إنه ابتاع غلامًا يصنعه، وأخذه معه إلى مكة، وصار يأكله وأمر بوضع موائده بالأبطح إلى باب البيت؛ ليأكله الناس. وكان ممن أكله أمية بن أبي الصلت، فقال فيه شعرًا ومدح صاحبه لجوده وكرمه2:
إلى ردح من الشِّيزى عليها ... لبُاب البُرِّ يُلبكُ بالشِّهاد
والردح: الجفنة العظيمة، والشيزى: خشب أسود تتخذ منه القصاع، واللباب: الخالص، والشهاد: العسل3. وقد نسب "البرقوقي" ذلك البيت إلى "ابن الزبعرى" عبد الله, وهو من الشعراء الذين عرفوا بهجائهم للرسول وبدفاعهم عن المشركين4.
وكان عبد الله بن جُدعان من أغنى أغنياء قريش، جمع مالًا عظيمًا، ولكنه كان على خلاف عادة التجار الأغنياء كريمًا جوادًا متأنقًا ينفق على طعامه وشرابه. كسا بيته بأحسن ما كان في ذلك العهد، كانت أواني شربه من ذهب، وفيه ورد في المثل: أقرى من حاسي الذهب5.
ويقال: إن ابن جدعان هذا كان في ابتداء أمره صعلوكًا تَربَ اليدين، شريرًا فاقطًا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف لا يُئويه أبدًا، فخرج في شعاب مكة تائهًا حائرًا، فرأى شقًّا في جبل، فدخل فيه ليستريح، وإذا به يعثر على مقبرة فيها جثث عليها
__________
1 اللسان "1/ 384".
2 مجمع الأمثال "2/ 73"، الأغاني "8/ 4" "طبعة ساسي"، بلوغ الأرب "1/ 381".
3 البيان "1/ 17 وما بعدها".
4 البرقوقي "ص57".
5 مجمع الأمثال "2/ 72".(14/270)
ثياب قد بليت، صارت كالهباء حين لمسها، ووجد كنزًا حمله معه إلى والده ليسترضيه، فرضي عنه، ومن هناك جاء غناه1. ويقال: إنه كان نخاسًا2.
وروي أنه مذ هذا الحادث صار يطعم الناس ويفعل المعروف، وصنع له جفنة كبيرة جدًّا يأكل منها القائم والراكب لعظمها، ووضع له جفانًا في ردحة بيته ليأكل منها من يقصده. وورد أن الرسول ربما كان يحضر طعامه، وقد رأى جفنته، واستظل بها لضخامتها3.
ولمكانته هذه ولمنزلته في قومه وبين الناس، آمنت به العرب، ووثقت به، فكانت تدفع أسلحتها إليه، حتى تفرغ من التسوق من سوق عكاظ ومن الحج، فإذا أرادت الرجوع، دفع إليها أسلحتها4.
وقد عرف السكر عند الجاهليين، ويقال له: المبرت بلغة حميرة5, ولا يستبعد صنعه في جزيرة العرب أو استيراده من الهند أو من أماكن أخرى. وقد ذكر "ديوسقوريدس" Dioscurides أن في الهند وفي اليمن مادةً تشبه الملح في المنظر، تستخرج من سائل كالعسل6، وفي هذا الوصف ما ينطبق على السكر.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 87 وما بعدها".
2 المعارف "ص250".
3 بلوغ الأرب "1/ 88 وما بعدها".
4 الأغاني "19/ 76".
5 شمس العلوم "1/ 146"، "البرت بالضم: السكر الطبرزذ، بإعجام الذال، وهو لغة اليمن"، تاج العروس "1/ 525"، "برت".
6 Ency. Of Islam, Vol., IV, p. 510(14/271)
حرف أخرى:
ومن الحرف الحِلاقة والحجامة. ويجمع الحلاق في الغالب بين حلاقة الشعر والحجامة, ويستعمل الحلاق الموسى والمقص في الحلاقة، ويتخذ المرآة لإراءة المحلوق شعره وكيفية قصه، وكذلك يتخذ أدوات زينة وطيب لتطييب الشخص؛ إذ الحلاقة نوع من أنواع الزينة كذلك. وكانت حلاقة الرأس مختلفة، لا تجري على طريقة واحدة؛ فللقبائل عادات مختلفة في طريقة حلاقة الشعر وقصه، كما أن الأعراب يختلفون عن أهل المدن في تنظيم شعر رءوسهم وحلاقته, وهم يدهنون(14/271)
شعورهم ويتركونها تتدلى في الغالب، وقد يجعلونها ضفائر وجدائل تتدلى على الأكتاف.
واعتماد الحجام على الموسى يشرط به جروحًا خفيفة يمص منها الدم بكأس من الزجاج توضع فوق الشرط، ثم يسحب الحجام الهواء من الفتحة الضيقة المتصلة بقناة داخل الكأس، فيخرج الدم إلى داخل الكأس, وقد كانت الحجامة من وسائل التداوي في ذلك الزمن. كذلك عد "الفصد"، وهو إخراج الدم من عرق في اليد، نوعًا من أنواع المداواة, ويقال للقائم به: "الفصاد", وقد يقوم بذلك الأطباء. واستعمل نوع من الديدان في امتصاص الدم كذلك, وذلك كنوع من أنواع المعالجات الطبية, ولا تزال هذه الطريقة معروفة عند الأعراب وأهل القرى والمدن. وقد حجم الرسولَ رجلٌ اسمه "أبو طيبة"، وأعطاه أجره عليه1, ويستعمل الفصاد المبضع في الفصد2.
وعاش بعض الناس على بيع الحطب، فكانوا يجمعونه من البادية ومن الجبال ويأتون به إلى المدن والقرى مثل مكة ويثرب فيبيعونه, يقوم بذلك "الحَطَّابة"3. وقد نعتت امرأة أبي لهب في القرآن الكريم بـ"حمالة الحطب"؛ وذلك على سبيل الازدراء والتحقير. ويشد الحطب ويربط بحبل، ويوضع على ظهر الدابة، وقد يحمله الأشخاص لبيعه, والأغلب أن تبيع النساء العاقول والحطب.
والرتم من الحطب الذي يعطي نارًا شديدة ذات لهب، يبيعه الحطابون لأهل المدن، ويقال له: "روتيم" في العبرانية. ويتخذ منه فحم، وذلك بإطفاء ناره قبل احتراقه, فيتولد من ذلك الفحم4.
ومن أنواع الحطب الأطد، وهو: "أطد" في العبرانية أيضا, والعوسج، والحدق, ويقال له "حدق" في العبرانية كذلك، والسمر، وهو "شمير" عند العبرانيين5.
وقد كان أكثر من يتعاطى الطبخ والخبازة والجزارة من العبيد. وقد تخصص
__________
1 عمدة القاري "11/ 221 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 237".
2 المغرب "ص39".
3 المغرب "ص126".
4 Hastings, Dict. Of the Bible, Vol., I, p. 71
5 Smith, Dict., Vol., III, P. 1191(14/272)
بعضهم بعمل واحد من الحرفة الواحدة، مثل بيع نوع واحد من الطبيخ، فذكر أن رسول الله دعا إليه مرة عبدًا، كان يبيع الخرديق1. و"القدَّار" هو "الجزار"2.
والموقد، هو الموضع الذي توقد فيه النار، ويعرف بـ"ميقدة" عند العبرانيين3. وقد كان عرب بلاد الشام والعراق يتخذون المواقد للاصطلاء بها في أيام الشتاء، كما يستعمله الطباخ موضعًا للطبخ، يضع القدور عليه ويشعل فيه النار.
وقد عاش أناس على كراء الحمير والإبل للمحتاجين إلى ذلك، ويقال لذلك: البرطسة4, ولمكتريها للناس: المبرطس5.
وقد احترف بعض الناس حرفة صنع الحصر والسلال والقلل والسرر. صنعوها من الخوص ومن سعف النخيل؛ لوجودها بكثرة, وصنعها بعضهم من القصب وذلك في الأماكن التي تكثر فيها المياه والرطوبة. ولا تزال هذه الحرف قائمة معروفة, وتصنع بعضها بنسج الخوص أو الألياف كما هو الحال بالنسبة إلى "الحصر": جمع حصير, المنسوج الذي يبسط في البيوت. وذكر أن الحصير: سقيفة تصنع من بردي وأسلٍ ثم تفرش6.
ويستخدم "السفط" في حفظ الأوراق والأشياء الثمينة, ويصنع من القصب والخيزران ومن الخوض أيضا، حيث يصفُّ صفًّا.
و"القفة": نوع من السلال أيضًا. وتكون مختلفة الأحجام, وتستخدم في أغراض متعددة، ومنها نقل الطين، وتعرف عند أهل العراق بـ"قفة طين"، أو لنقل الأحجار, وتصنع من المعدن أو من الأغصان. وأشير إليها بـ"kophinoi" و""kophinos" "Cophinus في الأناجيل، من اليونانية حيث تسمى بـ"Kophinoi"
__________
1 تاج العروس "6/ 327".
2 الفاخر "ص98".
3 Hastings, Dict. Of the Bible, Vol., I, p. 72
4 شمس العلوم "ج1 ق1 ص155".
5 شمس العلوم "ج1 ق1 ص155".
6 اللسان "4/ 195 وما بعدها".(14/273)
"kophinos" واللاتينية، حيث تسمى بـ""Cophinus1. ولعل بين لفظة "قفة" والتسمية اليونانية اللاتينية صلة, ومن لفظة "kophinos" أخذت لفظة "Coffen" أي: تابوت. ويلاحظ أن بين هذه اللفظة ولفظة "كفن" العربية، صلة كبيرة كذلك2.
وذكر علماء اللغة أن القفة: الزّبيل، ويسمونها القفعة ويجعلون لها معاليق يعلقونها بها من آخرة الرحل، يلقي الراكب فيها زاده وتمره، وهي مدورة. وعرفت أنها شبه زبيل صغير من خوص يجتنى فيه الرطب وتضع فيها النساء الغزل3. وعرف الزبيل والزنبيل بالجراب، وقيل: الوعاء يحمل فيه، والقفة4.
وأما السلة المصنوعة من الخوص، فيقال لها: "العلاقة" في العراق في الوقت الحاضر. وتكون صغيرة ومتوسطة, أما الكبيرة فيقال لها: "الكوشر" و"الزنبيل"، ويستعملهما الحمالون في حمل الأشياء للناس.
وتستعمل السلال المصنوعة من الأعواد ومن أغصان الشجر الطرية في حفظ الأطعمة والمطبوخات؛ لدخول الهواء إليها، ولمنع الطيور والكلاب والقطط من الوصول إليها. وتكون مثل هذه السلال مرتفعة ذات قاعدة أصغر من الوجه العريض الذي يوضع على العرض.
وقد وردت في التوراة والإنجيل وفي الكتب اليونانية واللاتينية وفي الآثار المصرية أسماء سلال صنعت في ذلك العهد, تفيدنا في تكوين فكرة عن السلال عند الجاهليين. وقد صنعت بعض تلك السلال من القصب ومن التبن ومن الخوص ومن الأعواد، وهي مختلفة في الأحجام والسعة. ففي التوراة لفظة هي: "س ل" "سل"، وهي "السلة" عندنا, والجمع: "سلال", وتصنع في بلاد العرب من الخوص أو من الأغصان الطرية, وتستعمل في نقل الخبز واللحوم والخضر والأشياء الأخرى5.
__________
1 Hastings, Dict, vol, I, p. 256, Hastings, Dict. Of the Christ, vol, I, p. 174. Smith, A Dictionary of the Bible, I, p. 171
2 The Bible dictionary, vol, I, p. 283
3 اللسان "9/ 287".
4 اللسان "11/ 300 وما بعدها".
5 Hastings, Dict, vol, I, p. 255, Smith, Dict, vol, I, P. 171, Ency. Bibl, vol, p. 499(14/274)
وهي مثل الكيس أحيانًا، يمكن ضمها بعضها إلى بعض وتكون لها يد تحمل بها. وهي في مقابل "الطبق" عند العراقيين, غير أن الطبق ثابت يصنع من أغصان بعض الأشجار مثل الرمان، حيث تكون لينة لا تنكسر. ويكون بأحجام متعددة؛ منه ما هو صغير الحجم، ومنه ما هو وسط, ومنه ما هو كبير يستعمل لنقل الخضر والفواكه من البساتين والحقول إلى مواضع البيع, ومنه ما يستعمله القصابون المتجولون لبيع اللحم.
والسرير: المضطجع والذي يجلس عليه1. وكانت أكثر الأسرة مصنوعة من الجريد؛ وذلك لتوفر الجريد في كل أنحاء جزيرة العرب، وقلة الخشب فيها.
ولبست العباءة كذلك, تلبس فوق الملابس, وقد ذكر أن رسول الله كان يلبس العباء2.
والبيطرة من الحرف المعروفة عند الجاهليين. وقد كانوا يستعملون الأدوية والكيّ في مداواة الحيوان, كما يستعملون بعض الآلات في معالجتها، مثل "المبزغ" وهو مثل مشرط الحجام3.
__________
1 اللسان "4/ 361".
2 البيان "1/ 236"، "2/ 30".
3 المغرب في ترتيب المعرب, تأليف أبي الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي المطرزي الخوارزمي, المتوفى سنة 616، "ص37" طبعة حيدر آباد، تاج العروس "3/ 51".(14/275)
حرف الجلد:
والدباغة حرفة مهمة اشتهرت بها أماكن متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما بعض القرى والمدن مثل الطائف وجرش ومواضع متعددة في اليمن وفي العربية الجنوبية. وهي صناعة تقوم على أساس إصلاح الجلد وإبعاد الصوف والشعر عنه؛ للاستفادة منه في أغراض نافعة. وقد استخدم الدباغون مواد مساعدة تعين على نتف الصوف والشعر من الجلد بسهولة، وبدون أذى له أو للجلد، مثل مادة الجير أو مواد أخرى، كما استخدموا مواد تساعد على حفظ الجلد ومنعه من التلف لدبغه، مثل العفص وغيره من مواد نباتية دابغة. وقد أنف كثير من الناس من هذه الصناعة وتجنبوها؛ لما ينشأ عنها من روائح كريهة ولاستعمال(14/275)
الدباغين بها موادَّ تعد نجسة في نظر بعض الأديان. كما منعوا إقامة المدابغ في الأماكن المأهولة المعمورة، وحرصوا على عزلها وحصرها في الأماكن البعيدة عن أحياء السكنى, ولا سيما سكنى الطبقات المتنفذة الغنية.
ويقوم الدباغون ببيع ما يدبغونه إلى التجار, وقد يحمل إلى أسواق بعيدة لاستخدامه في أغراض عديدة، كتحويله إلى قرب يخزن فيها الماء أو يحمل, أو أوعية تحفظ فيها الخمور والسمن والسويق والطيب، أو أحذية وسيور وغير ذلك من الحاجات, وقد يحوله الدباغون أنفسهم إلى هذه الأشياء المذكورة. كما تخصص أناس بحرف تحويل الجلود إلى مواد نافعة يستعملها الإنسان في حياته اليومية، كالمواد المتقدمة والدلاء وأمثال ذلك من أدوات.
والقرب في ذلك الوقت مهمة جدًّا في حياة الإنسان؛ فقد كانت مخازن متحركة يخزن فيها أشياء كثيرة ضرورية. فكانت أوعية لحمل الماء في الحضر وفي السفر، كما كانت الأوعية الرئيسة لحفظ الخمور والأنبذة والزيوت والدهون والشحوم والدبس والمواد الغذائية الأخرى, يحتاج إليها الأعرابي في حله وفي ترحاله والحضري في مستقره وفي سفره. كان المصريون واليونان والرومان والعبرانيون يحفظون الخمور والأنبذة في أوعية القرب, وقد أشار إلى ذلك بعض الكتبة القدماء. ويعالج إهاب القرب معالجة خاصة ليعطي الشراب نكهة طيبة، ولئلا يتأثر الشراب من رائحة الجلد1.
وذكر علماء اللغة أن "القربة": الوطب من اللبن، وقد تكون للماء، وقيل: هي المخروزة من جانب واحد2.
وأما "الجِراب" فوعاء من إهاب الشاء لا يُوعى فيه إلا يابس3. فهو وعاء من الجلد -إذن- خُصص لحفظ الأشياء الجافة كالدقيق وما أشبه لحفظه. كما يقال لوعاء الزاد: المزود4.
وتدخل المصارين، وهي أمعاء الحيوانات المذبوحة، في جملة الأعمال التي
__________
1 Smith, Dict. Of the Bible, Vol., I, p. 223
2 اللسان "6/ 668".
3 اللسان "1/ 261"، تاج العروس "1/ 119"، "جرب".
4 تاج العروس "2/ 366".(14/276)
يقوم بها الدباغون، إذ يتعهدونها بالرعاية والعناية والإصلاح، فينظفونها مما بها من أوساخ ويصلحونها ويعالجونها، ثم يبيعونها إلى التجار أو يحوِّلونها إلى مواد نافعة مفيدة، مثل اتخاذها أوتارًا لآلات موسيقية أو للأقواس لرمي السهام، أي: لأغراض حربية. وكلما كانت العناية شديدة بمعالجة هذه الأمعاء، كانت الأوتار ذات قابلية كبيرة على الشد والتوتر، وبذلك يكون مجال رمي السهام بالأقواس كبيرًا، وفائدة القوس في القتال عظيمة. وقد كان القواسون, أي: الرماة بالقوس، قوة ذات أهمية في مصير حرب ما في ذلك العهد.
وتدخل الجلود في أغراض حربية كذلك؛ فقد استخدمت لحماية الجسم من ضربات السيوف ومن تساقط السهام عليه، كما استخدمت في صنع الدروع والخوذ الواقية للرأس، وفي حماية الدبابات والمنجنيقات بتغليفها بجلود ثخينة مقاومة, وتعالج بمواد خاصة تكسبها مقاومة خاصة أمام تساقط النار أو الماء الحار أو الزيوت الساخنة عليها، وقد تعمل ستائر منها يحتمي الجنود المشغلون لها تحتها من المواد المقذوفة عليهم. وهناك استعمالات أخرى للجلود أدت للجيوش خدمات كبرى في الحروب؛ فالقرب مادة ضرورية في الحرب؛ لأنها أوعية ومخازن للماء، والماء مادة ضرورية للانتصار في الحروب, والراوية وهي المزادة من ثلاثة جلود، هي مادة ضرورية في الحرب وفي غير الحرب لما تحمله من ماء1. وصنعت الدرق من الجلود، وهي الحجفة تتخذ من جلود ليس فيها خشب ولها عقب2, ويراد بالحجفة التروس من جلود خاصة، وقيل: من جلود الإبل مقورة بلا خشب ولا عقب, وقد كانت معروفة عند الأحباش خاصة3. ويراد بالتروس كل الأسلحة التي يتوقى المحارب بها, والتراسة صنعة التروس، وأما الصانع فهو التراس4.
وتفرغ أناس لاحتراف أنواع خاصة من أعمال الجلود، فصرف بعضهم نفسه إلى صناعة القرب والدلاء وأدوات السقي، وتخصص قوم بعمل السروج ونحوها من الأدوات التي تستعمل في الحيوان, مثل اللجام و"الرسن"، كما تخصص آخرون
__________
1 المغرب "ص225".
2 تاج العروس "6/ 342".
3 المصدر المذكور "6/ 65".
4 تاج العروس "4/ 114".(14/277)
بصنع الأحذية. وذكر بعض العلماء أن بعض هذه الأدوات المصنوعة مثل "الرسن"1 هي من الألفاظ المعربة، وأن "الرسن" لفظة فارسية الأصل، وقد عربت في الجاهلية. وتصنع "القباب" من الأدم خاصة2, وقد تكون كبيرة، ولكنها ذات أحجام مختلفة.
ومن الأدوات المصنوعة من الجلد "الجلبان"، وهي شبه جراب من الأدم، يوضع فيه السيف مغمودًا، ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته، ويعلقه بآخر الرحل وواسطته3, والغرز وهو ركاب الرحل الذي تركب به الإبل، ويصنع من الجلد؛ فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب4, والسقاء وهو ظرف الماء إذا كان من جلد5، ويكون في الغالب من جلد رقيق6, والركوة دلو صغير يشرب فيه، ويصطحب في الأسفار7, والكنانة وهي الجعبة التي يكون فيها النشاب8، والقفَّاز ويعمل لليدين وقد يحشى بالقطن وتكون له أزرار يزر بها على الساعدين من البرد, وقد كان يستعمله النساء9. وأما "الأرندج" و"اليرندج" فذكر الجواليقي أنها لفظة معربة، وأن أصلها "رندة"، وهي كلمة فارسية، ويراد بها الجلد الأسود المدبوغ بالعفص حتى يسود. وقد وردت لفظة "أرندج" في شعر منسوب إلى الأعشى10.
وتصنع الهمايين من الجلود أيضا, وقد اشتهرت همايين عجر. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية11, ويراد بالهميان الكيسُ تجعل فيه النفقة ويشد على الوسط.
__________
1 المعرب "ص164".
2 تاج العروس "1/ 419".
3 جامع الأصول "4/ 397"، تاج العروس "1/ 187".
4 جامع الأصول "4/ 371، 504"، تاج العروس "4/ 63".
5 جامع الأصول "6/ 119".
6 جامع الأصول "6/ 125".
7 جامع الأصول "6/ 119".
8 جامع الأصول "9/ 327".
9 جامع الأصول "4/ 365".
10
عليه ديابوذ تسربل تحته ... أرندج إسكافه يخالط عظلما
المعرب للجواليقي "ص16"، تحقيق أحمد شاكر، "القاهرة 1942"، تاج العروس "2/ 50".
11 تاج العروس "1/ 368".(14/278)
وتحلى الجاهليون بحلي مصنوعة من الجلد أيضا. ومن هذه الحلي الجمانة, وهي سفينة من أدم ينسج، وفيها خرز من كل لون، تتوشحه المرأة1.
ويصنع الخوان من الجلد في بعض الأحيان، ويراد به ما يؤكل عليه الطعام، وهو من الألفاظ المعربة2. وأما الصُّفن، فخريطة الراعي، يكون فيها طعامه وزاده وما يحتاج إليه, وقيل: هو مثل الركوة3.
و"العياب": هي أوعية من الأدم، ويقال للواحد منها: "عيبة"، يوضع فيها المتاع والثياب، وتطلق أيضًا على الزبيل الذي ينقل فيه الزرع المحصود إلى الجرين4. و"الشن": الوعاء المعمول من أدم، فإذا يبس فهو شن, وفي المثل: "وافق شن طبقه"؛ يضرب لكل اثنين أو أمرين جمعتهما حالة واحدة اتصف بها كل منهما، وهناك قصص عن أصل هذا المثل5.
واستعمل النصارى واليهود "الزنار"، يشدونه في وسطهم على القميص أو الثوب أو المسوح الذي يلبسونه، ويتدلى أحد طرفيه إلى قريب من القدمين. ويصنع من الجلد أو الحرير أو القطن أو الوبر أو شعر الماعز, وقد يشد على الوسط عدة مرات. وقد يوضع فيه محل لحفظ منديل فيه، أو محبرة وحبر إذا كان صاحبه من الرهبان أو الكتاب، وقد يوضع خنجر أو سلاح حاد فيه, وهو يشبه في فائدته الحزام في الوقت الحاضر. وإذا اشتغل الفلاح أو الأعرابي أو غيرهما بعمل ما رفع الطرف الأسفل من قميصه إلى الزنار أو الحزام؛ ليسهل عليه العمل، وقد يضع في عُبّه أي: القسم الواقع فوق الزناد من جهة الصدر أشياء عديدة يحملها معه مثل خبزه وطعامه أو نقوده أو أشياء أخرى يحتاج إليها في ترحاله6.
وقد كان الجاهليون يستفيدون من جلود السمك أيضًا، يصنعون منها أشياء متعددة. فالسفن مثلًا وهو جلد الأطوم، وهي سمكة في البحر ذات جلد خشن
__________
1 تاج العروس "9/ 163".
2 تاج العروس "9/ 194".
3 المغرب "ص304".
4 البرقوقي "ص58".
5 اللسان "10/ 214".
6 Hastings, Dict., of the christ, vol., I, p. 498(14/279)
يستخرج منه السياط والسهام، ويكون على قوائم السيوف1.
واستخدم الجاهليون كذلك فراء مختلف الحيوانات في الأيام الباردة، ومن أنواع الفراء نوع يدعى "سبنجونة"، وهي من جلود الثعالب، وهي من الألفاظ المعربة2، ونوع آخر يدعى "الفنك"، وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الفنك دابة يفترى جلدها، وذكر أيضًا أن الفنك جلد يلبس3.
ومن أنواع الفراء "المساتق" وواحدتها: "المُستُقة". وقد ورد ذكرها في كتب الحديث، حيث قيل: إن الرسول كان يلبس "مستقة"، كما ذكر أن عمر كان يصلي وعليه "مستقة". وذكر الجواليقي أنها لفظة معربة عن الفارسية، وأنها "مشتة" بالفارسية, وقيل: إنها فراء طوال الأكمام4، وذكر أنها جبة واسعة5.
ويقوم صانع الأحذية بصنع الأحذية، مثل النعال والخف و"القفش" أو "الكفش" ويراد به الخف أو الخف القصير، واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية6. ومن أنواع النعال، النعال السبتية التي لا شعر لها، وتصنع من جلود البقر المدبوغة بالقرظ7, و"السبت": كل جلد مدبوغ أو المدبوغ بالقرظ، ومنه تصنع النعال السبتية8.
ويقال للخف: "الموزج" أيضًا، وقد ذكر الاسم في كتب الحديث, وكذلك "الموق". وذكر أن "الموق: الخف الغليظ يلبس فوق الخف", وقد ذكر الجواليقي أن أصل الموزج فارسي هو "موزة" "موزجان" وأدخل الموق أيضا في باب المعربات9, والجمع: "أمواق". ويظهر من بيت شعر لـ"النمر بن
__________
1 المعرب "ص255"، تاج العروس "8/ 187".
2 المعرب "ص188".
3 المعرب "ص248"، تاج العروس "7/ 170".
4 المعرب "ص308".
5 تاج العروس "9/ 70".
6 المعرب "ص268".
7 جامع الأصول "4/ 398".
8 قال عنترة:
بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوءم
تاج العروس "1/ 548".
9 المعرب "ص311".(14/280)
ثولب"، أن العباديين وهم نصارى الحيرة, كانوا يمشون بالأسواق1. وهناك نوع آخر من أنواع الخفاف، يقال لها "القسوبية" و"القساب"2، و"النعل" هو لباس الرجل المستعمل عند الجاهليين وعند الساميين, وهو "نعلِم" أي "نعل" في العبرانية. ولا يزال النعل مستعملًا حتى اليوم؛ يستعمل في البيت وفي خارجه، وهو يحمي باطن القدمين من حر الأرض في الصيف ومن الحجارة والمواد المؤذية التي تكون على وجه الأرض, وقد يستعمل نعلًا من خشب، يستعمله أهل القرى وأهل المدن في البيوت. والعرب تمدح برقة النعال وتجعلها من لباس الملوك، وتقدم النعال على سائر أنواع الأحذية3.
ومن أنواع النعال: "النعال السبتية", وهي المصنوعة من الجلد المدبوغ بالقرظ, وخص بعضهم جلود البقر مدبوغة كانت أم غير مدبوغة. وقيل: نعال سبتية: لا شعر عليها، وذكر أنها نعال أهل النعمة والسعة4.
وعرفت "حضرموت" بنعالها، فقيل: "نعل حضرمي" و"الحضرمي". وعرفت بأنها النعال المخصرة التي تضيق من جانبيها، كأنها ناقصة الخصرين5.
وقد تفنن في تزيين وزخرفة الجلود, فذهَّبوها ورسموا عليها صورًا، وضغطوا عليها بآلات لإبراز بعض الصور عليها. ومن الجلود المذهبة: "المذاهب"، وهي جلود كانت تُذهَّب، تجعل فيها خطوط مذهبة، فيرى بعضها في أثر بعض، فكأنها متتابعة. وقيل: سيور تُموَّه بالذهب6.
والجلود التي يستعملها الإسكافي هي: جلود البقر والجمال والغنم والماعز, وقد تستعمل جلود الثعابين والسمك إذا كانت كبيرة سميكة، وذلك بعد إصلاحها ودبغها.
ويستعمل الإسكافي والنحَّات الإزميل, وقد ذكر علماء اللغة أن الإزميل حديدة تجعل في طرف رمح الصيد لصيد البقر: بقر الوحش, والمطرقة7, وهي من الألفاظ المعربة, وأصلها "زميلي" "Zmili" في اليونانية8.
__________
1
فترى النعاج به تمشي خلفة ... مشي العباديين في الأسواق
المعرب، للجواليقي "ص311".
2 البرقوقي "ص146".
3 اللسان "11/ 667".
4 اللسان "2/ 36 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 71".
5 اللسان "4/ 202"، الروض الأنف "1/ 71".
6 اللسان "1/ 395".
7 تاج العروس "7/ 360".
8 غرئب اللغة "ص252".(14/281)
الحياكة والنسيج والثياب:
والحياكة والنسيج، من الحرف التي لا ينظر إلى صاحبها نظرة احترام وتقدير في المجتمع العربي القديم. ويقوم بالغزل النساء في الغالب, والحياكة والنسج في الحضر في الغالب. وقد ذكر أهل اللغة أسماء بعض آلات الحياكة والنسج، مثل "الحف" وهي الآلة التي تلمظ بها اللحمة أي: تلقم وتصفق ليلتقمها السدى. وقيل: الحفة: المنوال، وهو الخشبة التي يلف عليها الحائك الثوب، وقيل: الحف: المنسج1. و"الوشيعة" وهي المنسج، وهي قصبة في طرفها قرن يدخل الغزل في جوفها، وتسمى السهم, وقيل: لفيقة من غزل، وتسمى القصبة التي يجعل النساج فيها لحمة الثوب للنسج2, و"المشيعة": ما يلف عليه الغزل3. و"الثناية" التي يثنى عليها الثوب, و"العدل" خشبة لها أسنان، مثل أسنان المنشار، يقسم بها السدى ليعتدل, و"الصيصية" عود من طرفاء، كلما رمي بالسهم فألحمه، أقبل بالصيصة فأدبر بها، وقيل: إنها شوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة4. و"النير" لحمة الثوب، وقيل: الخشبة المعترضة التي فيها الغزل, وقد تنسج الثياب على نيرين، ويكون بذلك أصفق وأبقى5. و"الصنار": رأس المغزل6, وأما "المداد" فالعصا في طرفها صنارتان يمدد
__________
1 تاج العروس "6/ 72"، المعاني الكبير "1/ 50".
2 تاج العروس "5/ 543".
3 بلوغ الأرب "3/ 404".
4 "والصيصة كذا في سائر النسخ، وهو خطأ، أو هو على التخفيف. وفي الصحاح والعباب: والصيصية: شوكة الحائك التي يسوي بها السدى واللحمة، وأنشد لدريد بن الصمة:
فجئت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممد
قال ابن بري: حق صيصية الحائك أن تذكر في المعتل؛ لأن لامها ياء، وليس لامها صادًا" تاج العروس "4/ 405".
5 تاج العروس "3/ 593".
6 "قال أبو حنيفة: وهي فارسية, معرب: جنار، وقد جرت في كلام العرب. وقال الليث: هو فارسي دخيل. والصنار: رأس المغزل، ويقال: هي الحديدة الدقيقة المعقفة التي في رأس المغزل، ولا تقل صنارة. وقال الليث: الصنارة: مغزل المرأة، وهو دخيل" تاج العروس "3/ 341".(14/282)
بهما الثوب1. و"الكُفة" الخشبة المعترضة في أسفل السدى2, و"الحماران" يوضعان تحتها ليرفع السدى من الأرض, و"المثلث" قصبات ثلاث, و"المبرم" و"البريم": الحبل الذي جمع بين مفتولين ففتلا حبلًا واحدًا. و"المبرم" من الثياب المفتول الغزل طاقين؛ ولذلك أطلقت اللفظة على نوع خاص من الثياب. و"الدعائم": خشبات تنصب ويمد عليها السدى, و"الشفشقة": قصبة تشق وتوضع في السدى عرضًا؛ ليتمكن به من السقي. و"الكحّمة": ما يلحم به، وأداة الحائك المنصوبة تسمى "المنوال"، وهو "النول" أيضًا3.
وأما المادة التي يغزل منها ويحاك وينسج، فهي الصوف بأنواعه، وشعر الماعز والوبر والقطن والشاش والبز والكتان والحرير. وأما التي يغزل بها، فهي "المغزل"4, ومنه نوع بسيط يحمل باليد, وهو قديم جدًّا معروف في العصور المتقدمة قبل الإسلام، ولا يزال معروفًا ومستعملًا في الزمن الحاضر, ومنه ما هو سريع بعض السرعة. وهو على هيئة دولاب يدار بالأرض، فيكون سريعًا بالغزل بعض السرعة بالنسبة إلى اليد، ويكون مجال الغزل فيه أوسع من مجال الغزل بالمغزل اليدوي البسيط.
ويلف الغزل على آلة تسمى "الهراوة"، وذلك تمهيدًا لتقديمها إلى "النساج" لنسجها5.
ويقال للمغزل: "المُردن" أيضًا, وقيل: "المردن": المغزل الذي يغزل به الردن, والردن: الغزل. وقيل: الغزل يفتل إلى قدام، وقيل: هو الغزل المنكوس، وثوب مردون: منسوج بالغزل المردون6.
والغزل هو من أعمال النساء في الغالب، فهي تمسك المغزل وتغزل به, وقد يقوم الرجال بالغزل أيضًا. وهناك أنواع من المغازل وهي متشابهة من حيث
__________
1 "والأمدة كالأسنة جمع: مداد كسنان، وضبطه الصاغاني بكسر الصخرة ... سدى الغزل. وهي أيضا المساك في جانبي الثوب إذا ابتدئ بعمله", تاج العروس "2/ 498".
2 بلوغ الأرب "3/ 404 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "3/ 404 وما بعدها".
4 تاج العروس "8/ 42".
5 المعاني الكبير "1/ 50".
6 اللسان "13/ 178".(14/283)
الأساس والتصميم. وقد عثر على أنواع منها في مواضع من جزيرة العرب.
وفي التوراة وصف لكيفية إعداد الصوف وشعر الماعز للغزل. فقد كان على الغزَّال تنظيف الصوف والمادة المراد غزلها قبل غزلها، وذلك بنثر المادة وتنظيفها من المواد الغريبة المختلطة بها. وقد تضرب بعصا أو بآلهة خاصة، على نحو ما يفعله "النداف" في الوقت الحاضر؛ لتلطيف المادة المراد غزلها وجعلها سهلة للغزل, وقد تغسل بالماء ثم تنشف ثم تنظف. فإذا وجد أن المادة المراد غزلها صارت نقية صالحة للغزل، غزلت. وقد عثر على صور لعمال كانوا يقومون بغسل المواد قبل غزلها على نهر النيل، وقد صورت على جدران مقابر قدماء المصريين1.
وأهل الجاهلية مثل من تقدم أيضًا في تنظيف الصوف وشعر الماعز والوبر والكتان وسائر المواد الأخرى المراد غزلها، كانوا ينظفونها ويمشطونها بأمشاط خاصة؛ لإخراج ما قد يعلق بها فيها من مواد غريبة، ويعالجونها معالجة خاصة, فإذا نظفت وخلصت من الشوائب، غزلت. وقد كانوا يدقون الكتان لتهترئ أليافه وتتشقق فتنفصل، ثم يمشط بالممشقة، حتى يخلص وتبقى فتاته وقشوره، ويؤخذ الكتان لغزله ونسجه. أما الفتات والقشور، فهي المشاقة، وتستعمل في حشو الخفتان وللقبس2.
ويقال لمشاقة الكتان وللخشن من ليف الكتان والقنب: "أسطبة"3. ويظهر أنها من أصل يوناني هو ""Stippi4.
ويهيئ الفتال "السلك"، وهو الخيط, وقد يكون من حرير أو قطن أو كتان. وإذا وضع في الخيط الخرز واللؤلؤ، فيقال لذلك عندئذ: "السمط"5.
ومن اللوازم المستعملة في البيوت وفي الحياة اليومية والتجارية، الحبال، يستعملونها من لحاء الشجر في بعض الأحيان، يؤخذ فيدق ويفتل منه حبل، ويقال لذلك:
__________
1 Hastings, p. 873
2 المغرب "2/ 186"، "والمشاقة "كثمامة": ما سقط من الشعر أو الإبريسم والكتان والقطن عند المشط، أي: تخليصه وتسريحه، وهي المشاطة أيضًا". تاج العروس "7/ 70".
3 تاج العروس "1/ 298".
4 غرائب اللغة "ص252".
5 المغرب "ص264"، "والسلكة "بالكسر": الخيط الذي يخاط به الثوب، الجمع: سلك بحذف الهاء، جمع الجمع: أسلاك وسلوك" تاج العروس "7/ 144".(14/284)
"القَرَن"1، أو من شعر الماعز, أو من الأصواف، أو من مختلف الألياف المستخرجة من النبات، أو من الخوص.
أما الخيوط، فإنها أدق من الحبل، وتصنع من الكتان أو القطن أو الصوف أو الحرير، ويخيط بها. وأما "الأطنب" و"الطنب"، فإنها حبال الخيمة، تستخدم لربط الخيمة, وأما "الوتر"، فيصنع من أمعاء الحيوانات، وتوضع في الأقواس لرمي السهم، وتستخدم في الآلات الموسيقية كذلك. وتستخدم الحبال رُبُطًا يربط بها؛ يربط بها الأسرى والمساجين والحيوانات2.
والصوف مادة مهمة في صنع البسط والسجاجيد, وأكثر صوف جزيرة العرب من النوع الخشن, الذي يصلح لصنع السجاد, وتصنع منه الخيام كذلك. والمستعمل في صنع الخيام هو من شعر الماعز في الغالب, أما أصواف الأغنام، فتستعمل في الغزول والأنسجة اللطيفة التي تحتاج إلى صوف ناعم ودقيق. ولا يزال أهل البادية يصنعون خيامهم الشهيرة ذات اللون الأسود من شعر الماعز3, وقد كان عماد العبرانيين في نسجهم على الصوف وشعر الماعز والكتان4. وقد عرف البساط الضخم المنسوج من الوبر أو الصوف بـ"الأراخ"5، ويقال للفسطاط: "البلق"6.
وقد اشتهرت اليمن بالغزل والنسيج، وعرفت بإنتاج بعض البرد التي اختصت بها حتى عرفت بـ"البرد اليمانية", وهي من الأنواع الغالية الثمينة التي لا يشتريها في العادة إلا المترفون والمرفهون. وقد جعل النبي في جملة ما يدفعه أهل الجزية الثياب عوضًا عن النقد, إن لم يكن في قدرة من فرضت عليه الجزية دفعها نقدًا7, كما عرفت بصنع "الحلل" الغالية. اشتهرت بجميع أنواع الغزل والنسيج، غزل القطن والصوف والحرير، وبأنسجة الصوف والقطن والحرير. وقد كان من عادة رؤساء اليمن لبس الملابس الثمينة والحلل الغالية المصنوعة في بلادهم،
__________
1 المخصص "11/ 15"، تاج العروس "9/ 305".
2 Hastings, Dicti. Of the Bible, I, p. 479, Smith, vol., I, p. 352
3 تويتشل "ص33".
4 Hastings, p. 873
5 شمس العلوم "1/ 71".
6 شمس العلوم "1/ 185".
7 "وعلى كل حالم: ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار وافٍ أو عوضه ثيابًا"، "إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد"، ابن هشام "4/ 242"، "القاهرة 1926"، الطبري "3/ 158".(14/285)
كما كانوا يصدرونها إلى الخارج لبيعها في مختلف أسواق بلاد العرب وفي العراق وبلاد الشام.
وعرفت دور النسيج في اللهجات العربية الجنوبية بـ"تعمت". وقد ورد في كتب اللغة: "عمت الصوف والوبر: لف بعضه على بعض مستطيلًا ومستديرًا حلقة فغزله". وورد: "يعمت الغزل"1.
وقد ازدهرت صناعة غزل القطن ونسجه في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية في القرن السادس للميلاد2, فصارت صناعة الغزل والنسيج من أهم الموارد التي يتعيش عليها عدد كبير من الشعب, والتي تكون موردًا كبيرًا من موارد الدولة. وقد كان للملوك مغازل ودور نسيج تعمل لحسابهم ولهم، وقد عرفت دور النسيج الملكية بـ"تعمت ملكن"3، أي: "المنسج الملكي" و"دار النسيج الملكية".
وهناك لفظة أخرى في المسند للموضع الذي ينسج فيه وتغزل فيه الغزول، هي لفظة: "ح ل ل ت" "حللت", ويرى "رودو كناكس" أنها "حلالة", وأما النساج، فيقال له: "أنم" في المسند4، وهو للمفرد والجمع5. وعندي أن المراد بـ"ح ل ل ت" "حللت": الحلة, والحلة عند علماء اللغة: إزار ورداء، بُردٌ أو غيره. وقيل: الحلل: الوشي والحبر والخز، وقيل: كل ثوب جيد جديد تلبسه غليظ أو رقيق، وقيل: كل ثوب له بطانة، وعند الأعراب من ثلاثة أثواب: القميص والإزار والرداء6. فيراد بها الموضع الذي تعمل فيه الحلل.
__________
1 "عمت يعمت عمتًا من حد ضرب كما هو مقتضى قاعدته: لف الصوف بعضه على بعض مستطيلًا ومستديرًا حلقة؛ ليجعل في اليد فيغزل بالمدرة.. والعميتة من الوبر كالغليلة من الشعر. ويقال: عميتة من وبر أو صوف كما يقال: سبيخة من قطن وسليلة من شعر. عمت الوبر والصوف: لفه حلقة فغزله كما يفعله الغزال الذي يغزل الصوف، فيلقيه في يده.. والاسم العميت ... يعمت يغزل من العميتة، وهي القطعة من الصوف.... عمت فلان الصوف يعمته عمتًا: إذا جمعه بعدما يطرقه, وينفشه, ثم يعمته ليلويه على يده ويغزله بالمدرة ... " تاج العروس "1/ 564 وما بعدها".
2 Von Kremer, Kulturgeschichte, II, S. 326
3 الفقرة الرابعة من النص الموسوم بـ: Glaser 1150, Halevy 192, 199
4 Rhodokanakis, Aitsab. Texte, I, S. 74
5 Rhodokanakis, Aitsab. Texte I, S. 27
6 تاج العروس "7/ 283 وما بعدها"، شمس العلوم "1/ 76".(14/286)
وقد كانت بعض الحكومات تحتكر صناعة بعض أنواع النسيج، وذلك بصنع أنواع فاخرة منه لاستعمال الملوك، أو للإنعام به على الأمراء والكبراء ورجال الدين كالذي كان في مصر, ويوسم بسمة المعمل وبشعار الحكومة أو الحاكم؛ ليكون في علم الناس أنه من صنع الحكومة. وقد تبيعه الحكومة للناس, وتعد هذه الأنواع من النسيج من أفخر ما تنتجه المناسج، ويعرض في السوق.
وقد كان الملوك والكهنة والأغنياء المتأنقون بملابسهم، يرتدون أنسجة دقيقة مصنوعة صنعا خاصا بأيدٍ ماهرة متقنة لعملها، لا تصنع إلا الأنسجة الثمينة الغالية. ومن هذه الأقمشة ما كان يصنع من الكتان الخالص أو الصوف الناعم الرقيق، ومنه ما كان يصنع من الحرير الخالص أو المخلوط بمادة أخرى. وقد يقصب القماش بالذهب، يوشى به، كألبسة الملوك ورجال الدين الكبار الذين كانوا يرتدون ملابس موشاة ومطرقة في أثناء أدائهم الصلوات وإقامة الشعائر الدينية. وقد كان الملوك والكهان يستوردون الأقمشة الجيدة من أماكن أخرى اشتهرت بإتقانها وإجادتها صنع الأقمشة الجيدة، مثل بابل وبلاد الشام والهند ومصر وفارس وغيرها, لمثل هذه الأغرض1.
وقد اشتهرت منسوجات اليمن في كل مكان من جزيرة العرب، بجودتها وأناقتها، وظلت محافظة على سمعتها هذه إلى الإسلام، فكان أغنياء الحجاز وغيرها من جزيرة العرب يفتخرون بحصولهم عليها ويلبسونها خاصة في أعيادهم ومواسمهم. وكانت البرد المعروفة بـ"الحبر"، وهي برد موشاة مخططة، تعد من أثمن البرد اليمانية في القرن السادس والسابع الميلاديين، ولما قدم وفد نجران على الرسول كانوا يتوشحون بها. ولما توفي الرسول، ووضع مسجًّى في ناحية من البيت، وضعت عليه الحبرة2.
ويقال للثوب الجديد الناعم: "الحبير". وذكر أيضا أن الحبير البرد الموشى المخطط، وأن الحبرة ضرب من برود اليمن منمر، وبائعها حبري لا حبار3. وتعد "ثياب الحبرة" من الثياب الغالية الجيدة التي يلبسها الأغنياء والسادات،
__________
1 Hastings, p. 874
2 المغرب "ص104"، جامع الأصول "7/ 478"، تاج العروس "3/ 118"، "حبر", شمس العلوم "1/ 144"، الطبقات، لابن سعد "1/ 357".
3 تاج العروس "3/ 188"، "حبر"، الطبقات لابن سعد "1/ 357".(14/287)
فلما قدم وفد نجران على النبي بالمدينة "فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير"1.
واشتهرت اليمن بـ"المراجل"، وهي ضرب من البرود2. وذكر بعض علماء اللغة أن البرد المُرجل، فيه صور كصور الرجال, وورد: ثوب مرجل بمعنى معلم3، وبرد مرحل أي: برد فيه تصاوير رحل, على تفسير بعض علماء اللغة. وورد المرحلات يعني المرط المرحلة، وهي الموشاة، وقد أشير إليها في كتب الحديث4. و"القيصران" وهو ضرب من الثياب الموشاة5, والعصب ضرب آخر من البرود اليمانية يعصب غزله ثم يصبغ ثم يحاك وينسج، فيأتي موشى لبقاء ما عصب فيه أبيض لم يأخذه صبغ. وقيل: هي برود مخططة6, ويقال: ثوب مبرج, إذا كان ثوبًا ذا تصاوير7.
وقد عرفت "البُرد"، أنها أكسية يلتحف بها، وقيل: إذا جعل الصوف شقة وله هدب. وقيل: البرد من برود العصب والوشي، وأما البردة، فكساء مربع أسود فيه صغر تلبسه الأعراب، وإن البرد ثوب فيه خطوط وخص بعضهم به الوشي8.
واشتهر بلد المعافر بنوع من البرد والثياب، حتى قيل له: برد معافري وثوب معافري9. وأما "الشرعبية" فضرب من البرود10, وذكر أنها من الثياب الحارية, وإليها أشير في شعر امرئ القيس:
فلما دخلناها أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاري حديد مشطب11
__________
1 الطبقات، لابن سعد "1/ 357".
2 المعرب "ص272"، جامع الأصول "4/ 408".
3 تاج العروس "7/ 335".
4 تاج العروس "7/ 341".
5 تاج العروس "7/ 342".
6 تاج العروس "1/ 383"، المغرب "2/ 45".
7 شمس العلوم "1/ 154".
8 اللسان "3/ 87"، النهاية في غريب الحديث والأثر "1/ 86".
9 تاج العروس "3/ 494".
10 اللسان "1/ 494".
11 العمدة، لابن رشيق "2/ 220".(14/288)
وعرفت "صنعاء" بوشيها وبأنواع أخرى من النسيج1.
وعرفت اليمن بنوع من البرود سمي "عَصْبًا" لأن غزله يعصب، أي: يدرج، ثم يصبغ. وذكر أنها خاصة باليمن؛ لأنها تصبغ بالعصب, ولا ينبت العصب والورس إلا باليمن2. وقيل: العصب برود مخططة، اشتهرت بها اليمن3.
والمسندة والمسندية وأثواب سند: نوع من البرود اليمانية4. والثياب القدمية منسوبة إلى موضع باليمن5. وثوب "أكباس" "أكباش" من برود اليمن6.
وهناك ضرب من البرود قيل له: "القطرية" والمفرد: "قطري". وكان الرسول متوشحًا بثوب قطري, كما كان على عائشة درع قطري ثمنه خمسة دراهم، وذكر أن البرود القطرية حُمر لها أعلام فيها بعض الخشونة، وأنها تأتي من "قطر" بسيف البحرين7.
وعرفت الأنسجة اليمانية المصنوعة من الكتان في كل مكان من جزيرة العرب, وقد كانت لباس الأغنياء والوجهاء. وتعطي أنسجة الكتان برودة خاصة في الصيف؛ ولهذا كانت رائجة في كل مكان. وقد كانت مصر ذات شهرة خاصة في تصدير أنسجة الكتان، فقد كان كتانها لطيفًا ناعمًا؛ ولهذا بيع بثمن مرتفع. وذكر علماء العربية أن الكتان لفظة عربية النجار، سمي بذلك لأنه يُخيس ويلقى بعضه على بعض حتى يكتن8.
و"البرجد"، كناية عن كساء ضخم مخطط, وقد ذكر في شعر طرفة9. وذكر أنه كساء من صوف أحمر10.
والعباءة، هي مقابل "س م ل هـ" "سملة" "شملة" عند العبرانيين
__________
1 نهاية الأرب "1/ 369".
2 اللسان "1/ 604"، الروض الأنف "1/ 71".
3 تاج العروس "1/ 383"، "عصب".
4 اللسان "3/ 223".
5 اللسان "12/ 472".
6 اللسان "6/ 339".
7 اللسان "5/ 106".
8 اللسان "13/ 355".
9 شرح المعلقات، للزوزني "ص48" "دار صادر"، شمس العلوم "ج1 ق1 ص149".
10 تاج العروس "2/ 301"، "البرجد".(14/289)
و"Himation" عند اليونان1، وتلبس فوق الألبسة. ويكون بعضها ثقيلًا يصنع من الوبر أو الصوف، ويستعمل في الشتاء خاصة وفي الأوقات الباردة، وبعضها خفيفًا، يصنع من الصوف أو من شعر الماعز, وتستعمل في الأوقات التي لا يكون فيها البرد شديدا وفي أيام الصيف. وقد يستلقى عليها الإنسان، فتكون بمثابة فراش له. وقد تصنع العباءة من قطعتين من القماش، وقد تصنع من قطعة واحدة, وهي أحسنها وأغلاها. وتكون عباءة الأغنياء والرؤساء من قماش جيد منسوج نسجا خاصا, محلاة في الغالب من ناحية العنق والصدر والجهة العليا من اليدين بخيوط من الحرير أو الذهب يروفها "الروَّاف"، بأشكال متعددة, فيختلف سعرها لذلك باختلاف الجهد الذي بذله الرواف في تطريزها وفي زخرفتها.
وتصنع أحسن العباءات من الوبر2, وقد تفنن فيها، وتخصصت بعض الأماكن بنسجها. ولا تزال هذه الصناعة باقية تدرُّ على أصحابها ربحًا يتعيشون منه، كما تصنع من أوبار الجمال أشياء أخرى عديدة. على أن القرن العشرين قد علّم سكان الجزيرة تصدير الوبر إلى الخارج, إلى المعامل الحديثة لاستعماله مع الأصواف في صناعة الغزل والنسيج.
والشملة: كساء دون القطيفة يشتمل به كالمشمل. والمشملة عند العرب مئزر من صوف أو شعر يؤتزر به، فإذا لفق لفقين، فهي مشملة يشتمل بها الرجل إذا نام بالليل. وقيل: المشملة والمشمل: كساء له خمل متفرق يلتحف به دون القطيفة, واشتمل الثوبَ: أداره على جسده كله حتى لا تخرج منه يده3.
وقد ذكر أن الجاهليين كانوا يستوردون الجبب والأردية والأقمصة والأقمشة من بلاد العرب والشام، وكانت غالية الثمن وذات قيمة عندهم؛ لحسن صنعتها وإتقان قماشها. وقد كانت للرسول جبة من صنع بلاد الشام4، وكان له طيلسان مدبج، أي: منقوش الأطراف بالديباج5. وفي جملة ما استورد من مصر من ألبسة
__________
1 Hastings, Dict. Of the Bible, vol, I, p. 625, Gastings, a dictionary of Christ and the Gospels, vol, I, p. 498, ff
2 تويتشل "الصفحة 32"، اللسان "118"، المخصص "4/ 118".
3 تاج العروس "7/ 397"، "شمل".
4 عمدة القاري "21/ 303"، "والجبة: ثوب من المقطعات يلبس"، تاج العروس "1/ 173".
5 المغرب "ص174".(14/290)
وثياب، القباطي وهي ثياب بيض دقيقة رقيقة تتخذ بمصر1, والقسيّ وهي ثياب منسوجة من كتان وإبريسم مضلعة، تصدر من مصر، من قرية تسمى القسي فنسبت إليها.
وقد بقيت مصر تصدر القباطي حتى في الإسلام. وذكر علماء اللغة أن القباطي والثياب القبطية منسوبة إلى القبط، أهل مصر الخلص من ولد القبط بن حام بن نوح على رأي بعض النسابين، أو من ولد قبط بن مصر بن فوط بن حام على رأي فريق آخر. وذكر أن لفظة قبطية وردت في شعر لزهير, هو هذا البيت:
لِياح كأن بالأتحمية مسبع ... إزارًا وفي قبطية متجلبب2
وورد ذكرها في بيت شعر آخر ينسب له أيضًا, هو3:
ليأتينك مني منطق قذع ... باق، كما دنس القبطية الودكُ
وقد ورد ذكرها في كتب الحديث، فقد ذكر أن الرسول كسا "أسامة" قبطية4.
وأشير إلى ثياب بيض قيل لها: "القبطرى". وزعم بعض علماء اللغة أن في الكلمة غلطًا، وأن الراء زائدة5.
وعرفت بعض الثياب بـ"الأنماط"، جمع: "نمط"، وهي الثياب المصبغة, وفي حديث "ابن عمر" أنه كان يجلل بدنه بالأنماط. وذكر أن الأنماط ضرب من البسط, له خمل رقيق6.
__________
1 المغرب "2/ 107"، جامع الأصول "4/ 395"، اللسان "7/ 373".
2 تاج العروس "5/ 200".
3 اللسان "7/ 373".
4 المصدر نفسه.
5 اللسان "7/ 373".
6 قال المتنخل:
علامات كتحبير النماط
اللسان "7/ 417 وما بعدها".(14/291)
ويقال للنمط الزوج كذلك, وقيل: الزوج: الديباج واللون1.
وأما السبج، فالسبجة درع عرض بدنه عظمة الذراع، وله كُمّ صغير نحو الشبر، تلبسه ربات البيوت. وقيل: هي بردة من صوف فيها سواد وبياض, وقيل: ثوب له جيب ولا كمَّين له، يلبسه الطيَّانون. وقيل: هي مدرعة كمها من غيرها, وقيل: كساء أسود، أو القميص. وهي لفظة معربة أصلها بالفارسية "شبي", وذكر أن "السباج" ثياب من جلود2.
وقد كانت بعض الثياب المستوردة من بلاد الشام ومصر ومن الأرضين التي تسودها أكثرية نصرانية -ترد وعليها صلبان منسوجة. فلما جاء الإسلام، وأمر بطمس الصلبان، وكان الرسول إذا رأى الصليب في ثوب قضبه وقطع موضعه أو نقشه3.
وإذا كان الحرير المعروف بـ"الخسرواني"، معروفًا حقًّا عند الجاهليين، فإنه يدل على أنه كان مستوردًا من العراق، بدلالة اسمه عليه. ويذكر علماء اللغة أنه منسوب إلى الأكاسرة، وأنه حرير رقيق حسن الصنعة4.
ولفظة "حرير" من الألفاظ المستعملة في العربية، غير أن من الصعب تعيين أصلها. وقد ذكر "سترابون" أن اليونان أخذوا الحرير من الهنود؛ ولذلك أطلقوا عليه لفظة أخذوها من اسم أحد الشعوب الهندية, أما العبرانيون فقد أطلقوا عليه لفظة "مسى"5. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة "سريقوم" "Sericum" الواردة في النصوص الكلاسيكية تعني الحرير الخام, ووردت في العبرانية لفظة "دمشق" "Demeshek"، يرى بعض العلماء أنها تعني حريرًا دمشقيًّا،
__________
1 قال الأعشى:
وكل زوج من الديباج يلبسه ... أبو قدامة، محبو بذاك معا
وقال لبيد:
من كل محفوف، يظل عصية ... زوج، عليه كله وقرامها
اللسان "2/ 293".
2 اللسان "2/ 294".
3 المعرب "ص305".
4 المعرب "ص135"، "والخسرواني "بضم الأول والثالث": شراب ونوع من الثياب كالخسروي. قال الزمخشري: منسوب إلى خسروشاه من الأكاسرة"، تاج العروس "3/ 176".
5 اللسان "4/ 184"، Hastings, vol. I, p. 624. "1910"(14/292)
أي: معمولًا بدمشق. وذهب آخرون إلى أن اللفظة محرفة من لفظة "دمقس" الواردة في العربية, ويراد بها نوع من الحرير أو الحرير الخام1. والديباج من الثياب المعمولة من الحرير, واللفظة من الألفاظ الفارسية المعربة2.
ومن الثياب والأقمشة التي تحمل اسمًا معربًا "الدخدار", وهو كما يقول "الجواليقي" "تخت دار" بالفارسية. وذكر أنه ورد في هذا البيت المنسوب إلى عدي بن زيد العبادي:
تلوح المشرفية في ذراه ... ويجلو صفح دخدار قشيب3
وأشير إلى "الديباجة" في شعر "حسان بن ثابت"، ويراد بها الثياب المتخذة من الإبريسم4.
وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "سندس"، وذهب العلماء إلى أن المراد بها رقيق الديباج. وذكر بعضهم أنه ضرب من "البزيون" يتخذ من المرعزاء، واللفظة من الألفاظ المعربة5.
وأما الإستبرق، فإنه ما خشن من الديباج على رأي بعض العلماء, وأصله من الفارسية، فهو من المعربات6.
وكان الأغنياء وسادات القبائل يلبسون الألبسة المنسوجة من الحرير، وهي ثمينة غالية، يستوردونها من الخارج، وينسج بعض منها في اليمن. وقد نهى
__________
1 Smith, Dicti. Of the Bible, vol. II, p. 1310 f
2 المعرب "ص140"، تاج العروس "2/ 37"، المخصص "4/ 76".
3 المعرب "ص141"، "الدخدار، بالفتح: ثوب أبيض مصون، أو أسود. وقد جاء في الشعر القديم, وهو معرب تخت دار، فارسية، أي: يمسكه التخت، أي: ذو تخت. وقال بعضهم: أصله تختار، أي: صين في التخت، والأول أحسن"، تاج العروس "3/ 203".
4 البرقوقي "ص146"، تاج العروس "2/ 37"، "دبج".
5 المعرب "ص177"، "السندس "بالضم": البزيون ... وقال الليث: إنه ضرب من البزيون، يتخذ من المرعزي، أو ضرب من البرود. وفي الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى عمرو -رضي الله عنه- بجبة سندس. قال المفسرون في السندس: إنه رقيق الديباج ورفيعه، وفي تفسير الإستبرق: غليظ الديباج، ولم يختلفوا فيه. معرب بلا خلاف عند أئمة اللغة"، تاج العروس "4/ 168".
6 اللسان "10/ 5"، المخصص "4/ 76".(14/293)
الإسلام عن لبس الحرير؛ لما في ذلك من ترف يميت الرجولة, ومن تشبُّه بمترفي العجم، ومن تأثير يتركه استعماله في نفوس الفقراء.
ومن أنواع الثياب الجيدة المصنوعة من القز الأبيض "الدمقس"، وهو ناعم, وذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة القديمة الواردة في شعر لامرئ القيس1. ويرى بعض الباحثين أن الدمقس تحريف "مدقس" وهو الحرير الأبيض، وأن أصلها يوناني هو: ""Metaxa2.
ويعرف الحرير الجيد بالسَّرق، وقيل: السرق: شقق الحرير أو الأبيض أو الحرير عامة. وذهب بعض العلماء إلى أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها سَرَه أي: جيد. وقد ورد في الحديث: "إنك في سرقة من حرير"، أي: قطعة من جيد الحرير3. ويقال للسرق: "سريكون" "Sirikon" "Sericum" في اليونانية4, ويراد بها الحرير عامة, ومن هذا الأصل جاءت لفظة "السرق" على ما أرى.
ويعرف الحرير بـ"مشى" و"دمشق" في العبرانية, وقد ذهب بعض علماء التوراة أن للفظة "دمشق" صلة بدمشق الموضع المعروف, ودمشق من المواضع المشهورة منذ القديم بنسج الحرير. وذهب آخرون أنها من أصل "دمقس"، تحرف فصار "دمشق" ولا علاقة لها بدمشق, وأما لفظة "حرير"، فتعرف بـ"Sericum" عند اليونان واللاتين كما ذكرت. أما لفظة "حرير" المستعملة في العربية، فإن من الصعب تعيين أصلها والوقت الذي ظهرت فيه5.
والخز: ثياب تنسج من صوف وإبريسم، وقيل: إنه الثياب المعمولة من
__________
1
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
المعرب "ص151"، "الدمقس "كهزبر": الإبريسم أو القز ... أو الديباج أو الكتان ... والدمقس والمدقس مقلوب ... وثوب مدمقس منسوج به"، تاج العروس "4/ 154 وما بعدها".
2 غرائب اللغة "ص258".
3 تاج العروس "6/ 379"، المعرب "ص182"، المخصص "4/ 68".
4 غرائب اللغة "ص259".
5 Smith, A dict. Of the Bible, vol. III, p. 1310 f. Hastings, Dict. Of the Bibl, vol. I, p. 624(14/294)
الإبريسم1, وقيل: إنه الحرير2. وذكر علماء اللغة أن "اللاذ" ثياب من حرير تنسج بالصين، وأن "الإضريج" الخز الأصفر، وأن المطرف ثوب مربع من خزّ له أعلام3.
وربما كان "الديبوذ" و"الديابوذ" من الثياب التي وصلت إلى الحجاز, من الاتصال التجاري بالعراق. واللفظة من المعربات؛ ذكر الجواليقي أنها من الألفاظ الفارسية الأصل، وأن المراد بها ثوب ذو نيرين، وأورد شعرًا للأعشى جاءت فيه هذه اللفظة4.
وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "سرابيل" جمع: "سربل". وذكر علماء اللغة أن "السربال" القميص من أي جنس كان5, ووردت السربال في شعر منسوب إلى الأعشى:
مقلص أسفل السربال معتمر6
وفي هذا المعنى لفظة "سروال" والجمع: "سراويل", والسربال هو "سربالين" "س ر ب ل ي ن" في العبرانية7. وهو أيضا "السروال" في العربية و"الشروال" من أصل فارسي. وقريب من السربال والسروال "اللباس" الطويل المستعمل عند أهل القرى والفلاحين وبين كثير من أهل المدن في الوقت الحاضر, يشد عند
__________
1 اللسان "5/ 345"، تاج العروس "4/ 33".
2 المخصص "4/ 68".
3 المخصص "4/ 68".
4 المعرب "ص138 وما بعدها"، "الديبوذ: ثوب ذو نيرين ... معرب، فارسيته دوبوذ "بالضم"، ونقله الجوهري عن أبي عبيدة، وأنشد بيت الأعشى يصف الثور:
عليه ديابوذ تسربل تحته ... أرندج إسكاف يخالط عظلما
تاج العروس "2/ 562".
5 المفردات "ص228".
6 برصوم: الألفاظ السريانية "ص258"، "السربال، بالكسر: القميص أو الدرع أو كل ما لبس فهو سربال, والجمع سرابيل، قال الله تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . ومنه قول كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
... وقد تسربل به, وسربلته إياه: ألبسته السربال. ومنه حديث عثمان -رضي الله تعالى عنه-: "لا أخلع سربالًا سربلنيه الله تعالى". السربال: القميص, وكنى به عن الخلافة"، تاج العروس "7/ 374".
7 Hastings, Dict. Of the Bible, vol. I, p. 625 f(14/295)
الخصر ثم يعرض وينتهي بفتحتين ضيقتين لدخول الرجلين منهما. ولا زال "الشروال" مستعملًا بين الإيرانيين والأكراد وفي بلاد الشام, وقد ذكر علماء اللغة أن السروال لفظة معربة من أصل فارسي. وورد في حديث أبي هريرة: "أنه كره السراويل المخرفجة" أي: "الواسعة الطويلة"1, وقد اشتهر الفرس بلبس السراويل. والظاهر أن الرسول كره السراويل الواسعة الطويلة؛ لأنها كانت من سنة الأعاجم, فأراد عدم التشبه بهم. وأما القميص، فقد يقال له: "الدرع" والسربال2.
وأما "القز" "القهز"، فهما ثياب صوف كالمرعزي وربما خالطها الحرير3. وأما "الزازفية"، فثياب بيض من كتان4. وأما "الخنف" فما غلظ من الثياب5.
ومن الأكسية "الجودياء"، وقد ذكر بعض علماء اللغة أنها لفظة معربة عن أصل فارسي أو نبطي، وذكروا أن الأعشى تصرف بها في شعره فجعلها "أجياد"6.
وهناك نوع من أنواع القمصان أو البرد المنسوجة من الصوف فيها سواد وبياض, يقال لها: "سبيج" "السبيج" و"السبجة" و"السبيجة". وقد ذكر الجواليقي أنها من الألفاظ المعربة7.
والطيلسان من الألفاظ المعربة، ويراد بها: ثوب يلبس على الكتف، أو ثوب يحيط بالبدن ينسج للبس، خالٍ من التفصيل والخياطة. وذكر أيضا أنه كساء مدور أخضر, لا أسفل له، لحمته أو سداه من صوف8. وقد اشتهرت
__________
1 اللسان "11/ 334".
2 اللسان "7/ 82"، "11/ 325".
3 المخصص "4/ 68".
4 النهاية في غريب الحديث "1/ 83".
5 النهاية "1/ 4".
6 "والجودياء "بالضم": الكساء، نبطية أو فارسية، وعرَّبها الأعشى فقال:
وبيداء تحسب آرامها ... رجال إياد بأجيادها
وأنشد شمس لأبي زبيد الطائي في صفة الأسد:
حتى إذا ما رأى الأنصار قد غفلت ... واجتاب من ظله جودي سمور
قال: جودي بالنبطية هي جودياء، أراد: جبة سمور"، تاج العروس "2/ 328"، المعرب "ص111 وما بعدها".
7 المعرب "ص182"، تاج العروس "2/ 56".
8 المعرب "ص227"، المغرب "2/ 16".(14/296)
الفرس بلبسه، ويسمى عندهم بـ"تالسان"، حتى استعمل العرب جملة: "يابن الطيلسان" أي: يابن الأعجمي في الشتم، وذلك من تطلسهم به1.
والساج: الطيلسان الضخم الغليظ، وقيل: هو الطيلسان المقوَّر ينسج كذلك، وقيل: هو طيلسان أخضر. وفي حديث ابن عباس، أن النبي، كان يلبس في الحرب من القلانس ما يكون من السيجان الخضر، جمع: ساج، وهو الطيلسان الأخضر، وذكر "ابن الأعرابي" السيجان: الطيالسة السود2.
و"الشوذر" من الألفاظ المعربة القديمة على رأي بعض العلماء، ويراد بها الملحفة والإزار3.
وقد اشتهرت اليمن بصنع الأزر، واشتهرت بهذه الصناعة مواضع أخرى. وقد كان العراق يصدر الأزر إلى جزيرة العرب, واشتهرت أزره عند العبرانيين, فأطلقوا عليها "أزرت شنعار" "أزرت شنعر"، أي: "أزر شنعار", ويريدون بشنعار ما يقال له أرض بابل. وهو من نسيج جيد مبروم, وقد عرفت بـ"لُبلتي برمة" "Lubulti birme"، وعرف النساج الذي اختص بهذا النوع من الأزر بـ"أشبر برمي" ""Ushbar Birmi4.
و"القهز" و"القهزى": ثياب بيض يخلطها حرير, وهي من الألفاظ المعربة. وذكر بعض علماء اللغة أن الأصل الفارسي هو "كهزانة"5.
والخميصة: ثوب أسود معلم من خز أو صوف, وأما الأنبجانية فكساء له خمل، وقيل: الغليظ من الصوف. والفروج: القباء له فرج من وراء أو من أمام, وأما المِرط فالكساء يُتغطَّى به6.
ومن أنواع الثياب "القباء", وقد ذكر بعض العلماء أن اللفظة فارسية الأصل معربة7.
__________
1 تاج العروس "4/ 179".
2 اللسان "2/ 302 وما بعدها".
3 المعرب "ص205"، "والشوذر: الملحفة معرب، فارسيته: جادر"، تاج العروس "3/ 294".
4 Hastings, Dict. Of the Bible, vol. I, p. 230
5 المعرب "ص263"، "ثياب تتخذ من صوف أحمر كالمرعزي, وربما يخالطه الحرير. وقيل: هو القز بعينه, وأصله بالفارسية: كهزانة"، تاج العروس "4/ 72".
2 جامع الأصول "7/ 496".
7 المعرب "262"، تاج العروس "10/ 286 وما بعدها".(14/297)
و"النرمق": ثياب لينة بيض، وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأصلها "نرمة"1. وأما "النمرق" و"النمرقة"، فالوسادة أو الميثرة والطنفسة2.
ولاحتياج الإنسان إلى الملابس في كل زمن، كانت حرفة الغزل والحياكة يحترفها كثير من الناس وتعيش عليها أسر عديدة. ويمكن عدها من أهم الحرف في ذلك العهد، وعد العمال المشتغلين بها أكثر من عمال الحرف الأخرى عددًا, ولم يكن المتعاطون لهذه الحرف هم أصحاب معامل النسيج، ولكن أصحابها الأغنياء والمتمولون. أما المشتغلون بها, فعمال يشتغلون فيها بأجر يتقاضونه، ومنهم من كان رقيقًا مملوكًا يعمل لحساب سيده ومالكه، في مقابل قيامه بأوده, والقليل من العمال من كان يملك مصانع نسيج، تعمل له وتدرُّ الربح عليه.
بل كان الملوك يشاركون الشعب في امتلاك دور النسيج وينافسونهم في الإنتاج. وفي نصوص المسند إشارات عديدة إلى دور الحياكة والنسيج الملكية، وإلى إنتاجها واشتغالها, ولا يستبعد احتكارهم لها أو احتكار صناعة بعض الأنواع من النسيج وبيع الأقمشة, وقد علمنا في الجزء السابق من هذا الكتاب أن البطالمة كانوا قد احتكروا بيع أنواع معينة من النسيج وصناعتها. وقد ظل احتكار حكومات مصر لأنواع معينة من النسيج معروفًا إلى الإسلام، تنسجها في معاملها ولا تسمح للأهلين بإنتاجها، كما فعل ذلك غير المصريين أيضًا. فصناعة النسيج صناعة مهمة ذات أرباح وفوائد، وهي من أهم الصناعات في المجتمع. ولأرباحها هذه ولكونها موردًا مهمًّا، فكرت بعض الدول في احتكارها؛ للحصول على أرباحها، كما تفعل الدول في الزمن الحاضر في احتكار بعض الصناعات والمناجم وبعض المصالح العامة مثل: سكك الحديد أو التليفون والبرق وغير ذلك؛ لتكون موردًا يموِّن الدولة بالمال.
ومن أسماء القطن "الطوط"، وقيل: الطوط: قطن البردي. وورد في شعر لأمية بن أبي الصلت:
والطوط نزرعه أغن جراؤه ... فيه اللباس لكل حول يعضد3
__________
1 المعرب "ص333 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 75".
2 تاج العروس "7/ 81".
3 تاج العروس "5/ 179"، "طوط".(14/298)
ولم يقتصر عمل الحائك على حياكة الأقمشة ونسجها وحدها، بل شمل عمله كل شيء يحاك، مثل: البسط والطنافس والسجاجيد و"الدرانك" التي هي نحو من الطنافس والبسط, ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من المعربات. وذكر بعض العلماء أن "الدرنوك" و"الدرموك" ضرب من الستور والفرش، يكون فيها الصفرة والخضرة، وقال بعض آخر: إنه ضرب من الثياب له خمل قصير كخمل المناديل، وبه شبه فروة البعير, وورد أنه الطنفسة والبسط ذات الحمل, وقد تكون كبيرة تفرش البيت1. والأنماط، وهي ضرب من البسط2، وضرب من الثياب المصبغة، وثياب من صوف تطرح على الهودج3, والنساجة وهي ضرب من الملاحف المنسوجة4. والقطيفة وهي دثار مخمل, وقيل: هي كساء مربع غليظ له خمل ووبر5, والوسادة وهي المخدة6. والنمرقة وهي الوسادة، وقيل: الصغيرة منها، أو هي الميثرة، وتوضع على الرحل كالمرفقة، غير أن مؤخرها أعظم من مقدمها, ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل7.
وهناك حرفة أخرى لها علاقة بالنساجة والحياكة، هي الخياطة8. وحرفة الخياط تحويل الأقمشة إلى كسوة، وصنع الثياب والعمائم بتفصيل القماش وقصه ثم خياطته على وفق القياس المطلوب. وهي حرفة تروج في المدن, أما في البادية، فتقوم المرأة بعمل الضروريات، ويلتجئ الرجال إلى القرى والمدن في شراء ما يحتاجون إليه من ثياب. ونجد بين أسماء الثياب ما هو معرب، مما يدل على أنه منقول مستورد، وأن الخياطين الجاهليين قد رأوه فقلدوا صنعه.
كذلك نجد بين أسماء أجزاء الثوب أسماء معربة. فذكر علماء اللغة أن "الدخريص" و"التخريص" من المصطلحات المعربة، وأن أصلها فارسي، وهي تعني "البنيقة" و"اللبنة". وقد وردت "الدخارص" في شعر منسوب إلى الأعشى9.
__________
1 المعرب "ص152"، تاج العروس "7/ 129".
2 جامع الأصول "4/ 395"، تاج العروس "5/ 234".
3 المعرب "2/ 231"، تاج العروس "3/ 234".
4 جامع الأصول "4/ 399".
5 المغرب "2/ 128"، تاج العروس "6/ 224".
6 جامع الأصول "4/ 402"، تاج العروس "2/ 534".
7 تاج العروس "7/ 81".
8 تاج العروس "5/ 131".
9 المعرب "ص143 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 393"، "6/ 300".(14/299)
ويعبر عن "الخياط" بلفظة "درز"، و"بنو درز" الخيَّاطون والحاكة1. و"الخِياط": الإبرة2, والإبرة: هي التي يخاط بها، وذلك بإدخال الخيط في سمّها, أي: في ثقب الإبرة، وتخييط ما يراد تخييطه بها, والخياطة صناعة الخائط3. ويقال للذي يسوي الإبر: الأبَّار4, و"السم": الثقب، ومنه "سم الخياط"، أي: سم الإبرة5.
ومن أسماء الخياط: "القراريّ". قال الأعشى:
يشق الأمور ويجتابها ... كشق القراري ثوب الردن6
ويعبر عن خياطة الخياط الثوب خياطة متباعدة بـ"شمج" و"شمرج"، وذلك بأن يباعد بين الغرز. و"الشمرج": الرقيق من الثياب وغيرها7.
ويعبر عن الخيط بلفظة "السلك" و"السلكة"8.
والثوب: اللباس9، وهو ما يلبس10؛ ولذلك فهما من الكلمات العامة التي تطلق على أشياء عديدة. وقد اشتهرت بعض الثياب بكونها ثيابًا رقاقًا، منها "السبوب" والسب: الشقة البيضاء، وكذلك الخمار. و"الشف"، وهو الثوب الرقيق، و"اللهلة" و"النهنة": الثوب الرقيق النسج, وثوب هلهل وهلهال: رقيق النسج، وهو المتدارك النسج11.
والمواد التي يستعين بها الخياط في صنع الثياب والأكسية هي الأنسجة المصنوعة من القطن أو الحرير أو الكتان أو الأصواف أو الشاش أو البز أو الكرباس.
__________
1 اللسان "5/ 348".
2 بكسر الخاء.
3 اللسان "5/ 298 وما بعدها".
4 اللسان "4/ 4".
5 اللسان "12/ 303".
6 اللسان "13/ 177".
7 اللسان "2/ 308 وما بعدها".
8 اللسان "5/ 298"، "10/ 443".
9 اللسان "1/ 245".
10 القاموس "2/ 248".
11 المخصص "4/ 63".(14/300)
ولفظة "قطن" من الألفاظ التي يصعب تعيين أصلها, وقد ذهب كثير من الباحثين إلى أنها من أصل هندي. وفي التوراة لفظة "كربس" "Karpas"، أي: الكرباس، فسرها علماء التوراة بمعنى "قطن", ولفظة "كرباس" معروفة في العربية, وهي من الألفاظ المعربة المعروفة عند الجاهليين, وترد في لغة بني إرم وفي العبرانية واليونانية واللاتينية. وقد ذهب بعض العلماء أنها من أصل سنسكريتي وأنها تعني شجرة القطن, وقد ذكرت اللفظة في تأريخ "هيرودوتس"، وعرفها اليونان الذين كانوا في حملة الإسكندر الكبير, ودعوها "Carbasus" و"Carbasina". وقد أشار إلى القطن "هيرودوتس" و"سترابو" وصاحب مؤلف "Periplus maris Erythr" و"لوقان" "Lucan" و"Quintus Curtius" وأشاروا إلى صلتها بالهند1. واللفظة من الألفاظ الواردة في الفارسية أيضًا, وذهب علماء العربية إلى أن الكرباس ثوب من القطن الأبيض, معرب عن الفارسية2. وفي حديث عمر: "وعليه قميص من كرابيس" جمع: كرباس, وهو القطن3.
ومن أسماء القطن الخرفع والخرنع, وذكر أن "الطوط" هو قطن البردي4.
والبز عند علماء العربية: الثياب، وقيل: ضرب من الثياب، وقيل: البز من الثياب: أمتعة البزاز، والبزاز: بائع البَز وحرفته البزازة, والبِزَّة: الهيئة والشارة واللبسة5, وذكر أن "البز" ضرب من برود اليمن6.
واللباس والألبسة والملبس: كل ما يلبس7, والكسوة: اللباس أيضا, والكساء: واحد الأكسية8. وقد عرفت لفظة الكسوة في العربيات الجنوبية كذلك؛ إذ وردت في بعض النصوص: "كسوت" "كشوا" "كشوي"9. وذكر علماء العربية أن الكساء الذي لا بطانة له، يقال له: "كساء سمط"10.
__________
1 Ency. Bibli, vol. I, p. 915, Hastings, Diction. Of the Bible, vol. I, p. 623, Smith, Dict. Of the Bible, vol, I, p. 360
2 القاموس المحيط "2/ 93"، تاج العروس "4/ 231".
3 اللسان "6/ 195".
4 المخصص "4/ 69".
5 اللسان "5/ 312".
6 المعاني الكبير "3/ 1175".
7 اللسان "6/ 202 وما بعدها".
8 اللسان "15/ 223 وما بعدها".
9 Mahram, p. 439
10 اللسان "7/ 324".(14/301)
وفي العبرانية لفظة "بجد" وتقابل "بجاد" و"بجد" في العربية، وتعني: اللباس عامة من دون تمييز. أما لفظة "لبوش"، فهي من أصل "لبس"، وهي في معنى "لبوس" و"لبس" في العربية1, والبجاد عند العبرانيين من الألبسة التي تستعملها الطبقات الراقية2.
وذكر علماء العربية أن البجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب, وقيل: إذا غزل الصوف بسرة ونسج بالصيصة، فهو بجاد. ويقال للشقة من البجد: قليح وجمعه "قلح", وقيل: البجاد: الكساء3, وقيل: إنه من وبر الإبل وصوف الغنم مخيطة4.
ومن أنواع الأكسية "المشملة": كساء يشتمل به دون القطيفة, وذكر المشمل: كساء له خمل متفرق يلتحف به دون القطيفة. وورد في الحديث: "ولا تشتمل اشتمال اليهود"، وهو افتعال من الشملة، وهو كساء يتغطى به ويتلفف فيه، والمنهي عنه هو التجلل بالثوب وإسباله من غير أن يعرف طرفه5. وهو "سملة" "simlah" و"salmah" عند العبرانيين.
و"البرنس": كل ثوب رأسه منه ملتزق به دُرَّاعة كان أو ممطرًا أو جُبّة, وذكر أن "البرنس" قلنسوة طويلة، وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام. وهو من "البرس"، القطن6, وعرف بهذه التسمية أيضا عند العبرانيين7.
والملاءة: الريطة، وهي الملحفة والإزار8. وذكر أن الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين، وقيل: الريطة: كل ملاءة غير ذات لفقين كلها نسج واحد، وقيل: هو كل ثوب لين دقيق, والرائطة: المنديل9.
__________
1 Ency. Bibli, Vol. I, p. 1135. f
2 The Bible Dictionary, I, p. 30
3 اللسان "3/ 77".
4 شرح المعلقات العشر، للتبريزي "ص77".
5 اللسان "11/ 369".
6 اللسان "6/ 26".
7 The Bible Dictionary, I, p. 96
8 اللسان "1/ 160".
9 اللسان "7/ 307".(14/302)
والإزار: الملحفة، والمئزرة: الإزار1, والرداء: الذي يلبس، والجمع: أردية2. وذكر أن المئزر من الصوف أو الشعر يؤتزر به، فإذا أنفق فهو "شملة" يشتمل بها الرجل إذا نام بالليل3.
والردن: الكُمّ, يقال: قميص واسع الردن. وذكر أن الردن مقدم كمّ القميص، وقيل: هو أسفله، وقيل: هو الكم كله4.
ويصنع الخياط الهمايين جمع: "الهميان"، ويراد به الحزام وبه كيس تجعل فيه النفقة ويشد على الوسط. وقد يصنع من الجلود أيضًا، وهو من الألفاظ المعربة من الفارسية5.
أما "الكيس"، فهو لحفظ ولخزن ولحمل الأشياء, ويعرف بـ"كيس" في العبرانية كذلك، وقد يصنع من الجلد. وأما "الخريطة"، فإنها "خريط" في العبرانية, وتحفظ فيها الأشياء الثمينة، وقد تحلى وتزخرف. وأما "الصرة"، وهي "صرور" في العبرانية؛ فلصر الأشياء6. ولا تزال هذه الأسماء مستعملة معروفة.
والجاهليون مثل عرب الإسلام في اختلاف ملابسهم، فقد كان ملابسهم تختلف باختلاف منازلهم ودرجاتهم. فللشرفاء والوجهاء أهل المدن والقرى لبس خاص يميزهم عن الطبقات الدنيا من الناس, وللتجار لبس خاص بهم. أما الأعراب، فكانوا يتميزون أيضًا بطريقة لبسهم عن أهل المدن والقرى, ثم إنهم عمومًا كانوا يختلفون في ألبستهم باختلاف أمكنتهم وبحسب درجة اتصالهم واختلاطهم بالأعاجم. فقد كان عرب العراق قد تأثروا بألبسة الفرس وبألبسة بني إرم، فأخذوا منهم, وتأثر عرب بلاد الشام بالروم، فأخذوا منهم بعض ملابسهم،
__________
1 اللسان "4/ 16 وما بعدها".
2 اللسان "14/ 316 وما بعدها".
3 الأغاني "1/ 372".
4 اللسان "13/ 178".
5 المعرب "ص346"، "والهميان دخيل معرب. والعرب قد تكلموا به قديمًا، فأعربوه, ويقال له: هميان أعجر، وهمايين عجر. وقد جاء ذكر لفظ الجمع في حديث النعمان يوم نهاوند: تعاهدوا هماينكم في أحقيكم وأشساعكم في نعالكم"، تاج العروس "9/ 367 وما بعدها".
6 Hastings, Dict. Of the Bible, Vol. I, p. 231(14/303)
حتى أسماءها، احتفظوا بها، وقد حفظتها لنا كتب الإسلاميين, وبعضها لا تزال حية نستعملها هذا اليوم. ولا تختلف ألبسة الرأس المعروفة عند الجاهليين عن ألبسة الرأس المستعملة بين الأعراب وفي قرى جزيرة العرب, فقد اقتضت طبيعة الصحراء أن يحمي الجاهلي رأسه بألبسة واقية تقيه من أذى أشعة الشمس المحرقة, ومن الرمال التي تذرها العواصف في العيون وفي الأنوف. فأوجد لنفسه ألبسة رأس مناسبة له ولبساطة حياته, فستر رأسه بقطعة قماش مربعة الشكل في الغالب، تمتد على أطرافه ليتلثم بها وقت ظهور العواصف وارتفاع الرمال، أو وقت ظهور السموم، فيحمي نفسه منها ومن العطش، كما يحمي مؤخر رأسه من أشعة الشمس، ولتحميه من البرد في الشتاء كذلك. ويضع فوق هذه القطعة عقالًا، يصنع من الصوف أو من شعر الماعز أو الوبر؛ ليمسك قطعة القماش فلا تسقط. وتعرف قطعة القماش هذه بالكوفية وبـ"الكفية" في الوقت الحاضر، ويقال لها وللعقال: "الكفية والعقال" و"الكوفية والعقال" في اصطلاح المحدثين.
أما عرب بلاد الشام، فقد كانوا يضعون لبادًا فوق رأسهم, مصنوعًا من مادة مضغوطة من الصوف أو الوبر، يشبه ما يسمى بـ"العرقجين" في العراق "العرقية"، يلف حوله بقماش مختلف الألوان، قد يمتد أحد طرفيه؛ ليستعمل لثامًا للوجه وسترًا للرقبة، وهو زي الفلاحين والرعاة.
والعمامة من لباس الرأس عند الجاهليين. "والعرب تقول للرجل إذا سُوّد: قد عمم. وكانوا إذا سوّدوا رجلًا عمموه عمامة حمراء, وكانت الفرس تتوج ملوكها فيقال له: متوج"1. ويقال لها: "السبائب" كذلك, والعمامة: "السُّب"2.
وعادة صبغ الثياب، من العادات المعروفة عند العرب قبل الإسلام. وكانوا يستعملون في ذلك أصباغًا مختلفة، كالقرف وهو قشور الشجر, والجذور يستخرجون ما فيها من مادة ملونة لصبغ ما يضعونه فيها من ملابس، والأصباغ المستخرجة من بعض النباتات3. ولألوان العمائم أو الملابس دخل في المناسبات الاجتماعية، فكانوا يستعملون للحرب مثلا نوعا خاصا من العمائم ذوات ألوان خاصة، تعبر
__________
1 اللسان "12/ 424".
2 اللسان "1/ 456"، الروض الأنف "1/ 59".
3 المخصص "11/ 14".(14/304)
عن المواقع، ويستعملون في الأحزان نوعًا خاصًّا من العمائم والثياب، وفي الفرح ملابس خاصة، وهكذا، كما كانوا يقومون بتجميرها في بعض الأحوال.
ويقوم بصبغ الثياب وقصرها الصباغون، يصبغون الملابس كما يصبغون الأقمشة قبل تفصيلها وخياطتها. وذكر أن الكهان كانوا لا يلبسون المصبغ1، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك بسبب اعتقادهم أن تابع الكاهن ينفر من الصبغ.
وفي جملة الأصباغ المعروفة والشائعة عند الجاهليين: العصفر، وهو نبت أصفر يستخرج منه صبغ أصفر، تصبغ به الثياب والأقمشة وأمثالها, ومن هذه الصبغة جاءت لفظة "المعصفرات"، ويراد بها الثياب المصبوغة بالعصفر2. والورس وهو صبغ أصفر يؤخذ من نبت طيب الرائحة, تصبغ به الملابس، فيقال: ملحفة مورسة، إذا كانت مصبغة بالورس3. وقد جاء النهي عن لبس الثياب المعصفرة في الإسلام4.
والثوب الأحمر، هو الثوب المصبوغ بلون أحمر، أما "الكرك"، فالثوب الأحمر كذلك. و"ثوب مشرق": ثوب بين الحمرة والبياض، و"ثوب قتمة" و"مقتوم": ثوب سواده ليس بشديد، و"ثوب مفروك": مصبوغ بالزعفران، وزبرقت الثوب زبرقةً: صفرته. وقد سمي "الزبرقان بن بدر" بذلك؛ لصفرة عمامته5.
ويظهر أن الصباغين كانوا يمطلون بالمواعيد ويخلفون؛ لذلك ضرب بهم وبالصياغين المثل في الخلف. وورد في الحديث: "أكذب الناس الصباغون والصوَّاغون"6.
ويستعمل شعر الماعز في الغالب لصنع الخيام، وذلك للأعراب وللتجار والمسافرين وغيرهم. والاتجار بالخيام من التجارات التي كانت رائجة يومئذٍ, ويستعمل شيوخ القبائل والرؤساء والملوك خيامًا خاصة مصنوعة من أقمشة غليظة, تتحمل المطر والعوارض الطبيعية الأخرى، ولها أسعار غالية عالية، تختلف باختلاف حجمها
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 407"، "اللسان "8/ 437".
2 جامع الأصول "4/ 365".
3 المعرب "2/ 246".
4 صحيح مسلم "6/ 144".
5 المخصص "4/ 95".
6 اللسان "8/ 437".(14/305)
ونوع القماش المصنوعة منه. ولبعضها قواطع تجزئ الخيمة إلى أقسام تكون شبه غرف يسكن فيها, ويستعمل بعضها مضارب يعقد فيها ديوان الرئيس، وبعضها معابد توضع فيها الأصنام والأشياء المقدسة التي تنتقل مع القبيلة، يحملها الكهنة معهم. وقد أشير إلى هذه الأصنام المتنقلة مع القبائل في الأخبار التي سجلها الآشوريون عن حروبهم مع الأعراب، كما كان العبرانيون يصنعون خيامًا واسعة تكون مقدسة لخدمة الرب. ومن الخيم الكبار "الفسطاط", ويطلق على الأبنية كذلك1.
والبساط: ما بسط. وقد اشتهرت أنواع خاصة من البسط بين الجاهليين, منها بسط عبقر؛ والبساط العبقري من الأبسطة الجيدة، ومن عادة العرب أنهم إذا استحسنوا شيئًا أو عجبوا من شدته ومضائه نسبوه إلى "عبقر". وعبقر عندهم أرض من أرض الجن, وورد "ثياب عبقرية" نسبة إلى عبقر, حتى قالوا: "ظلم عبقري" أي: شديد فاحش2. ومن أنواع البسط: "النخ", وهو بساط طوله أكثر من عرضه، وهو فارسي معرب، وجمعه: نخاخ3.
وللعرب طرق في هيئة لبسهم وفي كيفية وضعها على أبدانهم، ولا سيما أهل الحضر منهم, كما كانوا يكيفون لبسهم حسب المناسبات في مثل الغارات والحروب والسفر. ومن ضروب لبسهم ما يقال له: "الاضطباع"، ويقال له: "التأبط"، وهو أن يدخل الثوب من تحت يده اليمنى, فيلقيه على منكبه الأيسر4.
ومن ضروب اللبس: "التفضل" وهو التوشح: أن يخالف اللابس بين أطراف ثوبه على عاتقه, وأما "الفضلة" فالثياب التي تبتذل للنوم؛ لأنها فضلت عن ثياب الصرف5. وعرف التوشح: أن يتوشح بالثوب، ثم يخرج طرفه الذي ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره. وقيل: التوشح بالرداء مثل التأبط والاضطباع، وهو أن يدخل الثوب من تحت يده اليمنى فيلقيه على منكبه الأيسر، كما يفعل المحرم6.
وأما "الاشتمال"، فهو إدارة الإنسان الثوب على جسده كله حتى لا تخرج
__________
1 المعرب "2/ 96"، تاج العروس "5/ 198 وما بعدها".
2 المخصص "4/ 73".
3 اللسان "3/ 61".
4 اللسان "7/ 254"، المخصص "4/ 97".
5 اللسان "11/ 526"، المخصص "4/ 99".
6 اللسان "2/ 633".(14/306)
منه يده. ورُوِيَ أن النبي نهى عن اشتمال الصّمّاء, والشملة الصّمّاء: التي ليس تحتها قميص ولا سراويل، وذكر أن اشتمال الصماء هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده ولا يرفع منه جانبًا، فيكون فيه فرجة تخرج منها يده، وهو التلفع، وربما اضطجع فيه على هذه الحالة. وذكر الفقهاء: أن الاشتمال هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه, فتبدو منه فرجة1.
و"السند": ضرب من ضروب اللبس عند العرب، وهو أن يلبس قميصًا طويلًا تحت قميص أقصر منه, كما أن السند ضروب من البرود، وضرب من الثياب. وذكر أن السناد هي الحمراء من جباب البرود2.
وإذا نام الشخص وأدخل رأسه في ثوبه قيل لذلك: الكبس والكباس3, و"الكمكمة": التغطي بالثياب4.
وقد عرف الجاهليون "الكلل". و"الكلة": الستر الرقيق يخاط كالبيت, يُتوقَّى فيه من البق5.
ويعبر عن الستر بـ"السجف"، وهو قماش يستر به. والسجافة: السدافة، أي: الحجاب, وكل باب ستر بسترين مقرونين فكل شق منه: سجف. وقيل: لا يسمى سجفًا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين6.
__________
1 اللسان "11/ 368"، المخصص "4/ 97".
2 اللسان "3/ 221 وما بعدها"، المخصص "4/ 99".
3 اللسان "6/ 190".
4 اللسان "12/ 528".
5 اللسان "11/ 595".
6 اللسان "9/ 144".(14/307)
الفصل الخامس عشر بعد المئة: قياس الابعاد والمساحات والكيل
...
الفصل الخامس عشر بعد المائة: قياس الأبعاد والمساحات والكيل
وقد استعمل الجاهليون قياس الأبعاد والوزن والكيل في معاملاتهم, وهي متقاربة بين الشعوب السامية؛ لاختلاط هذه الشعوب بعضها ببعض، ولمستوى تلك الشعوب في الأيام الماضية، ودرجتها في الثقافة بالنسبة إلى تلك العهود. هذا, ونجد الأوزان والمكاييل قد تطورت شيئًا فشيئًا، تطورت بالتدريج من أحوال بدائية حسية يدركها الإنسان البدائي، إلى أن اتخذت أشكالًا تستند على أسس علمية. ويستعمل الوزن لقياس الكميات, أما المسافات والأبعاد، فتقاس بالطبع بمقاييس تستند إلى أساس تقدير الأبعاد.
ويختلف أهل الجاهلية في الكيل والوزن، اختلاف الناس في هذا اليوم. منهم من يوزن الشيء، ومنهم من يكيله كيلًا. كان أهل المدينة يكيلون التمر، وهو يوزن في كثير من أهل الأمصار, وإن السمن عندهم وزن، وهو كيل في كثير من الأمصار1, وقد يباع الشيء عددًا، بينما يباع وزنًا عند قوم آخرين. والذي يعرف به أصل الكيل والوزن، أن كل ما لزمه اسم المختوم والقفيز والمكوك والمدّ والصاع فهو كيل, وكل ما لزمه اسم الأرطال والأواقي والأمناء فهو وزن. ودرهم أهل مكة ستة دوانيق، ودراهم الإسلام المعدلة كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل2.
__________
1 تاج العروس "8/ 107"، "كيل".
2 تاج العروس "8/ 107"، "كيل"، اللسان "14/ 125 وما بعدها".(14/308)
وقد كان الجاهليون يستعملون المكاييل في الغالب لقياس الجوامد والمائعات على حد سواء. وذلك كما يتبين من دراسة أسماء المعايير بالقياس إلى المعايير المستعملة عند الرومان واليونان, وكما يتبين من مراجعة معجمات اللغة، حيث تذكر المقياس في قياس الجوامد أحيانًا وفي قياس المائعات أحيانًا أخرى, وكما يتبين من عدم تفريق بعض اللغويين بين الوزن والكيل.
وقد جاءت في كتب الحديث والفقه وكتب اللغة أسماء بعض العيارات والموازين التي كان يستعملها العرب قبل الإسلام. ويظهر من هذه الكتب أن هذه العيارات والموازين كانت تختلف باختلاف المواضع، وإن اتفقت في الأسماء؛ فبين مكة والمدينة مثلًا اختلاف في تقدير العيارات. كذلك اختلف العرب في وزن الأشياء في بعض الأحيان، فقد ذكر أن أهل المدينة كانوا يكيلون التمر، وهو يوزن في كثير من الأمصار, ثم إن بعض المواد تكال وتوزن، فالسمن يكال في بعض الأماكن، ويوزن في أماكن أخرى، ويكال ويوزن في آنٍ واحدٍ في أماكن غيرها1. وقد ورد في الحديث: "الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة"2.
والكيل والوزن سواء في معرفة المقادير, وتعني لفظة "كال" معنى وزن. وقد ورد عن النبي أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة, والميزان ميزان أهل مكة"3, وورد: الكيل: كيل الطعام، يقال: كلتُ الطعام: إذا توليت ذلك له. وورد في القرآن الكريم: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 4, وذلك إن كان مخصوصًا بالكيل، فحثَّ على تحري العدل. وقد وردت لفظة: "الكيل" و"كيل" و"المكيال" و"كلتم" و"اكتالوا" و"نكتل" في مواضع من القرآن الكريم5.
ويعبر عن الوزن وعن قياس الأبعاد بلفظة: "كل" "كال" أي: "كالَ"
__________
1 تاج العروس "8/ 107"، "كيل".
2 جامع الأصول "1/ 371".
3 جامع الأصول "1/ 371"، اللسان "11/ 605".
4 سورة المطففين، الآية 1 وما بعدها، المفردات "460".
5 الأنعام، الآية 152، الأعراف الآية 85، يوسف الآية 59، 60، 63، 65، 88، الإسراء، الآية 35، الشعراء, الآية 181، هود، الآية 84 وما بعدها.(14/309)
في المسند, والوحدة "كلت" أي: "كيلة"1, أما في عربيتنا فقد استعملت في الوزن والكيل2. وجاء الكيل: كيل الطعام3, وورد: كال البئر، أي: قدر ما فيها من ماء4, والاسم "الكيلة"، والكيل، والمكيل، والمكيال، والمكيلة: ما كِيلَ به حديدًا كان أو خشبًا, وكان الدراهم والدنانير: وزنها.
وفي معنى "كلت" ترد لفظة "سفرت" "سفرة", وتستعمل خاصة في قياسات الأبعاد، مثل البعد بين مكانين، أي: المسافات والأطوال, فهي بمعنى مرحلة أي: وحدة قياسية للبعد5, ومعدل ما يسافره الإنسان أو تقطعه القافلة في اليوم، أي: السفرة التي تتمكن منها القافلة في اليوم، فسفرت هي سفرة في لغتنا، أي: مرحلة.
وتعد قياسات الأبعاد والموازين والمكاييل البابلية من أهم وأدق المكاييل والأوزان عند الشعوب الشرقية؛ فقد استند البابليون في قياساتهم هذه إلى أسس علمية. وهم في ذلك أدق من قدماء المصريين، ومن اليهود6.
والعادة قياس الأبعاد الصغيرة والمسافات القصيرة بمقاييس تتناسب مع هذه الأبعاد, وذلك باستعمال مقاييس صغيرة مثل: الإصبع والشبر والذراع، صارت أساسًا للمقاييس التي تقاس بها المسافات البعيدة، مثل المسافات بين مراحل السفر أو الأبعاد بين المدن والقرى وما شاكل ذلك. إذ لا بد من اتخاذ وحدة قياسية كبيرة في قياس الأبعاد الطويلة؛ لسهولة الضبط والحفظ، ولهذا اصطلحت الأمم على اتخاذ وحدات كبيرة في قياسات المراحل والأبعاد، سمتها.
وقاس الجاهليون مساحات الأرضين الزراعية, بمقدار البذور المنثورة وبمقدار ما يحرثه ثور واحد أو حيوان في نهار, ويراد بذلك متوسط عمل محراث واحد في الأرض. فتقدر مساحة أرض بمقدار كميات البذور التي تنثر في الأرض، وتذكر عندئذٍ مقدار كيلات البذور المنثورة، ويدل عددها على مساحة الأرض.
__________
1 Rhodokanakis, Stud., II, S. 79
2 اللسان "11/ 604 وما بعدها" "دار صادر".
3 المفردات "ص460".
4 اللسان "11/ 604" "دار صادر".
5 Rhodokanakis, Stud, II, S. 79
6 Hastings, p. 967(14/310)
ولو تعمقنا في دراسة قياس المسافات، فإننا نجد أن الإنسان قد استعان بأجزاء جسمه في بادئ الأمر في القياسات، فاستعان بالإصبع، واعتبره وحدة قياسية صغيرة لقياس البعد، استعمل عرضه كما استعمل طوله. واستعمل "الكف" قياسًا للأبعاد كذلك, وهو أربع أصابع عند العبرانيين1, واستعمل "الشبر" للأبعاد التي تزيد على الكف, والشبر هو مسافة ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر، ويساوي ثلاث كفوف, ويعدل من ثمانية قراريط إلى أحد عشر قيراطًا. واستعملت "الذراع" وجعلوها تعادل شبرين, وتقدر بنحو قدم إلى قدمين. ثم "الخطوة" وتعادل ذراعين أو ثلاث أقدام أو اثنتي عشرة كفًّا. ثم "القامة"، وتعادل خطوتين أو أربع أذرع أو ستة أقدام. ثم "القصبة", وتعادل قامة ونصف قامة، أو ستة أذرع, وتعادل تسع أقدام أو ستًّا وثلاثين كفًّا2.
والكف -عند العرب-: اليد، أو منها إلى الكوع3. والشبر: ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر، ويكال به, ومنه "الشبر": كيل الثوب بالشبر، يشبره شبرًا4. والذراع من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى, وقيل: الذراع والساعد واحد, يقال: ذرع الثوب وغيره: قاسه بالذراع, وهو ما يذرع به من حديد أو قضيب5. و"الباع": قدر مد اليدين وما بينهما من البدن، ويستعمل في قياس الأعماق، مثل الآبار، وأعماق الماء6.
والخطوة ما بين القومين7, والقامة عند العرب: مقدار هيئة رجل، والبكرة بأداتها، وقيل: البكرة التي يستقى بها الماء من البئر8. والقامة: مقياس أيضًا تقاس به الأعماق9.
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 231".
2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 231"، Hastings, p. 967
3 تاج العروس "6/ 234"، "كف".
4 تاج العروس "3/ 228"، "شبر".
5 تاج العروس "5/ 333 وما بعدها"، "ذرع".
6 تاج العروس "5/ 283"، "بوع".
7 تاج العروس "10/ 115"، "خطا".
8 تاج العروس "9/ 36"، "قوم".
9 قال أبو ذؤيب:
فلو كان حبلًا من ثمانين قامة ... وخمسين بوعًا نالها بالأنامل
"وفي الديوان: وتسعين باعًا، وأما بوعًا فإنه رواية الأخفش"، تاج العروس "5/ 283"، "بوع".(14/311)
وذكر الذراع في القرآن الكريم في آية: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} 1. ويعبر به عن المذروع، أي: الممسوح بالذارع2. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الذراع من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى3, وذكر بعض العلماء أن الذراع والساعد واحد. وأما المذارعة فالبيع بالذراع4, ويقال: ذراع من الثوب والأرض5. فتستعمل المذارعة -إذن- في الأموال المنقولة التي لها اتساع مثل: الثياب والأقمشة والخشب وما شابه ذلك، كما تستعمل في ذرع الأرض. وقد اختلف الذراع الجاهلي عن الذراع في الإسلام6.
والقصبة من أصل "Kas - Pu" في البابلية، ومعناه: "ساعتان"، أي: مسيرة تقطع في ساعتين. وورد "Kas - Pu Kakkari" في النصوص البابلية، ويراد بالجملة ما يقابل "قصبة أرض" أو "ميل أرض"7. وقد كان أهل مصر في الإسلام يمسحون أرضهم بقصبة طولها خمسة أذرع بالتجاري، فمتى بلغت المساحة أربعمائة قصبة، فاسمها: الفدان8.
و"الغلوة"، وكانت مقياسًا يونانيًّا، وتعادل نحو "145" خطوة، أو ثُمن ميل, وتسمى "فرسخًا" أيضًا9. وذكر علماء اللغة أن "الغلوة" قدر رمية بسهم، وتستعمل في سباق الخيل10, وقيل: هي قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة ذراع. وذكر بعض علماء اللغة، أن الفرسخ التام خمس وعشرون غلوة11.
وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الفرسخ ساعة من النهار, وقال بعض آخر: إنه المسافة المعلومة، وهو ثلاثة أميال هاشمية أو ستة أو اثنا عشر ألف ذراع أو عشرة آلاف ذراع. واللفظة من الكلمات المعربة، وهي "Frasong" "فرسنك"
__________
1 الحاقة، الآية 23، تفسير الطبري "29/ 40 وما بعدها"، "بولاق".
2 المفردات "176".
3 تاج العروس "5/ 333 وما بعدها".
4 Ency., I, p. 959
5 المفردات "176".
6 تاج العروس "8/ 123"، "ميل".
7 Schrader, S. 339
8 تاج العروس "5/ 203"، "قرط".
9 قاموس الكتاب المقدس "2/ 232".
10 اللسان "15/ 132" "صادر".
11 تاج العروس "10/ 269"، "غلا".(14/312)
في الفهلوية. وقد أشير إلى هذا المقياس الفارسي في بعض مؤلفات الكتبة اليونان مثل "هيرودوتس" و"كسينوفون" "Xenophon", وهو "Farsong" في الفارسية الحديثة, PRasakha في لغة بني إرم1.
وأما "الميل"، فمقياس روماني. وقد اختلف في طوله، فقيل: إنه ثلث الفرسخ، وقيل: إنه ثلاثة آلاف ذراع أو أربعة آلاف، وقيل: أربعة آلاف خطوة، كل خطوة ثلاثة أقدام, وقيل: إنه سدس الفرسخ, وهو من الألفاظ المعربة من أصل ""Miloin2. وذكر علماء اللغة أن الميل هو المنار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض، وأنه أيضا الأعلام المبنية على الطرق لهداية الناس3.
وقد استخدم الجاهليون مصطلحات خاصة في تقدير المسافات والأبعاد، ولا سيما في الأسفار. فاستعملوا مصطلح "مسيرة ساعة" ومسيرة ليلة ومسيرة نهار ومسيرة قافلة وأمثال ذلك, وقصدوا بذلك معدل ما يقطعه الإنسان والقافلة في المدد المذكورة. واستعملوا "البريد" في تقدير الأبعاد والمسافات، و"البريد": فرسخان، كل فرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع أو أربعة فراسخ، وهو اثنا عشر ميلًا. وفي الحديث: "لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد" وهي ستة عشر فرسخًا, وفي كتب الفقه: السفر الذي يجوز فيه القصر أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلًا بالأميال الهاشمية في طريق مكة4.
وقاس الجاهليون المساحات، مثل مساحات البيت أو الملك كالأرضين, بالذراع إن كانت غير كبيرة, أما إذا كانت كبيرة، فقد قيست بمقدار متوسط ما يحرثه "الفدان" في اليوم. وذكر علماء اللغة أن "الفدان" الثوران اللذان يقرنان فيحرث عليهما، وأن الفدان المزرعة5, والآلة، ومقدار محدود من الأرض اصطلح الناس على تحديد مقداره6.
__________
1 تاج العروس "2/ 272 وما بعدها"، البلدان "1/ 35"، "الباب الثالث"،
Ency, II, p. 70, Gorn, Grundriss der Iranische Philolgie, I, 127
2 تاج العروس "8/ 123"، البلدان "1/ 36"، Hastings, p. 968
3 تاج العروس "8/ 123"، "ميل".
4 تاج العروس "2/ 298"، "برد".
5 اللسان "13/ 321"، "صادر"، "فدن".
6 تاج العروس "9/ 299"، "فدن".(14/313)
وتقاس الأرض بالجريب أيضا, قال علماء اللغة: الجريب من الأرض: مقدار معلوم الذراع والمساحة، وهو عشرة أقفزة، كل قفيز منها عشرة أعشراء، فالعشير جزء من مائة جزء من الجريب, وقيل: الجريب: المزرعة، وقدر ما يزرع فيه من الأرض. وقد استعمل للطعام ولتقدير غلة الأرض، أي: وحدة قياس للأرضين، ومكيلة في آن واحد1. وقال بعض العلماء: إنه يختلف باختلاف البلدان2.
ومن وحدات القياس في اليمن: "أم ب" "أمت", وقد ذكرت هذه الوحدة في نصوص المسند, وتقاس بها الأبعاد طولًا وعرضًا3. وذكر علماء اللغة أن "الأمت" الحزر والتقدير، يقال: كم أمت ما بينك وبين الكوفة؟، أي: قدر، وأمت القوم أمتًا: إذا حزرتهم4. فللمعنى إذن صلة بالمعنى المفهوم من اللفظة في لغة المسند.
والشوحط من وحدات قياس الأبعاد كذلك, فورد: "سدثي شو حطم"، أي: ستون شوحطًا, وقد ذكر هذا المقياس في كتابات المعينيين5. ولعله قصبة أو خشبة، حدد طولها، واعتبرت كالمتر و"الياردة" وحدة أساسية لقياس الأبعاد. و"الشوحط" في كتب اللغة: ضرب من شجر الجبال تتخذ منه القسي، أو ضرب من النبع تتخذ منه القياس6. فلا يستبعد وجود صلة بين الشوحط اليماني وهذا الشوحط، وهو اتخاذ قضب الشوحط مقياسًا معينًا محددًا؛ لقياس الأبعاد.
وترد في بعض كتابات المسند لفظة "ممد" مع العدد، كأنها استعملت للتعبير عن قياس. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها لا تعبر عن وحدة قياسية قائمة بذاتها، كما تعبر لفظة قدم أو ذراع، بل هي تعبر عن معنى عام، هو مسافة
__________
1 اللسان "1/ 260"، "صادر"، "جرب".
2 تاج العروس "1/ 129"، المخصص "12/ 264 وما بعدها"، برصوم "ص136".
3 راجع الفقرة الرابعة من النص: Glaser 1150, Halevy 192, 199
4 تاج العروس "1/ 522"، "أمت".
5 راجع النص الموسوم بـ: Halevy 352
6 تاج العروس "5/ 165"، "شحط".(14/314)
أو كيل أو وزن. ويفهم ذلك المعنى من مكان الكلمة وموضعها في الجملة1.
وأما وزن الأشياء، أي: تقدير مقدار ثقلها، فيختلف في الغالب باختلاف طبيعة الشيء المراد معرفة وزنه وتقدير ثقله؛ فإذا كان الشيء جافًّا قدر بمعايير خاصة، وإذا كان سائلًا قدر بمعايير أخرى, غير أن هذا التفريق لا يعد قاعدة عامة، وإنما يختلف باختلاف الأماكن والأعراف والعادات. فقد يزن بعض الناس المائعات بمعايير توزن بها الأشياء الجافة عند أناس آخرين، فالسمن مثلًا يوزن ويكال، والتمر يوزن ويكال، وهناك أمثلة عديدة أخرى من هذا القبيل2.
وأما الأوزان، أي: معرفة الخفة أو الثقل للأشياء التي يراد وزنها لمعرفة مقدارها، فقد كانت توزن بوضعها في إحدى كفتي ميزان ووضع الأوزان في الكفة الثانية. وقد كانت للأوزان البابلية شهرة، وعليها كان اعتماد العبرانيين.
والميزان الآلة التي يوزن بها, وقد ذكر علماء اللغة أسماء أجزاء الميزان. والميزان الذي كان يستعمله الجاهليون لا يختلف عن الميزان المستعمل عند الشعوب الأخرى. ويقوم الوزن على أساس المعادلة بين الكفتين3.
ويظهر أن الجاهليين كانوا قد أخذوا الأوزان من العراق ومن بلاد الشام، واستعملوها كلها وبأسمائها الأصلية، وذلك بدليل ما نجده في أسماء هذه الأوزان التي استعملوها من مسميات بابلية أو آرمية وفهلوية ويونانية ورومانية. لقد أخذوها بتعاملهم مع أهل العراق ومع أهل بلاد الشام، وأدخلوا مسمياتها إلى لغتهم بعد إدخالهم بعض التحوير والتغيير عليها لتتناسب مع النطق العربي. وقد كان لا بد لهم من استخدام تلك الموازين كلها أو أكثرها على حد سواء؛ لأنهم تعاملوا وتاجروا مع العراق وبلاد الشام منذ القدم. فكان لا بد لهم من التعامل مع كل بلد بموازينه وبمقاييسه، ومن استعمال هذه الأوزان في بلادهم أيضا بحكم ذلك التعامل والاتجار، كما نستعمل اليوم الأوزان والمقاييس الأجنبية في التعامل عندنا بدلًا من الموازين والمقاييس القديمة.
__________
1 Rhodokanakis, Kata. Textile, II, S. 34
2 اللسان "14/ 125".
3 المخصص "12/ 263".(14/315)
ومن الأوزان التي يعود أصلها إلى الروم: "الرطل"، وهو "Litra" عند اليونان, والأوقية وتقابل Ounguiya"" "ONCIA" عند البيزنطيين1. و"الدرهم"، وهو وحدة وزن، وقطعة نقد، من "Dhrakhmi"2, و"قيراط" وهو من ""Keration3.
ومن وحدات القياس التي يعود أصلها إلى الفارسية: "الدانق"، فإنه من "دانك"، وهو سدس الدرهم4. وأما "المثقال" فمن أصل آرامي، من ""Matqolo5.
والقسطاس: الميزان، ويعبر به عن العدالة، كما يعبر عنها بالميزان6. ويذكر العلماء أن القسطاس أقوم الموازين7, و"القسط" مكيال يسع نصف صاع, و"الفرق" ستة أقساط. وذكر بعضهم أن "القسط" أربعمائة وواحد وثمانون درهمًا, والقسط: الحصة من الشيء، والمقدار8.
ويقاس الذهب بالوزن، وكذلك الفضة، فكان التجار يحملون معهم الموازين ليزنوا بها هذين المعدنين. وقد كان "الشاقل" هو وحدة القياس للوزن عند الجاهليين, ويقال في العربية: "شقل الدينار وشوقل الدينار، بمعنى: وزنه وعايره وصححه". وجاء أن الشقل: الوزن, يقال: اشقل لي هذا الدينار، أي: زنه9. واللفظة من الألفاظ البابلية التي دخلت إلى لغة بني إرم, وإلى العبرانية والعربية10.
و"الحبَّة" من العيارات المستعملة عند الجاهليين والتي بقيت مستعملة في الإسلام كذلك، ولا تزال تستعمل. أما وزنها فاختُلف فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة
__________
1 غرائب اللغة "254".
2 غرائب اللغة "258".
3 غرائب اللغة "267".
4 غرائب اللغة "227".
5 غرائب اللغة "176".
6 المفردات "413".
7 المخصص "12/ 263 وما بعدها".
8 تاج العروس "5/ 205"، "قسط".
9 اللسان "11/ 356"، القاموس "3/ 401".
10 غرائب اللغة "ص191"، برصوم، الألفاظ السريانية "ص97" Schrader, S 340(14/316)
وقد قدرها بعضهم بعُشر الدانق1, وقدرها بعض آخر بسدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءًا من درهم2.
والقيراط، هو نصف دانق. وذكر بعض العلماء أنه جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في بعض البلاد في الإسلام، وجزء من أربعة وعشرين في بلاد الشام3, وهو عند الروم جزء من أربعة وعشرين من أجزاء شيء. وهو من أصل رومي هو ""Keration4, ويظهر أن وزنه لم يكن ثابتًا، بل اختلف باختلاف البلدان5.
و"المثقال" من الأوزان القديمة عند العرب، وقد وردت لفظة "مثقال" في القرآن الكريم بمعنى مقدار ووزن6. ويظن بعض المستشرقين أن "المثقال" من أقدم المعايير عند العرب، ويستعمله العطارون والصيارفة وباعة اللؤلؤ والحجارة الثمينة. وهو عبارة عن اثنتين وسبعين شعيرة, وفي بعض الموارد: المثقال: عشرون قيراطًا, وهو يقابل الـ"Solidus" عند الروم على وفق النظام الذي أقره القيصر "قسطنطين" "Costantine", وهو نظام اتبع في بلاد الشام وأقره العرب واستعملوه7. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الآرمية من أصل "متقولو" "Matqolo" على بعض الآراء8.
والأوقية من الأوزان التي كانت مستعملة في الجاهلية. وقد اختلف العلماء في ضبط وزنها وتعيين مقداره؛ فقال بعضهم: هي سبعة مثاقيل، وإنها أربعون درهمًا, وقال بعض آخر: هي أربعون درهمًا. وقد ورد في الحديث: "ليس فيما دون خمس أواقٍ من الوَرِقِ صدقة"9, وفي حديث النبي، أنه لم يصدق امراة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش. قال مجاهد: الأوقية: أربعون درهمًا،
__________
1 تاج العروس "5/ 205"، Ency., II, p. 185.
2 القاموس "3/ 330"، تاج العروس "5/ 180"، "دنق".
3 اللسان "7/ 375"، "قرط".
4 غرائب اللغة "ص267".
5 تاج العروس "5/ 203"، "قرط".
6 تاج العروس "7/ 245"، "ثقل".
7 Ency., III, p. 558
8 غرائب اللغة "176".
9 تاج العروس "10/ 396"، "وقى".(14/317)
والنشُّ عشرون1, وهي تقابل "Uncia" عند الروم.
و"البزمة" وزن ثلاثين درهمًا2.
وقد أشير في الحديث إلى "نواة من ذهب"، وقد جعل بعض العلماء النواة زنة، وقال بعض آخر: النواة من العدد عشرون أو عشرة، أو هي الأوقية من الذهب أو أربعة دنانير أو ما زنته خمسة دراهم أو ثلاثة دراهم ونصف أو ثلاثة دراهم وثلث3.
وقد كان الجاهليون يبايعون الذهب والفضة بالأوزان التي ذكرتها مثل: النواة والحبة والشعيرة والمثقال والأوقية. ولما جاء الرسول المدينة وجد أهلها يبايعون اليهود الوقية من الذهب بالدنانير، فقال لهم: "لا تبيعوا الذهب الذهب إلا وزنًا بوزن"4.
وأما الرطل، فإنه في مقابل "Litra" في اليونانية، و"Libra" في اللاتينية, وهو قدر نصف "منّ", وهو من الأوزان المعروفة عند الجاهليين. وذكر أن الرطل الجاهلي هو ضعف الرطل الإسلامي، وقد اختلف وزنه عند المسلمين باختلاف الأماكن والمواضع والناس5. وذكر بعضهم: الرطل اثنتا عشرة أوقية بأواقي العرب، والأوقية أربعون درهمًا, فذلك أربعمائة وثمانون درهمًا6.
وأما "المن"، "Mna" "Maneh" "MINA" "MnH" "MANA" "منا" و"منو" "Mnu" في البابلية، فإنه خمسة عشر شاقلًا، وعشرون شاقلًا, وخمسة وعشرون شاقلًا، أي: إنه ورد في ثلاثة أوزان, فعرف كل وزن من هذه الأوزان الثلاثة باسم "من"7. وهو معروف عند قدماء اليونان، وعند السريان8, وهو من الأوزان المعروفة عند العرب الجاهليين.
__________
1 اللسان "15/ 404"، "صادر"، "وقى"، تاج العروس "8/ 202"، "بزم".
2 تاج العروس "8/ 202"، "بزم".
3 تاج العروس "10/ 219"، عمدة القاري "11/ 164".
4 صحيح مسلم "5/ 46 وما بعدها".
5 Ency., III, p. 1129
6 تاج العروس "7/ 346"، "رطل".
7 قاموس الكتاب المقدس "2/ 425"، Hastings, p. 970, Shrader, Keil. Und das alte Testment, S. 338
8 غرائب اللغة "270".(14/318)
وقد ذكر علماء اللغة أنه كيل أو ميزان وهو رطلان1.
والقنطار وزن أربعين أوقية من ذهب، وقيل: ألف ومائتا دينار، وقيل: ألف ومائتا أوقية، وقيل: سبعون ألف دينار، وقيل: ثمانون ألف درهم، وقيل: مائة رطل من ذهب أو فضة. وزعم بعض علماء اللغة أنه سرياني، وزعم آخرون أنه عربي2. ويظهر أنه لاتيني الأصل, وأنه من أصل "Centenarium Pondus" أي: وزن يساوي مائة ضعف وزن آخر3. وقد اختلف العلماء في القنطار، وقد ذكر العلماء آراءهم فيه, ويظهر أنهم كانوا قد اختلفوا فيه في الجاهلية كذلك، وسبب ذلك على ما يظهر أنهم استعملوه وزنا، أي معيارا، واستعملوه ثمنا، أي بمقدار ما يعادله بالذهب والفضة، وبالنقد، ثم بالمقايضة، مثل قولهم: إنه ملء ثور ذهبًا أو فضة4.
وقد ذكر في الآية: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 5, وفي الآية: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} 6, وورد: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} 7. وفي الإشارة إلى القنطار في القرآن الكريم دلالة على استعماله في الحجاز, وربما في أماكن أخرى من جزيرة العرب كذلك.
والقناطير جمع قنطار, ومعنى القناطير المقنطرة: المال الكثير من الذهب والفضة، والمال الكثير بعضه على بعض. ويظهر من اختلاف المفسرين وسائر العلماء في مقدار القنطار أن العرب لا تحد القنطار بمقدار معلوم من الوزن, ولكنها تقول: هو قدر ووزن؛ لأن ذلك لو كان محدودًا قدره عندهم, لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف8.
والمُدّ مكيال، وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملء كفي الإنسان المعتدل،
__________
1 تاج العروس "9/ 350"، "منن"، برصوم "121".
2 المخصص "12/ 266".
3 غرائب اللغة "279"، Ency., II, p. 1022
4 تاج العروس "3/ 509"، "قنطر".
5 آل عمران: الآية 75.
6 النساء: الآية 19.
7 آل عمران: الآية 14.
8 تفسير الطبري "3/ 130"، "طبعة بولاق".(14/319)
إذا ملأهما ومد يده بهما، وبه سمي مُدًّا1. وقيل: هو ربع الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد. وقد اختلف في مقدار المد في الإسلام، وقد ورثوا ذلك من الجاهلية، فقد اختلفوا في مقداره أيضا باختلاف مواضعهم2.
والصاع من المكاييل التي كان يستعملها أهل الحجاز عند ظهور الإسلام, وقد عرف خاصة عند أهل المدينة, ويأخذ أربعة أمداد, وهو يأخذ من الحبّ قدر ثلثي الصاع في بعض الأماكن, وكان لأهل المدينة صيعان مختلفة. وورد صاع المدينة أصغر الصيعان, كما ورد في كتب الحديث والفقه، صاع النبي وصاع عمر3, وقد كالوا به التمر والحبوب4. وقد اختلف العلماء في مقداره في الإسلام, ومرد ذلك إلى الجاهلية الذين كانوا يختلفون في تقدير الصاع. وذكر المفسرون أن "صواع الملك"، أو "صاع الملك" حسب قراءة "أبي هريرة" كناية عن الصاع الذي يكال به الطعام, وذكر أنه الإناء الذي يكال به الطعام، وإناء يشرب فيه، وكان يشرب منه الملك، وهو من فضة. وكان للعباس في الجاهلية واحد، وهو المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه، كانت تشرب فيه الأعاجم5.
والقفيز من المكاييل القديمة المستعملة لتقدير كميات الأشياء الجامدة، ويتسع لنحو عشرة "جالونات"، وأصله من المكاييل البابلية. وقد ذكره المؤرخ "أكسينيفون"6، وهو عند العرب أصغر من القاب ""Cub7.
والوسق من المكاييل التي كان يستعملها العرب قبل الإسلام كذلك. قيل: هو ستون صاعًا, وقيل: هو حمل بعير, وقيل: الوسق مائة وستون منًّا, وقال الزجاج: خمسة أوسق هي خمسة عشر قفيزًا, وكل وسق بالملجم هو ثلاثة أقفزة. وقيل: إن الوسق ستون صاعًا, وهو ثلاثمائة رطل وعشرون رطلًا عند
__________
1 القاموس "1/ 337"، تاج العروس "2/ 498"، "مدد".
2 تاج العروس "2/ 498"، "مدد".
3 عمدة القاري "11/ 247 وما بعدها"، جامع الأصول "1/ 374"، المخصص "12/ 264"، اللسان "10/ 82"، تاج العروس "5/ 423"، "صاع".
4 صحيح مسلم "5/ 6 وما بعدها".
5 تفسير الطبري "13/ 13"، تفسير القرطبي "9/ 230".
6 Anabasis, I, 5
7 J. Abermyer, Die Landschaft Bobylonien, s. 221. ff, 241(14/320)
أهل الحجاز, وأربعمائة رطل وثمانون رطلًا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد. والأصل في الوسق الحمل, وقيل: الوسق: العِدْل، وقيل: العدلان، وقيل: هو الحمل عامة1.
واستعملوا الحمل كيلًا، وقد رأينا أن بعضهم عرَّف الوسق بأنه عدل أو عدلان، وهو مقدار ما يحمله الحيوان. وبهذا المعنى وردت لفظة "الوقر" وتطلق على حمل البغل أو الحمار أو البعير2، فهو شيء تقديري غير مضبوط تمامًا. وقد ورد في القرآن الكريم: {كَيْلَ بَعِيرٍ} 3؛ وذلك تعبيرًا عن حمل بعير، وهو مقدار ما يحمل, كما ورد فيه: {حِمْلُ بَعِيرٍ} في المعنى نفسه4.
ولا يزال العرف جاريًا بين أهل القرى والبادية في البيع "حمولًا"، جمع: "حمل"، وهو حمل "بعير" أو حمار أو غير ذلك من الدواب التي تنقل الشيء الذي يراد بيعه مثل الملح أو "العوسج" أو "العاقول" أو "حطب البادية" أو الزرع إلى الأسواق، فتباع حملا لا وزنا، ويشتريه المشترون على هذه الصفة.
وذكر علماء اللغة، أن الكر مكيال لأهل العراق، وقد أشير إليه في كتب الحديث, وذكر أنه ستة أوقار حمار، وهو عند أهل العراق ستون قفيزًا. والقفيز ثمانية مكاكيك, والمكوك صاع ونصف, وهو ثلاث كيلجات. وذكر "الأزهري" أنه اثنا عشر وسقًا، كل وسق ستون صاعًا أو أربعون إردبًّا بحساب أهل مصر5. وهو "كور" في لغة بني "إرم"، ويعادل عند أهل بابل وقر ستة حمير6.
وذكر علماء اللغة أن "المكوك" طاس يشرب به, أعلاه ضيق ووسطه واسع، والصاع كهيئة المكوك, وكان للعباس مثله في الجاهلية يشرب به. وقد ورد في الحديث أن الرسول كان يتوضأ بمكوك. ويسع صاعًا ونصفًا، أو نصف رطل
__________
1 اللسان "12/ 258"، المخصص "12/ 265 وما بعدها"، المفردات "545"، تاج العروس "7/ 89"، "وسق".
2 اللسان "12/ 258"، المخصص "12/ 260".
3 سورة يوسف، الآية 65.
4 يوسف، الآية 72.
5 شرح القاموس "3/ 519"، اللسان "5/ 137".
6 J. Obermeyer, S. 241(14/321)
إلى ثماني أواقٍ، أو يسع نصف الويبة، والويبة اثنان وعشرون، أو أربع وعشرون مدًّا بمد النبي، أو هو ثلاث كيلجات، وهو صاع ونصف. والكيلجة تسع منًّا وسبعة أثمان منا, والمنا: رطلان، والرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أستار وثلث، والأستار أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم ستة دوانق، والدانق قيراطان، والقيراط طسوجان، والطسوج حبتان، والحبة سدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءًا من درهم. وذكر أن الكر: ستون قفيزًا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف، وهو ثلاث كيلجات1.
والكيلة مقياس استعمله العبرانيون والجاهليون؛ وهي "Seah"، و"Saton", في اليونانية "Modius"، وهي تختلف باختلاف اصطلاح الأمم. فالكيلة العبرانية كبيرة بالقياس إلى الكيلة الرومانية، وهي تعادل كيلة وربع كيلة رومانية. وتبلغ ثلث "الأيفة"2, وتعادل اثنين وعشرين ""Sextari3, وتستعمل في وزن المواد الجامدة مثل الحبوب.
وأما "الأيفة" "Ephah"، فكلمة مأخوذة من اللغة المصرية، ترد كثيرًا في العهد القديم, وهي تعادل ثلاث كيلات "Seah". وتستعمل لقياس المواد الجافة فقط، وتقابل "Atrabe"، و"Metretis" عند اليونان، وهي مجزأة إلى عشرة أجزاء، يقال للجزء الواحد: "العمر" "عومير" "أومير" "Omer"، أو الكومة, ويقال له "عشر" "Issaron" أيضا4. وتقسم إلى ستة أقسام, كذلك يطلق على كل قسم اسم "سدس"5.
ولعل لأومير "عومير" "Omer"، صلة بـ"الغمر" عند الجاهليين. وهو عندهم قدح صغير يتصافن به القوم في السفر، إذا لم يكن معهم من الماء
__________
1 تاج العروس "7/ 180"، "مكَّ".
2 التكوين, الإصحاح 18، الآية 6، والإصحاح الثالث عشر، الآية 21، قاموس الكتاب المقدس "2/ 281"، تاج العروس "8/ 107"، "كيل".
3 Hastings, p. 969
4 الخروج، الإصحاح السادس عشر، الآية 36، الخروج، الإصحاح التاسع والعشرون، الآية 40، الكتاب المقدس "2/ 281"، Hastings, p. 969
5 Hastings, p. 969(14/322)
إلا يسيرًا على حصاة يلقونها في إناء ثم يصب فيه من الماء قدر ما يغمر الحصاة فيعطاها كل رجل منهم. وقيل: هو "القعب" الصغير يحمله الراكب معه، يعلقه على رحله, وقيل: الغمر: أصغر الأقداح. قال أعشى باهلة يرثي أخاه المنتشر بن وهب الباهلي:
تكفيه حزة فلذان ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر
والغمر يأخذ كيلجتين أو ثلاثًا، والقعب أعظم منه، وهو يروي الرجل1. و"الكيلجة" مكيال3.
و"الكر" من المكاييل المستعملة عند العبرانيين, وذكر علماء اللغة أن الكُرَّ مكيال لأهل العراق, وقد أشير إليه في كتب الحديث والفقه. ويظهر أنه مكيال للمائعات؛ ورد: إذا كان الماء قدر كرّ لم يحمل القذر, ومكيال للجوامد أيضا. وهو ستة أوقار حمار، وهو عند أهل العراق ستون قفيزًا, والقفيز ثمانية "مكاكيك", والمكوك صاع ونصف، وهو ثلاث كيلجات. وذكر الأزهري أنه اثنا عشر وسقًا، كل وسق ستون صاعًا أو أربعون إردبًّا بحساب أهل مصر4.
واستعمل الجاهليون "الزق", وحدة عامة لوزن المائعات. فورد: "زق خمر" مثلا, ويستعمل خاصة في الخمور5.
وقد عثر على عدد من قطع الأوزان المصنوعة من الحديد وبعضها من برنز، وقد استعملت في وزن الأشياء, وقد تأثر بعضها بالعوارض ولعبت الأيدي ببعض آخر. ونأسف على عدم وقوفنا وقوفًا تامًّا على أسماء الأوزان ومقدار ثقلها؛ لعدم وصول عدد كافٍ منها إلينا عليه كتابة تشير إلى اسمه ومقدار وزنه، ولعل الأيام تجود علينا منها بما يحقق لنا هذه المعرفة.
أما "الصُّبرة": فما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن بعضه فوق بعض,
__________
1 تاج العروس "3/ 454"، "غمر".
2 بكسر الكاف وفتح اللام.
3 تاج العروس "2/ 91"، "كلج".
4 تاج العروس "3/ 519"، "كر".
5 تاج العروس "6/ 271".(14/323)
فهي: الطعام المجتمع كالكومة1. ومن ذلك بيع "الصبرة" من التمر, وقد نهى الإسلام عن هذا النوع من البيع2.
والفالج والفلج مكيال ضخم، وقيل: هو القفيز. وقد ذكر بعض الباحثين أنه سرياني الأصل، وأن أصله "فالغا" فعرب. قال الجعدي يصف الخمر:
ألقى فيها فلجان من مسك دا ... رين وفلج من فلفلٍ ضرم
ومن هنا يقال للظرف المعدِّ لشرب القهوة وغيرها: "فلجان"، والعامة تقول: فنجان3.
و"الطسق" مكيال أيضا4, وهو من أصل فارسي، وذكر أنه مكيال لكيل الزيوت وكل أنواع الدهن5, وهو ضريبة الأرض كذلك، أي: في معنى خراج في الإسلام. كتب عمر إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل المدينة أسلما: ارفع الجزية عن رءوسهما وخذ الطسق من أرضيهما6.
والفرق: مكيال بالمدينة اختلف فيه؛ فقيل: يسع ستة عشر مدًّا، وذلك ثلاثة آصع، أو يسع ستة عشر رطلًا، وهي اثنا عشر مدًّا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز, أو هو أربعة أرباع. وقيل: الفرق خمسة أقساط، والقسط نصف صاع, وقيل غير ذلك7. وذكر أن "الفرق" هو مكيال لأهل اليمن، وقد ذكر في عهد الرسول لقيس بن مالك بن سعد بن لؤي الأرحبي الهمداني، إذ جاء فيه: "وأطعمه ثلاثمائة فرق من خيوان، مائتا زبيب وذرة شطران ومن عمران الجوف مائة فرق بُرّ"8.
وقد ذكر بعض علماء اللغة اسم مكيال من مكاييل أهل اليمن دعوه "الذهب"، ويجمع على: أذهاب9.
__________
1 اللسان "4/ 441"، "صادر".
2 صحيح مسلم "5/ 9 وما بعدها".
3 تاج العروس "2/ 87"، "فلج".
4 اللسان "10/ 225".
5 غرائب اللغة "238".
6 تاج العروس "6/ 423"، "الطسق".
7 تاج العروس "7/ 43"، "فرق".
8 ابن سعد، الطبقات "1/ 341"، "وفد همدان".
9 المخصص "12/ 264".(14/324)
ومن المكاييل المذكورة في التوراة والمعروفة عند الجاهليين كذلك، والتي تكال بها الأشياء الجافة: "القبضة"، أي: كومة اليد, والكومة كيلة عند الشعوب الأخرى وهي بمعنى "صبرة". ولا يزال البدو يستعملونها، ولكنها ليست من المكاييل الرسمية، بل هي في الواقع كيلة عرفية, وهي تختلف في المقدار والكمية بحسب اتساع قبضة اليد1, وقد كان الجاهليون يكوِّمون ما يريدون بيعه بالتكوم كومًا، ولا زال هذا البيع معروفًا. وقد كان أهل الجاهلية يبيعون قبضة من التمر، أو قبضة من السويق أو الدقيق، وذلك بحسب ما تقبضه اليد، أي: كف منها2.
__________
1 اللآويون: الإصحاح الثاني، الآية الثانية "كومة من ذهب وكومة من فضة"، تاج العروس "9/ 52"، "كوم".
2 تاج العروس "5/ 74"، "قبض".(14/325)
فهرس الجزء الرابع عشر
الفصل الثاني بعد المائة
القوافل 5
الفصل الثالث بعد المائة
طرق الجاهليين 19
الفصل الرابع بعد المائة
الأسواق 53
الفصل الخامس بعد المائة
البيع والشراء 75
الفصل السادس بعد المائة
الشركة 94(14/326)
الفصل السابع بعد المائة
المال 103
الفصل الثامن بعد المائة
أصحاب المال 126
الفصل التاسع بعد المائة
الطبقة المملوكة 141
الفصل العاشر بعد المائة
الإتاوة والمكس والأعشار 160
الفصل الحادي عشر بعد المائة
النقود 175
الفصل الثاني عشر بعد المائة
الصناعة والمعادن والتعدين 193(14/327)
الفصل الثالث عشر بعد المائة
حاصلات طبيعية 218
الفصل الرابع عشر بعد المائة
الحرف 231
الفصل الخامس عشر بعد المائة
قياس الأبعاد والمساحات والوزن والكيل 308
الفهرست 327(14/328)
المجلد الخامس عشر
الفصل السادس عشر بعد المئة: الفن الجاهلي
العمارة
...
الفصل السادس عشر بعد المائة: الفن الجاهلي
العمارة:
لظهور الفن وازدهاره في مكان ما لا بد من توفر تربة خصبة فيه تمونه بالمواد الأولية اللازمة، ولا بد من وجود جو يساعد على نمو بذوره وإنمائها وازدهارها. وجزيرة العرب أرض كما نعلم غلب عليها الجفاف وتحكمت فيها أشعة الشمس المحرقة والسموم الحارة الجافة، وهي ذات جو مشرق صاف صاحٍ في الغالب، ولكنه جاف يابس، لا تبكيه السماء في الغالب إلا بمقدار، فإذا سالت دموعه، انهمرت انهمارًا وتحولت إلى سيول جارفة عارمة سرعان ما تختفي وتزول، بأن تغور في باطن الأرض، وقد تنزل الأمطار نزولًا لا بأس به، فتخضر الأرض وتنبت الأزهار والأعشاب، وتضحك ويضحك الناس معها، وتهيج قرائحهم لفرحهم وطربهم من حصولهم على هذه النعمة الكبرى، التي لا تدوم طويلًا، وهذا أمر يؤسف له، أو قد لا تعود إليهم ثانية إلا بعد أجل، لانحباس البخار مولد المطر، فيلجأ المخلوق إلى خالقه يتوسل إليه أن يغيثه بإنزال الغيث عليه بكل الوسائل التي يتوصل إليها عقله لإقناعه آلهته بإنزال المطر ليغيث الإنسان والحيوان والنبات.
ولظهور العمارة وفن النحت والزخرف، لا بد من وجود أحجار صالحة للبناء أو للنحت والحفر، حتى يكون في إمكان المعمار أو النحات تحويلها إلى أبنية أو(15/5)
أصنام وتماثيل أو ما شاكل ذلك. وأرض سهلة لا حجر طبيعي فيها لا يمكن أن يظهر فيها بناء أو فن إلا إذا كانت قريبة من مواطن الحجر أو من مواطن الحضارة حيث تستوردها عندئذ من تلك الأماكن. لذا نجد الفن الجاهلي قد تركز وانحصر وبرز في العربية الغربية وفي العربية الجنوبية وفي المواضع القريبة من مواضع الحجر ومن أهل المدر في الغالب.
وفي اليمن أنواع من الأحجار الصالحة للبناء وللنحت، كما توفرت فيها، المواد المساعدة الأخرى التي تدخل في إنشاء العمارات مثل الجبس. ولهذا قامت فيها بيوت مرتفعة ذات طوابق متعددة، ولا يزال أهل اليمن وبعض أهل المواضع الأخرى من العربية الجنوبية يبنون البيوت والقصور المرتفعة السامقة، وما كان بوسعهم ذلك لولا وجود المواد الصالحة للبناء، التي تستطيع البقاء ومقاومة الطبيعة أمدًا1. وبفضل المواد المذكورة بقيت أبنية من أبنية الجاهليين اليمانيين إلى الإسلام, بقيت محافظة على نفسها وعلى شكلها العام، ولولا يد الإنسان التي لعبت بها وخربت أكثرها لبقيت أزمنة طويلة أخرى ولا شك. ولو كانت تلك الأبنية قد بنيت بالطابوق أو باللبن وبالمواد المستعملة في البناء في وسط وجنوب العراق، لما تمكنت من البقاء طويلًا؛ لأنها مواد لا تتحمل معاركة الطبيعة زمانًا طويلًا، لذلك تنهار بسرعة إذا لم ترعاها يد الإنسان دومًا بالإصلاح والتعمير2.
وقد ساعدت وفرة الرخام والحجارة الصلدة في اليمن في التعويض عن استعمال الخشب القوي الصلد في البناء فاستعمل المعماريون الأعمدة العالية الجميلة ذوات التيجان في رفع السقوف وفي إقامة الردهات الكبيرة وفي "الطارمات" أمام الأبنية، وفي واجهات المعابد بصورة خاصة، استعملوها بدلًا من الخشب الذي لا يتحمل الثقل كما يتحمله الحجر، والذي لا يعمر طويلًا كما يعمر الحجر. وبفضل هذه الحجارة استطاع المعماريون أن يستفيدوا من الماء بإقامة السدود القوية التي تتحمل ضغط السيول العالي عليها، وهذه ميزة لا نجدها بالطبع في العراق.
وقد ساعدت طبيعة اليمن عامل البناء في نحت الحجر وقطعه وصقله وتكييفه بالشكل الذي يريده. وتمكن بذلك من وضع أحجار مصقولة بعضها فوق بعض
__________
1 140.A.Grohmann ,S
2 140 A.Grohmann ,S.(15/6)
لتكوين أعمدة منها أو جدر معبد أو حيطان سدود أو قصور بحيث يوضع حجر فوق حجر، فيجلس فوقه بصورة يصعب على الإنسان أن يتبين منها مواضع اتصال الحجر بعضه ببعض. ولولا وجود الحجر الجيد لديه لما تمكن من القيام بإنشاء الأبنية الضخمة المؤلفة من جملة طوابق والتي قاومت الدهر، ولكان بناؤه من الطابوق، أي: من اللبن الذي حُجّر بالنار، والطابوق لا يمكن أن يقوم مقام الحجر في البناء، ولا أن يقاوم الطبيعة وأن يعمر طويلًا. ونظرًا لصغر حجمه بالنسبة إلى الحجر، ولضرورة ربطه بعضه ببعض بمادة ماسكة مثل الجبس فإن البناء به لا يمكن أن يكون متينًا، ولا يمكن أن يقاوم الرطوبة والعوامل الجوية الأخرى، فيتآكل ويتداعى، ولا سيما في المواضع السهلة ذات الرطوبة، أو التي تتساقط عليها الأمطار بكثرة، فتكون سيولًا عارمة تكتسح ما تجده أمامها من أبنية مبناة بمادة غير متينة متانة الحجر.
وتفيدنا دراسة المباني اليمانية في الزمن الحاضر فائدة كبيرة في تكوين فكرة عن البناء عن أهل اليمن قبل الإسلام. ففي هذا البناء الذي نراه عناصر عديدة لا تزال حيّة باقية، هي من بقايا البناء اليماني الجاهلي. وما قاله "الهمداني" في صفة بعض المباني والقصور الجاهلية التي كانت قائمة في أيامه ثم زالت، ينطبق على أوصاف القصور والمباني القائمة الآن، كما أن في دراسة أسماء أجزاء البناء وما يستعمل فيه فائدة كبيرة في حلِّ كثير من المعضلات الفنية المتعلقة بفن العمارة عند الجاهليين.
وقد زال أكثر المباني الجاهلية، ويا للأسف، بسبب اعتداء الإنسان بجهله عليها. فقد حمله كسله وجهله على تدمير تلك الأبنية، لاستعمال حجارتها في بناء بيوت جديدة ولأغراض أخرى. ونجد في الأبنية الحديثة، وأكثرها أبنية رديئة قبيحة بالقياس إلى القصور القديمة، حجارة ضخمة، بعضها مكتوب عليها كتابة كاملة انتزعت من الأبنية الجاهلية، وبعضها ناقص الكتابة لتلف الكتابة المكملة أو لنقلها إلى موضع آخر. ونجد حجارة مكتوبة وقد طليت بالجبس، لإعطاء الجدار الذي دخلت فيه وجهًا أملس. ونجد في الكتب القديمة مثل كتب الهمداني إشارات إلى مثل هذه الأعمال، التي ما تزال جارية مستمرة بالرغم من قرار الحكومات المعنية بمنع هذه الأعمال. وقد حطمت تماثيل جميلة عثر عليها بين الرمال ولا تزال تحطم؛ لأنها في نظر العاثرين عليها أصنام لقوم كفرة، وتماثيل قوم ممسوخين(15/7)
غضب الله عليهم، فلا يجوز الاحتفاظ بها، فهشمت وعبث بها، وبذلك خسر العرب كنوزًا فنية وذخائر لا تقدر بثمن، كان في وسعنا الاستفادة منهما في تدوين تأريخ الجاهليين.
وقد حطمت ودمرت قصور عظيمة في اليمن، بقيت بعضها قائمة إلى الإسلام، مثل قصر "غمدان" بصنعاء. الذي يبالغ أهل الأخبار في وصف ارتفاعه وضخامته، وقد كان مؤلفًا من طبقات بعضها فوق بعض، ثم هدم وقلّ في الإسلام، أمر الخليفة "عثمان" بهدمه، فزالت معالمه، ولو بقي إلى اليوم لكان من المفاخر1، ومثل المعابد الضخمة، وقصور الأسر الحاكمة، مثل قصر "شمر" بذي ريدان، وأبنية أخرى قوضت لأسباب عديدة، فضاع بذلك علينا تراث مهم. وفعل مثل ذلك في الأبنية الأخرى. ففي العراق مثلًا، هدمت قصور الحيرة وبيوتها، لاتخاذ حجارتها مادة لبناء الكوفة، و"وجد في قراطيس هدم قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر، أن المسجد الجامع بالكوفة بني ببعض نقض تلك القصور، وحسبت لأهل الحيرة قيمة ذلك من جزيتهم"2. وقد أضاعت علينا هذه الأعمال معالم قيّمة من تراث الجاهليين.
وقد هدم قصر "يهر" "ذي يهر" ببيت حنبص، وهو أثر جاهلي مهم، بقي قائمًا إلى حوالي سنة "295" للهجرة، فأمر بإحراقه "ابن أبي الملاحف" القرمطي، فأحرق، وظلت أخشابه تحترق أربعة أشهر على ما يزعمه الرواة، مبالغة منهم بالطبع3.
ولأهل اليمن عادات جميلة أفادتنا فائدة طيبة، وذلك بوضعهم على الجدر حجارة مكتوبة تحمل اسم الدار أحيانًا واسم صاحبها واسم الإله الذي تبرك صاحب المبنى بتقديمه إليه تيمنًا به، حتى الترميمات والإصلاحات التي يقوم بها أصحاب البناء تدون على هذه الحجارة، ولا سيما الترميمات والإصلاحات التي تدخل على المعابد والمباني العامة، تعين عليها بدقة تامة، فيذكر الموضع الذي ابتدأ به والموضع الذي انتهى منه، ويذكر مقدار ما صرف عليه في بعض الأحيان.
__________
1 تاج العروس "2/ 446"، "غمد".
2 البلاذري. فتوح البلدان "284".
3 الأكليل "1/ 12" "حاشية رقم1".(15/8)
ومن هذه الكتابات أخذ معظم علمنا بتأريخ اليمن القديم.
ويظهر أن أهل الحجاز لم يكونوا على شاكلة أهل اليمن في بناء البيوت الضخمة من الحجارة والمواد البنائية الأخرى التي يعمّر بها البناء عمرًا طويلًا، بدليل ما نشاهده في اليمن وفي مواطن أخرى من الجزيرة العربية من بقايا معابد ومبانٍ ضخمة، وعدم وجود شيء من ذلك في الحجاز، وبدليل ما أورده أهل الأخبار من قصص عن مباني اليمن العادية، وما شاهدوه من بقاياها في أيامهم هناك، وهي تتحدث عن فن عمراني متقدم، على حين خلت أخبارهم من هذا القصص عن الحجاز، بل يظهر منها أن أكثر أبنية مكة ويثرب لم تكن إلا أبنية صغيرة ضيقة، أكثرها من اللبن أو الطين، وقد عرشت بجريد النخل وبالعيدان وبالأخشاب المحتطبة من التلال والجبال. وقد عرفت بيوت أهل الحاجة في مكة بـ"عروش مكة"1.
وقد امتازت "يثرب" عن مكة بوجود "الأطم" بها، والأطم، هي قصور تتكون من طابقين في الغالب، أو ثلاثة طوابق، تكون ضخمة نوعًا ما يعيش فيها سادتها، وتكون حصونًا لأهل المدينة يتحصنون بها عند دنو خطر عليهم، ويحمون أموالهم بها. وقد بنيت بالآجر وباللبن أحيانًا، وبالطين أحيانًا أخرى، حيث تجعل الجدر عريضة، لتقف صامدة أمام الدهر وأمام المهاجمين، وتتخذ في أعلى الأطم مواضع يقف عليها المدافعون لرشق المحاصر بالسهام، أو بالحجارة، وبصب الماء الحار أو النار عليه إن قرب من جدار الأطم. وقد اتخذت الأطم في يثرب، لعدم وجود سور حولها يحميها من الأعداء، ولكونها مكشوفة، لا تحميها حواجز طبيعية، يتحصن بها أهل المدينة عند دنو الخطر منهم، فلم يجدوا أمامهم من وسيلة سوى بناء هذه الأطم للدفاع عن أنفسهم، على نحو ما فعل أهل الحيرة في مدينتهم، حيث بنوا القصور.
وتوجد في أعالي يثرب إلى فلسطين بقايا حصون وقصور ومواضع قديمة، كانت آهلة عامرة، أما الآن فلم تبق منها غير بقية آثارها، وهي لا تزال مادة "خامًا" لم تكتشف، ولم تدخلها بعثات علمية منتظمة، وتشاهد عندها بعض
__________
1 المغرب "2/ 37"، "عروش مكة، بيوتها؛ لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظال عليها"، شرح القاموس "4/ 322".(15/9)
أحجار مكتوبة، بقلم مشتق من المسند، وبلهجات عربية تختلف عن لهجة "ال"، أي: عن العربية التي نزل بها القرآن، مما يدل على أنها كانت في الأصل لقبائل كانت لهجاتها لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية من عربية أهل البوادي، ولكنها كانت متأثرة بالثقافة التي تدون بالقلم المسند، ثم تأثرت بلغة الأعراب الذين جاءوها من البوادي وذلك قبيل الإسلام، فنزلت هذه المواضع، وزاحمت أهلها، ثم غلبتهم على أمرهم، فاختفت اللهجات العربية القديمة، وحلت محلها لهجة "ال". وسيجد المنقبون الذين سينقبون في المستقبل في هذه المواضع آثارًا ستحدد لهم الاتجاهات الثقافية والحضارية التي دخلت جزيرة العرب، واللغات التي كانت سائدة فيها.
وفي المسند مصطلحات كثيرة خاصة بالبناء وبالآلات والمواد التي تستعمل فيه، وفي أجزاء البناء. واللهجات العربية الجنوبية هي أغنى بمصطلحات البناء من العربية التي نزل بها القرآن الكريم؛ وذلك لأن أهل العربية الجنوبية كانوا حضرًا في الغالب وأهل مدر، حتى إن أعرابهم كانوا يقيمون في أكواخ وعشش ثابتة مستقرة. لهذا كثرت في لغتهم ألفاظ الحضارة التي تقوم على الإقامة والاستقرار. وظهرت عندهم ألفاظ لمواد تستعمل في البناء مثل أنواع الصخور والحجارة، وكيفية قطعها، وأنواع الخشب المستعمل فيه، وآلات القطع أو آلات المعمار وغير ذلك من مصطلحات لا نجد لها مقابلًا في هذه العربية التي نتكلم بها؛ وذلك لأن حضارة البناء التي ظهرت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية للأسباب المذكورة لم يظهر ما يماثلها في المواضع الأخرى من جزيرة العرب، حيث قام عمرانها على المدر بالنسبة للحضر أي: على الأبنية المتخذة من المدر أو من اللبن أو من الآجر. ومثل هذه الأبنية، لا تحتاج إلى مصطلحات وإلى آلات كثيرة، ولما كانت الحاجة هي أم الاختراع في اللغات، لذلك قلَّت مصطلحات العمران في اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، بينما كثرت فيها مصطلحات أهل الوبر ومصطلحات البداوة، في مثل أجزاء الخيمة وما يتعلق بحياة الفرس والجمل. حيث قصرت دونها هنا لغة المسند.
وقد درس الآثاريون في الأيام المتأخرة موضوع الفن العربي الجنوبي ووضعوا بحوثًا فيه، استندت على الملاحظات والدراسات التي قاموا بها في مواطن الآثار أو من ملاحظاتهم للقطع الأثرية وللصور التي أخذت لها. وقد وجد بعضهم مثل(15/10)
الباحثة "جاكلين بيرين" "Jacqueline Pirenne"، أن الحضارة العربية الجنوبية إنما برزت وظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، برزت بتأثير الحضارة اليونانية –الفارسية عليها. وقد زعمت أن القلم العربي الجنوبي أخذ من القلم اليوناني في ابتداء القرن الخامس قبل الميلاد، وأن عناصر الحضارة العربية الجنوبية، وخاصة الفن منها مثل النحت والعمارة، قد غرفت من مناهل يونانية - فارسية. أما ما قبل هذا الوقت، فلم يكن لشعوب الشرق الأدنى أي أثر حضاري أو ثقافي على أهل العربية الجنوبية1.
وقد درست باحثة أخرى موضوع الفن العربي الجنوبي، هي "برتا سيكال" "Berta segal". ذهب اجتهادها بها إلى أن هنالك مؤثرات حضارية خارجية أثرت على الحضارة العربية الجنوبية، وأرجعت هذه المؤثرات إلى أثر يوناني هيلليني، وأثر سوري حثي وأثر فينيقي وإلى عناصر حضارية أخرى. وذكرت أن هذه المؤثرات أثرت على الحضارة العربية الجنوبية، وتولد من هذا المزيج الأجنبي والعربي حضارة العرب الجنوبيين2.
لقد تبين من دراسة الفخار الذي عثر عليه في العربية الجنوبية أنه من صنع محلي ومن تصميم محلي أيضا. وقد تبين أيضًا أنه لا يخلو مع ذلك من المؤثرات الأجنبية التي أثرت عليه، ولا سيما على المظهر الخارجي للفخار في مثل الزخرفة والشكل. فقد أثر الفخار العراقي والسوري على الفخار العربي الجنوبي، ويظهر من الفخار الذي عثر عليه في "هجر بن حميد"، أنه قد تأثر بمؤثرات شمالية سورية وعراقية3.
وتقدمت معارفنا بعض التقدم بالنسبة للفن المعماري عند العرب الجنوبيين. وتوجد
__________
1 Jacqueline Pirenne, La Grece et Sabe, Paris, 1955, The Bible and the Ancient Near East, by G. E. Wright, p. 313, 319.
2 Berta Segall, Sculpture from Arabia Felix, American Journal of Archaeology, 59, 1955, p. 207, Ars Orientalis, II, 1957, p. 37, Promiems of Copy and Adatpaton in the second quarter of the first millennium B.C. Americn Journal of Archaeology, 60, 1956, p. 165, The lion Riders from Timna, in Archaeological Discoveries in South Arabia, p. 155, The Bible and the Ancient Near East, p. 319.
3 The Bible and the Ancient Near East, p. 320, Belletin of the American School(15/11)
لدينا فكرة عامة عن فن هندسة المعابد، أخذناها من فحص معابد "حقه" و"مأرب" وتمنع" و"حريضة" و"خور روري". وتقدمت معارفنا أيضًا في موضوع أبنية المقابر والأضرحة عند الجاهليين، وكذلك عن هندسة البيوت. وقد وجد أيضًا أن الفن المعماري قد تأثر بمؤثرات خارجية كذلك: بمؤثرات عراقية وسورية وفينيقية ويونانية ومصرية1.
ويظهر الأثر اليوناني على سك العملة عند العرب الجنوبيين. فقد ضرب النقد على شاكلة النقد اليوناني، لا يختلف عنه إلا في وجود الحروف العربية الجنوبية على ذلك النقد. فالنقد العربي الجنوبي، هو تقليد ومحاكاة للنقد اليوناني، الذي ظهر في أيام "البطالمة" و"السلوقيين"، ويكاد يكون قالبًا لها، أضيفت عليه حروف المسند. فالبومة التي تمثل "أثينا"، والتي كانت تضرب على العملة اليونانية، ضربت على النقد العربي الجنوبي، إلى غير ذلك من أمور بحث عنها علماء "النمّيات".
ولكننا لا نستطيع أن نقول اليوم: إن معارفنا عن الحضارة العربية الجنوبية قد تقدمت تقدمًا مرضيًا، وأنها صارت واضحة مفهومة، وسوف تبقى معارفنا عن هذه الناحية وعن النواحي الأخرى ناقصة ما دامت أكثر الآثار مدفونة تحت طبقات كثيفة من التربة لم تلمسها الأيدي حتى الآن. لقد تقدمت معارفنا عن هذه النواحي على نحو ما ذكرت بسبب قيام بعض الباحثين المحدثين بالتنقيب في بعض المواضع بصورة جدية علمية وبشيء من التعمق في باطن الأرض، ويمكن أن نتصور ما سيحصل عليه الباحثون من معلومات عن الجاهلية لو سمح لهم في التنقيب بأسلوب جدي علمي في باطن الأرض وفي مواطن الآثار.
استعمل اللحيانيون لفظة "بنى" "بنا" للتعبير عن بناء شيء. وذلك كما نفعل نحن في عربيتنا. وتشمل اللفظة بناء كل الأبنية، من بناء بيوت أو قبور أو غير ذلك. وقد وردت في عدد من النصوص2.
ويعبر عن المبنى بالتعبير عن نفسه في العربيات الجنوبية، فيقال "مبنى". وإذا
__________
1 "The Bible and the Ancient Near East، p. 320.".
2 راجع النصوص 16، 26، 74، 90 من كتاب: "W. Caskel، S. 133".(15/12)
أريد التعبير عن تقديم البناء إلى إله أو جماعة، كأن يسمى باسم الإله ويحبس عليه، فيعبر عن ذلك بلفظة "قتدم" أي: قدم بهذا المعنى المفهوم منها في عربيتنا، وبمعنى أهدى1. وأما الفعل فهو "بنى"، وذلك كما في هذه الجملة: "عسى وبنى"2، أي: "تملك وبنى". و"هبنى"، وذلك كما في هذه الجملة: "هبنا عقبتهن قلت"3، أي: "بنى قلعة قلت". ويراد بـ"عقبت" "عقبة" القلعة. وللفظة علاقة بكلمة "عقبة" التي نستعملها نحن بمعنى صعوبة وعائق، ونجمعها على "عقبات".
واستعمل اللحيانيون لفظة "حفر" بالمعنى المفهوم من اللفظة في عربيتنا. استعملت لكل أنواع الحفر: حفر الأسس أو الآبار أو العيون، أو الحفر على الأحجار والخشب، لغرض النقش والزخرفة، أو لأي هدف آخر4.
ويشق المعماريون أسسًا في الأرض للأبنية الفخمة، كالبيوت المؤلفة من طبقات عدة كالمعابد، لتحمل الأرض ثقل البناء. ويختلف عمق الأساس وعرضه باختلاف سمك الجدار وثقل البناء، ويحفر العمال الأرض بالقدر الذي يعينه البناء، حتى إذا ما بلغوا العمق المقرر، وضعوا المواد اللازمة كالحجارة أو الكلس المخلوط بمواد أخرى، ثم يترك الأساس مدة حتى يجف ويستقر، ثم يقام عليه الجدار. ويقال لهذا الأساس في العربيات الجنوبية: "موثر"، وهي بمعنى "الأس" والأساس والأسس في عربية القرآن الكريم5.
وقد ورد في كتب اللغة، "والوثير": الفراش الواطئ، وكذلك الوثر كل شيء جلست عليه أو نمت عليه فوجدته وطيئًا، فهو وثير6.
وتؤدي لفظة "مبحر" معنى: "أساس" وسناد. فـ"مبحر" كل بناء هو أساسه وسناده في لغة السبئيين7.
__________
1 راجع السطر الأول من النص الموسوم بـ: ثقب الحجر.
2 راجع النص الموسوم بـ "Glaser 1089، 1660، Halevy 208" وهو من معين.
3 الجملة الثانية من نص أبنة، "Rhodokanakis Stud.، II، S. 48".
4 راجع النص 61 من كتاب: "W. Caskel، S. 133".
5 شرح القاموس "4/ 96"، ابن سلام، كتاب الأجناس من كلام العرب "ص 13".
6 تاج العروس "3/ 598".
7 "Jamme، South Arabian Inscriptions، p. 439".(15/13)
وترد لفظة "برا" بمعنى بنى وأنشأ وأقام وشقّ وما شابه ذلك1. وترد بعدها لفظة: "هشقر" في الغالب. ومن هذا الأصل لفظة: "مبرام" "مبرا" بمعنى برئ من الدين، وبراءة الذمة2. وترد لفظة "برأ" في كت اللغة بمعنى الخلق. و "البرية": الخلق، وأصله الهمن، والجمع البرايا والبريّات. والبرى: التراب3.
وأما "هشقر" فمعناها أكمل الشيء، وانتهى منه، وأتمه وغطاه وستره. وهي من أصل: "شقر"، وترد من هذا الأصل لفظة "تشقر" و"شقرم"، بمعنى الأعلى والنهاية. وذلك كما في هذه الجملة: "بتوربم اد شقرم"4، أي: من الأساس إلى الأعلى، أو إلى النهاية. و"ربب" معناها الأساس5.
أما أعلى البناء ونهايته، أي: تاجه الذي ينتهي عنده، فيقال له: "تفرع". و"تفرع" نهاية الجدار وأعلاه، والمكان الذي ينتهي فيه6.
ومن العبارات الواردة في بعض النصوص المتعلقة بالبناء، هذه العبارة: "بن موثر هو عدي مريمن"، وهي في معنى العبارة: "بن أشرس عد شقرن" التي ترد في النصوص المعينية، ومعناها من "الأساس إلى أعلى"7. فلفظة "موثر" وكذلك لفظة "أشرس" هما بمعنى الأساس, أي: أساس البناء، و"وعد" حرف جرٍّ بمعنى إلى، و"مريمن" و"شقرن" كلاهما بمعنى أعلى، أي: أعلى البناء.
ويقال لتعلية البناء: "تعلى". أما تقوية البناء والجدر وحمايتها من السقوط، فيعبر عنه بـ"تصور"، من أصل "صور" ومعناها وضع أوتدة وأعمدة عند
__________
1 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 87".
2 المصدر نفسه "ص47 حاشية42". "hodokanakis، Bodenwirtschaft، S. 24".
3 شرح القاموس "10/36".
4 الفقرة الخامسة من نص أبنة.
5 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 486".
مجلة المجمع العلمي العراقي، "المجلد الرابع، الجزء الأول"، "1956"، "ص207" "السطر 103 من نص أبرهة"، "Mordtmann und Mittwoch، Sab. Inschr.، S. 45. f.".
6 راجع النص الموسوم بـ: "Sab. Denkma.، S.، 31، CIH 325.".
7 "Mordtmann und Mittwoch، Alt. Inschr.، s. 25.".(15/14)
الجدار أو البناء للتقوية والإحكام1. وهي بذلك قريبة من معنى "الظئر" في لهجة القرآن الكريم.
ويعبر عن إتمام بناء ما أو إكمال شيء آخر بلفظة "تقه" و"قه"، بمعنى "وقه" أي: أكمل وأنجز. وهي مرادفة للفظة: "تفرع"، وللفظة "هوعب" أيضاً. وكلها بمعنى الإنجاز والإكمال والانتهاء من عمل ما. ولفظة "قه" هي من أصل "وقة". وتعني جملة: "إتقه عن"2. انتهى وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "وكن" هي بهذا المعنى, أي: أكمل وأنجز في بعض الأحيان3.
ويعبر عن إصلاح البناء وترميمه بلفظة "هحدث"، وهي فعل ماضي أي: "أحدث"، ومعناها أقام ورمم وأحدث وأنشأ. أما سقوط حائط أو سقف أو ما شابه ذلك، فيعبر عنه بلفظة "تل" و"تلت"، ومن هذا الأصل لفظة "تلو"، أي: الخرائب والتلال، وتقابلها لفظة "خيل" في المعينية، و"ذخبل"4، أي: تداعى وسقط ووقع.
وفي معنى الإصلاح والترميم أيضًا لفظة "غوث" الواردة في الكتابات المعينية5. وقريب من هذا المعنى معنى "غوث" في لهجة القرآن الكريم، ففي الإغاثة معنى المساعدة والإصلاح وترميم التصدع وإصلاحه.
وترد مع هذه اللفظة لفظة أخرى، هي "سعذب"، وهي فعل ماض بمعنى أعاد وأرجع الشيء إلى ما كان عليه6، من أصل "عذب". وأما حرف السين الداخل على أول اللفظة فإنه في مقام حرف الهاء في السبئية، يدخلان على المصدر فيحولانه إلى فعل ماض.
ويقال لمقدم كل بناء: "صلوتن" "الصلوة"7. وقد وردت اللفظة في كتابات
__________
1 راجع النص الموسوم بـ: "Glaser 1150، Halevy 192، 199.". وكذلك: "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 54.".
2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 46.".
3 المصدر نفسه "ص47".
4 Rhodokanakis، Stud.، II، S. 26."".
5 راجع النص: "Glaser 1144، Halevy 353، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 29، 31.".
6 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 31.".
7 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 31.".(15/15)
دونت لمناسبة إقامة سدود كذلك. ووردت في بعض الكتابات هذه الجملة: "بن ذت هورتن عدي صلوت بين ذن محرمن وميسلن"1، ومعناها: "من هذه الجهة الخلفية إلى الجهة الأمامية أو الصالة الأمامية بين هذا الحرم وموقد النار".
ويقال للجهة الخلفية من البناء "هورتن". من أصل: "ورت"، بمعنى وراء. و"و َرَ هـ" في لغة أهل العراق، وذلك كما نرى في هذا النص.
وتؤدي لفظة "صلوت" معنى "فناء" أيضًا، وقد تؤدي معنى موضع منعزل أو مكان للصلاة. وقد يراد به فناء يؤدي إلى "مبسل" يقع مقابله تمامًا2.
وللفظة "صلوتن" "صلت" "صلوت" معنى آخر بعيد عن هذا المعنى بعدًا كبيرًا، هو "وثيقة" و"شهادة" و"عقد"، فتكون في معنى "سمع" و"اسمع" التي تطلق على هذا المعنى أيضا في العربيات الجنوبية3.
ويقال للباب "خلف" و"خلفتن" في السبئية. ويراد بـ"خلف" و"خلفتن" "الخلفة" الشباك كذلك4. وقد كان أصحاب القصور يستعملون الشبابيك كثيرًا في قصورهم، ويزينونها بالرخام الرقيق وبالزخارف لتظهر جميلة خلابة: ويقصد بـ"خلف" و"خلفتن" المنافذ الخلفية كذلك.
وتتكون الأبواب من "مصرع"، أو من "مصرعي"، ويراد بذلك "مصراع" واحد أو مصراعان5.
ويعبر عن الباب بـ"الخلف" في عربيتنا كذلك6. وأما لفظة "مصرع الباب" و"المصرع" و"مصراعا الباب" فمعروفة في عربيتنا كذلك7.
ويعبر عن الباب العظيم، أو الباب المغلق وفيه باب صغير، أو عما يغلق به
__________
1 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 45.".
2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 46.".
3 Rhodokanakis, Stud, II, S. 44, Der Grundsatz der Affentichkeit, S. 21, 24, Stud, I, S. 63.
4 "Rhodokanakisوالجملة الرابعة من نص أبنة، Stud.، II، S. 70.".
5 راجع الجملة الثانية من النص: "Glaser 1144، Halevy 353".
6 اللسان "9/ 93".
7 اللسان "8/ 199".(15/16)
الباب بلفظة "رتج" "رتاج" في اللحيانية1. ولفظة "رتاج" لفظة معروفة في عربيتنا كذلك.
ويعبر عن السلالم والدرجات بلفظة "احلين"، تطلق على السلالم من أية مادة مصنوعة، من الحجر أو الخشب2، كما يعبر عنها بلفظة "علوم" و"علوه" أيضًا؛ لأنها طريق يؤدي إلى أعلى3.
ولفظة "علية"، والجمع "علالي"، هي عند أهل الحجاز بمعنى غرفة أيضاً، والجمع "غرف" و"غرفات". وقد وردت لفظة "غرف" و"غرفات" في القرآن الكريم4.
وعبر عن السقف وسطح البناء بلفظة "ظلتن" و"ظلل", أي: "الظلة"5 و "الظل". وذلك لاستظلال الإنسان بالسقوف وحمايتها للبيوت والغرف من وهج الشمس.
ويعبر عن الشيء المسقوف مثل ذي سقف أو ما شابه ذلك بلفظة "مسقفن"6، أي: "المسقف"، من أصل "سقف"7. وردت لفظة "مسقف" بمعنى الموضع المسقوف8.
ويعرف المكان الذي ينفذ منه النور إلى مكان ما "مصبح" في الحضرمية. ويمكن أن نقرأها "مصباح" كذلك. فالمصباح الكوة أو النافذة التي ينفذ منها النور إلى مكان ما. والنور هو "صبحت" في الحضرمية, وذلك كما ورد في هذه الجملة: "صبحت عينو"9، أي: "نور عينه"10.
__________
1 النص رقم 22 و85 من كتاب: "W. Caskel، S. 134.".
2 راجع الجملة الرابعة من النص:
Glaser 1144, Halevy 353, Rhodokanakis, Stud, II, S. 29, Glaser 283, Halevy 238.
3 "Rhodokanakis، Stud.،S. 47.".
4 البيان "1/ 19" "لجنة".
5 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 29، 30، 54.".
6 "CIH، 182.".
7 "Mordmann، Himj. Inschr. S. 36.".
8 "Glaser، 799، CIH 132، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 34.".
9 "Osiander 29".
10 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 28.".(15/17)
وأما الموضع الذي ينفذ النور إليه، ويستقر فيه، وقد يكون مسقوفًا وربما لا يكون مسقوفًا، فيقال له: "منحل"1. وعلى هذا المنحل يكون المصبح, أي: المنفذ الذي ينفذ النور منه2.
ويعبر عن الجدار والسور بلفظة "جنا" في لغة المسند3.
وقد فسر بعض علماء العربيات الجنوبية لفظة "بره" بمعنى مجاز4. ومن هذا الأصل أخذت كلمة "ابرى"5، ولعلها تؤدي معنى خارج كذلك.
وترد لفظة "أردف" في مصطلحات البناء كذلك6، وتعني طرف البناء، وطرف كل شيء. وقد استعملت للتعبير عن تحصين جانب القلعة أو الحصن مثلًا، أو تحصين جوانب وأطراف برج ما7.
ويعرف مقدم البناء أو مقدم أي شيء بـ"قدم" وبـ"انف". أما الجهة المضادة للمقدمة فيقال لها: "معذر"، فمعذر أي: بناء أو أي شيء هو الجهة الخلفية لذلك البناء أو لذلك الشيء، كما تطلق هذه اللفظة على الأسوار الخلفية للمدينة8.
ويقال للطابق الأعلى من البناء "علوهو" "علوه"9، و"علين" "عليان"، لعلوه بالقياس إلى الطابق الذي تحته. أما الطابق الأسفل، فيقال له: "سلفه" "سفلهو"10.
ويقال للبيت إذا كان فوق البيت: "علية" والجمع "علالي". وتقابل لفظة "علية" لفظة "غرفة" والجمع "غرف" و"غرفات". والغرفة عُليّة من
__________
1 راجع الجملة الثانية من النص: "Glaser 1089، 1660، Halevy 208".
2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 26.".
3 راجع أيضًا الجملة الثالثة من نص أبنة.
4 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 36.".
5 المصدر نفسه.
6 "Müller، in DMG.، 37، 383، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 36.".
7 "CIH، 197، Glaser 181،Rhodokanakis، Stud.، II، S. 36.".
8 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 64.".
9 راجع النص الموسوم بـ: "CIH 325، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 46. f.".
10 المورد نفسه.(15/18)
البناء. وسميت منازل الجنة "غرفاً"1.
ويعبر عن العمل الفني المتقن بلفظة "نكل"، ومن هذا الأصل لفظة "نكلو" و"نكلتو" في الأشورية2.
وقد كان أصحاب الأبنية يذكرون المواد التي استخدموها في الأبنية بكل تفصيل لا يكتفون بذكر أسماء المواد فحسب، بل يذكرون حتى صفاتها. فإذا كان الحجر غير مهندس ولا مصقول ذكروه، وإذا كان مصقولًا ومهندسًا ومقطوعًا عبروا عن ذلك بلفظة "تقرم"3.
ويقال للحجارة الحادة أو الملساء "زلت"، وهي تقابل لفظة "زِلّة" في لهجتنا4 وهي بمعنى أرض ذات حجارة ملساء أو حادة في اللهجتين المعينية والسبئية كذلك، وتعني لفظة "صلال" ألواحًا من الحجر في اللهجة الحضرمية. وأما الجمع فهو "ازلت"5.
وتؤدي لفظة "زلت" معنى سيلان الزفت أو القار على أرض ما كأرض غرفة مثلًا أو أرض شارع أو حمّام لتبليط الأرض بهذه المواد. وذلك كما يفهم من هذه الجملة: "زلت أوسطهس" أي: "وزفت أو وقير الأواسط"، ويراد بالأواسط وسط الأشياء أو الشيء6.
ويقال للحجارة المكسرة الناتجة عن تكسير الأحجار الأخرى أو عن القلع "جربم" "جرب". ويراد بها الحجارة المقطوعة أيضًا. وتوضع هذه الحجارة في أماكنها على نحو ما قلعت من المقلع، فلا تصقل، ولا تمسها آلات الصقل. أما الحجارة المقلوعة التي تصقلها الأيدي وتنقحها، فتعرف بـ"منهمتم" "منهمة". وتبنى هذه الحجارة مع الحجارة الأخرى، وتوضع بينها مواد البناء التي تلزم تلك الحجارة. والعادة هي أن توضع الحجارة المصقولة المعمولة المهندسة
__________
1 البيان والتبيين "1/ 19" "لجنة"، المفردات "ص365".
2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 26.".
3 راجع الجملة الثانية من النص الموسوم بـ: "Glaser 1089، 1660، Halevy 208".
4 "CIH، II، P. 23، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 35.".
5 راجع الجملة الثالثة من النص: "Glaser 144، Halevy 353".
6 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 36.".(15/19)
في جبهة الجدار لتكسبه منظرًا جميلًا حسنًا، توضع وراءها الحجارة الأخرى المقطوعة؛ وذلك لأن صقل جميع الحجارة التي تدخل في البناء يستنفد وقتًا كبيرًا كما يكلف ثمنًا باهظاً. ويضع المعمار الحجارة بالطبع وضعًا متناسبًا بحيث لا تكون مرتفعة أو منخفضة وتملأ الفرج ومواضع اتصال الحجارة بمواد البناء التي تلزمه وتمسكه بين الحجارة1.
وقد توضع الحجارة لـ"جرب" على شكل طبقة واحدة في الجدار أو على هيئة طبقات وصفوف للزينة. ونجد هذه الطريقة في أبنية الحبشة كذلك2.
ومن هذا الأصل جاءت لفظة "جربة" و "جروب" بمعنى المدرجات التي يضعها الفلاحون على الجبل، وذلك لزرعها بأنواع المزروعات، ولا سيما الكروم3. وكذلك الأسوار التي تحيط بالبساتين.
وهناك من يرى أن "منهمتم" من "منهمت" "منهمة" تعني على العكس الحجارة المقلوعة غير المصقولة. و"حجر منهوم" بمعنى مقطوع غير مصقول4.
وهناك لفظة أخرى تطلق على الحجارة المنحوتة المهندسة باليد هي "تقرم" من أصل "تقر"5. وهناك نوع آخر من الحجر يقال له: "بلق"6. وقد ذكر علماء اللغة أن "البلق" الرخام وحجارة باليمن تضيء ما وراءها كالزجاج7.
ويعبر عن قطع الحجارة من الصخر وعن صقلها لجعلها صالحة للبناء، بلفظة "اثع" في اللحيانية8. وأرض اللحيانيين أرض صلدة صخرية، لذلك استخرج اللحيانيون حجر أبنيتهم منها فبنوا بها بيوتهم، كما نحتوا الصخور وجعلوها على هيئة كهوف لكي تكون ملاجئ لهم.
__________
1 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43.".
2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 44.".
3 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43، SE 48، 92، Ryckmans 340، BASOR، Nu. 83، 1961، p.24.".
4 "Glaser Zwei Inschriften، 47،Rhodokanakis، Stud.، II، S. 47. f.".
5 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 54، 63.".
6 المصدر نفسه "ص64".
7 شرح القاموس "6/ 298".
8 النص 72 من كتاب: "W. Caskel، S. 110.".(15/20)
ويعبر عن تكسير الصخور وثقبها وعمل خرق بها بلفظة "جوبن"، وتعني "الجوب". والجوب هو عمل نقب في الحجر، أو ممر. وأما لفظة "جوب" فجمع "جوبة"، ويراد بها الفراغ بين شيئين1.
ويُستعان بفئوس ومطارق في تكسير الحجارة وهندستها وإصلاحها لتتخذ الشكل المطلوب. فتستخدم المطارق الثقيلة في كسر الحجارة. وتكون ذات رءوس مختلفة الأشكال تناسب المهمة التي تؤدى بها. وتستعمل الفئوس في هندسة جوانب الحجارة وصقلها، وهي ذات أشكال مختلفة كذلك، منها ذات رأس حاد نابت يتصل بقاعدة عريضة وتستخدم في نقر الحجارة، ومنها ذات رأسين حادين عريضين، ولها خصر في الوسط وتستخدم في شذب أطراف الحجارة وصقلها. ولا تزال هذه المطارق والفئوس مستعملة في مثل الأعمال التي قام بها الجاهليون.
ويعبر عن تزيين الحائط وزخرفته بالحجارة أو بالأخشاب التي يوضع بين حجر الجدار وطابوقه بحيث تبرز للعيان وتوضع في أبعاد متناسقة، يعبر عن ذلك بلفظة "موسم". ومن هنا لفظة "وسم" التي تعني التزيين والتزويق أيضًا2. فلفظة "موسم" تعني الزخرفة والنقش في البناء3.
وأما الحجارة المصنوعة وما يقال له: "طابوق" في العراق، أي: الحجارة المكونة من الطين المشوي، فيقال لها: "لبتم" "لبت"4. ويراد بها اللبن كذلك, أي: الطين المجفف. وعادة مزج الحجارة المصنوعة, أي: الطابوق بالحجارة الطبيعية المقلوعة سواء أكانت مصقولة أم غير مصقولة هي عادة معروفة في البناء في الشرق5.
وأما اللبن، أي: الطين المجفف بالهواء وبأشعة الشمس والمصنوع بقوالب ولكنه لم يوضع في النار لإحراقة، فيقال له: "لبن" أيضًا. وقد ورد "لبن شمس" أيضًا6. ويطلق العبرانيون لفظة لبنة على اللبن، وعلى الطابوق, أي: اللبن المفخور بالنار.
__________
1 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 26.".
2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 63.".
3 المصدر نفسه "ص64".
4 راجع النص الموسوم بـ: "CIH 325، Sab. Denkm.، 31.".
5"Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43، 54.".
6 راجع الجملة الخامسة من النص، "Hommel Aufs. Und abh.، S. 167، anm. 5.".(15/21)
وقد عثر المنقبون على لبن جاهلي في أماكن متعددة من جزيرة العرب. وقد كان أهل الحجاز يستعملونه في أبنيتهم، لم ينفردوا بالطبع في ذلك وحدهم، بل كان يفعل ذلك كل الجاهليين، وقد بني مسجد الرسول باللبن. وكان الرسول ينقله مع الناقلين وهو مختلف الحجم. بعضه واسع ثخين، وبعضه متوسط أو صغير. ويكثر استعماله في الأمكنة التي تقل فيها الحجارة، وتتقلب على طبيعة أرضها التربة الطينية، فيكون من السهل على أهلها إقامة أبنيتهم باللبن بارتفاعات مختلفة تبعًا لمتانة البناء ورغبة صاحب البناء في الارتفاع. وقد عثر على آثار قلاع وحصون وأسوار بنيت باللبن. ويمكن لمثل هذه الأبنية البقاء مدة طويلة، لجفاف أجواء الشرق الأوسط وقلة الأمطار فيه، ولا سيما إذا كانت ذات أسس وقواعد وجدر ثخينة وفي أماكن جافة بعيدة عن رطوبة الأرض.
أما الطابوق، أي: الآجر، فيتكون من طبخ اللبن في الكورة, أي: الأتون، أو بتكديس اللبن طبقات وصفوفًا، ووضع الوقود بينها، فإذا اشتعلت النار يصلد اللبن ويشوى فيكون آجرًا. وطريقة صنع الآجر بإحراق اللبن في الأتون، لا تزال شائعة معروفة في جزيرة العرب. وهي طريقة صنع الطابوق عند الفراعنة والسومريين والأشوريين والبابليين وغيرهم من الشعوب.
ولم يكن في استطاعة الفقير بناء بيته باللبن أو بالطابوق، بل كان يشيد بيته بنفسه بالطين، فيقيم جدره بالطين طبقة طبقة، إذا جفت طبقة وضع فوقها طبقة أخرى، وهكذا، ويسقف بيته بالأغصان، وبسعف النخل، ويضع فوقها طبقة من الطين لتخفف عنه وهج الحر في أيام الصيف، وتمنع عنه سقوط المطر عليه عند نزوله. أما الأعرابي فلم يكن له بيت دائم، لا من الآجر ولا من اللبن، بل كان بيته خيمة تنتقل معه حيث يشاء، يستظل بها وينام تحتها، فهي بيته الحقيقي.
ويقوّى الطين الذي يصنع منه اللبن أو تقام به جدر البيوت أو تفرش به سقوف البيوت بالتبن، يخلط مقدار مناسب منه بالتراب، ثم يعجن الخليط ويترك مدة حتى يختمر، ثم يستعمل عندئذ، فيكون أقوى وأدوم بقاء من اللبن أو الطوف المصنوعين من التراب الصرف. وهذه الطريقة معروفة أيضًا عند العراقيين والمصريين وعند غيرهم من الشعوب في العهود القديمة ولا تزال مستعملة عند(15/22)
حَفَدَتهم. ويعرف التبن بـ"تبن teben"عند العبرانيين1.
وتطين جدر البيوت الفقيرة والريفية بالطين، وذلك لتكون مُلْسًا خالية من الثقوب. ويستعمل الطيّانون آلة تسمى المسجة. ويذكر علماء اللغة أنها يمانية، وأنها خشبة يطين بها، وهي المالجة بالفارسية. ويعبر عن تطيين الحائط بلفظة وسج، وذلك إذا مسج الحائط بالطين الرقيق. وقد ذكر علماء اللغة أن السجة والسجة صنمان2.
ويقال للحجارة المربعة، سواء أكانت مقلوعة أم مصنوعة، "ربعتم" "ربعت" "ربعة" أي: "مربعة"3. وهي تدخل في البناء إما مستقلة، وإما مع أنواع أخرى من الطابوق والحجارة. وقد توضع على مسافات وأبعاد متناسبة ومتناسقة، لتكوّن نوعًا من أنواع الزخرف في الجدر. وقد ذكر "الهمداني" في صدد ذلك هذه الجملة: "المكعب وذلك بكعاب خارجة في معارب حجارته على هيئة الدروق الصغار"4. وهذا النوع من الزخرفة معروف في اليمن. أما في الحبشة، فقد كانوا يضعون حجارة منحوتة على هيئة رءوس قردة للزينة5.
ويعبر عن إدخال الحجارة بين حجارة أخرى للزينة أو الزخرفة أو ملء الفراغ بين جبهتي جدار بحجارة صغيرة لسدِّ الفراغات "ولج". أما "مولجم" "مولج"، فتعني الموضع الذي وضعت تلك الحجارة فيه6. والإيلاج هو إدخال شيء في شيء.
وأما الحفر على الحجر أو الجدار، بقصد التزيين والزخرفة، فيعبر عنه بلفظة "فتخ"، وتقابل بلفظة "بتاخو Patahu". والحفر والنقش العميق على الحجارة والطابوق من مذاهب التزيين المتبعة في الشرق حتى الآن. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أنها تعني معنى "ولج" كذلك، أي: إدخال الحجارة المحفورة والمنقوشة والمنحوتة بين حجارة جدار ما مثلًا للتزيين والتزويق7
__________
1 "Smith Vol.، III، p. 1386.".
2 شرح القاموس "2/ 56".
3 "CIH 325.".
4 الإكليل "80" "طبعةMüller".
5 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 44.".
6 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43.".
7 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43.".(15/23)
وتؤدي لفظة: "فلزتم" "فلزت" "فلزة"، بمعنى: أبعاد وطريق جانبي وإخلاء وحفر ونقب. وقد أريد بها عمل ثقب في جدار في بعض الكتابات1.
وكان من عادة أهل اليمن صهر الرصاص وصبه بين حجارة الأعمدة وفي أسسها، وذلك لربطها وتقويتها، ويقال لذلك: "صهرم"2 من "صهر"، التي تعني جعل الرصاص مائعًا يصب في المكان المراد تقويته أو تثبيته، أو لأي غرض آخر من هذا الصهر. وقد استعملوا الرصاص المصهور في سدِّ "مأرب" كذلك، استعملوه مادة ماسكة تمسك بعض الصخور التي تؤلف الجدر الأمامية وفي مواضع أخرى منه3.
وقد استعمل المهندسون العرب الجنوبيون "القيطران" القار في البناء. استعملوه خاصة في الأماكن الرطبة والتي تسيل عليها المياه وفي الأسس لمنع الرطوبة، كما استخدموه في رصف الشوارع ورصف قيعان السدود. فقد وجدت آثار قيعان بعض السدود وهي مرصوفة ومكسوة بطبقة من القطران.
وفي معنى "قطر" ترد لفظة "قثر"، و"قتر" أيضًا". و"القتار" بمعنى الدخان. ومن هذا المعنى جاءت جملة: "قتر اللحم" أي: شُوي وظهرت رائحته. وفي معنى "قطر" لفظة "هيع" أيضًا. ومعناها "سال" و"ماع". ولهذا استعملت في النصوص ذات الصبغة الدينية في القرابين حيث تسيل دماؤها، وفي الري لسيلان الماء، وفي صهر المعادن4.
وفسر بعض الباحثين لفظة "هيع"، بمعنى بنى، أي: أنشأ بناءً، وفي مقابل لفظة "برا" في المسند5.
واستعملت مواد دهنية مستخرجة من زيوت بعض الأشجار في منع الرطوبة أو الماء من التسرب إلى الأسس والجدر والسقوف.
والخشب هو "عض"6 في العربيات الجنوبية. وقد استعمله العرب الجنوبيون
__________
1 "Rhodokanakis Stud.، II، S. 47".
2 "Rhodokanakis Stud.، II، S. 48".
3 "Wissmann-Hofner، S. 25.".
4 شرح القاموس "3/ 479"، "Rhodokanakis Stud.، II، S. 168".
5 "Jamme، South Arabian Inscriptions، p. 427، 433.".
6 "Rhodokanakis Stud.، II، S. 26".(15/24)
في تسقيف بيوتهم, ولعمل الأبواب، كما أدخلوها في البناء كذلك لتقويته. أما لفظة "عضن" "العض"، فقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن المراد بها نوع خاص من الخشب، نوع ذو رائحة زكية، يستعمل خاصة للحرق في مذابح المعابد1.
ويلاحظ من فحص بقايا بعض الأبنية القديمة من عهود ما قبل الإسلام أنها خالية من المواد الماسكة التي توضع عادة بين الحجر لتثبيته بعضه على بعض. ومعنى هذا أن المهندسين المعماريين كانوا قد وضعوا هذه الحجارة بعضها فوق بعض على نحو يجعلها كأنها متداخلة بعضها في بعض فتثبت مدة طويلة وتتماسك وتصبح وكأنها قد لصق بعضها ببعض بمادة من المواد المستعملة في العادة في تثبيت الحجارة مثل الجص أو الكلس أو الطين، ويسمى بـ"الخلب" عند أهل اليمن اليوم2.
يوجد صورة يراد سحبها بالاسكانر
من بقايا سد مأرب
من كتاب "Qataban and Sheba" "ص221"
والحجارة التي أقصدها هي صخور اقتطعت من الجبال، وأكثرها هي صخور كبيرة, وهي بعد أن تسوّى وتشذب وتهذب يوضع بعضها فوق بعض بحيث تتثبت
__________
1 المصدر نفسه "ص39".
2 المعظم "ص133".(15/25)
بعامل الثقل وبهذه الطريقة تقام الجُدُر، ويجري ذلك في المباني الضخمة الكبيرة التي تستعمل فيها الصخور. وأما أوجه الجدر من الداخل فقد تملج بمادة كالجص لتجعلها مُلْسًا ناعمة، وبذلك تسد الفرج بين محال اتصال الصخور.
واستعملت في مبانٍ أخرى المواد البنائية التي توضع بين الآجر والصخور الصغيرة والحجارة لتثبيتها ولضمان تماسكها. ومن هذه المواد: الجص والطين والكلس، وقد تكحل الفواصل التي بين الأحجار بالكلس وبالجص لسدِّ الفرج بينها وللزينة أيضًا. وأما الجدر الداخلية فتكسى بطبقة لتجعلها جميلة مُلْسًا على نحو ما يفعله أهل اليمن وما يفعله غيرهم في الزمن الحاضر. وقد وجدت البعثات الأثرية التي نقبت في العربية الجنوبية بقايا جدران بيوت، وقد كسيت بطبقة ملساء من الجص, تدل على مهارة البناء في ذلك الوقت. وقد تزخرف المواضع البارزة من الجدار بزخرف يصنع بقوالب خاصة توضع عليها المادة اللينة التي يراد زخرفتها، فإذا جفت رفع القالب عنها، فتظهر بارزة بالحفر التي تكون حولها.
وتكسى الجدر الخارجية للبناء بالجص والكلس في بعض الأحيان. فإذا كسيت بالجص، ظهرت بيضًا ترى من مسافات بعيدة، جاء في شعر لعدي بن زيد:
شاده مرمرًا وجلله ... كِلْسًا فللطير في ذراه وكسور1
وقد ورد الجص لغة، والعرب تسميه القصة2.
ولم يكتفِ المتفنن العربي الجنوبي بإقامة الأبنية فحسب، بل استخدم الحجارة للتعبير عن شعوره وعن خواطره، ينحتها على الصخور ويبثها على ألواح الحجر. وإذا كان العربي الصحراوي قد عبر عن شعوره وعن خواطره بالشعر ينظمه أبياتًا أو مقاطع أو قصائد، يسر نفسه بها, ويسر الآخرين، فقد عبر العربي الجنوبي عن مشاعره وخواطره بنوع آخر من الشعر، هو الشعر المادي المتمثل في البناء وفي النحت والتصوير بالإضافة إلى الشعر المعروف الذي لم يترك لنا أثرًا مكتوبًا منه ويا للأسف.
__________
1 الكامل "1/ 59".
2 شمس العلوم "جـ1 ق2 ص279".(15/26)
والعربي الجنوبي متفنن بطبعه مذواق، لم يكتف بهندسة الحجارة وصقلها وتزيينها، بل اهتم بالألوان كذلك وبالمظاهر الخارجية للبناء، فاتخذ الحجارة الملونة للبناء، وكوّن منها مناظر متعددة الألوان، محاكاةً للطبيعة، وتأثيرًا على النظر. وبنى جدران قصر غمدان من حجارة ذات ألوان مختلفة، فبنى سافًا بالحجارة البيضاء، وبني سافًا آخر بحجارة سُود، وبنى سافًا ثالثًا بحجر أحمر، وسافًا آخر بحجر أخضر1 وهكذا، وذلك إمعانًا في التفنن وفي التزويق ولا شك، وكسا السقوف والأبواب والأعمدة وبعض الجدران بصفائح الذهب والفضة وبالحجارة الكريمة وبسن العاج والأخشاب الغالية الثمينة، فأكسب البناء روعة وجمالًا وخشوعًا. ونجد ذلك في المعابد وفي القصور2.
واستعمل المعمار العربي الجنوبي الرخام لإكساء أوجه الجدران أو في فرش أرض الغرف والمعابد ليكسبها بهجة وجمالًا، واستعمله ألواحًا رقيقة تزخرف بالصور والنقوش، لتعبر عن مباهج الحياة، كما استعمل ألواحًا رقيقة شفافة منه لتكون مكان الزجاج المستعمل في النوافذ في وقتنا الحاضر. ولا يزال أهل اليمن يستعملون الرخام المرقق في نوافذهم، توارثوا ذلك عن آبائهم وأجدادهم، وهو يعطي النافذة رونقًا وجمالًا لا يتوافران في الزجاج.
وتكون النوافذ والشبابيك في جدار الغرفة المطل على صحن الدار. أما الجدر المقامة على الطرقات والأزقة، فتكون خالية منها وذلك لئلا ينفذ منها اللصوص أو الأعداء إلى الدار، وليمنع المارة من التطلع إلى داخل الغرف والبيوت. أما البيوت المرتفعة المكونة من طابقين فأكثر، فقد حليت بالنوافذ، ومن هذه النوافذ ما كان يصنع من الخشب ومنها ما كان يصنع من الحجارة، ولا سيما الرخام. وجعل العربي الجنوبي الطوابق العليا مواضع للدفاع عند الحاجة، ولا سيما في الأماكن المنعزلة النائية، وجعل لمزارعه مواضع مرتفعة مبنية أو من الأخشاب أو على الأشجار لمراقبة من يحاول السرقة وسلب الفلاح ثمار أتعابه.
والنافذة ضرورية جدًّا بالنسبة للأبنية العالية التي عرفت بها العربية الجنوبية،
__________
1 "D. H. Müller, Burgen und Schl?sser, I. S. 348.".
2 "Strabo, X, 778, Hand. Der alter, altir., I, S. 146.".(15/27)
وذلك للدفاع بواسطتها عن البيوت ولدخول النور والهواء إليها، وقد صنعت من لوح مرقق من الرخام، عملت فيه ثقوب، لدخول الهواء منها. وتعمل الألواح المصنوعة من الرخام ألواحًا رقيقة جدًّا، وقد تكون شفافة كالزجاج، لتنير الغرف. ولا تزال نوافذ بيوت العربية الجنوبية محافظة على طرازها القديم. وقد استخدمت بعض النوافذ الجاهلية في البناء. وقد صنعوا النوافذ من الخشب أيضًا، زخرفوها بزخارف جميلة وأحاطوها بأحجار أو بمرمر لتمسكها ولتعطيها منظرًا جميلًا.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.
قصر الإمام أحمد بمدينة "تعز"، وترى نوافذ وهي ذات طابع يماني قديم من كتاب: Gunther Pawelke, Jemen "ص57"
ويعبر في اللحيانية بلفظة "بت"، أي: "بيت" عن معنيين، عن معنى "بيت"، أي: موضع سكن، وعن معنى معبد. وذلك كما في هذه الجملة: "بنيو بت هصن لذ غبت"1 معناها: "بنوا بيت هصن لذي غابة"،
__________
1 النص رقم26 من كتاب: "W. Caskel, S. 88.".(15/28)
و "ذو غابة" هو إله اللحيانيين، أو بتعبير آخر: "بنوا معبد هصن للإله ذي غابة".
ويعبر عن البناء والبناية بلفظة "مبنى" في لغة سبأ1. وهي من أصل "بنا" "بنى".
وقد ذكر علماء اللغة أسماء الدور بحسب نوع بنائها من حيث المادة أو المساحة أو الارتفاع وغير ذلك. ويقال للدار: المنزل كذلك والدارة والمنزلة والمباءة والمعان والوطن والمغنى والمثوى والمربع2. والصرح هو كل بناء مرتفع. وأما الأطم والأجم فالحصن.
والدار المسكن والبيت، وترد اللفظة في النصوص اللحيانية، قال "ابن الكلبي": "بيوت العرب ستة: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وقنة من حجر, وسوط من شعر، وهو أصغرها". وقال البغدادي: الخباء بيت يعمل من وبر أو صوف، أو شعر، ويكون على عمود أو ثلاثة، والبيت يكون على ستة أعمدة إلى تسعة. والخيمة في عرف العرب: كل بيت من بيوت الأعراب مستدير، أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر، أو أعواد تنصب وتجعل لها عوارض وتغلل بالشجر فتكون أبرد من الأخبية. أو عيدان تبنى عليها الخيام، أو ما يبنى من الشجر والسعف يستظل به الرجل إذا أورد إبله الماء. والخيمة عند العرب البيت والمنزل وسميت خيمة3؛ لأن صاحبها يتخذها كالمنزل الأصلي. وورد أن الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد, ثم تسقف بالثمام ولا تكون من ثياب، وأما المظلة، فمن الثياب وغيرها4
و"القبة" من البناء ومن الأدم. وقيل: القبة من الخباء بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب5. و "المظلة": الكبير من الأخبية، قيل: لا تكون إلا من الثياب، وهي كبيرة ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثًا،
__________
1 "Jamme, South Arabian. Inscriptions, p. 439.".
2 بلوغ الأرب "3/ 389 وما بعدها".
3 تاج العروس "1/ 529"، "بيت".
4 تاج العروس "8/ 285"، "خيم".
5 تاج العروس "1/419"، "قبب".(15/29)
وربما كان لها كفاء، وهو مؤخرها. قال بعض العلماء لا تكون المظلة إلا من الشعر خاصة. إلى غير ذلك من آراء1. والخباء: ما يعمل من صوف أو وبر، وقد يكون من شعر، وقد يكون على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك، فهو بيت2.
ويظهر من تضارب آراء العلماء في تعريف الأسماء المذكورة، أنهم أخذوا معانيها من موارد مختلفة من رعاة ومن شبه حضر ومن أعراب، ومن جهات مختلفة، فكان كل مورد يفسر الشيء تفسيرًا يختلف عنه عند مورد آخر، فتضاربت من ثم تلك الآراء.
ويقال لصحن الدار: حُرّ الدار وقاعتها وباحتها وساحتها وصرحتها وبحبوحتها. وفي الدار البيت. والمخدع، وهو البيت في البيت، والنفق والسرب، فالبيت تحت البيت ويتألف البيت من غرف. والغرفة في أعلى هي "العلية" والجمع علالي. والخزانة هي التي يحفظ فيها الشيء. والمرقد، هو المضجع3.
وما يحيط بالبناء هو الحائط والجدار. والأُس هو أصل الحائط. والرهص، هو البناء من الطين الموطوء، ينضد بعضه فوق بعض، ويقال للنضدة الواحدة دمص، أما النضدة السفلى، فيقال لها رهص4. والخط الواحد من الحائط ساف، ويقال للصف الواحد من اللبن أيضًا ساف5. وإذا أقيم الآجر بعضه فوق بعض، فهو السميط6. ويقال للحائط حين يبلغ العقد أو الثقيف أو التقبيب، ارتفع الحائط. ويقال للعقد: عقد الأزج وللبيت مغمى إذا سقف بالخشب، وبيت مقبب إذا كان ذا قباب. أما إذا كان على هيئة السنام، فيقال له بيت مسنم. والبرزخ الفرجة بين الأزَجَين في صهوة البيت، والهدف ترس الأزج.
وتقوى الجدر بالأوتاد، وذلك برز الوتد في الحائط عند البناء، وقد عثر
__________
1 تاج العروس "7/ 427". "ظلل".
2 تاج العروس "1/ 60"، "خبأ".
3 بلوغ الأرب "3/389".
4 "والدمص بالكسر: كل عرق من الحائط خلا العرق الأسفل فإنه رهص" شرح القاموس "4/ 396"، بلوغ الأرب "3/390".
5 شرح القاموس "6/ 147".
6 شرح القاموس "5/ 161".(15/30)
على أوتاد من الخشب مرزوزة في بقايا أبنية السبئيين والمعينيين وغيرهم لتقوية الجدر، أو لاستعمالها لأغراض أخرى، مثل تعليق أشياء عليها، أو استعمالها بمثابة السلالم للتسلق إلى أعلى.
وفي الدار الصُّفَّةُ، وتسمى بحسب الجهة المتجهة إليها. ويقال صفة فراتية إذا كانت الشمس لا تقع فيها رأسًا. و"المقنوءة" مكان ظله دائم ويكون بارد الهواء. والزاوية ملتقى الحائطين في البيت. والكوة الثقب في أعالي البيت. ويقال لها: الشاروق. والمشكاة التي في الحائط. ويقال لها: الأوقة, ويقال: بيت مأوَّق1.
ويقال للسطح: الإجار والصهوة. وسقف البيت أعلاه الداخل. وأما سمكه، فما كان بين قراره إلى سقفه. والطاية السطح. والدرج المرتقى إلى السطح, أن كان من خشب دعي بـ"سلم". وكل مرقاة عتبة. والفرغ الخلاء بين المرقاتين. والعلاوة هي أعلى الحائط الذي لا يغمى. والتفاريج والطنف آجر أو نحوه يجتح به أعلى الحائط ليقيه المطر أن يسيل عليه. وهو الكثة والإفريز. والهرادة من الخشب لأعالي الحيطان، والنجيرة سقيفة بخشب لا يخالطها غيره2.
ويسقف البيت بالخشب، يوضع عليه عُرضًا، ويسمى "العراص". ثم تلقى عليه أطراف الخشب الصغار3. وقد يطيَّن، أو يجصَّص، أو يُبنى فوقه ليمنع المطر من السقوط من خلال الخشب على البيت، وحرّ أشعة الشمس من النفاذ إليه.
وكانت بيوت أزواج النبي من اللبن، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين، وعلى أبوابها مسوح الشعر4. وهذه كانت صفة معظم بيوت أهل يثرب والمدينة، ما عدا بيوت الأثرياء، فقد كانت من حجر وكلس ولها وسائل الترفيه والراحة المتوفرة بالقياس إلى ذلك الزمان.
واللبن جمع لبنة. وأما الذي يعمل اللبن، فهو اللبان. والملبن الآلة التي
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 390".
2 بلوغ الأرب "3/ 391".
3 البرقوقي "ص137".
4 طبقات ابن سعد "1/ 499 وما بعدها".(15/31)
يضرب لها. والسابل، الأداة التي ينقل عليها. والسميقان والأسمقة خشبات يدخلن في السابل. والطوب هو الآجر، والطباخ هو الذي يطبخ أتونه، والأطيمة: أتون الجرار والقصاع وأمثالهما. والبلاط: الحجارة تفرش بها الأرض. ويقال أرض مبلطة، إذ فرشت بالبلاط1.
وقد عرف بعض علماء اللغة اللبن بأنه المضروب من الطين مربعًا للبناء2، وتقابل لفظة "اللبنة" كلمة "Libbatu" في الأشورية، و "لبيتو" و "لبنتو" في الإرمية3.
والطيّان، الذي يعمل الطين، ويطين الحائط أو السطح، ويشتغل بالطين. والملاط ما رق من الطين. ونحوه السيّاع. ويقال للمالج الذي يمسح به وجه الحائط: المسجّة والمسيعة. وأما الخيط الذي يقدر به البناء، فيقال له: "المطحر". والشيّد والشص الجص. والجصّاصة موضع الجص. والملاّحة مجمد الملح. والجيار والكلّس الصاروج. والصاروج النورة وأخلاطها. والثلاجة مكبس الثلج4.
وتوضع في سطوح الدور ميازيب لتسيل منها مياه الأمطار إلى أسفل، وتعرف بـ"المثاعب"، وواحدها "مثعب"، ويكون من خشب وغيره. ويسيل الماء إلى "البالوعة" ويقال لها: "البلّوعة" كذلك5. ولفظة "مئزاب" و"مرزاب" من الألفاظ المعربة عن الفارسية، ولكنها من الألفاظ القديمة الداخلة إلى العربية6.
وموضع الطبخ في الدار هو المطبخ. وأما المخبز فهو موضع التنور. ويقال للتنور: الوطيس والهيلم والمِسعر كذلك. والكرامة طبق التنور، والمناقة حجره.
وأما الساعور، فتنور صغير في الأرض7.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 391".
2 شرح القاموس "9/ 328".
3 برصيوم "ص 269".
4 بلوغ الأرب "3/ 391".
5 بلوغ الأرب "3/391" وما بعدها".
6 المعرب "ص 326"، المغرب "ص14"، شرح القاموس "3/ 269".
7 بلوغ الأرب "3/ 392".(15/32)
والسور هو حائط الحصن والمدن. وأما الربض: فحائط حول السور. والشرف هو ما أشرف فوق الحائط، ويتشرف الناس من ورائه1. ويعبر عن "السور" بـ "حل" "Hel" في العبرانية، أي: "حائل"، وهو الحائط الذي يحيط بالمدينة2. وتطلق لفظة "حال" و"حويل" على الحائط، وعلى الحدّ الذي يفصل بين ملكين؛ لأنه حائل يحول بين الأملاك وبين الأشياء، فلا تختلط ويمتزج بعضها ببعض3.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 392 وما بعدها".
2 "Roland de Vaux, Ancient Israel, London, 1961, p. 233.".
3 تاج العروس "7/ 295"، "Rhodokanakis Stud., II, S. 31".(15/33)
الفصل السابع عشر بعد المئة: القصور والمحافد والاطام
مدخل
...
الفصل السابع عشر بعد المائة: القصور والمحافد والآطام
وقد أورد علماء اللغة العربية, جملة ألفاظ لها صلة بالمباني الضخمة وبالمباني العالية. منها: "قصر" والجمع "قصور", و"محفد" والجمع "محافد" و "أطم", و"مجدل", و"حصن" و"برج" وغير ذلك من ألفاظ لبعض منها صلة بالناحية الحربية, لذلك أترك أمرها إلى ذلك الباب, وسأقتصر هنا على الكلام على المباني الأخرى التي تخص الحياة الاجتماعية في الأكثر.
والقصر البيت الكبير الفاخر, وتقابل لفظة "قصر" كلمة "قصرو" في لغة بني إرم1. وقد أطلقها علماء اللغة على البيوت الكبيرة لأهل الجاهلية في اليمن, فقالوا: "قصور اليمن". واشتهر من بينها "قصر غمدان" و"قصر سلحين", وقد أطلقها عرب العراق على حصونهم التي كانوا يتحصنون بها عند دنو خطر عليهم, فكانت الحيرة مكونة من "قصور", أقامها أشرافها, واتخذوها بيوتًا لهم, وحماية لأموالهم, وملجأ يلجأ إلية أتباعهم عند دنو الخطر, للدفاع عن سادتهم وعن أموالهم, يصعدون إلى أعلى القصر, فيرمون المهاجم بالحجارة والخزف والسهام والنار, ويصبون عليه الماء الحار. ولما هاجمها "خالد بن الوليد", أخذ يحاصرها قصرًا قصرًا, ويفتحها, وبذلك سقطت المدينة, المؤلفة
__________
1 غرائب اللغة "201".(15/34)
من هذه القصور. ولا تزال اللفظة معروفة في العراق, فيعرف حصن "الأخيضر" المشرف في البادية بـ"قصر الأخيضر", ويطلق على بعض قرى عين التمر القصور؛ لأنها كناية عن بيوت تُحمى بـ"قصر" في الأصل1.
وتخزن في غرف الطابق الأرضي من القصر الميرة, وما يحتاج إليه, وكذلك الماشية, أما الطابق الثاني, أو ما بعده, فيتخذ مسكنًا, لأهل القصر, وقد تعمل به منافذ صغيرة, ليرمي منها المدافعون المهاجمين بالسهام والحجارة, لمنعه من الدنو من القصر, ويدافع عنه من السطح كذلك.
والمحفد من الألفاظ الواردة في كتب اللغة, وجمعها "محافد". وتعني في العربية الجنوبية القلعة والحصن، أي: المكان الحصين المنيع الذي يتحصن فيه الجنود للدفاع2. وتعرف بـ"محفدن" في العربية الجنوبية, أي: "المحفد".
وترد لفظة "صحفت" مع "محفد". وأما "صحفت", فقد فسرت بمعنى المجاز أو الطريق أو الممر أو الخندق. وهي في معنى لفظة "ضخف" التي تعني الحفر, ومنها "مضخفة" التي تعني المسحاة3. ويكون الخندق حول المحفد, يحميه من غارات الأعداء, فيحول بينهم والوصول إلى سوره. وتؤدي لفظة "صحفت" معنى ممر في داخل الحصن يربط بين السور وداخل الحصن4.
والمجدل, هو القصر المشرف5. فهو نوع من أنواع الأبنية الضخمة. وهو الحصن في داخل المدن عند العبرانيين, ويقابل لفظة Castellum في اللاتينية6. وقد وردت لفظة "مجدل" و "مجادل" أي: في صيغة الجمع في النصوص اللحيانية بمعنى البرج والحصن7.
وأما الأطم فالحصن والجمع آطام. وهي القصور والحصون. وقال "الأصمعي"
__________
1 راجع الجزء الثالث من تأريخ الطبري, في فتوح العراق, وكذلك فتوح البلدان للبلاذري.
2 "Rhodokanakis Stud., II, S. 61".
3 "Rhodokanakis Stud., II, S. 61".
4 المصدر نفسه.
5 شمس العلوم "جـ1 ق2 ص306".
6 "Roland de Vaux, Ancient Israel, London, 1961, p. 235.".
7 راجع النص 26 في كتاب: "W. Caskel, S. 88.".(15/35)
الآطام الدور المسطحة السقوف, موشاة, أي: منقوشة1. وهي معروفة عند أهل "المدينة". وقد تحارب الأوس والخزرج عندها, فأرخوا بهذا اليوم. وكانت الأوس والخزرج تتمنع بها, فأخربت في أيام "عثمان"2.
وتقوّى الحصون بسكك الحديد أحيانًا, وبكل وسائل التقوية والإسناد, لتتمكن من الصمود أمام العدو, ومن تحمل ضربات الآلات التي تستخدم للهدم. ويعبر عن التقوية هذه بلفظة "سكم", أي: "سك"3.
وقد فسر بعض علماء العربيات الجنوبية لفظة "صرحت" "صرحة" "صرحس" التي ترد في كثير من الكتابات المتعلقة بأعمال البناء, بالطبقة الثانية من البناء أو أعلى كل بناء4. وفي كتب اللغة: "الصرح: بيت واحد يبنى منفردًا ضخمًا طويلًا في السماء", وقيل: "القصر" أو كل بناء عالٍ مرتفع. وفي التنزيل: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير} ، والجمع صروح. وقال بعض المفسرين: الصرح بلاط اتخذ لبلقيس من قوارير5.
وترد لفظة "صرحت" بهذا الشكل في بعض الكتابات, كما ترد بغير تاء, أي: "صرح". وقد وردت على هذه الصورة: "صرحس" في بعض الكتابات المعينية, كم وردت على هذا الشكل: "صرحسن" أي: "الصرح".
والغالب بين علماء اللغة أن الصرح البيت العالي, وقد قيّد بعضهم ذلك بالبيت العالي المزوق6. وحيث أن البيوت المرتفعة العالية هي في اليمن وفي مواضع من العربية الجنوبية الأخرى في الغالب, ونظرًا لورود اللفظة في كتابات العرب الجنوبيين, فإننا نستطيع أن نقول باحتمال أخذ الحجازيين لفظة "الصرح" و"صرح" من العرب الجنوبيين.
__________
1 الأغاني "1/ 14", "طبعة ساسي", شمس العلوم "جـ1 ق1 ص85".
2 التنبية والإشراف "ص176".
3 "Rhodokanakis Stud., II, S. 46".
4 Rhokokanakis, Stud, II, S. 29, 32, F, Glaser 1089, 1660, Halevy 208, Glaser 1144, Halevy 353, Jamme, South Arabian Inscriptions, p. 448.
5 شرح القاموس "2/ 179". "الصرح: بيت عال مزوق", المفردات "280".
6 المفردات, للراغب الأصفهاني "ص280".(15/36)
الأعمدة والأسطوانات:
ومن الرخام أقيمت أعمدة جميلة كسيت تيجانها بالنقوش وبالزخرف الأخاذ, وقد تمكن المعماريون من وضع الصخور بعضها فوق بعض وضعًا فنيًّا في غاية الدقة جعلتها تظهر وكأنها قطعة واحدة. فقد صقلوا الصخور صقلًا تامًّا بدقة وعناية. وجعلوا نهايتها متطابقة تمامًا, فإذا جلست بعضها فوق بعض, انطبقت على بعضها, وبدت وكأنها قطعة واحدة يصعب التمييز بين مواضع انطباقها. وقد نقروا أحيانًا في أواسط الرخام نُقرًا عميقة, ثبّتوا في داخلها أوتادًا من الرصاص أو الحديد, لتربط بين قطع الرخام, ولتكون لها سندًا وقوة, فلا تسقط. وقد وجدت مثل هذه الأوتاد بين الصخور المكونة لسد مأرب1, وكذلك في قصر "غمدان"2.
وأقيمت الأعمدة على قواعد تحمل الصخور الثقيلة المؤلفة منها تربط بينها أوتاد مربعة في الغالب, وتكون القواعد أكبر حجمًا من العمود ليستقر ثقل الأعمدة عليها, ولتكون أثبت على سطح الأرض. وتقوى هذه القواعد بصب الرصاص عليها. وقد وجد أن المعماري العربي الجنوبي تعمد في جعل الجدران المرتفعة ميّالة إلى الجدار الداخلي كلما ارتفع البناء, بمعنى أنه يجعل الجدران الخارجية أقرب إلى واجهة الجدران الداخلية في أعالي البناء من القواعد, فتكون المسافة عندئذ بين الجدارين عند السقف أقرب وأقصر منها عند القاعدة3. ويظهر أنه تعمد ذلك لأغراض هندسية واقتصادية, تستدعيها المحافظة على الحجارة من عبث الطبيعة بها وتقوية لها, وتخفيفًا عنها, واقتصادًا في مواد البناء.
وأقيمت بعض الأعمدة على أرض البناء رأسًا من دون قاعدة بارزة يرتكز عليها بمعنى أن المعمار لم يجعل قاعدة العمود أوسع وأعرض من هيكل المجموع, فيظهر العمود وكأنه قد نبت من الأرض.
وقد عثر المنقبون على أنواع متعددة من الأعمدة, تيجان بعضها مربعة أو
__________
1 "Glaser, Reise, S. 60, Hand. Der Alt., I, S. 146.".
2 "D. H. Müller, Burgen und Schl?sser, I, S. 345.".
3 "Hand-der altar. alter., I, S. 146.".(15/37)
ذات زوايا مستقيمة. منها ما هو بسيط بدون زخرفة ولا نقوش, ومنها ما هو مزخرف أو علية بعض النقوش أو بعض الحروف أو الكتابات. ومن جملة الزخرف الذي زين تيجان الأعمدة زخرف يمثل زهرة الزنبق وأنواعًا أخرى من الزهور1.
وتمثل الأعمدة المربعة الشكل أو المستطيلة والخالية من الزخرف أقدم أنواع الأعمدة بالنسبة للفن المعماري العربي الجنوبي. ونجد نماذج منها في خرائب معبد "قرنو" عاصمة معين. وفي "صرواح" "الخريبة" وفي "مأرب""حرم بلقيس" "محرم بلقيس"2 وقد اقتطع المعمار هذه الأعمدة من الصخور, كتلًا كتلًا, ثم أمر بصقلها وتشذيبها حتى حولّها إلى قطع أكسبها شكلًا هندسيًّا, قواعدها مربعة أو مستطيلة, وضعها بعضها فوق بعض إلى الارتفاع المقصود, مكونًا منها أسطوانة تحمل البناء.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.
ونرى في هذه الصورة تاج أحد الأعمدة, وقد زخرف بحيث ظهر وكأنه كتلة من رءوس خرفان أو حيوانات لها قرنان كالوعل وقد أبدع الفنان في حفره حتى ظهر الحجر كأنه مجموعة حيوانات وقفت بعضها إلى جانب بعض, وزخرفت قاعدة الحجر, كما ترى في الصورة, ويظن بعضهم أنه رمز الإله القمر.
من كتاب: Qataban and Sheba"ص224".
__________
1 "Hand. Der altar. Alter., I, S. 147, Deutsche Aksum Expedition, II, S. 143. ff.".
2 "A. Grohmann, S., 209.".(15/38)
وقد أبدع الفنان في الحفر, وأجاد في الزخرفة وفي إتقان عمله, وأعطى عمله روعة, فترى الحفر على مستوى واحد, وقد عمل بدقة ومهارة. وإتقان العمل والإبداع في الفن من المزايا التي امتاز بها أهل العربية الجنوبية حتى اليوم.
وهناك أنواع من الأعمدة تتكون من ثمانية أضلاع, وأنواع أخرى تتكون من ستة عشر ضلعًا, عثر عليها في مدينة "تلقم", وتتكون تيجانها من ست درجات: ثلاث منها على هيئة نصف أسطوانة: بطونها إلى الخارج وقاعدتها العمود, وثلاث على هيئة صفائح مستطيلة ذات ستة عشر ضلعًا. وقد نحتت هذه التيجان ورتبت على هذا الشكل: الدرجة السفلى مكونة من مستطيل ذي ستة عشر ضلعًا, وفوقه درجة على هيئة أسطوانة يليها مستطيل ذو ستة عشر ضلعًا, وهكذا إلى أن ينتهي التاج بالدرجة السادسة للتاج1.
وقد عثر على نماذج من الأعمدة المثمنة الأضلاع في معبد "صرواح" بـ"أرحب", وفي "حقه" وفي "العرين" وفي "بيت غفر" وفي "سوق النعم" وفي "شبام كوكبان" وفي "مأرب", وفي مواضع أخرى. ويرجع عهد هذا النوع إلى ما قبل الميلاد, ويمتد إلى ما بعده. ويرى بعض الباحثين أن أكثر هذه الأعمدة قد ظهر في فترة من الزمن تقع فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني من بعد الميلاد2.
وقد رأى "كلاسر" "Claser" عمودًا مثمنًا ذا تاج "كورنثي" في مسجد "منقط" بالقرب من "يريم", يرى الباحثون أنه من صنع عامل يوناني. وهم يرون أن أصلة من مدينة "ظفار" التي لا تبعد كثيرًا عن هذا المكان, جيء به من هناك إلى هذا المسجد. وقد كانت "ظفار" مركزًا خطيرًا وعاصمة لحمير, وفيها أسس "ثيوفيلوس" كنيسة حوالي سنة "354" للميلاد. وصارت هذه المدينة مركزًا لأسقفية تشرف على نجران وهرمز وسقطرى. وقد عثر في هذا المسجد على قطع أخرى أثرية, عليها آثار الصلبان وكتابات حبشية وآثار أخرى تشير إلى أصل نصراني, يظهر أنها من أيام استيلاء الحبشة على اليمن, وأنها ترجع إلى ما بين سنة "525" و"570" للميلاد. وفي خلال هذه المدة كان
__________
1 "Hand,der altar. alter., I, S. 148.".
2 "A. Grohmann, S. 210.".(15/39)
احتلال الحبشة للعربية الجنوبية1.
ولا أستبعد أن يكون من بين هذه الأعمدة التي نحت الصليب فوقها, أعمدة جاهلية أُخذت من المعابد الوثنية, ثم حفر الصليب عليها, لتتناسب مع الطقوس النصرانية. أو أنها كانت معابد وثنية قديمة, فلما استولى الحبش على اليمن, أو عند اعتناق أهل تلك المواضع للنصرانية حولّوا تلك المعابد إلى كنائس وأحدثوا فيها بعض التكييف والتغيير لتكون في وضع يناسب الكنيسة, فكان في جملة ما أدخلوه عليها حفر الصلبان على أعمدة تلك المعابد.
وتظهر الأعمدة المكونة من ستة عشر ضلعًا, وكأنها أسطوانة, أي: عمودًا ذا شكل دائري؛ لأن الأضلاع صارت ضيقة متقاربة أعطت العمود شكل أسطوانة. وقد عثر على نماذج من هذه الأعمدة في مدينة "تلقم" وفي معبد "صرواح" بأرحب, وفي "صرواح" "الخريبة" وفي "الفراس", وفي جامع المتوكلية بصنعاء2.
ويرى بعض الباحثين أن الأسطوانات, أي: الأعمدة المدوّرة ذات الشكل الأسطواني التام, قد ظهرت بعد الأعمدة المذكورة, وأنها ترجع إلى الأزمنة المتأخرة لذلك من تأريخ اليمن3.
ومن العربية الجنوبية انتقلت هذه الأعمدة إلى بلاد الحبشة, حيث نجدها في معابد الحبشة القديمة. وقد أخذ أهل تلك البلاد هذا النوع من الأعمدة في جملة ما أخذوه من حضارة أهل العربية الجنوبية4. وقد رأينا أن أهل سبأ كانوا قد أقاموا حكومة لهم في إفريقية, وقد ترك أهل العربية الجنوبية, ولا سيما أهل سبأ منهم, آثارًا في اليمن في مختلف النواحي, ما تزال ظاهرة للعيان.
وقد استعملت الأعمدة المصنوعة من الخشب لحمل السقوف ولا سيما في البيوت.
__________
1 Philostorgios, Historia Ecclesiastica, III, 4, Handb. Der Altar. Alter, I, S. 148,
2 A. Grohmann, S, 210, Rathjens un Van Wiossmann, Vorislamische Altertumer, 132, 133, Glaser, Geographische Forshungen in Jemen, 1882, 73.
2
3 "A. Grohmann, S. 210.".
4 Deutsche Aksum – Expedition, II, S. 101. F, 154, FF, Hand. Der Altar, Alter, I, S. 148.(15/40)
وتوجت هذه الأعمدة بتيجان في الغالب, جعلت على هيآت وأشكال مختلفة. ولا يزال الناس يستعملون هذه الأعمدة في بناء البيوت.
وقد نوّع المعمار هندسة تيجان الأعمدة والأساطين, بأن جعلها أشكالًا وأنماطًا, راعى وحرص على أن يجعلها تتناسب مع شكل العمود الذي سيوضع التاج فوقه, أو الأسطوانة التي سيوضع عليها. وقد مرّ هذا التنويع في أدوار وأطوار, كما مرت صناعة الأعمدة والأساطين بهذه الأدوار كذلك. لقد كان التاج في بادئ أمره جزءًا أساسيًّا من أجزاء العمود, أي: قطعة منه. هي القطعة الأخيرة من قطع العمود. وعلى هذا الجزء أقام قواعد السقف من غير أن يميزه عن الأجزاء الباقية من أجزاء العمود بأي شيء. ثم بدا له أن يجعل للقطعة الأخيرة حافة عليا بارزة, وأن يجعل أعلاها أوسع من أسفلها الذي هو قاعدة التاج التي ترتكز على بقية أجزاء العمود. وذلك لأسباب فنية تتعلق بالبناء وبعقد عقود سقوف المعابد. ثم أخذ يجعل التاج قطعة حجر تكون أوسع مساحة من مساحة القطعة من العمود الذي سيوضع فوقها, أي: أوسع من مساحة العمود نفسه, وصار يزخرفه ويتفنن في زخرفته, حتى ظهرت عنده جملة تيجان أقيمت عليها سقوف المعابد والقصور. وقد عثر على تيجان بسيطة هي عبارة عن حجر وضع فوق العمود, ولكي يربط هذا التاج بالعمود ربطًا محكمًا, ويجلس فوقه جلوسًا تامًّا هندسيًّا, فقد ربط بالعمود بوتد يقوم مقام المسمار في ربط أجزاء الخشب بعضها ببعض, يدخل في التاج وفي العمود ليربط بينهما ويجعلهما وكأنهما قطعة واحدة من حجر. وقد توضع بين التاج والعمود مادة بنائية لتشد بين الحجرين وتمسك بينهما, فضلًا عن "المسمار" الذي يدخل في الثقب الموجود في الحجرين, إن كان ذلك "المسمار" متحركًا أي: متنقلًا, أو في الثقب المحفور في الحجر المقابل, إن كان ذلك "المسمار" أو الوتد ثابتًا وقد نحت في أحد الحجرين حتى صار مرتفعًا كقطب الرحى, ليدخل في التجويف المعمول في الحجر الثاني المقابل وبذلك يتماسك الحجران.
وقد وجد "كلاسر" تاج عمود, ظهر أنه كان مؤلفًا من حجرين, حجر مربع الشكل أطرافه قائمة الزوايا, وأضلاعه الخارجية عدلة, ثم حجر آخر أقيم تحته, أي: فوق العمود, أطرافه الخارجية منحوتة نحتًا جعل الأطراف مائلة نحو العمود, أي: إلى الجهة السفلى1. وربما كان هذا النوع من التيجان مرحلة من
__________
1 "A. Grohmann, S. 210.".(15/41)
مراحل تكبير التاج وتطويله بجعله يتألف من جملة طبقات. كما عثر على تيجان جعلت جملة طبقات, طبقة مصقولة ملساء, وطبقة منحوتة ومزخرفة زخرفة هندسية أو بأشكال أخرى حسب ذوق المهندس المعمار الذي وضع تصميم المكان.
عثر على نماذج أخرى عديدة من التيجان, تفنن في نحتها وفي تكوينها المعمار. وتمثل بعض منها شخصية ذلك المعمار تمام التمثيل. فهي مستقلة تمثل طابع العمارة العربية الجنوبية. ولكننا نجد بعض التيجان وكأنها تقليد ومحاكاة لتيجان أجنبية. فبينها تيجان تشبه تيجان أعمدة بعض معابد مصر التي تعود إلى ما قبل الميلاد, ونجد بعضًا وكأنه محاكاة لتيجان يونانية أو رومانية أو فارسية أو حبشية. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن عددًا من تيجان الأعمدة الموجودة اليوم في بعض دور الحكومة بصنعاء, أو في المساجد أو في بعض البيوت هي من أيام الاحتلال الحبشي أو الساساني لليمن. ولا يستبعد أن يكون من بينها تيجان وأعمدة أخذت من كنيسة "القليس"1.
ولما كانت العربية الجنوبية على اتصال بالعالم الخارجي, منذ عصور ما قبل الميلاد, وقد شهدت فتوحًا أجنبية, كما كانت لها صلات تجارية مع الروم والإفريقيين والهنود والفرس, فلا يستبعد استخدام العرب الجنوبيين للأعاجم في أعمال البناء, وتأثرهم بالأساليب المعمارية الأجنبية, ولا سيما في أثناء الفتح الحبشي لليمن, فقد ذكر أهل الأخبار أن الحبش استعانوا بفعلة من الروم في بناء "القليس", كما أن الروم كانوا قد شيدوا كنائس في عدن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب, وقد بنيت هذه الكنائس وفقًا لأسلوب الفن البيزنطي النصراني ولا شك. وقد كان بين الفرس من يحسن البناء ويتقنه, كما كان لأهل العربية الجنوبية اتصال بالفرس قبل هذا الفتح, وكانت فيها جاليات منهم ولا سيما في الأقسام الجنوبية الشرقية, فأثروا بذلك في طراز البناء.
وما قلته من تفنن المعمار العربي الجنوبي في تنويع الأعمدة وتيجانها ينطبق أيضًا على القواعد التي أقيمت الأعمدة عليها. فبعد أن كانت قاعدة العمود أو الأسطوانة بسيطة, لا تمتاز عن العمود بأي شيء, بل كانت قطعة واحدة منه, ليست لها عن بقية الأقسام أية ميزة, رأى المعمار تمييزها عن بقية الأقسام, فجعلها أوسع
__________
1 "A. Grohmann, S. 119, Sabaeica, I, 119.ff.".(15/42)
من العمود, وأعطاها أشكالًا هندسية وزخرفية ميزتها عن العمود وعن تاجه. فنجد قواعد أعمدة على شكل مربع أو على شكل مستطيل أو على شكل دائري. ثم نجدها بسيطة تمامًا, ونجدها مزخرفة ومزوقة. ونجدها وقد نحتت على شكل تظهر وكأنها من طبقات مختلفة.
وعلى هذه الأعمدة والتيجان والأسطوانات أقيمت سقوف المعابد والقصور وبيوت السادات عقدت عقدًا على نحو ما نراه في الوقت الحاضر من بناء المساجد وبعض الأسواق القديمة والأبنية الأثرية. ولا يستبعد استعمال أهل اليمن للقباب في معابدهم وفي قصورهم, فمادة البناء متوفرة عندهم, والإمكانيات الفنية موجودة عند المعمار العربي الجنوبي. عقدت على عقود وأقواس ينتهي مركز ثقلها بتيجان الأعمدة أو برءوس الأعمدة على طريقة بناءهم للمساجد في هذه الأيام.
ولم تجر حتى الآن حفريات علمية واسعة في اليمن وفي بقية أنحاء العربية الجنوبية, كما أن دراسات المتخصصين الضليعين بعلوم العربيات الجنوبية قليلة, ولهذا كان علمنا بالآثار العربية الجنوبية ضحلًا لا يعين على تكوين رأي علمي واضح صحيح في آثار تلك الأرضين وفي صلة الحضارة العربية الجنوبية بغيرها من الحضارات.
لقد وضع "كلاسر" مخططات تقريبية لبعض المعابد والأبنية القديمة في اليمن, مثل معبد صرواح ومعبد "محرم بلقيس" حرم بلقيس, وهو معبد إله سبأ الرئيس "المقه" وأماكن أخرى, كما وضع غيره مخططات أخرى. ولكن هذه الدراسات تقريبية وغير كاملة. ولا بد من وقت للبحث في هندسة هذه الأماكن بحثًا علميًّا دقيقاً. ومثل هذه البحوث لا تقوم إلا بحفريات عميقة منتظمة, توصلنا إلى أسس تلك الأبنية وما طمر في الأرض من آثار تتعلق بتلك الأماكن.
وقد تمكن المنقبون في هذا اليوم من تثبيت معالم بعض المعابد ولا سيما معبد "المقه" بمأرب, حيث شخصوا بعض معالمه, إلّا أن تحديده بصورة مضبوطة واضحة, وتعيين مواضع العبادة فيه, تحتاج إلى دراسات أثرية واسعة وبمقياس كبير. فقد أمكن مثلًا تنظيف بعض مواضع معبد "اوم" "اوام" بمدينة "مأرب" من الأتربة, لتظهر معالمه, وأمكن بذلك من الحصول على معلومات أثرية لا بأس بها عنه, غير أن معارفنا عنه لا تزال قليلة؛ لأن البحث العلمي لم يتم على هذا المعبد حتى الآن. وترى في الصورة بقايا الأعمدة التي كانت تحمل(15/43)
سقوف المعبد, كما تشاهد بعض بقايا جداره, وهو من المعابد المهمة التي كانت في "مأرب".
1يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.
معبد أوام بمدينة مأرب
من كتاب "Qataban and Sheba" "ص257"
وقد نُسي اسم هذا المعبد القديم, الذي كان يسميه السبئيون معبد "اوم" "أوّام". وكانوا يتقربون إليه بالهدايا والنذور, تقدم باسم رب هذا المعبد: "بعل اوم". وهو "المقه" إله سبأ الأكبر, إله القبيلة القديم. وهو القمر ويسمى معبده في هذا اليوم بـ"حرم بلقيس" وبـ"محرم بلقيس", ويقع على مسافة ميلين تقريبًا من قرية "مأرب" الحديثة. وتقع معظم ساحة المعبد وجدره وأبنيته تحت الرمال. وما لم ترفع هذه الكثبان الرملية عنه, فإنه من المستحيل التحدث عنه حديثًا علميًّا. وقد سرق الناس أحجار السقوف وأعالي جدار المعبد, لاستعمالها في البناء, ولما زار "كلاسر" المعبد ووصفه, رأى سقف(15/44)
المعبد, أي: البيت الذي يتعبد فيه, وكذلك أعالي سوره, وكانت زيارته له سنة "1888م", ولا نجد اليوم من آثار السقف وأعالي الجدران شيئًا, بسبب سرقة الأحجار, ولولا الرمال التي غطت الأرض والجدران وساحة المعبد, وحفظت في باطنها أحجارها وبعض الأعمدة الضخمة التي صعب على الناس قلعها, لما تبقى من حجارة هذا المعبد شيئًا.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
جانب من معبد –أوام – وترى أبوابًا ونوافذ لقاعة من قاعات هذا المعبد.
ويظن أنها ليست من أصل المعبد بل أضيفت إليه من كتاب
"Qataban and Sheba" "ص272"(15/45)
وقد بني هذا المعبد في أيام "المكربين", وقد وجدت فيه كتابة تعود إلى أيام المكرب "يدع ايل ذرح بن سمهعلي" مكرب سبأ. ويرى "البرايت" أنه حكم في منتصف القرن السابع قبل الميلاد. وربما كان هذا المكرب قد جدد بناء هذا المعبد الذي أقامه مكربون سبقوه في الحكم1.
وتجد في هذه الصورة بقايا جدار معبد "اوم", وبقايا نوافذ حجرية, وقد تخللتها ثقوب لدخول الهواء والنور منها, وقد نقشت وزخرفت. وقد جدد ورمم بناء المعبد مرارًا, وأضيفت عليه جملة زيادات, كما يتبين ذلك من الكتابات التي عثر عليها المنقبون داخل المعبد, وقد دوّنت لمناسبات التجديد وإدخال الإضافات, ثم من طراز الهندسة الذي نراه في البناء ومن تنوع الأحجار ومادة البناء.
وهذه صورة أخرى, أخذت أثناء قيام بعثة "وندل فيلبس" بأعمال الحفر في معبد "اوام" وترى الأعمدة قائمة, والعمال يشتغلون في إزاحة الأتربة التي طمرت ذلك المعبد القديم.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
من كتاب "Qataban and Sheba" "ص256".
__________
1 راجع الصفحة "215 وما بعدها" من كتاب:
Archaeological Discoveries in South Arabia, 1958, by John Hopkins Press.
للوقوف على وصف هذا المعبد.(15/46)
وهذه صورة أخرى لمعبد "اوم" "اوام", في أثناء قيام بعثة "وندل فيلبس" بالحفر فيه.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
ونرى في هذه الصورة أعمال الحفر لبعثة "وندل فيلبس" وهي تجري في معبد "عثتر" بمدينة "تمنع" عاصمة قتبان. ويعود عهده إلى القرن الأول قبل الميلاد.(15/47)
وتوجد في خرائب "مأرب" آثار معبد آخر خصص لعبادة "المقه" كذلك, هو معبد "برن" "بران". ويعرف موضعه بـ"العمايد" عند أهل مأرب الحاليين. وذلك لوجود أعمدة من أعمدته القديمة ظاهرة على سطح الأرض. ولم يقم العلماء بالتنقيب عن هذا المعبد المهم1.
وقد بقيت في العربية الجنوبية بقية من أصول الهندسة المعمارية الجاهلية, تظهر معالمها في المباني الضخمة التي تكوّن بيوت الحكام والأسر الغنية, والتي تضم في الغالب أحجارًا قديمة مكتوبة وغير مكتوبة, وتراثًا قديمًا موروثًا ورثه المعمارون من عرب ما قبل الإسلام. وترى في الصورة نموذجًا من الريازة القديمة المتمثلة في مسجد "الأشرفية" بمدينة تعز, وهي ريازة أخذت من الفن الجاهلي. وترى الضريح, وقد أقيم
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
ضريح أحد الأئمة في مسجد الأشرفية بمدينة تعز
من كتاب: "Gûnther Pawelke Jemen" "ص64".
__________
1 Archaeological Discoveries in South Arabia, pp. 238, A. Jamme, Inscriptions de Al Amyid a Mareb, in Le Museon, LXVIII, 1955, pp. 317, Jamme 534.(15/48)
على طراز عربي قديم, لا يشبه الأضرحة التي توجد في البلدان العربية الأخرى, لاستمداده هندسته من هندسة الأضرحة القديمة في العربية الجنوبية.
ونرى في هذه الصورة المأخوذة لجامع "الجندية" فنًّا, يختلف عن فن بناء المساجد في العراق أو في بلاد الشأم, فلعقود هذا الجامع ولأعمدته وأسطواناته صلة بالأبنية العربية الجنوبية القديمة. وأنت إذا دققت في هذه الصورة ترى طراز بناء القسم الأيمن منها يختلف عن طراز بناء الجزء الأيسر منها, ومع ذلك فإن للطرازين صلة بالفن العربي الجنوبي. وترى سطح السقف, وقد زين بأفاريز لها صلة بالأفاريز التي كان يعملها العرب الجنوبيون على مثل هذه المواضع من أسوار مدنهم, وأبنيتهم الضخمة من دور وقصور.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.
جامع الجندية
من كتاب: "Jamen, das Verbotene land" لمؤلفه "Gûnther Pawelke" "ص96".
ونرى في الصورة التالية التي هي صورة مسجد بمدينة "تعز", فنًّا, له جذور وأصول قديمة, استمد روحه من الفن العربي الجنوبي الذي يعود إلى(15/49)
أيام ما قبل الإسلام. وهو فن له استقلال في الشخصية, ومزايا تميزه عن الفن في المواضع الأخرى من جزيرة العرب. ونرى بعض قباب مساجد اليمن لها شخصية مستقلة, ترشدنا إلى أنها من أصل ذلك الفن اليماني العريق في القدم.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
مسجد في تعز
من كتاب: "Jamen, das Verbotene land" لمؤلفه "Gûnther Pawelke" "ص48"
وعندي أن من الواجب في هذا اليوم دراسة الفن المعماري القائم حاليًا في العربية الجنوبية, المتجلي في الأبنية القائمة الباقية التي لها طابع عربي جنوبي خاص, من قصور ودور ومساجد وأضرحة, ودراسة فن الزخرفة المتمثلة في النقش على الحجر, من زخرف قديم وزخرفة حديثة, ودراسة الأعمال الفنية السائدة اليوم, مثل: النجارة والحفر والنقش والرسم وما شاكل ذلك؛ لأن مثل هذه الدراسة تساعدنا كثيرًا في الوقوف على الفن العربي الجنوبي.
وقد أبدع أهل العربية الجنوبية في فن الزخرفة, و"الزُخرف" في تفسير علماء العربية: الذهب في الأصل, ثم سميت كل زينة زخرفًا, ثم شبه كل مموه مزوّر به. وفي حديث يوم الفتح أنه لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحّي وأمر بالأصنام فكسرت. الزخرف هنا نقوش وتصاوير1. ومن النقوش التي عثر
__________
1 تاج العروس "6/ 126", "زخرف".(15/50)
عليها في العربية الجنوبية نقوش حيوانات وأشجار وصور بشر حفرت على الأحجار أو المعادن أو الأخشاب, وعلى ألواح من الجبس, استعملت في أغراض مختلفة للزينة. ومنها أحجار منقوشة, نقشت عليها عناقيد عنب وأغصان وأوراق, وما شاكل ذلك. وجد علماء الآثار أن بعضًا منها يعود عهده إلى القرون الأولى من الميلاد1.
وإذا كانت المعابد شاهدًا على الفن وعلى التفكير الديني لقوم من الأقوام, فإن المقابر هي شاهد كذلك على وجهة نظر القوم إلى العالم الآخر, عالم ما بعد الحياة. فما في القبر من أدوات وأشربة وطعام وآنية, أو من بساطة وسذاجة, تشير إلى تفكير القوم في شكل الحياة الآخرة وفي كيفيتها وفي درجة تعلقهم وتمسكهم بالآلهة وبالدين.
وخير مثال على ذلك, أهرامُ مصر وآثارها, فإنها آثار قبورية, تمثل مبلغ تغلغل الدين في نفوس الحاكمين وفي الشعب, ووجهة نظرهم إلى عالم ما بعد الحياة. لقد أنفق الحاكمون على قبورهم أكثر مما أنفقوه على قصورهم في الدنيا. إن بهم –بعد الموت– حاجة إلى كل ما يحتاج إليه الإنسان في الحياة. ولهذا ادخروه في هذه المقابر, ليستفيد منها الميت بعد انتقاله إلى العالم الآخر ورجوع الحياة إليه. أما العربي, فلم يهتم بقبره اهتمام المصري به, فلم يترك "المكربون" ولا الملوك ولا الأمراء ما تركه الفراعنة والكهان والأمراء في قبورهم, لا كله ولا بعضه. إنه لم يكن يحفل بالحياة الآخرة احتفال أهل مصر بها, لذلك نجد قبره ساذجًا, ثم هو لم يدخل فيه طعامًا ولا شرابًا ولا أثاثًا, ولم يدخل فيه كذلك خدمًا وحشمًا من بقايا الحاشية المسكينة التي أدخلت إلى القبر قسرًا لتخدم سيدها في العالم الآخر, كما خدمته في العالم الأول.
وقد يقال: إن لفقر بلاد العرب دخلًا في ذلك, ولكن ما بال أهل اليمن, وقد كانوا في سعة وخير, لا يفعلون في قبورهم بعض ما فعله أهل مصر. وما بال قبور ملوكهم ساذجة, لا تحتوي ذهبًا ولا حجارة كريمة ولا تصاوير وتماثيل وتوابيت وجثثًا للضحايا التي تدفن مع الميت؟ إن ذلك, إن دلّ على شيء, فإنما يدل على اختلاف في وجهة نظر القوم عن وجهة نظر المصريين مثلًا
__________
1 "Beitr?ge, S. 18.".(15/51)
عن الحياة الآخرة. ونحن لا نتكهن في الزمن الحاضر عن وجهة نظرهم في ذلك الزمن, لعدم وجود كتابات جاهلية أو آثار تتحدث عن تلك الحياة.
وإذا قلنا: إن تلك القبور كانت ساذجة خالية من الكنوز التي يجدها الناس في أهرامات مصر, فإن ذلك لا يعني أن قبور الجاهليين, كانت كلها خالية من النفائس تمامًا. فقد عثر في بعض منها على أساور من ذهب وخواتم وتماثيل وجرار بل وعلى سيوف وخناجر وسكاكين, وضعت مع الميت في قبره, كما يروي أهل الأخبار أن بعض الجاهليين كانوا يتعقبون المقابر القديمة, فينبشونها لاستخراج ما فيها من أشياء نفيسة, حتى ذكروا أن ثراء "عبد الله بن جدعان" إنما كان من المقابر القديمة التي كانت بمكة1, ورووا قصصًا عن قبور زعم أن الناس عثروا فيها على كنوز, وقد سبب هذا القصص إقدام الناس على نبش المقابر الجاهلية لاستخراج ما قد يكون في جوفها من ذهب وكنوز, مما أفسدها وأزال معالمها وأضاع علينا تراث الجاهليين.
وقد ذكر "أبو علي لغدة" الأصفهاني, أن "بجلدان هضبة سوداء, يقال لها: بتعة, ومنها نُقُبٌ, كل نقب قدر ساعة, كانت تلتقط فيه السيوف العادية, والخرز, يزعمون أن فيه قبورًا لعاد, وكانوا يعظمون ذلك الجبل"2.
وقد عثر على بعض المقابر الجاهلية في العربية الجنوبية, ظهر منها أن القبور ساذجة لا تكلف فيها ولا تعقيد في الغالب. ولكنها مختلفة باختلاف الأرضين والقبائل وطبيعة الأرض. فقد عثر على قبور اتضح منها أن الجاهليين في بعض أماكن من اليمن, وضعوا الميت في تابوت قائم الزوايا, مصنوع من الحجر, وقد غطي بغطاء من الحجر كذلك. ومثل هذه القبور لا تكون في العادة إلا في الأماكن التي تتوفر فيها الحجارة. أما في الأماكن الصحراوية والترابية التي لا تتوافر فيها مثل هذه الحجارة, فلم يكن من الممكن وضع الميت في مثل هذا التابوت, ولهذا كانوا يدفنونه في الأرض في لحد, ثم يهال على الميت التراب. وقد عثر على جملة قبور تكوّن مجموعة واحدة يحيط بها حائط معقود بالحجارة يتراوح ارتفاعه من متر إلى خمسة أمتار. وهي مدافن أسرة واحدة في الغالب. وقد أشير إلى
__________
1 الروض الأنف "2/ 92 وما بعدها".
2 بلاد العرب "13, 30".(15/52)
أمثال هذه المقابر في الكتابات. كما عثر على قبور هي غرف نحتت في الصخور, وقد كُتب على باب الغرفة, أي: القبر, اسم صاحب القبر أو أسماء المدفونين في الغرفة1. وقد وصف "هريس" بعض هذه القبور2.
وعثر على بقايا مقبرة خارج سور مأرب من ناحية الشمال والغرب, تبين من فحصها ودراستها أن بعض الموتى قد دفنوا وقوفًَا, وبعضهم قد دفنوا على الطريقة المألوفة, أي: اضطجاعًا على الأرض. ومن هذه المقبرة العامة الجاهلية حصر "كلاسر" على عدد كبير من شواهد القبور, التي وضعت فوق قبور أصحابها لتدل عليهم, ولتشير إلى صورة صاحب القبر واسمه3.
وقد عثر في معبد "اوم" "اوام", المعروف بمحرم "بلقيس", على مقابر, لها أبواب تؤدي إليها. ذات غرف, اتخذت مواضع لوضع الجثث بها. وجد أن بعضها كانت مقابر للمكربين وللملوك, فقد عثر على اسم "سمه علي ينف" "سمهعلي ينف" "سمه علي ينوف", مكتوبًا على حجر في أحد القبور, وعثر على اسم آخر هو: "يثع امر بين بن يكرب ملك وتر" وهما من الملوك الذين اعتنوا بهذا المعبد, فأضافوا إليه إضافات, ولعلّ الحفريات المقبلة ستكشف عن أسماء ملوك آخرين قبروا في هذا المعبد الكبير, الذي كان المعبد الرئيسي لشعب سبأ في عاصمته مدينة مأرب "هجرن مربن", "هجرن مرب".
وقد عثر في هذه المقابر على مباخر, يظهر أنها استخدمت لتبخير القبر عند دفن الموتى, وفقًا لطقوسهم الدينية, كما عثر على قطع من الأحجار الكريمة وبعض المصوغات المعمولة من الذهب, ونظرًا لوجودها مبعثرة, يظن أن الأيدي قد عبثت بها, فنهبت ما كان أهل الموتى قد دفنوه مع الميت من أشياء ثمينة4.
ووصف "فون ريده" نوعًا من الأضرحة وجده في "صهوة" بحضرموت. وقد وصفه بأنه بناء على هيئة مكعب, طول كل ضلع منه زهاء 25 قدماً, وبارتفاع مماثل. وقد شيد من حجارة مربعة كبيرة, ويبلغ سمك حائطه قدمين.
__________
1 "Handb.der altar. alter., I, S. 162.".
2 "W. B. Harris, A Journey through The Yemen, London, 1893, p. 273.".
3 "Wissmann – H?fner, S. 28.".
4 "Archaeological Discoveries in South Arabia, p. 235.".(15/53)
وهو مقسم في الداخل إلى قسمين. يكون القسم الواحد غرفة يفصل بينهما حائط يبلغ ارتفاعه ستة أقدام من مدخل البناء. ويتكون السقف من حجارة عرضها قدمان. ونجد جوانبه ثلاثة أهرام للزخرفة. وعلى البناء كتابة قبورية تشير إلى القبر1.
ولتخليد ذكرى صاحب القبر, ولوقوف الناس عليه, استخدم العرب الجنوبيون كغيرهم شواخص قبور, هي عبارة عن أعمدة من الحجر رباعية أو غير رباعية يكتب في أعلاها اسم المتوفى. وقد يصور تحت الكتابة صورة تمثل الميت, أو ترمز إلى شيء ديني. وقد عثر "كلاسر" على عدد من هذه الشواهد القبورية في مأرب2.
وقد تكون الشواخص على هيئة صخور مستطيلة, يكتب عليها اسم صاحب القبر. وقد تزخرف هذه الصخور. وتنتهي الكتابة بلفظة "صلم" في بعض الأحيان, بمعنى صنم, أي: صورة, ويراد بها صورة المتوفى, أو الرمز الدال على شيء مقدس. وقد تدوّن الكتابة في القسم الأسفل من الشاهد, وتحفر الصورة في القسم الأعلى منه. وعثركلاسر أيضًا على نوع آخر ساذج من الشواهد, هو عبارة عن نصب يشتمل على الكتابة وتحتها عينان فقط3. وتثبت هذه الشواهد في الأرض. وقد وجد لبعضها حافة رقيقة كحد السكين, وذلك لتسهيل تثبيتها في الأرض, ومقاومتها لعبث الهواء والآفات الأخرى فيها4.
ويقال للقبر "مثبر" و"هقبر" "القبر" في اللحيانية5. وقد عثر المنقبون على أحجار قبور, كتبت عليها أسماء الموتى, وصورت عليها صور تشير إلى الميت, وحفرت عليها بعض الرموز والإشارات المستعملة في طقوسهم الدينية.
وقد وجدت في المقبرة الملكية لملوك أوسان تماثيل لبعض ملوك هذه الأسرة الصغيرة التي حكمت مملكة أوسان, وقد كتبت على قاعدة التماثيل أسماء الملوك, ويتبين من وجودها في هذه المقبرة, أن آل الميت دفنوا مع الملك المتوفى تمثالًا
__________
1 "A. von wrede, Reise in Hadhramaut, S. 245.".
2 "Handb-der altar. alter., I, S. 163.Wissmann –H?fner, S. 28.".
3 "D. H. Müller, Südarrabische Altertuner, S. 50.".
4 "Handb-der altar. alter., I, S. 164.".
5 النص رقم 45 و46 و47 من كتاب: "W. Caskel, S. 99, 133.".(15/54)
له, ربما ليدل على قبره. وكتب لذلك عليه اسمه ليعرف, ولم يعثر على مواد أخرى ثمينة, ويظهر أنها كانت موجودة غير أن السرّاق سرقوها, فلم يبق فيها غير ما فات عنهم, فلم يصلوا إليه. وقد موّنت المقابر الأخرى التي سلمت علماء الآثار والباحثين بألواح من الحجر, نحتت عليها صور المتوفين, فوضعت شواخص على القبور, ليعرف بالشاخص صاحب القبر, كما عثر على مثل هذه الشواخص في باطن القبر, مما يدل على أنها دفنت مع الميت في القبر.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.
شواخص قبور حاول صانعوها إبراز معالم أصحابها وقد أبدعوا في بعضها وخابوا في البعض الآخر.
من كتاب: "Qataban and Sheba" "ص224"
ونرى في الصورة التالية تماثيل صغيرة استخرجت من مقبرة قديمة, ويلاحظ أن الأنف دقيق, وقد حفرت العيون حفرًا, وجعلت واسعة نوعًا ما في بعض التماثيل. وقد نقرت بعض هذه القبور نقرًا في الصخور, وهي صغيرة لا تتسع إلا لميت واحد, ولكن المنقبين وجدوا مقابر جماعية, تضم أفراد العائلة الواحدة.(15/55)
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
تماثيل عثر عليها في مقبرة قديمة
من كتاب "Qataban and Sheba" "ص117".
وعثر في المقابر التي ضمت جدث نساء على أقراط وحلي نسائية, وعلى أشياء أخرى تستعملها المرأة. وقد أمكن بواسطتها من تشخيص صاحبة القبر, ومن الوقوف على مكانة أسرتها ومنزلتها. وتوجد بعض الحلي في المتاحف, وهي
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
قلادة من الذهب الخالص تعود إلى القتبانيين, عثر عليها في مقبرة قديمة عند "تمنع" من كتاب: "Qataban and Sheba" "ص116".(15/56)
جميلة تدل على مهارة "الصائغ" العربي الجنوبي. وفي جملة ما عثر عليه قلادة, عمل القسم الرئيسي منها على شكل هلال, بداخله زخارف, كما ترى في الصورة السابقة التي عثر على أصلها في مقبرة قديمة من مقابر "تمنع" عاصمة قتبان.
ووجدت مصوغات أخرى من ذهب, لا يزال الصاغة يصوغون من أمثالها في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. منها ما يعلق على الرأس, ومنها ما يعلق على الرقبة, ومنها ما يوضع على الزند أو المرفق أو الأرجل, ويلاحظ أن لفن الصاغة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية طابع خاص يميزه عن فن الصاغة في البلاد الأخرى. وقد وضع الصاغة شعارات دينية على بعض المصوغات تيمنًا وتبركًّا بها. ولهذا فمن المستحسن مقارنة المصوغات الحالية مع المصوغات الجاهلية التي عثر وسيعثر عليها, للتوصل بهذه المقارنة إلى معرفة تأريخ هذه الحرفة عند العرب.
وقد وجدت مجامر قديمة في مواضع متعددة من اليمن. وقد استعمل بعضها في المعابد, واستعمل بعض آخر في البيوت حيث يحرق فيها البخور أو بعض الأخشاب ذوات الروائح الطيبة العطرة لتطييب القادم. ولا تزال هذه العادة المعروفة قبل الإسلام مستعملة في اليمن, وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب, كما في "بيشة" مثلًا, وذلك على سبيل التقدير والتكريم والاحترام1.
__________
1 في بلاد عسير: "ص62".(15/57)
الفصل الثامن عشر بعد المئة: الخزف والزجاج والبلور
الخزف
...
الفصل الثامن عشر بعد المائة: الخزف والزجاج والبلور
الخزف:
ما عمل من الطين وشوي بالنار فصار فخاراً, وبائعه الخزاف1. والفخّار: الخزف. وذكر أنه ضرب من الخزف تعمل منه الجرار والكيزان وغيرها. وورد في القرآن الكريم: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} 2.
والفِخارة من الحرف المعروفة عند الجاهليين. ومادة الفخار الطين يسوّى على الشكل المطلوب. فإذا جف, فخّر بالنار. وأواني الشرب, أي: الجرار هي من أكثر الفخار استعمالًا حيث يوضع فيها الماء, والكيزان3. واستعمل الفخار لخزن المواد الغذائية أيضًا, ولحفظ الأشياء الثمينة مثل: الذهب والنقود والحلي, ولأغراض أخرى عديدة, ويكون في كل الأماكن الأثرية مادة مفيدة للآثاريين.
وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى أن "الكوز" لفظة معربة, عربت عن الفارسية, وذهب آخرون إلى أنها عربية أصيلة4, وصانعها هو "الكوّاز". وعرف الخزف بأنه كل ما عمل من طين وشوي بالنار حتى صار فخارًا. أما أما صاحبه، فهو الخزّاف5.
__________
1 اللسان "9/ 67".
2 الرحمن, الآية 14, اللسان "5/49 وما بعدها.
3 شرح القاموس "3/ 466".
4 شرح القاموس "4/ 76".
5 شرح القاموس "6/84".(15/58)
وقد عثر على جرار على هيئة "الثومة", أي: ذات عنق طويل, وأما أسفلها فواسع, في مواضع متعددة من جزيرة العرب وفي بلاد الشأم. وتعرف بـ"بقبق" و"بقبقة". وهي "بقبق" "بقبوق" في العهد القديم1.
وللتربة أهمية كبيرة في صنع الخزف, ولهذا اشتهرت بعض المواضع ذات التربة الجيدة بجودة فخارها, فكانت تصدره إلى أماكن أخرى. كما أن للعناية التي يبذلها الفخار في عجن الطين وفي تنقيته من الشوائب أهمية كبيرة في صناعة الفخارة.
ولم يشر أهل الأخبار إلى الآلات التي يستعين بها الخزاف والكواز الجاهلي في صناعته. ولكن سكوتهم هذا لا يكون دليلًا بالطبع على عدم استعانة الفخار والكواز بالآلات, فليس من المعقول صنع أنواع الفخار بغير آلة. فإن عملها باليد وبغير آلة أمر يكاد يكون صعبًا. وكل الخزف الذي عثر عليه يدل على أنه صنع بآلة؛ لأنه على شكل منتظم. والآلة التي يستخدمها الخزاف في صناعته, هي دولاب يدير قرصًا من الخشب, يوضع عليه الطين ثم يحرك, فيدور القرص ويدور الطين الذي عليه معه, ويعالجه الخزاف بيده ليعطيه الشكل الذي يريده. ولصنع خزف جيد لا بد من العناية بالطين, فيختار ترابه من تربة جيدة خالية من الأملاح والرمال, ثم يعجن بعناية, ويترك مدة ليختمر جيدًّا. وإلا كان الخزف رديئًا. وقد يدهن الخزف بعد جفافه بدهن ملون أو ينقش بنقوش, ثم يفخر بالنار.
واستخدم "الأتون", لتحويل المواد التي صنعها الخزاف من الطين إلى خزف. والأتون هو "كورة" في أسفله موقد توقد فيه النيران, فيرتفع لهيبها وتصعد حرارتها من خلال فتحات تكون في قاع الأتون الذي هو سقف الموقد إلى أعلى مارة بين مصنوعات الطين الموضوعة في باطن الأتون لتشويها فتتحول بذلك إلى خزف وفخار. وتكون الأتونات مرتفعة لها فتحة في أعلاها وفتحة في الجانب تغلق أثناء العمل, وتفتح بعد نضوج الخزف والفخار. ولا يزال الخزافون والفخارون يصنعون بضاعتهم بهذه الأتونات على النحو المذكور. ويذكر علماء
__________
1 أرميا, 19, 110, "Ency. Bibl. Vol. I, p.600.".(15/59)
العربية أن الأتون لفظة معربة. وأنها تطلق على أخدود الجبار والجصاص وأتون الحمّام1.
وقد كان الجاهليون يدهنون الجرار أحيانًا, لسدّ مساماتها لمنع السوائل من السيلان منها, فكانوا يضعون النبيذ فيها مثلًا والسمن وأمثالهما. وصانعها هو الجرّار2. وقد كان أهل يثرب يحملون الخمر في جرار حمر, يطلقون عليها اسم "الحنتمة", وذكر أن "الحنتم" الخزف الأخضر أو كل خزف3. وورد: الحنتم جرار مدهونة خضر كانت تحمل إلى المدينة فيها الخمر ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم. وقد نهي عن الدباء والحنتم. وإنما نهي عن الانتباذ فيها؛ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها. وقد أشير إليها في شعر للنعمان بن عدي:
من مبلغ الحسناء أن حليلها
بميسان يسقى من رخام وحنتم4
وطالما استعملت الجرار لخزن الأشياء النفيسة فيها مثل: الذهب والنقود والحلي وما شاكل ذلك, إذ توضع هذه الأشياء في داخل جرة ثم تسد وتدفن حتى لا يقف عليها اللصوص والطامعون في المال. وقد عثر الجاهليون والمسلمون على كنوز كانت مخبأة في جرار طمرت تحت التراب.
والقلال من صنع الخزف. وعرفت القلة بأنها الحب العظيم, وقيل: الجرة العظيمة, أو الجرة عامة. وقيل: الكوز الصغير. وذكر أنها إناء للعرب كالجرة الكبيرة, إلى غير ذلك من آراء, يظهر من غربلتها أن القُلة جرة كبيرة, بدليل ما ورد عنها في الحديث من إشارات تفيد كلها أن القُلة كبيرة. وقد اشتهرت "هجر" بقلالها, فقيل: "قلال هجر". وهجر قرية قريبة من المدينة, وليست هجر البحرين. وكانت تعمل بها القلال. واشتهرت الأحساء بقلالها أيضًا5.
وعرف "الحُب" بالجرة الضخمة وبالحابية, وبأنه الذي يجعل فيه الماء. وذكروا
__________
1 اللسان "7/ 13".
2 تاج العروس "3/ 92".
3 المغرب "ص142", "الحنتم: الجرار الخضر, كانوا يحملون فيها الخمر", جامع الأصول "5/ 500".
4 تاج العروس "8/ 264 وما بعدها".
5 اللسان "565/ 11".(15/60)
أنه فارسي معرب1. وعرفوا "الحابية" بالحُب, سمي بالحابية؛ لأنه يستر الشيء ويخفيه2.
وقد عثر المنقبون على قلل وجرار وكئوس من خزف, وجدت على بعضها كتابات, عثر على كثير منها في المقابر, مما يدل على أنها دفنت مع الموتى في القبر. وقد يستنتج من ذلك أن أصحاب الموتى كانوا يتصورون أن موتاهم سيحتاجون إليها في حياتهم الثانية لشرب الماء بها, ولذلك دفنوها معهم, وقد يدل دفنها معهم, على أنهم أرادوا بذلك وضع ما كان يستعمله الميت في حياته لإظهار تقديرهم للميت, وأنهم يتنازلون عنها إليهم, ولذلك دفنوا معه حليِّه وسلاحه وما كان عزيزًا عنده, فقد عثر في المقابر على رءوس حراب, وعلى سيوف وخناجر, وسكاكين, ولا يعقل دفن هذه الأشياء مع الميت وفي قبره عبثًا, بل لا بد وأن يكون لهم رأي فيه.
وقد استعملوا القدور المصنوعة من الحجر, كقدور "البُرَم" المصنوعة من حجر صلد قوي يستخرج من موضع يسمى "المعدي" لا يبعد كثيرًا عن الطائف3.
والأعراب أقل من أهل المدر استعمالًا للفخار, وذلك بسبب وضعه وطبيعة حياته. فالفخار ثقيل وهو سهل الكسر, ويجب بذل عناية في حفظه, وحياة الأعرابي حياة تنقل, ولا توجد لدية أوعية لحفظ الفخار من الكسر, ولهذا استخدم الأدوات المصنوعة من الجلود والمعدن والخشب بدلًا من الفخار.
ومن أواني الشرب "الراقود", وهو دنّ, يسيع باطنه بالقار. وذكر "الجواليقي" أن اللفظة من الألفاظ الفارسية المعربة4. و "القافزة", وهي "القاقوزة" و"القازوزة". وهي مشربة أو قدح, أو الصغير من القوارير والطاس5.
__________
1 اللسان "1/ 295".
2 اللسان "1/ 62".
3 ابن المجاور "25/ 1".
4 المعرب "ص160", تاج العروس "2/ 356".
5 المعرب "ص273".(15/61)
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
أدوات مصنوعة باليد, تمثل كفاءة وقدرة العامل اليماني ودقته في الصنعة من كتاب اليمن "Yemen" لمؤلفه: "Günther Pawelke" "ص161".
ولا بد أن يكون بين الجاهليين أناس تخصصوا بصنع الزجاج وعمله, فقد عثر على أواني معمولة من الزجاج وعلى قطع زجاج. وقد ذكر علماء اللغة أسماء أدوات من الزجاج, مثل "الباطية", وهو إناء واسع الأعلى ضيق الأسفل1.
وذكر بعض العلماء أن الباطية شيء من الزجاج العظيم, يملأ من الشراب ويوضع
__________
1 المعرب "ص83".(15/62)
بين الشَّرب يغرفون منها1 وهو "الناجود" على رأي بعض علماء اللغة2. وتصنع الأقداح والقوارير والقناديل والأسرجة من الزجاج أيضًا, والمصباح, هو السراج يصنع من الزجاج كذلك, وفيه موضع لوضع الفتيلة عليه, لتأخذ وقودها الذي يساعد على إدامة اشتعالها منه. وهذا الوقود هو الزيت3.
وقد ذكر الزجاج في القرآن الكريم: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} 4. وذكر علماء اللغة أن الزجاج: القوارير, وأن الزجاجة القنديل5. وأن القوارير: أواني من زجاج في بياض الفضة لصفائها6.
والمصباح: السراج, وهو قرطه الذي تراه في القنديل وغيره7. وعرف السراج, بأنه المصباح الزاهر الذي يسرج بالليل, والمسرجة التي فيها الفتيل8.
و"القنديل", لفظة معربة, عربت عن اللاتينية من لفظة "Candela". وتعني مصباح وسراج ونبراس. وتقابل لفظة "نبراس" لفظة "نبرشتا" "Nebrastha" في لغة بني إرم. ولفظة "منوراه" "منوره" "Manorah" في العبرانية9.
القنديل, لفظة أعجمية تخصصت بالمصابيح المحمولة. وقد يعلق القنديل وقد يتصل برجل تحمله. وتقابله لفظة "نبرشتا" في لغة بني إرم. أي: "النبراس" في عربيتنا. و "منوره" "مينوره" في العبرانية. وقد أشير إلى القناديل في التوراة. وتستعمل في المعابد وفي بيوت الأغنياء. وقد تصنع من الذهب والفضة والبرنز, على أشكال متنوعة10.
__________
1 المغرب "ص41".
2 شرح القاموس "37/ 10", "2/ 511".
3 شرح القاموس "2/ 52, 175".
4 النور الآية 35.
5 اللسان "2/ 187".
6 اللسان "5/ 87".
7 اللسان "2/ 506".
8 اللسان "2/ 297".
9 "Ency. Bibl. Vol. I, p. 644.".
10 شرح القاموس "8/ 88", "Ency. Bibl. Vol. I, p. 644., ff. Hastings, Vol. I., p. 348.".(15/63)
ومن مصنوعات الزجاج "المرآة". وهي "مرات" في العبرانية أيضًا. وقد صنعت من المعادن المصقولة كذلك. مثل: النحاس. ووردت في التوراة لفظة "هجلونيم" فسرت بمعنى "مرآة اليد"1, وتعني "المجلاة" في عربيتنا. والكأس, هو إناء الشرب, يشرب به. ويصنع من مواد مختلفة فقد يكون من الزجاج وقد يكون من معدن مثل: الذهب أو الفضة أو الحديد وقد يكون من فخار. ويقال له: "كوس" عند العبرانيين2. وقد ينقش ويحلى بزخارف وباللؤلؤ والحجارة الكريمة. وقد ذكر "الكأس" في القرآن الكريم.
والراووق, المصفاة, وقيل: الباطية والناجود. وذكر بعض علماء اللغة أن الراووق الكأس. وقد وردت اللفظة في شعر لعدي بن زيد العبادي:
قدمته على عقار كعين الديك صفى سلافَهُ الراووقُ3
وقد عرف أهل العربية الجنوبية "البلور" لوجوده في اليمن وفي أماكن أخرى. وهم يستخرجونه من نوع خاص من الحجر ويصقلونه بعناية, والغالب عليه اللون الأبيض غير أن بعضه ذو ألوان أخرى, هو لون الحجر الذي أخذ منه.
ولا يزال أهل اليمن يمارسون صقل الحجارة الكريمة التي يستخرجونها من بعض الجبال, مستعملين في ذلك الماء والتراب الناعم على حجارة رملية ويصنعونها بأشكال مختلفة ويستعملونها في صنع الحلي. وهي ذوات ألوان متعددة: بيِض وسُود وخُضر وزرق وصفر وحمر, ومنها ما يجمع عدة ألوان متمازجة. ويعد جبل نقم وجبل الغراس من أهم المواطن التي تستخرج منها مثل هذه الحجارة على مقربة من صنعاء4.
وقد عُني العرب الجنوبيون بشق الطرق وتمهيدها, وبعمل القناطر والجسور وقد بلطوا بعض الطرق بالحجارة وبمادة تشبه "السمنت", وترى اليوم بقايا قناطر عملوها في الأودية للعبور عليها, وقد دمر الكثير منها بسبب الحروب
__________
1 "Hastings, Dict. Vol. II, p. 181.".
2 "Hastings, Dicti of the Bible. Vol. I, p. 533..
3 شرح القاموس "6/ 393".
4 العظم "الصفحة 136".(15/64)
والإهمال. ونرى في الصورة بقايا قناطر جاهلية وقد تطرق إليها الخراب من كبر العمر. وقد عملت على واد يفصل بين الجبال.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر
منظر طريق جبلي قديم
من كتاب: "jemen" "ص 136".(15/65)
الفصل التاسع عشر بعد المئة: الفنون الجميلة
مدخل
...
الفصل التاسع عشر بعد المائة: الفنون الجميلة
وبين الآثار التي عثر عليها الرحالون, أو نقلت إلى بعض متاحف الغرب, عدد من التماثيل والصور المنحوتة على الحجارة, وهي قليلة في الوقت الحاضر لا تعطينا فكرة واضحة عن الفن العربي الجنوبي, وبعضها يمثل فنًّا عربيًّا جنوبيًّا أصيلًا, فلا يشبه المنحوتات اليونانية أو الرومانية, أو المصرية, أو الإيرانية, أو غيرها, وبعض آخر له شبه بفن بعض هذه الشعوب, مما حمل المستشرقين على أن يذهبوا إلى أن هذا التشابه هو نتيجة تقليد ومحاكاة لذلك الفن1.
ونلاحظ على هذا التمثال الذي عثر عليه في مقبرة قديمة عند "تمنع" عاصمة "قتبان", ويعود عهده إلى القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد, وأن المثَّال حاول جهد إمكانه إعطاء تمثاله الذي صنعه طابعًا عربيًّا جنوبيًّا, لكنه لم يتمكن من ذلك. وقد دوّن في أسفله اسم صاحبه, وهو "جبا ام هنعمت", "جبأ أوام هنعمت".
ومن الصعب إصدار حكم عام على الفن العربي الجنوبي استنادًا إلى هذه التماثيل والصور المنحوتة أو البارزة؛ لأنها قليلة غير مغنية وغير كافية لإصدار حكم
__________
1 "Handbuch, I. S. 165.".(15/66)
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.
تمثال رجل اسمه "جبأ أوم هنعمت" عثر عليه في مقبرة قديمة عند "تمنع" يعود تاريخه إلى القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد.
من كتاب "Qataban and Sheba" "ص 124".
في هذا الموضوع ثم هي من صنع أيد متعددة, فيها أيدٍ قوية ذات موهبة, وفيها أيدٍ ضعيفة إنتاجها بدائي يشبه فن البدائيين, لا تناسق فيه ولا تناسب بين الأجزاء. وقد نشأ ذلك بالطبع عن تفاوت مواهب المشتغلين بهذه الصناعات وعن وجود أناس اتخذوا احفر في المرمر حرفة يتكسبون بها, وقد يكون لأنهم ورثوا تلك الحرفة, فاشتغلوا بها, مع عدم وجود قابليات فنية لديهم.
وقد عبر عن النحات, أي: المثّال الذي يصنع التماثيل بلفظة "هصنع", أي: الصانع في اللغة اللحيانية. ويعبر عن صنع التمثال بلفظة "نحت"1, أي: حسب تعبيرنا عن نحت التماثيل في الوقت الحاضر. وتطلق لفظة "هصنع" على الرسام
__________
1 راجع نص 83 في كتاب: "W. Caskel, S. 118.".(15/67)
وكذلك وعلى المعمار1.
ويلاحظ أن الفن العربي الجنوبي مثل أكثر الفنون الشرقية الأخرى, لا تجاري الفن اليوناني في هيئة الجسم في موضوع إبراز جماله2. فإذا ما نظرت إلى تمثال أو صورة بارزة أو حفر عربي جنوبي, ترى فرقًا واضحًا بين عمل الفنان في هذه الصور وعمل الفنان الهلليني اليوناني المعاصر له. ففي عمل هذا الأخير نرى عملًا فنيًّا جميلًا راقيًا, يبرز جمال الفن وروحية "الفنان", وهو عمل يقرب القطعة المعمولة إلى قلبك, ويجعلها تؤثر فيك تأثيرًا عميقًا, على حين لا نرى مثل هذا الإبداع في الفنون الشرقية في الغالب.
وفي الفن اليوناني تناسق وتناسب بين الأجزاء. راعى الفنان فيه النسب الطبيعية للجسم فمثلها في تماثيله, وأظهرها بمظهر يشعرك بقوة فنه وبتمكنه من التعبير عن أحاسيسه. أما الفن الجاهلي, عمومًا عربي جنوبي أو من موضع آخر, فإنه لم يتمكن من تحقيق هذا التناسق ولا النسب ولا الاتساق والتوازن بين الأعضاء. ولم يتمكن الفنان مع كل ما بذله من جهد من إظهار الجمال الفني على القطع التي صنعها, ولا من إعطائها حياة ودمًا وروحًا أخاذة تجعلك تشعر أنك أمام فنان عبر عن إدراكه الفني وعن الحس الذي يشعر به أحسن تعبير بأية طريقة أو مدرسة من مدارس الفن. وبأية وسيلة من وسائل التعبير عن الذوق الفني الذي تملك الفنان فجعله يعبر عنه بطريقته التعبيرية الخاصة بهذا الإنتاج المجسم لروحه والذي نسميه الفن.
ولا تملك المتاحف في الوقت الحاضر تماثيل جاهلية بالحجم الطبيعي للإنسان. ويظهر أن اعتبار كثير من الناس للتماثيل أصنامًا قد أدى بهم إلى إتلافها والقضاء عليها. وهناك أمثلة عديدة تؤيد هذا الرأي ذكرها القدامى والمحدثون. بل إن هذه النظرة لا تزال عند البعض. ثم إن الناس لم يكونوا يدركون قيمة الأثر في حفظ تأريخ أمتهم, ولهذا فلم يكونوا يهتمون بالتماثيل ولا بالأحجار المكتوبة ولا بكل أثر من الآثار. وتوجد اليوم قطع تماثيل يظهر أنها من تماثيل حطمها الإنسان بيده وهشمها بنفسه, إما للقضاء على معالم الوثنية المتجسمة في نظره في هذا
__________
1 راجع النص رقم 32 في كتاب: "W. Caskel, S. 93.".
2 "Handb.der altar. alter., I, S. 166.".(15/68)
التمثال, وإما للاستفادة من أحجاره في أغراض البناء أو أغراض أخرى تفيده. ومن بينها رءوس تماثيل أو أقدام تماثيل, أو جسم تمثال بلا رأس ولا أرجل.
أما التماثيل الصغيرة, فقد وصل عدد منها دون أن يمسها أي سوء. وقد استخرج عدد منها من باطن الأرض, استخرجه المنقبون والمواطنون الذين أخذوا يحفرون التلول الأثرية للبحث عن أثر يبيعونه لتجار العاديات. ونجد في دور المتاحف وعند جماع العاديات عددًا منها.
ومن بين التماثيل الكاملة التي تستحق الدراسة والانتباه ثلاثة تماثيل لملوك من مملكة "أوسان". يبلغ ارتفاع إحداها "89" سنتمتراً. وقد نحتت من المرمر. وهي تمثل مرحلة من مراحل التطور في فن النحت عند العرب الجنوبيين. وقد حاول النحات جهد إمكانه بذل اقصى ما عنده من فن وقابلية وموهبة في إعطاء هؤلاء الملوك ما يليق بهم من جلال ووقار ومظهر, وإبراز ملامحهم وملابسهم, ولكنه فشل في نواح ووفق قدر استطاعته في نواحٍ. وقد نحت شعر الرأس وجعله متدليًا طويلًا مجعدًا. وجعل للتماثيل قواعد استقرت عليها, دوّن عليها أسماء أصحابها. وقد اختلف الباحثون الذين بحثوا في خصائص النحت البارزة على هذه التماثيل في تقدير عمرها, فذهب بعض منهم إلى أنها ترجع إلى القرن السادس أو إلى القرن الخامس قبل الميلاد, وذهب بعض منهم إلى أنها ترجع إلى القرن الأول قبل الميلاد, بينما رأى آخرون أنها من نحت القرن الأول بعد الميلاد1.
وهناك تماثيل صغيرة لرجال ونساء وأطفال, بعضها من حجر وبعضها من معدن تكشف لنا عن عادات وتقاليد المجتمع في ذلك العهد. في مثل الكشف عن الحلي التي كانوا يحلون بها جيد المرأة وعنقها, أو التي تحلى بها الأيدي أو الأرجل, كما تكشف بعضها عن ملابس المرأة والرجل والأطفال في تلك الأوقات, ولهذا فإن لهذه التماثيل أهمية كبيرة لا من الناحية الفنية فحسب, بل من الناحية التأريخية أيضًا؛ لأنها تتحدث عن العوائد الاجتماعية كذلك.
وتعبر بعض شواخص القبور عن شعور الحزن والأسى في نفس من أمر بحفر
__________
1 "A. Grohmann, S. 222.".(15/69)
تلك الشواخص أو نحتها. فقد حرص صانعها على أن تكون معبرة عن المناسبة التي عملت من أجلها على أكمل وجه. وأكملها برموز وإشارات دينية لها صلة وعلاقة بالحياة الثانية, وتزيد في فوائد هذه الشواخص بالنسبة لعمل الباحث, التماثيل التي وضعت مع الميت في قبره, لتعبر عنه. فهي تعبير آخر عن هذا الشعور المؤسف في شكل آخر من أشكال الفن.
وقد كانت العادة آنذاك, دفن تماثيل مع الموتى, أو صورًا محفورة على الصخر, فقد عثر في مصر وفي الحجاز وفي بلاد الشأم على مثل هذه التماثيل مدفونة في القبور, على مقربة من الأجداث. بعضها تماثيل رجال وبعضها تماثيل أطفال, ومن النادر تماثيل نساء, ولعل ذلك بسبب النظرة الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العهد, من إعطاء الأولوية للرجل في المجتمع ثم للأولاد الذكور.
ونرى في هذه الصورة رأس رجل عربي جنوبي, حفر النحات عيني الرجل حفرًا, وجعلها واسعة, فبدتا وكأنهما قلعتا, وأوصل اللحية بشعر الرأس, حتى أحاط الشعر بالرأس والوجه, وصار كأنه هالة. أما الفم, فصغير مفتوح, ولم يتمكن النحات من حفره حفرًا يقارب الطبيعة, ولم يتمكن كذلك من إبراز معالم الأنف. أما الجبين فأملس, وأما الوجنتان, فملساوان كذلك, وأما الحجر المنحوت, فمن الرخام.
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.
وإذا قارنت هذا التمثال والتماثيل العربية الجنوبية بالتماثيل اليونانية, أو بالتماثيل اليونانية التي عثر عليها في جزيرة "فيلكا" في الكويت, تجد فرقًا عظيمًا من النواحي الفية, فالفنان اليوناني له إدراك عظيم للقيم الفنية, له قدرة عظيمة على(15/70)
إبراز الملامح, وفي تقدير النسب بين الملامح وأعضاء الجسد, ثم هو متمكن تمامًا من كيفية إظهار الحاجبين وحفر الأنف, وإبراز العينين. ومع مرور مئات السنين على الفن اليوناني, فإنك تستطيع أن تجد فيه حتى يومنا هذا الإبداع والجمال والاتساق والانسجام. خذ هذه الصورة, التي هي تمثال من الطين المحروق, عثر عليه في جزيرة فيلكا, ويعود عهده إلى حوالى "200" سنة قبل الميلاد, ثم قارنه بصور التماثيل التي عثر عليها في العربية الجنوبية ترى فرقًا كبيرًا جدًّا بين الفنين.
تمثال من الطين المحروق من القلعة اليونانية حوالي 300 ق. م. من جزيرة فيلكا.
ولكننا نجد مع ذلك في الفن العربي الجنوبي, محاولة تستحق التقدير, تظهر في طموح الفنان العربي الجنوبي ورغبته جهد إمكانه في إظهار شخصيته ومواهبه الفنية, وهو لو وجد التقدير الذي كان يظهره اليونان للفن, لأبدع ولا شك إبداعًا كبيرًا في عمله الفني.(15/71)
وقد عبر الفنان العربي الجنوبي عن مشاعره بطريقة أخرى, هي طريقة الحفر على الحجر أو المعدن أو الخشب أو أية مادة أخرى يمكن الحفر عليها. وذلك بطريقتين: طريقة الحفر أي: نقش الصورة أو ما يراد تخليد أثره على المادة حفرًا كأن تحفر صورة إنسان أو حيوان حفرًا عليها بأن تجعل معالم الصورة محفورة حفراً عميقًا نازلًا في تلك المادة. فالحفر في هذه الحالة هو رسم محفور. وطريقة الحفر البارز, وذلك بجعل الأثر المراد تخليده بارزًا ظاهرًا فوق سطح المادة التي حفر عليها. وذلك بأن يؤشر معالم ما يراد تخليده ويرسم, ثم يحفر ما حوله من سطح المادة التي رسم عليها, فتبرز الصورة وترتفع بهذا الحفر عن سطح تلك المادة.
وعثر على عدد من تماثيل الحيوانات, نحتت من المرمر ومن أحجار أخرى, فعثر على تمثال بقرة, وعثرت بعثة "وندل فيلبس" على تماثيل ثيران في خرائب مأرب. كما عثر بعض الباحثين على تماثيل أسود أو خيل1. وقد تمكن الفنان من التعبير عن موهبته الفنية في بعض المنحوتات, وأجاد في إبراز مظاهر بعض أعضاء جسم تلك الحيوانات التي نحتها. وقد وصلت بعض هذه التماثيل وهي مهشمة, وقد فقدت بعض منها بعض أجزاء جسمها, فأضاع هذا الفقدان على الباحثين إمكانية إعطاء رأي فني علمي عن هذه المنحوتات.
ومن الصعاب التي اعترضت "الفنان" العربي الجنوبي مسألة التعبير عن الحركات, ورسم الأشياء المتجاورة, والتمييز بين البعيد والقريب, والتفريق بين المنازل الاجتماعية, كالسيدة المصون صاحبة البيت وبين خادمتها. وهي مشكلات تواجه كل فنان, ولا يتغلب عليها بالطبع إلا من له قدرة وعلم بالتصوير والنحت. ومن جملة النواقص التي نلاحظها على الصور المحفورة أن أكثر القطع المحفورة لم تتمكن من التنسيق بين وضع صاحب الصورة. فبينما نجد الوجة مثلًا وهو متجه إلى الأمام, كأن صاحبها ينظر إليك, نرى الساقين والقدمين جانبيتين, وهذا الوضع لا يتناسب بالطبع مع وضع القسم الأعلى من الجسم.
وقد نشأت عن صعوبة التعبير عن الأشياء المتجاورة, مثل رسم ثورين متجاورين يجران محراثاً, أو فرسين مربوطتين معًا في محراث, مشكلة لم يتمكنوا من التغلب عليها, فلجئوا إلى طريقة بدائية في الغالب, يتحدث وضعها عن هذا العجز،
__________
1 "A. Grohmann, S. 224.".(15/72)
هو رسم أحد الحيوانين مثلًا, وكأنه تحت الحيوان الثاني المجاور له, وذلك كما نرى في الصورة التي تمثل فلاحًا يحرث ويجر محراثه ثوران, فوضع الفنان الثور الجانبي الأيمن فوق الثور الجانبي الأيسر, ظانًّا أن ذلك قد عبر عن هذا الوضع, فبدا الثوران وكأن أحدهما قد ركب الآخر1.
وقد عثر على لوح يمثل وجه إنسان مستدير, رسم كأنه مع الجبين دائرة كاملة. وقد حفر الشعر على صورة قوس يكاد يحيط بالوجه إلا الحنك, وقد برز الشعر متموجًا, وقد فصلت بين الأمواج قواطع جعلت الشعر خصلًا. أما العينان فصغيرتان بالنسبة إلى الأنف. وبدا الفم مقفلًا وقد حلق صاحب الرأس ذقنه, وترك له شاربين طويلين يتصلان بالشعر المتدلي من الرأس. أما الأذنان فقد اختفتا تحت الشعر ولا أثر لهما في الصورة. والرقبة غليظة وقد أحاطت بها حيتان ارتفعتا إلى أعلى على هيئة قوس. ويظهر في هذه الصورة أثر الفن الساساني2.
وقد عبر النحات عن تجعد شعر الرأس بحفره بصورة تشعرك أنه يعبر عن شعر متجعد. وذلك بإحداث ثغرات تظهر الشعر وكأنه عقد, وقد جعله متدليًا إلى الكتفين, أو نازلًا على الجبين حتى الحاجبين, ولأجل أن يريك العينين وكأنهما في صورة طبيعية وضع أحجارًا ملونة أو أصباغًا في بعض الأحيان على باطن العين لتظهر التمثال وكأنه بعينين حقيقيتين تنظران إلى الأشخاص3.
وحال حفر الأزهار وعناقيد العنب ورءوس الحيوانات وبعض الكروم هي خير من حيث الإجادة من تصاوير الإنسان أو الحيوانات كاملًا. وقد عثر على قطع رسمت فيها التيوس وهي من الحيوانات الكثيرة في اليمن, وقد رسمت بصورة تتمثل فيها القوة والحيوية4.
وقد استعمل العرب الجنوبيون الكروم كثيرًا للزخرفة, ولا يستبعد ذلك منهم, فالكروم من النباتات المحبوبة الكثيرة في اليمن. وقد درّت عليهم أرباحًا طائلة, واستعملت للأكل والشرب. وهي تعطي نبيذًا طيبًا وخمرًا مشهوراً. فلا غرابة إذا
__________
1 "Handb.der altar. alter., I, S. 167.".
2 "Handb.der altar. alter., I, S. 168.".
3 "Arabien, S. 274 f.".
4 Handb. Der Atlar. Alter. I, S. 168, A. Grohmann, Gottersymbole, S. 60.(15/73)
ما استعملوه بكثرة للزينة, يحفرون صوره في إطارات الألواح أو الصور, أو يكبسون صوره في الجبس.
وعثر علي قطع فنية نفيسة, من الحجر النفيس الغالي المحفور, أي: من الأحجار الكريمة, حفرت عليها صور ذات صلة بالأساطير الدينية, مثل: القطعة النفيسة المحفوظة في المتحف البريطاني, ويظهر أنها من صنع فنان قتباني, حفر عليها أيلين أو وعلين وقد وقف كل واحد منهما على جانب, وقفا على القدمين الخلفيتين ورفعا القدمين الأماميتين إلى أعلى, وصور النحات القدم المقابل للشخص الذي يقابل القطعة أو ينظر إليها وقد عقف, أي: بوضع منحن. أما القدم المقابل للقدم المعقوف, فلم يتمكن النحات من إعطائها الوضع الصحيح. ونجد رأسي الحيوانين وقد اتجها إلى الداخل, فكأنهما يريدان الكلام مع بعضهما أو الالتقاء, ولإظهار قرني الحيوانين معقوفين, نحت النحات عليها نحوتًا على شكل "الجزر", أو الورق الرفيع. ووضع للحيوانين ذيلين قصيرين, وقد جعل آلة الذكر للحيوانين منتصبتين. وجعل تحت القدم المرتفع لكل حيوان رمزًا, له فم مفتوح متصل برقبة أو بجسم ينتهي بدائرة صغيرة, ثم بما يشبه كرة قائمة على ثلاثة أرجل. ووضع بين الحيوانين "طغراء" قراءته: "اب عم", "ابي عم", أي: "أبى" "عم" إله قتبان1.
وبين الأحجار الكريمة المحفورة التي عثر عليها في خرائب اليمن, أحجار أصلها من العراق ومصر ومن أحجار يونانية من أيام القياصرة ومن العصور الهيلينية, وقد نحتت على بعض منها حروف بالمسند المعبرة عن بعض المعاني الدينية أو عن أسماء أصحابها2. وهي تستعمل خاتمًا في الأصابع, وتختم بها الوثائق والرسائل.
وقد وضعوا "الدُّمَى" على ألواح الأبواب, إما للزينة, وإما لدفع الشر والأذى أو للتبرك والتقرب. وقد قيل: إن "الدمية" الصورة المصورة أو الصنم3. وقد عرفوا "الدُّمية" بالصورة وبالصنم وبالصورة المنقشة بالعاج, ونحوه. وعرّفوها أيضًا بالصورة المصورة؛ لأنها يتأنق في صنعتها ويبالغ في تحسينها4.
__________
1 "A. Grohmann, G?ttersymbole, 56, Abb. 141, A. Grohmann, S. 241.".
2 "A. Grohmann, S. 242.".
3 البرقوقي "ص219".
4 اللسان "14/ 271".(15/74)
وقد اتخذ العرب الجنوبيون من الحجر أثاثًا لهم, فنحتوا منه أسرة وعروشًا. وقد عثر على قطع من المرم, هي من بقايا عروش أو كراسي عملت لبعض الأغنياء. وعثر على كراسي مصنوعة من أحجار أخرى. كما عثر على صناديق صنعت من حجر, وقد زوّقت واجهاتها وزخرفت وحفرت عليها بعض الصور التي تمثل الأوراق والنباتات والأزهار والنوافذ أو واجهات البيوت1.
واتخذوا من الحجارة مذابح "Altars" وللمذابح مكانة في الطقوس الدينية ورسوم العبادة عند الجاهليين. ويقال لها: "مذبحت" و"مذبح" و"حردن". تذبح عليها حيوانات كبيرة مثل ثيران. وقد عثر على نماذج منها في مختلف المعابد2. وقد زُين بعض منها وزخرف بصور حيوانات حفرت عليها أو نحتت, كما حفرت عليها رموز لها علاقة بالعبادة والآلهة. وهي تفيدنا من هذه الناحية في الوقوف على فن الزخرف والنقش وعلى كل ما له من علاقة بالحياة الدينية عند الجاهليين.
وللمباخر والمجامر والمحارق أهمية أيضًا بالنسبة لمن يريد الوقوف على الفن الجاهلي. وقد عرفت المحارق بـ"مصرب" و"مشود". وهي مواضع لحرق ما يقدم إلى المعبد من ضحايا عليها3. وعرفت المجامر بـ"مسلم", وأما المبخرة, فهي "مقطر"4. وقد عثر على نماذج عديدة منها. وقد صنعت من مواد مختلفة من مرمر ومن معادن. مثل: البرنز أو الذهب أو الفضة. وقد تفنن في صنعها, وبعضها مفتوح ليس له غطاء, وبعض آخر له غطاء. وقد نقش على بعض منها اسم الطيب الذي يحرق بالمجمرة, واسم صاحبها والمعبد أو الإله الذي خصصت به.
ولم يصل إلينا ويا للأسف من مصوغات الذهب والفضة شيء كثير. والصياغة صناعة اشتهرت بها العرب الجنوبيون, حتى بالغ في ذلك بعض الكتاب اليونان, فأشاروا إلى أوانٍ وأثاث وأدوات منزلية أخرى مصنوعة من الذهب والفضة5.
__________
1 "A. Grohmann, S. 243.".
2 "Arabien, S. 247 f.".
3 "Arabien, S. 248. Reb. Epig. 4708, 4839.".
4 Arabiaen, s. 248, a. Grohmann, Sudarabien als Wirtschaftsgebiest, I, 115. f, C. Thompson, The Tombs and Moon Temple of Hureidha, 49.
5 "De Mari Erythraeo, 2, Strabo, XVI, 778, Handb., I, S. 171.".(15/75)
ولكننا لم نر شيئًا مما ذكروا, ولم يروا هم ذلك أيضًا بالطبع, وإنما رووا ذلك عن طريق السماع.
ويعرف الذهب بـ"ذهب" في العربيات الجنوبية. وأما الفضة, فيقال لها: "صرف"1. وقد وردت أرض "شبا" في جملة الأماكن التي مونت العبرانيين بالذهب, حمله إليهم تجار "شبا"2.
وترد في الكتابات جمل مثل: "قدم تمثالًا من ذهب", مما يدل على أن العرب الجنوبيين كانوا ينذرون إلى آلهتهم إن منت عليهم وأجابت طلبهم بأن يقدموا لها نذرًا هو تمثال من ذهب. غير أن الباحثين لم يعثروا حتى اليوم إلاّ على عدد محدود من تماثيل صيغت من ذهب, بل عثروا على تماثيل من البرنز. لذا ذهب بعضهم إلى أن العرب الجنوبيين قصدوا بكلمة "ذهبن", أي: "الذهب", معدن البرنز, وذهب بعضهم إلى أنهم قصدوا معادن طليت بماء الذهب3.
وفي جملة ما هو محفوظ من أعمال الصاغة, قلادة جميلة من الذهب عثر عليها في خرائب مدينة "تمنع"4 سبق أن وضعت صورتها قبل صفحات. وقلائد أخرى وصفائح من الذهب حفرت عليها صور بعض الحيوانات. كما عثر على معادن مطلية بطبقة من ذهب5.
وقد وصلت قطع فنية نفيسة مصنوعة من المعادن, تدل على ذوق عالٍ وعلى مهارة في الصنعة وإتقان. من ذلك مصباح يضيء بالزيت, مصنوع من البرنز يتكئ على قاعدة. أما موضع الزيت, فينساب انسيابًا جميلًا, وقد صنع بشكل متناسق, وارتفع فوق المصباح من الطرف العريض تمثال "أيل" جميل جدًّا ربطه بالمصباح حزمة انفتحت عند اتصالها بالمصباح على هيئة أصابع يد. فلما ارتفعت, اتصل بعضها ببعض على هيئة ضفيرة, إلى موضع اتصالها بالأيل. وقد انكسرت يدا الحيوان وكانت ممتدة. أما الرقبة والرأس والقرنان, فقد صنعت بدقة ومهارة, وعلى الجملة: إن القطعة تدل على تطور كبير في فن الصناعات اليدوية عند العرب الجنوبيين, وذلك كما نراه في الصورة المذكورة.
__________
1 "Rhodokanakis Stud., II, S. 167".
2 حزيقال: الإصحاح السابع والعشرون, الآية: 22.
3 "A. Grohmann, S. 230.".
4 "W. Phillips, Qataban and Sheba, p. 114.".
5 "A. Grohmann, S. 242.".(15/76)
ونرى في قطعة أخرى مصنوعة من البرنز فنًّا وخيالًا, نرى رجلًا قد وضع على رأسه غطاء يشبه الخوذة, وأمسك بيديه أسدين, فاليد اليمنى أمسكت بيد أسد, واليد اليسرى أمسكت بيد الأسد الآخر وقد أدار الأسدان رأسيهما إلى الجانبين, وكأنهما يتلويان من شدة القبض عليهما, وإن كانت لا تمثل أجزاء الأجسام تمثيلًا كاملًا, تعطي انطباعًا حسناً, وتعبر عن الفكرة تعبيرًا طيبًا1.
وهناك قطعة مصنوعة من البرنز كذلك, تمثل منظرًا رمزيًّا: ففي الوسط راقص يشبه شكله شكل الشيطان في الأساطير, وقد اتصل فوق رأسه, وعلى الغطاء عمود يحمل طيرًا مادًّا جناحيه. ويقابل الطائر أيلان, انتصب كل أيل على جانب من جانبي الطير, وكأنهما يتقاتلان, ويحمل الأيلان جيوانين2.
ونرى في هذه الصورة تمثالًا من البرنز لثور يرمز إلى الإله القمر, وقد عثر عليه في "ظفار".
تمثال مصنوع من البرنز يمثل اله القمر عثر عليه في ظفار.
من كتاب "Qataban and Sheba" "ص305".
__________
1 "Handb.,, I, S. 172.".
2 راجع الصورة المرقمة 68 والمنشورة على الصفحة 172 من كتاب: "Handb.,, I, S. 172.".(15/77)
ونرى في هذه الصورة تمثال رجل صنع من النحاس, تظهر على شعر رأسه نتوءات بارزة كأنها الخرز, ربما تمثل زينة, أو تعبر عن شعر صاحبها المتموج. أما الوجه, فلا يمثل وجه أهل اليمن, بل كأنه يمثل وجهًا لـ"بوذا", أي: وجهًا متأثرًا بالفن الهندي الصيني القديم. الأنف فيه ضخم, والفم كبير, وقد غطي الجسم بقميص له رأس يغطي الرقبة ويصل إلى الحنك, وتجد القميص مفتوحًا تحت الخصر, وأما أعلى القميص فمغلق, وقد شد على الخصر "خنجر" مستقيم, على طريقة أهل اليمن في حمل الخناجر إلى هذا اليوم, وقد مدت اليد اليمنى إلى أعلى, وظهرت أصابع الكف واضحة مفصلة. أما اليد اليسرى, فقد مدت إلى أعلى قليلًا, وكفها مقبوض, مكوّنًا ثقبًا, يظهر أنه صنع لوضع عصا في الثقب, أو شيئًا آخر يرمز إلى سيادة ومنزلة اجتماعية. ونجد الجسم لا يتناسب مع ضخامة الرأس والكتفين, فهو ضئيل ضعيف. ونجد الأذن صغيرة بالنسبة إلى الرأس. وقد وضعت في مقدم الشعر. ونرى أن الوجه حليق, مما يدل على أن(15/78)
بعض الناس كانوا يحلقون شعر أوجههم في تلك الأيام. وأما الرقبة فغليظة1.
وهناك قطع أخرى هي عبارة عن تماثيل بشر أو حيوانات, مثل: حيات أو جمال أو خيل أو جرذان وأمثال ذلك, وقد صنعت من البرنز كذلك, بعضها في غاية الجودة والإتقان. ومن بين هذه القطع المتقنة عصا انتهى طرف منها على هيئة أفعى, نرى فيها الأناقة والرشاقة, وعصا أخرى رأسها على هيئة حيّة وقد تدلى إلى أسفل. والقطعتان من الصناعات المتأخرة ومن أواخر أيام دولة حمير2.
وبين القطع القديمة المصنوعة من البرنز, تمثال رجل ماش يبلغ ارتفاعه "93" سنتمترًا, رجله اليسرى متقدمة على اليمنى, ويرى القسم الأعلى من الجسم عاريًا إلا من جلد أسد أو فهد لف على الظهر, ويتصل طرفاه بالصدر. أما الوركان فقد غطيا بمئزر شد على الجسم بحزام عريض. وقد جعل المثّال الرأس وكأنه قد غطي بخوذة مجعدة, كناية عن الشعر, وقد تدلى على الجبين. ووضع شيئًا أشبه بالريشة للمحافظة على الشعر, وجعل للرجل لحية عبر عن تجاعيد شعرها بعقد. وجعل العينين واسعتين, أما الأنف فكبير ملتحم, وأما الفم فصغير. وأما الجسم عمومًا, فهو نحيف. وقد عثر على هذا التمثال في المدخل المؤدي إلى "حرم بلقيس"3. ويرى بعض الباحثين أنه يعود إلى القرن السابع أو السادس قبل الميلاد. وأن صاحبه كان من كبار الموظفين في أيامه, وربما كان بدرجة حامل أختام الملك أو كاتم أسراره, وقد قدم التمثال تقربة ونذرًا إلى الإله "المقه". ووجد اسم صاحبه مدوّنًا على الكتف الأيسر منه, وهو "معدكرب" "معديكرب"4.
وبين التماثيل المصنوعة من البرنز تمثال امرأة وهي ترقص, وقد لبست فستانًا طويلًا يمتد على سروال, وكأنه يمثل الزي الفارسي القديم, المعروف في العراق،
__________
1 "Archaeological Discoveries in south Arabia, p.270.".
2 "Handb., I, S. 173.".
3 "A. Grohmann, S. 232.".
4 Jamme, Sahaean Inscriptions on tow Bronze Statues from Marib, JAOS, 77, 1957, 32, 35, A. Grohmann, S. 232.(15/79)
وقد أبدع صانع التمثال في عمله فجعله حيًّا ينبض بالحياة, وقد ضيق خصر المرأة, وجعل الساقين بعضهما فوق بعض, ليأخذ جسمها وضع راقصة وهي في حالة رقص, كما ترى في هذا التمثال.
تمثال من البرنز لراقصة, عثر عليه في ظفار.
من كتاب "Qataban and Sheba" "ص305".
ونجد في مصنوعات المعادن مصنوعات تتحدث عن وجود أثر عراقي عليها, ومصنوعات أخرى تشير إلى وجود أثر مصري أو يوناني أو هندي عليها. وقد نسب بعض الباحثين وجود هذا الأثر إلى الصلات التجارية التي كانت تربط بين الأرضين المذكورة وبين العربية الجنوبية, كما نسبوه إلى أثر الرقيق المشترى من تلك البلاد والمستورد إلى العربية الجنوبية, حيث كلف بأداء الحرف اليدوية. وحيث إن هذا الرقيق كان من بلاد مختلفة, لهذا ظهر التنوع في هذه الصناعات1.
ومن المصنوعات البرنزية التي يظهر عليها أثر الفن اليوناني مجموعة التماثيل التي
__________
1 "A. Grohmann, S. 230. ff.".(15/80)
عثر عليها في بيت "يفش" في خرائب "تمنع"1, وتماثيل أخرى حفظت في متحف "صنعاء". وتمثالين لزنجيين عثر عليهما في موضع "نخلة الحمرا" "نخلة الحمراء" على مسافة خمسين كيلومترًا جنوب شرقي "صنعاء". وتماثيل أخرى لبعض الحيوانات, مثل تمثال حصان وتمثال آخر لأسد.
والتماثيل البرنزية التي عثر عليها في بيت "يفش" بمدينة "تمنع", هي من الآثار المهمة التي عثر عليها في أرض قتبان. ونظرًا للأثر "الهليني" البارز على جسم الأسد وعلى وجه راكبه المحافظ على الملامح اليونانية يرى الباحثون أنها من القطع الفنية التي ربما يعود عهدها إلى القرن الأول للميلاد, حيث كان اليونان إذ ذاك يمخرون عباب البحار, وكان تجارهم ينقلون المصنوعات اليونانية إلى مختلف الأنحاء من العالم, لبيعها ولشراء ما يحتاجون إليه من النفائس التي لا توجد في بلاد اليونان وفيما وراءها. والظاهر أن الفنانين العرب, وقفوا على قطع فنية يونانية, فقلدوها وعملوا على صنع مثلها, وقد ضربوا على القاعدة حروف المسند, الدالة على صاحب البيت. ومن هذه التماثيل تمثال أسد, امتطى على ظهره ولد بيده اليمنى لجام, وبيده اليسرى شيء يشبه القفل, وقد صنع الأسد وكأنه يريد الوثوب, وذلك كما تراه في الصورة. وقد قدّر تأريخ صنعه فيما بين السنة 75 و 50 قبل الميلاد. ومنهم من يجعله بعد ذلك, أي: في القرن الأول للميلاد2.
وقد تبين من هذه التماثيل أن العرب الجنوبيين, كانوا ينتعلون نعالًا على نحو أنعلة هذا اليوم، وهي سميكة لتقاوم الأرض فلا تأكلها عند المشي, كما تبين لنا من دراسة هذه التماثيل أن بين ملابس العربية القديمة قبل الإسلام وبين ملابس العرب في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية في الوقت الحاضر تشابه كبير. ومن الممكن في هذا اليوم عمل دراسة عن ملابس العرب الجنوبيين بالاستعانة بهذه التماثيل وبالصور المحفورة على الأحجار, التي تمثل مختلف طبقات المجتمع في ذلك العهد.
__________
1 Albright, Archaeological Discoveries in South Arabia, I, 155, ff, B. Segall, Scoupure from Arabia Felix, The Hellevistic Period, AJA, 59, 1955, 210, ff, Grohmann, S. 234.
2 "Archaeological Discoveries in South Arabia, p.155.".(15/81)
تمثال الأسد وعليه طفل, وقد أخذت الصورة من كتاب: "Qataban and Sheba" لمؤلفه وندل فيلبس "ص112".
تمثالان صنعا من البرنز, ويرى على التمثال أثر الفن "الهيليني" واضحًا بارزًا. من كتاب: "Qataban and Sheba" "ص189".(15/82)
أما الخشب المزخرف, فهو وجه آخر من أوجه الفن وأضرابه, وقد استعمل في البناء وفي أثاث البيت وفي صنع التماثيل والألواح المكتوبة وفي أغراض أخرى. وقد عثر المنقبون على نماذج منه. ولما كان الخشب معرضًا للتلف والهلاك أكثر من المعدن والحجر, لذلك فإن يد الطبيعة قد لعبت بالكثير منه, كما استعملته يد الإنسان قبل الإسلام وبعده في أمور أخرى غير الأمور التي خصصها أصحاب تلك الأخشاب لها, لذلك زالت معالم الكثير منها, واستعمل بعض منه في الوقود وفي أعمال البناء. ولا زلنا لا نملك نماذج من الأثاث المعمول من الخشب, مثل: صناديق لحفظ الألبسة والأشياء الأخرى التي تحتاج إلى حفظ, وسرر منامة وكراسي وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في حياته من مصنوعات الخشب.
إن الفنان العربي الجنوبي حاول جهد طاقته إظهار شخصيته في أعماله الفنية, وهو وإن كان قد حاكى غيره وقلده في بعض الأمور, غير أنه نجح في إعطاء فنه صورة المحيط الذي عاش فيه. فنرى السحنة اليمانية على وجوه بعض التماثيل, ولا سيما في أوجه الرجال. ونجد الطابع العربي الجنوبي يبرز على بعض المصنوعات. وسوف يزداد علمنا -ولا شك في المستقبل- بالفن العربي الجاهلي في المستقبل حين تهدأ الأحوال وتقوم البعثات العلمية بالحفر العلمي المنظم في جزيرة العرب, فربما يعثر على أعمال فنية تغير وجهة نظر العلماء المكتوبة عنه في هذا اليوم.
وأما الحديث عن الفن في الحجاز قبل الإسلام, فحديث مقتضب مختصر؛ لأن البحث العلمي لم يبدأ هناك حتى الآن. فاقتصر علمنا عنه على ما ورد في الموارد الإسلامية وحدها. وما ورد في هذه الموارد هو إشارات عارضة ذكرت عرضًا في أحوال لا علاقة لها بالفن بل في البحث عن أمور أخرى, مثل: فتح مكة, حيث أشير إلى وجود تصاوير وأصنام في الكعبة, أمر الرسول بطمسها وإزالة معالمها وبكسر كل ما كان هناك من أصنام, ومثل ما جاء في كتب الحديث والفقه عن "الصور والتماثيل" في باب النهي عنهما في الإسلام. وذلك يدل على أن بعض أهل مكة وسائر مواضع الحجاز الأخرى, كانوا يضعون الصور والتماثيل في بيوتهم, وأن طائفة من الناس كانت تصوّر وتتعيش من بيع الصور, وأن طائفة أخرى كانت تنحت وتعمل التماثيل, وأن طائفة من النساجين والخياطين كانوا يجعلون صور إنسان أو حيوان على الستائر أو الملابس لتزويقها, فنهى عن(15/83)
ذلك الإسلام1.
ونحن لو أخذنا بروايات أهل مكة عن بناء الكعبة, خرجنا منها على أن الكعبة لم تكن عند ظهور الإسلام وبعد تعميرها الأخير قبل البعثة, شيئًا يذكر من ناحية الفن والهندسة المعمارية, فهي لم تكن سوى بيت مكعب, تحيط بحرمه البيوت, ولم يكن الحرم واسعًا وله سور, وإنما كان ساحة مفتوحة تجاوز عليها أهل مكة, فأدخلوا جزءًا منها في بيوتهم, ولذلك اضطر الخلفاء إلى توسيعها, بشراء البيوت المجاورة وهدمها لإعادة إدخالها في الحرم. ونحن لا نجد اليوم أثرًا باقيًا على وضعه وحاله من آثار الجاهلية سوى "الحجر الأسود", وبئر زمزم, أما الأشياء الأخرى مثل الكعبة, فإنها من بناء الإسلام.
أما بيوتها, فلا علم واضح لنا عنها؛ لأن أهل الأخبار لم يتحدثوا عنها حديثًا فيه إفاضة, وقد ورد في خبر إساءة الجوار لرسول الله, أن رسول الله كان يجلس تحت ظلة أمام باب داره, فكان جيرانه يرمونه بالحجارة, مما يدل على أنهم كانوا يبنون ظللًا على أبواب بيوتهم يجلسون تحتها على "دكة" ويستظلون بها من حرارة الشمس حين وقوفهم أمام الباب. ولا بد وأن تكون بيوت تجار مكة من حجارة وكلس, وقد تكون من طابقين أو أكثر, ولكن الأخبار لا تتحدث بحديث مفصل عنها.
وفي أعالي الحجاز, آثار من بقايا أبنية ومن تماثيل وكتابات مكتوبة ومن تصاوير نقشت على الصخور, تعبر عن حالة النقّاش الذي نقشها, وهو من الأعراب. وفي جملة الصور مناظر إنسان يصيد غزالًَا, أو يجاهد في قتل أسد أو حيوان مفترس, أو فارسًا قد امتطى ظهر فرسه, أو مناظر قطعان حيوانات وحشية أو أليفة, وما شاكل ذلك من مناظر تمر على عيون الرعاة. وبعض هذه الصور مما يعود عهده إلى ما قبل الميلاد. وهي تستحق الدرس وتوجب على عشاق الفن دراسة النواحي الفنية والتعبيرية في هذه الصورة المرسومة على الأحجار والصخور.
وفي المتحف البريطاني حجر, رمز إليه بـ"B. M. 120928" كتب عليه بالحروف الصفوية "هف زبن بن أحرب" أي: "هذا لزبان بن أحرب". وقد حفر صورة جمل تحت الكتابة, جعله لاعبًا بذنبه, وله سنام ضخم لا يتناسب حجمه
__________
1 تنوير الحوالك "2/ 241", تاج العروس "4/ 423", "قصص".(15/84)
مع جسم الجمل, وله رقبة ورأس, أقرب إلى رقبة الزرافة ورأسها من رأس ورقبة الجمل. ولكن الرسم لا بأس به بصورة عامة, إذا أدركنا أن راسمه من الأعراب الذين عاشوا قبل الإسلام.
ونجد في الأحجار الصفوية الأخرى, صور فرسان, وهم يتحاربون, أو يتسابقون, وصور خيل وحيوانات أخرى. وبعض هذه الصور في غاية من الإتقان والإبداع, وبعضها تمثل فنًّا بدائيًّا, لكنه يعبر عن وجود قابلية لدى راسمي هذه الصور الذين كانوا أعرابًا يتّنقلون في البوادي, وهم مع ذلك كتبة؛ لأننا نجد أسماء من رسم هذه الصور مكتوبة تحتها أو حولها لتدل عليهم.
وأما العربية الشرقية, فقد عثرت البعثات التي نقبت بها على أعمال فنية عديدة, وقد عثر في "أبو ظبي" وفي أماكن أخرى من الخليج على آثار لم تكن معروفة من قبل. وقد أشرت في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب إلى عثور المنقبين عن الآثار على آثار مهمة في البحرين وفي جزيرة "فيلكا" من جزر الكويت, وهي
يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.
منظر المعبد الهيليني بعد تنظيفه, وهو في جزيرة فيلكا وهو من منشورات قسم المتاحف والآثار بدولة الكويت.(15/85)
تشير إلى أثر الاختلاط الذي كان بين الهند وفارس والروم والعراق وبين سكان الخليج, قبل الميلاد بعهود طويلة. ولا بد وأن تنبت في هذه الأرضين حضارة مختلطة؛ لأنها على ساحل بحر, وعلى طريق يعتبر من أهم طرق العالم في التجارة وفي المواصلات الدولية في القديم وفي الحديث.
وفي جملة ما عثر عليه في جزيرة "فيلكا" بقايا معبد يوناني, بناه جنود الإسكندر حين أقاموا واستقروا بها, وقد تمكنت البعثة "الدانماركية" التي نقبت في هذه الجزيرة من العثور عليه, ونظفت ساحته حتى ظهر على هذه الصورة التي تراها في الصفحة السابقة.
وفي جملة ما عثر عليه في جزيرة "فيلكا" نقود تعود إلى أيام "السلوقيين" خلفاء الإسكندر, وآثار اليونانيين الذين أقاموا في هذه الجزيرة منذ جاء جيش الإسكندر لفتح الهند. فاستقر قسم منهم بها وأنشأ معبدًا فيها, عثر في أنقاضه على بقايا أعمدة حجرية استخدمت لرفع سقفه, يظهر عليها الأثر الهليني بكل وضوح, وعلى أحجار منقورة مزخرفة وعلى كتابات. وقد استخدم الحجر في أعمال البناء, كما ترى ذلك في الصورة المأخوذة لموضعه, بعد تنظيفه وإعادة دائرة
تمثال أفروديت, ويعود عهده إلى حوالى السنة 200 قبل الميلاد وهو من منشورات قسم الآثار والمتاحف بدولة الكويت.(15/86)
الآثار والمتاحف في الكويت للأحجار إلى مواضعها. كما عثر في هذه الجزيرة على جرار كثيرة تعود إلى العهد البرنزي, تشبه الجرار الخزفية التي لا زال الناس يستعملونها في مواضع متعددة من جزيرة العرب.
ومن أبدع ما عثر عليه في هذه الجزيرة, تمثال صغير من الطين المحروق يمثل "أفروديت", يعود عهده إلى حوالى السنة "300" قبل الميلاد, وهو تأريخ إنشاء هذا المعبد, ومخربشة جميلة, تمثل شجرة, يظهر أنها كانت قد وضعت في أعلى واجهة المعبد. وتمثال رأس الإسكندر, تحيط به الهالة, وتمثال آخر, صنع من الطين المحروق, وعدد كبير من الأختام, حفرت عليها مناظر مختلفة, فيها صور حيوانات, يعود عهدها إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
تمثال رأس الإسكندر تحيط به الهالة, من منشورات قسم الآثار والمتاحف بدولة الكويت.
أما عن الفن العربي في العراق, فنحن لا نستطيع أن نتكلم عنه إلا بإيجاز مخل, وسبب ذلك, أن الحيرة التي كانت عاصمة المناذرة, والتي كانت من أكبر المستوطنات العربية, هدمت في الفتح الإسلامي وما بعده لاستخدام طابوقها(15/87)
وأخشابها في بناء "الكوفة". فقد بني مسجد الكوفة بأنقاض قصور الحيرة, فزالت بذلك معالم تلك المدينة, ولم يبق منها أي شيء بتوالي الأيام.
ويظهر من الأخبار الواردة في كتب أهل الأخبار, أن أهل الحيرة كانوا يتخذون "إيوانًا" في قصورهم. يجعلونه موضعًا يجلسون فيه. عرف بالإيوان الحيري. وقد كانوا يزخرفون الجدر باستعمال "الآجر" المزخرف. كما كانوا يطلون الجدر على الطريقة العراقية القديمة بطبقة من "الجص", ليظهر أملس أبيض, وكانوا يطلون الجدر الخارجية للبيوت بهذه الطبقة, ومن هنا بدت مدينتهم وكأنها بيضاء, فقيل لها: الحيرة البيضاء.(15/88)
التصوير:
وقد عثر المنقبون والباحثون عن الآثار القديمة على رسوم بشر وحيوان ونبات نقشها الجاهليون على الصخور والحجارة, يرمز بعض منها إلى أمور دينية وأساطير قديمة. ويعبر البعض الآخر عن مواهب فنية عند حافري هذه الصور, وعلى مقدرة تقدر في الرسم, وعلى وجود ميول فطرية عند أصحابها في الفن, وفي محاولة إبراز العواطف النفسية والتعابير بلغة فنية يفهمها كل إنسان, هي لغة الرسم والنقش.
وفي أخبار أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كانوا يتقربون إلى الصور, كما كانوا يزينون بيوتهم بالصور وبالنسيج المصور, كما كانوا يستعملون ستائر ذات صور, ويلبسون ملابس ذات صور ورسوم. ولما فتح الرسول مكة, أمر بتحطيم ما كان بها من أصنام وأوثان. وقد ذكر أهل الأخبار, أنه كانت في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها, ثم وجد صور الملائكة وغيرهم, فرأى إبراهيم مصورًا في يده الأزلام يستقسم بها, وصورة عيسى بن مريم وأمه, وصورة الملائكة أجمعين. فأمر الرسول بطمس تلك الصور, فغسلت بالماء, ومسحت بثوب بلّ بالماء, فطمست, إلا صورة عيسى بن مريم وأمه, إذ أمر الرسول بإبقائها كما تقول بعض الروايات, فبقيت إلى أيام "عبد الله بن الزبير", فلما(15/88)
تهدم البيت, تهدمت الصورة معه1.
وفي شعر "امرئ القيس" إشارة إلى التصوير. ففي البيت:
بلى ربّ يومٍ قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال
إشارة إلى التصوير. فالخط: الكتابة والرسم, والتمثال: الصورة, والصنم, أي التمثال المجسد. والتماثيل: الصور. وقد كانوا يصورون الصورة ويرسمونها قبل الإسلام2.
ولكننا لا نملك اليوم صورًا زيتية أو صورًا أخرى مرسومة بالألوان أو الحبر أو الصبغ الأسود على أدم أو قراطيس, أو ألواح, فإن مثل هذه الصور لا يمكن أن تعمر طويلًا تحت الأتربة لذلك تبلى, ولا أستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على مثل هذه الصور, لما ذكرته من وجود الصور والتصوير عند الجاهليين.
وقد كان الجاهليون يقتنون الصور يضعونها في بيوتهم للزينة, كما كان هناك مصورون يعيشون من بيع الصور التي يرسمونها, وصناع تماثيل, ينحتونها أو يعملونها بالقوالب بجعل عجين الجبس فيها, فإذا جفّ أخذ شكل التمثال, فيباع. وقد أشير إلى التصوير وصنع التماثيل في الحديث, بمناسبة ما ورد فيه من كره الإسلام للتصوير, أو تحريمه كما ذهب إليه البعض, فقد كره في الإسلام تصوير كل ذي روح, مثل: تصوير إنسان أو حيوان, وكره بيع المصورات, واتخاذ التصوير حرفة يتعيش منها. وقد سأل بعض المصورين "ابن عباس" رأيه في التصوير, وهي حرفته التي كان يتعيش منها, فنهاه عنها, إلا إذا صور شجرًا أو شيئًا لا روح فيه. وكانت معيشة هذا المصور من صنعة يده, يصنع التصاوير ويبيعها للناس3.
__________
1 الأزرقي "1/ 104 وما بعدها", السيرة الحلبية "3/87", ابن هشام, سيرة "2/ 274 وما بعدها", "حاشية على الروض", الروض الأنف "2/ 274 وما بعدها", ابن الأثير "2/ 105", نهاية الأرب "17/ 313", إمتاع الأسماع "1/ 385".
2 الخزانة "1/ 31", "بولاق".
3 إرشاد الساري "4/ 107", "باب بيع التصاوير".(15/89)
وقد كانت الوثنية لا تتعارض مع التصوير, بل كانت تشجعه وتشجع الفنون الجميلة. فقد كانت الأصنام عماد سنتهم, وإليها كانوا يتقربون, وكانوا يضعونها في بيوتهم للتقرب إليها والتبرك بها, كما أنهم لم يكرهوا الغناء ولا الموسيقى, لما لهما من صلة بأعيادهما وبالطقوس الدينية.
وقد منع من بيع الأصنام, أي: التماثيل في الإسلام, كما حرم بيع الصور المتخذة من جوهر نفيس1, وكان بين أهل مكة وغيرها من القرى أناس يتعيشون من بيعها, ويتفننون في صنعها, فماتت بذلك هذه الحرفة التي هي من الفنون الجميلة, مثل التصوير.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 114", "باب تحريم بيع الميتة والأصنام".(15/90)
الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين
...
الفصل العشرون بعد المائة: أمية الجاهليين
الشائع بين كثير من الناس أن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء وضلالة, لا يقرءون, ولا يكتبون, وأن الكتابة كانت قليلة بينهم, واستدلوا على رأيهم هذا بإطلاقهم لفظة "الجاهلي" على أيامهم, وبما جاء من أنهم كانوا قومًا "أميين لا يكتبون". واستدلوا على ذلك بحديث ذكر أن الرسول قاله, هو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"1.
وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن معنى "الجاهلية", وعن الآراء التي قيلت فيها, حديثًا فيه إفاضة وإحاطة, وقد قلت فيما قلته: إن تفسير الجاهلية بالجهل, الذي هو ضد العلم, تفسير مغلوط, وأن المراد من الجاهلية السفه والحمق والغلظة والغرور, وقد كانت تلك أبرز صفات المجتمع الجاهلي آنئذ, وتحدثت في كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام" عن معنى الأمية وذلك في أثناء كلامي على أميّة الرسول وآراء العلماء فيها من مسلمين ومستشرقين2، وقلت: إن للأمية معنى آخر غير المعنى المتداول المعروف, وهو الجهل بالكتابة والقراءة. فقد ذكر "الفراء" وهو من علماء العربية المعروفين, أن الأميين هم
__________
1 البيان والتبيين "3/ 28", الصاحبي "8/ 11", تفسير القرطبي "2/ 5", البقرة الآية 87, اللسان "12/ 34", "أمم", تاج العروس "8/ 191", "أمم".
2 الصفحة 136 وما بعدها.(15/91)
العرب الذين لم يكن لهم كتاب1. ويراد بالكتاب، التوراة والإنجيل. ولذلك نعت اليهود والنصارى في القرآن بـ"أهل الكتاب"، وهذا المعنى يناسب
كل المناسبة لفظة "الأميين" الواردة في القرآن الكريم، وتعني الوثنيين، أي: جماع قريش وبقية العرب، ممن لم يكن من يهود وليس له كتاب.
وللعلماء آراء في الأمية، وذلك لما لها من صلة بالرسول، ولما كان القرآن قد نعت قوم الرسول بالأميين، وجعل الرسول أميًّا مثلهم، فقد ذهبوا إلى أن العرب كانوا قبل الإسلام أميين بمعنى أنهم كانوا لا يقرءون ولا يكتبون إلا من شذّ منهم وندر، وإلا أفرادًا من أهل مكة، زعموا أنهم تعلموا الكتابة من عهد غير بعيد عن الإسلام، ولو أخذنا أقوالهم مأخذ الجد، وجب علينا القول بأنهم: إنما تعلموها في حياة الرسول، أي: قبل الوحي بسنين ليست بكثيرة، وأن مكة كانت المدينة الوحيدة التي عرفت الكتابة في جزيرة العرب، وهو كلام لا يقوم على علم. فقد كان بيثرب كتّاب يكتبون بكتاب مكة، وكان في أماكن أخرى كتّاب يكتبون بكتابهم أيضًا، فضلًا عن انتشار الكتابة بالمسند في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب.
والرسول أمي، لم يقرأ ولم يكتب، فإذا أراد كتابة رسالة أو عهد أو تدوين للوحي، أمر كتابه بالتدوين. على ذلك أجمع المسلمون. وقد وردت في القرآن آيات: مثل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} 2، وآية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 3. أخذها البعض على أن فيها دلالة على أن النبي كان يقرأ ويكتب، واستدل أيضًا ببعض ما ورد في كتب الحديث والسير، وفيه ما يفيد أنه كان ملمًّا بالقراءة والكتابة، كالذي ورد في صلح "الحديبية" أنه "هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة. وهو ما وقع في البخاري"4. وما جاء في السيرة لابن هشام: "فبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكتب
__________
1 المفردات "ص22".
2 سورة اقرأ، الآية الأولى.
3 العنكبوت، الآية 48، تفسير الطبري "4/ 21".
4 الروض الأنف "2/ 230"، الحلبية "3/ 23 وما بعدها".
Nôldeke، Geschichte des Qorâns، I، S. 13.(15/92)
الكتاب هو وسهيل"1. وما جاء في البخاري: "وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم" الكتاب ليكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد"2. وقالوا: إن في هذا المذكور وفي غيره من مثل ما ورد من إن الرسول "لما اشتد وجعه، قال: "ائتوني بالدواة والكتب أكتب لكم كتابًا لا تضلون معه بعدي أبداً" 3، ومثل ما ورد "في حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أنه دعا في مرضه بدواة ومزبر فكتب اسم الخليفة بعده.4، دلالة صريحة على قدرته على الكتابة والقراءة5.
وللعلماء كلام في الأدلة المذكورة، ولهم آراء في تفسير الآيات التي تعرضت لموضوع الأمية. في تفسير علماء اللغة من لا يكتب، أو العيي الجلف الجافي القليل الكلام. قيل له: أُمي لأنه على ما ولدته أمه عليه من قلة الكلام وعجمة اللسان6، أو الجهل التام بالقراءة والكتابة. "لأن أمة العرب لم تكن تكب ولا تقرأ المكتوب"7؛ أو لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة8، أو الأمي الذي على خلقة الأمة، لم يتعلم الكتاب، فهو على جبلته. وقد ورد في الحديث: "إنا أمة أمية لا نكتب"9، أو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"10، أو "بعثت إلى أمة أمية"، فذهبوا إلى أن العرب كانوا على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة ولا الحساب، فهم على جبلتهم الأولى. "وكل شيء للعرب، فإنما هو بديهة وارتجال ... ثم لا يقيده على نفسه ولا
__________
1 Noldeke, I, S. 13.
2 الروض الأنف "2/ 230"، الطبري "3/ 80"، "السنة السادسة"، "2/ 635" "دار المعارف"، الحلبية "1/ 24".
3 البلاذري "1/ 562"، "ائتوني باللوح والدواة –أو بالكتف والدواة –أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده"، "ائتوني أكتب كتابًا لا تضلوا بعدي أبدًا"، الطبري "3/ 192 وما بعدها"، "دار المعارف".
4 تاج العروس "3/ 231"، "زبر".
5 Noldeke, I, S. 12. ff.
6 اللسان "12/ 34"، "أمم".
7 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".
8 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".
9 اللسان "12/ 34"، "أمم".
10 تاج العروس "8/ 191"، "أمم" المفردات "22".
اللسان "12/34"، "أمم".(15/93)
يدرسه أحدًا من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون"1.
وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "الأمي"2، و"أميون"3، و"أميين"4، ونعت الرسول بـ"النبي الأمي"5، وردت في سور مكية وفي سور مدنية. وردت لفظة "الأمي" في سورة الأعراف، وهي من السور المكية، ووردت لفظة "أميون" و"الأميين" في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الجمعة، وهي من السور المدنية. ويلاحظ أن الآيتين المكيتين، خاصتان بالرسول، فنعت فيهما بـ"النبي الأمي"، أما الآيات المدنية، فقد قصد بها "الأميين"، الذين ليس لهم كتاب. بمعنى المشركين.
وقد بحث "الراغب الأصبهاني" في معنى "الأمية" فقال: "والأمي: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب وعليه حمل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: الآية 2] . قال قطرب: الأمية: الغفلة والجهالة. فالأمي منه، وذلك هو قلة المعرفة. ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} ، أي: إلا أن يتلى عليهم. قال الفراء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب. والنبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، قيل: منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا لكونهم على عادتهم. كقولك: عامي لكونه على عادة العامة. وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه واعتماده على ضمان الله منه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} . قيل: سمي بذلك لنسبته إلى أم القرى"6.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأميين من لا كتاب لهم من الناس، مثل: الوثنيين والمجوس، قال الطبري في تفسير الآية: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} 7: "يعني بذلك جل ثناؤه، وقل
__________
1 البيان والتبيين "3/ 28".
2 الأعراف، الآية 156 وما بعدها.
3 البقرة، الآية 78.
4 آل عمران، الآية 20، 75, الجمعة، الآية2.
5 الأعراف، الآية 156 وما بعدها.
6 المفردات في غريب القرآن "22".
7 آل عمران، الرقم3، الآية20.(15/94)
يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين، الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلمتم ... "1. وذهب كثير من المفسرين إلى أن الأميين الذين لا كتاب لهم، أي: الذين ليسوا يهودًا ولا نصارى. وورد: "أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- كان يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم"2. قال الطبري: "وكان النبي -صلى الله علية وسلم- يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، ففرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب"3. فالمسلمون أهل كتاب، والمجوس أميون كمشركي مكة وبقية العرب المشركين، لا لكونهم لا يقرءون ولا يكتبون، بل لأنهم لم يؤمنوا بالتوراة والإنجيل.
ويلاحظ أن الآية: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ} 4، والأية: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} 5؛ والآية: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} 6، وكذلك: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} 7، لا تؤدي معنى الأمية، بمعنى الأمة الجاهلة بالقراءة والكتابة، لعدم انسجام التفسير مع المعنى، وإنما تؤدي معنى وثنية، أي: أمة لم تؤمن بكتاب من الكتب السماوية، أي: في المعنى المتقدم.
"والأمي والأمان –بضمهما –من لا يكتب أو من هو على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب، وهو باقٍ على جبلته. وفي الحديث: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب". أراد أنه على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة والحساب، فهم على جبلتهم الأولى.
__________
1 تفسير الطبري "3/ 143".
2 روح المعاني "21/ 17 وما بعدها"، "كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم أهل الكتاب، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس لأنهم أهل أوثان"، وتفسير الطبري "21/ 12 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "21/ 13".
4 آل عمران، الرقم3، الآية 20.
5 آل عمران، الرقم3، الآية 75.
6 البقرة، الرقم2، الآية 78.
7 الجمعة، الرقم62، الآية 2.(15/95)
وقيل لسيدنا محمد -صلى الله علية وسلم- الأمي؛ لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولًا، وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- تلا عليهم كتاب الله منظومًا تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه، فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، ففي ذلك أنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: إن مما حرم عليه, صلى الله عليه وسلم: الخط والشعر، وإنما يتجه التحريم إن قلنا: إنه كان يحسنهما، والأصح أنه كان لا يحسنهما، ولكن يميز بين جيد الشعر ورديئه. وادعى بعضهم أنه صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها؛ لقوله تعالى من قبله في الآية. فإن عدم معرفته بسبب الإعجاز. فلما اشتهر الإسلام وأمن الارتياب عرف حينئذ الكتابة. وقد روي عن ابن أبي شيبة وغيره: ما مات رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ، وذكره مجالد للشعبي. فقال: ليس في الآية ما ينافيه. قال ابن دحية: وإليه ذهب أبو ذر الفتح النيسابوري والباجي وصنف فيه كتابًا، ووافقه عليه بعض علماء إفريقية وصقلية. وقالوا: إن معرفة الكتابة بعد أميته لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى بعد معرفة أميته وتحقق معجزته, وعليه تتنزل الآية السابقة والحديث, فإن معرفته من غير تقدم تعليم معجزة. وصنف أبو محمد بن مفوز كتابًا رد فيه على الباجي وبيّن فيه خطأه، وقال بعضهم: يحتمل أن يراد أنه كتب مع عدم علمه بالكتابة وتمييز الحروف، كما يكتب بعض الملوك علامتهم وهم أميون، وإلى هذا ذهب القاضي أبو جعفر السمناني"1.
وقد تعرض "الألوسي" لهذا الموضوع في تفسير الآية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} 2. فقال: "واختلف في أنه -صلى الله عليه وسلم- أكان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكن يحسن الكتابة، واختاره البغوي في التهذيب، وقال: إنه الأصح. وادعى بعضهم أنه -صلى الله عليه وسلم- صار يعلم الكتابة بعد أن كان
__________
1 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".
2 العنكبوت، 29، الآية 48، تفسير الطبري "21/ 4"، تفسير الألوسي "21/ 4"(15/96)
لا يعلمها، وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ. وروى ابن أبي شيبة وغيره: ما مات -صلى الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ. ونقل هذا للشعبي فصدقه، وقال: سمعت أقوامًا يقولونه وليس في الآية ما ينافيه. وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال، صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أُسري بي مكتوبًا على الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر.
ثم قال: ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره، كما ورد في صلح الحديبية: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله" الحديث.
وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمناني. وصنف فيه كتابًا، وسبقه إليه ابن منية. ولما قال أبو الوليد: ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسبّ على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدّعاه، وكتب به إلى علماء الأطراف، فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد أميته -صلى الله عليه وسلم- لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم.
وقد رد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: "إنا أمة أمية نكتب ولا نحسب". وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب، فمعناه أمر بالكتابة، كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان. وتقديم قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِ} على قوله سبحانه: {وَلا تَخُطُّهُ} كالصريح في أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكتب مطلقًا. وكون القيد المتوسط راجعًا لما بعده غير مطرد. وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده، فقال: يفهم من ذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- كان قادرًا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب، ولولا هذا الاعتبار، لكان الكلام خُلوًّا من الفائدة. وأنت تعلم أنه لو سُلّم ما ذكره من الرجوع، لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم، والظانّ ممن لا يقول بحجيته.
ثم قال الألوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه:
ولا يخفى أن قوله، عليه الصلاة والسلام: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، ليس نصًّا في استمرار نفي الكتابة عنه -عليه الصلاة والسلام- ولعل ذلك باعتبار(15/97)
أنه بعث عليه -الصلاة والسلام- وهو وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون، لا يكتبون ولا يحسبون، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتبة، فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلًا عن القاضي عياض: أن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب، كالنص في أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه. ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا"1.
وبحث "القرطبي" في هذا الموضوع أيضًا، فقال: " {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ، الضمير في قبله عائد إلى الكتاب، وهو القرآن المُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- أي: وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى أهل الكتاب، بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتابًا، ويخط حروفًا لارتاب المبطلون, أي: من أهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به. قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يخط ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية؛ قال النحاس: دليلًا على نبوته لقريش؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك.
الثانية: ذكر النقاش في تفسير الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي -صلى الله وعليه وسلم- حتى كتب. وأسند أيضًا حديث أبي كبشة السلولي؛ مضمنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ صحيفة لعيينة بن حصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه.
قلت: وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعليّ: "اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك –وفي رواية بايعناك– ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فأمر عليًّا
__________
1 محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن "ص358 وما بعدها" "الطبعة الثانية"، "عيسى البابي الحلبي".(15/98)
أن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه فمحاها وكتب ابن عبد الله. قال علماؤنا, رضي الله عنهم: وظاهر هذا أنه -عليه السلام- محا تلك الكلمة التي هي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، وكتب مكانها ابن عبد الله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة، بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده، منهم: السمناني وأبو ذر والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميًّا، ولا معارض بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك} ، ولا بقوله: "إنا أمه أمية لا نكتب ولا نحسب"، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارًا على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب عن غير تعلم لكتابة، ولا تعاط لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها: ابن عبد الله لمن قرأها، فكان ذلك خارقًا للعادة، كما أنه -عليه السلام- عَلِمَ عِلْمَ الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ معجزاته، وأعظم فضائله. ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا؛ لأن تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه -عليه السلام- في الصحيح، لا سيما رمي من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والإمامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها.
قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا أنها مناقضة لآية أخرى، وهي كونه أميًّا لا يكتب، وبكونه أميًّا في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية. وإنما الآية ألا يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضًا. وإنما معنى كتب وأخذ القلم، أي: أمر من يكتب به من كتّابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه -صلى الله عليه وسلم- ستة وعشرون كاتبًا.(15/99)
الثالثة – ذكر القاضي عياض عن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ألق الدواة وحرّف القلم وأقم الباء وفرّق السين، ولا تعوّر الميم، وحسّن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم. فقال القاضي: وهذا وإن لم تصح الرواية أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب، فلا يبعد أن يُرزق علم هذا، ويُمنع القراءة والكتابة.
قلت: هذا هو الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفًا واحدًا، وإنما أمر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجى. فإن قيل: فقد تهجى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر الدجّال، فقال: "مكتوب بين عينيه ك اف ر"، وقلتم: إن المعجزة قائمة في كونه أميًّا، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ، الآية. وقال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب". فكيف هذا؟ فالجواب ما نص -صلى الله عليه وسلم- في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضًا. ففي حديث حذيفة: يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أميًّا. وهذا من أوضح ما يكون جليًا"1.
وقد ذهب "الطبرسي" في تفسيره للآية المذكورة إلى أن الرسول ساوى قومه في المولد والمنشأ، لكنه جاء بما عجز عنه الآخرون من كلام الله والنبوة، فهو أُمي مثلهم. ثم عرض رأي "الشريف المرتضى"، القائل: "هذه الآية تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة، فأما بعد النبوة فالذي نعتقده في ذلك التجويز، لكونه عالمًا بالكتابة والقراءة, والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع على أحد الأمرين. وظاهر الآية يقتضي أن النفي قد تعلق بما قبل النبوة دون ما بعدها؛ ولأن التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوة؛ لأن المبطلين إنما يرتابون في نبوته -صلى الله عليه وسلم- لو كان يحسن الكتابة قبل النبوة. فأما بعد النبوة، فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون قد تعلمها من جبرائيل عليه السلام، بعد النبوة"2.
وتعرض "الجاحظ" لهذا الموضوع أيضًا، فقال نقلًا عن كلام شيخ من
__________
1 الجامع لأحكام القرآن "13/ 351 وما بعدها".
2 الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن "الجزء الثامن من 389".(15/100)
البصريين: "إن الله إنما جعل نبيه أميًّا لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة، لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب، من قيافة الأثر والبشر، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنسان وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء بالقرآن الكريم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله.
وزعم أن الله تعالى لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظًّا من الحاسب الكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبيًّا، وليتولى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى. فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القبائل ليجلي له الكثير"1.
وقد رد "الجاحظ" على كلامه هذا، بقوله: "وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يُرِد إلا الخير. وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه. ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قرض الشعر ورواية جميع النسب، قد كانت فيه تامة وافرة، ومجتمعة كاملة، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا احتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، وإذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره، والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، ما كان ذلك بمانعٍ من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم. ولكنه أراد ألا يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رق، وليكون ذلك أخف في المئونة، وأسهل في المحنة. فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقرض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطلق به، والعادة توأم الطبيعة. فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف. وكانت آلته أوفر وأداته أكمل، إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أرد.
__________
1 البيان والتبيين "4/ 32".(15/101)
وبين أن نضيف إليه العجز، وبين أن نضيف إلية العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له، فرق.
ومن العجب أن صاحب هذه المقالة لم يره -عليه السلام- في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كل مُطيل، وإن قصر القول أتي على غابة كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط وإقامة الشعر، فكيف ذهب ذلك المذهب، والظاهر من أمره -عليه السلام- خلاف ما توهم!؟ "1.
فهذا هو رأي الجاحظ في أمية الرسول.
وأما حديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، فيعارض حديث آخر ينسب إلى الرسول هو: "قريش أهل الله، وهم الكتبة الحسبة"2. "ويقال قريش أهل الله؛ لأنهم كتبة حسبة"3. والقرآن الكريم نفسه، يفند أن قريشًا لم يكونوا يحسنون الكتاب أو الحساب، لما فيه من آيات تناقض هذا الرأي. وفي الحديث، أحاديث كثيرة يجب عدم الأخذ لها؛ لأنها ضعيفة، ويشبه أن يكون الحديث المذكور واحد منها. ومن هذه الأحاديث الضعيفة، حديث: "حق الوالد على ولده أن يعلمه الكتابة والسباحة، والرماية، وأن لا يرزقه إلا طيبًا"، وحديث: "حق الوالد على ولده أن يحسن اسمه، ويزوجه إذا أدرك، ويعلمه الكتاب"4. والحديث المذكور من الأحاديث التي يرجع سندها إلى "أبي هريرة" وفي الأحاديث المنسوبة إليه أحاديث كثيرة يجب عدم الأخذ بها.
ولو أخذنا بالحديث على علاته، وقبلناه دون نقد، كما يفعل كثير من الناس، وجب علينا القول: إن الرسول كان يقرأ ويكتب. ورد: "وذكر صاحب الشرعة أيضًا، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاوية -رضي الله عنه- وهو يكتب بين يديه: "ألقِ الدواة، وحرف القلم، وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم" 5، وأنه قال "لزيد بن ثابت" وهو أحد كتّابه: "إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبيّن
__________
1 البيان والتبيين "4/ 33 وما بعدها".
2 الصولي، أدب الكتاب "28".
3 حكمة الإشراق "67".
4 الجامع الصغير، رقم 3742، و3743، حكمة الإشراق "66 وما بعدها".
5 حكمة الإشراق "67".(15/102)
السين فيه"1، فهل يعقل صدور هذا الوصف، وهذه التسمية للحروف، وهذه المصطلحات من رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب. وقد روى الرواة هذين الحديثين مع تعارضهما لأقوال العلماء، ورووا أيضًا أن "أبا ذر" الغفاري سأل الرسول: "يا رسول الله، كل نبي مرسل بمَ يُرسل؟ قال: بكتاب منزل. قلت: "يا رسول الله، أي كتاب أنزل على آدم؟ قال: اب ت ث ج إلى آخره. قلت: يا رسول الله، كم حرف؟ قال: تسعة وعشرون. قلت: يا رسول الله، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى احمرت عيناه، ثم قال: "يا أبا ذر، والذي بعثني بالحق نبيًّا! ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً". قلت: يا رسول الله، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام: "لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك. من خالف لام ألف، فقد كفر بما أنزل على آدم! ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء مني وأنا بريء منه! ومن لا يؤمن بالحروف، وهي تسعة وعشرون حرفًا لا يخرج من النار أبدًا" 2. وبعد فهل نقبل بحديث من هذا النوع، وكل ما فيه يطعن في صحته!
ويظهر صراحة من الآية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3، أن مرادها من الأميين, ليس الجهل بالكتابة والقراءة, وإنما العرب الذين لم يكن عندهم كتاب منزل من السماء. ودليل ذلك ما أورده "الطبري" في تفسيرها من أقوال وروايات. فقد قال: "والأميون هم العرب", قال "قتادة": " {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} . قال: كان هذا الحي من العرب أمة أمية ليس فيها كتاب يقرءونه فبعث الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رحمة وهدى يهديهم به"، وقال: "كانت هذه الأمة أمية لا يقرءون كتابًا"، وقال: "إنما سميت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الأميين؛ لأنه لم ينزل عليهم كتابًا"، وقوله: " {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} . يقول ويعلمهم
__________
الجامع الصغير "835"، حكمة الإشراق "67".
2 صبح الأعشى "3/ 7".
3 الجمعة, الآية 2.(15/103)
كتاب الله وما فيه من أمر الله ونهيه وشرائع دينه، {وَالْحِكْمَة} يعني بالحكمة السنن". وقال: "ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة أيضًا، كما علم هؤلاء. يزكيهم بالكتاب والأعمال الصالحة ويعلمهم الكتاب والحكمة كما صنع بالأولين"، وقال في تفسير "وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. يقول تعالى ذكره، وقد كان هؤلاء الأميون من قبل أن يبعث الله فيهم رسولًا منهم في جور عن قصد السبيل وأخذ على غير هدى مبين. يقول: يبين لمن تأمله أنه ضلال وجور عن الحق وطريق الرشد"1. وقال "ابن كثير في تفسيرها: "وذلك أن العرب كانوا قديمًا متمسكين بدين إبراهيم الخليل -عليه السلام- فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًّا ... فبعث الله محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه- بشرع عظيم كامل لجميع الخلق، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم"2. وقال "القرطبي": قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب"3. فالأميون إذن هم العرب؛ لأنهم كانوا أهل شرك، وليس لهم كتاب، وليس للفظة صلة بالأمية التي تعني الجهل بالقراءة والكتابة.
وأما حديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا: مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين" 4. وقد نسب سنده إلى "ابن عمر"، فحكمه حكم الحديث السابق، وقد فسر الحساب، بأنه حساب النجوم وتسييرها، لا الجهل بالحساب.
وقد ذهب "شبرنكر" إلى أن الرسول كان يقرأ ويكتب، وأنه قرأ "أساطير الأولين"5، و "شبرنكر" من المستشرقين العاطفيين، الذين يأخذون بالخبر، مهما كان شأنه فيبني حكمًا عليه.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن المقصود من الأميين هنا الوثنيون. وأن الأمية هذه أخذت من اليهود الذين كانوا يطلقون لفظة "امت" و"اميم"
__________
1 تفسير الطبري "28/ 61 وما بعدها".
2 تفسير ابن كثير "4/ 363".
3 الجامع لأحكام القرآن "18/ 91".
4 إرشاد الساري "3/ 359".
5 "Noldeke, I, s. 16, Ency of Islam, Vol. IV, p. 1016.".(15/104)
على غيرهم، يريدون بها الوثنيين. كما في جملة: "امت ها عالولام1" "Ummot ha Olam". وقد أطلق اليهود على الغرباء وعلى كل من هو غير يهودي، "كوي" "Goy" للواحد، و "كويم" "Goyim" للجمع. وتقابل هذه اللفظة لفظة "Gentile" في اللاتينية. ويقال للغريب عنهم "اخريم" "Ahrim" و"Nochrim"، كذلك تمييزًا لهم عن العبرانيين الذين يذهبون إلى أنهم أمة مقدسة مفضلة على العالمين2.
وذهب بعض المستشرقين اليهود إلى أن لفظة "الأميين" معربة من أصل "كوى" و"كوييم" المذكور3.
والذي أراه أن لفظة "أمي" و"أمية" لم تكن تعني عند الجاهليين معنى عدم القراءة والكتابة والجهل بهما. وإنما كانت تعني عندهم: مشركين ووثنيين، وهو المعنى الذي ورد في القرآن الكريم. والذي نعت الرسول فيه بالأمي؛ لأنه من العرب، ومن قوم ليس لهم كتاب، عرفوا بذلك من قبل أهل الكتاب اليهود. أما تفسيرها بالجهل بالكتابة والقراءة، فقد وقع في الإسلام، أخذوه من ظاهر معنى لفظة "الكتاب" الواردة في القرآن، فظنوا أنها تعني "الكتابة" بينما المراد منها الكتاب المُنزل، لعدم انسجام تفسيرها بالكتابة مع معنى الآية، ودليل ذلك أنهم لما فسروا "الأمية" بمعنى عدم القراءة والكتابة حاروا في إيجاد مخرج لهذا التفسير، فقالوا ما قالوه في تفسيرها من أنها سميت بالأمية؛ لأنها على خلقة الأمة؛ أو لأنها على الجبلة والفطرة، وأصل ولادة الأمهات وما شاكل ذلك من تفاسير مضطربة باردة، تخبر أن علماء اللغة لم يجدوا لها أصلًا ووجودًا عند الجاهليين فلجئوا إلى هذه التعليلات4. ولو كانت الأمية معروفة عند أهل الجاهلية بهذا المعنى لاستشهدوا عليها بشعر من أشعار الجاهليين أو المخضرمين، ولما لجئوا إلى هذه التفاسير المتكلفة؛ لأن من عادتهم الاستشهاد بالشعر في تفسير
__________
1 Shorter Ency. P. 74, Horovitz, Koranische Utersuchungen, 1926, S. 51, Buhl-Shaeder, Das Leben Muhammeds, Leipzig, 1930, s. 56, Noldeke, Geschichte des Qorans, I, S. 14.
2 The Universe. Jewish Ency, vol. 4, p. 533.
3 Torrey, The Jewish foundation of Islam, New York, 1933, p. 38, Abram I. Katsh, Judaism in Islam, New York, 1934, p. 75.
4 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".(15/105)
الألفاظ، ولا سيما الألفاظ الغريبة، فعدم استشهادهم بشاهد من شعر أو نثر في تفسير الأمية هو دليل على أن اللفظة بهذا التفسير من الألفاظ التي ولدت في الإسلام، وأنها لم تكن عربية خالصة، وإنما سمعوها من أهل الكتاب.
وعندي أن يهود يثرب هم الذين أطلقوا لفظة "الأميين" على العرب المشركين، على عادتهم حتى هذا اليوم في نعت الغرباء عنهم بألفاظ خاصة مثل "كوييم"، لتمييزهم عن أنفسهم، باعتبارهم "شعب الله المختار" المؤمن بإله إسرائيل.
ومما يؤيد هذا الرأي، أننا نطلق في عربيتنا لفظة "الأمي" على من لا يعرف القراءة والكتابة معًا، بينما نطلق على الشخص الذي يحسن القراءة ولا يحسن الكتابة قارئ، أو قارئة، وذلك لوجود جماعة كانوا يحسنون القراءة، ولكنهم لا يكتبون. ونجد اليوم من النساء من يحسنَّ القراءة ولا يكتبن، ولما نزل الوحي على الرسول: باقرأ، قال الرسول: ما أنا بقارئ، أو لست بقارئ1، ولم يقل: أنا أمي، مما يدل على أن الأمية إنما صارت تعبر عن معنى عدم القراءة والكتابة فيما بعد.
ثم إننا لا نجد في اللغات القديمة لفظة واحدة في معنى "الأمية" التي نستعملها في عربيتنا في الوقت الحاضر، أي: في معنى الجهل بالقراءة والكتابة معًا، وإنما يقال: لا يقرأ أو لا يكتب، أو يجهل القراءة والكتابة، فلا يعقل خروج العربية على هذه القاعدة. واستعمالها الأمية قبل الإسلام مصطلحًا للتعبير عن الجهل بالكتابة والقراءة معًا. ولم أعثر في النصوص الجاهلية على هذه اللفظة أو على لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى.
ولا يعقل أن يكون اليهود أو غيرهم قد أطلقوا الأمية على العرب، بسبب جهل العرب الكتابة والقراءة. فقد كان سواد يهود ونصارى جزيرة العرب أميًّا أيضًا، لا يقرأ ولا يكتب، إلا أن القرآن الكريم أخرجهم من الأميين، واستثناهم، وأطلق عليهم "أهل الكتاب"، وذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد من "الأميين" العرب الذين لهم كتاب، أي: العرب الذين لم يكونوا يهودًا ولا نصارى لا من لا يحسن الكتابة والقراءة. والقرآن الكريم هو الذي هدانا إلى لفظة "الأميين" فلم ترد اللفظة في نص من نصوص الجاهلية وبفضله أيضًا عرفنا مصطلح "أهل الكتاب" دلالة على أهل الديانتين.
__________
1 إمتاع الأسماع "1/ 13"، "ثم قال اقرأ: قلت ما اقرأ"، تفسير الطبري "30/ 161"، تفسير النيسابوري "30/ 125"، "حاشية على تفسير الطبري".(15/106)
وأنا لا أريد أن أثبت هنا أن العرب قاطبة كانت أمة قارئة كاتبة، جماعها يقرأ ويكتب، وأنها كانت ذات مدارس منتشرة في كل مكان من جزيرتهم، تعلم الناس القراءة والكتابة والعلوم الشائعة في ذلك الزمن، فقول مثل هذا هو هراء، ما في ذلك شك، ولا يمكن أن يدعيه أحد ثم إن شيوع القراءة والكتابة بالمعني المفهوم عندنا، لم يكن معروفًا حتى عند أرقى الشعوب إذ ذاك مثل: اليونان والرومان والساسانيين في عالم ذلك العهد. فسواد كل الأمم كان جاهلًا لا يحسن قراءة ولا كتابة، وإنما كانت القراءة والكتابة في الخاصة وفي أصحاب المواهب والقابليات الذين تدفعهم مواهبهم ونفوسهم على التعلم والتثقف وتزعّم الحركة الفكرية بين أبناء جنسهم، ومن هنا كانت كل الأمم أمية من حيث الأكثرية والغالبية، إنما اختلفت في نسبة المتعلمين والمتخصصين والمجتهدين ودرجتهم فيها. وفي هذا تتباين وتختلف أيضًا، فقد كان اليونان والرومان والعالم النصراني في الدرجة الأولى في العهد الذي قارب الإسلام، يليهم الفرس واليهود والهنود. أما العرب, فقد كانوا يتباينون في ذلك أيضًا تباينًا يختلف باختلاف أماكنهم كما سأبين ذلك.
فأهل البوادي، ولا سيما البوادي النائية عن الحواضر، هم أميون ما في ذلك من شك؛ لأن طبيعة البادية في ظروفها المعلومة لا تساعد على تعلم القراءة والكتابة، ولا على ظهور العلوم وتطويرها فيها، غير أننا لا نعني أنهم كانوا جميعًا أميين، لا قارئ بينهم ولا كاتب. فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها مبعثرة في مواضع متناثرة من البوادي، وفي أماكن نائية عن الحضارة. وهي كتابات أعراب ورعاة إبل وبقر وأغنام، دوّنوها تسجيلًا لخاطر، أو للذكرى، أو رسالة لمن قد يأتي بينهم، فيقف على أمرهم، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن أعراب الجاهلية، كانوا أحسن حالًا من أعراب هذا اليوم، فقد كان فيهم الكاتب القارئ، الذي يهتم بتسجيل خواطره، وبإثبات وجوده بتدوينه هذه الكتابات، وأن الأمية المذكورة لم تكن أمية عامة جامعة، بل أمية نسبية، على نحو ما نشاهده اليوم في مجتمعاتنا من غلبة نسبة الأمية على نسبة المتعلمين.
وأما أهل الحواضر، فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، كما كان بينهم الأمي, أي: الجاهل بالقراءة والكتابة. كان منهم من يقرأ ويكتب بالقلم المسند، وكان(15/107)
بينهم من يقرأ ويكتب بالقلم الذي دوّن به القرآن الكريم، فصار القلم الرسمي للإسلام، بفضل تدوين الوحي به، كما كان بينهم من يكتب بقلم النبط وبقلم بني إرم. وكان بينهم من يكتب ويقرأ بقلمين أو أكثر.
وقد سبق أن ذكرنا أن الأحناف كانوا يكتبون ويقرءون، ورأينا بعضًا منهم كان يكتب بأقلام أعجمية، وكان قد وقف على كتب أهل الكتاب، وكانوا أصحاب رأي ومقالة في الدين وفي أحوال قومهم. وذكرت أنهم قالوا عن بعضهم، مثل "ورقة بن نوفل"، أنه كان "يكتب الكتاب العبراني، فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب"1.
وقد ذكر "الهمداني" أن العرب كانت "تسمى كل من قرأ الكتب أو كتب: صابئًا، وكانت قريش تسمي النبي -صلى الله عليه وسلم- أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئًا"2. فالصباة على تفسير "الهمداني"، هم الكتبة وكل من قرأ الكتب، وعلى ذلك يكون الحنفاء في جملة الصباة.
وقد ذكر أهل الأخبار أنه كان لدى "الأكاسرة" ديوان خاص يدون فيه كل ما يخص عرب الحيرة وسائر العرب بالعربي، ويتولى أيضًا ترجمة كل ما يرد إلى الدولة بالعربية إلى الفارسية، ويترجم ما يصدر بالفارسية من الحكومة إلى العرب بالعربية، وأن في جملة من اشتغل في هذا الديوان وقام بالترجمة فيه "زيد العبادي"، أبو الشاعر الشهير "عدي بن زيد العبادي"، وزعم "ابن الكلبي" أن ملوك الحيرة كانوا يملكون دواوين فيها أخبارهم ومقدار مدد حكمهم وما قيل في مدحهم من شعر، وفي خبر صحيفة المتلمس وقراءة أحد غلمان الحيرة للصحيفة التي كان يحملها ما يشير إلى معرفة غلمان أهل الحيرة القراءة والكتابة3. وفي كل هذه الروايات والأخبار تفنيد لزعم من ذهب إلى أن العرب قبل الإسلام كانوا جميعًا في جهالة وأمية.
__________
1 الأغاني "3/ 120".
2 الإكليل "1/ 44".
3 الفهرست "ص12 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 368 وما بعدها" "فأعطى المتلمس كتابه بعض الغلمان فقرأه"، "فإذا أنا بغلام من أهل الحيرة يسقي غنيمة له من نهر الحيرة، فقلت: ياغلام. أتقرأ؟ قال: نعم. قلت: اقرأ" مجمع الأمثال "1/ 412 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 374"، النصرانية وآدابها "1/ 157".(15/108)
بل ورد في روايات أهل الأخبار في ترجمة عدي بن زيد العبادي المذكور: أن كان في الحيرة معلمون، يعلمون الأطفال القراءة والكتابة، يذهبون إلى بيوت الأطفال يعلمونهم إن شاء أهلهم، أو يعلمونهم في الكتاتيب. وقد ورد أيضًا: أن من الكتاتيب ما كانت تعلم بالعربية ومنها ما كانت تعلم بالفارسية. فكان جد عدي بن زيد العبادي مثلًا ممن تعلم في دار أبيه، وخرج من أكتب الناس في يومه "وطلب حتى صار كاتب ملك النعمان الأكبر. وكان أبوه زيد ممن حذق الكتابة والعربية، ثم علم الفارسية. ولما تحرك عدي، وأيفع، طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف مع ابنه، ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية، حتى خرج من أفهم الناس بها، وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب، فخرج مع الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها"1.
وذكر أهل الأخبار أن "لقيط بن يعمر الإيادي" الشاعر كتب صحيفة إلى قومه إياد، يحذرهم من كسرى2. وكان كاتبًا ومترجمًا في قصر كسرى، يكتب من الفارسية إلى العربية ومن العربية إلى الفارسية3، فلما أراد كسرى الانتقام من قومه، كتب إليهم قصيدة في صحيفة، فيها:
سلام في الصحيفة من لقيط
... إلى من بالجزيرة من إياد
وذكر أن "سعد بن ملك" أرسل ابنه "المرقش" الشاعر المعروف وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة، فعلمهما الكتابة، فكانا يكتبان أشعارهما4، وذكر أنه كان يكتب بالحميرية، وأنه كتب أبياتًا بها على خشب رحل "الغفيلي الذي تركه وحده لما مرض، فلما قرءوا الكتابة ضربوا "الغفيلي" حتى أقر5.
وكان جفينة العبادي، وهو من نصارى الحيرة، وظئرًا لسعد بن أبي وقاص،
__________
1 الأغاني "2/ 18 وما بعدها، 101".
2 الأغاني "20/ 23 وما بعدها"، الشعر والشعراء "97 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 112"، "المترجم"، "2/ 101 وما بعدها".
3 البكري, معجم "1/ 52".
4 المفضليات "459 وما بعدها", الأغاني "6/ 130".
5 الشعر والشعراء "1/ 139".(15/109)
كاتباً، قدم المدينة في عهد عمر، وصار يعلم الكتابة فيها. وقد اتهمه "عبيد الله بن عمر" بمشايعة أبي لؤلؤة على قتل أبيه، فقتله وقتل ابنيه1.
ولما نزل "خالد بن الوليد" الأنبار، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا -فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها– فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوه قول الشاعر:
قومي إياد لو أنهم أمم ... أولو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحةُ العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم2
ووجد "خالد بن الوليد" أهل "النقيرة" يعلّمون أولادهم الكتاب في كنيستها. وهي قرية من قرى "عين التمر". ومنها كان "حمران" مولى "عثمان بن عفان"3. ولما فتح "خالد" حصن عين التمر، وغنم ما فيه، "وجد في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم"4، ثم أخرجهم، فقسّمهم في أهل البلاء، فكان منهم نصير، أبو موسى بن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين، وحمران مولى عثمان وغيرهم.
فنحن في العراق أمام مدارس تعلم العربية في القرى وفي الأماكن التي تكون غالبية سكانها من العرب، وتعلمهم أمور دينهم من نظر في الأناجيل وفي الكتب الدينية النصرانية والعلوم اللسانية المعروفة إلى غير ذلك من علوم ومعرفة وثقافة.
وورد في روايات أهل الأخبار أن عددًا من الشعراء الجاهليين كانوا يكتبون ويقرءون. وكان منهم من إذا نظم شعرًا دوّنه ثم ظل يعمل في إصلاحه وتنقيحه وتحكيك ما نظمه إلى أن يرضى عنه. فينشده الناس. وممن كان يكتب ويقرأ
__________
1 الطبري "5/ 42"، ابن سعد، طبقات "3/ 1 ص258"، "ليدن"، البلاذري، فتوح البلدان "460".
2 الطبري "، "3/ 375".
3 البلدان "4/ 807 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 377"، "خبر عين التمر".(15/110)
سويد بن الصامت الأوسي، صاحب مجلة لقمان، والزبرقان بن بدر1، وكعب بن زهير2، وكعب بن مالك الأنصاري3، والربيع بن زياد العبسي، وكان هو وإخوته من الكملة. وقد كتب إلى "النعمان بن المنذر" شعرًا يعتذر إليه فيه4.
وذكر أن أهل "دومة الجندل" كانوا يكتبون ويقرءون، وأن أهل مكة إنما تعلموا الكتابة من أحدهم. وورد أن قومًا من "طيء" تعلموا الكتابة والقراءة من كاتب الوحي لهود. وذكر أن "بشر بن عبد الملك" السكوني، أخو "أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن" السكوني الكندي صاحب دومة الجندل، وكان نصرانيًّا، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، تعلم الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه "سفيان بن أمية بن عبد شمس" و"أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" يكتب فسألاه أن يعلمهما الخط، فعلمهما الهجاء، ثم أراهما الخط، فكتبا. ثم إن بشرًا وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم "غيلان بن سلمة الثقفي"، فتعلم الخط منهم، وفارقهم بشر ومضى إلى ديار مضر، فتعلم الخط منه "عمرو بن زرارة بن عدس" فسمي عمرو الكاتب. ثم أتي بشر الشأم، فتعلم الخط منه ناس هناك5.
وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين: "مرامر بن مرة"، و "أسلم بن سدرة"، و "عامر بن جدرة"، الذين وضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه منهم أهل الأنبار –رجل من طابخة كلب، فعلمه رجلًا من أهل وادي القرى، فأتي الوادي يتردد، فأقام بها، وعلم الخط قومًا من أهلها6.
وقد وصف الشاعر "أبو ذؤيب" الهذلي كاتبًا من اليمن وهو يكتب كتابًا، ولم يكن خط هذا الكاتب بالقلم العربي، قلم أهل مكة، وإنما كان بقلم أهل اليمن وهو المسند. وذلك كما يظهر من تعابير هذا الشاعر الواردة في شعره إذ يقول:
__________
1 الأغاني "2/ 180".
2 الشعر والشعراء "1/ 91".
3 ابن هشام "2/ 87 وما بعدها".
4 الأغاني "16/ 22 وما بعدها"، المرتضى، أمالي "1/ 136".
5 فتوح البلدان "456"، "أمر الخط".
6 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط".(15/111)
عرفتُ الديار كرَقْم الدوا ... ة يزبره الكاتب الحميري
برقم ووشي كما زخرفت ... بميشمها المزدهاة الهدي
أدان وأنبأه الأولو ... ن أن المدان المليُّ الوفيّ
فنمنم في صحف كالريا ... ط فيهن إرث كتاب محيّ1
وهي قصيدة عدتها أربعة عشر بيتًا، ذكر في أولها دروس الديار وطموسها إلى أن رثى ابن عمه "نشيبة" بخمس أبيات من آخرها2.
ويظهر من هذه الأبيات أن ذلك الكاتب الحميري كان يكتب بالحبر الموجود في دواة على شيء يصلح للكتابة عليه كأديم أو قرطاس، ولم يكن يستعمل المزبر المعمول من حديد لنقش الحروف على الحجر. وهذا مما يدل على أن أهل العربية الجنوبية كانوا يكتبون على مواد الكتابة الأخرى بالحبر والقلم، فِعْل أهل مكة وأهل الحيرة ودومة الجندل.
وذكر أهل الأخبار أيضًا، أن رجلين من "بني نهد بن زيد" يقال لهما: "حزن" و"سهل" كانا يكتبان ويقرآن. وكانا قد زارا "الحارث بن مارية" الغساني، وكانا عندهما حديث من أحاديث العرب، ولهما ظرافة وأدب وصحبة، فنزلا منزلًا طيبًا من قلب الحارث، فحسدهما "زهير بن جناب الكلبي" وكان من ندماء الملك، فأراد إفساد مكانهما عنده، فقال له: "هما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك"3. يريد إخباره أنهما كانا يتجسسان عليه فيكتبان بأخباره إلى خصمه "المنذر" الأكبر، ملك الحيرة، جدّ النعمان بن المنذر.
وأما عرب بلاد الشأم، فلم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن علمهم بالكتابة والقراءة، ولكن ذلك لايمكن أن يكون دليلًا على جهلهم بها. ولا سيما أنهم كانوا على اتصال ببني إرم في بلاد الشأم وبعرب بلاد العراق، ثم إنه يجوز أنهم كانوا يكتبون بقلم بني إرم، على عادة معظم شعوب الشرق الأدنى إذ ذاك،
__________
1 ديوان الهذليين "1/ 64".
2 الخزانة "3/ 291"، "بولاق".
3 الأغاني "5/ 118"، "دار الكتب".(15/112)
في الكتابة به؛ لأنه كان قلم العلم والثقافة والأدب في ذلك الحين. ثم إننا سمعنا أن ملوكهم المتنصرين كانوا يرأسون مجالس المناظرات في أمور الدين، ويبحثون مع رجال الدين في موضوعات دينية، ويدافعون عن مذهب اليعاقبة في طبيعة المسيح، ومثل هؤلاء الملوك لا يعقل أن يكونوا جهلة أميين لا يقرءون ولا يكتبون.
وقد سبق أن تحدثت عن الكتابات الصفوية وعن كتابات عربية شمالية أخرى، عثر عليها السياح والمستشرقون في مواضع متعددة من "الصفاة" وفي البوادي، كتبت على صخور وهشيم صخور منثور، دل البحث فيها على أنها كتابات أعراب، كان أصحابها يتنقلون من مكان إلى مكان طلبًا للمرعى والصيد.
وتدل تلك الكتابات الصفوية على أن أعراب الجاهلية كانوا في أيام الجاهلية أحسن حالًا من حيث علمهم بالكتابة والقراءة من أعراب هذا اليوم. فالكتابات الصفوية الكثيرة المبعثرة في البوداي، هي كتابات أعراب، متجولين، كانوا يرعون الإبل وبقية الماشية، فكانوا يسلّون أنفسهم بالكتابة والتصوير على الحجارة، بينما لا نكاد نجد بين أعراب هذا اليوم من يكاد يقرأ ويكتب.
كما تحدثت عن كتابات ثمودية، وثمود قوم من لبّ العرب ومادة العرب البائدة الأولى في عرف النسابين، وتحدثت أيضًا عن القلم المسند بلهجاته ولغاته، فهل يصدق بعد هذا قول من زعم أن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء، لا يقرءون ولا يكتبون.
ولا يعقل أن يكون المذكورون أميين كتبوا للتسلية والتلهية، وأن الأوامر والقوانين التي دوّنها ملوك اليمن قبل الإسلام وأعلنوها للناس بوضعها في المحلات العامة وفي الأماكن البارزة كانت مجرد تدوين أو تزويق وتزيين، لا للإعلان ولإفهام المواطنين بمحتوياتها. إن تدوين تلك الكتابات ووضع الحجارة الفخمة المكتوبة للإعلان، دليل على أن في الناس قومًا يقرءون ويكتبون ويفهمون، وأن الحكومات إنما أمرت بتدوينها لإعلام الناس بمحتوياتها للعمل بها، كما تفعل الحكومات في الوقت الحاضر عند إصدارها أمرًا أو قانونًا بإذاعته بالوسائل المعروفة على الناس للوقوف عليها، وأن من بين الحجارة الصفوية واللحيانية والثمودية المكتوبة، ما هو رسائل وكتب وجهت إلى أشخاص معروفين، كما نفعل اليوم في توجيه الرسائل إلى الأقرباء والأصدقاء.(15/113)
ووجد عند ظهور الإسلام قوم كانوا يكتبون ويقرءون ويطالعون الكتب بمكة ولهم إلمام بكتب أعجمية، ومن هؤلاء "الأحناف" وقد ذكر عن بعض أنهم كانوا يجيدون بعض اللغات الأعجمية، وأنهم وقفوا على كتب اليهود والنصارى وعلى كتب أخرى. وفي معركة "بدر" اشترط الرسول على من أراد فداء نفسه ولم يكن موسرًا من أهل مكة، أن يعلم عشرة نفر من المسلمين القراءة والكتابة، كما كان من عادة أهل مكة تدوين ما يجمعون عليه وما يلزمون أنفسهم به في صحف يختمونها بخواتمهم وبأسمائهم لتكون شواهد على عزمهم كالذي فعلوه في الصحيفة. وذكر أن أمية بن أبي الصلت كان فيمن قرأ الكتب ووقف عليها1، وذكروا غيره أيضًا.
وذكر أهل الأخبار أن قومًا من أهل يثرب من الأوس والخزرج، كانوا يكتبون ويقرءون عند ظهور الإسلام، ذكروا فيهم: سعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان يكتب بالكتابين العربية والعبرية أو السريانية، ورافع بن مالك وأُسيد بن حُضير، ومعنى "معن" بن عدي البلوي، وأبو عبس بن كثير، وأوس بن خولي، وبشير بن سعيد، وسعد بن عُبادة، والربيع بن زياد العبسي، وعبد الرحمن بن جبر، وعبد الله بن أُبي، وسعد بن الربيع، وقد رجعوا أصل علمهم بالكتابة والقراءة إلى قوم من يهود يثرب، مارسوا تعليم الصبيان القراءة والكتابة، دعوهم "بني ماسكة"2. ويظهر -إن صحت هذه الرواية- أن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية أيضًا، وأنهم كانوا يعلمونها للعرب. وتعرض البلاذري لهذا الموضوع فقال: "كان الكتاب في الأوس والخزرج قليلًا، وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون"3. ونجد هذا الخبر في موارد أخرى، أخذته دون أن تشير إلى السند، فظهر وكأنه حقيقة مسلمة وخبر متواتر، حتى جاز على المحدثين، فبنوا عليه حكمًا، هو أن الكتاب كان في يثرب قليلًا، حتى جاء الإسلام،
__________
1 المغارف، لابن قتيبة "ص28".
2 صبح الأعشى "3/ 15".
3 البلاذري، فتوح "479".(15/114)
فانتشر بها، وأنه لو كانت الكتابة منتشرة عندهم، لما كلف الرسول القارئين الكاتبين من أسرى بدر، بأن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة، فداء لنفسه من الأسر1.
ويظهر أن يهود يثرب، وربما بقية يهود، مثل يهود خيبر، وتيماء وفدك ووادي القرى، كانوا يكتبون بقلمهم، كما كانوا يكتبون بالعربية، ويظهر من استعمال "البلاذري" جملة: "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان في بالمدينة في الزمن الأول"2، أن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية، كما كان يكتب بها صبيان المدينة، وكانوا يعلمون الكتابة لصبيان يثرب في مدارسهم. وفي هذا الخبر وأمثاله دلالة على أن الكتابة كانت معروفة بين أهل يثرب أيضًا قبل الإسلام، وأنها كانت قديمة فيهم، ولهذا فلا معنى لزعم من قال: إنها انتشرب بيثرب في الإسلام، وإن الكتابة كانت قليلة بها قبل هذا العهد.
وقصد أهل الأخبار بجملة "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، الكتابة بالخط العربي الشمالي، لا بالقلم المسند؛ لأن هذا هو مرادهم من "الكتاب العربي" و"كتاب العربية"، ويظهر أن اليهود قد تعلموا الخط العربي من عرب العراق وبلاد الشأم، أو من التجار والمبشرين الذين كانوا يفدون إلى الحجاز، وأما القلم المسند، الذي هو قلم العرب الجنوبيين، فلم يكن مستعملًا في يثرب، وإلا لأشير إليه، مع أنها من القواعد المتعصبة للقحطانية، وحاملة الدعوة إلى اليمن قبل الإسلام وفي الإسلام، وأن سلطانه كان قد تقلص كثيرًا خارج العربية الجنوبية قبل نزول الوحي على الرسول، وربما كان القلم العربي الشمالي قد دخل العربية الجنوبية أيضًا قبل الإسلام، فأخذ ينافس المسند فيها، ولا سيما في المناطق التي تركزت فيها النصرانية وتحكمت في أهلها، فأخذ النصارى يقاومون ذلك القلم؛ لأنه قلم الوثنية، ويعلّمون أولاد النصارى القلم العربي الشمالي؛ لأنه قلمهم الذي كانوا يعلمون به في كنائس العرب في العراق وفي دومة الجندل وبلاد الشأم.
وقد أطلق العرب على الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وقيل الحساب
__________
1 ابن سعد، طبقات "الجزء الثاني، القسم الأول"، "14".
2 البلاذري، فتوح "459"، "المكتبة التجارية".(15/115)
أيضاً، والجَلَد أي: الشجاعة، وقول الشعر، وأصحاب الشرف والنسب: الكملة. وجمع بعض أهل الأخبار إلى ذلك استواء القامة وكمال الإنسان1. ومن هؤلاء الكلمة: "سعد بن عبادة بن دليم" سيد الخزرج، وهو من أسرة غنية تطعم الفقراء، ولها أطم يأوي إليه الفقراء للأكل. ولما نزل النبي يثرب، كانت جفنة "سعد" تدور مع النبي، وكان يعشي كل ليلة أهل الصفة2.
ومن الكملة: الربيع بن زياد العبسي. وكان هو وإخوته من الكملة3. و "رافع بن مالك"، و"أسيد بن حضير"، و"عبد الله بن أبي"، و"أوس بن خولى"، و"سويد بن الصامت"، و"حضير الكتائب"4.
ويظهر من النظر إلى قائمة أسماء من أدخلهم أهل الأخبار في الكملة، أن الكتابة والرماية والعوم، لم تكن الشروط الأساسية الكافية، لكي يعد الإنسان كاملًا، فقد توفرت هذه الشروط في أناس آخرين، لم يدخلوا مع ذلك في الكملة، وإنما هنالك أشياء أخرى بالإضافة إلى الأمور المذكورة، هي الشرف وكمال الجسم والعقل والامتناع عن الهجر في الكلام، والتحلي بالحكمة وبالفطانة واللب وقول الشعر المحكم الحكيم.
وكان "عبد الرحمن بن جبر"، أبو عبس الأنصاري، يكتب بالعربية قبل الإسلام. ومات سنة أربع وثلاثين5.
وكان "المنذر"، "منذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان" الخزرجي من الكتبة. وكان أحد السبعين الذين بايعوا الرسول، وأحد النقباء
__________
1 المعارف "259"، الأغاني "3/ 25"، "دار الكتب"، ابن سعد، طبقات "3/ 542".
2 ابن سعد طبقات "3/ 613"، الإصابة "2/ 27"، "رقم 3173"، الاستيعاب "2/ 32 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، أسد الغابة "2/ 378"، ابن الأثير، الكامل، "2/ 378"، ابن هشام "2/ 89".
3 أمالي المرتضى "1/ 136، 190"، الأغاني "16/ 22 وما بعدها".
4 فتوح البلدان "459 وما بعدها"، ابن سعد، طبقات "3/ 542"، الإصابة "1/ 98 وما بعدها"، "رقم334"، تفسير الطبري "4/ 23"، الروض الأنف "1/ 265 وما بعدها"، الأغاني "2/ 164"، ابن هشام، سيرة "1/ 265"، "حاشية على الروض".
5 المعارف "326"، "أبو عيسى"، الإصابة "2/ 386"، "رقم 5097"، "4/ 150"، "رقم880".(15/116)
الاثني عشر. "وكان يكتب في الجاهلية بالعربية"1. قتل يوم بئر معونة.
وكان "أبو جبيرة بن الضحاك" الأنصاري، ممن يكتب. وقد تولى الكتابة للخليفة "عمر"2.
وكان "قيس بن نشبة" عم الشاعر "العباس بن مرداس" السلمي، أو ابن عمه من الكتبة. ذكر أنه كان ممن قرأ الكتب وتأله في الجاهلية. والعباس بن مرداس نفسه كان كاتبًا، ذكر أنه لما سمع أن رجلًا من أهل مكة اشترى إبلًا لقيس بن نشبة فلواه حقه، وأن "قيسًا" قام بمكة يقول:
يا آل فهرٍ كنت في هذا الحرم ... في حرمة البيت وأخلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم
بلغ ذلك "عباس بن مرداس" فكتب إليه أبياتًا منها:
وائتِ البيوت وكن من أهلها مددًا ... تلق ابن حرب وتلق المرء عبّاسًا
فقام العباس بن عبد المطلب وأخذ له بحقه، وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين بني هاشم مودة3.
وفي جملة من كان يكتب ويقرأ من أهل مكة "حرب بن أمية". وإليه ينسب قوم من أهل الأخبار إدخال الكتابة بين قريش. وهو أبو "أبي سفيان بن حرب"، فهو جدّ "معاوية بن أبي سفيان". وورد أن الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة". فهو ناشر الكتابة على هذه الرواية بين أهل مكة4. والاثنان على رأي أهل الأخبار من أقدم كتّاب مكة إذن، بل هما ناشرا الكتابة بها. وقد ذهب "ابن قتيبة" أن "بشر بن عبد الملك العبادي" علم "أبا سفيان بن أمية"، و"أبا قيس بن عبد مناف بن زُهرة"
__________
1 الاستيعاب "3/ 438 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "3/ 440"، "رقم 8226".
2 الجهشياري "16"، الإصابة "4/ 31"، "رقم 188".
3 الإصابة "3/ 249 وما بعدها"، "7244".
4 الفهرست "ص13"، المعارف "73".(15/117)
الكتاب، فعلّما أهل "مكة"1. وقد ذكر "السيوطي" عن "أبي طاهر" السلفي في "الطيوريات" بسنده عن "الشعبي"، أنه "قال: أول العرب الذي كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس". تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار2.
ولو أخذنا برأي من قال: إن "حرب بن أمية" أو "أبو سفيان بن أمية"، هما أول من علم أهل مكة الكتابة، نكون قد جعلنا "بني أمية" أول من أدخل القلم إلى مكة، بفضل تعليم "بشر" لهم هذا القلم. ومنهم انتشر بين أهل مكة في عهد غير بعيد عن أيام النبي.
وذكر أن في جملة من كان يكتب قبل الإسلام "عمرو بن عمرو بن عدس"3.
وذكر "ابن النديم" أن "أسيد بن أبي العيص" كان من كتّاب العرب. وذكر أنه كان في خزانة "المأمون" كتاب بخط "عبد المطلب بن هاشم" في جلد أدم، فيه ذكر حق "عبد المطلب بن هاشم" من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري، من أهل وزل صنعا عليه ألف درهم فضة كيلًا بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه. وكان الخط شبه خط النساء4.
وكان "حنظلة بن أبي سفيان" ممن يحسن الكتابة والقراءة بمكة. فقد ورد في الأخبار أنه كتب من مكة إلى والده "أبو سفيان"، وكان إذ ذاك مع العباس بن عبد المطلب بنجران، يخبره خبر الرسول5. وكان والده يكنى به. وقد قتله "علي بن أبي طالب" يوم "بدر"6.
وكان "بغيض بن عامر بن هاشم" من كتّاب قريش قبل الإسلام. وهو الذي كتب الصحيفة على بني هاشم7. وورد أن "أبا الروم بن عبد شرحبيل" واسمه "منصور بن عكرمة" هو الذي كتب الصحيفة8.
__________
1 المعارف "553".
2 المزهر "2/ 342".
3 المزهر "2/ 351"، "النوع الثاني والأربعون: معرفة الكتابة".
4 الفهرست "13 وما بعدها".
5 الأغاني "6/ 250"، "دار الكتب".
6 نسب قريش "123".
7 كتاب نسب قريش "254".
8 كتاب نسب قريش "255"، الروض الأنف "1/ 219".(15/118)
وكان "الوليد بن الوليد" وهو أخو "خالد بن الوليد" ممن يكتب ويقرأ، وكان "خالد" ممن يقرأ ويكتب كذلك. وكان الوليد سبب إسلام "خالد". فقد كان قد فر من مكة ولحق بالرسول عمرة القضيّة، وكتب إلى أخيه خالد، أن الرسول قال له: "لو أتانا، لأكرمناه، وما مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فوقع الإسلام في قلب خالد. وكان سبب هجرته1.
وكان "نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف بن قصي" القرشي ممن يكتب. أسلم يوم الفتح. وهو الذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب2، أو المصحف له. وذكر أنه كان يكتب المصاحف، وأنه كتب المصاحف لعثمان3، فيظهر أنه كان من نسّاخ المصاحف، ينسخها للناس.
وكان "حاطب بن أبي بلتعة" من الكتّاب. وكان حليفًا لبني أسد بن عبد العُزى، ويقال: حالف الزبير، وقيل: مولى "عبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد". وهو الذي كتب كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله إليهم، فنزلت فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} 4.
وقد شهد مع علي بن أبي طالب على كتاب رسول الله لسلمة بن مالك السلمي، الذي كتب الرسول به إقطاعه ما بين ذات الحناظى إلى ذات الأساود5.
وكان الحكم بن أبي أحيحة سعيد بن العاصي، وهو الذي سمّاه رسول الله "عبد الله" من أولئك الذين أمرهم الرسول أن يعلم الكتاب بالمدينة. وكان كاتبًا قتل يوم "مؤتة"6.
يقول أهل الأخبار: ولما نزل الوحي كان "في قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وطلحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو العامري من قريش،
__________
1 نسب قريش "324".
2 الاستيعاب "3/ 510"، "حاشية على الإصابة".
3 الإصابة "3/ 515"، "رقم 8658".
4 الإصابة "1/ 299"، "رقم 1538"، المقريزي، إمتاع "1/ 362".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 285".
6 نسب قريش "174".(15/119)
وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية، وخالد بن سعيد أخوه، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، ومن حلفاء قريش: العلاء الحضرمي"1.
ولكننا لو أحصينا أسماء من كان يكتب من أهل مكة، ممن نص أهل الأخبار على أسمائهم، وممن لم ينصوا على اسمهم، وإنما ذكروهم عرضًا في أثناء كلامهم عنهم فذكروا أنهم كانوا يكتبون ويقرءون، لوجدنا أن عددهم أكثر بكثير من هذا الرقم المذكور، رقم سبعة عشر كاتبًا، أو بضعة عشر نفرًا2، وهو عدد ورد إليهم على ما يظهر من خبر آحاد، انتشر في الكتب، فصار متواترًا منتشرًا حتى في كتب المؤلفين في هذا اليوم، اتخذوه دليلًا على أمية العرب قبل الإسلام.
وقد استعان الرسول بقوم كتبوا له، أشار العلماء إلى أسمائهم. منهم من كتب له الوحي، فعرفوا من ثم بـ"كتّاب الوحي". ومنهم من كتب له بريده ورسائله، ومنهم من تولى له تدوين المغانم وأمور الزكاة والخرص والصدقة وما إلى ذلك من أمور اقتضاها تطور الظروف والأحوال، ومنهم مثل "زيد بن ثابت" من كتب له بالعربية وبالعبرانية أو السريانية. وذكر أن بعضهم كان مثل زيد يكتب بغير العربية أيضًا. وكان ممن كتب له: "على بن أبى طالب"، و"عثمان بن عفان"، و"معاوية بن أبى سفيان"، و"حنظلة الأسيدي"، و"خالد بن سعيد بن العاص"، و"أبان بن سعيد"، و "العلاء بن الحضرمي"، و"عبد الله بن أبي سرح3".
وروي أن "أول من كتب له أُبي بن كعب، وكان إذا غاب أُبى كتب له زيد بن ثابت"، وكان يكتب في الجاهلية4.
__________
1 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط".
2 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط"، العقد الفريد "4/ 242".
3 الطبري "3/ 173" "ذكر من كان يكتب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم"، التنبيه والإشراف" 245 وما بعدها "، الوزراء والكتاب "12 وما بعدها"، العقد الفريد "4/ 246".
4 الطبري "3/ 173"، "دار المعارف"، المعارف "112 وما بعدها".(15/120)
وجاء في ترجمة أنس بن مالك: أن أمه جاءت به يوم قدم الرسول يثرب وقالت له: "يا رسول الله، هذا ابني وهو غلام كاتب"1. ومعنى هذا أن غلمان يثرب كانوا يقرءون ويكتبون.
وقد ورد في أخبار "بدر" أنه كان في أسرى قريش قوم يقرءون ويكتبون، وقد أمر رسول الله بفك رقاب هؤلاء الأسرى على أن يكون فداؤهم تعليم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة2. وقد علم كل واحد منهم صبيان يثرب الكتابة فانتشرت الكتابة بينهم3.
وذكر أن ممن كتب لرسول الله: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبى سفيان، وجهيم بن الصلت، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن الأرقم الزهري. وذكر أن عدد من كتب للرسول ثلاثة وأربعون كتابًا4.
وأول من كتب للنبي من قريش "عبد الله بن سعد بن أبي سرح"، وأول من كتب له مقدمه المدينة "أُبي بن كعب" وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان. وهو من كتاب الوحي والرسائل. وقد كان "عبد الله بن الأرقم الزهري" من كتاب الرسائل للرسول، وأما الكاتب لعهوده إذا عهد وصلحه إذا صالح، فعلي بن أبى طالب5. وقد وردت في أواخر بعض كتب الرسول أسماء كتاب تلك الكتب.
وفي طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر بتدوينه رسول الله لنهشل بن مالك الوائلي من باهلة، كتبه "عثمان بن عفان".
__________
1 ابن سعد، الطبقات الكبرى "7/ 10".
2 طبقات "2/ 1 ص14 ".
3 إمتاع الأسماع "1/ 101 ".
4 الاستيعاب "1/ 30 "، "حاشية علىالإصابة "، الجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب "12 وما بعدها "، العقد الفريد "4/ 246".
5 الاستيعاب "1/ 30"، الجهشياري، "13".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 284".(15/121)
وكان "علي بن أبي طالب" من كتّاب الوحي، والكاتب لعهود الرسول إذا عهد، وصلحه إذا صالح1. ذكر أنه تعلم الكتابة وهو صغير، ابن أربع عشرة سنة، تعلمها في "الكتاب"2.
وكان من كتّاب رسول الله الذين كتبوا له الرسائل إلى سادات القبائل يدعوهم فيها إلى الإسلام: خالد بن سعيد بن العاص3، والمغيرة بن شعبة4، ومعاوية5، وعبد الله بن زيد6، وأُبي بن كعب7، وعلي8. وجهيم بن الصلت9، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي10، والزبير بن العوام11، والعلاء بن الحضرمي12، وعقبة13، والعلاء بن عقبة14، وعثمان بن عفّان15، ومحمد بن مسلمة الأنصاري16، وثابت بن قيس بن شماس17.
وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، من كتاب الرسول، وقد كان أول مرتد في الإسلام. ارتد وكان قد خالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتبًا، فهرب، فلما كان يوم "الفتح" التجأ18 إلى "عثمان" أخوه من الرضاعة فأجاره، واستجار له "عثمان" عند النبي فأجاره له. وقد عينه "عثمان" عاملًا على مصر، وافتتح إفريقية، ومات سنة ست وثلاثين،
__________
1 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة".
2 الفصول المختارة، للمفيد "2/ 66"، "النجف".
3 ابن سعد، الطبقات "1/ 265، 271".
4 ابن سعد، الطبقات "1/ 266، 268".
5 ابن سعد، الطبقات "1/ 266، 267".
6 ابن سعد، الطبقات "1/ 267".
7 ابن سعد، الطبقات "1/ 267، 278".
8 ابن سعد، الطبقات "1/ 267".
9 ابن سعد، الطبقات "1/ 268"، الإصابة "1/ 257"، "1256".
10 ابن سعد، الطبقات "1/ 268، 269".
11 ابن سعد، الطبقات "1/ 269".
12 ابن سعد، الطبقات "1/ 269، 271".
13 ابن سعد، الطبقات "1/ 271".
14 ابن سعد، الطبقات "1/ 271، 273".
15 ابن سعد، الطبقات "1/ 284".
16 ابن سعد، الطبقات "1/ 286".
17 ابن سعد، الطبقات "1/ 286".
18 رسائل الجاحظ "2/ 188".(15/122)
أو سبع وخمسين، أو تسع وخمسين1. وروي أنه كان أول من كتب له من قريش2.
وهناك رواية يرجع سندها إلى "أنس بن مالك"، تذكر أن "رجلًا كان يكتب لرسول -الله صلى الله عليه وسلم- فكان إذا أملى عليه سميعًا عليمًا، كتب سميعًا بصيرًا. وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان من قرأهما قرأ قرآنًا كثيراً، فتنصر الرجل، وقال إنما كنت أكتب ما شئت عند محمد.. قال: فمات"3. ولا نعرف كاتبًا ينطبق عليه هذا الوصف سوى "عبد الله بن سعد بن أبى سرح". فهو المراد بهذه القصة. وهي قصة لا يمكن أن تكون صحيحة؛ لأن ارتداد "عبد الله" إنما كان بمكة، فدليل النص عليه في سورة الأنعام4، وهي سورة مكية، فكيف يكون قد قرأ سورة البقرة وآل عمران، ثم تنصر، وهما سورتان مدنيتان.
وفي "عبد الله" نزلت الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ، أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل الذي أنزل الله"5، على رأي أكثر المفسرين. "كان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكان فيما يملي عزيز حكيم، فيكتب غفور رحيم، فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول نعم سواء. فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوّله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء. ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة". وورد في رواية أخرى: "وكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا أملى عليه سميعًا عليمًا، كتب هو عليمًا حكيمًا، وإذا قال عليمًا حكيمًا، كتب سميعًا عليمًا، فشك وكفر. وقال: إن كان محمد يوحى إليه، فقد أوحي إلي وإن كان الله ينزله، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. قال محمد: سميعًا عليمًا. فقلت أنا: عليمًا حكيمًا.
__________
1 الإصابة "2/ 309"، "رقم 4711".
2 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة"، البلاذري، أنساب "1/ 358"، الجهشياري "13".
3 السجستاني، المصاحف "3".
4 أسباب النزول "165".
5 الأنعام، الآية 93.(15/123)
فلحق بالمشركين، ووشى بعمّار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار، فأخذوهم فعذّبوا"1.
وورد في رواية أخرى: "كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم يكتب له شيئًا، فلما نزلت الآية التي فى المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} . أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًاآخَرَ} ، عجب عبد الله في تفصيل الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت عليّ، فشك عبد الله حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقًا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبًا، لقد قلت كما قال. وذلك قوله: ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. وارتد عن الإسلام"2.
وورد أنه كان يقول: كنت أصرف محمدًا حيث أريد. كان يملي عليّ. عزيز حكيم، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم كلٌّ صواب. فهدر النبي دمه3. وذكر أنه "قال لقريش: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد. وكان يملي عليه الظالمين، فيكتب: الكافرين، يملي عليه سميع عليم، فيكتب: غفور رحيم وأشباه ذلك. فأنزل الله: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا، أو قال أوحي إليّ، ولم يوح إليه شيء. ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. فلما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله بقتله، فكلمه فيه عثمان بن عفان، فأمر رسول الله بتركه4.
وقد ذكر "الجاحظ" أنه "كتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخالف في كتابة إملائه. فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتبًا، فهرب حتى مات بجزيرة العرب كافرًا5". والصحيح أنه هرب، فلما كان يوم الفتح أمن النبى الناس إلا أربعة نفر وامرأتين. عكرمة، وابن خطل، ومقيس بن صبابة، وابن أبى سرح، فأما عبد الله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى
__________
1 تفسير الطبري "7/ 180 وما بعدها".
2 أسباب النزول "165".
3 المعارف "130 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 393".
4 فتوح البلدان "459"، "أمر الخط"، المعارف "300 وما بعدها".
5 ذم أخلاق الكتاب، رسائل الجاحظ "2/ 188".(15/124)
أوقفه على النبي، وهو يبايع الناس، فاستجار له عثمان، فأجاره. وعاش وشهد فتح مصر مع "عمرو بن العاص"، وأمَّره "عثمان" على مصر. واختلف في وفاته، فقيل مات سنة "36هـ" وقيل عاش إلى سنة تسع وخمسين. وكان أخًا لعثمان في الرضاعة1.
وكان "جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي"، ممن تعلم الخط في الجاهلية، فجاء الإسلام وهو يكتب، وقد كان كتب لرسول الله2. ذكر أنه كان هو و"الزبير بن العوّام" يكتبان أموال الصدقات3. وهو الذي كتب كتاب الرسول إلى "يحنة بن رؤبة" بتبوك، وكتابه ليزيد بن الطفيل الحارثي4.
وذكر اسم "الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي" في جملة من كتب للرسول. ففي طبقات ابن سعد، أنه كتب له كتابه لعبد يغوث بن وعلة الحارثي5، وكتابه لعاصم بن الحارث الحارثي6، وكتابه للأجب، رجل من "بني سُليم"7. وكان اسمه "عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم"، ويكنى "أبا عبد الله". كان من السابقين الأولين، قيل أسلم بعد عشرة، وقيل قبل ذلك. وكان رسول الله يجلس في داره التي على "الصفا"، حتى تكاملوا أربعين رجلًا، وكان آخرهم إسلامًا "عمر" فلما تكاملوا أربعين رجلًا خرجوا، وأقطعه النبي دارًا بالمدينة8.
و"عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم" من كتاب الرسول كذلك. كان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك
__________
1 الإصابة "2/ 309"، "رقم4711"، أسد الغابة "3/ 173"، الاستيعاب "1/ 381".
2 الإصابة "1/ 257"، "رقم1256"، فتوح البلدان "459"، "أمر الخط". الاستيعاب "1/ 249"، "حاشية على الإصابة".
3 المسعودي، التنبية "245"، "كتاب من حضر من الكتاب".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 268".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 268".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 269".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 273 وما بعدها".
8 الإصابة "1/ 42 وما بعدها"، "رقم 73".(15/125)
فيكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده. "قال عمر: كتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاب. فقال لعبد الله بن الأرقم الزهري: أجب هؤلاء عني. فأخذ عبد الله الكتاب فأجابهم، ثم جاء به، فعرضه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أصبت. قال عمر: فقلت: رضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم وآله وسلم- بما كتبت، فما زالت في نفسي يعني حتى جعلته على بيت المال"1. وكتب لأبي بكر وعمر، وكان على بيت المال أيام عمر، وكان أميرًا عنده. وذكر أنه كان إذا غاب عن الرسول، وغاب زيد بن ثابت، واحتاج الرسول أن يكتب إلى أحد أمر من حضر أن يكتب. فمن هؤلاء عمر وعلي وخالد بن سعيد والمغيرة2.
وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث الزهري، والعلاء بن عقبة، يكتبان بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات3. وذكر أن "عبد الله بن الأرقم" الزهري، كان من المواظبين على كتابة الرسائل عن النبي4.
وكان "حنظلة بن الربيع بن صيفي" الأسيدي، من كتاب الرسول، وقد نعته الطبري بـ"كاتب النبي"5. وعرف بـ"الكاتب". وهو من "بني أسيد"، وبنو أسيد من أشراف تميم. وهو ابن أخي "أكثم بن صيفي"حكيم العرب6. وقد عرف بـ"حنظلة الكاتب"7. وذكر أنه كان "خليفة كل كاتب من كتّاب النبي، إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه، وقال له: الزمني، وأذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة أيام إلا أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه". ومات بمدينة الرها8.
__________
1 الإصابة "2/ 265"، "رقم 4525"، نزهة الجليس "2/ 65".
2 الإصابة "2/ 265"، "رقم 4525".
3 المسعودي، التنبيه "245".
4 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة".
5 الطبري "3/ 570" "دار المعارف"، المعارف "299 وما بعدها".
6 الاستيعاب "1/ 278"، "حاشية على الإصابة".
7 فتوح البلدان "459"،الإصابة "1/ 359"، "رقم 1859".
8 الجهشياري "13".(15/126)
ومن كتّاب الرسول: "شرحبيل بن حسنة" الطابخي. ويقال الكندي1، ويقال التميمي2. وهو ممن سيره "أبو بكر" في فتوح الشأم. وكان أميرًا على ربع من أرباع الشأم لعمر بن الخطاب، وقد مات في طاعون "عمواس".
وكان "خالد بن سعيد بن العاص" "خالد بن سعيد بن العاصي" ممن كتب للرسول. كتب له كتابه إلى "بني عمرو بن حمير"3. وهو من السابقين الأولين. وقد استعمله الرسول على صدقات مذحج4 وعلى صنعاء، فلم يزل عليها إلى أن مات رسول الله5. وكان له إخوة هما: أبان وعمرو بن سعيد بن العاص، وكانا ممن عملا للرسول. فلما توفي الرسول، رجعا مع خالد عن أعمالهم، فخرجوا إلى الشأم6، وفي جملة ما كتبه خالد، كتاب الرسول لبني أسد7، وكتابه للعدّاء بن خالد بن هوذة ومن تبعه من عامر بن عكرمة8، وكتابه لراشد بن عبد السلمي، وكتابه لحرام بن عبد عوف من "بني سُليم"9، وكتابه لبني غاديا، وهم قوم من يهود، وكتابه لبني عريض، قوم من يهود10، وكتابه لثقيف11، وكتابه لسعيد بن سفيان الرعليّ12.
وكان "أبان بن سعيد بن العاص" "العاصي"، وهو أخو خالد، ممن أسلم بعد هجرة الرسول إلى يثرب. ويقال أيام خيبر. وكان هو الذي تولى إملاء مصحف عثمان على زيد بن ثابت، يوم جمعه في خلافة عثمان، أمرهما بذلك عثمان. وذلك في رواية من جعله حيًّا إلى أيام الخليفة "عثمان". وزعم في
__________
1 فتوح البلدان "459"، "أمر الخط".
2 الإصابة "2/ 141"، "رقم 3869"، الاستيعاب "2/ 138 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 265"، الجهشياري "12".
4 الإصابة "1/ 406"، "رقم 2167"، الاستيعاب "1/ 398 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
5 الاستيعاب "1/ 400"، "حاشية على الإصابة".
6 الإصابة "2/ 532"، "رقم 5848"، الاستيعاب "1/ 400".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 270".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 273".
9 ابن سعد، طبقات "1/ 274".
10 ابن سعد، طبقات "1/ 279".
11 ابن سعد، طبقات "1/ 284".
12 ابن سعد، طبقات "1/ 285".(15/127)
روايات أخرى أنه قتل يوم أجنادين سنة ثلاث عشرة، أو يوم اليرموك. وقيل قتل يوم مرج الصفر. وذكر في رواية أنه توفي سنة سبع وعشرين في خلافة عثمان1.
وكان "طلحة" من الكتبة2. وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى. وكان تاجرًا، وكان عند وقعة بدر في تجارة في الشأم. ولما قدم المدينة آخى النبي بينه والزبير3. وذكر أنه آخى بينه وبين "كعب بن مالك" حين آخى بين المهاجرين والأنصار. وكان من الأغنياء، كانت غلته ألفًا وافيًا كل يوم. والوافي وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية4.
والزبير بن العوّام في جملة من كتب للرسول. كتب له كتابه لبني معاوية بن جرول الطائيين5.
و"أبو عبيدة بن الجراح"، من هذه الجماعة الكاتبة القارئة. وهو من الأوائل الذين دخلوا في الإسلام، كان إسلامه قبل دخول النبي دار "الأرقم"، وقد آخى الرسول بينه وبين "سعيد بن معاذ"6.
و"العلاء بن الحضرمي"، وهو "عبد الله بن عماد"، وكان أبوه قد سكن مكة وحالف حرب بن أمية، وكان للعلاء عدة إخوة منهم: "عمرو بن الحضرمي"، وهو أول قتيل من المشركين وماله أول مال خمس في المسلمين، وبسببه كانت وقعة بدر. وقد استعمل النبي "العلاء" على البحرين7. وهو الذي كتب للرسول كتابه لبني معن الطائيين8، وكتابه لأسلم من خزاعة9. وكان
__________
1 الإصابة "1/ 24"، "رقم2".
2 المزهر "2/ 351".
3 الإصابة "2/ 220"، "رقم 4266".
4 الاستيعاب "2/ 210 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 269".
6 الإصابة "2/ 243"، "رقم 4400"، الاستيعاب "3/ 2"، "حاشية على الإصابة".
7 الإصابة "2/ 491"، "رقم 5644".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 269"، "صادر".
9 ابن سعد، طبقات "1/ 271".(15/128)
أخوه "ميمون بن الحضرمي" صاحب بئر "ميمون" التي بأبطح مكة، احتفرها في الجاهلية. وذكر "المسعودي" أن العلاء ربما كتب بين يدي النبي مع "أبان بن سعيد"1.
و"يزيد بن أبي سفيان" أخو "معاوية" من الكتاب كذلك توفي سنة "18" أو "19" للهجرة2. وهو ممن أسلم يوم الفتح. وقد كان عمر قد استخلفه على "الشأم" بعد وفاة "معاذ"، فلما مات استخلف أخاه "معاوية"3.
وكان "معاوية بن أبي سفيان" من كتبة الرسول. وذكر أنه كان "من الكتبة الحسبة الفصحاء"4. ومعنى هذا أنه كان يتقن الكتابة والحساب. ولم يذكر من ذكر سيرته متى تعلم الكتابة. ولا أستبعد أن يكون قد تعلمها بمكة قبل دخوله في الإسلام. وهو ممن ولد قبل الإسلام وأسلم عام الفتح. فتكون كتابته للرسول إذن بعد هذا العام. ومن كتبه التي كتبها للرسول كتابه لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي5، وكتابه لبني قرة بن عبد الله بن أبي نجيح النبهانيين6، وكتابه لعتبة بن فرقد7، وكتابه لوائل بن حجر لما أراد الشخوص إلى بلاده8.
وذكر "المسعودي" أن "معاوية" كتب للرسول قبل وفاته بأشهر9.
و"المغيرة بن شعبة" من دهاة العرب وشياطينهم. أسلم قبل عمرة الحديبية. وكان يقال له "مغيرة الرأي". وكان رسول "سعد" إلى "رستم"، أصيبت عينه باليرموك، وروي أنه كان أول من وضع ديوان البصرة، وأول من سلم
__________
1 التنبيه "246".
2 الإصابة "3/ 619"، "رقم 9267".
3 الاستيعاب "3/ 612"، "حاشية على الإصابة".
4 الإصابة "3/ 412 وما بعدها"، "رقم 8070" الاستيعاب "3/ 375 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الجهشياري "12".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 266".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 267".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 285".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 287".
9 المسعودي، التنبيه "246".(15/129)
عليه بالإمرة1. وهو الذي كتب كتاب رسول الله إلى أهل نجران2. وكتابه ليزيد بن المحجل الحارثي. وكتابه لبني قنان بن ثعلبة من بني الحارث3، وكتابه لبني جُوين الطائيين، وكتابه لعامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي4، وكتابه لبني الجُرمز بن ربيعة، وهم من جهينة5. وذكر أنه والحصين بن نمير كانا يكتبان ما بين الناس6.
و"معيقيب" ابن أبي فاطمة، من "ذي أصبح" وقيل من "بني سدوس". وكان حليفًا لبني عبد شمس. أسلم بمكة. وقد ولاه "عمر" بيت المال، ثم كان على خاتم "عثمان"7. وورد أنه كان حليف بني أسد، وكان يكتب مغانم رسول الله8.
وكان "عقبة بن عامر بن عبس" الجهني الصحابي المشهور من الكتاب. وصف بأنه "كان قارئًا عالمًا بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرًا كاتبًا، وهو أحد من جمع القرآن". وعثر على مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف "عثمان" "وفي آخره: كتبه عقبة بن عامر بيده"9. ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر الرسول بكتابته لعوسجة بن حرملة الجهني في آخره: "وكتب عقبة وشهد"10.
وجاء في خبر ضعيف أنه كان للرسول كاتب يقال له "السجل"، وكاتبًا يقال له: "ابن خطل، يكتب قدام النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا نزل: غفور رحيم، كتب رحيم غفور، وإذا نزل: سميع عليم، كتب عليم سميع. وفيه: فقال ابن خطل: ما كنت أكتب إلا ما أريد، ثم كفر ولحق بمكة.
__________
1 الإصابة "3/ 432"، "رقم 8181".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 266"، "صادر".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 268"، "صادر".
4 الطبقات "1/ 269"، "صادر".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 271".
6 الجهشياري "12".
7 الإصابة "3/ 430"، "رقم 8166".
8 الجهشياري "12".
9 الإصابة "2/ 482"، "رقم 5603".
10 ابن سعد، طبقات "1/ 271".(15/130)
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من قتل ابن خطل، فهو في الجنة". فقتل يوم الفتح وهو متعلق بأستار الكعبة"1. وهذا وهم، وقد خلط صاحب هذا الخبر بين "عبد الله بن أبي سرح" وبين "ابن خطل" الذي لم يرد في الأخبار أنه كتب للرسول.
وذكر "ابن دحية" أن في "بني النجار" كاتبًا كان يكتب الوحي للرسول ثم تنصر2. وهو خبر لا نجده في الموارد الأخرى، ولم ينص على اسم الكاتب، والأغلب في نظري أنه من الأخبار الموضوعة، وضع على بني النجار للإساءة إليهم، وضعه من كان يتحامل عليهم.
ويظهر أن كتّاب الرسول قد وزعوا الأعمال الكتابية فيما بينهم، أو أن الرسول هو الذي وزع تلك الأعمال عليهم، بحيث خصص كل واحد منهم بعمل من الأعمال. فقد روي أن عليًّا وعثمان كانا يكتبان الوحي فإن غابا كتب أُبي بن كعب وزيد بن ثابت. وأن خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية يكتبان بين يديه في حوائجه، وأن المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان ما بين الناس. وأن عبد الله بن الأرقم والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وأن زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي. وأن معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي يكتب مغانم رسول الله. وأن حنظلة بن الربيع "ربيعة" بن المدقع بن أخي أكثم بن صيفي الأسدي "الأسيدي"، خليفة كل كاتب من كتّاب النبي، إذا غاب عن عمله فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه. وقال له: الزمني وأذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة أيام أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه3. فهو كاتب عام يكتب للرسول في كل أموره، وهو خليفة كل الكتّاب. ولهذا غلبت عليه لفظة "الكاتب". وقد كانت وفاته في خلافة "عمر"، ومات في "الرها" من بلاد مضر4.
__________
1 ابن سيد الناس، عيون الأثر "2/ 316".
2 ابن سيد الناس، عيون الأثر "2/ 316".
3 الجهشياري "12 وما بعدها"، المسعودي، التنبيه "245"، المعارف "130".
4 المسعودي، التنبيه "246"، المعارف "130".(15/131)
وذكر أن "المغيرة بن شعبة" و"الحصين بن نمير" يكتبان أيضًا فيما يعرض من حوائجه1.
و"حذيفة بن اليمان" "توفي سنة 36هـ" ممن يكتب خرص النخل2. وخصص "المسعودي" عمله بخرص الحجاز3.
وذكر "عبد الله بن زيد" الضمري في جملة كتّاب رسول الله إلى الملوك4. ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أرسله رسول الله "لمن أسلم من حدَسٍ من لحم"، كتبه له "عبد الله بن زيد"5.
وكان "العلاء بن عقبة" فيمن كتب للنبي. وذكر أن الرسول كان يبعثه والأرقم في دور الأنصار. وكانا يكتبان بين الناس المداينات والعهود والمعاملات6. وفي جملة ما كتبه للرسول كتابه لبني شَنْخ من جهينة7، وكتابه للعباس بن مرداس السلمي، أنه أعطاه "مدفوًا"8. وذكر أنهما كانا يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء9.
و"أُبي بن كعب بن قيس" من كتّاب الوحي، وهو من يثرب من "بني النجار" من الخزرج. وقد عرف بـ"سيد القراء"، وكان أقرأ الناس للقرآن. وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله. وكان ممن كتب للنبي قبل "زيد بن ثابت" ومعه أيضًا. وذكر أنه كان أول من كتب لرسول الله مقدمه المدينة، وأول من كتب في آخر الكتاب: "وكتب فلان" وكان إذا لم يحضر دعا رسول الله "زيد بن ثابت" فكتب. وكان وزيد يكتبان الوحي
__________
1 المسعودي، التنبيه "245"، نهاية الأرب "18/ 236 وما بعدها".
2 المعارف "114"، نهاية الأرب "18/ 236".
3 المسعودي، التنبيه "245".
4 الإصابة "2/ 305"، "رقم 4690".
5 الطبقات "1/ 266 وما بعدها".
6 الإصابة "2/ 491 وما بعدها"، "رقم 5649".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 271".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 273".
9 الجهشياري "12".(15/132)
بين يدي الرسول، ويكتبان كتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك1. ونجد في طبقات ابن سعد، صور كتب دوّنها أُبي للرسول، منها كتابه لخالد بن ضماد الأزدي، وكتابه لعمرو بن حزم، وهو عهد يعلمه فيه شرائع الإسلام وفرائضه وحدوده، حيث بعثه إلى اليمن2، ومنها كتابه لجنادة الأزدي3، وكتابه للمنذر ابن ساوى، وكتابه إلى "العلاء بن الحضرمي"، بشأن إرسال ما تجمع عنده من الصدقة والعشور4، وكتابه لجمّاع في جبل تهامة, كانوا قد غصبوا المارة من كنانة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد5، وكتابه لبارق من الأزد. وقد شهد على صحته أبو عبيدة بن الجراح وحذيفة بن اليمان6.
وزيد بن ثابت من الأنصار، من "بني النجار". ولما قدم الرسول المدينة استكتبه، فكتب له الوحي، كما تولى له أمر كتابة الرسائل. ذكر أنه تعلم الكتابة على أسرى "بدر" في جماعة من غلمان الأنصار. فقد "كان فداء الأسرى من أهل بدر أربعين أوقية أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علّم عشرة من المسلمين، فكان زيد بن ثابت ممن عُلّم". وذكر أنه جاء إلى أبيه وهو يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدًا7.
وروي أنه في السنة الرابعة من الهجرة أمر الرسول زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود، وقال: لا آمن أن يبدّلوا كتابي8. فتعلم كتابهم، وتولى أمر كتابة رسائل الرسول إليهم، والرد على رسائلهم9. ونسب إليه إتقانه الكتابة بلغات أخرى. ذكر المسعودي منها: الفارسية والرومية والقبطية والحبشية. وأنه تعلم
__________
1 الاستيعاب "1/ 27 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "1/ 31". "رقم 32"، فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 267"، المعارف "261".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 270".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 276".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 278".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 286 وما بعدها".
7 إمتاع الأسماع "1/ 101"، الطبقات "2/ 14"، الجهشياري "12".
8 إمتاع الأسماع "1/ 187، 194"، السجستاني، المصاحف "3".
9 فتوح البلدان "473 وما بعدها".(15/133)
ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وكان يكتب إلى الملوك ويجيب بحضرة النبي ويترجم له1 وقيل: إنه كان من أعلم الصحابة بالفرائض2. وكان هو الذي تولى قسم غنائم اليرموك. وتولى جمع القرآن في أيام أبي بكر، بتكليف من الخليفة. وذكر أنه كان "رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض"3. وقد عرض زيد القرآن على رسول الله، "وكان آخر عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم_ القرآن على مصحفه، وهو أقرب المصاحف إلى مصحفنا"4.
وكان حين قدم رسول الله المدينة ابن إحدى عشرة سنة. وكان يوم "بعاث" ابن ست سنين وفيه قتل أبوه. ويظهر أنه كان قد تعلم الكتابة وهو صغير. ذكر أنه أتي بزيد النبي مقدمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأ عليه فأعجبه ذلك فقال: تعلم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي. فتعلمها، وتولى الكتابة بالعبرانية أو السيريانية بين الرسول واليهود، فضلًا عن كتابة رسائله وما ينزل عليه من الوحي حين يكون عنده. لذلك عدّ من البارزين في قراءة القرآن. وبرز في القضاء والفتوى والفرائض، وعدّ من أصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر وعليّ وابن مسعود وأُبي وأبو موسى، وزيد بن ثابت. وهو الذي جمع القرآن5.
وهو الذي جمع القرآن في عهد "أبي بكر"، وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل مات سنة اثنتين أو ثلاث أو
خمس وأربعين، وقيل سنة إحدى أو اثنتين، أو خمس وخمسين. وفي خمس وأربعين قول الأكثر. وذكر أن حسان رثاه بقوله:
__________
1 التنبيه "246"، فتوح البلدان "479"، السجستاني، المصاحف.
تقييد العلم "51".
2 الاستيعاب "1/ 29"، "حاشية على الإصابة".
3 الإصابة "1/ 543 وما بعدها"، "رقم 2880"، الاستيعاب "1/ 532", "حاشية على الإصابة".
4 المعارف "260".
5 الإصابة "1/ 543"، "رقم 2880"، "الاستيعاب "1/ 532"، "حاشية على الإصابة"، نزهة الجليس "2/ 65"، أسد الغابة "2/ 221 وما بعدها".(15/134)
فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت1
وعهد رسول الله إلى "زيد" إحصاء الناس والغنائم، وتقسيمها عليهم حسب حصصهم2.
وكان "ثابت بن قيس بن شماس" الأنصاري ممن كتب للرسول. كتب له كتابه لوفد ثُمالة والحدّان. وقد شهد على الكتاب ووقع عليه "سعد بن عبادة"، و"محمد بن مسلمة"3. وكان خطيب الأنصار. وقد قتل يوم اليمامة4. وهو الذي أمره الرسول أن يجيب على خطاب خطيب "تميم" ولسانها الناطق "عُطارد بن حاجب". فكان خطيب المسلمين5.
و"محمد بن مسلمة"، هو من الأوس. ولد قبل البعثة، وهو أول من سُمي في الجاهلية محمدًا. أسلم قديمًا على يدي "مصعب بن عمير"، وآخى الرسول بينه وبين "أبي عبيدة". واستخلفه الرسول على المدينة في بعض غزواته. وقد كتب للرسول كتابه لمهري بن الأبيض. توفي سنة "43" أو "46هـ"6.
وكان "أوس بن خولي" من كتّاب يثرب، ولما كان صلح "الحديبية" وأراد الرسول تدوين الصلح "دعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك عليّ، أو عثمان بن عفان، فأمر عليًّا فكتب"7. وهو من الخزرج. ولما آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين آخى بينه وبين شجاع بن وهب8. وكان من "الكملة"، ولما قبض الرسول وأرادوا غسله، حضرت
__________
1 الإصابة "1/ 544"، "رقم 2880"، الطبري "2/ 421"، "مطبعة الاستقامة بالقاهرة"، تهذيب الأسماء واللغات، للنووي "1/ 200 وما بعدها"، تهذيب التهذيب، للعسقلاني "3/ 399"، "حيدر آباد 1325هـ"، اليعقوبي "2/ 157، 195"، "هوتسما"، ابن هشام، سيرة "3/ 11"، "مطبعة حجازي بالقاهرة".
2 إمتاع الأسماع "1/ 426".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 286"، "1/ 354"، "صادر".
4 الإصابة "1/ 197"، "رقم 904".
5 الطبري "3/ 116"، "قدوم وفد تميم ونزول سورة الحجرات".
6 الإصابة "3/ 363 وما بعدها"، "رقم 7808"، ابن سعد، طبقات "1/ 286"، "1/ 355"، "صادر".
7 إمتاع الأسماع "1/ 296".
8 الإصابة "1/ 95 وما بعدها"، "رقم 334".(15/135)
الأنصار، وأبت على المهاجرين إلا أن يحضر منها أحد، فقيل لهم: اجتمعوا على رجل منكم، فاجتمعوا على أوس بن خولي، فحضر غسل رسول الله ودفنه مع أهل بيته. وتوفي في خلافة عثمان1.
وكان "عبد الله بن رواحة" الخزرجي من كتّاب الرسول ومن الشعراء المعروفين بيثرب ومن السابقين الأولين من الأنصار وأحد النقباء ليلة العقبة. وكان الرسول يقول له: "عليك بالمشركين"، فينظم الشعر فيهم. وكان يناقض "قيس بن الخطيم" في حروبهم، ولما دخل الرسول مكة في عمرة القضاء كان ابن رواحة بين يديه، وهو يقول:
خلّوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله
ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
ومدح الرسول، وكان من جيد مدحه له قوله:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر2
وذكر بعض أهل الأخبار أنه لم نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} . قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا 3 وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 4. وسورة الشعراء التي فيها آية: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وما بعدها، من السور التي نزلت بمكة إلا هذه الآية وما بعدها، وهي أربع آيات في آخرها، نزلت بالمدينة في شعراء الجاهلية، ثم استثنى منهم شعراء المسلمين منهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، فصار الاستثناء ناسخًا له من قوله والشعراء يتبعهم الغاوون5.
__________
1 الاستيعاب "1/ 49"، "حاشية على الإصابة".
2 الإصابة "2/ 298 وما بعدها".
3 في الإصابة "أن الذين"، وهو غلط مطبعي.
4 الشعراء، الآية 224 وما بعدها.
5 الناسخ والمنسوخ لابن سلامة "ص151 وما بعدها"، "حاشية على أسباب النزول"، "القاهرة 1315هـ".(15/136)
وهناك كتبة آخرون كتبوا الكتاب والكتابين والثلاثة للرسول، ذكر "المسعودي" أنه لم يثبت أسماءهم في جملة أسماء من كتب للرسول؛ لأنه لم يكتب من أسماء كتاب الرسول إلا من ثبت على كتابته واتصلت أيامه وطالت مدته وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبًا ويضاف إلى جملة كتابه1.
وذكر أن كتّاب النبي كانوا يكتبون بالخط المقور، وهو النسخي. أما الخط "المبسوط" ويُسمى باليابس، فقد استعمل في النقش على الأحجار وأبواب المساجد وجدران المباني، وفي كتابة المصاحف الكبيرة، وما يقصد به الزينة والزخرف، وغلب عليه إطلاق لفظ "الكوفي"2.
وكان بشير بن كعب العدوي ممن قرأ الكتب3. وذكر أنه كان من التابعين4. وكان "عبد الله بن عمرو بن العاص" ممن قرأ الكتب، وكان يكتب الحديث بين يدي رسول الله، ويقرأ بالسريانية5.
وذكر أهل الأخبار أن رجلًا من أهل اليمن كان يقرأ الكتب، وأن امرأة اسمها "فاطمة بنت مرّ"، كانت قد قرأت الكتب كذلك6.
وكان من النساء من يحسن القراءة والكتابة. منهن: "الشّفاء بنت عبد الله بن عبد شمس" القرشية العدوية. من رهط "عمر"7. أسلمت قبل الهجرة، وهي من المهاجرات الأول. وكانت من عقلاء النساء، وكان "عمر" يقدمها في الرأي. وكان رسول الله يزورها ويقيّل عندها في بيتها، وكانت قد اتخذت له فراشًا وإزارًا ينام فيه. وقد أمرها الرسول أن تعلم "حفصة" الكتابة، فعلمتها،
__________
1 المسعودي، التنبيه "246".
2 حفني بك ناصف "61 وما بعدها".
3 بضم أوله مصغرًا، الإصابة "1/ 183"، "رقم 822".
4 الإصابة "1/ 177"، "رقم 778".
5 المعارف "287"، الإصابة "2/ 343"، "4847"، الاستيعاب "2/ 338 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
6 الروض الأنف "1/ 104".
7 فتوح البلدان "477 وما بعدها"، "458"، "المكتبة التجارية".(15/137)
كما علمتها "رقية" تسمى "رقية النملة"1. وقد تعلمت الكتابة في الجاهلية2. وكانت "حفصة" زوج النبي وابنة "عمر" تكتب3. وكانت "أم كلثوم" بنت "عقبة" تكتب4. وكذلك كانت "عائشة بنت سعد"، و"كريمة بنت المقداد"5، و"شميلة"6.
وورد أن "عائشة" زوج الرسول، أنها كانت تقرأ المصحف ولا تكتب7. ولا شك في أنهما تعلمتا القراءة في الإسلام.
وورد في بعض الأخبار أن العرب كانت تسمي كل من قرأ الكتب أو كتب: صابئًا. وكانت قريش تسمى النبي أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئًا8.
وقد اشتهر أهل اليمن بشيوع الكتابة والقراءة فيهم، فكان غلمانهم يتعلمونها ويرددون قراءة ما يكتبون ويقرءون وقد أشير إلى ذلك في شعر "لبيد" فورد:
فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زبر برجعها وليد يمان
متعود لحنٌ يعيد بكفه ... قلمًا على عُسب ذبلن وبان9
والزبر: الكتب، فقال: كأن تلك المنازل، كتب يرددها وليد يمان، أي: غلام يمانٍ؛ لأن الكتاب فيهم؛ لأنهم أهل ريف. متعود لذلك: فهِمٌ، ولحِنٌ: بمعنى فهم، يعيد بكفه قلمًا، يكتب في العسب والبان. وكانوا يكتبون في العسب والبان والعرعر10. فيظهر من ذلك أن أهل اليمن، حتى غلمانهم، كانوا يكتبون، ويردد الأطفال الكتب، لحفظها ولتعلمها، على نحو ما يفعلون في الكتاتيب هذا اليوم.
__________
1 الإصابة "4/ 333"، "رقم 622".
2 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".
3 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".
4 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".
5 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".
6 البلاذري، أنساب "1/ 137"، الإصابة "4/ 335"، "رقم 632".
7 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".
8 الإكليل "1/ 44".
9 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري، "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، "ص138"، "طبعة الكويت 1962".
10 المصدر نفسه.(15/138)
ويظهر أن ثقيفًا كانت قد حذقت الكتابة وبرزت بها. فقد ورد أن عمر بن الخطاب قال: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، وأن عثمان بن عفان قال: "اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف"1. وذكر أن "غيلان بن سلمة بن معتب"، وهو ممن أسلم يوم الطائف، كان كاتبًا كما كان معلمًا2.
وورد في الأخبار أن الجاهليين كانوا يضعون الكتب التي ترسل إلى الملوك من الآفاق، على لوح ضمت إلية ألواح من جوانبه، فلا تمسها إلا يد الملك، يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء ويجيب على ما فيها. وفي هذا الخبر دلالة على شيوع الكتابة والمراسلات عند الجاهليين، وعلى وجود ديوان خاص لدى الملوك، يتولى النظر في المراسلات. وفي هذا المعنى ورد في شعر لبيد:
أو مذهبٌ جدد على ألواحـ ... هن الناطق المبروز والمختوم3
ويظهر أن قومًا من الشعراء كانوا يكتبون ويقرءون. ومنهم من كان على ثقافة وعلم. ورد في شعر للشاعر "لبيد" قوله:
وجلا السيولُ عن الطلول كأنها ... زُبر تجدّ متونها أقلامها4
ولا يمكن صدور هذا البيت، إلا من رجل كاتب له ذكاء حاد، وربما كان ذلك الشاعر كاتبًا يدوّن شعره ويحفظه عنده، فوصفه مثل هذا للطلول، لا يمكن أن يقال إلا من رجل له علم بالكتابة، وحذق ودراية.
وفي البيت الآتي:
فمدافع الريّان عُرّي رسمها ... خلقًا كما ضمن الوحي سِلامها
إشارة إلى الكتابة كذلك، فالوحي هو الكتابة، والسِّلام الحجارة، أي: كان
__________
1 ابن فارس، الصاحبي "28".
2 المحبر "475".
3 شرح ديوان لبيد "ص119".
4 شرح ديوان لبيد "ص299"، بلوغ الأرب "3/ 367 وما بعدها".(15/139)
ما بقي من رسمها بعد أن عريت، مثل ما يبقى من الكتابة في الأحجار1. ويؤخذ من ذلك أن الحجارة كانت –كما ذكرت في مواضع من هذا الكتاب– مادة من مواد الكتابة عند الجاهليين.
وفي شعر لبيد:
فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زُبر يرجعها وليد يمان
مُتعود لحنٌ يعيد بكفّه ... قلمًا على عُسب، ذبلن وبان2
دلالة واضحة على إلمامه بالكتابة والقراءة، وعلى وقوفه على خط أهل اليمن، "على دراسة غلمان اليمن للزبر، وهي الكتب.
بل ورد: أن لبيدًا كان يدوّن شعره، ويهذبه بعد كتابته، وأنه كان يكتب. روي: "أن عمر بعث إلى المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، يطلب إليه أن يستنشد من قبله من شعراء الكوفة ما قالوه في الإسلام. فأجابه الأغلب، ورد عليه لبيد قائلًا: إن شئت ما عفى عنه –يعني الجاهلية -فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها، وقال: أبدلني اللهُ هذه في الإسلام مكان الشعر. فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص عطاء الأغلب خمس مئة، وجعلها في عطاء لبيد"3.
وكان الشاعر "المرقش"، وهو من شعراء الحيرة، كاتبًا قارئًا، تعلم الكتابة والقراءة في "الحيرة" مع أخيه "حرملة" عند رجل من أهل الحيرة4. وكذلك كان الشاعر "لقيط بن يعمر الإيادي" كاتبًا قارئًا. وقد عرف بين أهل الأخبار بـ"صحيفته" التي أرسلها إلى قومه "إياد"، ينذرهم فيها بعزم "كسرى" على غزوهم، وهي قصيدة افتتحت بهذا البيت:
__________
1 شرح ديوان لبيد "ص297".
2 شرح ديوان لبيد "ص138".
3 شرح ديوان لبيد "ص28، 36"، الأغاني "15/ 131".
4 الأغاني "6/ 130"، المفضليات "459 وما بعدها".(15/140)
سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد1
ويجب ألا ننسى الشاعر: "أمية بن أبي الصلت" الذي لم يكن كاتبًا قارئًا فحسب، بل كان واقفًا على كتب أهل الكتاب كذلك، وكان يقرأها، ويقتبس منها، وقد استخدم في شعره ألفاظًا ذكر أنه أخذها من كتب أهل الكتاب2.
ونضيف إلى من تقدم: "الزبرقان بن بدر"3، و"النابغة الذبياني"4 و"الربيع بن زياد العبسي"5، و"لبيد بن ربيعة العامري"6، و"كعب بن زهير بن أبي سلمى"7.
ودعوى أن الجاهليين كانوا أميين وعلى الفطرة والبديهة، لا يحسنون كتابة وقراءة خلا نفر بمكة وأشخاص بيثرب، دعوى باردة سخيفة، لا يمكن لمن له إلمام بأحوال الجاهلية أن يصدق بها. فأهل الأخبار الذين يروون هذه الرواية، يعودون فيخطئون أنفسهم، بسرد أسماء رجال من جزيرة العرب ومن العراق وبلاد الشأم، ذكروا أنهم كانوا يقرءون ويكتبون، بل ذكروا أكثر من ذلك، ذكروا أن منهم من كان يقرأ العبرانية أو السريانية، كالأحناف، ثم إنهم يذكرون أخبار مراسلات سادات القبائل في مختلف مواضع جزيرة العرب مع الرسول، ومكاتبة مسيلمة مع النبي وتأليفه كتابًا زعم أنه وحي نزل عليه من السماء مثل ما نزل على الرسول، فهل يعقل بعد ذلك، قول قائل: إن العرب كانوا أميين، خلا نفر. وقد رأينا أنهم تركوا آلاف الكتابات باللهجات العربية
__________
1 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "1/ 152"، الأغاني "20/ 24"، مختارات ابن الشجري "2 وما بعدها".
2 ابن هشام، سيرة "1/ 48"، الأغاني "3/ 123"، "3/ 121 وما بعدها"، "4/ 129"، ابن قتيبة، المعارف "28"، ابن سعد، الطبقات "5/ 376"، المزهر "2/ 309".
3 الأغاني "3/ 180".
4 البغدادي، الخزانة "2/ 392 وما بعدها".
5 الأغاني "16/ 22 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 136".
6 ابن قتيبة، الشعر "233 وما بعدها"، الخزانة "2/ 215".
7 ابن قتيبة، الشعر "1/ 91"، جمهرة أشعار العرب "24".(15/141)
الجنوبية وبالثمودية واللحيانية والصفوية، بل قد نجد الكتابة في بعض قبائل الجاهلية مثل قبائل الصفاة، أكثر اتساعًا وانتشارًا مما عليه الحال بين قبائل هذا اليوم.
وبعد، فالأمية الجماعية التي فرضها أهل الأخبار على الجاهليين، فجعلوهم أميين مائة بالمائة، لم تكن أمية صحيحة، وإنما جاءت من وهم في فهم المراد من المواضع التي أشرت إليها من القرآن، بدليل مناقضة أهل الأخبار أنفسهم، بذكر أسماء من ذكرناهم وممن لم نذكرهم ممن كان يقرأ ويكتب بهذا القلم العربي الذي دوّن به القرآن. وبدليل ما أوردته من أقوال المفسرين في الأمية، من أنها الوثنية، لا الأمية بمعنى الجهل بالكتابة والقراءة حتمًا، لعدم انسجام هذا المعنى مع تفسير الآيات، ثم إن القرآن الكريم حين تعرض للأمية، بمعنى عدم القراءة والكتابة، قال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 1. فعبر بذلك تعبيرًا مبينًا عن معنى عدم القراءة والكتابة، بأفصح عبارة، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ، ولو كانت الأمية بهذا المعنى لما أهمل ذكرها في هذا المكان. ومن ذلك الوهم جاءت الأحاديث الضعيفة من أنه كان من أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ولعاطفة دينية، شددوا في أمية العرب، فجعلوها جميعًا أميين، لإظهار معجزة للرسول –هو في غنى عنها –في أنه ظهر بالنبوة في أمة أمية، وجاء من الله بأحسن بيان، وهي حجة له على أهل الكتاب والمشركين.
وبعد، فقد فهمنا من روايات أهل الأخبار، أن أهل مكة إنما تعلموا الكتابة في عهد غير بعيد عن الإسلام. فهل يعني هذا أنهم لم يكونوا يحسنون الكتابة والقراءة قبل هذا العهد أبدًا؟ والذي أراه أن ذلك شيء غير معقول، وأن أهل مكة كانوا يكتبون ويقرءون، كانوا يكتبون بالمسند، القلم الذي كتب به أكثر أهل جزيرة العرب قبل الإسلام، بدليل ما نقرأه في كتب أهل الأخبار من زعمهم أن أهل مكة كانوا يجدون بين الحين والحين كتابات مدونة بالمسند في مقبرة
__________
1 العنكبوت، الآية "46 وما بعدها".(15/142)
مكة القديمة وفي مواضع أخرى منها، وفي عثور الناس على هذه الكتابات دلالة على أن سكان مكة كانوا يكتبون بالمسند أو بأقلام مشتقة منه، ولا يعقل عدم استعمال أهل الحجاز لهذا القلم، وقد وجدنا أنه والأقلام المشتقة منه، قد كونت قلم أهل هذه البلاد قبل الإسلام، والظاهر أنهم وجدوا أن القلم الذي كان يكتب به النبط وبقية العرب، مثل عرب الحيرة، كان أسهل استعمالًا ومرونة من القلم المسند البطيء الحركة، وأنه لا يأخذ حجمًا كبيرًا بالقياس إلى الخط العربي الجنوبي، لذلك فضلوه على هذا القلم، واستعملوه عوضًا عنه، دون أن يجروا عليه تحويرًا أو تغييرًا، لإصلاح ما فيه من خلل، فلما جاء الإسلام، أجرى عليه ما أجرى من تحوير وتغيير وتطوير.(15/143)
الفصل الحادي والعشرون بعد المئة: الخط العربي
مدخل
...
الفصل الحادي والعشرون بعد المائة: الخط العربي
للعلماء الذين اشتغلوا في موضوع نشوء الخط عند البشر، والقلم الأول الذي تفرعت منه سائر الأقلام، نظريات في تأريخ الكتابة وظهورها، وفي المراحل التي مَرَّت عليها من أول عهد مرّت فيه وهو عهد الكتابة الصورية "Pictography" إلى وصولها إلى مرحلة الحروف. وهذه النظريات مع أنها مرت بمناقشات وبحوث وتحددت حتى أصبحت معروفة عند علماء الخطوط، لم تستقر حتى الآن؛ لأن ما وصل إلينا من نماذج كتابية أثرية، لا يكفي لإبداء رأي مقبول أو رأي قاطع في أصل الخط وفي منشئه وفي الأمة التي أوجدته. ولا أعتقد أن في إمكان أحد القطع في ذلك، مالم يعثر المنقبون في المستقبل على نماذج عادية غير معروفة، تكون كافية لإبداء رأي علمي في هذا الموضوع.
واختراع الكتابة من الاختراعات الكبرى التي غيرت مجرى البشر، وهو اختراع لا تقل أهميته عن أعظم الاختراعات والاكتشافات والمغامرات التي قام بها الإنسان منذ يومه الأول حتى هذا اليوم. ومنها هروب الإنسان من أحضان أمه الأرض، وعقوقه بحقها، والتبطر بها، وذهابه إلى القمر ثم إلى ما وراء القمر من عوالم سابحة راقصة في هذا الذي نسميه السماء. ونحن لا نحفل اليوم بموضوع أهمية اختراع الكتابة، بالنسبة إلى تقدم العقل البشري، ولا يعرف معظم الناس عنه أي شيء، ولا يحفلون به؛ لأنه صار من القديم البائد. وكل قديم بائد يكتب عليه النسيان. وسيأتي يوم ولا شك ينسى فيه الجاءون من بعدنا بمئات وبآلاف(15/144)
من السنين، يوم هروب الإنسان من الأرض، ولا ينظرون إليه إلا كما ينظر الإنسان الأمي الجاهل إلى مبدأ الكتابة أو إلى اختراع النار أو الطباعة أو غير ذلك من المخترعات التي إذا مضى وقت طويل على اختراعها نسيتها ذاكرة البشر، ونسيت كل أثر تركته في تطور حياة هذا الإنسان المغامر المغرم بالبحث عن المجهول.
ولعلي لا أخطئ إذا قلت: إن الإنسان قد فكر في الكتابة منذ أيامه الأولى, أي: منذ شعر بنفسه، وصار يُعبر عما في ذاته، فكر بها لأنه كان في حاجة إلى تسجيل أعماله ومعاملاته وكلامه، ليتمكن من تذكرها عند الحاجة وإلى مراجعتها. كما فكر في تسجيل حوادثه وشعوره وتأثره بالمرئيات الجميلة أو المحزنة، وبالخواطر التي كانت تمر عليه، وبكل إحساسه وعواطفه. وكان كلما تقدم عقله وتوسعت مداركه شعر بحاجته إلى تدوين أعماله وأحاسيسه، فعمد إلى الطرق البدائية في التدوين. ثم طورها تدريجيًّا حتى وصل إلى مرتبة الكتابة الصورية، أي: إنه استخدم الصور في مقام الألفاظ. بأن يرسم صورة، فإذا رآها أحد عرفها وسماها باسمها. وعرفت هذه الطريقة بالكتابة الصورية. غير أن هذه الطريقة وإن عبرت بعض التعبير عن مشاعر الكاتب، إلا أنها كانت عاجزة عن التعبير عن الأمور الروحية وعن الألفاظ المعنوية، وعن الأمور الحسابية وغير ذلك. لذلك لم يقنع بها بل أخذ يشحذ ذهنه لإيجاد طريقة أخرى مختصرة وبسيطة ولها قابلية على رسم المعاني والإحساس، فأوجد من الكتابة الصورية اختزالًا نسميه: الكتابة المقطعية. أي: إنه اختزل الصور، وجزأها إلى مقاطع. وأخذ منها مقاطعها الأولى. فسماها بأسمائها الأصلية. فوصل بذلك إلى مرحلة المقاطع. وتمكن بسليقته وبذكائه من تحليل الأسماء والألفاظ التي يراد تدوينها إلى مقاطع، وتدوين أي كلمة بمقاطعها التي تتألف منها. وقد سهلت هذه المرحلة عليه كتابة الكلمات التي تعبر عن الآراء, ومن تسْجيل جمل وصفحات فيها ألفاظ مادية محسوسة وألفاظ ليست بمسميات لأشياء مادية وإنما هي تعبير عن معان وإحساس. مثل: موت وحياة ورأي وما شاكل ذلك. إلا أنه وجد أن هذه الطريقة لا تزال طريقة صعبة عسيرة، وأن على الإنسان أن يحفظ صور مئات من العلامات التي تعبر عن المقاطع لتدوين رسالة. لذلك فكر في اختزالها أيضًا وفي غربلتها وجزم المقاطع للوصول إلى الجذور الأساسية للألفاظ, وقد نجح في عمله هذا فتوصل إلى إيجاد الحروف. فبلغ بذلك النهاية.(15/145)
وهي المرحلة الحقيقية للكتابة. وبذلك استطاع أن يدوّن كل ما يدور بخلده من آراء بحروف, يضعها بعضها إلى بعض ليولد منها الألفاظ التي تدوّن بعضها إلى بعض لتعبر عما يريد الكاتب تدوينه.
وما ذكرته يمثل مجمل رأي العلماء في تطور الكتابة من الرموز والعلامات البدائية إلى بلوغها مرحلة الكمال والتمام. وقد أخذوا رأيهم هذا من الصور والنقوش التي عثر عليها في الكهوف وعلى الصخور وفي المقابر في مختلف أنحاء العالم. ولكن رأيهم هذا يتشعب ويتضارب عندما يتعرض للأصل الذي أوجد الحروف, والمكان الذي صار له شرف إيجاد الكتابة, وحل المشكلة المستعصية التي دوخت الإنسان, مشكلة تدوين ما يدور بخلده بيسر وسهولة. فذهب بعض الباحثين إلى أن الكتابة إنما ظهرت في العراق, وذهب بعض آخر إلى أنها ظهرت في لبنان, وذهب بعض إلى أنها من نبت أرض النيل, وذهب آخرون إلى أنها من ثمرات جزيرة "كريت". ولكل رأي دليل وحجة تقوم على دراسة الكتابات والنصوص التي عثر عليها في تلك الأرضين.
والذين يرون أن العراق هو وطن الكتابة الأول, يرون أن الخط إنما ظهر بتأثير عبادة النجوم, وذلك في أرض "كلديا", وكان الكهنة قد وضعوا رموزًا للنجوم ومن تلك الرموز أخذت الأبجدية الأولى, وتفرعت الألفباء السامية الغربية التي صارت أمًّا لمجموعة من الأبجديات, ومن قائلي هذه النظرية والمدافعين عنها المستشرق "هومل"1.
وهناك طائفة من العلماء رأت أن الأبجدية الأولى هي وليدة أرض النيل. وأن الذين أوجدوا الأبجدية إنما أخذوها منها. وكان المصريون وقد استعملوا في بادئ أمرهم الكتابة الصورية, ثم اختزلوها وأولدوا منها "الكتابة الهيروغليفية". وهي كتابة متطورة متقدمة بالنسبة إلى الكتابة الصورية. وقد صارت هذه الكتابة أمًّا لأقدم الكتابات. إذ تعلمها أهل "سيناء" وأهل بلاد الشأم, ثم اختزلوها وجزموها, حتى أوجدوا من هذا الجزم الحروف الهجائية2.
__________
1 Grundriss, I, S. 97, Geschichte Babylonien und Assyrian, S. 50
2 Ency. Britanica, vol. I. p. 680, Hubert Grimme, Die Losung des Sinalschriftproblems, S. I, A. H. Gardiner, The Egyptian Orign of the Semitic Alphabet in the Jornal of Egyptian Archaeology, 1916.(15/146)
وعثر المنقبون في طور سيناء في "سرابيط الخادم" على كتابة قديمة يعود عهدها إلى سنة "1850" قبل الميلاد, دفعت بعض العلماء مثل "مارتن اشبرنكلنك" على القول بأن هذه الكتابة هي وليدة الكتابة الهيروغليفية, وأنها الحلقة المفقودة التي توصل بين الهيروغليفية وبين مرحلة الحروف. وذهب إلى أن العمال الذين كانوا يشتغلون في مناجم طور سيناء إنما اهتدوا إلى التدوين بالحروف من معرفتهم للهيروغليفية. إذ اختزلوا المقاطع, وأخذوا بالجزء الأول من كل مقطع وسموا ذلك الجزء باسم من أسماء الصور بلغتهم, فتكونت عندهم مجموعة من الحروف كونت الأبجدية الطورسينائية, بلغ عددها اثنين وعشرين حرفاً, أصبحت نموذجًا للأبجديات الأخرى التى اعتمدت عليها1.
وقد انتشرت هذه الأبجدية من "طور سيناء" إلى الشرق فوصلت إلى الشأم وجزيرة العرب, وصارت أصل الأبجديات في هذه الأماكن غير أنها لم تستعمل في العراق, حيث كانت الكتابة المسمارية, ولا في مصر, حيث كانت الكتابة "الهيروغليفية". وقد تغيرت أشكالها باستعمالها الطويل, وتحرفت بمرور الزمن, وتبدلت الأسماء التي وضعها كتاب طور سيناء لحروفهم, كما تبدلت من حيث الترتيب وبذلك تولدت منها أقلام جديدة2.
ورأى بعض العلماء أن الخط الكنعاني الذي هو من الخطوط القديمة, قد اشتق من الخط الهيروغليفي, لوجود شبه بين الحروف الكنعانية وبعض الصور الهيروغليفية. ورأى بعض آخر أنه مشتق من الكتابة المسمارية. ورأى آخرون أنه اشتق من الأبجدية "الطورسينائية", إذ يصعب تصور اشتقاق الخط الكنعاني من الهيروغليفية رأسًا لبعد ما بين الكتابتين, وإن كان هناك شبه بين بعض الحروف الكنعانية والصور الهيروغليفية. ومن الخط الكنعاني تولدت بعض الأقلام السامية المتأخرة3.
وذهب باحثون إلى أن الفينيقين هم أول من اخترعوا الأبجدية, ومن هذه الأبجدية الفينيقية تولدت الأبجديات الأخرى, وذهب قسم منهم إلى أن الفينيقيين, إنما أخذوا أبجديتهم هذه من الهيروغليفية, بأن شذَّبوها وجزموا مقاطعها, وأورلدوا
__________
1 Martin Sprengling, The Alphabet: Its Rise and Development from the Sinai Inscriptions, Chicago, 1931, The Universal Jewish Ency. I, p. 198.
2 "The Universal Jewish Ency. I, p. 198.".
3 "The Jewish Quarterly Review. XII, "1950", 83-109, 159-179.".(15/147)
منها الحروف1. ونظرًا إلى وجود هوة كبيرة بين الكتابة الفينيقية وبين الهيروغليفية, رأى بعض الباحثين, أن الفينيقيين, إنما أخذوا خطهم من الخط الطورسينائي, ثم طوره وحسّنوه وأوجدوا منه خطهم الذي أولد جملة خطوط.
وطائفة أخرى من العلماء, رأت أن وطن "الألفباء" الأول هو جزيرة قبرص أو جزيرة كريت, حيث عثر فيهما على نماذج قديمة للكتابة اتخذوها حجة يستند إليها في هذا الرأي. وقد زعم أصحاب هذه النظرية أن أهل ساحل البحر الأبيض إنما تعلموا الكتابة من أهل "كريت" أو "قبرص". وذلك باحتكاكهم بهم, وبهجرة الفلسطينيين "Philistines", من جزيرة "كريت" إلى سواحل فلسطين التي عرفت باسمهم "فلسطية" "Philistia", ثم أطلقت على المنطقة التي قيل لها فلسطين كلها. ومن الفلسطينيين أخذ الفينيقيون الأبجدية2.
وقد عثر الباحثون على عدد من الكتابات القديمة في جزيرة "كريت", تَبيّن من دراسة بعض منها أنها مكتوبة على طريقة الكتابة الهيروغليفية, ويرجع عهدها إلى ما بين "2000" إلى "1600" قبل الميلاد. كما عثروا على كتابة صورية يعود عهدها إلى حوالي السنة "1700" قبل الميلاد. وعثروا على كتابات أخرى حملتهم على القول بأن "كريت" كانت الموطن الأول للكتابة, ومنها انتقلت الكتابة إلى مواضع أخرى من البحر المتوسط3. كما بينت ذلك في الفقرة السابقة.
وقد عثر المستشرق "كلود شيفر" "M. Claude Schaeffer", المعروف بتنقيبه عن النصوص "اليغاريتية" "Ugarit" في شهر نوفمير من عام 1949م على آجرة صغيرة من الصلصال المفخور بالنار حجمها "5" سنتيمترات في 15 مليمترًا في موضع "رأس الشمرة" الواقع على مسافة عشرة أميال من شمال اللاذقية, ظهر أنها على صغرها وتفاهتها البادية عليها من أهم ما عثر عليه من نصوص. فهذه الآجرة الصغيرة التي لا تلفت إليها الأنظار هي لوح في
__________
1 الدراسات الأدبية, الجامعة اللبنانية, السنة الثانية, العدد الأول, 1960م "ص44 وما بعدها".
Ency. Brita, , p. 680, A.H. Gardner, The Egyptian Origin of the Semitic Alphabet, in the Jornal of Egyptian Archaeology, 1916, M. Dunand, Byblia
2 Ency. Brit. I, p. 680, Hastings, p. 672, Ency. Bibli, p. 3434.
3 The Art of Writing, Unseco, p. 8.(15/148)
غاية من الأهمية كتبت عليه الأبجدية "اليغاريتية" المؤلفة من ثلاثين حرفًا, وهي على الرغم من صغر حروفها مكتوبة كتابة واصحة بخط قوي جلي. وقد كان العلماء يبحثون عن هذه الأبجدية بكل شوق, والظاهر أن أحد الطلاب كتبها على هذا اللوح, ويرجع عهده إلى القرن الرابع قبل الميلاد1.
وهذه الأبجدية "اليغاريتية" مكتوبة كتابة إسفينية, ولذلك رأى بعض الذين بحثوا في "اليغاريتية" أنها وليدة الكتابة المسمارية. ورأى بعض آخر أنها متأثرة بالهيروغليفية من حيث تكوين الحروف الصامتة. وأما من ناحية الرسم, فإنها متأثرة بالكتابة المسمارية. وتتألف من ثلاثين حرفًا, فهي تتضمن جميع الحروف في الأبجديات السامية الشمالية الغربية المكونة من اثنين وعشرين حرفًا صامتًا. ونجد أنها أوردت هذه الحروف على ترتيب الأجدية الإرمية والعبرانية, خلا أنها وضعت خمسة أحرف أخرى لم ترد في العبرانية بين هذه المجموعة, فتكوّن منها سبعة وعشرون حرفًَا تضاهي الأبجدية الكنعانية, ثم أضاف إليها كتبة "اليغاريتية" أحرفًا أخرى, فأصبح مجموف الحروف ثلاثين حرفًا تألفت منها الأبجدية "اليغاريتية"2.
نرى مما تقدم أن آراء علماء الخط تكاد تتفق على أن مخترعي الأبجديات هم أناس يجب أن يكونوا من أهل الشرق الأدنى أو من حوض البحر الأبيض, من أهل جزيرة "كريت أو "قبرص". وآراؤهم هذه هي بالنسبة إلى الأقلام المشهورة التي لا تزال مستعملة وحية معروفة مثل: الخطوط المستعملة في أوربا, وفي أمريكا, ومثل: الخط العربي والعبراني والسرياني وبالنسبة إلى أقلام أخرى ماتت, غير أن العلماء المتخصصين يعرفون عنها شيئًا ويقرءون نصوصها مثل الكتابات المسمارية وأمثالها. إلا أن هناك أقلامًا هي قديمة أيضًا, ولها أهمية كبيرة
__________
1 راجع وصف الآجرة الصغيرة والأبجدية "اليغاريتية" في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: جـ4 مجلد25 "1950م", "62 وما بعدها",
The Glascow Herald, Satutday March 4, 1950, Manchester Guardian Weekly, March 23rd, 1950. p. 13, BOASOR, NUM: 118, April 1950, p. 12.
2 The Glascow Herald, Saturday March, The 4th, 1950, BOASOR, NUM: 118, April 1950, P. 12, Le Museon, LIX, 1946, 1-4, P. 95, C.H. Gordon, Ugaritic Grammer, Analecta Orientalia, 20, Roma, 1939, p. 69, Caude F. A. Schaeffer, The Cuniform Texts of Ras Schamra Ugari, London, 1939.(15/149)
ونصوص وكتابات, لذلك يجب البحث عنها, لمعرفة تأريخها ودرجة صلتها بالأقلام التي نتحدث عنها. للوقوف على البواعث التي دفعت أصحابها على إيجادها والمراحل التي مرّت بها. فليس من الصواب إهمال تلك الأقلام وغض النظر عنها باعتبار أنها أقلام بعيدة عن أقلامنا, وهي تمثل ثقافة بعيدة عن ثقافتنا.
كذلك يجب البحث عن الرسوم والرموز والإشارات التي سجلها الإنسان البدائي للتعبير عن نفسه ولتخليد ما كان يدور بخلده. ومقارنة ذلك مع أمثاله في كل أنحاء العالم. فإذا فعلنا ذلك وجمعنا كل الأقلام القديمة مثل: أقلام الصين والهند وبقية أقلام أقطار آسيا وأقلام إفريقيا وأمريكا, ودرسناها دراسة علمية. فصار في إمكاننا تكوين رأي عام علمي تقريبي عن تأريخ ظهور الخط عند البشر: متى كان ذلك وأقدم من بدأ به, مع بذل الجهد للبحث عن نماذج جديدة من الخطوط في كل مكان من العالم لنزيد بها على علمنا المتجمع من الكتابات التي وصلت إلينا ولا نضيف عليه علمًا جديدًا وليكون حكمًا قريبًا من المنطق والعلم.
والرأي عندي أنه لأجل الإحاطة بتأريخ تطور الخط, لا بد من الاستمرار في البحث عن كتابات أخرى جديدة ومن دراسة مظاهر أشكال الحروف وكيفية ترتيبها وكيفية النطق بها, أي: الإحاطة بأسماء الحروف. فإن هذه الأمور تساعدنا كثيرًا على فهم تطور الخط عند البشر وعن صلته بعضه ببعض ومن التوصل إلى نتائج علمية قويمة, لا تقاس بالنتائج التي تبني على مجرد الظن والتخمين والتصور.
والذي نلاحظه اليوم أن حروف الخطوط السامية المستعملة عند الغربيين, تكاد تتفق في أسمائها وفي ترتيبها, ويشير هذا التشابه إلى وحدة الأصل, وإلى أن الأبجديات المذكورة قد تفرعت كلها من شجرة واحدة, ونبعت من منبع واحد. فكلها تبتدئ بحرف واحد, هو "الألف" وكلها تجعل الباء حرفًا ثانيًا, ثم إن في وحدة تسمياتها مع اختلاف اللغات التي تدوّن بها دليلًا كافيًا على إثبات أن هذه الأبجديات هي من أصل واحد. وعلى أن لأسماء الحروف علاقة وثيقة بالصور وبالكتابة الصورية للغة الأم التي اخترعت تلك الحروف وأوجدتها من مرحلة المقاطع. وإذا ثبتنا أسماء الحروف, وعرفنا من أين أخذت, وإذا استطعنا العثور على أقدم نص للأبجدية, يكون في إمكاننا إبداء رأي علمي في منشأ الحروف وفي المكان الذي كان له شرف إيجادها, أو الأماكن التي ساهمت بصور مستقلة(15/150)
في إيجاد الحروف. وهذا ما أراه؛ لأني أعتقد أن الانسان فكر في أول الأمر ما فكر به في إيجاد وسيلة يسجل بها أعماله وأفكاره, وأن تفكيره هذا لم ينحصر في بقعة واحدة, بل وجد في كل مكان. حتى في البيئات البدائية, إذ نجد الشعوب البدائية تتخذ وسائل للتعبير عن آرائها وعن تدوين أفكارها بطرق تتفق مع مستواها العقلي ودرجتها في الثقافة.
والحرف الأول, وهو الألف, يعني "ثورًا", ولذلك مثل في الهيروغليفية وفي كتابة طور سيناء بشكل رأس ثور, وأما الحرف الثاني, وهو الباء أو "Beth", فإنه يعني "بيتًا", وقد صور في الهيروغليفية وفي كتابة طور سيناء بشكل يصور مقدمة بيت. وأما الحرف الثالث, وهو الجيم, فإنه "كمل" "كيمل", أي: الجمل, وصورته لا ترمز إلى الجمل رمزًا تامًّا. وأما حرف الدال, فيقال "دالت", ومعناه باب. وأما حرف الهاء, فإنه من He "هي" بمعنى شباك. وأما الواو, فهو يشير إلى وتد. وأما الزاي, فإنه من زين بمعنى سلاح. وأما الحاء, فإنه من "حيث" بمعنى حائط. وأما الياء, فإنه من "يود" بمعنى يد أو يد مفتوحة. وأخذ حرف الكاف من "كاف" "كف" بمعنى كف اليد, أو يد مقبوضة. وأما حرف اللام, فإنه من "لمد" "لامد", ومعناه عصا لضرب الثور. وأما الميم, فإنه من "ميم" بمعنى ماء. وأما النون, فإنه من نون بمعنى سمكة. وأما حرف السين فهو سامخ, بمعنى آلة يعتمد عليها كالعصا. وقد أخذ حرف العين من عين, عين الإنسان. وأخذ الفاء من فم "بم" "" بمعنى فم, وأخذ حرف الصاد من "صادى", بمعنى صياد. وحرف القاف من قوف kof بمعنى الرأس إلى الخلف, وحرف الراء, من ريش بمعنى رأس, وحرف الشين من "شين" "شن" بمعنى سن. وأما التاء, فمن كلمة "تاو" "تو" بمعنى علامة أو صليب, وهكذا1.
ولمسألة ترتيب الحروف أهمية كبيرة لا تقل عن أهمية أسماء الحروف. ويظهر أن ترتيب "أبجد هوز حطي ... إلخ", وهو ترتيب سار عليه العرب أيضًا, هو ترتيب قديم. وقد عرف عند السريان وعند النبط والعبرانيين, وعند "بني إرم" ويظن أنهم أخذوه من الفينيقيين. وقد سار عليه الكنعانيون أيضًا, غير أنهم
__________
1 The Universal Jewish Ency. I, p. 202(15/151)
زادوا عليه الأحرف التي اقتضى وجودها في طبيعة لغتهم. وقد وضع علماء العربية بعد "قرشت" التي يمثل حرف التاء فيها آخر حروف الأبجدية الحروف التي لم ترد في ترتيب "أبجد هوز", وهي موجودة في العربية ويقال لها: "الروادف"1.
أما الترتيب السائر اليوم في كتابة الحروف العربية مبتدئين بالألف ومنتهين بالياء, فهو ترتيب إسلامي, وقد وضع على ما يخيل إلي لتيسير حفظ أشكال الحروف للطلاب؛ لأنه راعى الجمع بين الحروف المتشابهة, ولم يتجنب مع ذلك الترتيب الأصل المراعى في نظام "أبجد هوز" تجنبًا تامًّا. وضعه "نصر بن عاصم" في أيام الحجاج.
ومن الفينيقيين الذين كانوا يقطعون البحار والبراري للاتجار مع مختلف الشعوب, انتشرت الكتابة بالحروف إلى حوض البحر الأبيض. فقد كان تجارهم يسجلون ما يبيعون ويشترون ليضبطوا بذلك أعمالهم, فظن من كان يتعامل معهم من اليونان وغيرهم أنهم كانوا يقومون بأعمال سحرية. ولما عرفوا أنهم إنما يكتبون ذلك لضبط أعمالهم وتجارتهم تعلموا منهم سر الكتابة. ثم سرعان ما أخذوا يكتبون. وبذلك انتشرت الكتابة في أوربا. ويظهر أن انتقال الخط إلى أوربا كان في القرن العاشر قبل الميلاد2. وقد حافظ اليونان القدامى على أشكال الحروف الفينيقية وعلى طريقتهم في التدوين من اليمين ألى اليسار. وحافظوا على أسماء الحروف كذلك. ثم وجد اليونان أن الحروف الفينيقية هي حروف صامتة ولا توجد فيها حروف تعبر عن الحركات. فأكملوها بإضافة الحركات إليها. ثم طوروها بالتدريج. وكان في جملة التطورات الابتداء بالكتابة من اليسار نحو اليمين. وعن اليونان أخذ الرومان وغيرهم من الشعوب الأوروبية الكتابة, وأخذ كل قوم منهم يوجد منها طرقًا جديدة في الخط حتى صارت على نحو ما هي عليه في هذا اليوم.
__________
1 Ency. I, p. 68
2 The Art of Writing, Unesco, 36(15/152)
الخط العربي:
والعرب من الشعوب التي عرفت الكتابة ومارستها قبل الإسلام بزمان طويل كذلك. بل عرفوا الكتابة قبل الميلاد ببضع مئات من السنين. وقد عثر في مواضع(15/152)
من جزيرة العرب على كتابات دونت باليونانية وبلغات أخرى. وتبين من دراسة النصوص الجاهلية, أن العرب كانوا يدونون قبل الإسلام بقلم ظهر في اليمن بصورة خاصة, هو القلم الذي أطلق عليه أهل الأخبار "القلم المسند" أو "قلم حمير". وهو قلم يباين القلم الذي نكتب به الآن. ثم تبين أنهم صاروا يكتبون في الميلاد بقلم آخر, أسهل وألين في الكتابة من القلم المسند, أخذوه من القلم النبطي المتأخر وذلك قبيل الإسلام على ما يظهر. كما تبين أن النبط وعرب العراق وعرب بلاد الشأم كانوا يكتبون أمورهم بالإرمية وبالنبطية, وذلك لشيوع هذين القلمين بين الناس, حتى بين من لم يكن من "بني إرم" ولا من النبط, كالعبرانيين الذين كتبوا بقلم إرمي إلى جانب القلم العبراني, ولاختلاط العرب الشماليين ببني إرم واحتكاكهم بهم, مما جعلهم يتأثرون بهم ثقافيًّا, فبان هذا الأثر في الكتابات القليلة التي وصلت إلينا مدونة بنبطية متأثرة بالعربية.
ويظهر من عثور الباحثين على كتابات مدونة بالمسند في مواضع متعددة من جزيرة العرب, ومنها سواحل الخليج العربي, بعض منها قديم وبعض منها قريب من الإسلام, إن قلم المسند, كان هو القلم العربي الأصيل والأول عند العرب. وقد كتب به كل أهل جزيرة العرب, غير أن التبشير بالنصرانية الذي دخل جزيرة العرب, وانتشر في مختلف الأماكن, أدخل معه القلم الإرمي المتأخر, قلم الكنائس الشرقية, وأخذ ينشره بين الناس؛ لأنه قلمه المقدس الذي به كان يكتب رجال الدين. ولما كان هذا القلم أسهل في الكتابة من المسند, وجد له أشياعًا وأتباعًا بين من دخل في النصرانية وبين الوثنيين أيضًا, لسهولته في الكتابة, غير أنه لم يتمكن مع ذلك من القضاء على المسند إذ بقي الناس يكتبون به. فلما جاء الإسلام, وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم. صار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين, وحكم على المسند بالموت عندئذ, فمات ونسيه العرب, إلى أن بعثه المستشرقون, فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى, ليترجم لنا الكتابات العادية التي دونت به.
وهناك أقلام عثر عليها المستشرقون في أعالي الحجاز, تشبه القلم المسند شبهًا كبيرًا, لذلك رأى الباحثون أنها من صلب ذلك القلم ومن فروعه للشبه المذكور؛ ولأنها متأخرة بالنسبة له, فلا يمكن أن تكون هي الأم. وقد سمي قلم منها بالقلم الثمودي نسبة إلى قوم ثمود, وسمي قلم آخر بالقلم اللحياني, نسبة إلى(15/153)
"لحيان". وعرف القلم الثالث بـ"الكتابة الصفوية", نسبة إلى أرض "الصفاة" الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم.
وقد عرف علماء العربية القلم المسند, ومنهم حصل هذا القلم على اسمه. ولكنهم لم يعرفوا من أمرة شيئًا يذكر. وكل ما عرفوه عنه أنه خط أهل اليمن القديم, وأنه خط حمير, وأن قومًا من أهل اليمن بقوا أمدًا يكتبون به في الإسلام ويقرءون نصوصه. كما عرفوا القلم الذي دوّن به القرآن الكريم. ودعوه "القلم العربي" أو "الخط العربي" حينًا و"الكتاب العربي" أو "الكتابة العربية" حينًا آخر تمييزًا له عن المسند1. ولم يشيروا إلى أسماء خطوط جاهلية أخرى.
وقد تكلم "الهمداني" ومشايخه من قبله عن المسند, كما أشار إلية "ابن النديم", وذكر أن نماذج منه كانت في خزانة "المأمون". غير أن علمهم به لم يكن متقنًا على ما يظهر من نقولهم عنه. كما تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن "الهمداني". ولم يكن لهم إدراك عن كيفية تطوره. وقد دعوه بالخط الحميري. وعرّفوه بأنه خط مخالف لخطنا هذا, كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال "أبو حاتم": هو في أيديهم إلى اليوم باليمن2. هذا ولم أجد في المؤلفات الإسلامية المعروفة في هذا اليوم ما يفيد بأن أحدًا من العرب الإسلاميين كان على علم متقن بالعربيات الجنوبية, أو كان له علم بتأريخ العربية الجنوبية القديم, وفي الذي ذكروه عن الخط المسند وعن لغات العرب الجنوبيين وتأريخهم تأييد لما أقوله.
والعرب تسمي "الكتاب العربي" أي: خطنا: "الجزم", وذكروا أنه إنما سمي جزمًا؛ لأنه جزم من المسند, أي: قطع منه, وهو خط حمير في أيام ملكهم3 ولا أستبعد احتمال كون كلمة "الجزم" تسمية ذلك القلم في الجاهلية, وأما تفسير
__________
1 الفهرست "ص6 فما بعدها", صبح الأعشى "3/ 11", الصاحبي في فقه اللغة, لابن فارس "ص7 وما بعدها", تأريخ الخط العربي وآدابه, تأليف محمد بن طاهر بن عبد القادر الكردي الخطاط, مكة, 1939م, البلاذري, فتوح "476 وما بعدها", الجهشياري, الوزراء "1, 12 وما بعدها", السجستاني, كتاب المصاحف "4 وما بعدها الصولي, أدب الكتاب "28-31", القاهرة 1341هـ", الأبحاث, السنة 1952م, الجزء الأول "ص11 وما بعدها", العقد الفريد "4/ 240 وما بعدها".
2 تاج العروس "2/ 382", "سند".
3 اللسان "12/ 97 وما بعدها", "جزم", تاج العروس "8/ 228", "جزم".(15/154)
أهل الأخبار لسبب التسمية, فهو من نوع التفاسير المعروفة المألوفة عن أهل الأخبار, يضعونها حينما يجابههم شخص يريد معرفة سبب تسمية شيء بالاسم الذي عرف به. ودليل ذلك ما ذكره "البطليوسي" من أن أهل الأنبار كانوا يكتبون المشق, وأن أهل الحيرة كانوا يكتبون "خط الجزم" وهو خطهم, وهو الذي صار خط المصاحف1. و "المشق" في تفسير علماء العربية مد حروف الكتابة2, ومعنى هذا أن خط أهل الأنبار, كان متصل الحروف ممدودها, بينما غلب على القلم الحيري الشكل التربيعي الجاف ذو الزوايا للحروف. وهو شكل تكون الكتابة به أبطأ من الكتابة بالقلم المشق. ونظيره هو القلم الكوفي في الإسلام, الذي اختص بأنواع معينة من أغراض الكتابة, ومنها الكتابة على الأحجار والخشب. ونظرًا لبطء الكتابة به على الغالب لم يستعمل بكثرة في الكتابة.
ولعل سبب اختلاف قلم الأنبار عن قلم أهل الحيرة, هو في المنبع الذي استقى كل من أهل المدينتين قلمه منه. فقد استعمل نصارى العراق في كتبهم الطقوسية القلم "السطرنجيلي", المشتق من القلم التدمري. وكتبوا به الأناجيل والكتب المقدسة وأحجار المباني, مثل الأحجار التي توضع فوق أبواب المعابد كالكنائس أو البيوت أو القبور وما شاكل ذلك. وهو خط ثقيل يحتاج إلى بذل وقت في نقشه وإلى جهد في حفره على الخشب أو الحجر, بل وفي الكتابة به أيضًا. واستعملوا قلمًا آخر أسرع منه وأسهل وأطوع في الكتابة به من "السطرنجيلي", كتبت به الأعمال التجارية والمخابرات والرسائل والكتب, كتبوا به بقلم القصب وبالحبر. فكان منه خط النسخ3.
هذا وقد كتب النبط بقلمين كذلك: قلم قديم, ثقيل في الكتابة تكثر فيه الخطوط المستقيمة والزوايا والتربيعات فهو على شاكلة "السطرنجيلي", والخط الكوفي. كتبوا به على الأخشاب والحجارة والمعادن والصخور, حيث حفروا الكتابة حفرًا, كما استعملوه في ضرب نقودهم. وهو ثقيل في الكتابة لذلك لم يستعمل في الأغراض اليومية كتدوين المعاملات التجارية والمراسلات وما شاكل
__________
1 الاقتضاب "89".
2 تاج العروس "7/ 70", "مشق".
3 الأبحاث, السنة 1952م, الجزء الأول "ص15".(15/155)
ذلك من أمور تستدعي السرعة, بل استخدم الكتاب قلمًا آخر لهذه الأغراض, هو القلم المدوّر الذي يشبه النسخ, والذي نستطيع أن نسميه "المشق", قلم أهل الأنبار. وهو قلم متأخر ظهر عندهم بعد القلم الأول1.
ونجد أكثر شعوب الشرق الأدنى على هذه العادة في اتخاذ قلم خاص يكتبون به الكتب المقدسة والأحجار التذكارية, التي توضع فوق أبواب المعابد وفي داخلها أو على القبور للذكرى والتأريخ. لذلك يجتهد فيه أن يكون مزوقًا ذا زوايا وتربيعات وزخرف ونقوش, باعتبار أنه إنما يدوّن للتخليد ولتدوين شيء مقدس ثمين. ومن هذه النظرة تولدت طريقة رسم الحروف الأولى لكلمات الجمل أو عنوان الفصول بحروف بارزة مغايرة للحروف الأخرى التي تدوّن بها الكلمات التالية. واتخذوا أقلامًا أخرى راعوا فيها السهولة والليونة في الكتابة. لتدوين الكتب الأخرى التي لا صلة لها بالدين ولتدوين الأعمال اليومية. جعلوا حروفها مدوّرة أو مقوسة, ليمكن الكتابة بها بسهولة بدون حاجة إلى بذل عناية في رسم خطوطها المستقيمة والمربعة والزوايا التي تكوّن الحروف.
وقد تحدث "الجاحظ" عن الخط, فقال: "وليس في الأرض أمة بها طرق أو لها مسكة, ولا جيل لهم قبض وبسط, إلا ولهم خط. فأما أصحاب الملك والملكة والسلطان والجباية, والديانة والعبادة, فهناك الكتاب المتقن, والحساب المحكم, ولا يخرج الخط من الجزم والمسند المنمنم كذا كيف كان, قال ذلك الهيثم بن عدي وابن الكلبي"2. فالخط العربي الجاهلي, قلمان: جزم ومسند, ولا ثالث لهما. المسند خط العربية الجنوبية وخط من كتب بهذا القلم من بقية أنحاء جزيرة العرب, والجزم, خط أهل مكة والمدينة وعرب العراق وغيرهم من العرب الشماليين.
ولما كان عرب العراق قد خالطوا بني إرم وأخذوا من ثقافتهم, ومنهم من اعتنق دينهم, فدخل في النصرانية. فلا أستبعد استعمالهما قلمين, أو أكثر في الكتابة. قلم رُوعي فيه ما رآه نصارى العراق في "السطرنجيلي", والمسمى أيضًا
__________
1 الأبحاث, 1952, "جـ1 ص14 وما بعدها".
2 الحيوان "1/ 71" البلاذري, فتوح "476 وما بعدها", السجستاني, المصاحف "4 وما بعدها", خليل يحيي نامي, أصل الخط العربي وتأريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام, مجلة كلية الآداب, بجامعة القاهرة, مايو 1935م.(15/156)
بالخط الرهاوي, وقلم آخر استعملوه للكتابات السريعة. ولا أستبعد احتمال كتابة أهل الأنبار أو أهل الحيرة أو غيرهم من عرب العراق بالقلمين معًا. القلم الذي دعاه البطليوسي بالمشق, وهو على حد قوله قلم أهل الأنبار, والقلم الحيري, وهو الجزم على رأيه أيضًا. ويذكر أن القلم السطرنجيلي قد استنبط في مطلع القرن الثالث للميلاد. وقد استنبطه "بولس بن عرقا" أو "عتقا الرهاوي". وشاع استعماله بين الناس1.
هذا وللعلماء المسلمين مؤلفات في تأريخ الخط العربي وتطوره, ولهم نظريات وآراء في منشأ الخط, منها آراء تنسب إلى "ابن الكلبي", وهو في مقدمة علماء الأخبار في هذا الباب, وإلية يرجع أكثر من جاء بعده في رواية أخباره عن منشأ الخط, وعن كيفية تطوره حتى بلغ مبلغه هذا في الإسلام. ومنها آراء تنسب إلى غيره كابن عباس2.
ونستطيع تلخيص وجهات نظرهم في منشأ الخط العربي في الملخصات الآتية:
1- كان منشأ الخط في اليمن, ثم انتقل منه إلى العراق حيث تعلمه أهل الحيرة, ومنهم تعلمه أهل الأنبار, ومنهم تعلمه جماعة نقلوه إلى الحجاز. فالأصل, على رأي هؤلاء, هو القلم المسند وكان كما يقولون بالغًا مبلغ الإتقان والجودة في دول التبابعة, لما بلغت من الحضارة والترف3.
2- أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ, وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند, سمي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى "هود"4.
3- أول ما ظهرت الكتابة العربية بمكة من قبل "حرب بن أمية" وقد
__________
1 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق, "1959م", "ص421".
2 راجع أدب الكتاب للصولي "28 وما بعدها", والفهرست لابن النديم "وما بعدها" وحكمة الإشراق إلى اختراق الآفاق, للسيد مرتضى الزبيدي, نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة "ص50 وما بعدها", البلاذري فتوح البلدان "476 وما بعدها" والجهشياري, الوزراء "ص251 وما بعدها", صبح الأعشى "3/ 9 وما بعدها", السجستاني, المصاحف "4 وما بعدها", العقد الفريد "3/ 203" المزهر "2/ 349" مقدمة ابن خلدون "ص349".
3 المزهر "2/ 349", مقدمة ابن خلدون "ص349".
4 صبح الأعشى "3/ 9".(15/157)
أخذها من طارئ طرأ على مكة من اليمن. وقد أخذ ذلك الطارئ علمه بالكتابة من كاتب الوحي لهود1.
4- أول من كتب بالعربية إسماعيل2. كتب على لفظه ومنطقه موصولًا, حتى فرق بينها ولده هميسع وقيذر3.
5- أول من وضع الكتاب العربي نفيس, ونضر, وتيماء, ودومة. هؤلاء ولد إسماعيل, وضعوه موصولًا, وفرقه قادور بن هميسع بن قادور4.
6- إن نفيس, ونضر, وتيما, ودومة؛ بني إسماعيل, وضعوا كتابًا واحدًا وجعلوه سطرًا واحدًا غير متفرق, موصول الحروف كلها, ثم فرقة نبت, وهميسع, وقيذار, وفرقوا الحروف وجعلوا الأشباه والنظائر5.
7- كان قلم "الجزم" في نظر بعض العلماء أساس القلم العربي وقد سمي بالجزم؛ لأن مرامر بن مرة, وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة, وهم من طيء من بولان, سكنوا الأنبار واجتمعوا فوضعوا حروفًا مقطعة وموصولة. فأما مرامر فوضع الصور, وأما أسلم ففصل ووصل, وأما عامر فوضع الإعجام. وقد اقتطع مرامر الخط من المسند فسمي الجزم؛ لأنه جزم, أي: اقتطع, ولذلك قيل له: الجزم قبل وجود الكوفة, فتعلمه منهم أهل الأنبار, وتعلمه منهم أهل الحيرة وسائر عرب العراق, وتعلمه من أهل الحيرة بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل, وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق, فتعلم حرب منه الكتابة, ثم سافر معه بشر إلى
__________
1 صبح الأعشى "3/ 10".
2 صبح الأعشى "3/ 10", المزهر "2/ 342", "وعنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أول من كتب بالعربية إسماعيل", الروض الأنف "1/ 10", الجهشياري, كتاب الوزراء والكتاب "أو ما بعدها".
3 المزهر "2/ 342", "كان ابن عباس يقول: أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل –علية السلام-وضعه على لفظه ومنطقه", الصاحبي "34".
4 الفهرست "ص13", "الكلام على القلم العربي".
5 حكمة الإشراق, نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة "ص64", صبح الأعشى "3/ 9".(15/158)
مكة فتعلم منه جماعة من أهلها, فلهذا أكثر الكتّاب من قريش1.
8- أول من وضع الخط العربي "أبجد هوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت", وهم قوم من الجيلة الأخيرة, وقيل: إنهم بنوا المحصن بن جندل بن يصعب بن مدين, وكانوا نزولًا مع عدنان بن أدد, فكان "أبجد" ملك مكة وما يليها من الحجاز, وكلمن وسعفص وقرشت ملوكًا بمدين, وقيل ببلاد مضر, فوضعوا الكتاب على أسمائهم, ثم وحدوا بعد ذلك حروفًا ليست من أسمائهم, وهي الثاء والخاء والذال والظاء والضاد والغين فسموها الروادف2.
9- أول من وضع الخط العربي وألف حروفه ستة أشخاص من طسم, كانوا نزولًا على عدنان بن أدد, وكانت أسماؤهم: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت, فوضعوا الكتابة والخط على أسمائهم, فلما وجدوا في الألفاظ حروفًا ليست في أسمائهم ألحقوها بها, وسموها الروادف, وهي ثخذ ضظغ3.
10- أول من خط هو: مرامر بن مرة من أهل الأنبار, وقيل: إنه من بني مرة. ومن الأنبار انتشرت الكتابة في الناس. ذكروا أن قريشًا سُئِلوا: من أين لكم الكتابة؟ فقالوا: من الأنبار4.
11- تعلم بشر بن عبد الملك الكتابة من أهل الأنبار وخرج إلى مكة وتزوج "الصهباء بنت حرب بن أمية". وتعلم منه حرب, ومنه ابنه سفيان, ومنه ابن أخيه معاوية بن أبي سفيان, ثم انتشر في قريش, وهو الخط الكوفي الذي استنبطت منه الأقلام5.
__________
1 الفهرست "ص6" منتخبات في أخبار اليمن من كتاب شمس العلوم "ص98", المزهر "2/ 346", نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة, حكمة الإشراق "ص65", صبح الأعشى "1/ 421" الجهشياري, الوزراء "1", تاج العروس "3/ 90", "جدد".
2 المزهر "2/ 348", الفهرست "ص12", "الكلام على القلم العربي", العقد الفريد "4/ 242", نزهة الجليس "2/ 63".
3 نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة, حكمة الإشراق "ص64", صبح الأعشى "3/ 9", نزهة الجليس "2/ 63 وما بعدها", الفهرست "12", الكلام على القلم العربي.
4 نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة, حكمة الإشراق "ص65", ابن خلكان, "1/ 346", عيون الأخبار "1/ 43" "الكتب والكتابة".
5 نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة, حكمة الإشراق "ص64 وما بعدها", صبح الأعشى "3/ 10", الجهشياري, كتاب الوزراء والكتاب "2 وما بعدها".(15/159)
12- كان الكتاب العربي قليلًا في الأوس والخزرج, وكان يهودي من يهود ماسكة قد علمها, فكان يعلّمها الصبيان, فجاء الإسلام وفيهم بضعة عشر يكتبون, منهم سعد بن زرارة, والمنذر بن عمرو, وأُبي بن كعب, وزيد بن ثابت, يكتب الكتابين جميعًا العربية والعبرانية, ورافع بن مالك, وأسيد بن حضير, ومعن بن عدي. وأبو عبس بن كثيم, وأوس بن خولي, وبشير بن سعد1.
13- أول من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من بولان, وبولان قبيلة من طيء, نزلوا مدينة الأنبار, وهم: مرامر بن مرة, وأسلم بن سدرة, وعامر بن جدرة, اجتمعوا فوضعوا حروفًا مقطعة وموصولة, ثم قاسوها على هجاء السريانية. فأما مرامر, فوضع الصور, وأما أسلم ففصل ووصل, وأما عامر فوضع الإعجام, ثم نقل هذا العلم إلى مكة وتعلمه من تعلمه وكثر في الناس وتداولوه2.
14- أول من كتب الكتاب العربي, رجل من بني النضر بن كنانة, فكتبته العرب حينئذ3.
15- رأى نفر من العلماء أن أهل مكة إنما تعلموا الكتابة من إياد أهل العراق وكانوا يكتبون, ورووا في ذلك شعرًا زعموا أن "أمية بن أبي الصلت" قائله, منه:
قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم4
16- أول من وضع حروف أب ت ث نفر من أهل الأنبار من إياد القديمة, وعنهم أخذت العرب5.
__________
1 صبح الأعشى "3/ 11".
2 صبح الأعشى "3/ 8", العقد الفريد "4/ 242".
3 صبح الأعشى "3/ 9", "رجل من بني مخلد بن النضر بن كنانة", الفهرست "13".
4 بلوغ الأرب "3/ 369", الروض الأنف "1/ 43".
5 الفهرست "ص13".(15/160)
17- الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة, أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة" وقيل حرب بن أمية1.
18- من حمير تعلمت مضر الكتابة العربية2.
19- أصل الخط العربي من الأنبار, وإنما سكن الأنبار والحيرة بقايا العرب العاربة وكثير من المستعربة فنقلوا ذلك3.
20- وضع الكتاب العربي عبد ضخم وبيض ولد أميم بالحجاز, ولهم يقول حاجز الأزدي:
عبد بن ضخم إذا نسبتهم ... وبيض أهل العلو في النسب
ابتدعوا منطقًا لخطّهم ... فبين الخط لهجة العرب4
21- أول من كتب الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها, آدم –عليه السلام – قبل موته بثلاثمائة سنة, كتبها في طين وطبخه, فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابًا فكتبوه, فأصاب إسماعيل –عليه السلام – الكتاب العربي5.
22- أول من كتب بالعربية مرامر بن مرة, رجل من أهل الأنبار. ومن الأنبار انتشرت في الناس.
23- تعلمت قريش الكتابة من الحيرة, وتعلم أهل الحيرة الكتابة من الأنبار6, وذكر بعض علماء العربية أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها, وأنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا7.
وهذه هي آراء علماء العربية في أصل الخط عند العرب, وفي كيفية منشئه وظهوره.
__________
1 الفهرست "ص13".
2 مقدمة ابن خلدون "ص349".
3 الإكليل "1/ 78 فما بعدها".
4 الإكليل "6/ 78".
5 الصاحبي "34", المزهر "2/ 341".
6 ابن رستة, الأعلاق "192".
7 الصاحبي "35".(15/161)
وقد ذكر "ابن النديم" مختلف الروايات التي كانت شائعة في أيامه عند القلم العربي. وذكر منابعها أحيانًا وأهمل ذكرها أحيانًا أخرى. وفي جملة من أشار إليهم "ابن عباس", فنسب إلية قوله: إن أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان على نحو ما ذكرت قبل قليل1. و"محمد بن إسحق" و"ابن الكلبي", و"ابن الكوفي" و"كعب الأحبار" و"مكحول" و"عمر بن شبة" في كتاب مكة, و"ابن أبي سعد"2. وذكر أنه كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم. فيه حق عبد المطلب على رجل من حمير, عليه ألف درهم فضة كيلًا بالحديدة. وكان خطّه شبه خط النساء. وذكر أن من كتاب العرب أسيد بن أبي العيص. وأن الناس عثروا على حجر كان على قبره كتب عليه اسمه3.
ولدينا رأي آخر يقول: "كانت الكتّاب في العرب من أهل الطائف, تعلموها من رجل من أهل الحيرة, وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار"4. وهو رأي نبع من المنابع المتقدمة.
وقد جزم قوم من العلماء أن أول من كتب بالعربية "مُرامر بن مرّ", "مُرامر بن مُرّة", وذهب قوم أن أول من كتب بخطنا "عامر بن جدرة", وتوقف قوم هل هو خلاف أو يمكن التوفيق. وذهب آخرون إلى أن أول من كتب بالخط العربي عامر بن جدرة ومرامر بن مرة الطائيان, ثم "سعد بن سبل"5. وقال "شرقي بن القطامي": إن أول من وضع خطنا هذا رجال من طيء منهم مرامر بن مرة. قال الشاعر:
تعلمت باجاد وآل مرامر ... وسودت أثوابي ولست بكاتب
وإنما قال وآل مرامر؛ لأنه كان قد سمى كل واحد من أولاده بكلمة من أبجد, وهي ثمانية. وأول من كتب بالعربية مرامر بن مرة من أهل الأنبار,
__________
1 الفهرست "ص12".
2 الفهرست "ص12 وما بعدها".
3 الفهرست "ص12 وما بعدها".
4 اللسان "12/ 34", "أمم".
5 تاج العروس "3/ 90", "جدر", حكمة الإشراق "65", ابن خلكان, وفيات "1/ 346".(15/162)
ويقال من أهل الحيرة. ويقال: إنه سئل المهاجرون من أين تعلمتم الخط؟ فقالوا: من الحيرة. وسئل أهل الحيرة من أين تعلمتم الخط؟ فقالوا: من الأنبار1.
والذين يذكرون أن "بشر بن عبد الملك" أخو "أكيدر بن عبد الملك" الكندي صاحب "دومة الجندل", الذي تعلم الكتابة من أهل الأنبار, وخرج إلى مكة, فتزوج "الصهباء بنت حرب بن أمية" أخت "أبي سفيان", وعلّم جماعة من أهل مكة الكتابة, فلذلك كثر من يكتب بمكة من قريش, يروون شعرًا لرجل من أهل دومة الجندل, زعموا أنه قاله إظهارًا لمنة قومه على قريش, هو:
لا تجحدوا نعماء بشر عليكمو ... فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو ... من المال ما قد كان شتى مبعثرا
وأتقنتمو ما كان بالمال مهملاً ... وطامنتمو ما كان منه منفرا
فأجريتم الأقلام عودًا وبدأة ... وضاهيتمو كتّاب كسرى وقيصرا
وأغنيتمو عن مسند الحي حمير ... وما زبرت في الصحف أقيال حميرا2
فبشر بن عبد الملك, هو الذي نقل "الجزم" إلى "مكة". والجزم هو الخط الذي دوّن به القرآن, أي: القلم الذي نكتب به اليوم. فأغنى به أهل مكة عن الكتابة بقلم المسند قلم حمير الثقيل, وصاروا يكتبون بالقلم وبالحبر, على طريقة الفرس والروم يدوّنون به أموالهم. ويظهر من ذلك أن القلم المسند, كان ثقيلًا في الكتابة, ولهذا وجد أهل مكة صعوبة في تدوين أمورهم به, فعدلوا عنه إلى القلم الجزم.
ولو صح هذا الشعر, فإن البيت الأخير منه يدل على أن أقيال حمير وغيرهم كانوا يكتبون بخطهم: المسند على الصحف, وأنه قد كانت عندهم كتابات دوّنوها به بالحبر والقلم على الصحف والأدم ومواد الكتابة الأخرى, ولم يكونوا يكتفون بالكتابة به على الأحجار فقط؛ لأننا نجد أن كتاباتهم الواصلة إلينا إنما
__________
1 تاج العروس "3/ 540", "مرر", المزهر "2/ 347".
2 المزهر "2/ 347".(15/163)
قد كتبت بهذه الطريقة حسب. وسبب عدم وصول هذه الصحف إلينا, أنها من مادة سريعة العطب, لذلك لم تتمكن من المحافظة على حياتها فذهبت مع أهلها, وقد يعثر على شيء منها مدفون تحت الأرض بصورة يمكن أن يستفاد منها كما استفيد من المسند المنقوش على الحجر.
وورد أن رجلًا قال لابن عباس: "معاشر قريش, من أين أخذتم هذا الكتاب العربي قبل أن يبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- تجمعون منه ما اجتمع, وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام؟ قال: أخدناه من حرب بن أمية. قال: فممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان, قال: فممن أخذه ابن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار, قال: فممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من أهل الحيرة, قال: فممن أخذه أهل الحيرة؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من اليمن من كندة. قال: فممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: الخفلجان بن الوهم كاتب الوحي لهود, عليه السلام"1.
وذكر بعض العلماء أن أول من وضع الخط العربي وألّف حروفه وأقسامه ستة أشخاص من طسم, كانوا نزولًا عند عدنان بن أدد, وكانت أسماؤهم: أبجد, هوز, حطي, كلمن, سعفص, قرشت, فوضعوا الكتابة والخط على أسمائهم, فلما وجدوا في الألفاظ حروفًا ليست في أسمائهم ألحقوها بها, وسموها الرّوادف, وهي: ثخذ ضظغ2.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "كلمن" كان رئيس ملوك مدين الذين وضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم, وقد هلكوا يوم الظلة, فقالت ابنة كلمن ترثي أباها:
كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه الـ ... حتف نارًا وسط ظله
جعلت نار عليهم ... دراهم كالمضمحله3
__________
1 المزهر "2/ 349".
2 حكمة الإشراق "64", "ستة أشخاص من طفيم", نزهة الجليس "2/ 63".
3 نزهة الجليس "2/ 63", المزهر "2/ 348".
كلمون هد ركني ... هلكه وسط المحله(15/164)
ويوم الظلة غيم تحته سموم, أو سحابة أظلتهم, فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها مما نالتهم من الحر, فأطبقت عليهم1. وقد أشير إلى عذاب يوم الظلة في القرآن الكريم2. وذكر أن هذا العذاب أصاب قوم "شعيب" لتكذيبهم رسالته, فرفع الله غمامة فخرجوا إليها ليستظلوا بها فأصابهم عذاب عظيم. التهبت عليهم وأحرقتهم3. ولما كان أبجد هوز ملوك مدين, وأهل مدين هم قوم شعيب, ربط أهل الأخبار مصيرهم بمصير قوم شعيب, وجعلوا نهايتهم يوم الظلة. فالكتابة على رأي هؤلاء تعود إلى هؤلاء الملوك, الذين هلكوا بذلك اليوم.
ورويت الأبيات على هذه الصورة:
كلمن هدّم ركني ... هُلكهُ وسط المحله
سيد القوم أتاه الـ ... حتف تحت ظله
كونت نارًا, وأضحت ... دار قومي مضمحله4
ووردت على هذه الصورة:
كلمن هدّم ركني ... هلكه وسط المحله5
سيد القوم أتاه الـ ... حتف نارًا وسط ظله
جعلت ناراً, عليهم ... دارهم كالمضمحله6
وقد تعرض "المسعودي" لموضوع الحروف, فقال: "وقد كانوا عدة ملوك تفرقوا في ممالك متصلة ومنفصلة, فمنهم المسمى بأبي جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت, وهم ما ذكرنا بنو المحض بن جندل, وأحرف
__________
1 "تاج العروس "7/ 427", "ضلل".
2 الشعراء, 26, الآية 189.
3 تفسير الطبري "19/ 66 وما بعدها".
4 اليعقوبي, مروج "2/ 129", "دار الأندلس",
كلمون هد ركنى ... هلكه وسط المحله
المزهر "2/ 348".
5 "ابن أمي هد ركني", تاج العروس "2/ 294", "بجد".
6 تاج العروس "2/ 294", "بجد".(15/165)
الجمل على أسماء هؤلاء الملوك, وهي التسعة والعشرون حرفًا التي يدور عليها حساب الجمل". "وكان أبجد ملك مكة وما يليها من الحجاز, وكان هوز وحطي ملكين ببلاد وج, وهي أرض الطائف, وما اتصل بذلك من أرض نجد, وكلمن وسعفص وقرشت ملوكًا بمدين, وقيل: ببلاد مصر, وكان كلمن على ملك مدين, ومن الناس من رأى أنه كان ملكًا على جميع من سمينا مشاعًا متصلًا على ما ذكرنا, وأن عذاب يوم الظلة كان في ملك كلمن منهم"1.
وأورد "المسعودي" أبياتًا زعم أن "المنتصر بن المنذر المديني" قالها في هؤلاء الملوك, هي:
ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... أتيت بها عمرًا وحيّ بني عمرو
هُمُ ملكوا أرض الحجاز بأوجهٍ ... كمثل شعاع الشمس في صورة البدر
ملوك بني حُطّي وسعفص ذي الندى ... وهوّز أرباب البنيّة والحجر
وهم قطنوا البيت الحرام ورتبوا ... خطورًا وساموا في المكارم والفخر2
وقد وردت في "تاج العروس" على هذا النحو, وقد نسب قولها إلى رجل من أهل مدين، ذكر أنه قالها يرثيهم:
ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... سبقت بها عمرًا وحيّ بني عمرو
ملوك بني حطي وهوّز منهم ... وسعفص أهل في المكارم والفخر
هم صبحوا أهل الحجاز بغارة ... كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر3
وروى أن "عمر بن الخطاب" لقي أعرابيًا فسأله هل تحسن القراءة؟ فقال: نعم. قال: فاقرأ أم القرآن؟ فقال الأعرابي والله ما أحسن البنات فكيف الأم! فضربه عمر بالدرة وأسلمه إلى الكتاب ليتعلم. فمكث حينًا ثم هرب, ولما رجع لأهله أنشدهم:
__________
1 مروج, للمسعودي "2/ 128", "دار الأندلس".
2 المسعودي, مروج "2/ 129", "دار الأندلس", حنفي بك ناصف "47", "أورد الأبيات مع بعض الاختلاف", المزهر "2/ 348".
3 تاج العروس "2/ 294", "بجد".(15/166)
أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أسطر متتابعات
كتاب الله في رقٍ صحيح ... وآيات القرآن مفصلات
فخطّوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم سعفصًا وقريشات
وما أنا والكتابة والتهجي ... وما حظ البنين مع البنات1
ويرجع أهل الأخبار "الروادف", أي: الحروف: الثاء, والخاء, والذال, والضاد, والظاء, والغين إلى أيام الملوك المذكورين في بعض الروايات. وهي حروف لم ترد في تركيب الأبجديات السامية القديمة؛ لأنها غير واردة في أكثر لهجاتها, لذلك وضعها أهل الأخبار في آخر الأبجدية, فأكملوا بذلك الأبجدية العربية. وقد ألحقها الكتاب بها بعد أن تبين لهم بالطبع أن في العربية حروفًا غير موجودة في الأبجدية المذكورة, فأوجدوها بوضع علامات على الحروف المذكورة التي لم تكن معلمة, فعبرت عن أسماء الحروف الناقصة واستعملوها في الكتابة دون أن يعملوا على إيجاد حروف جديدة للتعبير عن الحروف الناقصة.
ولعلماء العربية مثل "سيبويه" والمبرد والسيرافي وغيرهم آراء في الأسماء المذكورة يفهم منها أن منهم من جعل بعض تلك الأسماء مثل: "أبا جاد" و"هواز" و"حطيا" أسماء عربية, وبعضًا منها مثل: سعفص وكلمن وقرشنات أعجميات: ومنهم من جعلها أعجميات2. ويظهر من مراجعة آرائهم هذه أنهم كانوا قد عرفوا ترتيب حروف الأبجدية على النحو المتقدم, فلما قرءوها على أنها كلمات, كما كان يفعل "بني إرم" وغيرهم في تعليمهم الكتابة والقراءة للمبتدئين تولد عندهم هذا القصص, الذي قد يكون مصدره قصص قديم. ثم تولد لديهم قصص كونهم ملوكًا من مدين, أو رجالًا من أهل الأنبار إلى آخر ما رأيناه من قصص عن منشأ الحروف, ليجدوا بذلك مخرجًا في تعليل تلك المسميات.
وذكر بعض أهل الأخبار أن أول من أتى أهل مكة بكتابة العربية "سفيان بن أمية بن عبد شمس", ثم انتشرت3.
__________
1 تاج العروس "2/ 294", "بجد".
2 نزهة الجليس "2/ 64", المزهر "2/ 347".
3 نزهة الجليس "2/ 64".(15/167)
وترجع أسانيد الروايات المذكورة إلى "عبد الله بن عباس", و"كعب الأحبار", و"الشعبي" و"أبي ذر", و"عوانة", و"ابن الكلبي", و"الشرقي بن القطامي", و"الأصمعي" و"الهيثم بن عدي"1.
ويظهر من هذه الروايات ومن روايات أخرى أن رأي علماء العربية أن الخط العربي لم يكن أصيلًا في الحجاز, وإنما دخله من اليمن, أو من العراق أو أرض مدين. وأن أهل مكة إنما تعلموه من الأماكن المذكورة, في وقت غير بعيد عن الإسلام, لا يمكن أن يرتقي عنه بأكثر من قرن, إن لم يكن أقل من ذلك, وفقًا لرواياتهم هذه. وأن أقدم من كتب به هم أهل مكة. ولذلك قدم أهل الأخبار خط أهل مكة على سائر الخطوط التي عرفت في الإسلام. وجعلوه أول الخطوط العربية وبعده المدني, أي: خط أهل المدينة2.
أما أن أصله من اليمن فدعوى لا يمكن الأخذ بها؛ لأن أهل اليمن كانوا يكتبون بالمسند, والمسند بعيد عن هذا القلم الذي يسميه أهل الأخبار: القلم العربي أو الكتاب العربي أو الخط العربي بعدًا كبيرًا. وقد بقوا يكتبون بقلمهم هذا زمنًا في صدر الإسلام. ثم إن الروايات التي ترجع علم مكة بالخط إلى اليمن, هي آحاد بالنسبة إلى الروايات الأخرى التي تنسب أخذ الخط من العراق.
وأما دعوى مجيئه من مدين, أي: من أعالي الحجاز إلى مكة, فدعوى أراها غير مستبعدة؛ لأن أهل هذه المنطقة كانوا قبل الميلاد وبعده من النبط. والنبط هم عرب. وقد سبق أن تحدثت عنهم. وكانوا يكتبون بخط أخذ من قلم "بني إرم", حروفه منفصلة ومتصلة, وترتيب أبجديته هو ترتيب "بني إرم", أي: "أبجد هوز". وقد طوّروه بعض التطوير, فصار الكاتب بكتب به بالحبر بسرعة, وهو سريع وسهل أيضًا عند حفره على الحجر أو المعدن أو الخشب, ويناسب التاجر والكاتب ورجل الفكر. وقد وصلتنا كتابات كثيرة كتبت به. وفي ضمنها الكتابات الخمسة التي اعتبرها العلماء النموذج الأول والأقدم للكتابات المدونة بلغة قوم كانوا يتكلمون بالعربية, غير أن عربيتهم كانت متأثرة بالنبطية عند الكتابة. أو أنهم كانوا يكتبون بالنبطية, غير أن نبطيتهم لم تكن صافية
__________
1 المزهر "2/ 341", "النوع الثاني والأربعون: معرفة كتابة اللغة".
2 الفهرست "14", "الكلام على القلم الحميري".(15/168)
نقية, بل كانت متأثرة بلغتهم اليومية العربية. وفي ضمنها كتابة "النمارة" التي يعود عهدها إلى سنة "328" للميلاد, وكتابة "حرّان اللجا" التي هي أقرب هذه الكتابات إلى عربيتنا. ونظرًا إلى ما نجده من تشابه في رسم الحروف بين أقدم الكتابات العربية وبين الخط النبطي, وفي قواعد الإملاء وترتيب الأبجدية, فلا يستبعد أن يكون أهل مكة قد أخذوا هذا الخط فكتبوا به. باحتكاكهم بأهل أعالي الحجاز وبلاد الشأم حيث كانوا يتاجرون معهم, أو بمجيء النبط إليهم للاتجار تعلمه أهل مكة منهم.
وذهب الدكتور "خليل يحي نامي", إلى أن أصل الكتابة العربية من الحجاز, لما كان للحجاز من مكانة روحية عند العرب ولاشتغالهم بالتجارة. والمكانة الروحية والتجارة تستدعيان القراءة والكتابة, أخذوها من التجار النبط الذين كانوا يتوافدون عليهم للاتجار أو من اختلاطهم بالنبط أثناء ذهابهم إلى بلاد الشأم. فهو يرى أن الخط النبطي هو والد الخط العربي, ودليله أن ترتيب الحروف على طريقة أبجد هوز, وترتيبها من حيث حساب الجمل, أي: جعل كل حرف من حروف أبجد هوز في مقابل رقم حسابي, يردان في عربيتنا على نحو ما ورد عند النبط. مما يدل على أن الخط العربي أخذ من ذلك الخط, أضف إلى ذلك تشابه رسم الحروف المنفصلة والمتصلة في القلمين1.
وأما موضوع أخذ أهل مكة خطهم المذكور من العراق, فرأي لا أستبعده أيضًا, فقد كان عرب العراق يكتبون, ولهم مدارس لتعليم الكتابة ملحقة بالكنائس والأديرة, وقد كان بين أهل مكة وبين عرب العراق ولا سيما الأنبار والحيرة اتصال تجاري وثيق, وكان تجار مكة يأتون بتجارتهم إلى الحيرة ويقيمون بها, فلا يستبعد تعلمهم أو تعلم بعضهم الخط من أهل الحيرة ومن أهل الأنبار. كما كان للتبشير يد في نقل هذا الخط إلى الحجاز وربما إلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد كان هؤلاء المبشرون يكتبون بقلم نبطي أو بقلم إرمي متأخر, وهو والد القلم العربي الذي نكتب به. وقد كان المبشرون من أهل العراق نشطون في التبشير في جزيرة العرب, فلا يستبعد أن يكون من بينهم مبشرون حيريون
__________
1 خليل يحي نامي, مجلة كلية الآداب, الجامعة المصرية, 1935م, مجلد3, جزء1 "ص102 وما بعدها".(15/169)
نقلوا الكتابة إلى "دومة الجندل" والحجاز ومواضع أخرى من جزيرة العرب.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كتبة الوحي, إنما كتبوا بخط أُخذ من "الجزم", أي: من خط أهل الحيرة. وذلك بحكم اتصال أهل مكة بالحيرة, اتصالًا تجاريًّا, فتعلموه منهم1. فهم يوافقون بذلك بعض الروايات العربية التي ترجع علم أهل مكة بالكتابة إلى الحيرة.
وقد بقي أهل الحيرة يكتبون للولاة, ويقرءون عليهم مايرد إليهم من رسائل أهل العراق وبلاد الشأم, وذلك لحسن خطهم وإتقانهم الكتابة. فكان لأبي موسى الأشعري كاتب, ولما سأله "عمر" عن سبب اتخاذه كاتبًا من النصارى أجابه: "له دينه ولي كتابته". ولما أراد "عمر" اختيار كاتب حاذق حافظ ذكر له غلام نصراني من أهل الحيرة2.
ومما يلفت النظر ويسترعي الانتباه, هو أن المنطقة التي يذكر أهل الأخبار أنها كانت الأرض التي نبت بها الخط العربي, وهي الأنبار والحيرة, لم تعط الباحثين حتى الآن أي نص مكتوب. كما أن مكة المدينة الآخذة للخط لم تعطنا أيضًا أي نص جاهلي مكتوب. مع أن نصوص هذه الأرضين تهمنا بصورة خاصة, لما لها من علاقة بالخط العربي الذي نتكلم عنه, وباللغة التي نزل بها القرآن الكريم ونظم بها الشعر الجاهلي, وبالأدب الجاهلي. فلم لم تصل نصوص إلينا من العراق ولا من مكة مع أن أهل مكة كانوا يكتبون عند ظهور الإسلام, وكذلك أهل الحيرة كانوا يكتبون, ولهم دواوين في أخبارهم, رجع إليها ابن الكلبي, كما نص على ذلك. هل سبب عدم وصولها, أن الذين كتبوا بهذا القلم إنما كتبوا على مواد سريعة التلف وبالحبر, ولذلك تلفت, ولم تتمكن من العيش طويلًا, كما تلفت مخطوطات أهم منها شأنًا مثل: النسخ الأولى للقرآن الكريم, والنسخ الأصلية من رسائل وكتب الرسول إلى الملوك والأمراء وإلى أصحابه. وكذلك خطوط الخلفاء الراشدين وسجلات دواوينهم وما شاكل ذلك من وثائق. قد يكون ما ذكرته هو السبب في عدم وصول نص من هذه الأرضين إلينا, وقد تكون هنالك أسباب أخرى. على كل, علينا ألاّ نيأس من المستقبل, فلعل
__________
1 "Die Araber, II, S. 357.".
2 عيون الأخبار "1/ 43".(15/170)
الباحثين سينقبون في باطن الأرض وينبشون الأماكن الأثرية فيجدون أشياء, هي تحت قشرة الأرض في الوقت الحاضر. فيكون من يأتي بعدنا سعداء بالطبع لوقوفهم على أشياء حرمنا من رؤيتها نحن فصرنا في جهل من أمرها, وصاروا هم في نعيم من العلم.
وقد ذهب "جرجي زيدان" إلى أن المضريين الذين تحضروا وأقاموا في العراق وفي بلاد الشأم, اقتبسوا الكتابة من جيرانهم, فكتب منهم من كتب بالعبرانية وكتب منهم من كتب بالسريانية, ولكن القلمين النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية, فتخلف عن الأول الخط النسخي "الدارج" وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة. وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام الحيري نسبة إلى الحيرة, وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام, وابتنى المسلمون الكوفة بجوارها.
ومعنى ذلك أن السريان في العراق كانوا يكتبون ببضعة أقلام من الخط السرياني, في جملتها قلم يسمونه "السطرنجيلي" كانوا يكتبون به أسفار الكتاب المقدس, فاقتبسه العرب في القرن الأول قبل الإسلام, وكان من أسباب تلك النهضة عندهم وعنه تخلف الخط الكوفي. وهما متشابهان إلى الآن1.
ثم تعرض إلى ناقل الخط إلى مكة, فقال: "واختلفوا فيمن نقله إلى بلاد العرب, والأشهر أن أهل الأنبار نقلوه, وذلك أن رجلا منهم اسمه بشر بن عبد الملك الكندي أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل, تعلم هذا الخط من الأنبار وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان والد معاوية, فعلم جماعة من أهل مكة, فكثر من يكتب بمكة من قريش عند ظهور الإسلام, ولذلك توهم بعضهم أن أول من نقل الخط إلى العرب سفيان بن أمية2.
ولما أراد ابداء رأيه في أصل الخط العربي جمع بين الرأيين: الرأي القائل أن أصل الخط العربي من العراق, والرأي القائل أن أصله من حوران, فقال: "والخلاصة على أي حال أن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران في أثناء
__________
1 تأريخ التمدن الإسلامي "3/ 58", "الخط العربي".
2 تأريخ التمدن الإسلامي "3/ 58", السجستاني, المصاحف "4".(15/171)
تجاراتهم إلى الشأم, وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبل الهجرة بقليل, وظل الخطان معروفين عندهم بعد الإسلام. والأرجح أنهم كانوا يستخدمون القلمين معًا: الكوفي لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية, كما كان سلفه السطرنجيلي يستخدم عند السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية, والنبطي لكتابة المراسلات والمكاتبات الاعتيادية. ومما يدل على تخلف القلم الكوفي عن السطرنجيلي –فضلا عن شكله– أن الألف إذا جاءت حرف مدّ في وسط الكلمة تحذف, وتلك قاعدة مطردة في الكتابة السريانية, وكان ذلك شائعا في الإسلام, وخصوصا في القرآن, فيكتبون "الكتب" بدل "الكتاب", و"الظلمين" بدل "الظالمين"1.
والقلم الكوفي هو من أقدم الأقلام العربية الإسلامية. وهو كما ذكرت قبل صفحات, قريب الشبه بالقلم السطرنجيلي, قلم المصاحف عند نصارى العراق, ومن أجلّ أقلامهم لاستخدامه في كتابة الكتابات الدينية, ومنها الأناجيل. وقد أُخذ من القلم الحيري على ما يظهر؛ لأن أهل الحيرة كانوا يكتبون "الجزم", والجزم وليد السطرنجيلي؛ ذلك لأن الكوفة نشأت في خلافة "عمر", فانتقل إليها في جملة من انتقل إليها أهل الحيرة, الكتاب بالقلم الجزم. ولهذا صار قلم الكوفة ثقيلا في الكتابة ذا زوايا مربعة وحروفًا مستقيمة, والكتابة تميل إلى التربيع2. وقد أخذ من "الجزم"3, ونسب إلى الكوفة لظهوره لأول مرة بها في الإسلام.
ولا يستبعد أيضا أخذ أهل مكة خطهم المدور المسمى "النسخ" من "حوران" أو من "البتراء" و "العلا" فبين مكة والمكانين المذكورين اللذين سكن بهما النبط اتصال وثيق. أو من الحيرة والأنبار. فالخط المدور هو قلم النبط المتأخر, وقلم كتبة العراق أيضًا, وهو والد القلم "النسخ". ومن الخطأ اعتبار "النسخ" وليد الخط الكوفي4؛ لأن الخط الكوفي هو الجزم أو قلم آخر مثله اشتق من القلم المربع الزوايا "السطرنجيلي", بينما النسخ وليد القلم المدور الذي أستطيع تسميته
__________
1 تأريخ التمدن الإسلامي "3/ 59".
2 الأبحاث, 1952م, "جـ1 ص15".
3 مجلة المجمع العلمي العربي, بدمشق, 1952م, "ص421".
4 الأبحاث, 1952م "جـ1 ص15".(15/172)
بالمشق مجاراة للبطليوسي, الذي شخصه بأنه قلم أهل الأنبار.
ويرى بعض الباحثين أن القلم العربي قد أخذ من قلم بني إرم. وذلك أن السريان الذين هم من "بني إرم" كانوا قد طوروا القلم الإرمي, وكتبوا بقلمين: قلم قديم كتبت به الأناجيل والكتب المقدسة, وهو المربع, ذو الحروف المستقيمة ذات الزوايا المربعة, الذي هو الخط "السطرنجيلي", وقلم سهل ذو جروف مستديرة, أي على شكل أقواس, هو قلم النسخ. وقد عرف العرب القلمين وكتبوا بهما, فسموا السهل النسخ والآخر الكوفي1.
وحجتهم في ذلك أن القلم العربي أخذ بترتيب "أبجد هوز حطي", وهو ترتيب وجد في لغة "بني إرم", كما أخذ بهذا الترتيب بحساب الجمل. وهو ترتيب موجود عند بني إرم أيضًا. كما أخذ بقواعد من قواعد رسم الحروف في الإملاء موجودة في خط "بني إرم", مثل قاعدة ربط أو فصل الحروف عند تدوين الكلمة, وقاعدة حذف الألف عند وقوعه في وسط الكلمة, في رحمان ومساكين ويتامى ومساجد وكتاب وإبراهيم وإسحاق وإسماعيل, فإنها كتبت في خط المصاحف بدون ألف. ومثل حذف ألف فاعل وتفاعل في السريانية وفي العربية أيضًا, كما في بارك حيث كتبت "برك" في خط المصاحف, ومثل حذف الألف من ضمير الجمع المتكلم "نا", كما في "أرسلنك" و"اصطفينه" و"بشرنه", في موضع "أرسلناك" و"اصطفيناه" و"بشرناه", وذلك في خط المصاحف, وحذف ألف جمع المؤنث السالم في السريانية وفي العربية, كما "صدقت" و"طيبت", بدلا من صدقات وطيبات. ومن هذا القبيل أيضًا, تدوين "شهد" و"كفرين", بدلا من شاهد وكافرين. ومثل حذف ياء المتكلم في السريانية وفي القلم العربي القديم, كما في كتابة يرب في موضع يا ربي2.
ورأيي أن القول الجزم في أصل قلم أهل مكة, هل هو من العراق أو من بلاد الشأم, يجب أن يكون للكتابات. فمتى عثرنا على كتابات مدونة بالعربية
__________
1 الدراسات الأدبية, العدد الأول, السنة الثانية, 1960م "ص76 وما بعدها", "مقال الدكتور أنيس فريحة".
2 الدراسات الأدبية, السنة الثانية, العدد الأول "ص76 وما بعدها".(15/173)
بالحيرة أو بالأنبار أو بالأماكن الأخرى من العراق تعود إلى الجاهلية وإلى صدر الإسلام وعلى كتابات مثلها من حيث الزمن يعثر عليها في بلاد الشأم وفي الحجاز أو نجد أو أي مكان آخر من جزيرة العرب, وقارناها بعضها ببعض, وطابقنا فيما بين خطوطها ورسم حروفها وما شاكل ذلك, جاز لنا حينئذ القول بأصل قلم مكة والأقلام الأخرى المشابهة له. وبأصل اللغة التي دونت به, ومزاياها والأماكن التي كانت تتكلم بها. وعندئذ نحل مشكلة أصل اللغة العربية الفصحى أيضًا, وهي من أهم مشكلات تأريخ الأدب الجاهلي ولا شك.
وأما جمهرة المستشرقين المعاصرين الذين عنوا بدراسة تطور الخطوط السامية, ومنشأ الخطوط العربية, فقد رأوا أن الخط العربي الذي دوّن به القرآن أخذ من الخط النبطي المتأخر الذي كان يستعمله النبط, وهو خط تولد من القلم الإرمي المتفرع من الفينيقية على رأي المستشرق "هومل"1. وقد استعمل في تيماء وبين النبط الذين كانوا يقيمون في أعالي الحجاز وفي سيناء2. وقد عثر على كتابات دونت به في مواضع مختلفة من الحجاز واليمن.
وسند القائلين بهذا الرأي ودليلهم هو عدد من الكتابات عثر عليها السياح, كتبت بلهجة غير بعيدة عن اللهجة العربية التي نزل بها القرآن, وبحروف مرتبطة, وبالقلم النبطي المتأخر الشبيه جدّا بأقدم الخطوط العربية ولا سيما الكوفية منها. ومن مميزاته ارتباط بعض حروفه ببعض وكتابة بعض الحروف في نهاية الكلمة بشكل يختلف عن رسم الحروف التي من نوعها المستعملة في أوائل الكلمة أو أواسطها.
ولهذه الكتابات على قلة عددها أهمية كبيرة لدى العلماء, لما لها من خصائص ومميزات لغوية تفيد في دراسة تطور اللهجات العربية, وفي دراسة تطور القلم العربي. وقد تكون مقدمة لعدد آخر من الكتابات المكتوبة بهذا الخط.
__________
1 Ency. Brita., I. p. 684, Grundriss, I, S. 154.
ناصر النقشبندي, منشأ الخط العربي وتطوره لغاية عهد الخلفاء الراشدين, مجلة سومر, كانون الثاني 1947م, "129 وما بعدها", خليل يحيى نامي, أصل الخط العربي وتأريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام, مجلة كلية الآداب, المجلد الأول, الجزء الأول, مايو 1935.
2 Ency. Brita., I, p. 684.(15/174)
وأقدم هذه الكتابات الكتابة التي يقال لها: كتابة "أم الجمال" الأولى ويعود تأريخها إلى سنة "250" أو "270" للميلاد. وقد وضعت شاهدا على قبر "فهر برسلي" "فهر بن سلي" مربي "جديمت" "جدمت" "جديمة" جذيمة ملك "تنوح" "تنوخ", وعثر عليها في موضع يقال له: "أم الجمال", في جنوب حوران من أعمال شرق الأردن1. ويعتقد "ليتمان", أن تأريخ هذا النقش لا يبعد كثيرا عن تأريخ كتابة أخرى هي كتابة النمارة "ن م ر ت". ونجد في هذه الكتابة حروفا غير مرتبطة وحروفا مرتبطة مشابهة لبعض حروف الخط الكوفي. وقد كتبت بالإرمية, ومع ذلك فإن لها أهمية لوجود أسماء عربية فيها؛ ولأن القبائل العربية الشمالية كانت تستعمل الإرمية في الكتابة2.
وقد عثر الباحثون على كتابات معدودة سبقت هذه الكتابة, دُوّنت بالقلم النبطي أيضًا, هي كتابة عثر عليها في "وادي المكتب" في طور سيناء, يعود تأريخها إلى سنة "106" من سقوط "سلع", المقابلة لسنة "210" للميلاد, وكتابة ثانية يعود تأريخها إلى سنة "126" من سقوط "سلع", أي: سنة "230" للميلاد. وقد وجدت في وادي فران بطور سيناء كذلك, وكتابة ثالثة هي من كتابات "طور سيناء" أيضًا, وقد أرخت بسنة "148" من سقوط "سلع", أي: سنة "253" للميلاد, وكتابة رابعة عثر عليها في الحجر, وتأريخها سنة "162" من سقوط "سلع", أي: سنة "267" للميلاد.
ولكن هذه الكتابات بعيدة بعض البعد عن القلم العربي, وأما لغتها فنبطية, ونجد نص "الحجر" "مدائن صالح", وقد حوى كلمات كتبت بقلم ثمودي. ولذلك فإن له ميزة من هذه الناحية على الكتابات الأخرى, ومنطقة الحجر من
__________
1 السامية "139", "سنة270", خليل يحيى النامي: أصل الخط العربي وتطوره إلى ما قبل الإسلام, مجلة كلية الآداب, مايو 1935.
De Vogue, Syrie Centrale, Inscriptions Sémitique, PL. 15,11.
2 السامية "140", مجلة سومر "م3, جـ1, كانون الثاني 1947, ص130",
Nabia, 4, Littmann, Nabataen Inscriptions from the Southern Hauran, Princeton Universty Expeditions to Syria, in 1904-905, and 1909, p. 37, Cantinean , Nabateen et Arabe, pp. 72-79, Institut d'Etudes Orientales, Annales, I, 1934-1935.(15/175)
المناطق التي عثر فيها على عدد من كتابات قوم ثمود. ونظرا إلى أن خط نص "أم الجمال" أقرب إلى الخط العربي من الكتابات المذكورة التي سبقته, لذلك قدمته عليها.
وتلي كتابة أم الجمال الأولى في الزمن كتابة النمارة, وقد عثر عليها المستشرق الفرنسي "دوسو" "M. René Dussaud" في النمارة في الحرة الشرقية من جبل الدروز, و"النمارة" قصر صغير كان للروم. وجدها على قبر امرئ القيس الأول بن عمر ملك العرب المتوفى في يوم 7 بكسلول من سنة 223, المقابلة لسنة 328 للميلاد, وقد دونت سنة الوفاة, وهي سنة تأريخ الكتابة كذلك وفقا لتقويم "بصرى" وهو التقويم الذي كان يستعمله عرب هذه الأطراف ونبطها. وتعدّ هذه الكتابة أول كتابة وأقدم كتابة عثر عليها حتى الآن مدونة باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن, وإن كتبت بالقلم النبطي المتأخر وبأسلوب متأثر بالإرمية1.
وعثر على كتابة في خرائب "زبد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب, كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية, يرجع تأريخها إلى سنة "612" للميلاد "823" للتقويم السلوقي2. والمهم عندنا هو النص العربي, ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية, فإن أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنيسة التي وضعت فيها الكتابة3. وقد قرأ العالم "ليدزبارسكي" الكلمة الأولى منه "بسم". أما الكلمة الثانية, فهي "الإله" فأصبح مطلع النص: "بسم الإله", فإذا كانت القراءة هذه صحيحة, تكون لكلمة "بسم الإله" أهمية كبيرة في موضوع الفكرة الدينية. أما العالم "ليتمن" فقد قرأ الكلمة الأولى منه "بنصر", فتكون فاتحة النص: "بنصر الإله"4.
__________
1 Fritz Hommel Grundriss der Geographie und Geschichte des Alten Orients, Munchen, 1904, BD, I, S. 155, Dussaud, Les Arabes en Syrie, P. 34, Nabia, p. 4, Revue Archeologique 31 Serie, XLI, 1911, p. 411.
2 Grondriss, I, S. 156, E. Sachau, Eine Dreisprachige Inschrift Aus Zebed: Monatsberichte der Preussiche Akademi der Wissenschaften, Berlin 10 Febr. 1881, S. 169, Zur Trilinguis Zebedaes, in ZDMG, 36, 1882, s. 345-352.
3 السامية "191".
Lidzbarsky, Handbuch der nordsemit. Epigraphik, Weimar, 1898, s. 484, Ephemeris, Glessen, 1902, BD, 2, S. 35.
4 السامية "191". "A. Littmann, in Rivista degli Studi Orientail, 1911, p. 195.".(15/176)
وقد دوّن النص العربي على هذه الصورة:
1-.. م الإله سرحو بر امت منفو وهنى برمر القيس.
2- وسرحو بر سعدو وسترو وشريحو بتميمى.
ومعناه: بسم الإله. سرحو بن أمت منفو, وهيء بن امرئ القيس, وسرحو بن سعدو, وستر "ستار" "ساتر" وشريح. أتمّوا.
والنص العربي, ليس ترجمة للنص السرياني أو اليوناني, لذلك ذهب بعض الباحثين إلى احتمال كونه متأخرا بالنسبة إلى النصين المذكورين, أي: إنه كتب بعدهما. وهو يتناول تخليد عمل المذكورين في بناء الكنيسة.
وعثر المستشرقون في حرّان اللجا في المنطقة الشمالية من جبل الدروز على كتابة أخرى مدونة باليونانية والعربية قيل لها: "نقش حَرّان", وقد وضعت فوق باب كنيسة, وصاحبها "شرحيل بر ظلمو" "شراحيل بن ظالم" "شرحيل بن ظالم", ويعود تأريخ الكتابة إلى عام "463" من الأندقطية الأولى", وتقابل سنة "568" للميلاد1. أما النص العربي, فقد أرخ بسنة "463" أيضًا, وأضيف إلى هذا التأريخ عبارة "بعد مفسد خيبر بعم", أي: "بعام". ومعنى هذا أن حدثا تأريخيًّا كان قد وقع قبل هذا التأريخ بسنة صار الناس هنالك يؤرخون به, فأرخ النص به. ويرى "ليتمن" أن ذلك يعني وقوع غزو على خيبر ربما قام به أحد ملوك غسان2.
وهذا النص هو من أهم النصوص المتقدمة وأكثرها قيمة بالنسبة لمؤرخ اللغة العربية؛ لأنه نص دوّن بلهجة القرآن الكريم, باستثناء أثر سهل للنبطية برز عليه. ولأهميته هذه أدوّنه على نحو ما جاء في النص العربي: "انا شرحيل بر "بن" ظلمو بنيت ذا المرطول "سنت" سنة 463 بعد مفسد خيبر "بعم" "بعام". فأنت أمام نص عربي واضح, تفهمه من دون صعوبة ولا مشقة.
__________
1 السامية "192".
Nabia p. 5. Dussaud, Mission, P. 324, Grundriss, S. 156, Schroder, in ZDMG. 38, 1884, p. 530.
2 السامية "192".
A. Littmann, In Revist, 1911, p. 95 Nabia, p. 5, Littmann, in ZEitschrift Fur Semitistik und Verwandte, Gebiete, Leipzig, 1922, VII, S. 197.(15/177)
على حين نجد النصوص الأخرى وقد كتبت بنبطية متأثرة بالعربية الشمالية بعض التأثر. ولهذا فإني أفرّق بين هذا النص وبين النصوص السابقة له, وأعدّه أول نص وصل إلينا حتى هذا اليوم كتب بلهجة عربية القرآن الكريم.
وتعد الكتابة التي عثر عليها في موضع "أم الجمال" وقيل لها: كتابة "أم الجمال الثانية" تفريقًًا لها عن كتابة أم الجمال الأولى, أحدث ما عثر عليه من كتابات بهذا القلم الذي نتحدث عنه, وباللهجة النبطية المتأثرة بلهجة القرآن, أو باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن. وهي لا تحمل تأريخًا. غير أن من عالج أمرها من المستشرقين يرى أنها تعود إلى القرن السادس للميلاد1. ولغتها قريبة من اللغة العربية المعروفة, كما أنها متحررة من النبطية والإرمية إلى حد كبير.
وعثر في اليمن على بعض كتابات نبطية لعلها من آثار التجار النبط الذين كانوا يذهبون إلى اليمن بقصد التجارة, ولا سيما في القرنين الأولين للميلاد, أو من آثار تجار أهل الحجاز أو من أهل اليمن, كانوا قد تعلموا الكتابة بهذا القلم الذي أخذ ينتشر بعد الميلاد؛ لأنه أسهل في الاستعمال من المسند الذي يحتاج إلى دقة في الرسم, وإلى بطء في الكتابة. ولوحظ أنه إحدى هذه الكتابات كتبت بالقلم النبطي المتأخر الذي يشبه القلم الذي استعمل في نقش "فهر بن سلي"2.
ولكن العلماء لم يتمكنوا من العثور على عدد كاف من الكتابات المدونة بهذا القلم, تكفي لإصدار حكم علمي عن وقت دخول القلم النبطي المتأخر إلى الحجاز واليمن ومدى انتشاره بين الناس. ولما كان القلم النبطي المتأخر قد ظهر بعد الميلاد على رأي أكثر العلماء, يكون هذا الخط قد وصل الحجاز واليمن بعد الميلاد بالطبع بالاتصال التجاري والقوافل التي كانت تقوم برحلاتها بين اليمن وبلاد الشأم, وبواسطة النصرانية التي وجدت لها سبيلًا إلى اليمن.
ويلاحظ أن الذين كتبوا بالقلم العربي الشمالي, الذي أخذ منه قلم مكة, هم من العرب النصارى في الغالب, فأهل الأنبار, والحيرة, وعين شمس,
__________
1 Nabia, p. 5, PL. 15, Littmann, in Zeitschrift fur Semitistik und Verwandte Gebiete, 1922, VII, 197-204.
2 Nabia, p. 5, PL. 15, Littmann, in Zetschrift fur Semitistik und Verwandte Gabiete, 1922, VII, S. 197-204.(15/178)
ودومة الجندل, وبلاد الشأم, كانوا من النصارى, فلا أستبعد احتمال استعمال رجال الدين للقلم السرياني المتأخر, الذي كوّن القلم النبطي في كتابة العربية, لحاجتهم إلى الكتابة في تعليم أولاد النصارى الكتابة, وتثقيفهم ثقافة دينية, فكانوا يعلمونها في المدارس الملحقة بالكنائس, وربما نشروها في البحرين, أي: في سواحل الخليج حيث كانت هنالك جاليات نصرانية, وفي الأماكن الأخرى من جزيرة العرب التي كانت النصرانية فيها قد وجدت سبيلًا لها بينها, ولا أستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات مطمورة كتبت بهذا القلم.
وتفيدنا دراسة شكل خط هذه النصوص فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الخط العربي, فبين رسم هذه الخطوط وبين رسم أقدم الخطوط العربية الإسلامية تقارب كبير, يشير إلى اشتقاق القلم الذي دوّن به الوحي من هذا القلم, وهو القلم الذي كان يكتب به عرب العراق كذلك على ما أرى. وهو قلم وصل بين حروفه, وفصل في مواضع أخرى. وهو يختلف بذلك عن القلم المسند الذي استعمل حروفًا منفصلة فقط, ولم يعرف الحروف المتصلة, كما أن شكل حروفه بعيد جدًّا عن شكل حروف هذا القلم, وهو أسهل وأسرع في الكتابة على الكاتب من المسند.
ونرى في هذه الصورة التي تضم رسم الحروف في الخط النبطي المتأخر والقلم العربي القديم, تشابهًا كبيرًا في الشكل, ينبئك بوجود نسب بين القلمين, وأن القلم العربي القديم, قد تولد منه. ولا أستبعد أن يكون قلم أهل الحيرة هو هذا القلم نفسه, استعملوه في تدوين العربية. وقد رأينا أن النصوص القليلة المكتوبة بنبطية متأثرة بالعربية, قد كتبت بهذا القلم, وبينها نص "النمارة" الذي هو شاخص قبر "امرئ القيس" أحد ملوك الحيرة.
وإني لا أستبعد احتمال عثور المنقبين والباحثين في المستقبل على كتابات عربية قديمة تعود إلى الجاهلية الملاصقة للإسلام وإلى أيام الرسول بكثرة تمكن العلماء من وضع رأي واضح عن منشأ وتطور الخط العربي القرآني.
وقد استعملتُ جملة "الخط العربي القرآني"؛ لأن القرآن هو في الواقع صاحب الفضل على هذا الخط في تخليده وتثبيته لأمر الرسول بتدوين الوحي به, أي: بهذا القلم العربي القديم الذي أتحدث عنه, الذي أخذه أهل مكة من أهل(15/179)
"الحيرة", أو عن "بشر بن عبد الملك" السكوني, من "دومة الجندل" على رواية أهل الأخبار. وإني أرى أن للبحث عن الكتابات العربية القديمة في الحجاز وفي "دومة الجندل" و"الحيرة" و"الأنبار" و"عين التمر", وفي القرى العربية الأخرى التي أقيمت على الفرات وفي بلاد الشأم أهمية كبيرة بالنسبة لبحثنا في تأريخ نشوء وتطور الخط العربي القرآني؛ لأني أكره الطرق التي يأخذ بها بعض الباحثين من اللجوء إلى الحدس والظن في وضع آراء علمية قاطعة ومهمة, مثل الخط ومنشئه وتطوره وما شابه ذلك, لمجرد رأي ورد عند أهل الأخبار, أو ظن مال إليه عالم, وعندي أن آراءًا مثل هذه يجب ألا تقال إلا باستناد على دليل مادي ملموس, مثل أثر, أو مصدر تأريخي قديم محترم.
والصورة التي نراها في الصفحة المقابلة تمثل نماذج من القلمين: القلم النبطي المتأخر, والقلم العربي القديم, مأخوذة من مختلف الصور الأصلية التي عثر عليها العلماء في مختلف الأنحاء من العراق وبلاد الشأم وجزيرة العرب.
ويرى المستشرق "وايل" Weil أن الترتيب الذي يرد للحروف العربية على طريقة: "أبجد هوز حطي.... إلخ", هو ترتيب أخذه العرب من النبط أو اليهود, وقد أخذه النبط والعبرانيون من القلم الإرمي. وتشير هذه الطريقة بكل جلاء إلى اشتقاق القلم العربي من القلم النبطي المتفرع عن الخط الإرمي1. أما الترتيب الذي عند الكنعانيين, فهو هذا الترتيب مع زيادة الأحرف التي اقتضى وجودها في طبيعة لغتهم. ويرى بعض العلماء أن العبرانيين أخذوا ترتيبهم هذا من الكنعانيين2. ونجد هذا الترتيب عند الفينيقيين أيضًا, ولهذا يرى بعض الباحثين أن العبرانين والآراميين أخذوا الكتابة من الفينيقيين, وأخذوا منهم استعمال الحروف للعدد أيضًا, على نحو ما نجده في العربية من استعمالها في حساب الجمل3.
وقد وضع علماء العربية بعد "قرشت" التي يمثل حرف "التاء" فيها آخر حروف الأبجدية التي بلغ عدد حروفها اثنان وعشرون حرفًا, الحروف التي لم ترد
__________
1 "Ency. I, p. 68.".
2 السامية "102".
3 الأبحاث "1952م" "جـ1 ص5 وما بعدها".(15/180)
القلم العربي القديم القلم النبطي المتأخر
نماذج من القلمين: النبطي المتأخر والقلم العربي القديم يمثل العمود "1" نماذج من الحروف العربية المستعملة في القرن الأول للهجرة ويمثل العمود "2" نماذج من حروف كتابتي زبد وحران. وأما العمودان "3" و"4" فيمثلان نماذج من كتابة النمارة وبطرا.(15/181)
في هذه الأبجدية, ولكنها ترد في العربية, ودعوها بـ"الروادف"1. وضعوها بصورة ينفي عنها كل نشاز قد يظهر بين رسمها ورسم الحروف الأخرى, وذلك باعتمادهم على تكرار الحرف, وبذلك أولدوا الروادف المذكورة2.
ويظهر من الروايات العربية القديمة أن كتّاب الجاهلية المتصلة بالإسلام وكتّاب صدر الإسلام كانوا يسيرون في تعلم الكتابة على طريقة "أبجد هوز", أي: على طريقة الآراميين والنبط والعبرانيين. وقد ورد في الأخبار أن الناس في أيام "عمر بن الخطاب", كانوا يتعلمون الكتابة على طريقة "أبجد هوز" قال "القلقشندي": "وقد جاء أنها كانت تُعلم في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ويشهد لذلك قول الأعرابي في أبياته:
أتيت مهاجرين فَعَلَّمُوني ... ثلاثة أسطر متتابعات
وخطّوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلّم سعفصًا وقريشات3
والترتيب الذي يعمل به الآن في البلاد العربية من الابتداء بالألف ثم بالباء, فالتاء, فالثاء, فالجيم, فالحاء, فالخاء.... هو ترتيب وضع في زمن "عبد الملك بن مروان", عمل به "نصر بن عاصم", و"يحيى بن يعمر" العدواني. وقصد به ضم كل حرف إلى ما يشبهه في الشكل, وقد ساد هذا الترتيب ومشى. وجرى عليه أصحاب الصحاح ولسان العرب والقاموس, وتاج العروس, وأصحاب معاجم اللغة في هذا اليوم4.
أما ما ورد في بعض الروايات من أن "أبا ذر الغفاري" سأل رسول الله عن الحروف, فقال له: "إنها تسعة وعشرون, وإنها نزلت على ترتيب: "اب ت ث ج", أي: على الترتيب الذي نسير عليه في الوقت الحاضر, وإنه عجب من قول الرسول له إنها تسعة وعشرون؛ لأن حروف العربية هي ثمانية وعشرون,
__________
1 Ency. I,p68..
2 مجلة المجمع العلمي العربي, بدمشق 1959م, "ص576".
3 صبح الأعشى "3/ 19".
4 حفني بك ناصف, تأريخ الأدب أو حياة اللغة العربية, "القاهرة 1958م", "الطبعة الثانية", "الكتاب الأول", "ص27".(15/182)
ومن تأكيد الرسول له إنها تسعة وعشرون, نزلت كلها على آدم1. فخبر غير صحيح ولا يُعوّل عليه, وهو موضوع, لما ذكرته من أن الترتيب المذكور إنما ظهر في الإسلام.
هذا وإن مما يؤسف له كثيرًا أننا لا نملك اليوم كتابة واحدة من الكتابات المدونة في أيام الرسول, ولا نملك أي نسخة من نسخ القرآن أو من صحفه المدونة في أيامه. فلا نملك اليوم نسخة حفصة للقرآن الكريم, ولا نسخة "عثمان بن عفان"2 ولا النسخ التي دونت بأمره لتوزع على الأمصار, ولا أية نسخ أخرى من النسخ التي دوّنها الصحابة لأنفسهم. ولا نملك النسخ الأصلية للمراسلات التي كان يأمر الرسول بتدوينها لترسل إلى الملوك أو سادات القبائل والأمراء. نعم يقال: إن هناك نسخًا من المصاحف ترجع إلى أيام الخلفاء, وقد دوّن بعض منها بأقلام أجلّة الصحابة, وأن هناك بقية من رسائل الرسول وأن هناك كتابات يرجع تأريخها إلى أيام الرسول3, ولكن المتبحرين في العلم العارفين بكيفية تثبيت أعمار الوثائق لم يتمكنوا من البت في صحة هذه الدعاوى, ولم يقطعوا بصحة هذه الوثائق. لذلك فليس لنا أمام هذه الحجج التي أبديت عن هذه الآثار سوى التحفظ والتوقف عن إبداء رأي فيها, فلعل الأيام تهيئ للقادمين من بعدنا وثائق جديدة تعود إلى الأيام التي نبحث فيها.
هذا وإن من الممكن التثبت في الوقت الحاضر من صحة الوثائق المنسوبة إلى أيام الرسول أو أيام من جاء بعده, بعرضها على الفحوص المختبرية الحديثة, التي باستطاعتها تقدير أعمارها, وتثبيت أسنانها, ولكني لا أعلم أن أحدًا عرض هذه الوثائق لمثل هذه الفحوص.
هذا وللمادة التي دونت عليها تلك الكتابات ولندرة الورق إذ ذاك ولغلاء ثمنه, ولعدم إدراك الناس في ذلك الوقت لأهمية حفظ الوثائق, ولتعرض تلك الوثائق إلى عوامل عديدة من عوامل التلف والبلى مثل: الحريق والماء والأرضة وما شاكل
__________
1 صبح الأعشى "3/ 7 وما بعدها", "المسلك الثاني في وضع الحروف العربية".
2 ليس فيما يقال عن وجود نسخة عثمان من مصحف عثمان في "استانبول" أو في أماكن أخرى أساس من الصحة, وإنما هو زعم من غير دليل.
3 M. Hamidullah, Some Arabic Inscriptions of Medinah of The Early Rears of Hijrah, Islamic Culture, vol. 13, NUM: 4, 1939, P. 427.(15/183)
الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته
مدخل
...
الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته
والمسند من الأقلام العتيقة، وهو أعتق من القلم النبطي المتأخر، وهو أقدم الأقلام التي عرفت في جزيرة العرب حتى الآن. وقد أظهرت الاكتشافات الحديثة أن استعماله لم يكن قاصرًا على اليمن فحسب، بل لقد كان القلم المستعمل في كل أنحاء بلاد العرب. وقد استعمله العرب في خارج بلادهم أيضًا؛ لأنه قلمهم الوطني الذي كانوا به يكتبون فعثر في موضع قصر البنات على طريق "قنا" على كتابات بهذا القلم1، كما عثر على كتابة بهذا القلم كذلك بالجيزة كتبت "في السنة الثانية والعشرين من حكم بطلميوس بن بطلميوس". وهي ليست بعد سنة "261" قبل الميلاد بأي حال من الأحوال2. وعثر على كتابات بالمسند في جزيرة "ديلوس" من جزر اليونان3.
__________
1 Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 56, M. A. S. Tritton. Nous Signale deux Graffites, Publiés par A. E. P., Weigall, Travels in the upper Egyptian Deserts, London and Edinbourg, 1909, PL. IV. Fig. 13, 14, H.A. Winckler, Rock Drawings of Southern Upper Egypt. I, London, 1928, Site I, p. 4, Ryckmans, in Le Muséon, XLVIII. "1935", p. 228, J. Leibovich, Les Inscriptions Protosinaitiques, Le Caire, 1934.
2 F. V. Winnett; "The Place of the Minaeans in the History of Pre-Islamic Arabia"; in BOASOOR; Num: 73, February; 1939.
3 المصادر المذكورة.(15/202)
وذكر السائح الإنكليزي "وليم كنت لوفتس" William Kennett Loftus أنه لاحظ فجوة في "وركاء" Uruk في العراق؛ فبحث فيها فتبين له أنها كانت قبرًا وجد في داخله حجر مكتوب بالمسند، فيه: إن هذا قبر "هنتسر بن عيسو بن هنتسر"1.
ولهذه الكتابة المدونة بالمسند، أهمية كبيرة جدًّا؛ لأنها أول كتابة وجدت بهذا الخط في العراق. وهي تشير إلى الروابط الثقافية التي كانت بين اليمن والعراق، وإلى وجود أشخاص في هذا المكان يستعملون المسند، سواء أكانوا عراقيين أم يمانيين.
وقد عثر على كتابات بالمسند في مواضع من الحجاز، ويظهر أنه كان قلم الحجازيين قبل الميلاد. وقد وصل هذا القلم إلى بلاد الشأم. فقد عثرت بعثة علمية قامت بأعمال الحفر في ميناء "عصيون كبر" عصيون جابر" Ezion Geber على جرار عليها كتابات بحروف المسند, رأى بعض العلماء أنها معينية، تفصح عن الأثر العربي في هذا الميناء المهم الذي حاول سليمان أن يجعله ميناء إسرائيل على البحر الأحمر2.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن غير أهل اليمن، لم يكونوا يستعملون المسند في كتابتهم، ولا يتعاطونه، كالذي يستفاد من قصة "قيسبة بن كلثوم السكوني"، وكان ملكًا وقع في أسر بني عامر بن عقيل، فذكر أنه كتب بالسكين على مؤخرة رجل أبي الطمحان حنظلة بن الشرقي أحد بني القين بالمسند، يخبر قومه بوقوعه في الأسر. ولم يكن أحد من غير أهل اليمن يكتب بالمسند،
__________
1 Travels and Researches in Chaldaea and Susiana, by W. K. Loftus, London, MDCCCLVII, p. 233, Corpus Inscriptionum Semiticarum, IV, As NUM: 699.".
2 لم يعين موضع المكان بالضبط ولا يبعد كثيرًا عن "أيلة" على خليج العقبة, ومنهم من يظن أنه كان عند موضع "عين الغديان" الذي هو على بعد عشرة أميال من البحر في قعر "وادي العربة". وكان "خليج العقبة" على ما يظن بعض العلماء يمتد قديمًا إلى هذا الموضع، قاموس الكتاب المقدس "2/ 106".
Ency. Bibli., p. 1472, BOASOOR, NUM: 75, p. 19.
NUM: 71, p. 15, Revue Biblique, XLVIII, 1939, p. 247, Asia, May, 1939. p. 294.".(15/203)
فلما قرأه القوم، ساروا إلى بني عامر، وفتكوا بهم، وأنقذوا قيسبة منهم1. ورواية أهل الأخبار هذه لا يمكن أن تكون دليلًا على عدم وقوف غير أهل اليمن على المسند في العهود البعيدة عن الإسلام. ولا على عدم استعمالهم لذلك القلم في حياتهم اليومية؛ لأن علم أهل الأخبار بأحوال الجاهليين لا يرتقي كما سبق أن قلت إلى عهود بعيدة عن الإسلام، ولأن في أكثر الذي ذكروه عنهم، قصص ونسج خيال، يستوي في ذلك حتى ما ذكروه عن الجاهلية الملاصقة للإسلام، ثم إن في الذي عثر عليه السيّاح من كتابات مدوّنة بالثمودية أو بأقلام أخرى مشتقة من قلم المسند ما يفند الرواية المذكورة في عدم استعمال غير أهل اليمن للمسند وفي عدم وقوفهم عليه. ويمكن حمل كلامهم في عدم استعمال أهل الحجاز أو غيرهم للمسند على أيام الجاهلية القريبة من الإسلام. حيث ظهر القلم العربي الشمالي.
والرواية لا يمكن أن ترتقي إلى زمن بعيد عن الإسلام. فنحن نعلم أن "حنظلة بن شرقى" المعروف بالطمحان، وهو من "بني القين بن جسر"2 كان شاعرًا فاسقًا من المخضرمين، وكان نديمًا للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام3، ولو صدقنا الرواية المذكورة وأخذنا بها، وجب أن تكون الكتابة قد وقعت قبيل الإسلام، ومعنى ذلك أن "قيسبة" وهو من "بني السكون" كان يكتب بها، أي إن المسند كان معروفًا ويكتب به خارج اليمن في هذا العهد، ولهذا يكون قول "الأصبهاني": "وليس يكتب به غير أهل اليمن"، مغلوطًا؛ لأن "قيسبة" لم يكن من أهل اليمن، حتى يصح قوله.
وكشفت العروض ونجد وأماكن أخرى عن سر كان العلماء يبحثون عنه في شوق، فقدّمت للعلماء عددًا من الكتابات المدونة بالمسند، وبذلك ثبت علميًّا أن "المسند" كان معروفًا قبل الإسلام في كل جزيرة العرب، وربما كان القلم العام للعرب قبل المسيح، أي: قبل ظهور أقلام أخرى ولدت على ما يظن بعد الميلاد، ففي سنة 1911 للميلاد عثر "الكابتن شكسبير4" "Capt. W. H. Shakespear" على
__________
1 "وليس يكتب به "أي بالمسند" غير أهل اليمن"، الأغاني "11/ 125".
2 الاشتقاق "317".
3 الخزانة "3/ 426"، الشعر والشعراء "1/ 304"، المؤتلف "149"، الأغاني "11/ 125"، السرط "332".
4 BOASOOR, Nub. 102, "1946", p. 4.(15/204)
كتابتين بالمسند في موضع "حنا" "الحنأة"1 وفي خرائب "ثج" "ثأج" التي تبعد خمسين ميلًا تقريبًا عن ساحل الخليج وزهاء مائة ميل من شمال غربي القطيف2. وقد نشر ترجمة الكتابتين "ماركليوث"3. وعثر بعد ذلك على كتابة أخرى في موضع "ثج" "ثأج" دخلت في ملك أمير الكويت، وقد نشر ترجمتها "ركمنس"4. وهي حجر قبر لشخص من قبيلة "شذب". وعثر على كتابة أخرى في هذا الموضع، وقد بلغ عدد ما عثر عليه في هذا المكان أربع كتابات5.
وعثر عُمال البترول العربية السعودية الأمريكية "أرامكو" في أثناء الحفر على مقبرة من "عين جوان" "جون" "جاوان"6 عام 1945 للميلاد على حجر مكتوب تكسرت بعض أطرافه بالمعاول قبل معرفته، اتضح بعد أنه حجر قبر لامرأة يقال لها "جشم بنت عمرت" "عمرت" بن تحيو من أسرة "عور"
__________
1 حنا: لعل صوابها الحنأة، واحدة الحنأة بتسهيل الهمزة كما هي عادة عرب هذا الزمان في الكلمات المهموزة. والحنأة: موضع يقع غرب بلدة الجبيل – المعروفة قديمًا باسم "عينين" الواقعة على البحر الشرقي "الخليج الفارسي". وتبعد الحنأة عن الجبيل 83 كيلومترًا، وتقع على ممر الطريق منه ومن الظهران والأحساء ولمن يقصد الكويت أو العراق أو نجدًا"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م، "عينين"، البلدان "6/ 258".
2 "ثأج بالجيم: قال الغوري: يهمز ولا يهمز عين من البحرين على ليال. وقال محمد بن إدريس اليمامي: تاج قرية بالبحرين"، البلدان "3/ 2"، "ثج"، وهي التي وردت في الشعر العربي القديم. وفي ياقوت مهموزة. ولكن العرب في هذا العهد لا يهمزونها. وثأج: موضع فيه سكان وزروع قليلة، يقع بقرب الحنأة في الجنوب الغربي منها بمسافة لا تتجاوز عشرة كيلومترات"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950، البكري، معجم "1/ 333".
3 Douglas Crruthers, "Captin Shakespear's Last Journy", in the Geographical Journal, LIX, "1922", 321 -323, Corpus Inscriptionum Semiticarum, Nos. 984 -985.
4 Ryckmans, in Le Muséon, L, p. 239, Ryckmans 155.
5 Le Muséon, L, p. 237, Ryckmans 155.
6 "عين جوان - الصواب: جاوان". ويقع موضع جاوان في داخل الرأس المعروف حديثًا باسم "رأس تنورة" في الجهة الشمالية منه على ساحل البحر، بعد مدخل الرأس ببضعة كيلومترات، وكانت عينه تسقي نخيلًا وزروعًا ولكن ماءها قل، حتى زالت مزروعاتها. كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م.(15/205)
"آل عور" من قبيلة شذب1.
واستخرج "كورنول" P. B. Cornwall لوحًا مكتوبًا بالمسند كان مدفونًا في أحد بساتين القطيف، دفنه أصحاب البستان، وقد ذكر أنه نقل من جزيرة "ثاروت" أو من موضع لا يبعد كثيرًا عن القطيف، وقد وجد أن هذا اللوح هو مثل الألواح التي عثر عليها قبلاً، شاهد قبر، وضع على قبر رجل يقال له: "إيليا بن عيي بن شصر من أسرة سمم من عشيرة ذال من قبيلة شذب"2. ويرى بعض الباحثين أن صاحب القبر كان نصرانيًّا، عاش في القرن الخامس أو السادس للميلاد.
وعثر على شاهد قبر آخر مدّون بالمسند، هو شاهد قبر "شبام بنت صحار بن عنهل بن صامت" من قبيلة "يدعب"، وجد على مقربة من القطيف3. و"يدعب" بطن من بطون قبيلة "شذب". ويظهر أن قبيلة "شذب" كانت من القبائل المعروفة في العروض، وكانت ذات عدد من البطون، ولا تحمل الكتابة تأريخًا، ويرى الذين درسوها أنها تعود إلى القرن السادس للميلاد. وأما الرقم الذي ذكر في نهاية النص وهو رقم "90"، فالظاهر أنه يشير إلى عمر صاحبة القبر4.
هذا ما عثر عليه من كتابات بالمسند في العروض. وأما في أواسط جزيرة العرب وفي باطنها وفي الأماكن التي لم يكن يتصور العثور فيها على أثر لحضارة، فقد عثر فيها على كتابات بهذا القلم كذلك، ولهذه الكتابات أهمية كبيرة؛ لأنها أول وثيقة تأريخية لا يتطرق إليها الشك، ترد إلينا عن هذه المناطق التي لم يرد لها ذكر مفصل عند المؤرخين السابقين؛ لأنها أول دليل عملي يثبت انتشار هذا الخط في أواسط جزيرة العرب. عثر "فلبي" في هذه المناطق على فخار وآثار
__________
1 BOASOOR, NUM: 102, April 1946, p. 4, "A Himjaritic Inscription from the Persian Gulf Region", by F.V. Winnett. BOASOOR, Supplementary Studies Nos. 7-9, "The Early Arabian Necropolis of-Ain Jawan", by Richard Lebron, 1950.
2 Geographical Journal, Vol. CVII. 1-2, 1946, "Ancient Arabia: Explorations in Hasa, 1940- 1941", by P.B. Cornwall, p. 44.
3 المصدر نفسه "ص45".
4 المصدر نفسه.(15/206)
أرسلها إلى المتحف البريطاني ظهر أنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. ويظن من فحصها أنها من آثار السبئيين1. كما عثر على كتابات وصور، وبقايا مقابر وعظام.
وقد صور "فلبي" بعض الكتابات، وصور بعضًا آخر رجال شركة البترول العربية السعودية الذين وصلوا إلى هذه المواضع للبحث عن البترول. وقد وصلت تصاوير عدد منها إلى العلماء فنشروا نصوصها وترجماتها. مثل كتابات "القرية" أو "قرية الفأو" التي سبق أن تحدثت عنها. وقد وجد اسم الصنم "ودّ" مكتوبًا بحروف كبيرة بين تلك الكتابات2، وحيث إن هذه الكنوز الثمينة إنما عثر عليها ظاهرة على سطح الأرض، وحيث إن الباحثين لم يفحصوا الكهوف فحصًا دقيقًا، ولم ينظفوها من الأتربة والرمال التي في داخلها، فإننا نأمل العثور على أشياء ثمينة ذات بال بالنسبة للتأريخ الجاهلي إذا اهتمت الحكومة العربية السعودية بهذا الأمر، وقامت بتجهيز بعثة علمية من المتخصصين بالأثريات العربية، أو سهلت للعلماء وللبعثات سبل الوصول إليها، وحافظت على تلك الآثار من التلف وعبث العابثين.
ووجد "فلبي" كهوفًا ومقابر في مواضع أخرى من "وادي الفأو"، وقد وجدت حيطان بعض الكهوف "سردب" "سرداب" مكسوة بالكتابات "والوسم" والتصاوير المحفورة. ويظهر أن أبنية ضخمة كانت في هذه الأماكن3.
وعثرت شركة "أرامكو" على رأس نحت من الحجر في "القرية" كتب عليه بالمسند أنه "ثار ونفسي علزن بن قلزن غلونين"4، أي: "أثر وقبر علزان بن قلزان الغلوني". كما وجدت كتابات بهذا القلم عند جبل عبيد وفي حصن ناطق وفي شمال موضع "خشم كمدة" على مسافة "100" كيلومتر من شمال قرية
__________
1 A Further Journey across the Empty Quarter", by W. Thesiger, in Geographical Journal, CXIII, "1949". P. 21.
2 Geographical Journal, CXIII, "149", p. 91.
3 Geographical Journal, CXIII, "1949", p. 90, Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 87.
4 Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 87, Qariya, I, Philby 221a.".(15/207)
الفاو في وادي الدواسر1، وفي "وادي هبن" "حبن"2 على "120" ميلًا شمال شرقي عدن3. وفي "عين قرية" على "30" ميلًا تقريبًا من شمال "زفر" وفي "منخلى" في جنوب خشم العرض حيث يعتقد البدو أن هذا الموضع هو بئر من آبار عاد4.
ولم يفسر علماء العربية سبب تسمية "المسند" مسندًا، وقد قرأت لإسرائيل ولفنسون تعليلًا لتسمية هذا القلم مسندًا، فقال: "والخط المسند يميل إلى رسم الحروف رسمًا دقيقًا مستقيمًا على هيئة الأعمدة. فالحروف عندهم على شكل العمارة التي تستند إلى أعمدة. وعلى العموم فإن لحضارة جنوب بلاد العرب عقلية تنحو نحو الأعمدة في عمارة القصور والمعابد والأسوار والسدود وأبواب المدن.
ومن أجل ذلك يوجد عندهم ميل شديد لإيجاد حروف على هيئة الأعمدة، أي إن الحروف كلها عبارة عن خطوط تستند إلى أعمدة.
وقد تنبه علماء المسلمين إلى شكل هذه الكتابات وأطلقوا عليها لفظة المسند؛ لأن حروفها ترسم على هيئة خطوط مستندة إلى أعمدة"5.
وهو رأي سبقه إليه "ليدزبارسكي" Lidzbarski إذ أشار إلى أثر العمارة والأعمدة في شكل هندسة حروف الخط المسند6 وهو تفسير يشبه تفاسير الأخباريين واللغويين للأسماء والأعلام التي لا يعرفون من أمرها شيئًا، فيلجئون إلى الخيال ليبتكر لهم سببًا وتعليلًا يناسب الكلمة، ويتصورون عندئذ أنهم قد أوجدوا السبب, وأن من يأتي بعدهم سيكتفي بذلك ويأخذ به.
وكذلك كوّنت كلمة "المسند" في مخيلة "إسرائيل ولفنسون" ولدى "ليدزبارسكي" فكرة استناد خطوط الحروف وقيامها بعضها إلى بعض استناد المباني،
__________
1 Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 99, Philby, Wadi Dewasir, I,.
2 هكذا ورد في مجلة "Le Muséon" "هبن" "Haban" بدون نقطة أو علامة تحت حرف H تدل على أنه "حاء". ولعل الكلمة "الحبن"، وهو موضع ذكره الهمداني في صفة جزيرة العرب "ص68".
3 Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 103.
4 Geographical Journal, CXIII, "1949", p. 31, 34.
5 تأريخ اللغات السامية "243 وما بعدها".
6 Lidzbarski, Ephemeris, I, S. 114, Hommel, Grundriss, Erste Halfte, S. 146.(15/208)
وقد وجدا من مباني اليمن وقصورها ما قوّى هذا الخيال عندهما، مع أن كلمة "المسند" التي تطلق في المؤلفات العربية الإسلامية على خط أهل اليمن قبل الإسلام لا علاقة لها بالقصور والمباني، واستناد أجزاء الحرف الواحد بعضها إلى بعض. وإنما تعني شيئًا آخر، تعني خط أهل اليمن القديم لا أكثر ولا أقل. وكلمة "مسند" "مزند"1 في العربية الجنوبية تعني "الكتابة" مطلقًا، وقد وردت في مواضع متعددة من الكتابات والنقوش، فورد في نص أبرهة مثلًا "سطرو ذن مزندن"، وترجمتها: "سطروا هذه الكتابة"، وتؤدي كلمة "سطرو" المعنى نفسه الذي يرد في لغتنا، وهو: "سطروا"، أي: كتبوا ودوّنوا، فكلمة "مزندن" التي صارت "المسند" في عربيتنا تعني في العربية الجنوبية ما تعنيه كلمة الخط أو الكتابة في لغة القرآن، ولم تكن مخصصة عند اليمانيين بخط حمير، أو غير حمير، وإنما حدث هذا التخصيص في المؤلفات الإسلامية فصار فيها "المسند" اسم علم لخط حمير وحده. ولا ندري متى حدث ذلك: أحدث في الجاهلية المتصلة بالإسلام أم في الإسلام؟
وإذا كان هذا التخصيص قد وقع في الإسلام، فإننا لا نستطيع أيضًا التكهن عن الوقت الذي ظهر فيه هذا التخصيص؛ لأننا لا نملك مصادر إسلامية تشير إلى هذا ولا مؤلفات من صدر الإسلام يمكن أن نجد فيها ما نبحث عنه.
ويتألف المسند من تسعة وعشرين حرفًا. وأبجديته مثل الأبجديات السامية الأخرى من حيث إنها تتألف من الحروف الصامتة ولا حركة في الكتابة فيها ولا ضبط في أواخر الكلمات ولا علاقة للسكون أو للتشديد. ويفصل بين الكلمة والكلمة التي تليها فاصل هو خط مستقيم عمودي. وقد يكتب الحرف المشدّد مرتين كما في اللغات الأوروبية.
ومما يلاحظ على الكتابات المعينية أنه لم يطرأ عليها تغيير كبير في العهود التي مرت بها. أما الكتابات السبئية، فيمكن التمييز بين القديم منها والمتأخر في الأسلوب، وفي شكل الكتابة2.
__________
1 بحرف الزاي في لغة أهل اليمن لا السين.
2 غويدي: المختصر في علوم اللغة العربية الجنوبية القديمة، القاهرة، 1930، "ص3".
Hofner, Altsudarabische Grammatik, Leipzig, 1943, Weber, S. 12, Pfannmuller. S. 86. Mordtmann. Beitrage zur Minaischen Epigraphik, Weimar, 1896.".(15/209)
وللمسند ميزات امتاز بها عن القلم العربي، فحروفه منفصلة، وهي بشكل واحد لا يتغير بتغير مكان الحرف من الكلمة. فإذا جاء الحرف في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها، كتب بشكل واحد. وقد جعلت هذه الخاصية لهذا القلم ميزة أخرى، هي ميزة الكتابة به من أي جهة شاء الكاتب أن يبدأ بها. فله أن يكتب من اليمين إلى اليسار وله أن يكتب من اليسار إلى اليمن، وله أن يمزج بين الطريقتين، بأن يكتب على الطريقة الحلزونية، من اليمن إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمن، ثم من اليمين الي اليسار، أو العكس، وله أن يكتب من أعلى إلى أسفل أو العكس وهكذا، ثم إن حروفه غير متشابهة لذلك لم يعرف المسند الإعجام، ولو كتب له أن يكون قلم المسلمين ليسر لنا اليوم وقتًا ومالًا في موضوع الطباعة به. ولكنه أبطأ في الكتابة نوعًا ما من الخط العربي لشكل حروفه الضخمة بالنسبة إلى الحروف العربية المختزلة، فالخط العربي يمتاز عليه بهذه الناحية فقط. أما موضوع الشكل، فالمسند غير مشكول، بل يكتب بحروف صامتة فقط.
وفي القرن التاسع عشر وما بعده كشف المستشرقون النقاب عن أقلام أخرى لم يعرفها علماء العربية، هي: القلم الثمودي، والصفوي، واللحياني. وكتابات أخرى كتبت بلهجات محلية عثر عليها في الجوف، وفي الحجر وفي العلا، وفي مناطق أخرى كجبل شيحان، وكوكبان، وجبل شمر، لها بعض الخصائص والمميزات اللغوية. والظاهر أن خط هذه الكتابات كان مستعملًا بين السواد في الأمور الشخصية1.
أما القلم الثمودي، فقد عثر على كتاباته في العربية الغربية، وفي الجمهورية العربية السورية وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي الحجاز، فقد عثر على كتاباته في مواضع متعددة من الحجاز، فيما بين المدينة ومكة وعلى مقربة من الوجه والطائف، وفي "ريع الزلالة" عند السيل الكبير على طريق الطائف
__________
1 Grundriss, I, S. 147, Transaction of the 9th Inter. Congr. of Orientalists, Vol. I, p. 86, "London", 1893, Uber die Protoarabischen Inschriften, in Aufs und Abh., S. 41, 161, Saudarabische Chrestom., S. 6, Lady A. Blunt, A Pilgrimage to Nejd, London, 1881, Vol. 2.(15/210)
مكة1. وعثر على كتابات ثمودية في "حائل" وأماكن أخرى من نجد وفي اليمن. وفي هضبات شبه جزيرة سيناء2.
هذا وقد عثر على كتابات ثمودية كثيرة في "ريع الزلالة" "سيل الغربان"، إلى الشمال من الطائف على مسافة أربعين كيلومترًا منها3. وفي وادي "ألاب"4، وفي مواضع أخرى من الحجاز ونجد، مما يدل على انتشار الثموديين في مواضع واسعة من جزيرة العرب.
وأما القلم الصفوي، فقد عثر عليه في منطقة الصفاة شرقي الشأم، وفي بادية الشأم، ولا يعني هذا أن هنالك قبائل كانت تُسمى قبائل صفوية، بل هو اصطلاح أطلقه المستشرقون على الخطوط التي وجدت في ناحية الصفاة، وهي تشتمل على كتابات قريبة من كتابة لحيان وثمود. كما عثر على كتابات صفوية في مواضع من بادية العراق، ويوجد عدد منها في ملك مديرية الآثار القديمة العامة في العراق5. كما عثر على عدد كبير منها في المملكة الأردنية الهاشمية. وقد نشرت نصوص بعض منها في جريدة الآثار للمملكة الأردنية الهاشمية6.
والمواطن الرئيسي للكتابات اللحيانية هو منطقة العلا، ولا سيما موضع "الخريبة" والصخور الواقعة إلى شرقه، حيث عثر فيها على مئات من الكتابات التي تعود
__________
1 "عقبة الزلالة، الواقعة بين مكة وبين الطائف، وهي تنية ينحدر منها القادم من الطائف على السيل الكبير"، الموضع المعروف قديمًا باسم "قرن المنازل" وتبعد عن هذا الموضع خمسة كيلومترات تقريبًا وتقع في شرقه، وتسمى الآن "الريع الصغير". وقد شاهدت بقربها بينها وبين السيل الكبير جبلًا فيه كتابات كوفية قديمة. وحدثت بأن "فلبي" رأى في تلك الجهة تمثالًا من الصخر منحوتًا في الجبل يمثل رجلًا واقفًا، وأنه اطلع على كتابات قديمة في تلك الجهة"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م.
2 نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب، القاهرة، 1943م، "ص109"، E. Littmann. Entzifferung der Thamudenischen Inschriften, 1904, Hubert Grimme, Die Losung des Sinaischriftproblems, Die Altthamudischische Schrift. Munster, 1926.".
3 A. Grohmann, Arabic Inscriptions. Louvain. 1962, p. 2.
4 كتابات من الأدب، للدكتور عبد الرحمن الأنصاري، مجلة كلية الآداب بجامعة الرياض، المجلد الأول، السنة الأولى "1970"، "ص 113 وما بعدها".
5 راجع نشرات مديرية الآثار القديمة في العراق ومجلة سومر.
6 Annual of the Department of Antiquities of Jordan.".(15/211)
إلى شعب لحيان1.
والأقلام الصفوية والثمودية واللحيانية، مثل المسند، ليس لها علامات لا للفتح ولا للكسر ولا للضم ولا للإشباع ولا لاتحاد الفتحة والواو والباء "أي الإمالة Diphthong" إلخ ... كما أن حروفها تأخذ صورًا متعددة، فيرد الحرف الواحد في كل قلم من الأقلام المذكورة بصور مختلفة، ولذلك تجابهنا صعوبات كبيرة في محاولتنا قراءة الكلمات والجمل قراءة صحيحة. ويحتاج القارئ إلى مران طويل ودراسات للهجات العربية الأخرى لضبط الكلمات في هذه اللهجات، ومعرفة معانيها.
وقد لاحظ المستشرقون مشابهة كبيرة بين الأقلام المذكورة وبين المسند، كما وجدوا هذه المشابهة بين عدد من الأقلام التي استعملت في غير جزيرة العرب والمسند، وبعد مقابلات بينها ودراسات ذهبوا إلى تفرعها من المسند. وهذه الأقلام المذكورة كلها متأخرة عن المسند، وتعود تواريخ قسم منها إلى ما قبل الميلاد، ومنها ما يعود تأريخه إلى ما بعد الميلاد.
ومما يلاحظ على هذه الأقلام اختلاف صور أكثر الحروف فيها، فقد تكون للحرف صورتان، وأحيانًا ثلاث صور أو أكثر، غير أن هذا الاختلاف ليس كبيرًا في الغالب بحيث يتعذر معه تمييز أشكال الحرف الواحد، ولا نجد فيها الوضوح والبساطة التي نجدها في المسند، كما لا نجد فيها هذه الخطوط المستقيمة المنقوشة بدقة وعناية في الكتابات المعينية أو السبئية أو الحضرمية أو القتبانية أو الحميرية. فكأن كتّابهم كانوا يرون العجلة في الكتابة والإسراع في التسطير لضيق الوقت. لذلك لم تكن حروفهم دقيقة واضحة.
وأما الأقلام التي تشبه حروفها المسند. واستعملت عند أقوام عاشوا في أقطار لم تكن من جزيرة العرب، فمنها القلم الحبشي القديم، وقد عثر على كتابات به في منطقة "يحا" "بها" Jeha، وهي تمثل أقدم نماذج الكتابات الحبشية، وقلمها هو القلم السبئي القديم. وفي "أكسوم" وتعود إلى القرن الرابع للميلاد2،
__________
1 Ency. Vol. 3, p. 26, Muller, Epigraphic Denkmaler aus Arabien, XXXVII, 1889, Jaussen and Savignae ,Mission Archeologique en Arabie, I, Paris, 1909, p. 263, Vol. II, p. VIII-XIV, 27-77, 361-534, Lidzbarski, Ephemeris fur Semit. Epigraphic, II, 23-48, 345-361, III, 214-217, F.V. Winnet, A Study of Lihyanite and Thamudic Inscriptions, Toronto, 1937.
2 السامية "257"، Grundriss, I, S. 148.(15/212)
وكتابات نصرانية كتبت باللهجة "الجعزية" وتعود إلى القرن الخامس للميلاد1.
وقد استعملت في هذه الكتابات الجعزية الأصوات مع الحروف، وبذلك اختلفت عن الأبجديات السامية التي استخدمت الحروف الصامتة فحسب, وذلك بإضافة شيء يشبه الحركات في صلب الحروف يقرأ معها ولا تفهم هي بدونها2. ومع ذلك احتفظت بالأشكال الأصلية للحروف العربية الجنوبية، ولم تبتعد عنها كثيرًا. ويمكن إدراك أثر المسند في الكتابة الحبشية المستعملة في الوقت الحاضر دون كبير عناء.
وذهب كثير من المستشرقين إلى أثر المسند نفسه أو بالواسطة في عدد من الأقلام الأخرى، منها كتابات عثر عليها في إفريقيا Meroitische Schrift في إحدى اللهجات الكوشية أو النوبية3. والخط البربري القديم الذي يعود إلى أيام قياصرة روما. والقلم البراهمي "Brahma Script –Devanagari Alphbet"، حيث نلاحظ شبهًا كبيرًا بين حروف هذا القلم والمسند ولا يستبعد أثر المسند فيه؛ لأن العلاقات بين العربية الجنوبية والهند كانت قديمة جدًّا4.
يظهر أن المسند كان القلم الرئيسي في جزيرة العرب قبل الاسلام، وأن جزيرة العرب كانت تكتب به قبل المسيح. وأن أقلامًا تفرعت منه قبل المسيح وبعد المسيح، لأسباب لا تزال غير واضحة، وقد تكون لأشكال الحروف التي تتطلب دقة في الرسم علاقة بذلك، فمال الكتّاب إلى ابتكار أشكال مرنة لا تحتاج إلى عناية في الرسم، فاستخدموها في الكتابة لسهولتها. فتولدت منه الكتابات المذكورة.
__________
1 Grundriss, I, S. 148, D.H. Muller, Epigr. Denkmaler aus Abessinien, Wien, 1894, Tafel, II, IV.
2 السامية "256"،
Grundriss, I, S. 148, Glaser, Die Altabess. Inschr. von Marib, in ZDMG., Bd.,50, "1896", S. 468. Die Abessinier In Arabien und Afrika. Munchen, 1895, S. 168.
3 R. Lepsius, Denkmaler aus Aegypten und Aethiopien, VI, Bd., I-II in Bd., XI, Grundriss, I, S. 149.
4 Grundriss, I, S. 149, Isaac Taylor, The Alphabet, Vol. 2, p. 314,
Georg Buhlets, Indian Brahma Alphabet, Wien, 1895, p. 2, Ency. Brit. I, p. 683.(15/213)
أصل القلم المسند:
ذكرت أن أكثر المشتشرقين رأوا أن القلم العربي الذي دوّن به القرآن الكريم، أخذ من القلم النبطي المتأخر. أما المسند، فقد رأى كثير منهم أنه اشتق من الأبجديات السامية الشمالية كذلك1. وذهب بعضهم أن أنه تفرع من الأبجديات السينائية, ومنهم من قال: إن الأبجدية العربية الجنوبية تفرعت من نفس الأصل الذي أوجد الخط الفينيقي، فهي لذلك من أقدم الأبجديات المعروفة2. ونحن إذا أمعنا النظر في شكل الأبجدية الطورسينائية والمسند، نجدهما لا تتشابهان إلا في رسم حرفين أو ثلاثة3. وتتكون الأبجدية الطورسينائية من اثنين وعشرين حرفًا كالفينيقية والعبرانية. أما الأبجدية العربية الجنوبية فتتألف من تسعة وعشرين حرفًا، أي بزيادة سبعة أحرف عن أبجدية طور سيناء.
وحجة القائلين أن المسند قد أخذ من القلم الفينيقي، وأن الأبجدية الفينيقية هي أقدم الأبجديات وأم الأبجديات4. ولكننا إذا أمعنا النظر في رسم حروف الأبجديتين، نجد التشابه بينهما في هيئة الحروف ورسمها ليس كبيرًا، كما أن الأبجدية العربية الجنوبية تزيد عليها في سبعة أحرف، وهذه الأحرف الزائدة لا تختلف عن الأحرف المشتركة بين الأبجديتين في هندسة الرسم والشكل. فلعل الأبجديتين قد تفرعتا من أصل واحد5، فلا يعد المسند لذلك فرعًا نبت من الفينيقية.
وزعم نفر من الباحثين في تطور الخط أن المسند مشتق من القلم الكنعاني، ولكن بعض علماء العربية الجنوبية ينكر هذا الرأي. إذ يرى أن المسند أقدم عهدًا من الأبجدية الكنعانية، وأن الكتابات العربية الجنوبية أقدم زمنًا من أقدم الكتابات الكنعانية، فلا يصح إذن القول بأن المسند مشتق من القلم الكنعاني. ومما يلاحظ على الأبجديتين أن الأبجدية الكنعانية يعوزها من الحروف: ذ، ض، ظ، س، "سامخ"، ث، غ. ولكن الأبجديتين تشتركان اشتراكًا تامًّا في الحروف: ج، ط، ل، ن, ع، ش، ق، ت، و. وتختلفان في بعض الحروف
__________
1 BOASOOR, NUM:118, April 1950, p. 13.".
2 Background, p. 11.
3 Ency. Brita. I, p. 680.
4 Lidzbarskl, Ephemeris, I, S. 109, The Art of Writing, p. 11.
5 Grundriss, I, S. 145.(15/214)
اختلافًا كبيرًا، وليس بمستبعد أن تكون الأبجديتان قد تفرعتا من أصل واحد.
والرأي عندي أن من الصعب البت في الوقت الحاضر في موضوع أصل المسند؛ لأن صور الأبجديات القديمة الواصلة إلينا لا تزال قليلة، ولا نجد بين صورها وبين صور المسند تشابهًا كبيرًا بحيث يمكن أن نستنبط من هذا التشابه حكمًا يفيدنا في تعيين أصل المسند. والتشابه بين حروف قليلة لا يمكن أن يكون سببًا للحكم باشتقاق خط من خط. وعندي أن الأبجدية العربية الجنوبية تمثل مجموعة خاصة، تفرعت من أصل لا نعرف من أمره اليوم شيئاً؛ لأن شكل حروف المسند لا يشبه شكل حروف الأبجديات المعروفة، فلننتظر فلعل المستقبل يكشف للعلماء النقاب عن أبجديات مجهولة1.
ولا يعقل بالطبع أن يكون أهل العربية الجنوبية قد أوجدوا خطهم من العدم، من غير استعانة بعلم مسبق عن الحروف والأبجديات، بل لا بد أن تكون أبجديتهم قد أخذت من أبجدية أخرى، ومن فرع من فروع الخط الذي أوجدته البشرية، ودليل ذلك أن أسماء الحروف الأساسية التي ترد في كل أبجدية هي واحدة، وفي وحدة الأسماء دلالة على وجود أصل واحد، تفرعت منه الخطوط. والمسند بالنسبة لنا، هو خط قائم بذاته، يشابهه الخط الحبشي، ومن فروعه الأبجدية اللحيانية والثمودية والصفوية. فكل هذه الأبجديات هي من فصيلة واحدة رأسها المسند، أما ما فوق المسند، فلا نعرف من أمره أي شيء.
وفي المسند حرف لا وجود له في أبجديتنا يكون على هذا الشكل:
وهو بين الزاي والسين، ولذلك يجعله البعض سينًا حين ينقلون نص كتابة عربية جنوبية إلى عربيتنا، أو إلى اللغات الأوروبية. كما يقرأ حرف الجيم "6" "كيما" في المسند على نحو نطق المصريين بهذا الحرف في لسانهم.
ومن القلم المسند أخذ الأحباش قلمهم الذي يكتبون به، نقله إليهم السبئيون
__________
1 السامية "242 فما بعدها".(15/215)
الذين هاجروا إلى الحبشة قبل الميلاد وأقاموا لهم حكومة هناك وأثروا في الأحباش، فكان من تأثيرهم فيهم هذا القلم الحبشي.
وحروف المسند منفصلة غير متصلة، أعني أنها ليست كحروف الأبجدية التي نكتب بها، بل الحروف فيها مستقل بعضها عن بعض غير متصل به. ولتمييز الكلمات بعضها عن بعض، وضع الكتّاب خطوطًا مستقيمة عمودية تشير إلى انتهاء الكلمة وإلى ابتداء كلمة جديدة. وتبدأ الكتابة عندهم من اليمين في العادة، وتنتهي في اليسار، غير أنهم قد يكتبون من اليسار أيضًا، وينتهون بالسطر في اليمين. وقد يمزجون بين الطريقتين فيبتدئون في اليمين مثلًا وينتهون بالسطر في اليسار، ثم يبدءون في السطر الذي يليه من اليسار، وينتهون في اليمين، ويبدءون بالسطر الذي يليه من اليمين لينتهي باليسار، ويبدءون في الثالث من اليسار وينتهون باليمين، وهكذا حتى تنتهي الكتابة. أما إذا ابتدءوا بالكتابة من اليسار، فينتهون بالسطر في اليمين، ثم يبدءون في السطر الثاني باليمين لينتهوا به في اليسار, وليبدءوا بالسطر الثالث من اليسار ولينتهوا به في اليمين, وهكذا يسيرون على هذا المنوال حتى تنتهي الكتابة. ويلاحظ أن لشكل حروفهم خاصية جعلتها تصلح لأن يكتب بها في أول الكلمة أو في وسطها أو في أواخرها من دون حاجة لإجراء أي تعديل على جسم الحرف العام؛، لأنها حروف منفصلة غير مربوطة. وهي تمتاز من هذه الناحية عن حروف أبجديتنا، التي ترتبط فيها الحروف، فتستعمل حرف العين مثلًا في أول الكلمة بصورة تختلف عن صورة هذا الحرف إذا استعمل في الوسط, وتستعمل هذا الحرف في آخر الكلمة بصورة تختلف عن استعماله في أول اللفظة أو في وسطها، أي إنها تحدث تغييرًا على جسم الحرف. ولهذه الخاصية صار في الإمكان الابتداء بحروف المسند من أية جهة أراد أراد الكاتب أن يكتب بها من ناحية اليمين أو من ناحية اليسار. أو بالجمع بين الطريقتين من غير أي تأثير في قابلية القارئ على القراءة، كما صار من السهل على المبتدئ بالكتابة والقراءة تعلم الخط بالمسند بكل سهولة. لوجود شكل واحد لا يتغير للحروف. فهو لهذا صار أسهل تعلمًا من الخط الذي نكتب به الآن ذي الأشكال المتعددة الحروف، كما أنه خال من التنقيط الموجود في عربيتنا لتمييز الحروف المتشابهة في هذا الشكل بعضها عن بعض، وهو مما سبب لنا مشاكل خطيرة في كيفية ضبط الحروف والألفاظ، عند وقوع التصحيف، بسقوط نقطة من الكتابة سهوًا، أو بوضع(15/216)
النقطة في موضع يجب ألا توضع فيه، أو بوقوع سهو في عدد النقط.
وقد راعى الكتاب استعمال الخطوط العمودية للفصل بين الكلمات مراعاة تامة؛ لأنها هي العلامة الوحيدة التي ترشد القارئ إلى انتهاء لفظة وابتداء لفظة جديدة، ولم يخطر ببالهم وضع فراغ بين نهاية كلمة وابتداء كلمة جديدة، أو لأنهم لأمر ما لم يستعملوا هذا الفراغ خشية حصول التباس قد يفسد على القارئ قراءته، وقليلًًا ما خالف كتابهم هذه الطريقة فأغفلوا وضع هذه الأعمدة الفاصلة. ولم يستعمل كتّابهم علامة ما دالة على انتهاء جملة وابتداء جملة أخرى جديدة أو انتهاء فصل وابتداء فصل جديد، كذلك لم يستعملوا ما نستعمله نحن في الزمن الحاضر من علامات فواصل لأداء معاني خاصة يقتضيها الكلام وعلامات استفهام؛ لأن هذه الأشياء من الأمور المتأخرة التي أدخلت على الكتابات الغربية، ولم تكن معروفة عند الأقدمين.
وحروف المسند حروف غير مشكلة، فليس فوقها أو تحتها حركات كما هي الحال في عربيتنا حين نرغب في تحريك الحروف. وهي غير منقطة كذلك فلا نقط فوق بعض الحروف أو تحتها لتمييزها عن غيرها من الحروف المشابهة لها كما هي الحال في أبجديتنا أيضًا، ولم يرمز عن الحركات بحروف أو برموز تستعمل مع الحروف الصامتة داخل الكلمة ليتمكن بها القارئ من النطق بالكلمة النطق الصحيح كما حدث ذلك في الأبجديات اللاتينية، وفي الأبجديات الأخرى التي سارت على نهجها وسبيلها، ولم يرمزوا عن حرف المد بشيء ولا عن السكون أو التشديد. وهذا مما جعلنا في حيرة من النطق بكلماتهم نطقًا صحيحًا مضبوطاً، وجعل القارئ الحديث يذهب مذاهب مختلفة في كيفية ضبط الكلمة وفي كيفية النطق بها. فلفظة مؤلفة من حروف صامتة وحدها، لا يمكن أن ينطق بها النطق الصحيح المضبوط ولا يمكن معرفة معانيها بسهولة، وقد ولدّت هذه الطريقة مشكلات كثيرة لنا من حيث التوصل إلى معرفة نحو تلك اللهجات وصرفها1.
ولا توجد في المسند علامة لتشديد الحرف، وقد يكتب الحرف مرتين كما هي الحال في الأبحديات الأوروبية للدلالة على أن الحرف مشددٌ، ويكون ذلك في الكتابات المعينية2.
__________
1 غويدي، المختصر "ص3".
2 المصدر نفسه.(15/217)
واقتصار الكتَّاب على استعمال الحروف الصامتة وحدها، جعل من العسير علينا البت في كيفية النطق بالكلمات والتعرف بسهولة على مواضع الكلم من الإعراب.
ولولا الاستعانة باللهجات العربية الباقية المستعملة في اليمن، وبلغة القرآن الكريم، وبالمعجمات، وباللغة الحبشية، لكان من الصعب على القارئين للكتابات العربية الجنوبية التوصل إلى فهم معانيها وإلى قراءتها قراءة مضبوطة أو قريبة من القراءة الصحيحة، والتوصل إلى استخراج القواعد منها. فبفضل هذه المواد المساعدة، تمكنا من الوصول إلى ما توصلنا إليه عن تلك اللهجات المكتوبة بالقلم المسند1.
ومن جملة المسائل التي جعلت فهم النصوص العربية الجنوبية أمرًا صعبًا على الباحث في بعض الأحيان، اشتمالها على اصطلاحات غير موجودة في العربية، وعلى كلمات غير موجودة في اللغات السامية الأخرى, ثم إن بعضها قد كتب كتابة موجزة صيرتها غامضة غير مفهومة، ولهذا اضطر علماء العربيات الجنوبية إلى تلخيص معناها على وجه التقريب2.
ومما يؤسف عليه كثيرًا أن كتبة المسند لم يتركوا لنا كتابة تشير إلى ترتيب حروف الهجاء عندهم، وأسمائها التي كانت تعرف بها عند قرّائهم وكتّابهم. وعدم وصول كتابة بهذا الموضوع منهم إلينا، خسارة كبيرة، إذ أصبح من الصعب التحدث عن كيفية ظهور الخط بين العرب الجنوبيين وعن صلاته بالخطوط الأخرى، وبنا أشد الحاجة إلى معرفة كيفية توصل الإنسان إلى هذا الاختراع العظيم الذي غيَّر تأريخ البشرية وأحدث فيها انقلابًا لا يدركه المرء إلا إذا تصور البشرية وهي جاهلة لا تحسن قراءة ولا كتابة، فما الذي كان يمكن أن نعرفه لولا وجود هذه العلامات الصغيرة المحدودة التي نسميها حروفًا والتي نكتب بها وندوّن بها كل ما يجول في خواطرنا من آراء دون أن نعرف عظم قيمة هذه العلامات التي ميزت الإنسان عن الحيوان، ورفعته عنه إلى أعلى الدرجات!
ولو قدر للعلماء الحصول على ألواح فيها الأبجديات مرتبة بحسب الطريقة التي تسير عليها الشعوب القديمة في تعلمها. وخاصة إذا كانت مقرونة بأسمائها التي كانت تعرف بها، لصار في وسع العلماء التوصل إلى نتيجة علمية مقبولة
__________
1 Hofner, 8. 15.
2 ولفنسون، السامية "246".(15/218)
بشأن نشأة الخط وتطوره. فإن في استطاعتهم عند ذاك الحكم –من نظرهم إلى أقدم هذه الكتابات وإلى أصول كلمات المسميات –عل أقدم مكان ظهرت فيه تلك الكتابة، وعلى تعيين اسم الشعب الذي كان له شرف هذا الاختراع. وهو اختراع لم يظهر بالطبع فجأة إلى العالم، أي: إنه لم يكن من ابتكار رجل واحد فاجأ الناس به، بل هو اختراع مرت عليه قرون حتى بلغ ما بلغه من شكل الحروف. مرّ في مراحل كثيرة بدائية في بادئ الأمر، ثم انتقل من تلك الأشكال إلى أشكال أرقى منها، حتى اهتدى عقل الإنسان إلى معرفة الحروف. ولم يتوصل بالطبع إلى هذه المرحلة بسهولة، إذ يقتضي ذلك وجود علم عند الإنسان عن تكون الكلمات من حروف، وهو لم يتوصل إلى هذا العلم إلا بعد تعب استمر قرونًا، وبتعاون كتّاب مختلف الشعوب لتحليل كلمات الإنسان إلى عناصرها الأولى، وعناصرها الأولى هي هذه الحروف.
وقد كان من الضروري وضع أسماء للحروف، ليميز بها حرف عن حرف آخر. وقد وضع مخترعو الحروف تلك الأسماء، وهي أسماء لا تزال البشرية تعيدها مع شيء من الاختصار والتحريف، وقد يمكن التوصل من تلك الأسماء إلى أسماء تلك الشعوب القديمة التي ساهمت وعملت في ترقية ذلك الاختراع العظيم. فإن لتلك الأسماء علاقة وصلة بمسميات مادية، وبالإمكان تشخيص مواطن تلك المسميات بالرجوع إلى الأماكن التي عرفت واشتهرت بها، ومن ثم نتوصل إلى تعيين تلك الشعوب على وجه التقريب.
وتختلف أشكال حروف المسند اختلافًا كبيرًا عن حروفنا المألوفة التي نكتب بها. ولما كانت هذه الحروف حروفًا منفصلة غير متصلة كما هي الحال في حروفنا، فهي لذلك في أثناء كتابة الكلمات لا تتصل ببعضها ولا يلتقي فيها حرف بحرف آخر. ولهذا السبب كان شكل الحرف في المسند لا يتبدل ولا يتغير بتغير موضعه في الكلمة، بل يحافظ على وضعه في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها، إلا في بعض الأحيان حين يكتبون من اليسار نحو اليمين، فيغيرون اتجاه الحرف بأن يجعلوه نحو اليمين.
وقد يتحد حرف النون الساكن مع الحرف الذي يليه ويسقط من الكتابة، ففي كلمة "بنت" أسقط الكتّاب حرف النون من الكلمة، واكتفوا بهذا الشكل:
"بت", أي: بالحرفين الباء والتاء1.
__________
1 غويدي "ص4".(15/219)
وإلى القارئ أشكال حروف المسند مرتبةً على ترتيب حروف الهجاء التي نسير عليها في زمننا:(15/220)
ولا توجد في المسند تاء قصيرة، أي: التاء التي نكتبها تاء قصيرة في أواخر الكلم. فالتاء هي تاء طويلة أبدًا، وردت في أول الكلمة، أو في وسطها، أو في آخرها، فلفظة "سنة" تكتب "سنت"، و"عمرة"، اسم امرأة يكتب "عمرت"، وهكذا.(15/221)
وهناك كتابات برزت حروفها, وذلك أن كاتبها خطها على الحجر أولًا, ثم حفر ما حولها وفي باطنها بمزبر صلد, أو يسكن أو بآلة حادة, فظهرت الكتابة بارزة, وقد استخدمت مثل هذه الكتابات لتوضع على أبواب المعابد وعلى واجهات الدور وفي المناسبات التذكارية, كما فعل الإسلاميون في كتاباتهم التخليدية التي وضعوها على واجهات القصور والمساجد والأبنية المهمة, أما الكتابات المحفورة فقد استخدمت في الأعمال الاعتيادية في الغالب, وهي أسهل في الكتابة من الكتابة البارزة, ولا تحتاج إلى وقت طويل يصرفه الكاتب على الحفر لإبراز الحروف:
وأما الفاصل الذي يفصل بين الكلمات, فهو على هذا الشكل:
ويعبر عن العدد من الواحد إلى الأربعة بخطوط عمودية, فيرمز الخط العمودي الواحد عن "الواحد", ويرمز الخطان العموديان المتوازيان عن الرقم "2", وإذا أرادوا كتابة الرقم "3" وضعوا ثلاثة خطوط عمودية متوازية للدلالة عليه. أما الرقم "4", فيمثل بأربعة خطوط عمودية متوازية. وأما الرقم "5" فيرمز عنه بالحرف "خ" الذي هو الحرف الأول من كلمة "خمس". وإذا أرادوا الإشارة إلى الرقم "6" وضعوا خطًّا عموديًّا على الجانب الأيسر لحرف "الخاء" الذي يرمز عن الخمسة, ومن هذا الحرف والخط العمودي الكائن مكانه في موضع العشرات بالقياس إلى حسابنا يتكوّن الرقم "6". وإذا أرادوا الرقم "7" وضعوا خطين عموديين على الجانب الأيسر للحرف خمسة, فيعبر عن هذا المجموع المكون من الخاء ومن الخطين العموديين المستقيمين عن الرقم "7". وإذا أرادوا الرقم "8", وضعوا على الجانب الأيسر من الحرف خاء ثلاثة خطوط تشير إلى الرقم "3", فيتكون بذلك من حرف الخاء الذي يرمز عن الخمسة ومن الثلاثة, المجموع ثمانية, وهو الرقم المطلوب. أما الرقم "9", فيتكون من مجموع رقم "5" الذي يرمز عنه الخاء ومن الرقم "4" الذي تمثله خطوط عمودية أربعة. وأما الرقم عشرة, فيرمز عنه بحرف العين الذي يمثل الحرف الأول من كلمة عشرة, وأما الرقم "100" فيرمز عنه بالحرف الأول من الكلمة مائة, أي: بحرف الميم. وأما الرقم "1000" فرمز عنه بالحرف ألف, أي: بالحرف الأول من الكلمة أيضًا, فيلاحظ(15/222)
من هنا أن العرب الجنوبيين استعملوا الحروف الأولى من أسماء بعض الأرقام عوضًا عن الأرقام نفسها, ولم يتبعوا الطرق التي نتبعها اليوم في كتابة أمثال هذه الأعداد.
والظاهر أن استعمالهم حرف الخاء مقام العدد "5", جعلهم يحارون بعض الحيرة في التعبير عن العدد "50" الذي يبدأ مثل العدد "5" بحرف الخاء, فتخصيص هذا الحرف بالعدد "5" جعل من غير الممكن تخصيصه بالعدد "50" كذلك. ولما كان من الصعب كتابة الـ"5" عشر مرات للتعبير عن العدد "50" الذي هو حاصل جمع عشر خمسات خاصة لأن هذا العدد يتضاعف ويتكرر, فكروا في حل آخر يحل لهم هذه المشكلة. مشكلة إيجاد حرف أو علامة ترمز عن الرقم "50" هو نصف الـ"100" كما هو معلوم. ولما كان حرف الميم يرمز عن المائة, والمائة هي حاصل جمع خمسين مع خمسين, فيكون حرف الميم هو حاصل جمع خمسين مع خمسين. ولما كان حرف الميم في المسند هو على شكل خط عمودي يرتكز عليه مثلثان قاعدتهما ملتصقة على ذلك العمود, فإن كل مثلث من ذينك المثلثين يعبر في الواقع عن الرقم "50", فهداهم تفكيرهم هذا إلى رفع المثلث الأسفل ليبقى مثلث واحد هو المثلث الأعلى مرتكزًا على الخط العمودي, ليعبر عن قيمته المتبقية وهي خمسون, وصار هذا الرمز الذي هو نصف حرف الميم رمزًا عندهم للعدد "50". وبذلك أوجدوا لهم حلًّا لتلك المشكلة التي لا بد أنها شغلت بال كتابهم مدة من الزمن.
وأما الأعداد التي تلي العشرة فيبدأ بها بحرف العين أولًا ومعناه عشرة, ثم تليه بقية الزيادة أي مقدار زيادة ذلك العدد عن العشرة. فإذا أرادوا الرقم "11" مثلًا بدأوا بحرف العين, ثم وضعوا بعده أي على يساره خطًّا عموديًّا واحدًا بمعنى واحد, ويكون المجموع أحد عشر. أما إذا أرادوا الرقم "12", فإنهم يضعون مستقيمين عموديين على يسار حرف العين ليدل ذلك على عشرة زائد اثنين وهو اثنا عشر. وإذا أرادوا "13" وضعوا ثلاثة خطوط عمودية, ليكون مجموعها مع العشرة أربعة عشرة. أما إذا أرادوا "15", فإنهم يكتبون حرف العين ثم يضعون من بعده وعلى جهة يساره حرف الخاء الذي هو بمعنى خمسة. وإذا أرادوا "16" وضعوا بعد حرف العين ما يرمز عن الستة, وهكذا بقية الأعداد(15/223)
إلى العدد "19". أما العدد "20" فإنهم يكنون عنه بكتابة حرف العين مرتين، ومعنى ذلك عشرة مضافًا إليها عدد عشرة والجمع عشرون، وإذا أرادوا الرقم "21" كتبوا حرف العين مرتين ليرمز عن العشرين ثم وضعوا خطًّا عموديًّا واحدًا على جهة يساره ليرمز عن الرقم "1"، فيكون المجموع عشرين وواحدًا، وهكذا يكتبون بقية الأعداد ابتداء بالعشرين أي: بحرفي العين مضافًا العدد المقصود حتى الرقم "30" فيضعون له ثلاثة أحرف من حرف العين. أما الـ"40" فيضعون له أربعة أحرف من حرف العين، ثم يستمرون على طريقتهم في العدد بعد الأربعين على الطريقة المألوفة في الابتداء بالعدد العشرات، ثم كتابة الرقم المقصود الذي هو دون العشرة من بعده إلى الرقم التاسع والأربعين. فإذا أرادوا الرقم "50" وضعوا الرمز الخاص الذي تحدثت عنه، وهو نصف حرف الميم. أما الرقم "60" فيرمز عنه بهذا الرمز, أي: نصف حرف الميم مضافًا إليه الحرف عين رمز العشرة ليشير إلى مجموع العددين وهو ستون. أما الرقم "70" فيتكون من هذا الرمز مضافًا إليه حرفان للعين. وأما الرقم "80" فيكون بإضافة ثلاثة أحرف عين على الجهة اليسرى للرقم "50". وأما الرقم "90"فيتكون من رمز "50" مع إضافة أربعة أحرف عين إليه.
وتكتب الأرقام ما بعد المائة إلى الألف على الترتيب الآتي: يكتب الحرف رمز المائة في الأول، ثم يوضع الرقم الذي يلي المائة على جهة يساره على النحو الذي شرحته إلى حد الرقم "199" فإذا أرادوا كتابة "200" كتبوا حرفي ميم، وإذا أرادوا "300" وضعوا ثلاثة أحرف من حروف الميم، وإذا أرادوا "400" وضعوا أربعة أحرف من حروف الميم, وإذا أرادوا "500" وضعوا خمسة أحرف من حروف الميم، وهكذا تزاد كتابة الميم بزيادة عدد المئات حتى تصل إلى تسع، ويكون الرقم عندئذ تسع مائة. أما الألف فيرمز عنه بحرف الألف كما ذكرت.
وطريقة التعبير عن الأعداد في حالة الآحاد وفي العشرات وفي المئات هي طريقة واضحة مفهومة بعض الفهم كما رأينا، إذ عبر عن الأرقام من واحد إلى أربعة بخطوط مستقيمة، وعبر عن الخمسة بحرف الحاء تزاد عليه خطوط بزيادة الأرقام المطلوبة، حتى تصل إلى الرقم "10"، فيعبر عنه بحرف عين. وفي باب العشرات يقدم حرف العين الذي هو عشرة على الأرقام المقصودة التي هي دون العشرة، وتتبع هذه الطريقة إلى المائة. أما في حالة المئات إلى الألف فيبتدئ العدد بالمئات،(15/224)
ثم تليه العشرات، فالآحاد، فهو في نفس المبدأ الذي وضعه علماء الرياضيات عندهم للعشرات، أي: على قاعدة تفضيل العدد الأكبر من ناحية العدّ على العدد الأصغر، فقدموا العشرات على الآحاد، وقدموا المئات على العشرات، ثم الآحاد. أما في حالة الأعداد الألوف، فلم يتقيد كتّاب حسابهم بهذه القاعدة، بل ساروا على طرق أخرى، فكتبوا حروف الألف بعد الأعداد الألوف التي أرادوا كتابتها. فللتعبير عن ألفين وضعوا حرفي ألف، وهما مجموع ألف مع ألف أخرى، وللتعبير عن ثلاثة آلالف وضعوا ثلاثة أحرف ألف، وهكذا ساروا في كتابة بقية الأعداد الآلاف. غير أنهم ساروا على طريقة أخرى في كتابة العدد ستة عشر ألفًا مثلًا. فوضعوا ستة أحرف ألف، ووضعوا إلى الجانب الأيسر من الحرف الألف الأخير الحرف عين رمز العشرة، وقد رمزت العشرة هنا عن العدد "10000"، ورمزت الحروف الستة عن "6000"، ومن مجموع الستة آلاف والعشرة آلاف يتكون العدد "16000". وفي كتابة العدد "31000" كتبوا حرفًا واحدًا من حروف الألف ليدل على الرقم ألف, ووضعوا على الجهة اليسرى منه ثلاثة أحرف عين وتعني ثلاثين ألفًا. ومن الألف والثلاثين ألفًا يتكون العدد "31000". أما في حالة كتابة الرقم "40000"، فقد اكتفوا بكتابة أربعة أحرف من حروف العين، مع أن هذه الأحرف تعني مجموع أربع عشرات، أي: أربعين، بينما أرادوا بهذه الأحرف العدد "40000" في هذا الموضع. أما في رقم "45000"، فقد كتبوا خمسة أحرف من حروف الألف أولًا، ثم وضعوا أربعة أحرف من العين في أيسر آخر ألف، والمجموع هو خمسة آلاف وأربعون ألفًا. وفي الرقم "63000" وضعوا ثلاثة أحرف من "الألف" لتعني ثلاثة آلاف، ووضعوا نصف حرف ميم وهو رمز الخمسين، وفي أيسره حرف العين رمز العشرة، وبذلك عبروا عن الستين. ولورود هذا الرقم بعد عدد آلاف قصدوا به ستين ألفًا. ومن مجموع ثلاثة آلاف والستين ألفًا، يتكون العدد ثلاثة وستون ألفًا. وقد اكتفوا في كتابة الرقم "150000" بكتابة الرمز الخمسين وهو نصف حرف ميم، ووضعوا إلى الأيسر منه حرف ميم رمز المائة، وقصدوا بذلك خمسين ومائة ألف. ولو كانوا قد كتبوا حرف الميم أولًا، ثم وضعوا نصف حرف الميم إلى يساره، لكان حاصل جمع العددين خمسين ومائة. وبتقديم نصف حرف الميم وبتغيير إتجاه مثلثي حرف الميم ومثلث نصف حرف الميم يجعله نحو اليمين،(15/225)
عبروا عن الرقم "150000". أما في كتابتهم الرقم 200000، فقد كتبوا ميمين، وقد عبر كل ميم في هذا الموضع عن مائة ألف.
ويرى بعض المتخصصين بقراءة النصوص العربية الجنوبية أن كتّاب المسند لم يتركوا كتابة حروف الألف التي تشير إلى الأعداد الآلاف إلا إذا كان العدد مدورًا، وآلافًا خالية من الأرقام الآحاد، كما رأينا في الرقم "40000"، و"150000"، و"200000"1.
وقد سار كتّاب المسند على قاعدة كتابة الرقم لفظًا، أي: كتابة مقداره بالكلمات، وتدوين المقدار المكتوب بعد الرقم، وقد حملهم على اتباع هذه الطريقة خوفهم من الوقوع في الخطأ في قراءة الأرقام والرموز التي خصصوها بالأرقام، كما أنهم اصطلحوا على رسم مستطيل تتخلله خطوط تجعله على هيئة شباك تقريبًا، يوضع في أيمن الرقم، أي: قبل ابتدائه، ومستطيل آخر يوضع في يسراه أي: في نهاية الرقم تمامًا للدلالة على أن ما هو مكتوب بين هذين الرقمين هو عدد، وبذلك تسهل قراءته.
ولم يصل إلينا أن كتّاب المسند استخدموا علامات خاصة بكسور الأعداد، كالأنصاف أو الأرباع أو الأثلاث أو الأخماس أو ما شاكل ذلك، أو أنهم استعملوا علامات خاصة للجمع أو الطرح أو القسمة أو الضرب أو علامات للتربيع أو للجذور وأمثال ذلك من العلامات المستعملة في معلو الرياضيات. وقد عبروا عن كسور الأعداد بذكر ألفاظها. وإذا لم تصل إلينا كتابات في موضوعات رياضية، فلا نستطيع أن نجزم في موضوع أمثال هذه العلامات عند العرب الجنوبيين. فلعل الأيام تكشف لنا عن كتابات رياضية ترينا أن رياضي العرب الجنوبيين كانوا أرقى كثيرًا مما نظن الآن.
وللوقوف على صور الأعداد عند العرب الجنوبيين أدون نماذج من الأرقام، مقرونة بما يقابلها من الأرقام التي نستعملها عندنا في الحساب:
__________
1 Hofner S. 15.(15/226)
وأما الفواصل التي تشير إلى الأرقام وتوضع في أول الرقم وعند منتهاه، فهي على هذا الشكل:
ومادة الكتابة عند العرب الجنوبيين، هي الحجارة والصخر والخشب والمعادن، يكتبون عليها بالحفر، ولم أسمع أن أحدًا من الآثاريين حتى الآن عثر على كتابات بالمسند مدوّنة بالحبر على القراطيس والجلود والرق أو على ورق البردي على نحو ما كان يفعله المصريون وغيرهم. والظاهر أنهم لم يكونوا يتبعون طريقة كتّاب بابل في الكتابة على ألواح الطين التي تجفف بعد ذلك بالشمس أو بالنار، فتكون كتابة ثابتة مدوّنة على مادة صلبة؛ لأن الباحثين لم يعثروا على كتابات بالمسند مدوّنة على هذه الطريقة.
غير أن عدم وصول كتابات بالمسند مدونة على القراطيس أو الجلود، لا يعني أن العرب الجنوبيين لم يكونوا يعرفون الكتابة عليها وعلى مواد مشابهة لها، إذ لا يعقل عدم وقوف العرب الجنوبيين على استعمال الجلود والقراطيس وعظام الحيوانات مادة للكتابة، وقد كان استعمالها في العالم يومئذ شائعًا معروفًا. ومردُّ السبب في عدم وصول شيء من الكتابات المدونة على تلك المواد، إلى قابلية هذه المواد للتلف، وحاجتها إلى العناية الشديدة، بدليل عدم وصول شيء ما من الكتابات المدونة على الجلود وعلى جريد النخل وعلى اللخاف والعظام والقراطيس من صدر الإسلام ومن أيام الرسول خاصة مع أهميتها وقدسيتها. وليس في استطاعة أحد أن ينكر أن القرآن الكريم قد كتب على هذه المواد المذكورة، وأن الرسول قد أمر فكتبت له عدة كتب وعقود ومواثيق، ولكن بادت أصولها.
والبحث في أصل المسند مثله في أصل الخط، ما زال موضع جدل بين العلماء الباحثين في العربيات الجنوبية. فمنهم من يرجع أصله إلى الخط الفينيقي, ومنهم من يرجعه إلى كتابات سيناء حيث عثر فيها على كتابات قديمة جدًّا يعدها الباحثون أقدم عهدًا من الكتابات العربية الجنوبية، وقد وجد بين بعض حروف هذه الكتابات وحروف المسند شبه جعلهم يذهبون إلى اشتقاق المسند من خطوط سيناء1.
__________
1 Driver, Semitic Writing From Pictograph To Alphabet, London, 1954, pp. 123.(15/229)
ومنهم من يذهب إلى اشتقاق المسند من الخط الكنعاني، للتشابه بين بعض حروف الخطين. وللتوصل إلى معرفة منشأ الخط المسند، لا بد من تعيين تأريخ لأقدم كتابة مدونة بالمسند، ولم يتفق العلماء على تأريخ ثابت معين. إنما يرجع بعضهم تأريخ أقدم الكتابات إلى سنة 1500 أو 1300 قبل الميلاد، على حين لم يرتفع آخرون بتأريخ أقدم كتابة عثر عليها بالمسند إلى أكثر من 700 أو 800 قبل الميلاد. ولضبط هذا التأريخ أهمية جد عظيمة في البحث عن أصل منشأ ذلك الخط. ثم إنه لا بد في تعيين أصل الخط المسند من النص على أسماء الحروف نصًّا ليس في أمره شك، ثم لا بد أيضًا من النص على نظام ترتيب حروف المسند عند العرب الجنوبيين. وكل هذه الأمور غير متفق عليها، وإذن فليس من الممكن في مثل هذه الظروف التوصل إلى حل علمي يوافق عليه جميع الباحثين في العربيات الجنوبية.
وإذا كان أغلب الكتابات في موضوع واحد، هو التقرب إلى الآلهة بهدايا وبنذور، كان أسلوبها يكاد يكون واحدًا، فهي تبدأ عادة باسم المهدي أو بأسماء المهدين، ثم يعقب ذلك فعل يشير إلى التقديم مثل: استعمال فعل قدم أو أهدى وما شاكل ذلك من أفعال مناسبة، ثم اسم الإله أو أسماء الآلهة التي قدمت لها الهدايا، يليها بيان السبب الذي من أجله قدمت، مثل: شفاء من مرض أو وفاء لنذر، أو طلبًا من الإله أو الآلهة أن تطيل عمر المهدي، أو تشفيه من مرضه، أو لتحل له مشكلًا وقع فيه أو مشكلات تحيط به.(15/230)
القلم اللحياني:
ومن القلم المسند اشتق القلم اللحياني، والقلم الثمودي، والقلم الصفوي؛ وذلك لأن القلم المسند متقدم في الوجود على هذه الأقلام، فلا يمكن أن يكون قد أخذ منها. ثم إن المناطق التي وجدت فيها الكتابات اللحيانية والكتابات الثمودية، كانت في حكم المعينيين والسبئيين، بدليل عثور العلماء على كتابات معينية فيها. وهذه الكتابات أقدم عهدًا من الكتابات اللحيانية والثمودية، ولذلك ذهب الباحثون في اللحيانيات والثموديات إلى اشتقاق خطها من الخط المسند.
ولم ينقل أهل أعالي الحجاز القلم المسند نقلًا تامًّا، بل عدّلوا بعض حروفه(15/230)
وغيّروا فيها بعض التغيير، فظهر من ذلك القلمِ القلمُ اللحياني والقلم الثمودي، غير أننا نجد أن كتابات القلم اللحياني تختلف بعض الاختلاف. وقد قسّمها "ورنر كاسكل" إلى نوعين: كتابات لحيانية متقدمة، وكتابات لحيانية متأخرة. وقد بني تقسيمه هذا على أساس قدم الكتابات وتأخرها في التأريخ. والواقع أننا نجد الكتّاب قد تحرروا في كتابة حروفهم في جميع العهود، في العهد المتقدم وفي العهد المتأخر، بحيث لم يتركوا لنا مجالًا للأخذ بهذا التقسيم. فنراهم وقد كتبوا بعض الحروف بأوضاع قد تزيد على الخمسة. غير أننا إذا ما تصفحنا هذه الحروف المختلفة الأشكال، لا نجدها تختلف اختلافًا بينًا، إنما يرجع هذا الاختلاف في الواقع إلى ضعف وقوة يد الكاتب الذي حفر تلك الكتابات على الحجارة أو الخشب أو المواد الأخرى التي حفر الكتابة فيها. فمنهم من كان قويًّا في حفره للحروف، ومنهم من كان ضعيفًا، فبان هذا الاختلاف في هيئات رسم الحروف. ومن هنا أرى أن اختلاف صور الحروف، لا يدل حتمًا على تطور الخط، بقدر ما يدل على مهارة أو ضعف الكاتب في الكتابة.
والقلم اللحياني مثل المسند خالٍ من الشكل، وخالٍ من الرموز أو الحروف التي تشير إلى المدّ أو التشديد أو الإشباع أو الإشمام أو الإمالة وما شابه ذلك. وقد أوجد هذا النقص لقراء الكتابات اللحيانية مشكلات كثيرة في فهمها وفي ضبط الكلمات والأسماء فيها. فلفظة "زد" مثلًا المكتوبة بحرفين، قد تقرأ على أشكال مختلفة، قد تقرأ "زَد" و"زِد" و"زُد" و"زاد" و"زيَدْ" و"زود"، إلى غير ذلك من أشكال. وهي قد تكون اسمًا، كما قد تكون فعلًا أو مصدرًا، وعلى القارئ استخراج نوعها من موقعها في الجملة ومن مقتضى الحال. ومثل ذلك عن "شم" التي تعني "شيم" اسم رجل، "وكتب" بمعنى "كاتب" اسم رجل أيضًا، مع أن للكلمة عدة معانٍ يفهمها الإنسان من موقع اللفظة في النص.
ولم يتقيد كتّاب الكتابات اللحيانية تقيدًا تامًّا بكتابة الفواصل العمودية التي تستعمل للفصل بين الكتابات، كما تقيد بها كتّاب المسند. غير أنهم لم يسيروا في كتاباتهم على وتيرة واحدة، فنراهم يخالفونها أحيانًا فيفصلون الألفاظ بفواصل. وقد رفعت الفواصل عن الألفاظ المؤلفة من مقطع واحد، مثل مع، وكتبت مع اللفظة التي تليها. أما إذا اجتمعت لفظتان، كل واحدة منهما ذات مقطع(15/231)
واحد مثل "و" حرف عطف و"لِ" فالكتاب يكتبونهما على طريقة كتّاب المسند, أي: ممزوجتين، على هذا الشكل: "ول"1.
وتجد في هذه الصورة كتابة لحيانية متأخرة، يظهر منها وكأن صاحبها قد كتبها على عجل، فالخط فيها سريع ضعيف يدل على عجلة، والحروف غير واضحة، وقد كتبت بطريقة الحفر بقلم من حديد أو سكين أو آلة حادة أخرى على الحجر، حفرًا سريعًا، كما نكتب بسرعة في القلم. ومن هنا يختلف القلم اللحياني عن القلم المسند، يختلف عنه في عدم تمسك كتّابه بكتابة الحروف بصورة واضحة بينة وبخط قوي واضح يقرأ بسهولة. ولعل لموقع اللحيانيين ولموقع من كتب مثلهم بسرعة وبغير نظام ثابت وتقيد بهندسة الحروف وأشكالها، فيما بين الأبجديات الشمالية، والأبجدية العربية الجنوبية أثرًا في هذا التغير، إذ نكاد نلمس من قراءتنا لهذه الخطوط أنها تحاول الهروب من نظام المسند، المستند على الشكل الهندسي المرتب للحروف، الذي يفصل بين الحروف، والذي يحتاج الكاتب فيه إلى التأني في كتابة الحرف، فيضيع بعض الوقت بسبب ذلك، كما يحتاج إلى إشغال مكان واسع للحروف. بينما نرى الأبجديات الشمالية تقلص من حجم حروفها وتحاول جهد إمكانها ربطها بعضها ببعض اختصارًا في الوقت وفي المكان وفي الجهد. وحروف هذه الأبجديات وإن بقيت محافظة على استقلالها وعلى أشكالها الدالة على أنها من نبت المسند، إلا أنها اتخذت صورًا متعددة، كما أنها لم تتقيد بما تقيد به المسند في نظامه من السير على طريقة السطور، وهو نظام يسهل على القارئ قراءة الكتابة من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار نحو اليمين، أو بطريقة "حلزونية"، بل خرجت على هذا النظام، ولا سيما في حالة الكتابات الثمودية والصفوية، فكتبت بصور غير منتظمة، على صورة هلال، أو كرة، أو نسيج العنكبوت، مما جعل من الصعب على القارئ فهم الكتابة، ويظهر أن ذلك إنما وقع سبب أن الكتبة كانوا من الرعاة أو الفلاحين، وأن الكتابات التي عثر عليها هي من
__________
1 W.CaskeI, S. 60.(15/232)
كتاباتهم، وقد كتبوها تعبيرًا عن خاطر عنَّ لهم، فهي لا تمثل إذن كتابات رسمية أو كتابات جماعة من المثقفين الذين يعتنون بحسن الخط، وإنما هي خواطر دوّنت على أي حجر وجده الكاتب، ودونها بالشكل الذي وجده يناسب ذلك الحجر.
وهذه الكتابة التي تراها في هذه الصورة هي كتابة محفورة على لوح من الحجر، وهي من الكتابات اللحيانية المتأخرة، المحافظة على نظام السطور. وخطّها وإن كان ضعيفًا غير أنه واضح نوعًا ما ونجد الشبه كبيرًا بينه وبين المسند.
كتابة لحيانية متأخرة "من كتاب: CaskeI, Nr,2"(15/233)
كتابة لحيانية قديمة
من كتاب: Caskel, Nr. 1
أما هذه الصورة، فتمثل كتابة لحيانية قديمة, وقد تفنن في كتابتها كاتبها، وحفر الحروف فيها حفرًا جعلها بارزة، وقد حافظ فيها على نظام السطور، ونرى الشبه بين أشكال هذه الحروف وأشكال المسند بينًا، إذ لم تكن الكتابات اللحيانية القديمة قد ابتعدت بَعْدُ بعدًا كبيرًا عن الخط العربي الجنوبي.(15/234)
الخط الثمودي:
والخط الثمودي مثل الخط المسند والخط اللحياني والخط الصفوي، خالٍ من الشكل ومن التشديد ومن الإشباع ومن علامات للحركات تكتب مع الحروف في صلب الكلمة. ولهذا يلاقي قارئه من الصعوبات ما يلاقيه قارئ القلم المسند والقلم اللحياني. فكلمة "بت" يمكن أن تقرأ بأوجه متعددة كأن تقرأ "باتَ" فعلًا ماضيًا، و"بيت" اسمًا. ولفظة "عف"، تكتب بهذه الصورة، ويقصد بها "عوف" إن كتبت مع الأسماء. ولفظة "زد" هي "زيد"، ولفظة "تم" هي "تيم", ولفظة "منت" هي "مناة"، وقد يراد بها "منيت"، أي: المنية. وجملة "قنص اسد" تحتمل أن تكون على هذا النحو: "قَنَص أسدٌ"، وقنص اسم رجل، وهو مبتدأ خبره "أسدٌ". ويحتمل أن تكون على هذه الصورة: "قنص أسدًا" فتكون جملة فعلية "قنص" فيها فعل ماضٍ، والفاعل مستتر تقديره هو، وأسدًا مفعول به.
غير أن بعض الكتابات قد استعملت حروف العلة: الواو والألف والياء، في بعض الأحيان لسد النقص الحاصل من عدم وجود الحركات، كما في "نور"، و"اموت" "أموت" حيث قامت "الواو" بأداء واجب الـ"او" "u" وكما في لفظة "دين"، وعظيم, حيث قامت الياء بأداء الحركة "إي" i" "ي"، وكما في "موت" "بيت" و"عليت" بمعنى كنت معتلًا، و"رضو "اسم" الإله، و"مو" بمعنى ماء، و"لى" بمعنى "لي"، و"ذى" بمعنى "هذا"، و"اتا" بمعنى "أتى"، وأمثال ذلك. غير أن هذا الاستعمال لم يكن عامًّا، وإنما كان خاصًّا يرد في بعض الكتابات. ونجد هذه الكلمات التي ذكرتها، خالية من الحروف المذكورة، في نصوص أخرى، مما يدل على أن هذه حالات كتابية خاصة، ولم تكن قاعدة عامة متبعة في كل الكتابات.
ومن مميزات القلم الثمودي أنه لم يتقيد باستعمال الخطوط العمودية للفصل بين الكلمات، ولهذا نجد الحروف والكلمات متصلة بعضها ببعض في كثير من الكتابات لا يفصل فاصل بينها. وقلما نجدها تستعمل بعض العلامات مثل النقط أو الخطوط الصغيرة لتحديد الجمل. ثم إنه أطلق لنفسه العنان في اتباع الجهة التي يسير عليها(15/235)
الخط، فتراه تارة يسير سيرنا في الخط، أي: من اليمين إلى اليسار وباتجاه أفقي، وتارة أخرى يتجه من اليسار إلى اليمين. وأحيانًا من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى في أحيان أخرى، كما تراه يتخذ شكل قوس في بعض الأحيان، أو أشكالًا أخرى، كأن يمزج بين هذه الطرق بحسب رغبة الكاتب وشكل المادة التي يكتب عليها. وعلى قارئ النص لذلك الانتباه إلى هذه الاتجاهات، لمعرفة مبدأ الكلام من منتهاه.
ونجد بعض الكتابات الثمودية، وكأنها رموز أو طغراء، إذ نجد حروفها وقد تداخل بعضها في بعض، أو بعض حروف منها، وقد تشابكت بحيث يصعب على القارئ حلها. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها نوع من "الوسم"، غير أن من المهتمين بالثموديات من لا يوافقونهم على هذا الرأي، وإنما يرون أنها تمثل رموزًا دينية، أو الأحرف الأولى من أسماء كاتبيها، أو أسماء بعض الآلهة، أو ما شاكل ذلك مما كان له معنى معروف في نفوس أصحابه، وقد خفي ذلك علينا، لعدم وجود مفاتيح لدينا تحل لنا هذه الكتابات المتخذة طابع الرموز والإشارات.
ونجد الكتابات الثمودية تعاف بعض حروف الكلمات أحيانًا وتختزلها، كما في "ب"، التي تعني "ابن"، فقد تركت حرف النون واكتفت بالباء. ويستطيع القارئ إدراك معنى "ب" من القراءة. وكما في "ل" بمعنى "لنا" و"لي"، و"ب" بمعنى "بي"، أي: إنها تقطع الضمير اللاحق بحرف الجر في بعض الأحيان1.
__________
1 Grimme, S. 34. ff.(15/236)
الأبجدية الصفوية:
والأبجدية الصفوية مثل الأبجدية اللحيانية والأبجدية الثمودية، أصلها من القلم العربي الجنوبي، وهي تتألف من ثمانية وعشرين حرفًا، غير أن كتّاب هذا القلم قد تلاعبوا به كما تلاعب كتاّب القلم اللحياني والثمودي بحروف المسند، وأوجدوا لهم منها أشكالًا أخرى ميزتها عن الأصل، فأخذ الحرف الواحد أشكالًا(15/236)
متعددة، تباعد أشكال بعضها تباعدًا كثيرًا عن الأصل، حتى عسرت على القارئ قراءة النص، وهذا مما أوجد مشاكل لقراء هذه النصوص في قراءتها قراءة صحيحة.
و"هاليفي" الذي هو أول من تمكن من تشخيص الأبجدية الصفوية، وأول من سمّاها بهذه التسمية لم يتوفق في الواقع إلا في معرفة "16" حرفًا من الحروف الثمانية والعشرين التي تتكون منها الأبجدية الصفوية. أما الحروف الباقية، فقد أخطأ في تشخيصها، حتى جاء "بريتوريوز" فتمكن من تشخيص خمسة أحرف أخرى، كما تمكن الأستاذ "ليتمان" من تشخيص هوية سبعة أحرف، فاكتمل العدد ثمانية وعشرين حرفًا1.
ومن الصعوبات التي تعترض قارئ الكتابات الصفوية في قراءة هذه الكتابات وفي فهمها أن للحروف فيها كما قلت آنفًا جملة رسوم، وأن بعض رسوم الحرف الواحد هي رسوم لحرف آخر. فبعض صور الباء هي أيضًا صور للظاء، ولهذا قد تقرأ "باء"، كما تقرأ "ظاء". ويتشابه كذلك رسم الخاء مع التاء، واللام مع النون، والهاء مع الصاد، وكذلك رسوم حروف أخرى, فكانت من هذا كله صعوبات كبيرة تعترض الباحث في قراءة هذه النصوص وفي تثبيت معناها. ولا سيما أن هذه الأبجدية هي كالأبجديات الأخرى خالية من الشكل ومن التشديد ومن حروف العلة في أكثر الأحيان ومن المقاطع، فلا فرق فيها في الكتابة بين الفعل والاسم والفاعل والمفعول به، وفيها مصطلحات وتراكيب نحوية غير معروفة في عربيتنا أو في اللهجات السامية الأخرى. وعلى الباحث إعمال ذكائه في كشف المعاني ومواقع الكلم في هذه النصوص.
وهناك صعوبة أخرى تعترض الباحث في قراءة النصوص الصفوية تكمن في عدم وجود قاعدة معينة للابتداء في الخط. فالكاتب بهذا القلم حر كما يظهر من
__________
1 Semitisk, Dritter Band, Zwiter und Dritter Abschnitt, 1945, S. 213.
رينه ديسو، العرب في سوريا قبل الإسلام "ص65 وما بعدها"، "تعريب عبد الحميد الدواخلي".(15/237)
الكتابات في اختيار الجهة التي يبدأ بها في الكتابة، فله أن يبدأ بكتابته من اليمين إلى اليسار، أي على نحو ما نفعله نحن في كتابتنا وعلى نحو ما فعله أكثر كتّاب المسند، وله أن يكتب من اليسار إلى اليمين، أي: على نحو ما يفعله الكاتبون بالأبجدية اللاتينية، وله أن يمزج بين الطريقتين كما رأينا ذلك في بعض كتابات المسند، كما أن له أن يبدأ بالكتابة من أعلى إلى أسفل، وله أن يعكس الوضع فيكتب من أسفل إلى أعلى، وله أن يبدأ بالكتابة من أيسر الجهة السفلى للحجر ويتجه إلى اليمين، ثم إلى اليسار وفي أي اتجاه أحبّ واشتهى، وله أن يختار العكس، أو أية جهة شاء، حتى إنك لترى بعض الكتابات وكأنها خيوط متداخلة، وعلى القارئ أن ينفق جهدًا طويلًا في استخراج رأس الخيط واستلاله للوصول إلى منتهاه.
والكتابات الصفوية مثل الكتابات الثمودية واللحيانية هي في أمور شخصية، فهي إما في بيان ملكية شيء، أو في تعيين قبر أي كتابات قبورية، أو في رجاء وتوسل إلى الآلهة. وإما تسجيل خاطر، مثل تذكر أهل أو صديق أو حبيبة أو نزول في مكان أو في تعليق على كتابة قديمة. وكتابات مثل هذه تكون قصيرة في الغالب، وقد تكون من كلمة واحدة في بعض الأحيان. ولما كان معظمها في هذه الأمور، صارت أساليبها في الإنشاء متشابهة، لا تختلف أحيانًا إلا في أسماء أصحابها. وهي لذلك لا تفيدنا كثيرًا من ناحية الدراسات اللغوية، غير أنها مع ذلك أفادتنا فائدة كبيرة في نواحٍ أخرى، من مثل الكشف عن أسماء آلهة العرب الجاهليين، أو أسماء القبائل والأشخاص والنبات والحيوان وبعض العادات وغير ذلك مما يتصل بحياة العرب قبل الإسلام.(15/238)
وترى في هذه الصورة كتابة صفوية وقد كتبت على شكل ثعبان، إذ لم يسر كاتبها على طريقة الكتابة بالسطور، تكتب بعضها فوق بعض. وهي من الكتابات المؤرخة، وترى بعض الحروف مشابهة لحروف المسند، أما البعض الآخر، فقد ابتعد كثيرًا عن الأصل.
كتابة صفوية أرخت بسنة 24 المقابلة لسنة 129 للميلاد، ويرى الرقم على الجانب الأيمن من الكتابة. من كتاب: Safaitic
وفي هذه الصورة الثانية كتابة صفوية، وقد كتبت على النحو الذي نراه في الصورة، وقد تصرف كاتبها في الحروف، تصرفًا تظهر عليه روح الاختزال وتصغير حجم الحرف وهي من الكتابات المؤرخة.
يوجد هنا رسمة بالصفحة
كتابة صفوية يعود تأريخها إلى سنة 42. وقد رقمت برقم 162 في كتاب: Safaitic "ص36".(15/239)
والصفوية مثل اللهجات العربية الأخرى في خلوّها من الشكل، لذلك تجابه الباحث في قراءة كتاباتها ما يجابهه قارئ اللهجات الأخرى من مشكلات في فهم الكتابات فهمًا صحيحًا واضحًا، فلا بد من الاستعانة بعربية القرآن الكريم وباللهجات السامية لفهمها فهمًا صحيحًا. ولم يحفل الكتاب بتثبيت الحروف في صلب الكتابة باعتبارها تعبيرًا عن الحركات، ولم يستعملوا المقاطع المعبرة عن الأصوات، لضبط النطق. وقد يكتب فيها الحرف مرتين في مواضع نستعمل لها الشدّة في عربيتنا.
ومادة الكتابات الصفوية، هي الحجارة الطبيعية بأشكالها المختلفة، يأخذها الكاتب فيحفر عليها بآلة ذات رأس حاد الكلمات التي يريد تدوينها. أما الورق أو المواد المشابهة الأخرى المستعملة في الكتابة، فلم يعثر على شيء منها مكتوب بهذه الأبجدية.
ويجب أن أبين أن هذه الكتابات اللحيانية والثمودية، والصفوية، لا تعني أنها خطوط "بني لحيان"، و"قوم ثمود" بالضرورة، فبين الكتابات المنسوبة إلى مجموعة من هاتين المجموعتين ما لا يمكن عده من كتابة قوم من "بني لحيان" ولا من قوم ثمود، وإنما هي من كتابات قبائل أخرى, وقد أدخلت في الخط اللحياني أو في القلم الثمودي، لمجرد تشابه الخط. وقد ذكرت أن الكتابة الصفوية، إنما عرفت بهذه التسمية، بسبب عثور العلماء عليها في "الصفاة" في الغالب، فنسبوها إلى هذا الأرض، مع أنها قبائل وعشائر مختلفة.
ويلاحظ أن التباين في أشكال الحروف داخل المجموعة الواحدة مثل اللحيانية، والثمودية والصفوية، لا يقل عن التباين الذي نراه بين صور الحروف المكونة لهذه المجموعات. فأنت ترى في هذه الصورة وقد كتب حرف الألف في الصفوية بصور متباينة، تكاد تجعل من الصعب التوصل إلى أنها تمثل كلها هذا الحرف، ثم ترى الحرف نفسه في "الثمودية"، وقد كتب بصور متباينة، ويقال نفس الشيء بالنسبة لهذا الحرف في الكتابة اللحيانية. ونجد هذا التباين في كل الحروف الباقية كذلك. أما المسند، فلا نجد فيه هذا التباين، مما يحملنا على إرجاع سببه إلى ضعف وقوة يد الكتاب، وإلى تباين القلم الذي يكتب به. فالمسند قلم، استعمل في تدوينه قلم حاد قوي، حفر الكتابة على الحجر حفرًا وبعناية، بسبب أنها وثائق وكتابات ذات أهمية بالنسبة لكاتبها، أما الأقلام الأخرى, فقد استعملت في التعبير عن خواطر في الغالب، لذلك سجلها كاتبها بأي أداة وجدها أو(15/240)
كانت عنده تؤدي إلى إحداث خدش أو حفر على المادة التي وجدها أمامه صالحة للكتابة، فنقش عليها رأيه بسرعة وبغير تأنق، فظهرت الخطوط متباينة متغايرة لهذا السبب، كما ترى في هذه الصورة:
الأقلام الصفوية والثمودية واللحيانية والعربية الجنوبية والعبرانية(15/241)
الترقيم:
لقد تحدثت عن الترقيم عند الصفويين، وذكرت أنهم ساروا فيه من الواحد إلى الخمسة على أساس وضع خطوط عمودية، يمثل كل خط منها العدد "1". فإذا أرادوا كتابة الرقم "1"، وضعوا خطًّا واحدًا يمثله. وإذا أرادوا كتابة "2"، وضعوا خطين عموديين. وإذا أرادوا العدد "3"، وضعوا ثلاثة أعمدة. وإذا أرادوا العدد "4"، كتبوا أربعة خطوط عمودية. وأما إذا أرادوا الرقم "5" وضعوا خمسة خطوط.
وكتابة الأرقام من المسائل العويصة التي جابهت الكتّاب في الأزمنة القديمة. وقد كان كتّابهم يكتبون بالحروف، ولكنهم كانوا إذا أرادوا تدوين الأرقام تحيروا: هل يكتبونها كتابة بالحروف أو يجعلون لها رموزًا خاصة تشير إلى الأعداد. وقد وجدنا أن العرب الجنوبيين كانوا قد اختاروا الخط العمودي لتمثيل الرقم "1"، فإذا أرادوا الرقم "2"، وضعوا خطين، وإذا أرادوا الرقم "3"، وضعوا ثلاثة خطوط، وإذا أرادوا الرقم "4"، وضعوا أربعة خطوط. ولصعوبة الاستمرار على هذه الطريقة، بسبب كبر الأعداد، اختاروا الحرف الأول من لفظة خمسة وهو الخاء لتمثيل العدد "5"، واختاروا الحرف "ع" وهو الحرف الأول من العدد عشرة لتمثيل هذا العدد، واختاروا رموزًا أخرى كما رأينا لمعالجة مشكلة العدد عندهم، فحلوا بذلك عقدة الترقيم بعض الحل، ولم يبلغوا منه التمام.
وقد اختارت بعض الشعوب النقط، بدلًا من الخطوط. فالرقم "7" مثلًا تمثله سبع نقط، والرقم "3" تمثله ثلاث نقط. وسارت شعوب أخرى على طريقة الخطوط فرمزوا عن الرقم "5" بخمسة خطوط، وعن الرقم "10" بعشرة خطوط عمودية, وعن الرقم "15" بخمسة عشر خطًّا عموديًّا. ودفعتهم صعوبة كتابة الأرقام الكبيرة بهذه الطريقة، إلى التفكير في طريقة أخرى تكون مختصرة بعض الاختصار وسهلة في التعبير عن قيم الأرقام، فاختار بعضهم النقطة رمزًا عن العدد "10"، واختار بعض آخر خطًّا أفقيًّا ليكون ذلك الرمز، وبذلك سهلت عليهم كتابة الأرقام الآحاد مع العشرات، فإذا أرادوا كتابة الرقم "10"، وضعوا نقطة واحدة "0" أو خطًّا أفقيًّا على هذا الشكل - ليشير إلى الرقم "10"، وإذا أرادوا الرقم "11"، كتبوه على هذه الصورة: "10" أو "-1".(15/242)
وإذا أرادوا الرقم "15"، كتبوه على هذا الشكل "1110 11" أو على هذا الشكل: "-111 11".
وغيّر الفينقيون وبنو إرم وأهل تدمر بعض التغيير في شكل الخط الأفقي الدال على العدد "10"، بأن جعلوا في طرفه الأيمن خطًّا ممتدًّا إلى الأسفل قليلًا على شكل زاوية متجهة نحو اليسار. ثم أجرى النبط تعديلًا يسيرًا في هذه العلامة الجديدة بأن جعلوا رأسها متجهًا إلى أعلى اليمين، أي: نحو الزاوية اليمنى للمادة التي يكتب عليها. أما مؤخرتها، فقد وجهوها نحو الجهة الجنوبية اليسرى1.
وقد سار الفينقيون وبنو إرم على طريقة الترقيم بالخطوط العمودية للأعداد من "1" إلى العدد "9". ولتسهيل قراءة الأعداد التي تزيد قيمتها العددية على ثلاثة، جعلوا كل ثلاثة خطوط متقاربة، بحيث تظهر في شكل مجموعة واضحة، وتمثل هذه المجموعة الرقم "3"، ووضعوا على يسار هذه المجموعة ما يكملها لتكوين العدد المطلوب. فكانوا إذا أرادوا مثلًا كتابة الرقم "5"، كتبوه على هذه الصورة: "111 11" أي: الرقم "3" الذي تمثله ثلاثة خطوط عمودية منضمة بعضها إلى بعض، ثم الرقم "2" الذي يمثله خطان منضمان، وبين هذين الرقمين فراغ قليل يفصل بين العددين. وإذا أرادوا الرقم "6" كتبوه مجموعتين متجاورتين، كل مجموعة ذات ثلاثة خطوط منضمة، وبين المجموعتين فراغ صغير. غير أن بعض الكتابات كتبت الرقم "6" على هذا الشكل: 111
111
أي: إنها وضعت الرقمين ثلاثة: أحدهما فوق الآخر، ليشير هذا الوضع إلى حاصل جمع العددين، وهو ستة2.
وقد اصطلح النبط على اتخاذ علامة خاصة بالعدد "4" جعلوها على هيئة التاء في المسند، أي: على هذا الشكل: "×"، كما اصطلحوا على اتخاذ علامة أخرى خاصة بالرقم "5"، شكلها قريب من شكل الرقم "5" في الحروف اللاتينية، أي: على هذا الشكل تقريبًا: "5". على حين رمز غيرهم مثل أهل تدمر عن الرقم "5" برمز يشبه حرف الـ"Y" في الأبجدية الاتينية. فإذا أرادوا كتابة
__________
1 Mark Lidzbarski, Handbuch der Nordsemitischen Epigraphik, Weimer 1898, S. 198.
المصدر نفسه "ص199".(15/243)
الرقم "6"، وضعوا الرقم الذي يرمز عن العدد "5"، ووضعوا خطًّا على يساره ليشير بذلك إلى العددين خمسة زائدًا واحدًا "5+1" "1Y" ومجموعهما ستة. وإذا أرادوا الرقم "7"، كتبوا خمسة زائدًا خطين يوضعان على يسار الرقم "5"، ليتكون من العددين العدد "7"، "11Y"، وهكذا إلى العدد "9".
وقد سار الكتّاب في ترقيم الأعداد التي بعد العشرة على طريقتهم التي اتبعوها في السير أفقيًّا في الترقيم، إلا في حالات قليلة ساروا على طريقة وضع الأرقام بعضها فوق بعض، وجعلوا للرقم "20" علامة تتألف من نقطتين إحداهما فوق الأخرى، أو من خطين أفقيين أحدهما فوق الآخر على شكل علامة مساو "=" في علم الحساب، أو من علامة تشبه حرف الشين في المسند "4"، أو من علامة تشبه حرف الـ"N" في اللاتنية. ووضع النبط للعشرين علامة تشبه الـ"3" اللاتيني في بعض الأحيان، وتشبه الرقم "&" اللاتيني في أحيان أخرى، غير أنهم فتحوا النهاية السفلى من الرقم "&" جعلوها مفتوحة في الغالب1.
وتكتب الأعداد الآحاد على الجهة اليسرى من العشرات، فإذا أردنا كتابة الرقم "11"، كتبنا الرقم "10" أولًا ثم العدد "1" من بعده ويكتب إلى يسار الرقم "10". فإذا أردنا كتابته على الطريقة الفينيقية أو الإرمية، كتبناه على هذه الصورة: "- 1". وإذا أردنا كتابته على طريقة أهل تدمر أو طريقة النبط، وضعنا العلامة التي وصفتها الخاصة بالعشرة، ووضعوا إلى يسارها خطًّا واحدًا يمثل العدد "1"، وإذا أرادوا العدد "12"، وضعوا خطين بعد الرقم "10"، وإذا أرادوا "13" وضعوا ثلاثة خطوط. وإذا أرادوا "14"، وضعوا أربعة خطوط. أما إذا أرادوا الرقم "15"، فإن منهم من وضع خمسة خطوط بعد الرقم عشرة كما كان يفعل الفينيقيون، ومنهم من اتبع هذه الطريقة وطريقة تمثيل العدد بخطوط، فوضع خمسة عشر خطًّا لهذا العدد. ومنهم من وضع بعد العلامة الخاصة بالرقم "10" العلامة الخاصة بالرقم "5" كالنبط وأهل تدمر.
أما مكررات العشرة، فتكتب على هذه الصورة. إن كان العدد العشرات من الأعداد الزوجية فيكتب العدد بقدر احتواء العدد المراد تسجيله على العدد عشرين. فإذا أردنا كتابة الرقم "40"، كتبنا الرقم "20" مرتين. وإن كان
__________
1 M.Lidzbarske, Handbuch, I, S. 199.(15/244)
العدد "60"، كتبنا العدد "20" ثلاث مرات. وإن كان العدد "80"، كتبناه أربع مرات. أما إذا كان العدد العشرات من غير الأعداد الزوجية كما في مثل ثلاثين، فإننا نكتب العدد "20" أولًا ثم نضع الرقم "10" على يساره، فيتكون من مجموع قيمة العددين "30". أما إذا أردنا الرقم "70" مثلًا، كتبنا العدد "20" ثلاث مرات، ثم العدد "10" على الجهة اليسرى من الأرقام الثلاثة. وقد كتب هذا العدد في بعض الكتابات الإرمية بست نُقط: ثلاث نقط في أعلا وثلاث نقط في أسفلها، ونقطة على الجهة اليسرى من المجموعتين وفي مقابل الموضع الوسط الذي يكون الحد الفاصل بين المجموعتين وعلى هذا الشكل " ... "1
أما العدد مائة، فقد رمز عنه بعلامات متعددة، منها هذه العلامات: " ْ1" و"" و"". ونرى أن العلامة الأولى هي توسيع للرقم الذي رمز إليه عن العشرة. وقد اتخذ النبط علامة تشبه الرقم "9"، أو الحرف "P" في اللاتينية. وقد سبق أن ذكرت أن العرب الجنوبيين كانوا قد اتفقوا على اعتبار الحرف الأول وهو الميم من لفظة مائة هو الرمز الذي يشير إلى العدد، واعتبروا نصف هذا الحرف رمزًا على العدد "50" باعتبار أن الخمسين نصف المائة، فنصف الحرف ميم هو رمز عن هذا العدد.
أما العدد الألف، فقد وجدت له في بعض الكتابات علامات خاصة. وقد رمز عنه الفينيقيون وبنو إرم بعلامة هي عبارة عن خط مائل يتصل به ما يشبه نصف القوس من جهة اليمين، ورأس الخط مائل إلى اليمين، أما أسفله فمتجه نحو اليسار2.
ولم ترد في الكتابات الصفوية أرقام كثيرة، لذلك لا نستطيع أن نحكم على طريقتهم في الترقيم وفي العدّ. غير أن في استطاعتنا القول، استنادًا إلى هذه النماذج القليلة التي وصلت إلينا: إنهم اتبعوا في الترقيم الطريقة النبطية وطريقة أهل تدمر، ولم يتبعوا طريقة العرب الجنوبيين في تدوين العدد. ويمكن إرجاع سبب ذلك إلى اتصالهم اتصالًا مباشرًا بالنبط وبأهل تدمر، وإلى تأثرهم بثقافتهم.
__________
1 راجع الألواح الخاصة الملحقة بكتاب: M. Lidzbarski والخاصة بالنصوص.
2 راجع آخر المصور الملحق بكتاب M. Lidzbarski اللوح الخاص بالأرقام.(15/245)
جدول الأرقام(15/246)
ولما كانوا محتاجين إلى تدوين الأرقام اضطروا إلى اقتباس طريقة النبط وأهل تدمر في كتابة الأعداد بالأرقام.
وتجد في الجدول المقابل كيفية تدوين الأرقام في الفينيقية والآرامية، والتدمرية، والنبطية. وهي تختلف اختلافًا بينًا عن صور الأرقام التي نستخدمها اليوم في عربيتنا. ونلاحظ أن من بين الترقيم في المسند، وبين الترقيم في هذه الأبجديات تشابه كبير إلى حد الرقم "4"، ثم يختلف، فقد أخذ العرب الجنوبيون الحرف الأول من لفظة "خمسة"، وجعلوه رمزًا إلى العدد "5"، بينما اتبع الباقون طريقة التخطيط بالرقم "1" إلى العدد "9" في الفينيقية، ثم بدلوا الطريقة، وسلكت هذا المسلك الأبجدية الآرامية، أما الأبجدية التدمرية والأبجدية النبطية، فقد اتبعتا سبيلًا آخر، فيه اختلاف في بعض الأعداد، ولكن بينهما تجانسًا بوجه عام. مما يدل على أنهما أخذا الترقيم من منبع واحد.(15/247)
الفصل الثالث والعشرون بعد المائة: الكتابة والتدوين
لا خلاف في أن التدوين كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، بدليل ما تحدثنا عنه من وجود الألوف من النصوص الجاهلية التي عثر عليها في العربية الجنوبية وفي العربية الغربية وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب. كتبت بلهجات عربية متنوعة، تختلف عن عربية القرآن الكريم، اختلافًا متباينًا، أقربها إلى عربيتنا الكتابة التي وسمت بـ"نص النمارة" أو كتابة النمارة، التي هي شاهد قبر "امرئ القيس" المتوفى سنة "328" للميلاد، والكتابات الأخرى التي كتبت بعده1.
ولا خلاف بين العلماء في أنهم لم يتمكنوا حتى الآن من العثور على أي نص جاهلي مكتوب بهذه اللهجة التي نزل بها القرآن، والتي ضبط بها الشعر الجاهلي، لا من الجاهلية البعيدة عن الإسلام، ولا من الجاهلية القريبة منه، مع أنهم تمكنوا من العثور على كتابات جاهلية مدونة بلهجة عربية أخرى، تعود إلى عهد لا يبعد كثيرًا عن الإسلام، مثل النص المعروف بنص "حران" المدوّن سنة "568م".
وإذا صح أن الكتابة المعروفة بـ"أم الجمال" الثانية، هي كتابة جاهلية
__________
1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 189 وما بعدها".(15/248)
أصيلة، تكون أو نص يمكن أن نعتبره بحق وحقيقة من النصوص المدونة بلغة القرآن والشعر الجاهلي. ويرجع العلماء الذين درسوه تأريخه إلى أواخر القرن السادس للميلاد. وقد جاء فيه:
1- الله غفرا لاليه.
2- بن عبيده كاتب.
3 الخليدا على بنى.
4- عمرى كتبه عنه من.
5- يقروه1
ولكن عبارة وأسلوب تدوين الكتابة، يوحيان للمرء، أنها من الكتابات المدونة في الإسلام. وأنا أشك في كونها من مدونات أواخر القرن السادس للميلاد، حتى إذا ذهبنا أن صاحبها كان نصرانيًّا، وأن لفظة "غفرا" من الألفاظ الدينية التي كان يستعملها النصارى، فلا غرابة من ورودها في نص جاهلي؛ لأنها كتابة نصرانية. وحجتي أن أسلوبها يفصح عن أسلوب الكتابات الإسلامية القديمة التي دوّنت في صدر الإسلام. وقد تكون في القراءة بعض الهفوات والشطحات، على كلٍّ فإن الزمن بين العهدين غير بعيد، ثم إن استعمال "التاء القصيرة" في "عبيدة" الاسم الوارد في السطر الثاني من النص لم يكن معروفًا في هذا العهد ولا في صدر الإسلام، لذلك أرى أنها من الكتابات الإسلامية. وفيها هفوات.
وبناء على ما تقدم نقول: إننا لم نتمكن من الحصول على نص جاهلي مدوّن بلغة عربية قرآنية، لا شك في أصالته، ولا شبهة في كونه جاهليًّا. وأن أقدم ما عثر عليه من كتابات بهذه العربية، هي كتابات دونت في الإسلام. في رأسها الكتابات التي عثر عليها مدوّنة على جبل "سلع" قرب المدينة، يرى "الدكتور حميد الله" أنها ترجع إلى السنة الخامسة للهجرة2.
ثم الكتابة التي كتبت على شاهد قبر رجل اسمه "عبد الله بن خير"، أو "عبد الله بن جبر" الحجازي أو الحجري، المحفوظة في دار الآثار العربية بالقاهرة
__________
1 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "الشكل رقم 5 مقابل الصفحة 73".
2 H. Hamidullan, Some Arabic Inscriptions of Medinah of the Early Years of Hjrah, in Islamic Culture, vol 13, No. 4, 1939, p. 427.(15/249)
ويعود عهدها إلى "جمادى الآخرة" من سنة إحدى وثلاثين1.
ولا خلاف بين الباحثين في أن كل ما وصل إلينا من نصوص جاهلية إنما هو بلغة النثر، إذ لم يعثر حتى الآن على نص مكتوب شعرًا. ونظرًا إلى وجود التدوين عند أصحاب هذه النصوص، ونظرًا لأن الشعر، شعور، لا يختص بإنسان دون إنسان، وبعرب دون عرب، فأنا لا أستبعد احتمال تدوين الجاهليين الشعر أيضًا، مثل تدوينهم لخواطرهم وأمورهم نثرًا. دوّنوه بلهجاتهم التي كتبوا بها. وهي بالنسبة لهم لهجاتهم الفصيحة المرضية. أما سبب عدم وصول شيء مدوّن منه إلينا، فقد يعود حسب رأيي، إلى أن تدوين الشعر والنثر يكون في العادة على مواد قابلة للتلف، مثل الجلود والخشب والعظام وما شاكل ذلك, وهي لا تستطيع مقاومة الزمن, لا سيما إذا طمرت تحت الأتربة، ثم هي معرضة لالتهام النار لها عند حدوث حريق، أو للتلف إن أصابها الماء، أضف إلى ذلك أنهم كانوا يغسلون الجلد المكتوب، للكتابة عليه مرة أخرى، لغلاء الجلود، وهو ما حدث عند غير الجاهليين أيضًا. ونجد في المؤلفات الإسلامية أمثلة كثيرة على غسل الصحف المكتوبة للكتابة عليها من جديد. ورسائل النبي وكتبه وأوامره إلى عماله ورسله على القبائل، فقد فقدت وضاعت مع ما لها من أهمية في نظر المسلمين، وقل مثل ذلك عن كتب الخلفاء، فلا نستغرب إذن ضياع ما كان مدونًا من شعر جاهلي، فقد نص مثلًا على أن الشاعر "عدي بن زيد" العبادي، وكان كاتبًا مجودًا بالعربية وبالفارسية حاذقًا باللغتين قارئًا لكتب العرب والفرس، كان يدوّن شعره وهو في سجن النعمان ويرسل به إلى الملك، يتوسل إليه فيه أن يرحم به، وأن يعيد إليه حريته، وكان الشعر يصل إلى الملك، فلما طال سجنه صار يكتب إلى أخيه أُبي بشعر2، لم تبق من أصوله المكتوبة أية بقية، وقد ضاعت أصول شعره المكتوب المرسل إلى النعمان كذلك، حتى إننا لا نجد أحدًا من رواة شعره يروى أنه رجع إليها فنقل منها، مما يبث على الظن أنها فقدت منذ عهد بعيد عن بداية عهد التدوين.
ويدفعنا موضوع التدوين إلى البحث عن تدوين الأدب والعلم عند الجاهليين،
__________
1 ولفنسون، السامية "202".
2 الطبري "2/ 197 وما بعدها"، "ذكر خبر ذي قار".(15/250)
وعما إذا كان للجاهليين أدب منثور وعلم مدوّن؟ لقد ذهب بعض الباحثين إلى وجود هذا الأدب عند أهل الجاهلية، وتوقف بعض آخر، فلم يبد رأيًا في الموضوع، وتوسط قوم، فقالوا باحتمال وجود تدوين أو شيء منه عندهم، إلا أنهم أحجموا عن الحكم على درجة تقدمه واتساعه في ذلك العهد. لعدم وجود أدلة ملموسة يمكن اتخاذها سندًا لابداء رأي واضح علمي في هذا الموضوع.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنه لو كانت هنالك مدوّنات في الأدب، لما خفي ذكرها وطغى اسمها حتى من ذاكرة أهل الأخبار، ومن أحاديث الرواة. أنه لو كان أهل الجاهلية قد زاولوا التأليف وتدوين العلم، لما اقتصر علم أهل الأخبار في الأدب على ذكر قطع من الحكم، يشك في صحتها، وعلى إيراد الشعر رواية وعلى رواية بعض القصص والأمثال، وسردهم كل شيء يتعلق بأمر الجاهلية رواية. وإنه لو كان لديهم تأليف منظم، لسار على هديهم من جاء بعدهم في الإسلام، ولسلكوا مسلكهم في التدوين: تدوين الكلام المنثور وتدوين الكلام الموزون المقفى، وحيث إن أحدًا لم يذكر اسم مدوّن من مدوّنات أهل الجاهلية، وحيث إن المسلمين لم يشرعوا بالتدوين إلا بعد حين، فلا يمكن لأحد النص بكل تأكيد على وجود تدوين عند الجاهليين1.
ولم نعثر على خبر في كتب أهل الأخبار يفيد أن أحدًا من الرواة والعلماء أخذ نص كلام حكيم من حكماء الجاهلية، أو خبر أو شعر من صحف جاهلية، أو من كتب ورثوها من ذلك العهد. أو خبر أو شعر من صحف جاهلية، أو من كتب ورثوها من ذلك العهد. هذا "قس بن ساعدة" الإيادي، مع ما قيل عنه من أنه كان كاتبًا قارئًا للكتب، واقفًا على كتب أهل الكتاب، خطيبًا عاقلًا حكيمًا، وأن العرب كانت تعظمه وضربت به شعراؤها الأمثال، وأنه كان خطيب العرب قاطبة، نجدهم يختلفون في خطابه المعروف، ويروونه بمختلف الروايات، حتى ذكر أن الرسول كان قد سمعه، وسمع خطابه، فلما جاء ذكره، وأراد أن يتذكر خطابه، وجد بين الصحابة اختلافًا في تلاوته؛ لأنه لم يكن مدوّنًا، ولو كان مدوّنًا لم يختلف فيه2.
__________
1 هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام "294 وما بعدها"، "دار العلم للملايين".
2 الإصابة "3/ 264"، "رقم "7342".(15/251)
وليس في الأخبار عن الجاهلية خبر يفيد أن السدنة أو غيرهم من الساهرين على الأصنام والأوثان وبيوتها، ألفوا كتبًا في الوثنية وفي أحكامها وقواعدها. أما اليهود والنصارى، فقد كان لهم علماء يشرحون للناس في معابدهم أحكام دينهم، ويعلمونهم الكتابة والقراءة وما في كتبهم المقدسة من أوامر ونواه. فكان "أبو الشعثاء، وهو رجل ذو قدر في اليهود، رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة"1. وهو من يهود بني ماسكة. وكان آخرون بينهم يعلمونهم أحكام دينهم في بيت المدارس.
وفي لغة الجاهليين مفردات تستعمل في القراءة والكتابة، مثل: قلم، وقرطاس، ودواة، ومداد، ولوح، وصحف، وكتاب، ومجلة، وغير ذلك لا يشك في استعمال الجاهليين لها، لورودها في القرآن الكريم. وورودها فيه، دليل على استعمالهم لها. وورد بعضها أيضًا في الحديث النبوي وفي الشعر الجاهلي. ويفيدنا حصر هذه الألفاظ وضبطها في تكوين رأي علمي صحيح سديد في الكتابة والقراءة عند الجاهليين، والمؤثرات الخارجية التي أثرت في العرب في هذا الباب، وفي تكوين رأي قاطع في الجهة التي أمدت العرب كثيرًا أو قليلًا بعلمهم في قلمهم العربي الشمالي الذي يكتب به إلى هذا اليوم.
وأعتقد أن من واجب علماء العربية في هذا اليوم، العمل على حصر ألفاظ العلوم والحضارة والثقافة التي ثبت لديهم استعمال الجاهليين لها، وتعيين تأريخ استعمالها وأصولها التي وردت منها إن كانت أعجمية دخيلة, والاستشهاد بالأماكن التي وردت فيها، ففي هذا العمل العلمي, مساعدة كبيرة للباحثين على تشعب علومهم وموضوعاتهم في الوقوف على تطور الفكر العربي قبل الإسلام. ولا أقصد الإحاطة بالمفردات الواردة في الشعر الجاهلي أو القرآن الكريم أو الحديث النبوي أو معجمات اللغة وغيرها من الموارد الإسلامية وحدها، بل لا بد من إضافة المفردات الواردة في الكتابات الجاهلية التي عثر والتي سيعثر عليها إلى تلك المادة؛ لأنها مادة العصر الجاهلي وجرثومة اللغة، وبدونها لا تسعنا الإحاطة بلغة أهل الجاهلية وبتطور فكرهم أبدًا.
ومن يراجع الموارد العربية وعلى رأسها المعجمات، يدرك الصعوبات التي يلاقيها
__________
1 الأغاني "16/ 15".(15/252)
المرء في الحصول على مادة ما، لعدم وجود الفهرسة للألفاظ والمواد في معظم هذه الموارد، فعلى المراجع قراءة صفحات وأجزاء أحيانًا للحصول على شيء زهيد. ولهذا زهد معظم المؤلفين في مراجعة ما هو مطبوع مع أهميته ودسم مادته؛ لأن الصبر قاتل، والإكثار من المراجعة عمل شاق مرهق، والحياة تستلزم السرعة والإنتاج بالجملة. وقد ماتت همم الماضين، وحلت محلها عجلة المستعجلين الذين يريدون الإنتاج السريع الخفيف الجالب للاسم والمال.
وبعض الألفاظ الخاصة بالكتابة والقراءة، هي ألفاظ معربة، وإن وردت عند الجاهليين واستعملت قبل الإسلام بزمن طويل، عرّب بعضها عن اليونانية، وعرّب بعض آخر عن الفارسية أو السريانية أو القبطية، وذلك بحسب الجهة التي ورد منها المعرب ووجد سبيله إلى العربية، ويمكن التعرف عليه بمقابلة اللفظ العربي مع اللفظ المقابل له عند الأمم المذكورة، وبضبط الزمن الذي استعمل فيه والظروف المحيطة به، للتأكد من أصله، فقد يكون عربيًّا أصيلًا انتقل من العرب إلى تلك الأقوام، وقد يكون العكس، نتمكن من الحصول على دراسة علمية قيمة في باب المعربات والتبادل الفكري بين الجاهليين والأعاجم.
والقلم، هو من أدوات الكتابة المذكورة عند الجاهليين. وقد ذكر في القرآن الكريم. أقسم به في سورة "ن والقلم"، وعظم وفخم شأنه في سورة العلق1. يكتب به على الورق والرق والجلود والقراطيس والصحف ومواد الكتابة الأخرى، وكان يتخذ من القصب في الغالب، فتقطع القصبة قطعًا يساعد على مسكه باليد، ثم يبرى أحد رأسيها، ويشق في وسطه شقًّا لطيفًا خفيفًا يسمح بدخول الحبر فيه، فإذا أريدت الكتابة به، غمس في الحبر، ثم كتب به. ويعرف هذا القلم بقلم القصب، تمييزًا له عن الأقلام المستعملة من مواد أخرى.
ولفظة "القلم" من الألفاظ المعربة عن أصل يوناني، فهو "قلاموس" في اليونانية، ومعناها القصب؛ لأن اليونان اتخذوا قلمهم منه2.
__________
1 سورة العلق، الآية 4، سورة القلم، الآية 1، لقمان، الآية 27، المفردات "ص422"، شرح القاموس "9/ 31"، صبح الأعشى "2/ 434 وما بعدها".
2 الأب رفائيل اليسوعي "ص366"، فرائد اللغة "293"
Ency. II, p. 675.(15/253)
وينبت القصب في مواضع من جزيرة العرب حيث تتوافر المياه. وقد أشار "بلينيوس" Pliny، في تأريخه إلى قصب KaIamus عربي، وقصب ينمو في الهند، وذكر أنهم يستعملونه في عمل الأنسجة.
وهناك نوع من القصب قوي متين، يطول فيستعمل في أغراض متعددة، يقال له: "قنا"، ومنه "القنى" و"القناة" التي يستعملها المحاربون، وتعرف بـ"قنة" في العبرانية. وكانوا يستوردونه من "صور"1.
وقد وردت لفظة "القلم" و"قلم" في شعر عدد من الشعراء الجاهليين في شعر لبيد وعديّ بن زيد العبادي والمرقش وأمية بن أبي الصلت وغيرهم ممن وقفوا على الكتابة وكانت لهم صلات بالحضارة وبأصحاب الديانات. وذكر أن الخط يكون بالقلم2.
ويعرف القلم بـ"المِزْبَر" كذلك، من أصل زبر بمعنى كتب. وقد ذكر في الحديث النبوي3. ويعرف بـ"المِرقَمْ" أيضًا4، إذ هو أداة للرقم، أي: الكتابة.
ويقطّ القلم بمقطة5، وتستعمل السكين في بريه أيضًا. ويعتنى بذلك حتى يكون القلم جيدًا سهلًا في الكتابة6. ويقال للسكين: المدية على بعض لهجات العرب7. والقلم قبل أن تبريه: أنبوبة، فإذا بريته، فهو قلم. وما يسقط منه
__________
1 Smith, Dictionary of the BibIe, I, p. 241.
2 قال عدي:
ما تبين العين من آياتها ... غير نؤى مثل خط بالقلم
الأغاني "2/ 119"، سمط اللآلي "876".
وورد في شعر لأمية بن أبي الصلت:
قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم
سيرة ابن هشام "1/ 48"، بلوغ الأرب "3/ 369"، المرزباني، معجم "201"، الأغاني "6/ 127"، النقائض"106"، شرح المعلقات، للتبريزي "128".
3 صبح الأعشى "2/ 434"، المفردات "ص210"، الفائق "1/ 522"، تاج العروس "3/ 231"، "زبر".
4 بلوغ الأرب "3/ 372"، تاج العروس "8/ 316"، "رقم".
5 شرح القاموس "5/ 207".
6 السمعاني، أدب الإملاء والاستملاء "ص161".
7 صبح الأعشى "2/ 455 وما بعدها".(15/254)
عند البري: البُرايةُ. والمِقطُّ: ما يقط عليه. والقط: القطع عرضًا، والقدّ: أن يقطع الشيء طولًا1.
وهناك أنواع أخرى من الأقلام غير قلم القصب، صنعت من الحديد. وقد استعمل العبرانيون وغيرهم أقلامًا من حديد ذات رءوس من الماس، ليكتب بها على صفائح من الحجر أو من المعدن، كما استعملوا القلم الحديد أو القلم الرصاص وأقلامًا من معادن أخرى للكتابة بها على صفائح من الخشب مغطاة بشمع. ولهذا القلم رأسان: رأس محدد للكتابة، ورأس مفلطح لمحو الغلطات وتسوية سطح الشمع ثانية، كما استعملت الفرشاة لرسم الحروف2. واستعمل أيضًا ريش الطيور. وقد عرف القلم المصنوع من الحديد بـ"عيت" ET عند العبرانيين3.
وذكر أن "زيد بن ثابت" دخل على رسول الله وهو يملي في بعض حوائجه، فقال: "ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملي به"4.
وقد استعملوا السكين والآلات الحادة في الكتابة على الخشب أو الحجر، كما استخدموا الفحم وكل ما يترك أثرًا على شيء، مادة للكتابة. وذلك حين يعنّ لهم خاطر أو حين يريدون إبلاغ رسالة أو تقييد أمر هام، مثل وقوع اعتداء على شخص، فيكتب ما وقع له، وهو لا زال متمكنًا من الكتابة، على ما قد يكون عنده، حتى يعلم بمصيره من قد يمر به ميتًا5. وقد حفر "قيسبة بن كلثوم السكوبي" على رحل "أبي الطمحان القيني" رسالة، دونها بسكين6. ودوّن أحدهم، وهو يحتضر، خبر قتله على راحلة قاتله، بعد أن غافله، ذكر فيها اسم قاتله7. وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل، توسل فيها كاتبوها بمختلف الوسائل لإيصال رسائلهم إلى من يريدون وصولها لهم. وقد وصلت بعضها وجاءت بالنتائج التي كان يريدها أصحابها منها.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 370 وما بعدها".
2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 223"، HASTINGS, p. 981.
3 Hastings,p. 981.
4 عيون الأخبار "1/ 42".
5 ابن سعد، الطبقات "3/ 3 ص151"، المفضليات "459 وما بعدها".
6 الأغاني "11/ 131".
7 المفضليات "459 وما بعدها".(15/255)
وأما المادة التي يكتب بها، فهي عديدة، أهمها: الحبر، ويعرف أيضًا بالمداد1. ويصنع من مواد متعددة تترك أثرًا في المادة التي يكتب عليها. من ذلك الزاج وسخام المصابيح، يمزج مع مادة لزجة مثل صمغ العفص أو صمغ آخر، فيكتب به. ولما كان الحبر أسود، قيل له: "ديو" في العبرانية، وقد عرف بهذا المعنى, أي: "سواد" في اليونانية كذلك2 وعرف بـAtramentum في اللاتينية، وهي في المعنى نفسه3.
وقيل للمداد: "نقس"، وقد وردت اللفظة في بيت شعر للشاعر "حميد بن ثور" حيث قيل إنه قال:
لمن الديار بجانب الحبس ... كخط ذي الحاجات بالنقس4
وأشير إلى "المداد" في شعر لـ"عبد الله بن عنمة"، حيث يقول:
فلم يبق إلا دمنة ومنازلٌ ... كما رُدّ في خط الدواة مدادها5
وقد ذكر "المداد" في القرآن: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} 6، "يقول عز ذكره لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- قل يا محمد لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي يكتب به كلمات ربي لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي"7. فالمداد إذن من الألفاظ التي كانت مستعملة قبل الإسلام.
وقد صُنع الحبر من مواد مختلفة، صنعه العبرانيون من سخام المصابيح، أما المصريون فصنعوه من مواد متعددة، فصار أتقن من المداد العبراني، ولذلك حافظ على بريقه ولونه، كما أنه لا يُمحى بسهولة، بينما كان الحبر العبراني
__________
1 شرح القاموس "2/ 498"، "3/ 117"، المفردات "ص104".
2 بلوغ الأرب "3/ 372"، Smith, A Dict, III, p. 1802.
3 Hastings, A Dictionary, II, p. 472.
4 مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، للدكتور ناصر الدين الأسد "ص100".
5 المفضليات "743".
6 الكهف، الآية 109.
7 تفسير الطبري "16/ 31"، صبح الأعشى "2/ 471".(15/256)
قابلًا للغسل بل سهولة1. ولا نجد بين العلماء اتفاقًا في أصل معنى "الحبر"، مما يدل على أن اللفظة2 من المعربات. أما المداد. فذكر علماء اللغة, أنه ما مددت به السراج من زيت ونحوه, ثم خص بالحبر. والظاهر أنها أخذت من سخام الزيت الذي يحترق في السراج، وأنها تعني "سواد"، على نحو ما نجده في لفظة MeIan اللاتينية، التي تعني السواد، سواد السراج، وخصصت بالحبر3.
وليست لدينا أخبار عن كيفية صنع الحبر عند الجاهليين، ولم يصل إلينا نص جاهلي مدوّن بالحبر نتمكن بتحليل مادته من الوقوف على تكوينه. ولكننا نستطيع أن نقول: إن حبر الجاهليين لم يكن يختلف عن أنواع الحبر المستعملة عند الشعوب الأخرى في ذلك العهد وأبسطها الحبر المصنوع من الفحم المسحوق، مضافًا إليه الماء وقليل من الصمغ في بعض الأحيان. والحبر المصنوع من بعض المواد المستخرجة من زيوت بعض الأشجار وعصاراتها، أو من مسحوق عظام الحيوانات المحروقة أو من بعض الأوراق المؤكسدة بالحديد وببعض المعادن. ويراد بالحبر، الحبر الأسود في الغالب، غير أن القدماء كانوا يستعملون أصباغًا مثل: الأحمر والأخضر، في تدوين الشروح والملاحظات والأمور المهمة التي تلفت النظر، كما استعملت في التصوير وفي رسم بعض الرسوم التوضيحية، كما يظهر ذلك من الأوراق القديمة التي عثر عليها في مصر وفي اليونان وغير ذلك من الأماكن. وقد ورد في كتب الحديث النبوي وموارد إسلامية أخرى، أن الجاهليين كانوا يستعملون الصور والنقوش. ويريدون بالنقش تلوين الشيء بلونين أو عدة ألوان. ويقولون له: النمنمة كذلك4. وكان منهم مصورون يصورون الإنسان والحيوان والأشجار وغير ذلك. وقد نهى الرسول عن تصوير كل ما هو ذو روح5. وهذا التحريم هو دليل شيوع التصوير واستعمال الصور عند الجاهليين.
ويحفظ الحبر في أداة، يقال لها "الدواة" و"المحبرة"6، يحملها الكاتب
__________
1 Hastings, p. 383.
2 تاج العروس "2/ 498"، "مدد".
3 Hastings, p. 383.
4 شرح القاموس "4/ 358 وما بعدها".
5 تاج العروس "10/ 133"، تفسير ابن عباس "451".
6 تاج العروس "3/ 117".(15/257)
معه، فيعلقها بحزامه، أو يضعها تحت ثيابه، ويكون لها غطاء يمنع الحبر أن ينساب منها، ويكون بها تجويف تخزن فيه الأقلام والمقطة. وقد تكون المحبرة كأسًا صغيرة ذات غطاء يخزن الحبر فيها. وقد عرفت لذلك بـ"كست هسفر" "كاست هاسيفر", أي: "كأس الكتاب" في العبرانية1. وقد بقي الكتّاب وطلاب العلم والعلماء يستعملون تلك المحابر القديمة إلى عهد قريب، إذ حلت محلها الأقلام الحديثة المحملة بالحبر، وما زال بعض رجال الدين ومن يعنون بجمال الخط وتحسينه يستعملون أقلام القصب والحبر القديم على الطريقة القديمة المذكورة.
وقد عرفت المحبرة الكبيرة التي يحفظ فيها الحبر والأقلام والمقطة ومواد الكتابة الأخرى بـ"قلمارين" "قلماريون" "ق ل م ر ي ن" في "المشنا", أي: المقلمة في العربية, تمييزًا لها عن أداة أخرى عرفت بـ"ترنتوق", وهي مقلمة توضع فيها الأقلام والمبراة. وهناك لفظة أخرى، هي "لبلرين" وتقابل LibeIari في اللاتينية يطلقها المتأدبون على المقلمة2.
وقد أشير إلى الدوي، أي: المحابر في بيت شعر ينسب لأبي ذؤيب:
عرفت الديار كخط الدويـ ... ي حبّره الكاتبُ الحميري3
وذكر أن من أسماء المحبرة "ن" وأن "ن والقلم" بمعنى الدواة والقلم4.
وقد كان من عادة الكتّاب ترميل الكتابة لتجف، وكانوا يضعون الرمل في إناء خاص ثم يذرون منه شيئًا على الكتابة.
وأما المواد التي يكتب عليها، فعديدة، تتوقف على ظروف المكان ومقدرة أهله المالية، منها الحجر والخشب ومختلف أنواع المعادن والطين وورق الشجر والجلود والقراطيس وأكتاف الإبل واللخاف والعسب والقضم وغير ذلك5. وإلى الحجر المكتوب، يعود الفضل الأكبر في حصولنا على معارفنا عن عرب اليمن
__________
1 Smith, A Diction., I, p. 1802.
2 Smith, A Dictio., III, p. 1789.
3 اللسان "14/ 279".
4 اللسان "13/ 427"، تنوير المقياس من تفسير ابن عباس، للفيروزآبادي "451".
5 الفهرست "ص31 وما بعدها"، صبح الأعشى "2/ 475"، الفائق "2/ 150".(15/258)
قبل الإسلام، وعرب بلاد الشأم وأعالي الحجاز. فلولاه لكان علمنا بهم نزرًا يسيرًا.
والعسب، جريد النخل، وهي السعفة مما لا ينبت عليه الخوص. ولوفرته في الحجاز استعمله كتاب الوحي وحفظة القرآن في تدوين الوحي عليه. وقد رجع إليه زيد بن ثابت في جملة ما رجع إليه من مواد يوم كُلِّف جمع القرآن الكريم1. وقد ورد "عسيب يماني" في شعر لامرئ القيس، هو قوله:
لم طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبورٍ في عسيب يماني2
وقد ورد عن "زيد بن ثابت"، أن "أبا بكر" لما أمره بجمع القرآن، أخذ يتتبعه من "الرقاع والعسب واللخاف"، واللخاف: حجارة بيض. وورد في حديث "الزهري": "قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن في العسب والقضيم والكرانيف"3.
وذكر "لبيد" العسب في شعره حيث ورد:
متعود لِحنٌ يعيد بكفه ... قلمًا على عسب ذبلن وبان4
والجريد من مادة التدوين عند أهل الحجاز. والجريدة السعفة، بلغة أهل الحجاز، وفي الحديث: كتب القرآن في جرائد، جمع جريدة5.
واستعمل "الكرناف" "الكرانيف" و"الكرب" مادة للكتابة كذلك. وقد ورد أن كتبة القرآن استعملوا الكرانيف مادة لتدوين الوحي6. والكرانيف والكرب، أصول السعف الغلاظ العراض التي تلاصق الجذع، وتكون على هيئة الأكتاف7. قال الطبري قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم "ولم يكن
__________
1 صبح الأعشى "2/ 475"، تاج العروس "1/ 381"، "عسب".
2 ديوان امرئ القيس "120"، تاج العروس "5/ 129".
3 الفائق "2/ 150".
4 الأمالي "1/ 5".
5 اللسان "3/ 118 وما بعدها"، "جرد".
6 تفسير الطبري "1/ 63"، الفائق "2/ 150".
7 تفسير الطبري "1/ 63".(15/259)
القرآن جمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب"1.
واستعمل الجاهليون كتف الحيوان أيضًا، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان للكتابة عليه، وقد كتب عليه كتبة الوحي. وفي الحديث: "ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده". أو "ائتوني باللوح والدواة والكتف"2. ولما كانت العظام مادة مبذولة ميسورة في استطاعة الكاتب الحصول عليها بغير ثمن، وهي صالحة للكتابة بكل سهولة على شكلها الطبيعي أو بعد صقل وتشذيب قليلين، لذلك استعملها الكتّاب بكثرة. فكانت مادة مهمة استعملها كتبة الوحي في تدوين القرآن. وقد ذكر "ابن النديم" أن في جملة العظام التي كتب عليها العرب: أكتاف الإبل3.
وكانوا إذا كتبوا في الأكتاف حفظوا ما كتبوه في جرة أو في صندوق حتى يحفظ، ويكون في الإمكان الرجوع إليه. وقد كانت الأكتاف في جملة المواد المكتوبة التي استنسخ "زيد بن ثابت" منها ما دوّن من القرآن.
واستعملوا الجلود مادة من مواد الكتابة: الجلد المدبوغ والجلد الغير المدبوغ. وقد كانوا يدبغون الجلد أحيانًا ويصقلونه ويرققونه حتى يكون صالحًا مناسبًا للكتابة. وقد يدبغونه ويصبغونه، وقد ذكر علماء اللغة أنواعًا من أنواع الجلود التي استعملوها في كتابتهم، منها:
القضم، جمع قضيم، الجلد الأبيض يكتب فيه. وقيل: الصحيفة البيضاء، أو أي أديم كان. وقد أشير إليه في شعر للنابغة:
كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع4
وأشير إلى "القضيم" و"القضيمة" في شعر "زهير بن أبي سلمى"5، وفي شعر "امرئ القيس"6.
__________
1 تفسير الطبري "1/ 63".
2 تاج العروس "6/ 229"، الطبري "3/ 193" "حوادث السنة الحادية عشرة".
3 الفهرست "ص31".
4 تاج العروس "9/ 29"، "قضم"، الفائق "2/ 150".
5 ديوان زهير "231".
6 ديوانه "ص86".(15/260)
ويظهر من تفسير العلماء للكلمة، أن "القضيم" الصحف البيضاء المستعملة من الجلد. وذلك بأن تقطع وتصقل حتى تكون صالحة للكتابة. وقد ورد أن كتبة الوحي استعملوا القضم في جملة ما استعملوه من مواد الكتابة1.
وأما الأدم، وهي الجلود المدبوغة، فقد كانت مثل القضم من مواد الكتابة الثمينة. وقد استعان بها كتبة الوحي في تدوين القرآن2. كما كانت مادة لتدوين المراسلات والعهود والمواثيق3. وقد أشير إلى "الأديم" في شعر للمرقش الأكبر4. وذكر أن بعضه كان أديمًا أحمر، أي: مدبوغ بمادة حمراء، ومن أنواعه "الأديم الخولاني". والظاهر أنه كان من أوسع مواد الكتابة استعمالًا في أيام الجاهلية وصدر الإسلام، لوجوده عندهم، ولرخص ثمنه بالنسبة إلى الورق المستورد من مصر أو من بلاد الشأم5. وقد جاء في بعض الأخبار أن بعض مكاتبات الرسول كانت في الأدم6.
وكان الدباغون يدبغون الأهب ويصلحونها بصقلها، فإذا دبغ الإهاب صار أديمًا. وقد ذكر أن أهل مكة كانوا يشترون قطع الأديم، ويكتبون عليه عهودهم ومواثيقهم وكتبهم. ولما توفي "سعيد بن العاص" جاء فتى من قريش يذكر حقًّا له في كراع من أديم بعشرين ألف درهم على "سعيد"، بخط مولى لسعيد كان يقوم له على بعض نفقاته، وبشهادة "سعيد" على نفسه بخطه. فأعطي حقه على ما كان مدوّنًا في قطعة الأديم7.
وذكر بعض علماء اللغة أن القرطاس: الكاغد، يتخذ من بردي يكون بمصر. وذكر بعض آخر أن القرطاس الصحيفة من أي شيء كانت، يكتب فيها،
__________
1 الفائق "2/ 150".
2 تفسير الطبري "1/ 59"، السجستاني، كتاب المصاحف "23 وما بعدها".
3 نسب قريش، للزبيري "177 وما بعدها".
4 الدار وحش والرسوم كما
رقش في ظهر الأديم قلم
المرزباني، معجم "201"، الأغاني "6/ 127". وورد: الدارقفر"، عوضًا عن "الدار وحش"، المفضليات "ص111" "بقلم السندوبي" "القاهرة 1926م"، البيان والتبيين "375".
5 تقييد العلم "252/ 72"، مسند أحمد "4/ 141"، الطبقات "7/ 54"، نسب قريش "177 وما بعدها"، المصاحف "23 وما بعدها".
6 صبح الأعشى "2/ 475".
7 نسب قريش "177 وما بعدها".(15/261)
والجمع قراطيس1. وقد وردت لفظة "قرطاس" و"قراطيس" في القرآن الكريم2. وورود اللفظة في القرآن الكريم دليل على وقوف العرب عليها. وهي من الألفاظ التي دخلت إلى العربية من مصر أو من بلاد الشأم، حيث استورد أهل مكة والعربية الغربية مختلف التجارة منها، ومنها القراطيس، ويعرف القرطاس في اليونانية بـKhartis.3
ويظهر أن أهل بلاد الشأم كانوا قد استعملوا اللفظة اليونانية، فلما نقل الجاهليون القرطاس منهم وتعلموه عنهم، استعملوا المصطلح اليوناني بشيء من التحريف والتحوير ليناسب النطق العربي، وقد نص بعض علماء اللغة على أن اللفظة من الألفاظ المعربة4.
وتقابل لفظة "قرطاس" لفظة Papyri في اللغة الإنكليزية. وقد كان القدماء في مصر وفي حوض البحر المتوسط يكتبون على القراطيس. وهي على صورة لفّات تلف كالأسطوانة تحفظ في غلاف حذر تلفها وتمزقها. وأسفار اليهود هي على هذه الصورة5. ولا زالت معابدهم تستعمل توراتهم المكتوبة على هيئة "سفر", أي: مكتوبة على هيئة صفحات متصلة بعضها ببعض على شكل أسطوانة. بسحب أحد طرفيها الذي يوصل بأسطوانة أخرى، ثم يقرأ من السفر.
وذكر علماء اللغة أن "الرقاع"، هي القرطاس6.
ووردت لفظة "رق" في القرآن الكريم: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} 7. وقد فسر العلماء الرق بأنه ما يكتب فيه شبه الكاغد، أو جلد رقيق
__________
1 المفردات "ص409"، تاج العروس "4/ 215"، صبح الأعشى "2/ 474"، الجواليقي "ص276"، شفاء الغليل "ص159"، ابن خلدون، مقدمة "470 وما بعدها". Ency., II, p. 1036.
2 {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ، الأنعام، الآية 7، {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} ، الأنعام، الآية 9، صبح الأعشى "2/ 485".
3 غرائب اللغة "ص264"، فرائد اللغة "ص277".
4 الجواليقي "276"، الخفاجي، شفاء الغليل "ص159".
5 Hastings, p. 676, 978.
6 تاج العروس "5/ 360".
7 سورة الطور، الآية 2 وما بعدها".(15/262)
يكتب فيه، أو الصحيفة البيضاء1. وقد اشتهرت جملة مواضع في الحجاز وفي اليمن بترقيق الجلد ودباغته، ليصلح للعمل، وفي جملته الرق المستعمل في الكتابة. ويعرف الرق بـ"رقو" Raqo و"رق" Raq في الإرمية. وتؤدي اللفظة في هذه اللغة المعنى نفسه المفهوم منها في عربيتنا، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن اللفظة من أصل إرمي2. ومن أجود أنواع الرق، الرق المعمول من جلد الغزال. وذكر أن الصحابة أجمعوا على كتابة القرآن في الرق، لتيسره عندهم، ولطول بقاء الكتابة فيه3.
وقد كان الكتّاب يستعملون الرق في المراسلات وفي السجلات وفي الكتب الدينية. فقد استعمل الفرس جلود البقر المدبوغة لكتابة كتبهم الدينية عليها، واستعمل العبرانيون جلود الغنم والمعز والغزال لكتابة التوراة والتلمود عليها. وقد اشترطوا في الجلود أن تكون من جلود الحيوانات الطاهرة. استعملوها صحائف منفصلة، واستعملوها صفائح على هيئة الكتب، كما استعملوها مدورة ملفوفة قطعة واحدة يتصل كل رأس منها بقضيب، فتكون لفتين متصلتين، وذلك بربط قطع الجلود بعضها ببعض وتثبيتها لتكون صحيفة واحدة طويلة مستطيلة، يقال لها: "مجلوت" "م ج ل وت"، أي: المجلة، من أصل "جلل" بمعنى لف وأدار4.
وفي الشعر الجاهلي إشارات إلى استعمالهم "الرق" في كتاباتهم. وقد أشار بعضهم إلى سطور الرق، وكيف رقشها كاتبها ونمق الكتابة مسطرها. وكيف خط مملي الكتاب ما أريد إملاؤه في الرق. وقد عبر عن الخطاط الذي خط السطور على الرق بالمرقش وبالكاتب5. ومن أنواع الرق الجيد، الرق المصنوع بـ"خولان" والذي عرف بـ"الأديم الخولاني"6.
__________
1 المفردات "ص200"، شرح القاموس "6/ 358"، صبح الأعشى "2/ 474" بلوغ الأرب "3/ 378".
2 برصوم "ص73"، غرائب اللغة "ص183".
3 صبح الأعشى "2/ 475".
4 Smith, A Dictio., III, p. 1802.
5 ديوان الهذليين "3/ 70"، الآمدي، المؤتلف والمختلف "27"، ديوان طرفة "68"، ديوان حاتم الطائي "23".
6 تقييد العلم "72".(15/263)
ونجد الشاعر المخضرم "معقل بن خويلد" الهذلي، يشير إلى "مملي كتاب" يملي على كاتب، يخط على رق، وذلك بقوله:
فإني كما قال مملي الكتا ... ب في الرق إذ خطه الكاتب
يرى الشاهد الحاضر المطمئن ... من الأمر ما لا يرى الغائب1
ومعقل من سادات قومه، ومن شعرائهم المعروفين، وكان أبوه رفيق "عبد المطلب" إلى "أبرهة"2.
وأما "القتب"، فالإكاف الصغير الذي على قدر سنام البعير3. ويصنع من الخشب. وقد كتب الناس على "القتب". وقد استخدم "الرحل" مادة للكتابة عليها، عند الحاجة والضرورة4.
وقد استعملت الألواح مادة للكتابة، ومن هذه الألواح ما صنع من الحجر، بنشر الحجر وصقله، ومنها ما صنع من الخشب، ومنه من لوح الكتف, أي: العظم الأملس منه. واللوح كل صفيحة عريضة خشبًا أو عظمًا5. وأشير في القرآن الكريم إلى اللوح. فورد: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 6. وورد {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً} 7 وغير ذلك. فيظهر من ذلك أن الألواح كانت تكتب فيحفظ بها ما يراد حفظه من آراء وأفكار.
وقد كان بعض الصحابة والتابعين يستعملون الألواح لتقييد ما يريدون حفظه وتقييده من أقوال الرسول ومن سيرته أو غير ذلك. فذكر أن "ابن عباس" كان يأتي "أبا رافع" ويسأله: ما صنع رسول الله يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها. وأن مجاهدًا كان يسأل "ابن عباس" عن تفسير القرآن
__________
1 ديوان الهذليين "3/ 70".
2 الإصابة "3/ 425"، "رقم 8137".
3 تاج العروس "1/ 430 وما بعدها"، "قتب"، السجستاني، المصاحف "20".
4 ابن سعد، الطبقات "3/ 2 ص151"، تقييد العلم "102".
5 المفردات "ص472"، تاج العروس "2/ 218"، صبح الأعشى "2/ 472 وما بعدها"، شمس العلوم "1/ 34".
6 البروج، الآية 21 وما بعدها.
7 الأعراف، الآية 145.(15/264)
ومعه ألواحه، يكتب فيها ما يمليه عليه1. وعرف اللوح بـ"السبورجه"، وهي لفظة فارسية الأصل2.
وقد ورد في حديث زيد بن ثابت عن جمع القرآن أنه جمعه من الرقاع واللِّخاف والعُسُب. وقصد باللخاف حجارة بيضًا رقاقًا، واحدها لخفة3.
كان يكتب عليها أهل مكة.
والحجارة هي المورد الرئيسي الذي استخرجنا منه علمنا بتأريخ العرب الجنوبيين وبتأريخ أعالي الحجاز وأماكن أخرى من جزيرة العرب, ويضاف إلى ذلك الصخور الصغيرة والحصى الكبيرة، فقد نقش عليها الجاهليون أوامرهم وأحكامهم وخواطرهم ورسائلهم وذكرى نزولهم في مكان، فالفضل يعود إلى هذه الكتابات في حصولنا على أخبار الجاهليين المذكورين.
وقد كتبوا على الخزف، وبقي الناس يكتبون على الحجارة والخزف إلى الإسلام. فقد كان "أبو الطيب" اللغوي، وهو "عبد الواحد بن علي"، يعلق عن "أبي العباس" ثعلب على خزف، ثم يجلس فيحفظ ما دوّنه عليه4.
ويقال لما يكتب في الحجارة وينقش عليها "الوحي". والوحي الكتابة والخط. وبهذا المعنى ورد في شعر شعراء جاهليين وإسلاميين، مثل شعر "لبيد"، حيث قال:
فمدافع الريّان عُرّي رسمها ... خلقًا كما ضمن الوحي سلامها5
وشعر "زهير" حيث يقول:
لمن الديار غشيتها بالفدفد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد6
__________
1 "تفسير الطبري "1/ 31"، البغدادي، الخطيب، تقييد العلم، "تحقيق يوسف العش"، "دمشق 1949" "ص91 وما بعدها".
2 تقييد العلم "72".
3 تاج العروس "6/ 244"، الفهرست "31".
4 رسالة الغفران "63".
5 اللسان "15/ 379" "صادر"، البرقوقي "ص14".
6 ديوان زهير "126، 150".(15/265)
وأما الورق، فأريد به جلود رقاق يكتب فيها، ومنها ورق المصحف1.ويظهر أنهم أطلقوا اللفظة على القطع الرقيقة من الجلود أو من المواد الأخرى التي كانوا يكتبون عليها، تشبيهًا بورق الشجر. ولذلك فإنها لا تعني نوعًا معينًا من الورق. كما يجوز أن يكون المراد من الورق المستورد من بلاد الشأم أو من مصر، أو المصنوع من صقل الكتان ونسيج القطن وغير ذلك.
ولقلة وجود القصب الصالح لصنع الورق في جزيرة العرب، لا نستطيع أن نذهب إلى وجود صناعة ورق من هذه المادة في هذه البلاد، بل كانوا يستوردونه من مصر مصدر الورق المصنوع من القصب، والمعروف بـ"البابيروس".
والصحيفة المبسوط من الشيء، والتي يكتب فيها، والكتاب، وجمعها صحائف وصحف، ومنها {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} 2، و {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} 3. وقد أشير إلى الصحيفة في كتب السيرة حين اتفقت قريش على مقاطعة بني هاشم، وكتبت بذلك صحيفة، كتبها "بغيض بن عامر بن هاشم"، أو "منصور بن عبد شرحبيل" المعروف بأبي الروم على بعض الروايات4. والمصحف ما جعل جامعًا للصحف المكتوبة بين الدفتين. والتصحيف قراءة المصحف وروايته على غير ما هو لاشتباه حروفه5.
وقد قيل للقرآن، المصحف، وإنما سُمي المصحف مصحفًا؛ لأنه أصحف, أي: جُعل جامعًا للصحف المكتوبة بين الدفتين6. ونقرأ في الأخبار أن بعضًا من الصحابة والتابعين كانوا يملكون صحيفة أو صحفًا دوّنوا فيها حديث الرسول أو أمرًا من أمور الشعر وأخبار العرب وأمثال ذلك. فكان "عبد الله بن عمرو بن العاص" قد كتب حديث الرسول في صحيفة؛ وقد أذن الرسول له أن يكتب حديثه فيها7.
__________
1 تاج العروس "7/ 86"، المغرب "2/ 246"، صبح الأعشى "2/ 476".
2 سورة الأعلى، الآية 18 وما بعدها.
3 سورة البينة، الآية 2 وما بعدها.
4 نسب قريش "ص254 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 375 وما بعدها".
5 المفردات "ص276"، المغرب "ص298"، تاج العروس "6/ 161"، صبح الأعشى "2/ 474 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 371".
6 اللسان "9/ 186" وما بعدها.
7 تذكرة الحفاظ "1/ 5".(15/266)
وقد أشير إلى الصحيفة في شعر "المتلمس"1، ويظهر من الشعر الذي ذكرت اللفظة فيه، أنه قصد بها رسالة، أي: كتابًا أمر ملك الحيرة "عمرو بن هند" بتدوينه، وأعطاه إليه، ليحمله إلى عامله على البحرين على نحو ما ورد في خبره. كما أشير إلى الصحيفة في شعر شعراء آخرين2.
ويقال للصحيفة: طرس، ويجمع على طروس3. ويقال إن الطرس: الصحيفة المكتوبة4، وقيل: الكتاب الممحو الذي يستطاع أن تعاد فيه الكتابة. والتطريس: فِعْلك به. وطرّس الباب سوّده، والطلس: كتاب لم ينعم محوه، فيصير طرسًا. والتطريس إعادة الكتابة على المكتوب الممحو5.
ورأى بعض العلماء أن الصحف ما كان من جلود6. وذهب بعض آخر، إلى أنها من جلد أو قرطاس. وأن القرطاس والصحيفة، هما في معنى واحد، وهو الكاغد7.
وذكرت "الصحيفة" في شعر للقيط بن يعمر الإيادي، هو قوله:
سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد
وذلك في قصيدته التي كتبها إليهم، يخبرهم فيها بمسير "كسرى" عليهم، ويحذرهم من قدومه8.
__________
1
أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حياته المتلمس
ألق الصحيفة، لا أبا لك إنه ... يخشى عليك من الحبا النقرس
ورهنتني هندًا، وعرضك في ... صحف تلوح كأنها خلل
الشعر والشعراء، لابن قتيبة "ص132"، الأغاني "21/ 135".
2 الشعر والشعراء "1/ 152"، ديوان قيس بن الخطيم "19"، ديوان الهذليين "1/ 64"، المرزباني، معجم "304"، الأصمعيات "63".
3 صبح الأعشى "2/ 476".
4 فرائد اللغة "ص277"، ورد في شعر للبيد:
فأجازني منه بطرس ناطق ... وبكل أطلس جوبه في المنكب
شرح ديوان لبيد "ص155".
5 بلوغ الأرب "3/ 371"، الاقتضاب "93"، الفائق "2/ 81"، اللسان "6/ 121"، تاج العروس "4/ 177"، "طرس".
6 بلوغ الأرب "3/ 371" مبادئ اللغة "ص90"، "مطبعة السعادة 1325هـ".
7 صبح الأعشى "2/ 474".
8 الشعر والشعراء "1/ 129"، الأغاني "20/ 23".(15/267)
كما ذكرت في شعر لعدي بن زيد العبادي، وصف فيه قصة "الزّباء" و"جذيمة" و"قصير"، حيث يقول:
ودست في صحيفتها إليه ... ليملك بُضعها ولأن تدينا1
وكان من عادة أهل الجاهلية تدوين أحلافهم في صحف، توكيدًا للعهد، وتثبيتًا له. وقد أشير إلى ذلك في الشعر وفي الأخبار. ورد في شعر قيس بن الخطيم:
لما بدت غُدوة جباههم ... حنت إلينا الأرحام والصحف2
وأشير إليها في شعر ينسب لدرهم بن زيد الأوسي، يخاطب الخزرج بما كان بينهم من عهود ومواثيق، إذ يقول:
وإن ما بيننا وبينكم ... حين يقال الأرحام والصحف3
ولما قاطعت قريش "بني هاشم وبني المطلب"، كتبت بذلك كتابًا عرف بـ"صحيفة قريش"، وختموا عليها ثلاثة خواتيم، وعلّقوها في سقف الكعبة، وقيل: بل كانت عند أم الجلّاس مخربة الحنظلية، خالة أبي جهل، وقيل: عند هشام بن عبد العزى4.
وترد الصحف بمعنى الوثائق، وكل تسجيل يراد الاحتفاظ به للرجوع إليه عند الحاجة، فالديون تسجل في صحف وكتب، والأمور الهامة تسجل فيها كذلك، هذا "علباء بن أرقم بن عوف" الشاعر اليشكري، يذكر دَيْنًا دوّن في صحيفة، فيقول:
أخذت لدين مطمئن صحيفة ... وخالفت فيها كل من جار أو ظلم5
__________
1 الشعر والشعراء "1/ 152"، الأغاني "2/ 101".
2 ديوان قيس "19".
3 مصادر الشعر الجاهلي "66".
4 إمتاع الأسماع "1/ 25".
5 الأصمعيات "63"، الخزانة "2/ 304"، "4/ 365، 384"، المرزباني، معجم "169"، "فراج".(15/268)
وقد ورد ذكر صحف الدين هذه في كتاب الرسول إلى ثقيف، إذ جاء فيه: "وما كان لثقيف من دين في صحفهم اليوم الذي أسلموا عليه في الناس فإنه لهم"1.
وذكر أن الناس كانوا يكتبون بالمهارق قبل القراطيس في العراق. وقد ذكر "المهرق" في شعر حسان:
كم للمنازل من شهر وأحوال ... كما تقادم عهد المهرق البالي2
وكانوا يغسلون الصحف المكتوبة للاستفادة منها، بكتابة شيء جديد يراد كتابته عليها، وذلك لغلاء مادة الكتابة وصعوبة الحصول عليها، فيطمسون معالم الكتابة السابقة بغسلها بالماء مثلًا، فإذا جفت كتبوا عليها. وقد تسبب هذا الغسل إلى وقوع خسارة كبيرة بالنسبة لتدوين العلم، إذ غسل هذا الماء مادة علمية ثمينة كانت ستفيدنا كثيرًا بالطبع لو بقيت مدونة على الصحف. فخسرنا نحن خسارة ثمينة ولا شك لا تعوض.
واستعمل الجاهليون السبورة في الكتابة. ويريدون بها جريدة من الألواح من ساج أو غيره، يكتب عليها. فإذا استغنوا عنها محوها، وهي معربة. وقد رواها جماعة من أهل الحديث "ستورة". وبهذا المعنى وردت السفورة، وهي معربة كذلك3.
والمهارق من الألفاظ المعربة، ويرى علماء اللغة أنها من الفارسية، وأن أصلها "مهركُرده" "مهركرد"، أي: صُقلت بالخرز، وقد عرفها بعض علماء اللغة بأنها ثياب بيض أو حرير أبيض، تسقى بالصمغ وتصقل، ثم يكتب عليها. وقيل: هي الصحائف، الواحد مهرق. وذكر الجاحظ أن الكتب لا يقال لها: مهارق، حتى تكون كتب دين، أو كتب عهود، أو ميثاق وأمان4.
__________
1 الدكتور محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية "160".
2 تاج العروس "7/ 95"، "هرق".
3 شرح القاموس "3/ 253، 270".
4 قال الحارث بن حلزة اليشكري:
لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس
المعرب "ص303 وما بعدها، الحيوان "1/ 70" "تحقيق عبد السلام هارون"، صبح الأعشى "2/ 476"، المفضليات "ص53" "طبعة السندوبي"، غرائب اللغة "ص246"، شرح ديوان الحماسة "4/ 130", شرح القصائد العشر "268" "الطبعة المنيرية"، المخصص "4/ 340"، "آياتها كمهارق الحبش"، تاج العروس "7/ 95 وما بعدها"، "هرق"، الحيوان "1/ 70"، اللسان "10/ 368"، "هرق".(15/269)
ويظهر من الشعر المنسوب للحارث بن حلزة اليشكري، أن أصل المهارق من الفرس ولهذا عبر عنها بقوله: "كمهارق الفرس". ولعله قصد كتبًا وصحفًا دينية من ديانتهم المجوسية. وقد وردت اللفظة في شعر ينسب للأعشى1 وفي شعر آخر ينسب للحارث بن حلزة اليشكري المذكور2.
قال "الجاحظ": "والمهارق، ليس يراد بها الصحف والكتب، ولا يقال للكتب مهارق حتى تكون كتب دين، أو كتب عهود، وميثاق وأمان" وقال قبل ذلك: "لولا الخطوطُ لبطلت العهود والشروط والسجلات والصُّكاك، وكل إقطاع، وكل إنفاق، وكل أمان، وكل عهد وعقد، وكل حوار وحلف، ولتعظيم ذلك، والثقة به والاستناد إليه، كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة، تعظيمًا للأمر وتبعيدًا من النسيان، ولذلك قال الحارث بن حلزة، في شأن بكر وتغلب:
واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدّم فيه، العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء3
وقد أشار "الحارث بن حلزة" اليشكري إلى "مهارق الفرس"، وذلك في قوله:
لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس4
ونوع آخر من "المهارق" عمل من الكرابيس، أي: من الثياب المصنوعة من الكرباس وهو القطن الأبيض، وذلك بسقي الكرباس، بصمغ أو بإطلائه بشيء آخر يسد المسامات، ثم يصقله بالخرز5. فهو إذن من النوع الجيد الغالي بالنسبة
__________
1
ربي كريم لا يكدر نعمة ... وإذا يناشد بالمهارق أنشدا
ديوان الأعشى "229" "القاهرة 1950هـ"، أدب الكتاب "106"، "وإذا تنوشد"، اللسان "10/ 368"، "هرق".
2 حذر الجور والتعدي
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء؟
شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص167"، المفضليات "25"، شرح المعلقات, للتبريزي "268 وما بعدها".
3 الحيوان "1/ 69 وما بعدها".
4 المفضليات "132".
5 شرح المعلقات "200 وما بعدها، 268 وما بعدها".(15/270)
إلى مواد الكتابة، ولذلك كانوا يستعملونه في الأمور الكتابية الجليلة.
وقد أشير في شعر "الأسود بن يعفر" إلى سطور يهوديين في مهرقيهما مجيدين في الكتابة، هما من أهل "تيماء" أو من "أهل مدين"1. ولم يشر إلى نوع القلم الذي كتبا به، وأغلب الظن أنه قلم عبراني.
وقد استعمل الجاهليون "الصكوك" في تعاملهم. وذكر علماء اللغة أن "الصك" الذي يكتب للعُهدة، وكانت الأرزاق تُسمى صكاكًا؛ لأنها كانت تخرج مكتوبة. ومنه الحديث في النهي عن شراء الصكاك، وذلك أن الأمراء كانوا يكتبون للناس بأرزاقهم وأعطياتهم كتبًا، فيبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها معجلًا، ويعطون المشتري الصك ليمضي ويقبضه، فنهوا عن ذلك لأنه بيع ما لم يقبض. وذكروا أن اللفظة من الألفاظ المعربة، أصلها فارسي2. واستعملت الصكوك في الدين. فورد "صك دين"3.
وقد أمدتنا جزيرة العرب بحجارة كثيرة مكتوبة، ولكنها لم تمدنا باللبن المكتوب أو الطين المكتوب المشوي بالنار إلى في النادر. مع أن الكتابة على الطين أسهل من الكتابة على الحجر. ولعل وجود الحجر بكثرة في العربية الغربية والجنوبية ومقاومة الحجر للبلى والتلف هما اللذان دفعا أهل هذه البلاد على تفضيل الحجر في الكتابة على الطين. ولا يستبعد عثور الآثاريين والمنقبين في المستقبل على كتابات جاهلية مسجلة على الطين ولا سيما في المناطق الماحلة أو التي يقل فيها وجود الحجر، هي الآن مطمورة في باطن الأرض.
وأعطوا للصحف أسماء إذا كانت قد كتبت في أغراض خاصة. فإذا كانت الصحيفة إعطاء أرض لشخص، كإقطاعه أرضًا، يعطي الشخص صحيفة مدونة بذلك، تثبت له تسجيل الأرض المقطعة باسمه, يقال لها: "الوصر" و"الأصر". وقد ذكر علماء اللغة أن الأصر: العهد والعقد. وقيل: العهد الثقيل4. وأن
__________
1
سطور يهوديين في مهرقيهما ... مجيدين من تيماء أو أهل مدين
مصادر الشعر الجاهلي "82".
2 اللسان "10/ 457"، "صكك"، مفاتيح العلوم "ص38".
3 مجالس ثعلب "27".
4 تاج العروس "3/ 14"، "أصر".(15/271)
"الوصر" الصك الذي تكتب فيه السجلات. والأصل أصر، سمي به لأن الأصر العهد, ويُسمى كتاب الشروط كتاب العهد والوثائق، ويطلق غالبًا على كتاب الشراء. قال عدي بن زيد:
فأيكم لم ينله عرف نائله ... دثرًا سوامًا وفي الأرياف أوصارًا1
أما إذا كانت الصحيفة صحيفة جوائز، كان يعطي الملك جوائز لأصحابه وأتباعه، قيل للصحف التي يدون قدر الجائزة أو نوعها عليها القطوط والمفرد: القط. وقد ذكرها الأعشى في شعره:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بإمته يعطي القطوط ويأفق2
وورد ذكرها في شعر المتلمس، إذ قال:
وألقيتها بالثنى من جنب كافر ... كذلك ألقى كل قط مضلل3
وقد عرفت "القذ" أنها الصك بالجائزة، وهي الصحيفة للإنسان بصلة يوصل بها. وقيل القط: الصحيفة المكتوبة وكتاب المحاسبة. قيل: سميت قطوط؛ لأنها كانت تخرج مكتوبة في رقاع وصكاك مقطوعة4.
وقد كانت الحاجة تدفع الكتّاب إلى تدوين ما يريدون تقييده وكتابته على ملابسهم وعلى راحة أيديهم، بل على نعالهم أحيانًا. روي عن "سعيد بن جبير" أنه قال: "كان ابن عباس يملي علي في الصحيفة حتى أملأها وأكتب في نعلي حتى أملأها"5. وقد كانوا يكتبون على الهودج أو على أي شيء يجدونه أمامهم، مثل الرحل، لندرة الورق عندهم ولحاجتهم إلى تسجيل ما يسمعونه، أو إبلاغ قومهم بسر أو برسالة، فيغافل المرسل من يعرف أنه قاصد الجهة التي يريدها
__________
1 تاج العروس "3/ 602"، "الوصر".
2 تاج العروس "5/ 209"، "قطط".
3 البطليوسي، الاقتضاب "93"، مصادر الشعر "70 وما بعدها".
4 تاج العروس "5/ 209"، "قطط".
5 تقييد العلم "102".(15/272)
فيحفي بسكينه على الراحلة ما يريد تبليغه من سر1. وورد عن "سعيد بن جبير" قوله: "كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كفي". وروي أنهم كانوا يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء، وأن "الزهري" ربما كتب الحديث في ظهر نعله مخافة أن يفوته2.
ولفظة: "كتب" التي نستعملها اليوم، ومن أصلها اشتقت لفظة "كتابة" و"كتاب" وكاتب وأمثالها، هي من الألفاظ العربية الشمالية المعروفة المتداولة عند الجاهليين. وقد وردت لفظة "كتاب" بمعانٍ متعددة. منها هذا المعنى المعروف، ومنها الصحيفة مع المكتوب فيها. وقد قصد بها التوراة في مواضع من القرآن الكريم. وأريد بـ"أهل الكتاب" اليهود والنصارى، أهل التوراة والإنجيل3.
وقد استعملت اللحيانية لفظة "كتب" أيضًا، فوردت في عدد الكتابات. وعبرت عن "الكتابة" و"الخط" بلفظة "هكتب"4. والهاء أداة للتعريف عندهم، ويجوز أنهم كانوا ينطقون بها على هذه الصورة: "هكتاب"، أو "هاكتاب"، أي: "الكتاب" و"الكتابة".
ومتى فكر الإنسان في الكتابة تذكر "القراءة". فالكتابة التدوين، والقراءة قراءة الشيء المدوّن. ولهذا يقال: القراءة والكتابة، كما يقال: قارئ كاتب، أي يحسن ويجيد الحالتين. فقد كان البعض يقرءون ولا يكتبون. روي أن "عائشة" كانت تقرأ المصحف، ولا تكتب، وأن "أم سلمة" كانت مثلها تقرأ ولا تكتب5.
ونجد لفظة "كتاب" في شعر عدد من الشعراء الجاهليين. وقد استعمل "عدي بن زيد العبادي" "كتاب الله" في شعره6، ولما كان هذا الشاعر نصرانيًّا،
__________
1 المفضليات "459 وما بعدها"، الطبقات "3/ 2ص151"، تقييد العلم "102"، المصاحف "20".
2 تقييد العلم 102، 105، 107.
3 المفردات "ص434 وما بعدها".
4 راجع النصين 48 و49 من كتاب: Lihyanisch, S. 99.
5 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".
6
وناشدتنا بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتفع
شعراء النصرانية "ص472".(15/273)
يكون قصد بـ"كتاب الله" الإنجيل ولعله قصد التوراة والإنجيل معًا. وجاءت جملة: "آيات الله" في شعر "تميم بن أُبي بن مقبل العامري"1. أما زهير، فقد استعمل لفظة "كتاب" أيضًا في معنى الشيء الذي يكتب ويدوّن عليه ليحفظ لوقت الحساب2.
وتؤدي لفظة "كتاب" معنى رسالة. فقد كانوا يطلقون على الرسالة لفظة "كتاب"، والجمع "كتب". ومن ذلك ما ورد في خبر "كتب رسول الله إلى الملوك"3 و"خبر كتاب مسيلمة إلى رسول الله والجواب عنه"4.
ولفظة "دفتر"، في معنى جماعة الصحف المضمومة، وهي الكراريس5. وفي قول عمرة: "ولو انطبق عليكم الدفتر"، يعني ولو أن تكتبوا آخر الناس6. ولا أظن أن اللفظة قد دخلت العربية في أيام عمر، بل لا بد وأن تكون من الألفاظ المستعملة في الجاهلية. وذكر أن الدفتر جريدة الحساب والكراسة7.
والكراسة الجزء من الصحيفة والكتاب. يقال: "هذا الكتاب عدة كراريس"، و"كرّاس أسفار"8. وترد اللفظة في لغة بني إرم، بمعنى "كتيب" وجزء من كتاب يحتوي في الغالب ثماني ورقات9.
وكانوا يسجلون عقودهم وأخبارهم في كتب، أي: صحف، من ذلك ما ورد في قصة النعمان مع "الحارث بن ظالم"، فقد ورد أنه كتب إليه كتابًا وكان يومئذ بمكة يؤمنه إن عاد إليه، فلما جاء إلى "النعمان"، وقال له: أنعم صباحًا أبيت اللعن، انتهره الملك بقوله: لا أنعم الله صباحك. فقال الحارث: هذا كتابك! قال النعمان: كتابي والله ما أنكره أنا كتبته10. وكان "عبد الرحمن بن عوف"، قد كاتب "أمية بن خلف" في أن يحفظه في صاغيته بمكة.
__________
1 جمهرة أشعار العرب "318".
2
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
ديوان زهير "18".
3 تأريخ الطبري "2/ 644 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 146 وما بعدها".
5 اللسان "4/ 281"، "دفتر".
6 تاج العروس "3/ 209"، "دفتر".
7 تاج العروس "3/ 209"، "دفتر".
8 تاج العروس "4/ 232"، "كرس".
9 غرائب اللغة "203".
10 الأغاني "11/ 120".(15/274)
وأن يحفظه في صاغيته بالمدينة، وكتبا هذه المكاتبة في كتاب1.
وترد لفظة "كتاب" بمعنى إعلان وإحقاق حق، كالذي ورد في خبر "رؤيا" "عاتكة بنت عبد المطلب"، عن مصير معركة "بدر"، وقول قريش للعباس: "يا بني عبد المطلب! أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا من ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب"2.
ويعبر عن الكتابة بالخط، وتعني لفظة خطَّ، كتب. في القرآن الكريم: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} 3. وقد عبر عنها بالقلم كذلك، فقيل: القلم العربي، والقلم الحميري. ويراد بالقلم الحميري المسند، ويقولون له: الخط المسند كذلك. وقد بقي ناس من أهل اليمن يكتبون به في الإسلام4. وقد وردت لفظة "هخطط"، أي: الخط والرسم، في النصوص الصفوية5. وهذا يدل على أن هذه اللفظة هي من الألفاظ التي كان يستعملها العرب الشماليون. والهاء في "هخطط" أداة التعريف "ال" في عربيتنا.
وتعبر كلمة "سطر" عن معنى خط وكتب. و"السطر" الخط والكتابة. ووردت لفظة "يسطرون" في القرآن الكريم في سورة "ن" بمعنى يكتبون6. ووردت لفظة "سطر" في نص "أبرهة" بهذا المعنى أيضًا. كما نجدها في نصوص عربية جنوبية أخرى، مما يدل على ورودها في اللهجات العربية الجنوبية كذلك. وتقابلها لفظة "سرتو" Serto" و"سورتو" Sourto من الفعل "سرت" Srat في الإرمية. ومن هنا ذهب بعض الباحثين في الإرمية إلى أن "سطر" العربية هي
__________
1 الزمخشري، الفائق "2/ 26".
2 ابن هشام "2/ 62"، "حاشية على الروض".
3 سورة العنكبوت، الآية 48، المفردات "ص150".
4 تاج العروس "2/ 382"، "سند".
5 CIH, Pars Quinta, I, p. 27, NU: 141, Dunand, 1249a, p. 385, NU: 3943, J. Ryckmans' Inscriptions Safaitiques, Louvain, 1951, p. 3, Littmann, Safa, p. 80, 82.
6 سورة القلم، الرقم 68، الآية 1 وما بعدها.(15/275)
"كلمة سريانية الأصل"1. وهو رأي يمثل وجهة نظر طائفة من الباحثين ترجع أصول أكثر المصطلحات الحضارية والثقافية الواردة في العربية إلى أصل سرياني. وفيه تسرع وبعد عن العلم.
والسطر، الصف من الشيء. والتسطير، كتابة بسطور، أي: الخط والكتابة2. وقد كان معظم الجاهليين يجعلون كتابتهم سطورًا سطرًا فوق سطر، ليكون من الممكن تتبع الكتابة إلا بعض الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية التي اتخذت أشكالًا مختلفة، تارة على هيئة هلال، وتارة أخرى على شكل دائرة، وحينًا على شكل غير منسق ولا منظم، إذ كان أصحابها رعاة في الغالب متنقلين، فلم تكن كتابتهم متقنة، كما أنهم لم يكونوا يملكون ورقًا وقرطاسًا، فكتبوا على أية حجارة وجدوها، فاختلف شكل الخط لذلك.
والتسطير التخطيط. أي: تدوين السطور وتخطيطها على شكل خطوط. ومن المجاز خططت عليه ذنوبه، أي: سطرت3. ووردت لفظة "اسطرن "الأسطر" بمعنى الوثيقة والسطور في كتابات المسند4.
ونجد في شعر للشاعر "الشماخ"، وصفًا للخط، كتبه حبر بتيماء من أسطر، عرض فيها وأثبج. إذ يقول:
أتعرف رسمًا دارسًا قد تغيرا ... بذروة أقوى بعد ليلى وأقفرا
كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حبر ثم عرض أسطرا
"والتعريض أن يثبج الكاتب ولا يبين الحروف ولا يقوم الخط"5.
وترد لفظة" "النقش" بمعنى الكتابة والتدوين والتخطيط. ورد: رجّع النقش، والوشم، والكتابة: ردد خطوطها، وترجيعها أن يعاد عليها السواد مرة بعد أخرى. ومنه رجع الواشمة. قال لبيد:
__________
1 برصوم "ص83"، الأب رفائيل نخلة اليسوعي، غرائب اللغة العربية "بيروت 1907" "ص187"، Smith, A Dictio. III, p. 1789.
2 تاج العروس "3/ 296 وما بعدها"، "سطر".
3 تاج العروس "5/ 131"، "خط".
4 Le Museon, 1953, 1-2 p. 114.
5 تاج العروس "5/ 50"، "عرض".(15/276)
أو رجع واشمة أسف تؤورها ... كففًا، تعرض فوقهن وشامها
وقول زهير:
مراجيع وشمٍ في نواشر معصم1
وفي هذا المعنى أيضًا لفظة "زَبَر". و"الزبر" الكتابة. ويذكر علماء اللغة أنها تعبر عن معنى النقش في الحجارة كذلك. وأما "المزبر"، فهو "القلم" كما ذكرت ذلك قبل قليل. وقد ورد في حديث وفاة الرسول أنه دعا بدواة ومزبر، أي: قلم2. وذكر أن الزبور الكتاب3. وقد وردت اللفظة في القرآن الكريم. فلفظة "زبر" بالفتح إذن فعل ماضٍ بمعنى كتب، وفي هذا المعنى أيضًا لفظة "ذَمَرَ". فنقول "ذمرتُ الكتابَ"، أي: زبرته وكتبته4. وقصد بـ"الزبور" في القرآن الكريم، المزامير، أي: "مزامير داوود". وتقابل لفظة "زمره" "زمراه" في العبرانية5.
ويظهر من البيت المنسوب إلى لبيد:
فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زبر يرجعها وليد يمان6
ومن البيت المنسوب إلى "أبي ذؤيب":
عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري7
أن أهل اليمن كانوا قد اشتهروا بالكتابة والقراءة بين الجاهليين, وأن ولدان أهل اليمن كانوا يرجعون, أي: يقرءون ويكررون ما هو مزبور أمامهم لحفظه. وأن "الكاتب الحميري"، أي: كاتب أهل اليمن كان معروفًا مشهورًا، يحمل
__________
1 اللسان "8/ 115"، "رجع".
2 تاج العروس "3/ 231"، "زبر".
3 بلوغ الأرب "3/ 371".
4 الاشتقاق "ص30".
5 A Dictionary of IsIam, p. 698.
6 ديوان لبيد "138".
7 ديوان الهذليين "1/ 64".(15/277)
الدواة ويكتب بها على مادة الكتابة. "قال أعرابي حميري: أنا أعرف تزبرتي, أي: كتابتي1.
وأشير إلى "خط زبور" في شعر امرئ القيس:
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبورٍ في مصاحف رهبان2
وذكر علماء اللغة أن "الزبور" الكتاب، وفي هذا المعنى ورد قول لبيد:
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تحد متونها أقلامها
وذكروا أن الزبور قد غلب على كتاب "داود"، أي: "المزامير"، وكل كتاب زبور. وقيل: هو الكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعية3.
واستعمل "الهمداني" جملة: "زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية"، وقال: إن "أبا نصر" الحنبصي، كان قد قرأها وكان بحاثة عالمًا بها. وقد فرّق بين "الزبر" وبين "المساند"4، مما يدل على أنه قصد بالزبر شيئًا آخر يختلف عن المساند، ربما أراد بالزبر صحفًا أو مجموعة صحف، أو كتاب، أما المساند، فالكتابات المدوّنة على الحجر.
ومن المصطلحات المعبرة عن معنى كتب ونقش وختم لفظة "رقم". و {كِتَابٌ مَرْقُوم} ، بمعنى مكتوب، وأما المِرقم فالقلم؛ لأنه يرقم به5. وذكر بعض علماء اللغة أن الرقم: الخط الغليظ، وقيل: تعجيم الكتاب. وقد ورد في القرآن الكريم: {كِتَابٌ مَرْقُوم} 6. وذكر أن: "الرقيم"، الكتاب. والكتابة والختم7.
__________
1 الأمالي، للقالي "2/ 172".
2 ديوان امرئ القيس "125".
3 تاج العروس "3/ 231"، "زبر"، راجع معلقة لبيد.
4 الإكليل "1/ 13".
5 تاج العروس "8/ 315 وما بعدها"، "رقم"، التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون "1/ 652".
6 سورة المطففين، الآية 9، المفردات "201".
7 بلوغ الأرب "3/ 371"، اللسان "12/ 248 وما بعدها".(15/278)
"وفي الحديث أنه كان يسوي الصفوف حتى يدعها مثل القدح أو الرقيم، أي: مثل السهم أو سطر الكتابة". وليس بين الرقوم والخطوط فرق1.
يقول علماء العربية: "ورقم الكتاب: أعجمه وبينه، أي: نقطه وبيّن حروفه. وكتاب مرقوم: قد بينت حروفه بعلاماتها من التنقيط"2. وإن الإعجام التنقيط بالسواد، مثل التاء عليها نقطتان3. وإن التنقيط بمعنى وضع النقط على الحروف، أي: إعجامها4. ويحملنا قولهم هذا على الذهاب إلى أن الإعجام كان معروفًا بين الجاهليين.
وفي هذا المعنى، أي: الرقم والترقيم والرقيم ترد لفظة "الترقين"، و"الرقن"، و"المرقون"، و"الرقين". و"ترقين الكتاب: المقاربة بين السطور. وقيل نقط الخط وإعجامه ليتبين، وأيضًا تحسين الكتاب وتزيينه"5. "والترقين تسويد مواضع في الحسبانات لئلا يتوهم أنها بيضت كيلا يقع فيه حساب"6.
وقد وردت لفظة "المنمق" وجملة "الكتاب المنمق" في شعر ينسب لسلامة بن جندل، هو:
لمن طللٌ مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصُّليب فمطرق7
وذكر علماء اللغة أن معنى "نمق" كَتَب. فيقال: نمق الكتاب ينمقه، أي: كتبه وحسّنه وزيّنه بالكتابة وجوده8. وفي هذا المعنى نبق، فيقال: نبق الكتاب ونمقه إذا سطره9. أما لفظة، دبج، فتعني النقش والتزيين10.
__________
1 اللسان "2/ 556"، الحيوان "1/ 70".
2 تاج العروس "8/ 315"، "رقم".
3 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".
4 تاج العروس "5/ 234"، "نقط".
5 تاج العروس "9/ 218"، "رقن".
6 المصدر نفسه.
7 الأصمعيات "146"، "دار المعارف".
8 قال النابغة:
كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع
تاج العروس "7/ 81"، "نمق".
9 تاج العروس "7/ 74"، "نبق".
10 تاج العروس "2/ 37"، "دبج".(15/279)
وذكر علماء العربية أن "الرقش" الخط الحسن، وأن الرقش والترقيش: الكتابة والتنقيط، وأن "رقش"، بمعنى نقط الخطوط والكتاب. وأن الترقيش: التسطير في الصحف1. ويظهر أن للكلمة علاقة بتنميق الخط وتحسينه وتجويده، وأن الخط المرقش، هو الخط المنمنم المزوّق المنقط المعتنى به. قالوا: ومن هنا سُمي الشاعر "المرقش" مرقشًا. وهو المرقش الأكبر عم "المرقش الأصغر". ويدل هذا التفسير لمعنى "الترقيش" على أن التنقيط كان معروفًا عند الجاهليين. ورووا له قوله:
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم2
وقد وردت لفظة "رقش" في شعر ينسب للأخنس بن شهاب التغلبي، هو:
لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب3
كما وردت في شعر لطرفة، هو:
كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه4
و"اللمق" الكتابة في لغة "بني عقيل"، وسائر "قيس" يقولون: اللمق: المحو، وقال بعضهم: "لمقه بعدما نمقه، أي: محاه بعدما كتبه". فهو ضد. يقال: لمقه إذا كتبه ولمقه إذا محاه5.
و"النبق" الكتابة، مثل النمق. ونبق الكتاب ونمقه إذا سطره6.
و"القرمطة" في الخط دقة الكتابة وتداني الحروف والسطور، وقرمط الكاتب إذا قارب بين كتابته، وكان الإمام "علي"، يقول للكاتب: "فرج ما بين السطور وقرب بين الحروف"7.
__________
1 اللسان "6/ 305"، تاج العروس "4/ 314"، "رقش".
2 الأصمعيات "237"، "دار المعارف"، تاج العروس "4/ 314"، "رقش".
3 الخزانة "3/ 165".
4 الأمالي، للقالي "2/ 246".
5 تاج العروس "7/ 63"، "لمق".
6 تاج العروس "7/ 74"، "نبق".
7 تاج العروس "5/ 204"، "قرمط.(15/280)
و"النمنمة"، خطوط متقاربة قصار، وكتاب منمنم، منقش، ومرقش ومزخرف، أي: به زخرفة، ولك وشيٍ نمنمة. فيظهر من ذلك أن بعض صحف وكتب أهل الجاهلية كانت منمنمة ذات رقوش ونقوش ووشي. وقد نعت "الجاحظ" الخط المسند بـ"المنمنم"1.
ويعبر عن الكتابة بلفظة "النقر" على سبيل المجاز وقد ورد "نقر في الحجر" بمعنى كتب2، وذلك لأن الحجر المكتوب، هو حجر منقور، ظهرت الكتابة عليه بطريقة النقر. وكل ما ورد إلينا من الكتابات الجاهلية قد كتب على الحجر أو الخشب بالنقر والحفر.
والمشق السرعة في الكتابة. وقيل مشق الخط يمشقه مشقًا: مدَّه. فالمشق الخط الممدود الذي كتب بسرعة وبعجلة. ولذلك عبّر عن القلم السريع الجري في القرطاس بـ"قلم مشاق"3. وورد أن أهل الأنبار كانوا يكتبون بالمشق. وهو خط فيه خفة4.
ويعبر عن الكتابة الفاسدة المكتوبة بخط رديء فاسد بـ"كتابة مخربشة" وبـ"كتاب مخربش"5. وبهذا المعنى أيضًا "الخرمشة". فالخربشة والخرمشة في معنى واحد6.
وقد كانوا يستنسخون الكتب والصحف والأسطر كما نفعل. فقد ورد أن منهم من استنسخ كتبًا في الجاهلية والإسلام، أي: ينقلون الكتابة نقلًا بنصها وحروفها حرفًا حرفًا حتى تكون عند الناقل نسخة كاملة تامة للكتابة التي نقل عنها. والكاتب ناسخ ومنتسخ. والاستنساخ اكتتاب كتاب عن كتاب حرفًا حرفًا. وفي هذا المعنى ورد في القرآن: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} , أي: نستنسخ ما تكتب الحفظة7.
__________
1 اللسان "12/ 592 وما بعدها"، "نم"، تاج العروس "9/ 85"، "نم"، الحيوان "1/ 71".
2 تاج العروس "3/ 580"، "نقر".
3 اللسان "10/ 344 وما بعدها"، "مشق"، تاج العروس "7/ 70"، "دمشق".
4 الاقتضاب "89"، المصاحف، للسجستاني "134".
5 اللسان "6/ 295"، تاج العروس "4/ 304 وما بعدها"، "خربش"، "خرمش".
6 اللسان "6/ 295".
7 الجاثية، الآية 29، تفسير القرطبي "16/ 175"، "قال ابن عباس: هل يكون النسخ إلا من كتاب", تاج العروس "2/ 282"، "نسخ".(15/281)
وترد لفظة "الترقين"، بمعنى ترقين الكتاب وهو تزيينه، وقيل: "رَقَّن الكتاب" قارب بين سطوره، والترقين في كتاب الحسبانات. والمرقن: الكاتب1. وقال بعضهم: "الترقين خط يخط في التأريخ أو العريضة إذا خلا باب من السطر، لكي يكون الترتيب محفوظًا به. وهو بمنزلة الصفر في حساب الهند وحساب الجمل، واشتقاقه من "رقان" وهو بالنبطية الفارغ"2. وقيل الترقين: نقط الخط وإعجامه ليتبين، وتسويد مواضع في الحسبانات لئلا يتوهم أنها بيضت كيلا يقع فيه حساب3.
ولفظة "قرأ" من الألفاظ الجاهلية المعروفة. وهي أصل لمعان عديدة ذوات صلة بالقراءة. وتعبر جملة "قارأه مقارأة وقراء" عن معنى دراسة. ومن الأصل المتقدم قارئ وقرّاء وقراءة4. ولفظة "اقرأ"، هي أول لفظة نزل بها الوحي، وأول كلمة من القرآن. كما ذكر ذلك أكثر المفسرين وأصحاب كتب السير والأخبار5. كما وردت لفظة "قارئ" في حديث أول نزول الوحي على الرسول. وفي تفسير سورة "اقرأ". وأما "المقارئ" فبمعنى الذي قرأ الكتب6.
وتؤدي لفظة "تلا" معنى قرأ، والتلاوة القراءة7. وترد لفظة مبروز بمعنى منشور، استشهد على ذلك بشعر للبيد، هو:
الناطق المبروز والمختوم8
ومن أصل "درس" المدرس ودارس ومدارس ومدراس، وهي تقابل "درش" في العبرانية والسريانية. وقد ذكر علماء اللغة أن المدارس الموضع الذي يدرس فيه كتاب الله، ومنه مدارس اليهود، وأن المدارسة والدارسة القراءة، وأن المدراس
__________
1 اللسان "13/ 185"، "صادر"، "رقن".
3 مفاتيح العلوم "39".
3 تاج العروس "9/ 218"، "رقن".
4 تاج العروس "1/ 101"، "قرأ".
5 راجع تفسير سورة: اقرأ باسم ربك.
6 تاج العروس "4/ 150"، "درس".
7 تاج العروس "10/ 52 وما بعدها"، المفردات "ص74".
8 شمس العلوم "1/ 146".(15/282)
صاحب دراسة اليهود، كما ذكروا أن الآية: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْت} في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، معناها "قرأت على اليهود وقرءوا عليك"، وتعني دارس النبي اليهود. وقيل: دارست ذاكرتهم1. و"المِدرْاس"، من "مدراش" في العبرانية، وتعني المدارسة بالمعنى العام. وخصصت بالشروح والتفاسير التي وضعها الأحبار على الأسفار2. وتؤدي لفظة "درس" و"درش" الدراسة العميقة للفهم والتعلم، فهي أعمق غورًا من معنى قرأ. وقد كان العبرانيون يعبرون بها عن دراسة الشريعة والتوراة.
وقد كان "عمرو" من "بني ماسكة"، وهو المعروف بـ"أبي الشعثاء" قد رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة. وكان ذا قدر فيهم3.
وقد أشار علماء اللغة إلى كتب كانت عند الجاهليين ذكروا أنها عرفت عندهم بالرواسيم جمع روسم4، ولم يذكروا محتوياتها ومضامينها. و"الراشوم" في السريانية لوح منقوش تختم به البيادر من "رشمو" Rouchmo بمعنى العلامة. والآلة "رشمه" Rshme كما أن "رشم" Rshme معناها رسم، ومنها الراسم والمرسوم المستعملتان في النصرانية في رسم الأسقف5. ولا أستبعد أن يكون مراد تلك الكتب كتبًا دينية مستعملة عند النصارى الجاهليين.
وعرفت لفظة "الوضائع" عند الجاهليين، فذكر علماء اللغة أن الوضيعة كتاب فيه الحكمة. وقد ورد في الحديث: إنه نبي وإن اسمه وصورته في الوضائع6.
وقد ذكر علماء اللغة أن "السفر" الكتاب الذي يسفر عن الحقائق. وقيل الكتاب الكبير، والجزء من أجزاء التوراة. وأما "السَّفَرة" فبمعنى الكتبة، وسفر الكتب كتبها. وقد ذكر علماء اللغة أن السِّفر، يقابلها "سافرا" بالنبطية7.
__________
1 تاج العروس "4/ 150" "درس"، أساس البلاغة "1/ 268"، برصوم "ص61".
2 A ReIigious Ency. III, p. 1504.
3 الأغاني "16/ 15".
4 تاج العروس "8/ 312".
5 برصوم "ص73 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص183".
6 تاج العروس "5/ 545"، اللسان "8/ 399"، "صادر"، "وضع".
7 تاج العروس "3/ 271"، "سفر".(15/283)
وقصد بـ "أسفار" الواردة في القرآن الكريم، التوراة. وبـ"سفرة" كتبة1. وقد قال السيوطي: إن الأسفار الكتب، والكتاب بالنبطية يُسمى سفرًا2.
وقد وردت لفظة "هسفر", أي: "السفر" في اللهجة الصفوية بمعنى الكتابة. فورد في أحد النصوص "وعور لذ يعور هسفر"3، ومعناها "وعِورٌ للذي يُعَوّرُ الكتابة"، وبعبارة أوضح "وعور للذي يوذي هذه الكتابة". والعور في اللهجة الصفوية بمعنى عوارة, أي: أذية وأذى. ولا بد أن يكون مدلول "سفر" عندهم كمدلول كتب في عربيتنا. وقد وردت لفظة "سفر" بمعنى كتابة وخط في نصوص أخرى، إذ ورد فيه: "ووجد سفر دده"4، أي: "ووجد كتابة أبيه". و"ووجد خط أبيه".
وترد اللفظة في العبرانية أيضًا. فلفظة "س ف ر" "سافور" تعني يخط ويكتب ومن هذا الأصل "سيفير" Sepher ويراد بها كتاب, كتاب يلف فيكون على هيئة شيء ملفّف، أو أوراق تجمع بعضها إلى بعض وتربط5. ومن العبرانية أخذ السريان لفظة "سفرو" Sefro بمعنى سِفْر. ومن هذا الأصل "سفر" Sfar بمعنى درس وكتب وتفقه وتعلم. وأما Sofro فبمعنى الكُتّاب، أي: المسجلون والفقهاء والأساتذة ورؤساء، والجمع "سوفرة" Sofre. وأما Sofroutho في الكتابة، أي: حرفة الكاتب والفقه والعلم والحذاقة6. وعرف علماء اليهود حملة الشريعة بـ"سوفيريم Sopherim؛ لأنهم يكتبون الشريعة7.
__________
1 المفردات "ص233".
2 المتوكلي فيما ورد في القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية والتركية والزنجية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية، دمشق 1348 "ص11".
3 CIS, Pars Quinta, Tome, I, P. 13, NUM: 58, p. 23, P. 23, NUM: 105, Dunand, 1229.
4 CIS, Pars Quinta, Tome, I< p. 19, NUM: 93, p. 19, NUM: 93, p. 1, NUM: 94, 95, Littmann, Saf. P. 27.
5 Hastings p. 981.
6 برصوم "ص84 وما بعدها" غرائب اللغة "ص187".
7 Smith, A Dictio, III, p. 1162.(15/284)
و"السفسير" الكتاب، "السفاسره" أصحاب الأسفار، وهي الكتب: وبه فسر قول "أبي طالب" عم النبي:
فإني والسوابح كل يوم ... وما تتلو السفاسرة الشهود1
وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "السجل"2، وذهب بعض المفسرين إلى أنها بمعنى الصحيفة والكتاب3. وذهب بعض آخر إلى أنها حجر يكتب فيه، أو كل ما يكتب فيه4. ولكنهم لم يذكروا شكل السجل وهيئته. وقد جعلها بعض العلماء من الألفاظ المعربة. ورجع السيوطي أصلها إلى الحبشية، فقال: إنها عندهم بمعنى الرجل5. وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل فارسي6. ولا تزال اللفظة حية مستعملة في الدوائر، وتطلق على الأضابير والأوراق المحفوظة بين دفتين في دوائر الحكومات والشركات والأعمال الأخرى، كما تؤدي لفظة "مسجل" و"يسجل" معنى مكتوب ويكتب. فلفظة سجَّل إذن بمعنى كتب ودوّن. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اللاتينية، محرفة من SigiIIum بمعنى ختم، أي: ختم العقود والوثائق وأمثال ذلك7. ولا علاقة لها بالحبشية أو الفارسية. وقد تعني عند العرب كتاب العهد8. وذكر بعضهم أن "السجيل"، اسم كاتب للنبي9.
وروي أن السجل: الكتاب يكتب للرسول أو المخبّر أو الرحّال أو غيرهم بإطلاق نفقته حيث بلغ, فيقيمها له كل عامل يجتاز به. والسجل أيضًا المحضر يعقده القاضي بفصل القضاء10. وهذه المعاني، هي من المعاني المتأخرة التي عرفت وشاعت في الإسلام. والظاهر أن أهل مكة لم يكونوا على علم تام بمعنى اللفظة،
__________
1 تاج العروس "3/ 272"، "سفر".
2 الأنبياء، الآية 104.
3 الطبرسي "7/ 66"، الإتقان "1/ 236"، تفسير الطبري "17/ 78".
4 المفردات "ص223"، الأب هنريكوس لامنس اليسوعي، فرائد اللغة في الفروق المطبعية الكاثوليكية "بيروت 1889" "ص120" مادة 462.
5 المتوكلي "ص5"، الإتقان "1/ 236".
6 الإتقان "1/ 236".
7 غرائب "ص278"، فرائد اللغة في الفروق "ص130"، Ency., IV, p. 403.
8 بلوغ الأرب "3/ 371".
9 تاج العروس "7/ 370"، "سجل".
10 مفاتيح العلوم "38 وما بعدها"، تفسير القرطبي "11/ 347" سورة الأنبياء "104".(15/285)
لذلك اختلفوا في تفسيرها اختلافًا يرد في كتب التفسير في تفسير معنى "السجل".
ولا أستبعد استعمال الجاهليين للكتب التي تلف لفًّا، وذلك لسهولة المحافظة عليها ونقلها، كالذي كان يفعله العبرانيون ولا يزالون يفعلونه في كتبهم المقدسة. ولا أستبعد أن يكون السجل المذكور في القرآن الكريم على هذا الشكل إذ يُطوى ويُلف لفًّا، وتوضع الكتب داخل غلاف للمحافظة عليها، وقد زيّن أهل الكتاب أغلفة كتبهم المقدسة مبالغة في احترامها وتقديسها وتعظيمها. وإذا أرادوا فتحها، أخذوها باحترام وتبجيل وقبَّلوها، ثم تلوا منها على المتعبدين ما شاءوا.
وإذا ثبت أن لفظة "مصحف"، هي من الألفاظ الجاهلية، فإن ذلك يدل على أن المصاحف، أي: الكتب المؤلفة من صحائف منضدة ومجلدة بين دفتين، كانت معروفة عند الجاهليين. وأنا لا شك لديّ في وجودها بهذا المعنى في أيام الرسول. غير أننا نلاحظ أن المسلمين خصصوا "المصحف" بالقرآن الكريم. و"المصاحف" بالقرائين جمع قرآن. وحين يقولون: "خطوط المصاحف"1، فإنهم يقصدون كتابة القرائين.
ولفظة "القرآن"، و"قرأان"، نفسها تدل على وقوف الجاهليين على المعنى المفهوم من اللفظة، وهو القراءة، ولا بد أن يكون منهم من سمع من اليهود لفظة "مقرا" التي تعني القراءة و"قرآن"، أي: تلاوة الكتاب المقدس وقد كانوا يتداولونها فيما بينهم، ومنهم يهود اليمن والحجاز.
وترد لفظة "الفهرس" في العربية، وهي من الألفاظ المعربة. ذكر بعضهم أنها الكتاب الذي تجمع فيه الكتب2. وعرفت كلمة "الفهرست"، بـ"ذكر الأعمال والدفاتر تكون في الديوان، وقد يكون لسائر الأشياء"3, وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية، بمعنى جدول، ومواد كتاب أو نحوه4. ولكننا لا نستطيع إثبات أنها من الألفاظ التي عرفت بهذا المعنى عند الجاهليين.
وذكر أن "الديوان"، مجتمع الصحف، وأنها لفظة فارسية معربة. وفي
__________
1 الفهرست "ص15"، تاج العروس "6/ 161"، "تصحف".
2 اللسان "6/ 167"، "فهرس" "صادر"، تاج العروس "4/ 211"، "فهرس".
3 مفاتيح العلوم "39".
4 غرائب اللغة "240".(15/286)
الحديث: "لا يجمعهم ديوان حافظ". وقيل: الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء. وأول من دوّن الدواوين عمر. وذكر بعض العلماء أن الديوان الدفتر ثم قيل لكل كتاب. وقد يخص بشعر شاعر معين وبمجموع الشعر1.
و"التأريخ" و"الإراجة"" شيء من كتب أصحاب الدواوين، و"الأوارجة" من كتب أصحاب الدواوين في الخراج ونحوه2. وقيل: التأريخ لفظة فارسية، معنها النظام؛ لأن التأريخ يعمل للعقد لعدة أبواب يحتاج إلى علم جملها؛ لأن التأريخ يعمل للعقد شبيهًا بالأوراج، فإن ما يثبت تحت كل اسم من دفعات القبض يكون مصفوفًا ليسهل عقده بالحساب, وهكذا يعمل التأريخ3.
والدفتر جماعة الصحف المضمومة، وواحد الدفاتر4. وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية, ومعناها في الفارسية كتاب وسجل وحساب. ومن هذا الأصل لفظة "دفتر خانة"، أي: البيت الذي تحفظ فيه الدفاتر والوثائق ونحوها، ولفظة "دفتر دار"، بمعنى الخازن، وخازن الدفاتر5. وهما مصطلحان استعملا في الإسلام.
والكراسة واحدة الكراس والكراريس من الكتب6. فهي مجموعة صحف وجزء من كتاب؛ لأن الكراسة من الكتاب، والكتاب مجموع كراريس.
وقد ذكر علماء اللغة أن المجلة، الصحيفة يكتب فيها شيء من الحكمة7. وقال أبو عبيدة: كل كتاب عند العرب، فهو مجلة8. وقد وردت هذه اللفظة في شعر للنابغة، هو:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب9
__________
1 اللسان "13/ 166"، "دوّن"، تاج العروس "9/ 204"، "دوّن".
2 اللسان "2/ 208"، "صادر"، "أرج".
3 مفاتيح العلوم "37".
4 اللسان "4/ 289"، "صادر"، "دفتر".
5 غرائب اللغة "228".
6 اللسان "6/ 193"، "كرس".
7 تاج العروس "4/ 232"، "كرس".
8 شمس العلوم "الجزء الأول - القسم الثاني"، "ص281".
9 برصوم "ص163"، بلوغ الأرب "3/ 371"، ويروى محلتهم بالحاء, أي: إنهم يحجون فيحلون مواضع مقدسة"، تاج العروس "7/ 261"، "جلل".(15/287)
وقد قال النابغة ذلك في مدح الغساسنة. ولما كان الغساسنة نصارى، فالمراد من المجلة إذن في هذا المكان، الكتب المقدسة. وتخصيص علماء اللغة المجلة بالصحيفة التي يكتب فيها الحكمة، هو تفسير نشأ عن عدم فهمهم للكلمة. وذلك أنها من الألفاظ المستعملة عند أهل الكتاب بمعنى كتاب ملفوف على طريقة تلك الأيام في استعمال الكتب الملفوفة، فظنوا أنها نوع خاص من الكتب خصص بالحكمة، لوجود مواعظ وحكم فيها، يستعملها رجال الدين في مواعظهم، ففسروها بهذا التفسير.
وقد أشير في كتب السير والأخبار إلى "مجلة لقمان"، وقيل: إنها حكمة لقمان. وأشير إلى أمثال لقمان1. والمجلة هي "مكلوت": و"مكلتو" MagaItho في العبرانية والسريانية2. ويراد بها كرّاس ملفوف وملف مخطوطات، وكتاب من أصل GoIo بمعنى لف3. وقد ذكر أن "سويد بن الصامت" كان يملك "مجلة لقمان"، "حكمة لقمان" وأنه لقي الرسول يومًا، فدعاه الرسول إلى الإسلام فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي. وكانت معه "مجلة لقمان" "حكمة لقمان". فقال له الرسول: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أحسن منه وأفضل4.
و"سويد بن الصامت" المذكور، رجل مثقف مهذب، ذو علم وفهم في أيامه وبين قومه. وقد عرف عندهم بالكامل، للخلال الحميدة التي كانت فيه. ولا يلقب بـ"الكامل" في الجاهلية إلا من كانت له صفات معينة. وصفه صاحب كتاب الأغاني، فقال: "وكان يقال له الكامل في الجاهلية. وكان الرجل في الجاهلية إذا كان شاعرًا شجاعًا كاتبًا سابحًا راميًا سمّوه الكامل. وكان سويد أحد الكملة"5.
وكان كما يذكر أهل الأخبار حكيمًا كثير الحكم في شعره، حتى قيل: إن قومه إنما سمّوه "الكامل" لحكمة شعره وشرفه فيهم. وقد رووا له شعرًا في ذلك.
__________
1 Ency., II, p. 53.
2 برصوم "ص163".
3 غرائب اللغة "ص177".
4 البلاذري "1/ 238"، الروض الأنف "1/ 265".
5 الأغاني "2/ 164"، "طبعة الساسي".(15/288)
هذا ويشك في إسلام "سويد بن الصامت بن خالد بن عقبة" الأوسي، إذ ذكر أنه لما انصرف من مقابلة الرسول له، عاد إلى قومه بيثرب فقتل1. قتله "المجذر" في الجاهلية2.
وأنا لا أستبعد احتمال قدوم يوم، قد يعثر فيه الباحثون على وثائق تبين أن عرب العراق كانوا قد وضعوا أسسًا لقواعد العربية، وكانوا أصحاب رأي في أساليب الكتابة وصوغ الكلام بنوعيه: من نثر وشعر. إذ لا يعقل في نظري أن يكون ظهور علوم العربية في العراق قبل الأمصار الإسلامية الأخرى، طفرة من غير سابقة ولا أساس. وأن يكون تفوق الكوفة والبصرة على المدن الإسلامية الأخرى, وفي ضمنها مدن جزيرة العرب في علوم العربية صدفة وفجأة ومن غير علم سابق ولا بحث في هذه الموضوعات قبل الإسلام, إنني اعتقد أن علم العروض وعلم النحو وعلم الصرف وسائر علوم العربية الأخرى لم تظهر في العراق إلا لوجود أسس لهذه العلوم فيه تعود إلى أيام ما قبل الإسلام، وهذه الأسس القديمة الجاهلية هي التي صيرت العراق الموطن الأول لهذه العلوم في الإسلام. وإنني لا أستطيع أن أتصور أن في مقدور إنسان مهما أوتي من العلم والذكاء, استنباط أوزان الشعر وبحوره من نقرات مطارق النحاسين أو من التأمل والتبصر، فشخص مثل هذا، لا بد وأن يكون قد وقف على البحور وأوزان الشعر وعلى مقدمات وبحوث في موضوع الشعر، منها استنبط علم العروض، وقلْ هذا الشيء عن علم النحو وعن سائر علوم العربية الأخرى.
وقد كان العبرانيون يكتبون التوراة على جلود البقر، ثم يلفونها لفًّا على قضيب أو قضيبين تكوّن لفة واحدة أو لفتين متصلتين بعضها ببعض، ويطلقون عليها "مجلوت" "مكلوت". وتعني لفظة "كلل" لفَّ ودوَّر3. وقد كانت كتب ذلك العهد تُكتب وتُلف بهذه الطريقة، فلا يستبعد وجود هذه المجلات، أي: الكتب الملفوفة عند الجاهليين.
وقد أورد الأخباريون نصوص رسائل نسبوها إلى بعض الملوك الجاهليين وسادات القبائل، وهي رسائل مسجعة في الغالب موجزة. وفي أثناء حديثهم عن رسائل
__________
1 الإصابة "2/ 132"، "3818".
2 الإصابة "3/ 343 وما بعدها"، "رقم 7728".
3 Smith, A Diction. I, p. 1802.(15/289)
الرسول إلى قيصر وكسرى ذكروا أن الصحابة أشاروا على الرسول أن يتخذ خاتمًا يختم به كتبه؛ لأن الروم لا يقرءون كتابًا غير مختوم. ويظهر من كلامهم هذا أن أهل مكة لم يكونوا يختمون رسائلهم بخاتم، وإنما كانوا يكتفون بتدوين الاسم. والذي يتبين له من ملاحظتهم هذه عن الروم أنهم قصدوا بالخاتم الختم، على الكتب، إضافة إلى الاسم، وهو ما يقال له SigiIIum عندهم، كما أشرت إلى ذلك آنفًا. وهو يقابل ختم الدوائر في الزمن الحاضر، وطبع شعار الدائرة على الورق، ليكون ذلك تعبيرًا عن صفة الورقة الحكومية. فالغاية من إشارة الصحابة على الرسول بختم كتابه، هو إكسابه صفة رسمية، ليكون ذلك متفقًا مع طريقة الروم. ولا بد أن يكون رؤساء مكة قد راعوا هذا الأسلوب في مراسلاتهم مع البيزنطيين.
وقد استعمل الخاتم في الغالب لتصديق الأوراق الشخصية والمعاملات الحكومية. فإذا أريد تصديق معاملة أو إرسال كتاب أو ختم صندوق، ختم بالخاتم، على الخاتم شيء من الكتابة يأمر صاحب الخاتم بحفرها، كي يظهر أثرها على الورق أو الشمع أو الطين. وكان منح الخاتم لموظف دليلًا على منحه الثقة وتعيينه في وظيفته التي اختير لها1.
وقد كان رجال التجارة والأعمال وأصحاب المصالح يثبتون أعمالهم وعقودهم في صحف وكتب. وإذا أرادوا عقد عقد، مثل اتفاق على شيء أو تدوين ميثاق، دوّنوه على صحيفة وأشهدوا على ذلك، ليكون أوثق وأثبت للعقد. وقد عرف كتاب الشراء بالعهدة2. وأما كتاب العهد، فهو ما يعهد به. وقد وردت في القرآن الكريم إشارة إلى الكاتب بالعدل. أي: الكاتب الذي يتولى كتابة العهود والمواثيق بين الناس.
وقد ورد في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ: أن الرسول قال: "إذا كتب أحدكم فليترب كتابه"3، أي: إن الكاتب إذا انتهى من كتابة كتابه، فليضع التراب عليه، ليجفف حبره.
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 405"، Smith, A Diction., III, p. 1188.
2 بلوغ الأرب "3/ 371".
3 البيان "3/ 204".(15/290)
الفصل الرابع والعشرون بعد المائة: الدراسة والتدريس
الكتاتيب:
وفي العربية لفظة "الكتّاب"، ويراد بها في عرف هذا اليوم المدرسة التي يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ المعرفة. وهي من الألفاظ العربية المستعملة في العهود الأولى من الإسلام. وعندي أنها من الألفاظ العربية التي كانت مستعملة في الجاهلية، وهي في معنى بيت "ها سيفر" Beth Ha- Sepher, أي: "بيت الكتّاب" في العبرانية. وقد كان العبرانيون يطلقونها على المدارس التي تدرس القراءة والكتابة ومبادئ المعرفة، تمييزًا لها عن المدارس التي تعلم الديانة والعبرانية والمعارف التي لها علاقة بالديانة ويطلقون عليها "بيت هامدراش" Beth Ha- Midrash, أي: "بيت المدراش"، و"بيت ها تلمود"، أي: "بيت التلمود" في بعض الأحيان1.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار أسماء جماعة ذكروا أنهم كانو من المعلمين في الجاهلية وكانوا من أصحاب الوجاهة والمكانة، منهم على سبيل المثال: "بشر بن عبد الملك السكوني"، أخو "أكيدر" صاحب "دومة الجندل، و"سفيان بن أمية بن عبد شمس"، و"أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة"
__________
1 Hastings, A Dictionary of Christ. And the GospeIs, I, p. 222.(15/291)
و"عمرو بن زرارة بن عدس بن زيد"، وقد كان يُسمى "الكاتب، و"غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي" وهو مخضرم1، مما يدل على وجود المدارس والتعليم عند الجاهليين.
وقد ورد أن الرسول أمر "عبد الله" واسمه الحكم بن سعيد بن العاص بن أمية، بأن يعلم في الكتّاب بالمدينة2. كما ورد أن "جفينة"، وهو من نصارى الحيرة، جاء المدينة فصار يعلم الكتابة بها3. وورد في رواية أن "علي بن أبي طالب" اختلف إلى الكتّاب، فتعلم الكتابة به وله ذؤابة وهو ابن أربع عشرة سنة4. وورد أن رجلًا نزل بوادي القرى، وعلّم الخط بها5. وورد أن غلامًا جاء "يبكي إلى أبيه، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث!! يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدًا"6. وإذا صح هذا الخبر، نكون قد عثرنا على كلمة "المعلم" المفهوم منها في الوقت الحاضر في الأيام الأولى من ظهور الإسلام.
وورد أن "عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية"، كان ممن أُسر يوم بدر، فأمره الرسول أن يعلم عشرة من غلمان الأنصار الكتابة، ويخليه لسبيله، فيومئذ تعلم الكتابة زيد بن ثابت في جماعة من غلمان الأنصار. وكان كاتبًا محسنًا7. غير أن الموارد الأخرى، تذكر أنه كان قدم على رسول الله مهاجرًا، فقال له: ما اسمك؟ فقال: الحكم. فقال: أنت عبد الله. فغيّر رسول الله اسمه8. وتذكر أنه أمره أن يعلم الكتاب بالمدينة وكان كاتبًا. وتذكر أنه قتل يوم بدر شهيدًا. أي: إن إسلامه كان قبل يوم بدر, ولكن أكثر الروايات تذكر أن وفاته تأخرت9.
وذكر بعض أهل الأخبار، أن المدينة كانت متأخرة بالنسبة إلى مكة في الكتابة
__________
1 المحبر "ص475"، الأعلاق النفيسة، لابن رستة "216".
2 ابن حزم، جمهرة "73".
3 الطبري "5/ 42"، ابن سعد, طبقات "3 القسم الأول ص258".
4 الفصول المختارة من العيون والمحاسن، للشيخ المفيد، النجف "2/ 66".
5 فتوح البلدان "477".
6 إمتاع الأسماع "1/ 101".
7 المشرق، السنة العاشرة "478".
8 الاستيعاب "1/ 312"، "حاشية على الإصابة".
9 الإصابة "1/ 343"، "رقم 1777".(15/292)
والقراءة. بل ذهب بعضهم إلى أنه لم يكن في الأنصار من يحسن الكتابة1. وكلامهم هذا يصطدم مع ما ذكروه أنفسهم من أن "سويد بن الصامت" الأوسي، وسعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبي بن كعب، وغيرهم ممن أشرت إليهم في مواضع أخرى من هذا الكتاب، كانوا من الكتّاب.
ويفهم من قول "الشّماخ":
كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حَبْرٌ ثم عرض أسطرًا
أن هذا الشاعر كان قد زار تيماء، وقد وقف على خط اليهود، ورأى أحدهم وقد عرض أسطر الكتابة ودونها بيمينه2. وقد وصف غيره كتابة اليهود وتعلمهم الخط في مدراسهم بالمستوطنات اليهودية.
وكانوا يستعينون بصبيان الكتّاب في بعض الأحيان لكتابة جملة نسخ مما يراد نشره وإذاعته أو حفظه. فورد أن النجاشي الشاعر، لما هجا "بني النجار" من الأنصار شكوا ذلك إلى حسان، فقال قصيدة في هجائه وفي هجاء قومه، ثم "قال اكتبوها صكوكًا وألقوها إلى صبيان المكاتب، فما مرّ بضع وخمسون ليلة حتى طرقت بنو عبد المدان حسّان بالنجاشي موثقًا معهم"، وذلك للاعتذار إليه واسترضائه3.
وقد كان للديانتين اليهودية والنصرانية فضل كبير على أهلهما في نشر الكتابة والعلوم بينهم إذ صارت معابدهم مدارس يتعلم فيها الناس أصول ديانتهم ومبادئ المعرفة والكتابة والقراءة لمن يرغب من الأطفال، كما أدت حاجة الديانتين إلى رجال دين يقومون بتثقيف الناس وتعليمهم أصول دينهم ونشر ديانتهم بين الوثنيين، أو بين أصحاب الديانات الأخرى، إلى تكوين معاهد خاصة لتخريج هؤلاء الرجال، ألحقت بالمعابد، درسوا فيها الكتب المقدسة وما وضع عليها من تفاسير وشروح، ومما يتعلق بشرحها من دراسة للغات وفلسفة وجدل وأمور أخرى لها علاقة وصلة بالديانات. وقد كان من بين هؤلاء الرجال أناس أذكياء ذوو نظر واسع، فلم
__________
1 إمتاع الأسماع، للمقريزي "1/ 101".
2 ديوان الشماخ "16"، ديوان زهير "5".
3 شرح ديوان حسان "ص213 وما بعدها" "البرقوقي".(15/293)
يكتفوا بحفظ ما ورد إليهم، وبالتعصب لكل ما تلقنوه، بل تتبعوا ثقافات غيرهم وعلومهم، ودرسوا اللغات والفلسفات الأخرى، وكوّنوا لهم آراء خاصة اعتمدت على استعمال العقل والمنطق، فظهر النقد عندهم، والنقد يخلق الرأي.
والبيت هو المدرسة عند الجاهليين وعند غيرهم من شعوب ذلك الزمن، فيه يتعلم الطفل، وإليه يرد المعلم لتعليم أولاد الموسرين ما يحتاجون إليه من كتابة وعلم بأجرة تدفع إليه، وفيه قد يتعلم الطفل الكتابة من الرقيق المجلوب الذي كان له حظ من العلم. وفيه تشرف أمه على تربيته وإدارته ما دام صغيرًا، ثم يشرف عليه أبوه فيلقنه شئون الصنعة وأمور الحياة متى تجاوز الخامسة أو السابعة من عمره.
وفي البيوت والطرقات والأزقة يلعب الأطفال، أما الشبان، فقد كانوا يتبارون بالألعاب في الساحات العامة خارج المدن، والقرى في الغالب. يتسابقون بركوب الخيل وبالمصارعة وبالجري وبرمي السهام. وقد يخرجون إلى الصيد ولا يزال أطفال جزيرة العرب يلعبون بعض الألعاب التي كان أطفال الجاهلية وشبانهم يلعبونها قبل الإسلام.
وقد قامت المعابد بدور فعّال ناشط في نشر القراءة والكتابة. وإذا كنا نجهل اليوم موقف معابد الوثنيين من تعليم القراءة والكتابة بها، فإننا لا نستطيع أن ننكر موقف "الكنيس" و"المدراش" "المدارس" عند اليهود، و"الكنائس" عند النصارى من تنشيط التعليم وتهيئة الأطفال لتعلم القراءة والكتابة، لخدمة الدين، أو للأغراض التثقيفية والشئون الخاصة بالحياة. وقد قام "المدراش" وقامت الكنيسة بدور فعال في تعليم الناس أمور دينهم وشرح ما ورد في التوراة وفي الإنجيل إلى المؤمنين بهما. فقد كان أحبار يهود "يثرب" وقرى "وادي القرى" يجلسون في المعابد ليفسروا للناس أحكام شريعة يهود.
والمدراس، لفظة عبرانية الأصل، هي "مدرش" Midrash، وتعني بحث وشرح نص1. وقد أطلقت على المكان الذي تدرس فيه التوراة. فصار بمثابة المدرسة، يقصده اليهود للتفقه فيه والتعلم، وقد قصده الجاهليون أيضًا ليسمعوا ما عند يهود. كما قصده المسلمون. وقد كانت لليهود جملة بيوت عبادة يجلس فيها أحبارهم للإفتاء ولشرح الكتب المقدسة لتلامذتهم وللناس. فكانت بيوت عبادة ومدارس للتعليم.
__________
1 Hastings, p. 149.(15/294)
وقد كان الجاهليون يسألون اليهود عن تواريخ الماضين وقصص الأولين والأنبياء والمرسلين. وعن بعض المشكلات الدينية مثل الحياة بعد الموت وأمثال ذلك مما تعرضت له اليهودية. وقد لجأ إليهم أهل مكة الوثنيون يسألونهم عن أشياء عويصة لليهود علم بها، ليمتحنوا بها الرسول1.
وقد ورد في الأخبار أن "بعض اليهود قد علم كتاب العربية. وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون"2.
وقياسًا على ما نعرفه من تخصيص الكنائس مواضع خاصة ملحقة بالكنائس لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، فإننا نستطيع أن نقول: إن الكنائس التي كانت في جزيرة العرب في نجران مثلًا أو في صنعاء أو في عدن أو في قطر، لم تكن مستثناة من هذه العادة. وإن كنا لا نملك دليلًا نستند إليه في إثبات قيام الكنائس في جزيرة العرب بتعليم الأطفال القراءة والكتابة.
أما بالنسبة لكنائس العرب في العراق، فإن لدينا شواهد بينة تثبت قيام الكنائس بتعليم الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ الدين. وتثبت وجود مكان خاص خصص بالأطفال ليتعلموا فيه. فقد جاء في أخبار "عين التمر" أن خالد بن الوليد لما دخل حصن عين التمر وغنم ما فيه وجد في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل عليهم باب مغلق، فكسره عنهم3. وذكر أن تلك البيعة كانت في النقيرة من أطراف عين التمر4.
وورد في الأخبار أن من أهل الحيرة من كان يتعلم العربية، يقرأ بها ويكتب ويتفقه ويتأدب، كالذي حدث لزيد والد "عدي بن زيد العبادي"، ولابنه "عدي"، وأن منهم من كان يتعلم الفارسية، إذ فيها جماعة من الفرس، ومنهم من يتعلم الإرمية، لغة "بني إرم"، ومنهم من تعلم العربية والفارسية وأجاد بها كتابة ونطقًا، وتولى الكتابة بهما عند الفرس مثل "عدي بن زيد
__________
1 ابن هشام "1/ 274".
2 فتوح البلدان "479"، المعارف "192"، الطبري "3/ 377"، "دار المعارف"، البلدان "4/ 807 وما بعدها"، الأغاني "2/ 101"، المجدل لعمرو بن متى "31، 35، 41، 44، 49، 71،".
3 الطبري "3/ 377" "دار المعارف بمصر".
4 البلدان "4/ 807 وما بعدها".(15/295)
العبادي" وابنه "زيد بن عدي" وغيرهما من آل "زيد" والعباديين نصارى الحيرة1.
ولما فتح خالد "الأنبار": "رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قومٍ من العرب قبلنا، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها، فقال: ممن تعلمتم الكتابة؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشده قول الشاعر:
قومي إيادٌ لو أنهم أممٌ ... أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم2
وهو شعر نسب قوله إلى الشاعر "أمية بن أبي الصلت"، ذكر أنه مدح به بني إياد3. ومعنى هذا، أن "بني إياد" كانوا قد عُرفوا بالكتابة في العراق، ولهذا وضعوا هذه القصة في كيفية نشوء الكتابة العربية، وإياد من القبائل العربية القديمة التي نزحت من البحرين إلى العراق.
وقد كان العرب في الأنبار، والحيرة، وعين التمر والمواضع الأخرى يحتمون بأبنية محصنة، يقيم بها ساداتهم، وتكون مواضع دفاعهم أيام الخطر، يقولون لها: "القصور". وقد كانت الحيرة مؤلفة من جملة "قصور"، ولا يزال عرب الفرات يطلقون لفظة "القصر" على المواضع الحصينة المقامة في البادية، لصد غارات المهاجمين، مثل "قصر الأخيضر"، و"قصر العين"، في ناحية "عين التمر". وتحتمي الكنائس وبيوت الناس بهذه القصور، ولما فتح "خالد بن الوليد" "عين التمر"، بعث إلى "كنيسة اليهود، فأخذ منهم عشرين غلامًا وصار إلى الأنبار"4، وهو خطأ؛ لأن الذي نجده في الموارد الأخرى، أن "خالد بن الوليد"، لما فتح حصن "عين التمر" وجد في كنيسة جماعة يتعلمون سباهم، فكان من ذلك السبي: "حمران بن أبان بن خالد" التمري،
__________
1 الأغاني "2/ 101".
2 الطبري "3/ 375"، "حديث الأنبار".
3 ابن هشام، سيرة "1/ 48".
4 اليعقوبي "2/ 123"، "النجف 1964".(15/296)
و"سيرين" أبو "محمد بن سيرين" المشهور بتفسير الأحلام، و"أبو عمرة" جدّ "عبد الأعلى" الشاعر، و"يسار" جدّ "محمد بن إسحاق" صاحب "السيرة"، و"نصير" أبو "موسى بن نصير"1، وذكر "الطبري" أن "خالد بن الوليد" وجد "في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم في أهل البلاد2. وقد كان كل هؤلاء من الكتّاب القارئين للإنجيل الدارسين لعلوم الدين، فأسلموا وبرز أبناؤهم في المجتمع الإسلامي.
وفي خبر "وفد نجران" الذي قدم على الرسول، إفادة بوجود مواضع لتعليم أمور الدين، وتثقيف الناس بما يلزم من ثقافة، فقد ورد أن أسقف نجران كان حبرهم، وإمامهم، وصاحب مدارسهم "صاحب مدراسهم"3، أي: الموضع الذي يتدارسون فيه، والغالب أن يكون ذلك المكان في الكنيسة على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، كما صار المسجد موضعًا للتعليم.
وقد كان يهود الحجاز والمواضع الأخرى من جزيرة العرب يلحقون بكنيسهم كتّابًا يعلمون به أطفالهم أصول القراءة والكتابة، كما كان أحبارهم يتخذون به مجلسًا لتعليم اليهود أمور دينهم وللإفتاء بينهم في أمور الشرع، وفضّ ما قد يقع بينهم من خلاف. وكذلك كان شأن نصارى العرب اتخذوا من كنائسهم مواضع للتدريس ولتعليم القراءة والكتابة كالذي رأيناه بين نصارى العراق. ولا أستبعد احتمال اتخاذهم مدارس في قرى البحرين، التي كانت بها جاليات نصرانية كبيرة وكذلك في اليمامة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة وأصول الدين.
__________
1 البلاذري، فتوح "248".
2 الطبري "3/ 377".
3 طبقات ابن سعد "1/ 357" "طبعة صادر".(15/297)
مواد الدراسة:
لم نعثر على أي نص جاهلي فيه شيء عن التدريس وعن مواد الدراسة عند الجاهليين لنستنبط منه مادة عن الدراسة عند عرب الجاهلية، غير أننا إذا ما(15/297)
أخذنا بما جاء في الموارد النصرانية الشرقية عن التربية والتعليم عند نصارى العراق وعن مواد المعرفة التي كانوا يعلمونها للتلاميذ ولطلاب المدارس العالية، فإننا نستطيع أن نقول إن مدارس الأنبار والحيرة والقرى العربية الأخرى، لا بد وأن تكون قد سارت وفقًا لمنهج أهل العراق في تعليم أبنائهم في ذلك الوقت. من تعليم مبادئ القراءة والكتابة وإجادة الخط وشيء من الحساب والأمثال والحكم ومبادئ الدين. وهي المواد الرئيسية التي كانت تعلم في الكتاتيب في بلاد الشرق الأوسط في ذلك الوقت، والتي لا تزال تدرس في الكتاتيب القديمة حتى اليوم.
والعادة في الكتاتيب حتى الآن في تعليم الخط للأطفال، أن يخط المعلم أو "خليفته" أو من يقوم مقامه من التلامذة المتقدمين، سطرًا من الحكم والأمثال أو من الكتب السماوية، لينقش التلميذ سطورًا مثلها على لوح يحاول الإجادة جهد إمكانه في كتابتها لتقوية يده على الخط. وقد كان العبرانيون يعلمون الآية: "رأس الحكمة مخافة الرب"، "رأس الحكمة معرفة الله"، "مخافة الرب رأس الحكمة"1، في أول ما كانوا يعلمونه لتلامذتهم2. ويعلمونهم أمثال ذلك من الحكم والأمثال الواردة في التوراة. ولا يستبعد أن تكون هذه الأمثال والحكم في مقدمة ما كان يدرسه المعلمون اليهود في مستوطناتهم في بلاد العرب بتيماء ووادي القرى وقرى المدينة.
وورد أن نصارى العراق، درسوا في مدارسهم لغة بني إرم، لغة الثقافة والعلم آنذاك، درّسوا مفردات اللغة وقواعدها وأصولها، وعلّموا معها مبادئ العربية وقواعدها وآدابها في الأرضين التي كانت غالبية سكانها من العرب3. ونجد في الموارد النصرانية إشارات تشير إلى تدريس العربية في الأنبار وفي الحيرة، ولا يعقل أن يكون المراد من العربية، الكتابة والقراءة بها فقط، بل لا بد وأن يُعلم معها شيء من أصول الكتابة من كيفية قط القلم ورسم الحروف، وأنواع الخطوط، ثم الأمثال والحكم، وقواعد اللغة وآدابها، أي: منهج المدارس المقرر في الشرق الأدنى في ذلك العهد. وقد كان رجال الدين يسيرون عليه ويتبعونه في مدارسهم. وكان لهم علم بقواعد وبلغة بني إرم.
__________
1 سفر الأمثال، الإصحاح الأول، الآية 7.
2 Hastings, p. 204.
3 تأريخ كلدو وآثور "2/ 7".(15/298)
أما عن تعليم الأطفال في جزيرة العرب، فلا نستطيع التحدث عنه بصورة جازمة لعدم ورود شيء عن ذلك في الكتابات الجاهلية أو في روايات أهل الأخبار. ويمكن أن نقول باحتمال تعليم الأطفال في المواضع التي وجدت النصرانية إليها سبيلًا، مثل مدينة "نجران" وبعض مواضع من سواحل الخليج، على النمط الذي كان متبعًا عند نصارى العراق وبلاد الشأم من تعليم مبادئ القراءة والكتابة وتحسين الخط ومبادئ أمور الدين. ثم المعارف العالية مثل اللغة والعلوم اللاهوتية والطب وما شاكل ذلك، للمتفوقين من الطلاب من أصحاب المواهب والقابليات، وذلك لأن الكنيسة كانت تتبع نظامًا واحدًا في التعليم؛ ولأن الذين كانوا يبشرون بالنصرانية بين العرب، كانوا من أهل العراق في الغالب، وقد درّسوا عرب العراق وعرب مواضع أخرى في جزيرة العرب، وقد درسوهم على طريقة تدريس الكنيسة الشرقية، فيحتمل لذلك أن يكون التدريس على نمط واحد في مدارس الكنيسة، ولا أستبعد احتمال تدريس السريانية لهؤلاء الطلاب، باعتبار أنها لغة الدين وتساعد في فهم الأناجيل والكتب النصرانية والعلوم.
وقد ورد أن: عمر بن الخطاب، كان يقول في تربية الأولاد وتثقيفهم: "علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبًا، وروّوهم ما يجمل من الشعر"1. وذكر أنه كتب إلى الأمصار: "أما بعد، فعلموا أولادكم العوم والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحَسُنَ من الشعر"2، وأن الرسول دعا لمعاوية، فقال: "اللهم علمه الكتاب والحساب" 3. ويظهر أن هذا التوجيه في تربية النشء كان معمولًا به عند الجاهليين.
ويظهر أن الحث على تعلم السباحة، إنما ظهر في الإسلام، بعد الفتوح، وذلك بعد أن اتصل العرب، بالأنهار الواسعة العميقة وبالبحار، فأجبرهم الواقع على تعلم العوم. ونجد "الحجاج" يقول لمعلم ولده: "علِّم ولدي السباحة قبل الكتابة، فإنهم يصيبون من يكتب عنهم ولا يصيبون من يسبح عنهم"4.
__________
1 المبرد، الكامل "1/ 155".
2 البيان "2/ 180"، "2/ 116"، "القاهرة 1932م".
3 البيان "2/ 116"، "1932م".
4 البيان "2/ 179".(15/299)
وقد كان "عمر" يتهيب البحر، فأوصى قواد جيشه بالتأني في ركوب البحر، خشية غرق المسلمين.
والمثل والشعر من أهم المواد التي كان يعتني بها الجاهليون. وكان أهل الكتاب يعتنون بالمثل وبما ورد في الكتب المقدسة من حكم، وبالشعر كذلك في تعليم أطفالهم في الكتاتيب.
وذكر "الهمداني"، أن "عمر بن الخطاب"، قال: "تعلّمون من النجوم ما تهتدون به، ومن الأنساب ما تعارفون به وتواصلون عليه، ومن الأشعار ما تكون حِكَمًا، وتدلكم على مكارم الأخلاق"1.
ويقوم بالتعليم معلمون، امتهنوا التعليم واتخذوه حرفة لهم. ومنهم من اتخذه حرفة رئيسية له، إذ كان يمارس حرفًا أخرى، ليتمكن بذلك من إعاشة نفسه. ولما كان التعليم الابتدائي الذي يقوم على تعليم الخط والقراءة والكتابة وبعض المبادئ الأخرى شيئًا بسيطًا لا يحتاج إلى علم كبير ومعرفة، لذلك لم يشترط في متعاطيه أن يكون من أصحاب العلم، بل قام به من وجد في نفسه قابلية تعليم الأطفال من رجال الدين ومن غيرهم، على نحو ما نجده في المدارس القديمة التي تقوم بتعليم الأطفال القراءة والكتابة لهذا اليوم.
ولم يرد في الكتابات الجاهلية شيء يتعلق بأسماء المعلمين الجاهليين. لذلك لا نستطيع أن نذكر اسم معلم من معلمي الجاهلية بالاستناد إليها. أما أهل الأخبار، فقد تعرض نفر منهم لذكر بعض المعلمين الذين عاشوا قبل الإسلام، والذين أدرك بعض منهم الإسلام. فذكر "محمد بن حبيب" في الفصل الذي سماه: "أشراف المعلمين وفقهاؤهم"، اسم "بشر بن عبد الملك السكوني" أخو "أكيدر بن عبد الملك" صاحب "دومة الجندل"، فذكر أنه كان في جملة المعلمين2. وإليه ينسب أهل الأخبار نشر الكتابة بمكة على نحو ما بينت ذلك في موضوع تأريخ الخط.
وأشار "ابن حبيب" إلى "أبي قيس بن عبد مناف بن زهرة"، وهو جاهلي، على أنه من أشراف المعلمين. كما أشار إلى "عمرو بن زرارة بن عدس
__________
1 الإكليل "1/ 6 وما بعدها".
2 المحبر "475".(15/300)
ابن زيد"، وهو جاهلي كذلك في جملة من أشار إليهم من المعلمين. وذكر أنه كان يُسمى "الكاتب". وأشار أيضًا إلى "غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي"، وهو من المخضرمين. على أنه كان من أشراف المعلمين1. وهو من الشعراء الحكماء، إذ كان أحد حكام "قيس" في الجاهلية. وكان أحد وجوه ثقيف، وقيل إنه أحد من نزل فيه: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، وإنه كان صاحب تجارة، وقد سافر في قوم من تجار ثقيف وقريش وعلى رأسهم "أبو سفيان" إلى العراق، للتجارة، فوصلوا إلى "كسرى" فتكلم معه باسم التجار، فأعجب به، واشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها وبعث معه من بنى له أطمًا بالطائف، فكان أول أطم بني بها. وذكر أن كسرى لما كلمه ووقف على حكمته قال له: "هذا كلام الحكماء، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم فما غذاؤك؟ قال: خبز البر، قال: هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر"2. في حديث يقصه أهل الأخبار وكأنهم كانوا شهود عيان.
ولا بد وأن يكون في ثقيف قوم كانوا مهرة في الكتابة، لهم خط حسن وإملاء صحيح، وذلك فيما إذا أخذنا بصحة الأخبار الواردة عن تدوين القرآن وجمعه من قولهم إن الخليفة "عمر" أو "عثمان"، قال: "اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف"، إذ لا يعقل النص على أن يكون الكاتب من ثقيف من غير سبب، اللهم إذا اعتبرنا الخبر من الموضوعات التي صنعت في أيام الحجاج، للتقرب إليه، ولرفع شأن ثقيف، بعد أن ظهرت أخبار في أيامه، رجعت نسب ثقيف إلى قوم ثمود، وصيرت "أبا رغال" خائن العرب إلى غير ذلك من أخبار تحدثت عنها في أثناء حديثي عن ثمود وعن قبيلة ثقيف.
وكان "جفينة" العبادي من أهل الحيرة، وكان نصرانيًّا، قدم المدينة، وأخذ يعلم بها الكتابة في أيام الخليفة "عمر". وكان ظئرًا لسعد بن أبي وقاص. فاتهمه "عبد الله بن عمر" بمشايعة "أبي لؤلؤة" على قتل أبيه فقتله3.
__________
1 المحبر "475".
2 الإصابة "3/ 186 وما بعدها"، "رقم 6926"، الاستيعاب "3/ 186 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 فتوح البلدان "460"، "أمر الخط"، ابن سعد، الطبقات "3 القسم الأول ص258"، الطبري "5/ 42".(15/301)
وورد في كتب الحديث "عن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أنه قال: أتانا معاذ بن جبل -رضي الله عنه- باليمن معلمًا وأميرًا"1. وقد أرسل الرسول معاذًا إلى اليمن ليعلمهم الفرائض وأحكام الدين. وإذا صح النص، صار دليلًا على شيوع لفظة "معلم" في ذلك العهد.
ووردت لفظة "المعلم" في رسائل "عمر" إلى عماله، ففي رسالة له "إلى أهل الكوفة": "إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا"2. وأراد بلفظة المعلم، من يعلم الناس ويرشدهم ويفقههم في أمور الدين. وكانوا يطلقون على من يعلم الكتابة في "الكتّاب": معلم كتّاب. والكتّاب والمكتب، الموضع الذي يتعلم به.
ولست أعلم شيئًا عن مدى تقدم علم الحساب عند الجاهليين. وكل ما أستطيع أن أقوله، هو أنهم كانوا يعلّمون أولادهم مع الخط مبادئ الحساب والمعرفة، وهي الجمع والطرح والضرب والتقسيم، وذلك لحاجتهم إليها في حياتهم اليومية، ولا سيما بالنسبة إلى التجار أصحاب المصالح الكبيرة، إذ تدفعهم الحاجة إلى ضبط أعمالهم وحسابهم. وقد ذكر أهل الأخبار أن الجاهليين استعملوا حساب عقود الأصابع في حسابهم، فوضعوا كلًّا منها بإزاء عدد مخصوص، ثم رتبوا لأوضاع الأصابع آحادًا وعشرات ومئات وألوفًا، ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة. وقد أشير إلى حساب اليد في الحديث، كما استعملوا العدّ بالحصى، وبه يحسبون المعدود3. والعدّ برسم خطوط، فيدل كل خط على عدد، ومجموع الخطوط هو المعدود.
وورد في الأخبار أن الرسول دعا لمعاوية بقول: "اللهم علّمه الكتاب والحساب"4، وقد نعت بأنه كان من الكتبة الحسبة الفصحاء5، والحديث المذكور من أحاديث أهل الشأم6، ولهم أحاديث أخرى في الثناء على "معاوية"، وهي
__________
1 إرشاد الساري "9/ 429".
2 خورشيد أحمد فاروق، حضرت عمر "116"، "رقم 207، 208، 209".
3 بلوغ الأرب "3/ 379 وما بعدها".
4 البيان والتبيين "2/ 116".
5 الإصابة "3/ 412" "رقم 8070".
6 الاستيعاب "3/ 381" "حاشية على الإصابة".(15/302)
من الأحاديث التي أوجدتها العصبية السياسية، على نحو ما نجد من أحاديث في "عبد الله بن عباس" وفي العلويين. وقد روي الحديث المذكور في حق أشخاص آخرين. وقد وضعت أحاديث في مدح معاوية وبني أمية. وأرى أن الحديث المذكور وضع في مقابل حديث "اللهم علمه الحكمة"، الذي روي أن الرسول قاله في "ابن عباس"، وحديث: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" أو "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب"، و "اللهم بارك فيه وانشر منه"، وأحاديث أخرى ذكر أنها قيلت فيه1.
وأما ما نسب إلى الرسول من قوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا" فإنه حديث ضعيف، وقد ورد أيضًا أن رجلًا قال: ما كنت أظن أن عددًا يزيد على ألف2، وهو قول ينطبق على حالات فردية لأعراب، ولا يمكن أن ينطبق بالنسبة للحضر، ولا سيما لأهل مكة الذين كانت لهم تجارة ضخمة وقوافل تذهب إلى مختلف الأنحاء، تحمل تجارة تقدر أثمانها بعشرات الألوف، فهل يعقل صدور مثل هذا الحديث من الرسول؟
وقد كان الجاهليون يتراسلون بينهم، فيكتبون كتبًا إلى من يريدون مراسلته. والكتاب هو صحيفة قد تكون من جلد، أو من مادة أخرى. وقد ذكر أن الرسول كتب كتابًا إلى "بني حارثة بن عمرو بن قريظ"، فأخذوا الكتاب وغسلوه، ثم رقعوا به دلوهم3. ويدل هذا على أن الكتاب كان صحيفة من جلد.
والرسائل من حقول التدوين المهمة عند الجاهليين. وهي رسائل قد تكون في أمور خاصة، كرسائل أب إلى ابنه أو العكس ورسائل أصدقاء وأقارب من ذوي الأرحام، وهي تتناول مسائل شخصية خاصة تهم المتكاتبين. وقد تتناول الأحداث التي يكون لها شأن عند الناس وخطر، فيكتب المتكاتبون عنها، لما فيها من أهمية ولذة بالنسبة لهم. وقد تكون الرسائل إخبارية، كأخبار عن تجارة ومعاملة أو عن حدث وقع أو غزو أو قرب وقوع حرب أو إخبار بهجوم عدو ومقدار قوته وما شاكل ذلك من أمور، ذات أهمية خاصة، بالنسبة للمرسل إليهم.
__________
1 الإصابة "2/ ... ".
2 الأحكام السلطانية "192".
3 إمتاع الأسماع "1/ 441".(15/303)
ونجد في كتب أهل الأخبار صور رسائل في أمور ذات طابع إخباري. منها رسائل دوّنت بعبارات واضحة صريحة، يظهر أن أصحابها كانوا مطمئنين من عدم إمكان سقوطها في أيدٍ عدوةٍ فتقف على ما جاء فيها، لذلك كتبوها بعبارات مفهومة مكشوفة. ومنها ما كتبت شعرًا كالذي روي من إرسال شعر كتبه "لقيط بن يعمر الإيادي" لقومه يحذرهم فيه من كسرى1. أو نثرًا وقد كتبها أصحابها على شيء لا يلفت النظر، كحدوج الجمال المسافرة إلى جهة معينة، لتقرأ هناك، أو رسائل لا تلفت النظر ولكنها ذات معانٍ مفهومة عندما ترسل إليه، وقد تحمل الرسالة لرسول لينقلها شفاهًا إلى من يراد إخبارهم خبرًا، وذلك في الأمور الهامة بالطبع، التي لا يمكن الإفصاح عنها، لما لها علاقة بحروب أو غزو أو وضع أسير واقع في عذاب أسر آسريه، ويريد إبلاغ أهله بذلك ليخلصوه من وضعه السيئ.
ومن رسائل الإخبار، الرسائل التي كتبها المسلمون المتخفون أو المشركون الميالين للمسلمين على قريش، يخبرون فيها الرسول وأصدقاءهم المسلمين بأمر قريش وعورتهم واستعدادهم ليكونوا على حذر منها، والرسائل التي كتبها بعض المسلمين الذين لم يكن الإسلام قد تمكن بعد من قلوبهم، أو كتبوها شفقة لبعض أصدقائهم من المشركين عن الإسلام والمسلمين. ومنها كتاب "حاطب بن أبي بلتعة" إلى صفوان بن أمية وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل. يقول فيه: "إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي إليكم". وأعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة، وجعل لها مبلغًا من الدنانير على أن تبلغه قريشًا. وقال: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فإن عليه حرسًا. فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها وسلكت على غير نقب، فبلغ الرسول أمرها، فأرسل من قبض على الرسالة. وتوسل حاطب إلى الرسول، بأن يعفو عنه؛ لأنه كان رجلًا ليس له في القوم أصل ولا عشيرة، فصاروا له أهلًا واعتبروه ولدًا فصانعهم فعفا عنه. ونزل الوحي في شأنه في سورة الممتحنة2.
__________
1 ابن قتيبة، الشعر "97 وما بعدها" الأغاني "20/ 23 وما بعدها".
2 الآية 1، إمتاع الأسماع "363".(15/304)
وفي كتب السير والتواريخ إشارات إلى مخابرات أرسلها مسلمون إلى ذوي رحمهم، يطلبون إليهم الدخول في الإسلام، وبأن الرسول سيعفو عنهم ويغفر لهم ما بذر منهم من إساءة إليه إن جاءوا إليه مسلمين، من ذلك، ما كتبه "بجير" إلى أخيه "كعب بن زهير بن أبي سلمى"، يطلب منه الدخول في الإسلام، والتوبة، وإلا فمصيره كمصير "ابن خطل" الذي كان يمعن في هجاء الرسول، فقتل1. ومن ذلك كتاب "الوليد بن الوليد" إلى أخيه "خالد بن الوليد"، يدعوه إلى الإسلام، فجاء مسلمًا2.
ويذكر أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كانوا يستفتحون كتبهم بجملة: "باسمك اللهم"، ويذكر بعضهم أن أمية بن أبي الصلت كان هو الذي ابتدع هذه البدعة. فمشت بين الناس. وصارت سنة لأهل مكة في تدوين رسائلهم. فجعلوها في أول كتبهم. فكانت قريش تكتب بها. وبها افتتح الرسول كتبه في بادئ أمره، ثم أبدلت باسم الله بعد نزول سورة هود, ثم باسم الرحمن، بعد نزول سورة إسرائيل، ثم بسم الله الرحمن الرحيم، بعد نزول سورة النمل3.
وكان من رسم الجاهليين إذا كتبوا أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان. ونجد هذا الأسلوب في كتب رسول الله4.
وتختم الرسالة بخاتم كاتبها أو بتدوين اسمه في نهايتها. كأن يقول: "وكتب فلان" أو "كتب فلان". وقد ورد في كتب السير، أن الرسول حين همّ بتوجيه الكتب إلى قيصر وكسرى وغيرهما، قيل له: إن الروم لا يقرءون كتابًا غير مختوم بختم صاحب الرسالة، فأمر بصنع خاتم له، ختم به كتبه، وورد أن قريشًا حين ائتمرت بمقاطعة بني هاشم وبني المطلب، وكتبت بذلك صحيفة، ختمت عليها ثلاثة خواتيم، وعلقوها في سقف الكعبة5.
__________
1 الإصابة "3/ 279"، "7413".
2 نسب قريش "324".
3 الجهشياري "12 وما بعدها"، الاقتضاب، للبطليوسي "103 وما بعدها"، أدب الكتاب، للصولي "31"، الأغاني "3/ 123"، تفسير الطبري "19/ 59 وما بعدها"، تفسير الطبري "15/ 121 وما بعدها".
4 القرطبي، الجامع "13/ 192 وما بعدها".
5 إمتاع الأسماع "1/ 25".(15/305)
وأشير إلى الخاتم في شعر لامرئ القيس. فورد فيه:
ترى أثر القَرْح في جلده ... كنقش الخواتم في الجرجس
والجرجس: الشمع، وقيل هو الطين الذي يختم به، وقيل هو الصحيفة. وبكل من ذلك فسر قول الشاعر المذكور1. ومن معاني "الجرجس" البعوض الصغير2. ويظهر أن اللفظة من المعربات، عُربت عن الإرمية. فهي تعني البعوض الصغير، إذا قيل Gargso، وهي تعني الصلصال والطين الذي يختم به إذا قيل3 Garguechto.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من ختم رسائله "عمرو بن هند"4. وذكر علماء اللغة أن خاتم الملك الذي يكون في يده يُسمى "الحِلق" وأنشدوا في ذلك:
وأُعطيَ مِنَّا الحِلْقَ أبيضُ ماجِدٌ ... رديفُ مُلوكٍ ما تَغبُّ نوافِلُهْ
كما أنشدوا بيتًا للشاعر جرير، ذكر فيه "الحلق": حلق المنذر بن محرق إذ قال:
ففاز بحلق المنذر بن محرق ... فتى منهم رخو النجاد كريم5
وذكر أيضًا أن الحلق خاتم من فضة بلا فص6. ويظهر من ذلك أن الملوك كانوا يصطنعون خاتمًا لهم، يكون دليلًا على صدق رسائلهم وأوامرهم، يحملونه معه، أو يودعونه عنه كاتم أسرارهم، وعلى ذلك جرى الأمر في الإسلام. فقد سار الخلفاء على سُنَّة الرسول من اتخاذه خاتمًا يختم به الرسائل، والكتب والأوامر، وبقي الأمر كذلك عند من جاء بعده من الخفاء.
__________
1 ديوان امرئ القيس "102"، "سندوبي"، الاقتضاب، للبطليوسي "97" برواية أخرى، تاج العروس "4/ 118"، "الجرجس".
2 تاج العروس "4/ 118"، "الجرجس".
3 غرائب اللغة "176".
4 الاقتضاب، للبطليوسي "104".
5 تاج العروس "6/ 324"، "حلق".
6 تاج العروس "6/ 324"، "حلق".(15/306)
والخاتم ما يوضع على الطينة وما يختم به. والختام الطين أو الشمع أو الحبر أو أي مادة أخرى تترك أثرًا يختم بها على الشيء1. وختم الأوراق والرسائل من العادات القديمة المستعملة عند الشعوب. ويقوم الخاتم مقام التوقيع في وقتنا الحاضر وختم رسالة معناه المصادقة عليها وتصديقها. واستعمل الخاتم في ختم الأوراق العامة والأوراق الشخصية والعقود والمعاملات. وكان الشخص إذا أراد إرسال رسالة ختمها، ولذلك كانوا يحملون خواتمهم معهم، إما في جيوبهم وإما في أصابعهم وقد يضعونها في سلسلة يعلقونها حول أعناقهم2.
وقد صنع الخاتم من مواد مختلفة. صنع من ذهب ومن فضة ومن معدن آخر ومن الحجر. وقد كتب على بعض الخواتم اسم صاحبه، ونقشت أمثلة وحكم وعبارات دينية أو أسماء الآلهة على بعض الخواتم. كما حفرت على بعض منها صور ترمز إلى رموز مقدسة أو صور حيوانات. وعثر على خواتم في العربية الجنوبية، وبها فصوص من أحجار ثمينة من أحجار اليمن الشهيرة. وقد كان يستعملها الناس إذ ذاك في التوقيع على رسائلهم ومخابراتهم ومعاملاتهم. ولا زال الناس يعثرون على خواتم جاهلية في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، فيستعملونها لتزيين أصابعهم بها.
وبعد أن تختم الرسالة، توضع داخل ظرف، حتى لا يطلع عليها أحد ثم يغلق، ثم يختم على موضع فتحه بالطين أو على المواضع التي يحتمل أن يفتح منها حتى تكون في مأمن تام. فلا يقف عليها إلا من أرسلت له. فإذا وصلته، ووجد أن خاتمها سليم، كسره، ليستخرج الرسالة من ظرفها. وكانت الكتب هلى هيئة لفائف. وكان من عادة الشعوب القديمة أن المكتوب إذا أريد إرساله إلى شخص من طبقة أدنى من طبقة الكاتب، أي: صاحب الرسالة، أرسل المكتوب إليه منشورًا، أما إذا كان المكتوب إلى شخص مكافئ لصاحب الكتاب أو أعلى منزلة منه، أرسل مختومًا وموضوعًا في كيس3.
ولحماية الأشياء من التطاول والتجاوز عليها لجئوا إلى طبعها وختمها، فختموا
__________
1 تاج العروس "8/ 266"، "ختم"، اللسان "12/ 163"، "ختم".
2 Hastings, p. 833.
3 نحميا، الإصحاح السادس، الآية 5، قاموس الكتاب المقدس "2/ 253".(15/307)
الأكياس التي تملأ بالنقود أو بأي شيء آخر، وختموا زق الخمرة حتى لا يتطاول عليه متطاول. قال الأعشى:
وصهباء طاف يهوديها ... وأبرزها وعليها خَتَمْ1
كما ختموا الطعام بالروسم، وهو خشبة مكتوبة بالنقر. أو لويح فيه كتاب منقور، تختم به الأكداس2. وقيل له "الروشم" أيضًا في لغة السواد3. وكلمة "رشم"، تعني "كتب" في الإرمية. و"راشوم"؛ بمعنى لوح منقوش تختم به البيادر في لغة بني إرم، Rouchmo، وتعني علامة4.
وكان من عادتهم ختم الأمور المهمة أيضًا خشية ضياعها أو التطاول عليها أو لحفظها. فلما كتب أهل مكة فيما بينهم كتابًا يتعاقدون فيه ألا يناكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يُسلّموا إليهم محمدًا. كتبوا بذلك صحيفة ختموا عليها ثلاثة خواتيم، وعلقوها في سقف الكعبة5. ويظهر أنهم بعد أن كتبوا الصحيفة وضعوها في ظرف ثم سدّوه وختموا عليه ثلاثة خواتيم، حتى لا يفتح الظرف. أو أنهم طووها بعد أن كتبوها ثم ختموا عليها حتى لا تفتح، فلما أرادوا فتحها وجدوا أنها قد تهرأت وتلفت من فعل لعب الأرضة بها. ويجوز أنهم ختموا عليها ثلاثة خواتيم. بخواتيم الكتبة الثلاثة الذين نسبت كتابتها إلى كل واحد منهم، بحسب اختلاف الروايات. وهم: منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، أو النضر بن الحارث، أو بغيض بن عامر بن هاشم.
__________
1 مصادر الشعر الجاهلي "76".
2 تاج العروس "8/ 312"، "رسم".
3 تاج العروس "8/ 313"، "رشم".
4 غرائب اللغة "183".
5 إمتاع الأسماع "1/ 25".(15/308)
الكاتب:
والكاتب في اصطلاحنا هو الذي خصص نفسه بالكتابة، أو من يقوم بعمل(15/308)
كتابي، أو من اشتهر وعرف بحذقه في فن الكتابة. وذكر علماء اللغة أن الكاتبين، هم الكتبة وحرفتهم الكتابة. وذكروا أن الكاتب في أيام الجاهلية: العالم. "وفي كتابه إلى أهل اليمن: قد بعثت إليكم كاتبًا من أصحابي. أراد عالمًا سُمي به لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرفة"1. والواقع أن نسبة العلم للكتاب، لم تكن نظرة أهل الجاهلية وحدهم بالنسبة إلى كتّابهم، بل كانت وجهة نظر شعوب العالم كلها إلى الكتبة في ذلك العهد؛ لأن أكثر كتّاب تلك الأيام كانوا من أبناء العوائل المتمكنة ومن أبناء طبقة رجال الدين, وكانوا يتعلمون إلى جانب الكتابة في الغالب علم اللسان، كالعربية بالنسبة إلى العرب والإرمية بالنسبة إلى بني إرم، وشيئًا من الأدب من منظوم ومنثور وحساب وأمثال وحكم، لذلك يخرج المتعلم، وقد تثقف بثقافة تجعله فوق مستوى أقرانه، فيكون بعلمه هذا أعلم من غيره وأدرك منهم بشئون الحياة. ومن هنا صار أعلم من بقية الناس. ونظر إليه نظرة تقدير وتبجيل.
ومن هنا نجد أن الأحناف، وهم الدعاة إلى الإصلاح وإلى رفع مستوى الحياة في الجاهلية، كانوا كلهم من الكتّاب بالعربية. وقد نسب إليهم أنهم كانوا يكتبون ويقرءون بالعبرانية أو بالسريانية أو باللغتين أيضًا، كما عرف عن بعض الخطباء والشعراء أنهم كانوا يقرءون ويكتبون، ومنهم من كان له اطلاع على الثقافات واللغات الأعجمية حتى بان ذلك على كلامه المنظوم أو المنثور، وخير مثال على هؤلاء: عدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت والأعشى ولبيد.
وقد عرفت حرفة احتراف الكتابة بين الجاهليين أيضًا، كالذي كان من أمر "زيد" والد "عدي بن زيد العبادي" مع الفرس، وكالذي كان من أمر ابنه عدي نفسه مع الفرس أيضًا، ثم ما كان من أمر ابن عدي معهم. وكالذي كان من أمر "لقيط بن يعمر الإيادي"، وغيرهم. وقد رأينا أن الناس أطلقوا على "حنظلة بن الربيع"، كاتب الرسول "الكاتب"، حتى عرف بـ"حنظلة الكاتب"، لأنه كان قد قضى معظم وقته في الكتابة للرسول، فكان يكتب له إذا غاب كاتب من كتّابه عنه. فهؤلاء إذن، هم كتّاب، صارت الكتابة حرفتهم، ولا بد وأن نتصور أنهم كانوا قد أتقنوا حرفتهم لطول مرانهم بها
__________
1 تاج العروس "1/ 445"، "كتب".(15/309)
وخبروها على خير وجه. ومن المؤسف، أننا لا نملك نماذج من رسائلهم ولا من خطوطهم في هذا اليوم. كما لا نملك من خطوط غيرهم شيئًا، وسبب ذلك هو ندرة مواد الكتابة وغلائها بالنسبة لذلك الوقت، فكانوا يغسلون الصحيفة المكتوبة ويمحون ما كتب عليها، ليكتبوا عليها من جديد، ثم عدم إدراك الناس إذ ذاك لأهمية وقيمة الوثائق، حتى بالنسبة إلى الوثائق المهمة كرسائل الرسول وأوامره وأحاديثه وأمثال ذلك، فضاعت الأصول بسبب هذا الإهمال، وهي أصول سريعة التلف؛ لأنها كتبت على الجلود وعلى مواد تبلى بسرعة، وتحتاج إلى عناية وحرص كي تحافظ على حياتها مدة طويلة.
وقد سار الكتّاب الجاهليون على الجادة التي سلكها الكتّاب الآخرون الكاتبون بالأقلام السامية من عدم وضع علامات للحروف المتشابهة مثل الباء والتاء والثاء، بحيث إنهم كانوا إذا كتبوها، لم يضعوا عليها نقاطًا لتمييز حرف منها عن حرف مشابه له أو علامة أخرى فارقة، تفرق هذا الحرف عن الحرف الآخر.
كما ساروا على الجادة التي سار عليها غيرهم من عدم وضع علامات خاصة بالحركات. فكتبوا ما كتبوا من غير إعجام ولا حركات. تاركين أمر القراءة الصحيحة وفهم المكتوب إلى علم القارئ وفهمه وذكائه وحذقه باللغة وبالمهنة. ولعلهم فعلوا ذلك محاكاة لغيرهم مثل: الكتبة النبط والآراميين والعبرانيين، الذين تمسكوا بهذا الأسلوب، على اعتبار أنه سُنَّة قديمة ورثت عن الآباء، وقد كتبت بها الكتب المقدسة. أو لأن القارئ يجب أن يكون عالمًا بفنه بارعًا به، فلا يكتب له بما يشعره أن مستواه في فهم المكتوب، هو مثل مستوى سائر الكتبة، ممن تعلموا القراءة والكتابة وكفى. فكتبوا من غير إعجام ولا حركات. وقد جعلوا ذلك خاصة في مخاطبة ذوي المكانة والحكم، أما إذا كان الإنسان المكتوب إليه من سواد الكتّاب القرّاء، فكانوا يبيحون لأنفسهم حرية إعجام الكتابة وتحريكها. ومن هنا أيضًا، ظهرت نماذج من الخطوط، خصصت بكتّاب العامة.
وكانوا يميزون بين الخطوط، ويرجحون الخط القوي السوي على الخط الضعيف. والخط الجيد هو الخط الذي يجود فيه. ولا يستبعد أن تكون لهم مدارس في كيفية تدوين الخط. فقد أطلقوا على خط أهل الأنبار المشق. وقد عرفوا هذا الخط، بأنه فيه خفة. ولا يعقل بالضبط أن يكون هذا الخط خطًّا رديئًا ولهذا سُمي مشقًّا، بل هو طريقة خاصة من طرق رسوم الخطوط التي امتازت بمدِّ(15/310)
الحروف وبخفتها في الكتابة, أي: سهولتها، ولا تزال هذه الطريقة المعروفة بـ"خط المشق" معروفة. وهي تستعمل عند الخطاطين في كتابة بعض الأمور التي يناسبها هذا الخط. ذكر أن الخليفة "عمر" ذكره فقال: "شرّ الكتابة المشق وشر القراءة الهذرمة"1. لما في الاثنين من السرعة والتسرع. فالهذرمة السرعة.
وذكر أيضًا أن "ابن سيرين" كره كتابة المصاحف بالمشق2.
والنوع الثاني الذي نعرفه من أنواع الخطوط، هو الجزم، وهو خط أهل الحيرة. وهو خط المصاحف3.
ويجب أن نضيف إلى هذين القلمين قلم أهل مكة، الذي دعاه "ابن النديم" بـ"الخط المكي"، ثم الخط المدني. وقد ذكر أن ما بعدهما الخط البصري ثم الكوفي. وهما خطان إسلاميان، وإن كنت لا أستبعد من كونهما قد أخذا من خط عرب العراق في الجاهلية، ولعلهما قد طعما بشيء من قلم أهل مكة أو المدينة. وقد وصف "ابن النديم" بعض خصائص القلم المكي والقلم المدني، فقال: "فأما المكي والمدني، ففي ألفاته تعويج إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع وفي شكله انضجاع يسير4. ويمكن استخراج بعض خواص رسم خطوط أهل الحجاز في القرن الأول للهجرة من الكتابات التي عثر عليها بعض الباحثين في مواضع متعددة من الحجاز، والتي قد يعثر عليها في المستقبل.
والصفة التي يذكرها "ابن النديم" عن ألفات أهل مكة وأهل المدينة، تدل على أن أهل المدينتين قد أخذوا خطهم من أهل العراق والنبط؛ لأن الصورة المذكورة هي صورة كتابة الألف في الخط الشمالي، ولم يعدل الألف، بحيث صير مستقيمًا إلا في الإسلام.
وأنا لا أستبعد احتمال تدريس مبادئ اللغات وبينها مبادئ اللغة العربية في الحيرة وفي الأنبار وفي مواضع حضرية أخرى؛ فليس يعقل اقتصار التعليم في هذه المواضع على تعليم الخط والقراءة ثم لا يتجاوزهما إلى مراحل أخرى ومراقي أرفع. خاصة وأن السريانيين كانوا قد اقتبسوا من اليونان أجرومية النحو وأصول
__________
1 الصولي، أدب الكتاب "56".
2 تاج العروس "9/ 101"، "هذرم"، المصاحف، للسجستاني "134".
3 الاقتضاب، للبطليوسي "89".
4 الفهرست "14".(15/311)
الشعر وفلسفة قواعد اللغات بترجماتهم الكتب اليونانية إلى اللغة السريانية. وأن جماعة من النصارى العرب كانوا يزورون القسطنطينية وبلاد الشأم ويقرءون الكتب الدينية من آرامية ويونانية للتعلم والتثقف، وهؤلاء هم الذين تولوا تثقيف أبنائهم العرب وتعليمهم. وأناس من هذا الطراز لا بد وأن يكونوا قد تأثروا بما تعلموه من اليونان ومن السريانية فطبقوه على العربية، ووضعوا القواعد لصيانة الألسنة ولتقويمها، وسلكوا سبلًا في البيان ترتفع فوق مستوى تفكير السواد والسوقة بدرجات. وترجموا الموضوعات الدينية ولا سيما الكتب الدينية إلى الناس لتفقيههم بأمور دينهم.
ورجل مثل "عدي بن زيد العبادي"، ولِّي ديوان الرسائل والإنشاء عند كسرى وهو ديوان مهم، لم يكن الفرس يسلمون أمره إلا لرجل أديب حاذق، لا يعقل أن يكون مجرد قارئ خطاط ناقش للحروف، لا بد وأن يكون صاحب فن وحذق, له أسلوب في تنميق الكلام والتحبير، قوي البيان، يكتب وفوق قواعد اللغة وأصولها. درس القواعد والأدب وأساليب العرب والعجم في التعبير والبيان، فصار من ثم كاتبًا بالعربية وبالفارسية كما يذكر أهل الأخبار.(15/312)
الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء
مدخل
...
الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء
والعلم المعرفة. ورجل عالم وعليم، صاحب معرفة، وأصحاب المعرفة والعلم هم العلماء. ويقال في جمع عالم: علّام، كجهّال في جاهل. قال يزيد بن الحكم:
ومسترق القصائد والمضاهي ... سواء عند علام الرجال1
وذكر علماء اللغة أن "الناخع" العالم، وقيل: هو المبيّن للأمور، وقيل: هو الذي قتل الأمر علمًا. قال شقران السلاماني:
إن الذي ربّضتما أمره ... سرًّا وقد بين للناخع
لكالتي يحسبها أهلها ... عذراء بكرًا وهي في التاسع2
والعلّامة، والعلّام، والتعلمة، والتعلامة: العالم جدًّا، وذلك للمبالغة في سعة علم العالم. وذكر علماء اللغة أن "العلامة والعلام: النسابة"3، ويظهر أنهم إنما قالوا ذلك، بسبب أن النسب كان عند الجاهليين من أهم علومهم التي
__________
1 تاج العروس "8/ 405"، "علم".
2 تاج العروس "5/ 520".
3 تاج العروس "8/ 406"، "علم".(15/313)
برعوا وتخصصوا بها، حتى صار النسب مرادفًا للعلم عندهم. وفي القرآن: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، و"علماء بني إسرائيل"2، وألفاظ كثيرة لها صلة بالتعلم والعلم، وفي ورودها فيه دلالة على وقوف الجاهليين على العلم والتعلم وعلى وجود العلماء عندهم.
وترد لفظة "الكاتب" بمعنى العالم. قال الله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} 3، "وفي كتابه إلى أهل اليمن: قد بعثت إليكم كاتبًا من أصحابي، أراد عالمًا، سُمي به لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرفة"، والكاتب عندهم العالم. والإكتاب الإملاء. تقول: أكتبني هذه القصيدة، أي: أملاها علي 4، و"الكاتب" عند الشعوب الأخرى، بمعنى العالم كذلك، وقد كانت للكتاب منزلة كبيرة في مجتمعهم، إذ كانوا يعدون من الطبقات العالية الممتازة؛ وذلك لأن الكاتب لا يكون كاتبًا إذ ذاك, ولا ينال العلم, إلا إذا كان من الطبقة العالية المتمكنة ومن أسرة عرفت بالعلم. والعلم إذا ذاك محصور في العواثل، وفي رجال الدين وفي الطبقة التي تتولى الكتابة في قصور الملوك.
ونجد في القرآن لفظة: "كتب" و"كَتَبَتْ"و"كَتَبْتَ"و"كَتَبْنا"، و"كتبناها"، و"فسأكتبها"، و"تكتبوه"، و"نكتب"، و"يكتب"، و"يكتبون" و"أكتب"، و"فاكتبها"، و"فاكتبوه"، و"كُتِبَ" و"ستكتب"، و"اكتتبها"، و"فكاتبوهم"، و"كاتب"، و"كاتبًا" و"كاتبون"، و"كاتبين"، و"الكتاب"، و"كتابًا"، و"كتابك"، و"بكتابهم"، و"كتابنا"، و"كتابه"، و"كتابها"، و"كتابي"، و"كتابيه"، و"كُتُبٌ"، و"كُتُبِهِ"، و"مكتوبًا". وفي ورود هذه الألفاظ فيه معبرة عن معان مختلفة لها صلة بالكتابة وبالعلم دلالة على أن الجاهليين كانوا على علم، وأنهم كانوا يكتبون في أغراض مختلفة من أغراض الحياة، وأنهم لم يكونوا على نحو ما يقص عنهم أهل الأخبار من الجهل والأمية.
__________
1 فاطر، الآية 28، تفسير الطبري "22/ 86"، تفسير الألوسي "22/ 176".
2 الشعراء، الآية 197.
3 الطور، الآية 41، القلم، الآية 47.
4 تاج العروس "1/ 445"، "كتب".(15/314)
وذكر علماء اللغة أن "الشهر" وجمعها "شهور" بمعنى العالم، واسشهدوا على هذا المعنى ببيت شعر ينسب إلى أبي طالب، هو:
فإني والضوابح كل يوم ... وما يتلو السفاسرة الشهود1
قال الصاغاني: هكذا أنشده الأزهري لأبي طالب، ولم أجده في شعره2. ولكن الرواة يروونه على هذا النحو:
فإني والسوابح كل يوم ... وما تتلو السفاسرة الشهود3
والسفاسرة أصحاب الأسفار، وهي الكتب، والشهود أنسب في تفسير الشعر من الشهور؛ لأننا لا نعلم أن أحدًا قال إن الشهر: العالم، وأرى أن تصحيفًا قد وقع في البيت حول حرف "الدال" "راء"، ففسرت لفظة الشهور بالعلماء، لعدم تصادم هذا التفسير مع المعنى، وفي العربية مئات الأمثلة على مثل هذا التصحيف.
وترد لفظة "الفقه" بمعنى العلم بالشيء والفهم له. ويظهر أن الجاهليين كانوا يستعملون لفظة "فقه" ومشتقاتها في معان لها صلة بالعلم. ودليل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من قوله {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 4، ومن ورود "تفقهون"، و"تفقه"، و"يفقهوا"، و"يفقهون"، و"يفقهوه" في مواضع منه. وورد في كتب اللغة والأدب والأخبار: "فقيه العرب: عالم العرب"، و"فقهاء من العرب"5. وورد في الحديث: "أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون" 6، أي: الثرثارون المدّعون العلم والفقه.
ويفهم أيضًا من روايات أهل الأخبار، أنه قد كان للجاهليين أئمة وفقهاء يقضون بينهم، ويفتون في دينهم، ويحافظون على دينهم. فهم عندهم سدنتهم وأمناؤهم. وقد ذكر "ابن حبيب" أسماء نفر من "تميم" تولوا الموسم والقضاء
__________
1 تاج العروس "3/ 272، 320" "سفر"، "شهر".
2 تاج العروس "3/ 320"، "شهر".
3 تاج العروس "3/ 372"، "سفر".
4 التوبة الرقم 9، الآية 122.
5 اللسان "13/ 522", "فقه".
6 شمس العلوم, الجزء الأول, القسم الأول "ص242".(15/315)
بعكاظ. فكانوا يجلسون في مكان من السوق، بين المتخاصمين وللإفتاء فيما يشكل عليهم من أمر دينهم. وكان منهم من تخصص بالإجازة بالموسم. ومنهم من تخصص بالفتيا والقضاء. ومنهم من جمع بين الاثنين1.
وأنا لا أستطيع أن أتحدث عن كتب ومؤلفات نقول: إن الجاهليين كتبوها بالعربية على نمط اليونان واللاتين والفرس والسريان في الكتابة والتأليف، ذلك لقصور علمنا في الموضوع، ولعدم وصول أي خبر إلينا عنه حتى الآن.
نعم، لقد أشرت إلى وجود ما يُسمى "مجلة لقمان" و"حكمة لقمان" وإلى كتب امتلكها بعض الجاهليين، إلا أن الأخباريين لم يصفوا كيف كانت مجلة لقمان، ولم يتطرقوا إلى ما كان فيها، كما أن الظواهر تشير إلى أن تلك الكتب هي مؤلفات جيء بها من بلاد الشأم والعراق واليمن، أغلبها في موضوعات دينية وتأريخية وقصص. وأما لغتها، فيظهر أن بعضها بعربية القرآن الكريم، كمجلة لقمان، وبعضها بلغة بني إرم.
أما ما قيل له "الأساطير" أو "كتب الأساطير"، فهو كتب قصص وسمرٍ وحكايات وتواريخ. وتدل التسمية على أنها من أصل يوناني، هو: Historia و Storia في اللاتينية، وتعني التأريخ، عرّبت فصارت "أسطورة" وجمعت على أساطير، واستعملها الجاهليون استعمال اليونان واللاتين، أي: أرادوا بها تواريخ الماضين وحكاياتهم وقصصهم.
وأما ما قيل له "السفاسرة"، فالسفسير الحاذق بالشيء. والسفاسرة أصحاب الأسفار، وهي الكتب. والكلمة من أصل "إرمي" على رأي علماء اللغة. و"سفسير" بمعنى "سمسار" في لغة "بني إرم"، أي: المساوم2. والظاهر أن "السفاسرة"، من "سفر"، و"سفر" "سيفير" بمعنى كتاب في عدد من اللغات السامية. وتقابل "سفرو" في لغة بني إرم، بمعنى كتاب3. وقد كان بمكة وبغيرها رجال يتلون الكتب ويقرءون أسفار أهل الكتب من دينية وغيرها قبل الإسلام وفي الإسلام. "وفي الحديث: لا تعلموا أبكار أولادكم كتب
__________
1 المحبر "أئمة العرب". "ص181 وما بعدها".
2 غرائب اللغة "ص187".
3 غرائب اللغة "ص187".(15/316)
النصارى: يعني أحداثكم"1. وفي هذا الحديث إن صح دلالة على أن قراءة الكتب كانت منتشرة في ذلك العهد. ولا تعني جملة "كتب النصارى" الكتب الدينية بالضرورة، إذ قد تعني كل ما كان يتداوله النصارى من كتب في ذلك العهد. وقد يكون من بينها مؤلفات في الفلسفة وفي الطب وفي فروع المعرفة الأخرى التي كان الناس يتدارسونها إذ ذاك.
وفي الآية: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا, قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2، دلالة صريحة على وجود الكتب والأساطير عند الجاهليين. فلما نزل القرآن، قال المشركون: "إن هذا إلا إفك افتراه محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأولين، يعنون أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم. اكتتبها محمد -صلى الله عليه وسلم- من يهود، فهي تملى عليه، يعنون بقوله: فهي تملى عليه، فهذه الأساطير، تقرأ عليه، من قولهم أمليت عليك الكتاب، وأمليت بكرة وأصيلًا، يقول وتملى عليه غدوة وعشيًّا. وقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بآيات الله من مشركي قومك ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأولين، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، بل هو الحق أنزله الرب الذي يعلم سر من في السموات ومن في الأرض ولا يخفى عليه شيء"3. وزعموا أن الرسول اكتتب القرآن من "أساطير الأولين"، وهي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم، "فهي تقرأ عليه أو كتبت له"4، وقالوا: "ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين وأحاديثهم"5. وكانوا يروون الأساطير وأحاديث الخلق، وهي الخرافات من الأحاديث المفتعلة، فرمى المشركون الرسول بهذه القرية6.
__________
1 تاج العروس "3/ 57"، "بكر".
2 الفرقان، الآية 5.
3 تفسير الطبري "18/ 137 وما بعدها".
4 تفسير النيسابوري "18/ 125 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير الألوسي "18/ 213".
5 تفسير الطبري "19/ 60"، تفسير الألوسي "19/ 100".
6 اللسان "10/ 88"، "خلق".(15/317)
وقد ذهب "شبرنكر" -وهو من الزاعمين أن الرسول كان يكتب ويقرأ- إلى أن النبي قرأ كتابًا في العقائد والأديان وأخبار الماضين، وقد زعم أن اسم هذا الكتاب هو: "أساطير الأولين"1. وقد أخذ رأيه هذا من الآية: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2. وهذه السورة هي من السور المكية. فهي تشير إلى زعم قريش في أن القرآن، هو شيء اكتتبه الرسول، وقد أملي عليه من الأساطير. وقد سبق أن قالوا: إنه يتعلمه من أناس عاونوه وساعدوه عليه. قالوا: إن هذا القرآن "إفك افتراه محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأولين, يعني أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم، اكتتبها محمد -صلى الله عليه وسلم- من يهود، فهي تُملى عليه. يعنون بقوله: فهي تُملى عليه، فهذه الأساطير تقرأ عليه، من قولهم أمليت عليك الكتاب وأمليت، بكرة وأصيلًا. يقول وتملى عليه غدوة وعشيًّا"، "وأعانه عليه قوم آخرون. يقول: وأعان محمدًا على هذا الإفك الذي افتراه يهود"3. وقد رد على هذا الرأي "نولدكه" في كتابه: "تأريخ القرآن"، وعدّه قولًا لا أهمية له4.
وقد ذكر علماء اللغة أن الأساطير هي الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا نظام لها، وهي جمع "أسطار" و"أسطير" و"أسطور"5. واللفظة من الألفاظ المعربة. وهي Istoriya "استوريا" في اليونانية، وHistoria في اللاتينية، وقد أطلقت عندهم على كتب الأساطير والتأريخ. ويظهر أن الجاهليين قد أخذوها من الروم قبل الإسلام، واستعملوها بالشكل المذكور وبالمعنى نفسه، أي: في معنى تأريخ وقصص.
ولا أستبعد وجود الكتب التأريخية باليونانية وباللاتينية في مكة، فقد كان في مكة وفي غير مكة رقيق من الروم، كانوا يتكلمون بلغتهم فيما بينهم وينطقون
__________
1 Noldeke l, S. 16, Ency, of lslam vol. IV, p. 1016.
2 الفرقان، الآية 5.
3 تفسير الطبري "18/ 137 وما بعدها"، أسباب النزول، للنيسابوري "160".
4 Noldeke, l, S. 17.
5 تاج العروس "3/ 297"، المفردات "231"، البيضاوي، تفسير "1/ 144"، تفسير الطبرسي "7/ 32"، "14/ 66".(15/318)
بها إذا تلاقوا، كما كانوا يحتفظون بكتبهم المقدسة، وبكتب أخرى مدوّنة بلغتهم. وقد ذكر علماء التفسير اسم رجل زعمت قريش أنه كان هو الذي يعلم الرسول ويلقنه القرآن. وإليه الإشارة في الآية: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} 1. وهي في سورة النحل، وسورة النحل من السور المكية. "كانوا يزعمون أن الذي يعلم محمدًا هذا القرآن عبد رومي"، "وكان صاحب كتب، عبد لابن الحضرمي"، "فكان المشركون يرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يدخل عليه وحين يخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه"2.
وقد ذهب "شبرنكر" إلى وجود "صحف إبراهيم" عند الجاهليين، زعم أن الرسول قرأها وأخذ منها. وقد رد على رأيه هذا "نولدكه"، بقوله: لو فرضنا أن محمدًا أخذ من هذه الصحف، ونسبه لنفسه وادعاه، على أنه وحي أوحى الله به إليه، لو فرضنا ذلك، فإن من غير المعقول عندئذ ذكر محمد لتلك الصحف في القرآن؛ لأن ذكرها فيه معناه إرشاد الناس إلى المورد الذي أخذ منه واتهام نفسه، ولهذا فلا يعقل الأخذ بكلام "شبرنكر"3.
وورد في كتب أهل الأخبار أن "الأحناف" كانوا يقرءون الكتب، وتبحروا في التوراة والإنجيل، ومنهم من وقف على لغة "بني إرم" وعلى العبرانية. ومن هؤلاء "ورقة بن نوفل بن أسد"، "الشاعر صاحب العلم في الجاهلية. وكان قد قرأ الكتب وتبحر في التوراة والإنجيل، وهو الذي لقيته خديجة في أمر النبي"4.
وورد في بعض الأخبار في تفسير الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} 5 أن هذه الآية إنما نزلت في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة، ويضاهون بها القرآن، ويقولون: إنها أفضل منه6. وفي هذا الخبر دلالة على وقوف الجاهليين
__________
1 النحل، الرقم 16، الآية 103.
2 تفسير الطبري "14/ 119 وما بعدها".
3 Noldeke, l, S. 17, Sprenger, Lebens Muhammad, II, S. 367.
4 الاشتقاق "102".
5 سورة لقمان، الآية 6.
6 العقد الفريد "6/ 9".(15/319)
على الكتب واستعمالهم لها، وخاصة كتب السمر والأحاديث القديمة، إذ لا يعقل أن يكون شراؤهم لها حادثًا طارئًا، ظهر عندهم بنزول القرآن.
وذكر بعض المفسرين أن الآية المذكورة نزلت في حق "النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم: رستم واسفنديار فيحدث بها قريشًا. وقيل: كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول أطعميه وأسقيه وغنّيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه"1.
وإذا صح ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن هذه الآية قد نزلت بحق "النضر" لأنه كان يعاند الرسول ويعارضه وقت يكون مجتمعًا بنفر من الناس يلقي عليهم مبادئ الإسلام، فيقرأ عليهم من كتب الأعاجم ومن قصص: رستم واسفنديار فإن ذلك يدل على أنه كان يتقن الفارسية، وأنه كان يمتلك كتب الفرس ويقرأ بها وهو بمكة، ويترجم ما جاء فيها لمن يتجمع حوله. وأنه اشترى جملة كتب خلال تجاراته مع العراق.
فنحن إذن أمام أقدم مترجم يصل إلينا خبره من مترجمي العرب قبل الإسلام بمكة. يقوم بترجمة كتب من الأعجمية إلى العربية. ويكون بذلك قد سبق المسلمين بزمن طويل في ترجمة كتاب رستم واسفنديار إلى العربية. غير أننا يجب أن نتحفظ ونحترز كثيًرا في قولنا هذا. فنحن لا نقصد أنه ترجم كتاب رستم واسفنديار ترجمة تدوين وتحبير، وبالتمام والكمال. فقول مثل هذا يكون قولًا جزافًا، لا يستند إلى علم أو دليل إن قلته. وإنما أقصد ترجمة شفوية على نحو ما ذكره وأورده المفسرون وأصحاب السيرة. وقد ترجم هذا الكتاب في الإسلام. ترجمه جبلة بن سالم2.
ولا أعتقد أن رجلًا مثل الحارث بن كَلَده الثقفي، أو ابنه النَّضر، وهما من العلماء بالطب، لم يرجعا إلى مؤلفات في الطب مدوّنة بلغة من اللغات الأعجمية، للحصول على علمهما في الطب، وكيف يمكن ذلك، وقد درسا في مدرسة لم تكن
__________
1 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "21/ 52"، سيرة ابن هشام "1/ 383 وما بعدها"، تفسير القرطبي "14/ 52".
2 الفهرست "438".(15/320)
مدرسة عربية، هي مدرسة "جنديسابور"، عرفت واشتهرت في الطب. وقد كان عماد دراستها في الطب ما ألفه اليونان، وما نقله منها علماء السريان. ولا أعتقد أنهما كانا في جهل بمؤلفات أبقراط وجالينوس وغيرهما ممن بنوا صنعة الطب، ووضعوا فيها المؤلفات. بل لا أعتقد أن رجالًا في مكة أو في يثرب أو الطائف كانوا على جهل بأسماء مشاهير حكماء اليونان، وبينهم من كان له اتصال ببلاد الثقافة والعلم وبالأجانب على نحو ما ذكرت، وإن أغفل عن ذكرهم أهل الأخبار.
ويظهر من روايات أهل الأخبار-مثل رواية ابن الكلبي عن وجود دواوين فيها ما مدح به آل لخم وما قيل فيهم من شعر ومقدار ما حكم كل واحد منهم، وروايات غيره عن تدوين الشعر قبل الإسلام- أن الجاهليين كانوا قد شرعوا في تدوين الأخبار والشعر وما لفت انتباههم قبل الإسلام، وقد يكون ذلك قبيل الإسلام بعهد غير بعيد، وأن التدوين كان بهذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أن بلهجات قريبة منها. ومعنى هذا أن هذه اللهجة كانت قد اكتسبت قوة في هذا العهد، حملت الناس على التدوين وعلى نظم الشعر بها. ولكن الذي رفعها وجعلها لغة للعرب أجمعين، هو القرآن الكريم من غير شك، فبفضله صارت هذه اللغة لغة للعرب كلهم ولغة المسلمين الدينية.
ويظهر من القرآن الكريم أن هذه اللغة كانت قد عرفت ألفاظ الحضارة والفكر في يوم نزوله، لورودها فيه. ولورودها فيه أهمية كبيرة في إعطاء فكرة عن مستوى أهل الحجاز العقلي في ذلك اليوم، ففيه ألفاظ مثل العلم والعلماء والحكمة والأساطير والأمثال إلخ ... وألفاظ ذات صلة بالكتابة والتدوين تحدثت عنها ومصطلحات أخرى، ولا يمكن ورود مثل هذه الكلمات في لغة قوم ما، ما لم يكن لهم أو لجماعة منهم على الأقل، حظ من ثقافة وتفكير وعلم.
ولا أقصد أن الجاهليين استعملوا تلك الألفاظ بمدلولها المفهوم في الزمن الحاضر، أو بالمعاني المفهومة منها عند اليونان. فلفظة "علم" مثلًا، لا تعني علمًا بالمصطلح الحديث, أي: في مقابل Science في الإنكليزية، وإنما تعني المعرفة عامة. ولفظة "علماء"، لا تعني المشتغلين بالعلوم خاصة أي ما يقال لهم Scientist في الإنكليزية، وإنما يراد بهم العارفون أصحاب المعرفة والفهم. وقد صار للفظتين مدلولان خاصان في العصر العباسي، ولكن هذا لا يعني أن لفظة "علم" أو "علماء"، لم تكن تعني معنًى خاصًّا عند الجاهليين، وإلا ما استعملت للتعبير(15/321)
عن معان معينة في القرآن الكريم، وما يميز القرآن الكريم والحديث النبوي العارفين بلفظة علماء، لتمييزهم عن السواد. وبهذا المعنى وردت لفظة "عالم" وعلم عند العبرانيين1.
ولا أستبعد تأثر المثقفين الجاهليين ومن كان على اتصال بالعجم وباليهود والنصارى بالآراء الفلسفية والدينية وبالجدل الذي وقع بين المذاهب النصرانية في أمور عديدة. فقد خالط الجاهليون، ولا سيما في بلاد العراق وبلاد الشأم، أقوامًا عديدة ذات ثقافات متباينة، واحتكوا بها، وأخذوا منها، فلا يعقل ألا يتأثروا ببعض آرائهم في الكون وفي الحياة وفي سائر نواحي التفكير. وقد وردت في شعر للأعشى وفي شعر لبيد، فكرتان متناقضتان عن الجبر والاختيار، فذهب الأعشى في هذا البيت.
استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا
مذهب القائلين بالاختيار، أي: إن الإنسان مختار قادر على أفعاله. أما الأعشى فذهب مذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مُجْبر، مسير، وذلك في قوله:
إن تقوى ربنا خير نقل ... وبإذن الله ريثي وعَجَل
من هداه سُبُل الخير اهتدى ... ناعم البال، ومن شاء أضل2
وقد سبق أن ذكرت في مواضع متعددة من هذا الكتاب أن أكثر من نُسِب إلى التوحيد، أي: من ينعتهم أهل الأخبار بالحنفاء، كانوا يقرءون ويكتبون، وكانت عندهم كتب أهل الكتاب، وأن أكثرهم كانوا أصحاب رأي وفكر في الخلق. وفي هذا العالم. ولكنهم لم يدخلوا في يهودية ولا في نصرانية؛ لأنهم لم يجدوا في الديانتين شيئًا يُفرِّج ويُرفِّه عما كان يجول في رءوسهم من آراء ومقالات عن الخالق والكون. وقد جالس هؤلاء رجال اليهود والنصارى، وتكلموا معهم في أمور عديدة من أمور الفكر والدين في جزيرة العرب وفي بلاد العراق وبلاد الشأم. وينسب لجندب بن عمرو بن حممة، وهو من دوس، أنه كان يقول في الجاهلية:
__________
1 Hastings, Dict. Of the Bible, p. 831.
2 العقد الفريد "2/ 378".(15/322)
إن للخلق خالقًا لا أعلم ما هو. ثم جاء إلى الرسول، فأسلم. وقد ذكر أن ورقة بن نوفل، وهو واحد من المذكورين، كان قد قرأ الكتب وكتب بالعبراني أو السرياني، وأنه كتب بالسريانية "العبرانية" من الإنجيل ما شاء أن يكتب. وكان قد امتنع عن أكل ذبائح الأوثان1. وذكر أيضًا: أن زيد بن عمر بن نفيل، وهو ممن كان على الحنيفية، كان ينتقد قريشًا، ولا يأكل ذبائحها؛ لأنه ذبحت للأصنام والأوثان2؛ وأن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله بن غفار المعروف بآبي اللحم الغفاري كان يأبى أن يأكل اللحم، ولهذا سُمي: "آبي اللحم". وكان شريفًا شاعرًا. وقد أسلم: وشهد حنينًا3. وكان لكل هؤلاء وقوف على كتب أهل الكتاب، ولهم علم بأقلامهم.
وقد ذكر أهل الأخبار أن وهب بن منبه وأخاه كانا يستوردان الكتب القديمة من بلاد الشأم. ويرد مصطلح "الكتب القديمة" في كتب السير والأخبار4. ووهب بن منبه وأخوه من الإسلاميين، ولكن استيرادهما للكتب لم يكن بدعًا واكتشافًا منهما، بل لا بد أنه كان قديمًا معروفًا عند الجاهليين.
وقد ذكر أهل الأخبار عبد عمرو بن صيفي النعمان المعروف بأبي عامر الراهب في جملة من كان يناظر أهل الكتاب، ويتتبع الرهبان، ويألفهم، ويكثر الشخوص إلى الشأم. ومن هنا قيل له: الراهب5. وقد علم بذلك علم أهل الكتاب.
وورد أن أهل الكتاب، وهم اليهود، كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" 6، وورد جواز تفسير التوراة والإنجيل باللغة العربية7. وكان اليهود يجادلون رسول الله في أمور الدين، وقد أشير إلى جدالهم له في القرآن الكريم: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
__________
1 الأغاني "3/ 14"، "3/ 120"، "12/ 52".
2 الأغاني "3/ 15 وما بعدها".
3 الإصابة "1/ 13"، الاستيعاب "1/ 111" "حاشية على الإصابة".
4 شرح القاموس "5/ 421".
5 نسب قريش "ص281".
6 إرشاد الساري "10/ 466".
7 المصدر نفسه "ص465".(15/323)
مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1، وكانوا يستعينون في جدلهم بالتوراة، يفسرونها بالعربية للمسلمين2. وقد فسر بعضهم الآية: "ليقولوا دارست"، "بقوله: قرأت على اليهود وقرءوا عيك"، وفسرها بعضهم بذاكرتهم، أو قرأت كتب أهل الكتاب3، فنحن إذن أمام أقدم أخبار تشير إلى ترجمة العهد القديم إلى العربية، ليفهمها العرب المشركون. وقد كان جدال اليهود مع النبي على أمور واردة في التوراة، فلا بد وأنهم كانوا يستعينون بالترجمة في هذا الجدال.
وفي أخبار أهل الأخبار هذه مواضع تثير التساؤل وتوجه الانتباه إلى قضية وقوف أهل الجاهلية وصدر الإسلام على كتب أهل الكتاب، ونقلهم عنها وشرحهم لبعض ما نقلوه باللغة العربية. فقد وقفنا توًّا على ما ورد عن بعض الأحناف من وقوفهم على كتب أهل الكتاب ومن معرفتهم بالعبرانية والسريانية، وقد وقفنا من أخبارهم على أن "عبد الله بن عمرو بن العاص" كان قد قرأ "الكتاب الأول"4.وأنه كان يقرأ بالسريانية5، وأنه استأذن رسول الله في أن يكتب ما سمعه منه، فأذن له، فدوّنه في صحيفة سماها: "الصادقة"6، وروي أنه كان يقرأ الكتابين: التوراة والإنجيل7. وأنه "كان فاضلًا عالمًا قرأ الكتاب واستأذن النبي في أن يكتب حديثه، فأذن له، فكتب عنه حديثه وحفظ عنه ألف مثل8. وروي أنه كان على علم بالمثناة، و"المثناة" "المشنا" في تفسير التوراة، وأنه جمع كتبًا حصل عليها يوم "اليرموك"، وكان له علم بها"9.
وروي أن "عمر" انتسخ كتابًا من كتب أهل الكتاب ووضعه في أديم، وجاء به إلى رسول الله، فقال له: "ما هذا في يدك يا عمر؟ قال: يا رسول الله
__________
1 العنكبوت، الآية 46.
2 تفسير الطبري "21/ 2 وما بعدها".
3 تاج العروس "4/ 150"، "درس".
4 الطبقات "4/ 267" "صادر".
5 الطبقات "4/ 266" "صادر"، المعارف "287".
6 الطبقات "4/ 262" "صادر".
7 الإصابة "2/ 343"، "رقم "4847".
8 الاستيعاب "2/ 339"، "حاشية على الإصابة".
9 تاج العروس "10/ 61"، "ثنى".(15/324)
الله كتاب استنسخته لنزداد به علمًا إلى علمنا. فغضب رسول الله حتى احمرّت وجنتاه". وورد أيضًا أن رجلًا من "بني عبد القيس" سكه بالسوس، كان قد نسخ "كتاب دانيال"، وكان يقرأه ويفسره للناس، وذلك في أيام عمر، فنهاه عن ذلك، وشدد عليه في وجوب محو ما كتبه1. وورد أن "عمر" كتب إلى عامله "أبي موسى الأشعري" كتابًا نسخته: "اغسلوا دانيال بسدر وماء الريحان"2.
وورد أن "عمر بن الخطاب"، قال للنبي: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فنهى الرسول عن ذلك3.
ويرد اسم "كتاب دانيال" في خبر آخر، فقد ورد عن "عمرو بن ميمون الأودي"، أنه كان جالسًا مع قوم، فجاء رجل ومعه كتاب، فقالوا له: ما هذا الكتاب: قال: كتاب دانيال4.
ولم يرد اسم "دانيال" في القرآن ولا في الحديث، ولكنه معروف جدًّا عند المسلمين، بأنه نبي، وله قصص في أخبار الرسل والأنبياء5. وقد وصلتهم قصصه ممن أسلم من يهود ومن اليهود الذين عاشوا بين الجاهليين وبين المسلمين. حيث اكتسبت رؤيا "دانيال" وتنبوءاته وتفسيره لحلم "نبوخذ نصر" شهرة خاصة عند يهود، وانتقلت منهم إلى المسلمين. ويعد "دانيال" أحد الأنبياء الأربعة الكبار، وتولى مناصب عالية عند البابليين والميديين "الماديين"، وقد اشتهر بتعبير الرؤيا وبالتنبؤ عن المستقبل6. والظاهر أن شهرته هذه عند أهل الكتاب، أكسبته منزلة خاصة عند المسلمين.
وورد أن "ابن قرة" جاء بكتاب من بلاد الشأم إلى "عبد الله بن مسعود"، وكان قد أعجب به، فأمر "عبد الله بن مسعود" بطست فيه ماء، محا به أثر الكتابة7.
__________
1 الخطيب البغدادي، تقييد العلم "51".
2 كنز العمال "6/ 310"، خورشيد أحمد "132"، القسم العربي "رقم 241".
3 الفائق "3/ 218".
4 تقييد العلم "56 وما بعدها".
5 راجع قصص الأنبياء "ص231".
6 قاموس الكتاب المقدس "1/ 432 وما بعدها".
7 سنن الدارمي "1/ 123"، تقييد العلم "53".(15/325)
وذكر أن "عمر بن الخطاب" قال: "أيها الناس، إنه قد بلغني أنه ظهرت في أيديكم كتب، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحدٌ عنده كتاب إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي. فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها، ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف؛ فأتوه بكتبهم. فأحرقها بالنار"1. ويظهر أن هذه الكتب هي من كتب أهل الكتاب، فعندنا أخبار عديدة تذكر حصول الصحابة على كتب كثيرة وقعت إليهم في الغزوات والحروب التي جرت في بلاد الشأم.
وقد ورد في شعر بعض الشعراء الجاهليين ما يفيد وقوف أصحاب ذلك الشعر على كتب أهل الكتاب. كالزبور و"خط زبور" و"مصاحف الرهبان" و"التوراة" و"المجلة", أي: الإنجيل وأمثال ذلك، مما يدل على أنهم كانوا قد وقفوا على خبرها وشأنها، وأن اليهود والنصارى وهم عرب على اليهودية والنصرانية كانوا يتداولونها فيما بينهم، باعتبار أنها كتبهم المقدسة2.
وقد وجد المسلمون مصاحف لليهود في مستوطناتهم فيها التوراة وفيها كتبهم الأخرى. فذكر أن المسلمين لما فتحوا "خيبر" "وجمعت مصاحف فيها التوراة، ثم ردت على اليهود"3.
وأنا لا أستبعد احتمال ترجمة الكتاب المقدس بقسميه، كلًّا أو جزءًا منه إلى العربية، فقد كان اليهود -كما سبق أن قلت- يفسرون ليهود يثرب ولعربها التوراة وكتبهم الدينية بالعربية، كما كان المبشرون يفسرونه بالعربية، وقد رأيت أن قريشًا اتهموا الرسول بأنه كان يستمع إلى رجل نصراني، ويأخذ منه. وأنهم ذكروا أن الأحناف كانوا يقرءون التوراة والإنجيل، وأن عرب العراق كانوا يدرسون في الكنائس والأديرة بالعربية، فلا أستبعد احتمال وجود ترجمات عربية للكتب الدينية قبل الإسلام، تلفت لأسباب عديدة، منها أنها لم تكن إسلامية، ولأسباب أخرى، فلم تصل إلينا لذلك.
وقد ورد في بيت شعر يُنسب إلى "بشر بن أبي خازم"، ذكر كتاب كان عند بني تميم، إذ جاء فيه.
__________
1 تقييد العلم "52".
2 خزانة الأدب "3/ 11"، ديوان السموأل "12"، اللسان "12/ 113" "صادر".
3 إمتاع الأسماع "1/ 323".(15/326)
وجدنا في كتاب بني تميم ... أحق الخليل بالركض المعار1
ولو أخذنا بظاهر العبارة، دل البيت على وجود كتاب عند بني تميم، قد يكون صحيفة وقد يكون كتابًا مؤلفًا من صفحات. ولو أخذنا بالتأويل وقلنا معناه: وجدنا هذه اللفظة مكتوبًا، أن أحق الخيل بالركض المعار، انتفى وجود كتاب لديهم2. وقد نسب هذا البيت إلى "الطرماح بن حكيم"، وهو شاعر إسلامي. وإذا صح أن هذا البيت هو من شعر الطرماح، جاز أخذ لفظة "كتاب" بالمعنى الحقيقي، إذ كانت الكتب معروفة في هذا الوقت.
وجاء في كتاب "إمتاع الأسماع"، أن الرسول "كتب هذه السنة المعاقل والديات، وكانت معلقة بسيفه"3. وأشار الطبري إلى هذه الصحيفة بقوله: "وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعاقل فكان معلّقًَا بسيفه"4، والسنة المشار إليها هي السنة الثانية من الهجرة. والخبر أشبه ما يكون بخبر "الصحيفة" المنسوبة إلى "علي بن أبي طالب"، فقد ورد في "صحيح البخاري": "عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فَهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر". وورد أنها "كانت معلقة بقبضة سيفه. إما احتياطًا أو استحضارًا", وورد "فأخرج كتابًا من قراب سيفه"5. ويكاد يكون الخبر واحدًا، فالصحيفة صحيفة المعاقل والديات، وموضعها في الخبرين السيف، معلقة به، أو في قرابه. ويظهر من روايات أخرى أن فيها أحاديث عن الرسول: مثل: المدينة حرام ما بين عاثر إلى كذا، فمن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس
__________
1 المفضليات "98"، الموشح "179"، تاج العروس "3/ 434"، "عبر".
2 "فمعناه وجدنا هذه اللفظة مكتوبة"، المرزباني، الموشح "179".
3 المقريزي، إمتاع الأسماع "1: 107".
4 الطبري "2/ 486".
5 إرشاد الساري "1/ 203 ومابعدها".(15/327)
أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل". وورد أنه كان فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل1.
ولم نجد في الأخبار ما يفيد أن الصحابة كانوا على علم بصحيفة النبي، ولو كانت للرسول صحيفة فيها أحكام المعاقل والديات، كان الرسول قد علقها على سيفه، دلالة على اهتمامه بها، لما سكت عنها الصحابة، مع ما لها من الأهمية بالنسبة لإصدار الأحكام؛ ولأنها يجب أن تكون المرجع المطاع الثاني بعد القرآن. ولذلك فإنا أشك في أمر هذه الصحيفة، وفي صحيفة الإمام كذلك المأخوذة من كلام الرسول، ولو كانت صحيفة الإمام، هي صحيفة الرسول نفسها، صارت إليه بعد وفاته، لما سكتت الأخبار من الإشارة إليها وعن انتقالها إلى "عليّ" لما لها من أهمية، ولا سيما بالنسبة إلى الشيعة الذين يفتشون عن هذه الأمور باعتبارها منقبة تضاف إلى مناقب الإمام، وحجة في إثبات إمامته واعتماد الرسول عليه وحده. ولو كانت الصحيفة صحيفة الإمام، دوّنها بنفسه، معتمدًا على حديث الرسول، وكانت عنده معلقة بسيفه، حرصًا عليها، لتكون معه وتحت متناول يده، يراجعها متى شاء، فلا يعقل أن تكون مقتصرة على المعاقل والديات وأسنان الإبل، وهي أمور يعرفها الإمام، وهو فقيه، ومرجع من مراجع الإفتاء، دون حاجة إلى أن يكتبها في صحيفة يحرص على حملها معه معلقة بسيفه، ثم إنها إذا كانت على هذه الأهمية بالنسبة للإمام، لما تركها أصحابه، فلم ينقلوها بالنص والحرف، وهي أخطر وثيقة، مع أنهم رووا عنه أحاديث كثيرة، حتى نسب الناس له خطبًا وأشياء لا يصح صدورها منه. ومنها صحيفة تسمى: "الصحيفة الكاملة، أو زبور آل محمد وإنجيل أهل البيت"2.
ورأيي: أن ما ورد من أن الخليفة "أبو بكر" كان يمتلك صحيفة فيها حديث الرسول3، هو خبر غير صحيح كذلك، ولو كانت لديه صحيفة، لما خفي أمرها عن الصحابة، فلم يحفظوها ولم ينقلوا عنها. وأما ما ورد من أمر صحيفة
__________
1 الكافي للكليني "85"، الإرشاد "258"، أبو رية، أضواء على السُّنة المحمدية "94 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 183".
3 الذهبي، تذكرة الحفاظ "1/ 5".(15/328)
"عبد الله بن عمرو بن العاص"، المسماة بالصحيفة الصادقة، وما كتب فيها من حديث الرسول، ومن إنه قد جمع ألف مثل من أمثال الرسول1، وما ورد من صحيفة "همام بن منبه"، المسماة بالصحيفة الصحيحة، فقد بحث في أمر هذه الصحف العلماء2.
وقد عدّ "الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان" التميمي المجاشعي، في جملة علماء العرب وحكامهم. قال عنه بعض العلماء: "وكان عالم العرب في زمانه"3. كان عالمًا بالنسب وبأخبار الناس، ولهذا كانوا يتنافرون إليه. وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام. وقد حكم في المنافرة التي وقعت بين "جرير بن عبد الله" البجلي، وبين "خالد بن أرطاة" الكلبي. وكان "خالد" زعيم "قضاعة" يومئذ، فنفر "الأقرع" جريرًا على خالد، بمضر وربيعة4. وكان من المؤلفة قلوبهم5.
والنسب هو من أهم المعارف التي عرف بها أهل الجاهلية. وهو علم يرتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام من دون شك، لما له من تماس مباشر بحياتهم الاجتماعية وبنظمهم السياسية؛ ولأنه الحماية بالنسبة إلى الجاهلي في تلك الأيام. وأستطيع أن أدخل في علم النسب، العلم بأنساب الخيل، فقد عنوا بالخيل عناية كبيرة، وحفظوا أنسابها، ووضعوا شجرات أنساب لها. كما عنوا بأنساب الإبل، لما هذا النسب من صلة بالأصالة وبسعر بيعها وشرائها. ونجد في الأخبار ما يشير إلى وجود أناس تخصصوا بحفظ نسبها.
والنسّاب: العالم بالنسب، وهو النسّابة. أدخلوا الهاء للمبالغة والمدح. "وفي حديث أبي بكر، رضي الله عنه: وكان رجلًا نسّابة، النسّابة: البليغ العالم بالأنساب"6.
__________
1 الإصابة "2/ 343"، "رقم 4847"، الاستيعاب "2/ 338 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
2 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق, المجلد الثامن والعشرين "1953".
3 الخزانة "3/ 296"، "بولاق".
4 الخزانة "3/ 296 وما بعدها"، "بولاق".
5 الإصابة "1/ 72"، "رقم 231".
6 اللسان "1/ 756"، "نسب".(15/329)
والنسب: نسب القرابات. يكون بالآباء، ويكون بالقبائل، ويكون إلى البلاد، ويكون في الحرف والصناعة1.
وقد نبغ بين القبائل والقرى أناس تخصصوا بحفظ النسب، منهم من برع في حفظ نسب قبيلته، ومنهم من برع في حفظ أنساب جملة قبائل، وممن اشتهر وعرف من قريش بحفظ النسب وبالعلم به، "أبو بكر". وكان علمه بعلم الأنساب، ثم بأمور الناس، ثم الشعر. قيل: إنه "كان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر"، وقيل: إنه كان أنسب العرب، وأعلم قريش بأنسابها، وأنسب هذه الأمة2. و"كانت قريش تألف منزل أبي بكر -رضي الله عنه- لخصلتين: العلم والطعام"3. ولما أمر الرسول حسّان بن ثابت بالردّ على شعراء قريش قال له: "إئت أبا بكر، فإنه أعلم بأنساب القوم منك". فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم". فلما سمعت قريش شعر "حسّان"، قالت: "إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة"4. ولما مرّ بالناس في معسكرهم بالجرف، جعل ينسب القبائل5.
وكان "جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف"، وهو أحد أشراف قريش وحلمائها من علماء النسب في قريش، وكان ممن أخذ النسب من أبي بكر. وكان ممن يؤخذ عنه النسب لقريش وللعرب عامة6.
وعرف "أبو جهم بن حذيفة" القرشي العدوي بعلمه بالنسب، وكان من المعمرين في قريش. عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام. وكان من مشيخة قريش وصحب النبي7. وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب8.
__________
1 اللسان "1/ 755"، "نسب" تاج العروس "1/ 483"، "نسب".
2 الإصابة "2/ 334"، "رقم 4817"، البيان والتبيين "1/ 318".
3 البيان والتبيين "4/ 76".
4 الاستيعاب "1/ 335"، "حاشية على الإصابة".
5 الفائق في غريب الحديث "1/ 184".
6 الإصابة "1/ 277"، "رقم 1091"، الاستيعاب "1/ 232"، "حاشية على الإصابة"، كتاب نسب قريش "201"، البيان والتبيين "1/ 318"، تاج العروس "6/ 44"، "ألف".
7 نسب قريش "369".
8 الإصابة "4/ 35"، "رقم 207".(15/330)
ومنهم: "مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف". وقد أخذ عنه النسب. وكان عالمًا بأنصاب الحرم1. قال عنه "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله الزبيري": "وكان له سر وعلم، وكان يؤخذ عنه النسب"2، وقد أرسله "عمر" مع "سعيد بن يربوع"، و"أزهر بن عبد عوف"، و"حويطب بن عبد العزى" لتجديد أنصاب الحرم، فجددوها، ويقال: إن "عثمان" بعثهم كذلك. وهو راوي خبر قصة استسقاء "عبد المطلب"، وما ورد فيه من الشعر3.
قال "الجاحظ": "أربعة من قريش كانوا رواة الناس للأشعار، وعلماؤهم بالأنساب والأخبار: مخرمة بن نوفل بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة، وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل بن أبي طالب. وكان عقيل أكثرهم ذكرًا لمثالب الناس، فعادوه لذلك، وقالوا فيه وحمقوه"4. و"حويطب" من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم5. ومات زمان معاوية، وهو ابن عشرين ومائة سنة وباع من معاوية دارًا بالمدينة بأربعين ألف دينار6. وتوفي سنة "54هـ"7.
وروي أن غنائم الحيرة لما وصلت الحيرة وفيها سيف النعمان بن المنذر، استدعى "عمر" "جبيرًا"، فسأله عن نسب "النعمان" فقال له: إنه أشلاء قنص بن معد. فأعطاه سيفه، وذكر أنه كان أنسب العرب، وعنه أخذ "سعيد بن المسيب" النسب8.
ومن نسابي قريش "عقيل بن أبي طالب". ولما وضع "عمر" الديوان، استعان بعقيل ومخرمة، وجبير في ترتيب عطاء الناس على منازلهم، فبدءوا ببني هاشم9. وعقيل هو أخ "علي بن أبي طالب"، ذكر أنه "كان عالمًا بأنساب
__________
1 الإصابة "3/ 370"، "رقم 7842".
2 نسب قريش "262".
3 الإصابة "3/ 370"، نكث الهميان "287".
4 البيان والتبيين "2/ 323".
5 البيان والتبيين "2/ 323".
6 نسب قريش "425 وما بعدها".
7 الإصابة "1/ 363"، "رقم 1882".
8 الإصابة "1/ 227"، "رقم 1091"، الاستيعاب "1/ 232 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الفائق "1/ 608 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 303".
9 ابن سعد، المجلد الثالث، الجزء الأول "212".(15/331)
قريش ومآثرها ومثالبها، وكان الناس يأخذون ذلك عنه بمسجد المدينة"، فهو من شيوخ العلم الذين نصبوا أنفسهم لتعليم الأنساب والمآثر والمثالب. قيل: "كان في قريش أربعة يتحاكم الناس إليهم في المنافرات: عقيل، ومخرمة، وحويطب، وأبو جهم. وكان عقيل يعد المساوي، فمن كانت مساويه أكثر يقر صاحبه عليه، ومن كانت محاسنه أكثر يقره على صاحبه"1، ونظرًا لتكلمه مع الناس وتحدثه عن مساويهم فقد عودي وحمق2.
وقد صار مسجد الرسول في المدينة موضع دراسة للمسلمين، فقد رأينا "حسان بن ثابت"، هو ينشد الشعر فيه، وهذا "عقيل" يعلم الناس الأنساب فيه، وهناك غيرهما من كان يعلم الناس في هذا المسجد.
وممن عرف واشتهر بعلم النسب، وأخذ النسب عن الجاهليين، دغفل السدوسي من بني شيبان، وعميرة أبو ضمضم، وابن لسان الحمرة من بني تيم اللات، وزيد بن الكيس النمري، والنخار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان، وعبيد بن شريه وغيرهم3.
وذكر عن "دغفل بن حنظلة" النسّابة السدوسي الشيباني، أنه كان عالمًا بالعربية والأنساب والنجوم، وقد اغتلبه النسب. وقد أعجب به "معاوية" لما سأله أمورًا كثيرة في هذه العلوم4. ولا بد وأن يكون قد أخذ علمه ممن أدرك الجاهلية من رجال، وممن عاصر الرسول. وذكر أنه و"زيد بن الكيس" النمري، كانا ممن أثارا أحاديث عاد وجرهم، ولذلك قال فيهما الشاعر:
أحاديث عن أبناء عادٍ وجرهم ... يثورها العضان زيد ودغفل5
وروي أن معاوية "قال لدغفل بن حنظلة النسّابة. بمَ ضبطت ما أرى؟
__________
1 الإصابة "2/ 487"، "رقم 5630".
2 البيان والتبيين "2/ 324"، نكث الهميان "200".
3 الإصابة "1/ 464"، "رقم 2399"، البيان والتبيين "1/ 118"، بلوغ الأرب "3/ 196"، التمدن الإسلامي "3/ 40 وما بعدها"، الفهرست "137 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 322 وما بعدها".
4 الإصابة "1/ 464"، "رقم 2399"، الاستيعاب "1/ 467".
5 العسكري، جمهرة "2/ 113"، "رقم 1358"، الميداني "2/ 24".(15/332)
قال: بمفاوضة العلماء. قال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالمًا أخذت ما عنده، وأعطيته ما عندي"1. وذكر أن "أبا بكر"، سأل قومًا من "ربيعة" عن نسبهم، وفيهم "دغفل"، وكان غلامًا إذ ذاك، فلما انتهى أبو بكر من استجوابهم، سأله "دغفل" عن نسبه، فأفحمه2.
وقد اشتهر "دغفل" في النسب، حتى ضرب به المثل في النثر وفي الشعر بسعة علمه به، وقد ذكره "الفرزدق" بقوله:
أوصى عشية حين فارق رهطه ... عند الشهادة في الصحيفة دغفل
أن ابن ضبّة كان خير والدًا ... وأتم في حسب الكرام وأفضل3
ونجد اسمه في شعر شعراء آخرين4.
وكان ممن أدرك النبي، ولم يسمع منه. واسمه "الحجر بن الحارث" الكناني، ودغفل لقب له5.
وكان "صحار" العبدي من النسابين البلغاء، وله مع "دغفل" محاورات. وكان من المقربين إلى معاوية ومن المطالبين بدم "عثمان"6.
و"صعصعة بن صوحان" العبدي، وكان مسلمًا في عهد رسول الله ولم يره. وشهد صفين مع "علي"، وكان خطيبًا فصيحًا، له مع معاوية مواقف. "قال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب"7. وله إخوة، منهم "سيحان بن صوحان" العبدي، كان أحد الأمراء في قتال في أهل الردة8 ومنهم "زيد بن صوحان" وكان سيدًا في قومه، وقد شهد الجمل مع "علي"9.
__________
1 الفائق "2/ 304".
2 الفائق "3/ 84".
3 النقائض "1/ 198".
4 ديوان القطامي "31"، البيان والتبيين "1/ 322 وما بعدها".
5 الفهرست "137"، "المقالة الثالثة".
6 الإصابة "1/ 170"، "رقم 4041".
7 الإصابة "2/ 192"، "رقم 4130".
8 الإصابة "2/ 102"، "رقم 3630".
9 الإصابة "1/ 565 وما بعدها"، "رقم 2997".(15/333)
ومن نسابي "كلب": "محمد بن السائب" الكلبي، وابنه "هشام بن محمد بن السائب"، و"شرقي بن القطامي"1، و"الشرقي بن القطامي"، اسمه "الوليد بن الحصين"، وقد اتهم بالكذب2. وقد ذكر "الجاحظ" و"ابن النديم" أسماء عدد ممن عرفوا باشتغالهم بالأنساب.
وقد برز بعض النسابين في ذكر مثالب الناس، وقد كان "عقيل بن أبي طالب" منهم، كما ذكرت. ويذكر أن "زياد بن أبيه" كان أول من ألّف كتابًا في المثالب، ودفعه إلى ولده، قائلًا لهم: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم3. ومن طلاب المثالب وناشرها بين الناس "أبو عبيدة معمر بن المثنى" التيمي، من تيم قريش. وكان مكروهًا فلما مات لم يحضر جنازته أحد؛ لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره4.
وعدّ الشعر عند أهل الجاهلية علمًا من علومهم، يقوم عندهم "مقام الحكمة وكثير العلم"، "ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر. فيه كانوا يختصمون وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون ويتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون"5. وقد أوردوا أسماء أشخاص عرفوا بسعة علمهم وبتبحرهم بالشعر.
__________
1 البيان والتبيين "1/ 322".
2 الفهرست "138".
3 الفهرست "137"، "المقالة الثالثة"، تهذيب الأسماء واللغات للنووي "1/ 259" كتاب المعارف لابن قتيبة "176"، بروكلمن "250".
4 الفهرست "85".
5 اليعقوبي "2/ 230"، "النجف 1964م".(15/334)
الملاحن والألغاز:
ومما أثر عن أهل الجاهلية مما يتعلق باستعمال الذكاء والفطنة واختبار العلم، الملاحن والألغاز. واللحن عند العرب الفطنة. وقد وضع "ابن دريد" كتابًا في الملاحن، سماه: "كتاب الملاحن"1 وقد كانت العرب تتعمد الملاحن وتقصدها، إذا أرادت التورية أو "التعمية"2. وقد ذكر أهل الأخبار أنهم
__________
1 المزهر "1/ 567 وما بعدها".
2 المصدر نفسه.(15/334)
استعملوها استعمال "الشفرة"، أو الرسائل السرية المعماة في نقل الأخبار، كالذي رووه من أن طيئًا أسرت رجلًا شابًّا من العرب، فقدم أبوه وعمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء، فأعطيا لهم به عطيّة لم يرضوها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيء لا أزيدكم على ما أعطيتكم، ثم انصرفا.
فقال الأب للعم: لقد ألقيتُ إلى ابني كليمة، لئن كان فيه خير لينجون. فما لبث أن نجا وأطرد قطعة من إبلهم، فكأن أباه قال له: إلزم الفرقدين على جبلي طيء فإنهما طالعان عليهما لا يبغيان عنه1.
ورووا قصصًا أخرى من هذا القبيل2، تحلل تحايل الناس إذ ذاك في كيفية إبلاغ خبر، أو إيصال رسالة من أسير وقع في أسر، أو من شخص اعتدى عليه. أو من رجل طعن، فأراد إبلاغ قومه باسم طاعنه. فيعمد الشخص إلى الكلام المعمى الدال على سذاجة، لإيصاله إلى أهله، لعلمه بأن في وسع أهله استنباط ألغازه وحل معماه.
وأما الألغاز، فهي لامتحان الذكاء في الغالب، ولتمضية الوقت والتسلية. وتكون شعرًا كما تكون نثرًا3. و"الأُلغوزة" ما يعمى به من الكلام4.
__________
1 المزهر "1/ 567".
2 المزهر "1/ 568 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 578 وما بعدها".
4 تاج العروس "4/ 78"، "اللغز".(15/335)
الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة
مدخل
...
الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة
أما مؤلفات في العلوم والفلسفة، منقولة عن اليونانية أو اللاتينية إلى العربية، فلا أدري أن أحدًا من أهل الأخبار ذكر وجودها عندهم بلغة بني إرم، أو بلغة اليونان، ذلك لأن المثقفين وأصحاب الرأي والعزم كانوا على اتصال بالعالم الخارجي، وكانوا يدارسون الأعاجم ويأخذون عنهم، وقد درس بعضهم في مدارس الفرس والعراق وبلاد الشأم، ولغة الدراسة في تلك البلاد السريانية واليونانية والفارسية، فلا يستغرب أن يكون مِنْ هؤلاء مَنْ درس بلغة من هذه اللغات في الحجاز أو في اليمن. أما في بلاد العراق وبلاد الشأم، فالأمر لا يحتاج فيها إلى نظر، فقد رأينا أن عربهما أسهموا في الحركة العلمية قبل الإسلام لكنهم أسهموا بلغة السريان، لا باللغة العربية؛ لأن العربية لم تكن عربية واحدة يومئذ، إنما كانت جملة لهجات، ثم إنها كلها، لم تكن قد وصلت إلى درجة من الاستعمال والانتشار تجعلها لغة للترجمة والتأليف.(15/336)
بعض ما نسب إليهم سجع قصير، وبعضه كلام منظوم وبعضه مثلٌ زعم أنهم ضربوه فسار بين الناس.
وقد اشتهر الشرق بالحكمة، وهو ما زال على حبه لها باعتبارها أداة للتعليم والتثقيف. والحكيم، هو "حكيمو" Hakimo في الإرمية، بمعنى عالم1. ونرى في التوراة إصحاحات مثل: الأمثال وأيوب ونشيد الأنشاد وغيرها، ملئت حكمة. والحكيم هو "حكميم" عند العبرانيين. وأما الحكمة، فهي: "حوكماه" "حوكمه2" Hokhmah.
و"الحكيم" في تعريف علماء اللغة: العالم وصاحب الحكمة، المصيب برأيه، الذي يقضي على شيء بشيء، فيقول: هو كذا وليس بكذا. وهو الذي يحسن دقائق الصناعات ويتقنها. وقد ورد في الحديث: إن من الشعر لحكمًا، أي: إن في الشعر كلامًا نافعًا يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما، قيل: أراد به المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس. ويروى إن من الشعر لحكمة. وقد سُمي الأعشى قصيدته المحكمة حكيمة، أي ذات حكمة، فقال:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها3
وقالوا إن من معاني: الحكيم الحاكم، وهو القاضي، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وإن الحكمة: العدل ورجل حكيم، عدل حكيم. وإن "المُحكّم" هو الشيخ المجرب المنسوب إلى الحكمة، ولذلك يقال للرجل إذا كان حكيمًا: قد أحكمته التجارب. والحكيم: المتقن للأمور4. وفي هذه التعاريف دلالة على أنهم كانوا يسمون الحكمة بالتبصر في الأمور، وباستقراء الحوادث ودراستها لاستخراج التجارب منها، والحكم بموجبها، ومن هنا أدخلوا الحكم بين الناس، والنظر في الأحكام في جملة أمور الحكمة.
وليس هذا الرأي، هو رأي العرب وحدهم، فقد كان هذا الرأي معروفًا
__________
1 غرائب اللغة "ص179".
2 Hastings, Diction, I, p. 64, A. Dictionary of Christ, and the Gospels, vol, II, p. 825. ff, B.W Ardeon, understanding the old Testament, p. 467.
3 تاج العروس "8/ 255"، "حكم".
4 اللسان "12/ 140 وما بعدها".(15/337)
عند غيرهم أيضًا. فنجد الحكماء عندهم حكامًا يحكمون في الخصومات وفي المنازعات: بفضل ما أوتوا من فطنة وصبر وذكاء وعلم، وهي من أهم صفات الحكم. ونجد في أدب الشرق الأدنى القديم أشخاصًا مثل "أحيقار" الشهير، يجمعون بين الحكم والحكمة، وقد ضرب بهم المثل في نجاحهم في إصدار الأحكام.
والحكيم في الشرق بمنزلة الفيلسوف عند اليونان. وما "أرسطو" الفيلسوف اليوناني الشهير وكذلك أفلاطون، غير حكماء في نظر الشرقيين. ولذلك أدخلوا في "الحكماء". والحكيم هو مؤدب ومرشد وواعظ يعظ الناس ويرشدهم في هذه الحياة، وهو خير مستشار في كل شيء؛ لأنه بفضل ما يملكه من عقل ومن تجربة يستطيع أن يفصل بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ. ولذلك كان الحكماء هداة قومهم وأساتذتهم وفلاسفتهم، أقوالهم حكمة للناس ودرس في كيفية السير في العالم.
ولكننا لا نستطيع أن نرادف بين "الحكمة" وبين "الفلسفة". فبين الاثنين فرق كبير في المفهوم. ولا يمكن أن نقول: إن الفلسفة بالمعنى اليوناني، هي في مفهوم "الحكمة" عند شعوب الشرق الأدنى؛ لأن بين الفيلسوف وبين "الحكيم" تباين كبير في أسلوب البحث وفي كيفية التوصل إلى النتائج والمعرفة وفي مفهوم كل واحد منهما لهدف الآخر، وفي الغاية المقصودة من كل منهما. فالغاية من الحكمة العبرة والاتعاظ والأخذ بما جاء فيها من حكم، أي: غايات عملية وتأديبية، بينما الغاية من الفلسفة البحث عن معنى الحكمة وعما يكون وراء الطبيعة من خفايا غير مكتشفة وأسرار1.
وقد وردت لفظة "الحكمة" في القرآن الكريم2. وقد ذكر العلماء أن الحكمة اسم للعقل، وإنما سُمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل3. فالحكمة إذن، هي بمعنى العلم والتفقه. وهي بذلك ذات حدود واسعة، بل لا نكاد نجد لها حدودًا معينة فاصلة، فقد شملت أمورًا كثيرة، أطلقت على رجال اشتهروا بالحكم بين الناس. أي: بالبت فيما ينشأ بينهم من شجار وخصومة. وأطلقت على أناس ذكر
__________
1 Hastings, p. 975.
2 وردت في مواضع متعددة من القرآن الكريم، راجع المعجم المفهرس "ص213 وما بعدها".
3 غريب القرآن، للسجستاني "ص118"، "سنة 1924".(15/338)
أنهم كانوا كهانًا، وأطلقت على جماعة عرفت بأن لها رأيًا في الدين، وأطلقت على نفر كان لهم رأي في المعالجة والتطبيب، وأطلقت على نفر عرفوا بقراءة الكتب القديمة، أي: الكتب السماوية وغيرها مما كان عند يهود والنصارى وعند الروم والفرس، وأطلقت على غير ذلك، فهي إذن كما ترى ذات معان واسعة شاملة.
ويلاحظ أن القرآن الكريم، قد أورد لفظة "الحكمة" بعد لفظة "الكتاب" وفي حالة العطف، أي: على هذه الصورة: "الكتاب والحكمة"، واستعملها بعد لفظة "الملك" في الآية: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} 1. واستعملها مفردة كما في {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} 2. وفي مواضع أخرى. وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد من الكتاب القرآن، ثم اختلفوا في معنى الحكمة، فمنهم من قال: إنها السُّنة، ومنهم من قال المعرفة بالدين والفقه، ومنهم من قال: الحكمة العقل في الدين أو الإصابة في القول والفعل، إلى غير ذلك من أقوال3، تدل على أن تفسيرها بمعنى السُّنة والتفقه في الدين من التفسيرات التي ظهرت في الإسلام. أما معناها عند الجاهليين، فكان بمعنى الخبرة المكتسبة من الملاحظات العميقة إلى الأشياء، أو المستخلصة من التجارب، وبمعنى العلم والرأي الصائب. وبهذا المعنى جاءت الحكمة عند الساميين. فقد كان الحكيم عندهم العالم الذكي الفطن الذي ينظر بعين البصيرة إلى أعماق الأمور بتؤدة وتبصر وأناة، فيبدي رأيه في كل شيء في هذه الحياة، من سياسة واقتصاد، ومن أمور تخص السلم أو الحرب، أو الخدع، والحكم بين الناس. ولهذا كان الحكماء في أعلى الدرجات في مجتمعهم من ناحية الثقافة والرأي.
ويظهر من دراسة ما ورد في المؤلفات الإسلامية عن الحكمة والحكماء أن الجاهليين أرادوا بالحكمة حكايات وأمثلة فيها تعليم ووعظ للإنسان، يقولونها ليتعظ بها في حياته وليسير على وفق هدى هذه الحكم. وهي حكم حصلت من تجارب عملية، ومن ملاحظات وتأملات في هذه الحياة. ولهذا نسبوا الحكمة إلى
__________
1 البقرة، الرقم2، الآية 251.
2 البقرة، الآية 269.
3 تفسير الطبري "1/ 436".(15/339)
أناس مجربين أذكياء لهم صفاء ذهن وقوة ملاحظة مثل: "أكثم بن صيفي" و"قس بن ساعدة الإيادي" وغيرهما ممن سيأتي الكلام عليهم. روي أن "عمر بن الخطاب" قال لكعب الأحبار وقد ذكر الشعر: "يا كعب، هل تجد للشعراء ذكرًا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قومًا من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب"1. فالعرب هم أصحاب حكمة وأمثال على رأي "كعب الأحبار" إن صح أن هذا القول المنسوب إليه هو من أقواله حقًّا، والأمثال باب من أبواب الحكمة. بل تكاد تؤدي معناها عند الجاهليين، فالحكيم عندهم هو الذي ينطق بالحكم يقرنها بالأمثال، وبالقصص والنوادر.
وإذا بحثت عن الحكمة في العهد القديم تجدها في الأمثال، وفي سفر أيوب، وفي نشيد الأنشاد، وفي سفر الجامعة والحكمة وفي "سيراخ"، وفي حكمة "سليمان" التي هي في المزامير2. وهي أمثال في الغالب نبعت من تجاربٍ أَخَذَ العبرانيون بعضها من غيرهم، ونبع بعض آخر من تجاربهم الخاصة، وظهرت عندهم أمثال إنسانية عامة تخطر على بال كل إنسان، فهي عامة مشتركة، لم يأخذها قوم من قوم، وإنما هي خاطرات وتجارب تظهر لكل إنسان، فضرب بها المثل في كل لسان.
ونحن لا نملك في هذا اليوم كتابة جاهلية، فيها حكم من حكم الجاهليين. وكل ما ورد إلينا من حكمهم مأخوذ من موارد إسلامية. ولذلك صار كلامنا على الحكمة في الجاهلية مثل كلامنا على سائر معارف الجاهليين، ضيقًا محدودًا، منبعه ما ورد عنها عند المسلمين.
ويظهر من بعض الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، أنها ترجع إلى أصل يوناني، حيث نجدها مدوّنة في كتب فلاسفتهم مثل: سقراط وأفلاطون وأرسطو، مما يدل على أنها دخلت إلى العربية عن طريق الترجمة من اليونانية أو من السريانية، وعن طريق بلاد الشأم في الأغلب، حيث كانت الثقافة اليونانية قد وجدت لها سبيلًا هناك، بحكم خضوعها لليونانيين قبل الميلاد وبعد الميلاد، وبحكم وجود جاليات يونانية كبيرة هناك.
__________
1 العمدة "ص25"، القاهرة 1963م.
2 Hastings, p. 975.(15/340)
ويظهر من دراسة بعض آخر من الحكم المنسوبة إلى الجاهليين أنها من أصل فارسي. ولا يستبعد أن تكون قد دخلت من الأدب الفارسي القديم إلى عرب العراق، وقد عاشوا قبل الإسلام في اتصال وثيق مع الفرس. وكان بعض العرب قد أتقنوا الفارسية وأجادوا فيها، كما أن من الفرس من كان قد تعلم العربية وبرع فيها. ثم إن بين ذوقي العرب والفرس تشابه في نواح من الأدب، ولهذا كان أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي أكبر وأظهر من أثر الأدب اليوناني فيه.
ونجد في الحكم المنسوبة إلى "أحيقار"، شبهًا لها في الحكم العربية القديمة، وترجمة أصيلة لبعض حكمه أحيانًا. خذ قوله: "يا بني إذا أرسلت الحكيم في حاجة، فلا توصه كثيرًا؛ لأنه يقضي حاجتك كما تريد. ولا ترسل الأحمق، بل امض أنت واقض حاجتك"1. ولو درست بقية حكمه، وما ورد في الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، ترى شبهًا كبيرًا في المعنى بل وفي اللفظ في الغالب، مما يدل على أنها ترجمة أخذت من السريانية فعربت ونسبت إلى الجاهليين، أو أن الجاهليين وقفوا عليها فصاغوها بلسانهم، فنسبت إليهم. وأكثر حكمه موجهة إلى ابن أخته "نادان"، حيث يعظه فيقول: "يا بني ... ".
غير أن علينا ألا ننسى، بأن من الحكم، ما هو عام، يرد على خاطر أغلب الشعوب، وعلى لب أكثر الناس، حتى وإن لم يكونوا من المثقفين الدارسين؛ لأنه مما يتشارك فيه العقل الإنساني، فيكون عالميًّا إنسانيًّا. ولهذا، فنحن لا نستطيع أن نردّه إلى أحد، ولا أن نرجعه إلى مرجع معين. ولا نستطيع أن نقول: إن العرب أخذوه من غيرهم، أو إن الأعاجم أخذوه من العرب. بسبب ما ذكرته من كونه من نتاج عقل واحد، هو القاسم المشترك بين عقول الإنسان.
وإذا صح ما روي من أن "سويدًا بن الصامت" المعروف بـ"الكامل"، كان يملك "مجلة لقمان"، وقد أراها الرسول مقدمة عليه بمكة، وما ذكر من أنها كانت في الحكمة2. فتكون هذه المجلة، أو الكتاب، أقدم شيء يصل اسمه إلينا من الكتب التي تداولها أهل الجاهلية. ولم يذكر الرواة -ويا للأسف-
__________
1 أغناطيوس إفرام الأول برصوم، اللؤلؤ المنثور في تأريخ العلوم والآداب السريانية "67"، "حمص 1943"، تأريخ كلدو وآثور "1/ 113 وما بعدها"، "2/ 40".
2 الروض الأنف "1/ 265".(15/341)
محتويات تلك المجلة ونوع الحكم التي احتوتها.
فقد روي "أن سويد بن صامت قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشرفه ونسبه ... فتصدى له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "وما الذي معك؟ " قال: مجلة لقمان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أعرضها عليَّ"، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليَّ، هو هدًى ونور. فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه. وقال: إن هذا لقول حسن. ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج" وكان قتله قبل يوم بعاث1.
والمجلة: الصحيفة فيها الحكمة، وكل كتاب عند العرب مجلة2، وقيل: "كل كتاب حكمة عند العرب مجلة". قال النابغة:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب3
وبالنظر إلى اشتهار لقمان في الأدب العربي بالحكمة عن طريق ضرب الأمثال, ونظرًا لظهور أمثال كثيرة في الإسلام نسبت إليه، فإن من المحتمل أن تكون تلك المجلة التي زعم أنها كانت عند "سويد" مجموعة من حكم وأمثال. لا ندري من جمعها فنسبها إليه، لعدم إشارة أهل الأخبار إلى ذلك، ولا يستبعد أن تكون هذه الأمثال من الأمثال المنتزعة من التوراة أو من الإنجيل أو من كليهما، فدوّنت في مجلة, أي: في كراسة أو كتاب فنسبها أهل الأخبار إليه. نظرًا لما جاء في القرآن الكريم من نسبة الحكمة إليه. وقد تكون تلك المجلة من حكم الحكيم "أحيقار"، الحكيم الشهير صاحب الأمثال الذي كان مقربًا إلى الملك "سنحاريب" ومستشارًا له. فله في أدب "بني إرم" ذكر خاص، وله أمثال في الإرمية طبعت وترجمت إلى جملة لغات. وعرفت أمثاله في العربية كذلك. في أيام
__________
1 ابن هشام، سيرة "1/ 265 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الفائق "1/ 206".
2 تاج العروس "7/ 261"، "جلل".
3 الفائق "1/ 206".(15/342)
الجاهلية، فأشار "عدي بن زيد العبادي" إليه وإلى قصته1.
ولقمان: شخصية ذكرت في القرآن، وفي القرآن الكريم سورة سميت باسمه. ووروده في كتاب الله، دليل على وقوف الجاهليين بقصصه وشيوع خبره وأمره بينهم. ونجد في كتب التفسير والأدب والأخبار وكتب المعمرين قصصًا عنه2. وقد عرف بـ"لقمان الحكيم" وقد بحث عنه المستشرقون، وحاولوا تحليل القصص الوارد عنه وإرجاعه إلى أصوله. وقد بحث في ذلك المحدثون في مصر وفي غير مصر من البلاد العربية3.
قال "الجاحظ": "وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر لقيم بن لقمان في النباهة والقدر، وفي العلم والحكم، وفي اللسان والحلم. وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسرون. ولارتفاع قدره وعظيم شأنه، قال النمر بن تولب:
لُقيم بن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنما
ليالي حمق فاستحضنت ... عليه فغُرّ بها مظلمًا
فغرّ بها رجل محكم ... فجاءت به رجلًا محكمًا4
وقد أشار "المسيب بن علس" إلى "لقمان" في شعره5، كما ذكره "لبيد بن ربيعة" الجعفري في شعره كذلك6، وأشار إليه "يزيد بن الصعق" الكلابي في شعر هو:
__________
1 الحماسة، للبحتري، "86"، "بيروت 1910م".
2 "لقمان بن عاد"، مجمع الأمثال "1/ 303".
3 فجر الإسلام "1/ 78 وما بعدها"، الدكتور عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم مع مقارنتها في الآداب السامية الأخرى "ص43 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "1/ 37".
4 البيان والتبيين "1/ 184".
5 البيان والتبيين "1/ 188".
6 البيان والتبيين "1/ 189".(15/343)
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرّك أن يعيش فجيء بزادِ
بخبز أو بلحم أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفّف في البجادِ
تراه يطوف الآفاق حرصًا ... ليأكل رأس لقمان بن عادِ
وقيل: إن هذا الشعر هو لأبي مهوش الفقعسي1.
وورد ذكر "لقمان" في شعر "أفنون" التغلبي2، وفي شعر "سليمان بن ربيعة بن دباب بن عامر بن ثعلبة"3، وفي شعر شعراء آخرين.
وعرف لقمان عند الجاهليين كذلك بالنباهة والذكاء وبالعلم وبقوة اللسان والحلم وبخلال أخرى يرون أنها من سجايا الحكماء، حتى زعم أن أختًا له، وكانت مُحَمَّقة، تحايلت عليه، فاتصلت به اتصال الزوجات، طمعًا في الحصول على ولد ذكي حكيم منه يكون على شاكلته، فأحبلها بولد عرف بـ"لقيم"، ذكر في شعر ينسب إلى النمر بن تولب. ولأهل الأخبار قصص عنه وعن أخت لقمان4.
وذكر "الجاحظ" أن "لقمان" قتل ابنته، وهي صحر أخت لقيم، وقال حين قتلها: ألست امرأة! وذلك أنه كان قد تزوّج عدّة نساء، كلهن خنّه في أنفسهن، فلما قتل أخراهن ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه صحر ابنته، فوثب عليها فقتلها5 وقال: وأنت أيضًا امرأة! وللجاحظ قصص عنه6.
وفي سورة "لقمان"، {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ, وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 7. فلقمان إذن حكيم من الحكماء، وُهِب الحكمة وصواب الرأي. له ولد وعظه ونصحه.
__________
1 المرزباني، معجم "480"، البيان والتبيين "1/ 190"، الخزانة "3/ 129"، الاقتضاب "388"، العقد الفريد "3/ 142".
2 البيان والتبيين "1/ 190".
3 المصدر نفسه "1/ 190".
4 بلوغ الأرب "3/ 212 وما بعدها".
5 الحيوان "1/ 21".
6 المحاسن والأضداد "133".
7 الآية 13 وما بعدها.(15/344)
وفي كتب قصص الأنبياء وكتب الأخبار والأدب وصايا للقمان وعظ بها ابنه، وأدبه، هي قطع في التأديب وفي قواعد السلوك1.
وفي جملة ما رواه أهل الأخبار من حكمه أن مولاه قال له يومًا: "اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها. قال: أخرِج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. ثم مكث ما شاء الله، ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها. فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما. فقال له لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا"2.
وقد ذكر أهل الأخبار امرأة يقال لها: "صحر بنت لقمان"، قالوا: إنها اشتهرت بالعقل والكمال والفصاحة والحكمة، وإن العرب كانت تتحاكم عندها فيما ينوبهم من المشاجرات في الأنساب وغيرها. وقالوا: إنها كانت ابنة لقمان، ومنهم من زعم أنها أخته لا ابنته3.
وذكر أهل الأخبار أن "لقمان" هو ممن آمن بـ"هود"، وأما لقمان المذكور في القرآن، فهو غيره. وكان لقمان القرآن ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من ولد "آزر"، وأدرك داوود وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داوود، فلما بُعث قطع الفتوى، وكان قاضيًا في بني إسرائيل، وكان حكيمًا ولم يكن نبيًّا. وورد أنه كان راعيًا أسود، فرزقه الله العتق، وقيل: كان أسود من سودان مصر خيّاطًا، وقيل: كان نجارًا4. وذكر "الجاحظ": أن "لقمان" من السودان، وهو الذي يقول: ثلاثة لا تعرفهم إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والأخ عند حاجتك.
وقال لابنه: إذا أردت أن تخالط رجلًا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك وإلا فأحذره.
__________
1 العقد الفريد "3/ 152".
2 تفسير الطبري "21/ 43 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 342".
4 الخزانة "2/ 78"، "بولاق".(15/345)
ولم يرووا ذلك عنه إلا وله أشياء كثيرة. وأكثر من هذا مدح الله إياه وتسميته الحكيم، وما أوصى به ابنه"1.
ويشبه قصص "لقمان" وما يضرب على لسانه من أمثال، قصص "أيسوب" عند الأوروبيين. وهو الباحث عن الحكمة عن طريق ضرب الأمثال وقول الألغاز والقصص2. وقد رأى بعض الباحثين أن لأمثال لقمان وحكمه صلة بـ"أحيقار". وذهب بعض المستشرقين إلى وجود صلة بين لقمان وبين بعض الشخصيات القديمة التي يرد اسمها في الأدب القديم مثل Prometheusو Alkmaionو Lucian و"سليمان"، وبلعام.
وقد ضرب "أبو الطّمحان حنظلة بن الشرقي القيني" المثل بتشتت حي لقمان، وبتفوقهم أفراقًا إذ يقول:
أمست بنو القين أفراقًا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان3
وقد اشتهر "سليمان" عند العرب بالحكمة أيضًا، فعرف عندهم بـ"سليمان الحكيم"، وقد أشير إليه في القرآن الكريم. وكان اليهود والنصارى هم نقلة أخبار هذه الحكمة إلى الوثنيين. وكان يهود المدينة مصدر هذه الأخبار بالدرجة الأولى، فقد كانوا بحكم اختلاطهم بأهل يثرب قد أذاعوا بينهم قصصًا إسرائيليًّا، ومنه قصص داود وسليمان.
و"سليمان" أحكم الحكماء عند اليهود. يذكرون "أن حكمته فاقت حكمة جميع العلماء في عصره. وكان أحكم من جميع الناس"4. ويذكرون أنه ألّف الأمثال. ونطق بثلاثة آلاف مثل، وألف خمس نشائد5. ووضع نشيد الأنشاد والجامعة. وذاعت حكمة سليمان وانتشر خبرها في كل الأنحاء بحيث أتى الناس من الأباعد ليشاهدوها وكانوا يمتحنونه بمسائل عسرة6، في جملتهم ملكة سبأ
__________
1 رسائل الجاحظ "1/ 179"، "فخر السودان على البيضان".
2 Shorter Ency., p. 290.
3 البيان "1/ 887 وما بعدها"، الخزانة "3/ 426".
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 579"، "سليمان".
5 الملوك الأول، الإصحاح الرابع، الآية 32.
6 الأيام الثاني، الإصحاح التاسع، الآية 6، قاموس الكتاب المقدس "1/ 579"، "سليمان".(15/346)
التي سمعت بحكمته فجاءت تمتحنه كما جاء ذلك في التوراة.
وتقترن لفظة "مجلة" عادة بالحكمة. قال علماء العربية: "والمجلة، بفتح الميم، الصحيفة فيها الحكمة"1، وقد تتألف من "صحف". و"الصحيفة" الكتاب. وذكر علماء اللغة أن "الوضيعة: كتاب تكتب فيه الحكمة.. وفي الحديث أنه نبي وأن اسمه وصورته في الوضائع"2.
وقد ذكر أهل الأخبار أن "قيس بن نشبة"، كان منجمًا متفلسفًا في الجاهلية. وهو ممن أدرك أيام الرسول3. وذكر أنه من "بني سُلَيم"، وأنه كان يعرف الرومية والفارسية ويقول الشعر4. وأنه جاء إلى الرسول "بعد الخندق فقال: إني رسول من ورائي من قومي، وهم لي مطيعون وإني سائلك عن مسائل لا يعلمها إلا من يُوحى إليه! فسأله عن السموات السبع وسكانها وما طعامهم وما شرابهم، فذكر له السموات السبع والملائكة وعبادتهم، وذكر له الأرض وما فيها فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: يا بني سليم! قد سمعت ترجمة الروم وفارس وأشعار العرب والكهان ومقاول حمير، وما كلام محمد يشبه شيئًا من كلامهم فأطيعوني في محمد فإنكم أخواله فإن ظفر تنتفعوا به وتسعدوا وإن تكن الأخرى، فإن العرب لا تقدم عليكم. فقد دخلت عليه وقلبي عليه أقسى من الحجر، فما برحت حتى لان بكلامه. وقيل عنه: إنه كان يتأله في الجاهلية وينظر في الكتب، فجاء إلى الرسول لما سمع به، وسأله، فآمن به. ولعلمه سماه رسول الله: "حبر بني سُلَيم"، وكان إذا افتقده يقول: يا بني سُلَيم أين حبركم. وهو عم الشاعر العباس بن مرداس، أو ابن عمه. ولما أسلم قال هذه الأبيات:
تابعت دين محمد ورضيته ... كل الرضا لأمانتي ولديني
ذاك امرؤ نازعته قول العدا ... وعقدت فيه يمينه بيميني
قد كنت آمله وانظر دهره ... فالله قدر أنه يهديني
أعني ابن آمنة الأمين ومن به ... أرجو السلامة من عذاب الهون
__________
1 تاج العروس "7/ 261"، "جلل".
2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع".
3 تاج العروس "8/ 95"، "كحل".
4 البلدان "2/ 250".(15/347)
وذكر أنه كان قد قدم مكة في الجاهلية فباع إبلًا له فلواه المشتري حقه، فكان يقوم فيقول:
يا آل فهر كنت في هذا الحرم ... في حرمة البيت وأخلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم
فسمع به عباس بن مرداس، فكتب إليه أبياتًا منها:
وائت البيوت وكن من أهلها وددًا ... تلق ابن حرب وتلق المرء عباسًا
فقام العباس بن عبد المطلب وأخذ له بحقه. وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين بني هاشم مودة1.
وذكر أن "أبا العاصي بن أمية بن عبد شمس"، كان حكيمًا. وقد عدّ من حكماء قريش وشعرائهم2. كما ذكر أن "الحكم بن سعيد بن العاص بن أمية" الأموي، وكان من الكتّاب بمكة في الجاهلية، والذي علّم الكتابة بالمدينة بأمر الرسول، كان يعلم الحكمة3. وذكر "ابن حبيب"، أن "الحكم بن سعيد" كان من أمراء الرسول "على قرى عربية"4، وذكر أيضًا أن الرسول سمّاه "عبد الله وجعله يعلّم الحكمة"، وقد استشهد يوم مؤتة5.
ويظهر أن الحكمة المنسوبة إلى "قيس بن نشبة"، أو إلى "الحكم بن سعيد" كانت نوعًا من العلوم التي يدرسها الفلاسفة والحكماء في ذلك الوقت، أي: علومًا يونانية، وتأملات وملاحظات عن هذا العالم، فهي دراسة منظمة تختلف في طرازها عن الحكمة القائمة على القصص وضرب الأمثال. وقد تكون قد أخذت من الكتب اليونانية أو السريانية، أو الفارسية، فقد رأينا أهل الأخبار يذكرون أن "قيس بن نشبة" كان يعرف الرومية والفارسية، كما ذكروا مثل ذلك عن النضر بن حارث بن كلدة وعن الأحناف، وأنا لا أستبعد احتمال ذلك؛ لأن
__________
1 الإصابة "3/ 249 وما بعدها"، "رقم 7244".
2 كتاب نسب قريش "99"، المعارف "73".
3 الإصابة "1/ 343 وما بعدها"، "رقم 1777".
4 المحبر "126".
5 المحبر "460".(15/348)
بعضهم كان قد وصل العراق وبلاد الشأم وخالط الأعاجم، كما كان من الأعاجم من سكن مكة والقرى العربية الأخرى لأغراض مختلفة، ومنهم من كان على فقه بعلوم قومه، ومعرفة علمية بلغتهم، فلا يستبعد إذن تعلم من كان فيه ميل من العرب إلى العلم والثقافة، العلم والفلسفة والنظر من تلك البلاد التي زاروها، ومن هؤلاء.
وذكر أن "النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف" العبدري القرشي كان من حكماء قريش. وقد استشهد يوم اليرموك في رجب سنة خمس عشرة. وكان أخوه "النضر بن الحارث"، شديد العداوة للرسول، فقتله عليٌّ يوم بدر كافرًا، قتله بالصفراء1.
وروى "عُمران بن حصين"، "عمران بن الحصين"، حديثًا عن رسول الله، هو: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، فقال "بشير بن كعب، وكان قد قرأ الكتب: إن في الحكمة: أن منه ضعفًا. فغضب عمران، وقال: أحدثك بما سمعت من النبي، وتحدثني عن صحفك هذه الخبيثة"2. ويظهر أن "بشيرًا" هذا كان ممن طالع كتب أهل الكتاب ووقف على الحكمة.
وقد ذكر الأخباريون أسماء أناس آخرين عرفوا بالحكمة كذلك، مثل: أكثم بن صيفي التميمي، من رؤساء تميم ومن "حكام العرب"3. ويلاحظ أن الأخباريين يخلطون في الغالب بين الحكيم والحاكم، فيجعلون "حكّام العرب" من "حكماء العرب" ويذكرون أحكامهم في باب الحكم. كذلك نسبوا معظم خطباء الجاهلية إلى الحكمة كذلك، مما يدل على أن للحكمة عند الأخباريين معنًى واسعًا، يشمل كل ما فيه عظة وتعليم. وقد كان العبرانيون وبقية الساميين يجعلون الحكام من طبقة الحكماء؛ لأن الحاكم لا بد وأن يكون حكيمًا، أي: مدركًا فطنًا نافذًا إلى بواطن الأمور، يحكم عن عقل ناضج وعن رأي مصيب، فهم أولى وأقدر على إبداء الأحكام الصحيحة من غيرهم، ولهذا نجد ارتباطًا كبيرًا في المعنى وفي اللفظ بين لفظتي حاكم وحكيم.
__________
1 الاستيعاب "3/ 535 وما بعدها"، الإصابة "3/ 525"، "رقم 8713".
2 مصادر الشعر الجاهلي "168 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "3/ 172 وما بعدها".(15/349)
ومن حكام العرب الذين ذكرهم أهل الأخبار، ونسبوا إليهم الحكم والإصابة في الرأي وصدق الأحكام "عامر بن الظرب العدواني" حكيم قيس، وقد عدوه "من حكماء العرب، لا تعدل بفهمه فهمًا ولا بحكمه حكمًا". وقالوا: إنه هو المراد في قول العرب: "إن العصا قُرعت لذي الحلم". أما "ربيعة"، فتقول: إنه "قيس بن خالد بن ذي الجدّين". وأما تميم، فتنسب هذا الفخر إلى رجل منها هو "ربيعة بن مخاشن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم". وأما اليمن، فتقول: إنه "عمرو بن حممة الدوسي"، ويذكر بعض آخر أنه "عمرو بن مالك بن ضبيعة، أخو سعد بن مالك الكناني"1.
وفي كتاب "العقد الفريد"، قصة اجتماع وقع بين عامر بن الظرب العدواني وحممة بن رافع الدوسي وبين ملك من ملوك حمير، ورد فيها: أن الملك قال لهما: تساءلا، حتى أسمع ما تقولان؟ ودوّن رواة هذه القصة ما جرى في الاجتماع من أسئلة وأجوبة. ومدارها خاطرات عن الحياة وعن الناس وعن الأدب، بالسجع المألوف2. ومما جاء فيها أن أحكم الناس "من صمت فاذّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر"، وأن أجهل الناس من رأى الخُرق مغنمًا، والتجاوز مغرمًا"3.
وذكر أنه كان قد جمع قومه "عدوان"، فنصحهم بقوله: "يا معشر عدوان: الخير ألوف عروف، وإنه لن يفارق صاحبه حتى يفارقه، وإني لم أكن حكيمًا حتى صاحبت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم4. وكان كما يقول "ابن حبيب"، آخر حكام العرب وقضاتهم وأئمتهم قبل انتقال الحكومة إلى "بني تميم" بعكاظ5، وروي له حكم في "الخنثى"، وأيد الإسلام حكمه6. ورووا له شعرًا في الخمر، يقول فيه:
__________
1 "إن العصا قرعت لذي الحلم"، مجمع الأمثال "1/ 39 وما بعدها"، الآمدي، المؤتلف "ص154".
2 العقد الفريد "2/ 255 وما بعدها".
3 الأمالي "2/ 276 وما بعدها".
4 الأمالي "2/ 157"، البيان والتبيين "1/ 401"، "2/ 199".
5 المحبر "181".
6 المحبر "236".(15/350)
إن أشرب الخمر أشربها للذتها ... وإن أدعها فإني ماقت قال
لولا اللذاذة والفتيان لم أرها ... ولا رأتني إلا من مدى الغال
سئّاله للفتى ما ليس يملكه ... ذهّابة بعقول القوم والمال
مورثة القوم أضغاثًا بلا احنٍ ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي1
وفيه يقول ذو الأصبع العدواني:
ومنّا حكم يقضي ... فلا ينقضي ما يقضى2
ومن حكمه: "الرأي نائم، والهوى يقظان، فمن هنالك يغلب الهوى الرأي"3. وله جواب على خطاب "صعدة بن معاوية" حين جاء إليه يخطب ابنته4.
وكانت له بنت عدت من حكيمات العرب، حتى جاوزت في ذلك مقدار "صحر بنت لقمان"، و"هند بنت الخس"، و"جمعة بنت حابس بن مُليل" الإياديين5.
وذكر أهل الأخبار أن من حكام تميم في الجاهلية: أكثم بن صيفي، وحاجب ابن زرارة، والأقرع بن حابس، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة. ويذكرون أن "ضمرة" حكم، فأخذ رشوة، فغدر. والغدر عيب كبير، ومن أذم الصفات عند الجاهليين6.
وقد نسب أهل الأخبار حكمًا وأمثلة لأكثم بن صيفي، منها المثل: "مقتل الرجل بين فكّيه" يعني لسانه7، ومن الأقوال المنسوبة إليه، قوله: "تناءوا في الديار، وتواصلوا في المزار"8، وقوله: "تباعدوا في الديار تقاربوا في
__________
1 المحبر "239".
2 البيان والتبيين "1/ 264"، "حاشية 3".
3 البيان والتبيين "1/ 264".
4 البيان "2/ 77".
5 البيان والتبيين "3/ 38".
6 مجمع الأمثال "1/ 41".
7 خلق الإنسان "ص195".
8 البيان والتبيين "3/ 255".(15/351)
المودة"1. وقد عدّ أسلوب كلامه من أرشق أساليب الفصحاء، ومن أحكم كلام، فيه نصائح وحكم مع بلاغة متناهية وفصاحة. ونسبوا له خطبًا منمقة2، هو في نظري من هذا النثر المصنوع، الذي وضع على لسانه في الإسلام.
وقد اشتهرت "تميم" بكثرة حكمائها3، ونلاحظ أن هؤلاء الحكماء كانوا حكامًا كذلك، يحكمون بين الناس فيما يقع بينهم من شجار. ومعنى هذا أن بين الحكمة والحُكم عند العرب الجاهليين صلة متينة. وقد رأيت أن تميمًا كانت قد احتكرت لنفسها الحكومة في سوق عكاظ على ما يذكره أهل الأخبار. وهم من القبائل المتقدمة بالنسبة إلى القبائل الأخرى التي كانت عند ظهور الإسلام، انتقلت إليها هذه الحكومة من "بني عدوان"، الذين كان آخر حكامهم "عامر بن الظرب" العدواني.
وقد كان لاتصال أهل الأخبار بتميم، دخل ولا شك في كثرة أسماء حكمائها التي وصلت إلينا من خلال دراستنا لكتبهم، فقد كان اتصالهم بها أكثر من اتصالهم بأية قبيلة أخرى، لوجودها على مقربة من الكوفة والبصرة، ولذلك أكثروا اللغة عنها، حتى صرنا نعرف نعرف من أمور نحوها ولغتها ما لا نكاد نعرفه عن نحو ولغة أية قبيلة أخرى. ولرجال تميم خطب طويلة، في الحكم، هي تأملات وخاطرات وضعت على ألسنتهم في الإسلام، إذ لا يعقل كما سبق أن قلت في مواضع متعددة من هذا الكتاب وصول نصوص نثر، بهذا النوع من الضبط والتحري عن أهل الجاهلية حتى نحكم بصحة نصوص ما نسب إلى حكماء تميم. نعم قد يقول قائل: إن الشاعر "بشر بن أبي خازم" كان قد أشار إلى "كتاب بني تميم"4، فلا يستبعد أن يكون "بنو تميم" قد سجلوا خطب وأشعار سادتهم فيه، ولكني أقول: إن من العلماء من نسب هذا العشر إلى "الطرماح بن حكيم" وهو شاعر إسلامي، توفي في حوالي السنة "105"، وإننا حتى لو فرضنا أن ذلك الشعر هو للطرماح، وأنه يدل على وجود كتاب قديم عند
__________
1 البيان "2/ 70".
2 بلوغ الأرب "3/ 172".
3 Goldziher, History of classical Arabic Literature, p. 7.
4 المفضليات "98"، الأمثال، للميداني "1/ 137"، العسكري، جمهرة الأمثال "289".(15/352)
"بني تميم"، فإننا لا نستطيع أن نأخذ بالظن، ونقول بصحة مثل هذه الخطب المنسوبة إلى خطباء وحكماء تميم لمجرد وجود إشارة إلى كتاب عندهم لا نعرف من أمره شيئًا، غير إشارة إلى اسمه وردت في شعر، لا ندري مبلغ درجته من الصحة والأصالة.
وممن نسبت إليه الحكمة "الأفوه الأودي"، وهو شاعر اسمه "صلاءة بن عمرو" من "أود". وله قصيدة دالية، فيها رأيه في الحكم وفي الناس وفي الخير والشر1. وذكر أنه هو القائل:
ملكنا ملك لقاح أول ... وأبونا من بني أود خيار2
والعادة أن تنسب الحكم إلى المسنين، وقلما نجد حكمًا صادرة من شبان وأحداث وذلك أن العقل لا يكتمل إلا بتكامل العمر وبتقدم الإنسان في السن، وبتقدمه في السن تزيد تجاربه واختباراته في هذه الحياة، فيكون عندئذ أهلًا للنطق بالحكمة. ولم يكتف أهل الأخبار ببلوغ الحكماء سن الشيخوخة الطبيعية، بل صيروا عمر معظم المعمرين فوق المائة، بل جعلوها مئات. وعمر مثل هذا كفيل بأن يكون مصدرًا للحكم والأمثال. ونجد في "كتاب المعمرين من العرب" للسجستاني أمثلة من عمر هؤلاء الحكماء.
__________
1 الأغاني "11/ 44"، الشعر والشعراء "110"، ديوانه، الأمالي، للقالي "2/ 228"، تأريخ آداب اللغة العربية، لزيدان "1/ 134 وما بعدها".
2 تاج العروس "2/ 292"، "أود".(15/353)
الحكمة:
وأما "الحكمة"، فقد ذكر أهل الأخبار أمثلة عديدة منها زعموا أنها لحكماء جاهليين، أوردوا أسماءهم، ولكنهم لم يفيضوا في بيان سيرهم وتراجم حياتهم،(15/326)
الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال
و"المثل" لون من ألوان الحكمة. وهو يقابل "مشل" في العبرانية، ومعنى آخر هو الحكمة والأساطير والقصص ذو المغزى. ولا يشترط في المثل أن يكون نثرًا، فقد يكون شعرًا. وفي الموارد الإسلامية أمثلة جاهلية كثيرة من النوعين، لم يصل أي مَثَلٍ منه مدونًا في نص جاهلي1.
وللحكماء المذكورين أمثلة كثيرة ترد في كتب الأدب والمواعظ والأمثال. وقد شرح غرضها أصحاب الموارد التي ذكرتها، وتعرض الرواة للقصص المروي عنها. غير أن من الصعب التثبت من صحة نسبة تلك الأمثال إلى أولئك الحكماء والتثبت من صحة هذا القصص المروي عنها.
وكلمة المثل من المماثلة. وهو الشيء المثيل لشيء يشابهه، والشيء الذي يضرب لشيء مثلًا، فيجعل مثله2، والأصل فيه التشبيه، ويقابله "مشل" "مشال" Mashal في العبرانية، وParabole في اليونانية، ومعناها المماثلة والمشابهة، أي: المعنى الوارد للفظة في العربية. والغاية من الاهتداء بما فيه من حكمة ومن
__________
1 "والمثل: الشيء يضرب لشيء مثلًا فيجعل مثله"، اللسان "11/ 610 وما بعدها" "صادر"، نهاية الأرب "3/ 2 وما بعدها"، كتاب جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري، "القاهرة 1964م"، "1/ 7".
2 اللسان "11/ 610 وما بعدها"، "مثل".(15/354)
حسن توجيه، ومثل أخلاقية للسير على هديها في الحياة1. وقد ضربت التوراة الأمثال للناس للاتعاظ بها والأخذ بما فيها من عبر. ورد في سفر "حزقيال": "هو ذا كل ضارب مثل يضرب مثلًا عليك قائلًا: مثل الأم بنتها"2، وجاءت الأمثال في الأناجيل فورد: "في هذا يصدق القول: إن واحدًا يزرع وآخر يحصده"3.
وقد لخص الإصحاح الأول من سفر "الأمثال" الغاية من ضرب الأمثال بقوله: "لمعرفة حكمةٍ وأدبٍ، لإدراك أقوال الفهم، لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة، لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبرًا، لفهم المثل واللغز وأقوال الحكماء وغوامضهم: مخافة الرب رأس المعرفة. أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب"4. فالأمور المذكورة، تمثل الغاية التي يتوخاها ضراب الأمثال من الأمثال: وقد جعلت أسفار الأمثال المثل: مخافة الرب رأس المعرفة أول أمثالها: وهو في العربية: رأس الحكمة مخافة الله.
ونجد في سفر "أمثال" كلامًا للحكماء، هو مزيج من أمثلة وحكم وألغاز، دون أن يشير إلى أسماء أصحابه5، ونجد مثل ذلك في الأدب العربي. وقد اشتهر أبناء الشرق بالحكمة عند العبرانيين.
والمثل بعد، هو عقل ضاربه، وثقافة البيئة التي ظهر فيها. ولهذا نجد الأمثال متباينة مختلفة حسب تنوع القوم الذين ظهر بينهم. ففي البيئة التجارية يكون المثل من هذه البيئة في الأغلب، وفي البيئة الزراعية يكون المثل مشربًا بروح المزارعين، وفي البادية تكون الأمثال ذات طبيعة بدوية. ومن هنا اختلفت أمثال قريش عن أمثال الأعراب، وأمثال عرب العراق عن أمثال أهل العربية الجنوبية، وهكذا. ولهذا فإن للمثل في نظر المؤرخ قيمة كبيرة من حيث إنه يرشده إلى مظاهر تفكير من ضرب بينهم، ويعرفه بمبلغ ثقافة قائليه.
ولما كانت الأمثال مرآة لعقلية زمانها ولعقلية من ينسب قول المثل إليه، أو من
__________
1 Hastings, p. 767.
2 حزقيال، الإصحاح السادس عشر، الآية 44.
3 إنجيل يوحنا 4، الآية 37.
4 أمثال، الإصحاح الأول، الآية الأولى وما بعدها.
5 أمثال، الإصحاح الثاني والعشرون، والإصحاح الرابع والعشرون.(15/355)
ضرب به المثل. تباينت في البلاغة وفي قوة التعبير وعمق المعنى، وفي الفكرة، فصار بعضها آية في الحكمة وفي قوة البيان وفي عمق المغزى والمعنى، وصار بعض منها بسيطًا تافهًا. ونجد هذه الحالة في أمثال كل الأمم. إذ إن المثل لا يصدر عن طبقة معينة، بل قد يأتي من رجل جاهل بسيط، وقد ينسب إلى غبي بليد أو إلى شخص من سواد الناس اتخذ رمزًا للتعبير عن ناحية من نواحي الحياة، أو نموذجًا يعبر عن طبقة من الطبقات. وإنما المهم في رواج المثل وفي بقائه، أن يكون منبعثًا عن واقع حال، معبرًا عن رأي سديد، قصير قدر الإمكان مركزًا له وقع حسن على السمع، يصلح أن يكون مثلًا لكل زمان ومكان. فيروج ويدوم، وقد يتخذ مثلًا من أمثلة الحكمة، وهو كلما قصر، سهل حفظه وطال عمره.
وأفضل المثل السائر: أوجزه، وأحكمه: أصدقه، وقولهم: مثل شرود، وشارد، أي: سائر لا يرد كالجمل الصعب الشارد الذي لا يكاد يعرض له ولا يرد. وقد تأتي الأمثال محكمة إذا تولاها الفصحاء من الناس، وإذا جاءت في الشعر، سهل حفظها1.
والأمثال مادة مهمة غنية في الأدب الجاهلي والإسلامي. وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة ضربت للناس للتفكر والتعقل، وهي تدل على ما لها من أهمية تعليمية في العقل العربي. والأمثال المضروبة مرجع لمن يريد الوقوف على بعض الأمثلة التي استعملها الجاهليون. وفي الحديث النبوي مادة مهمة تمدّ هذا الباحث بمادة غزيرة عن المثل عند الجاهليين2.
و"الأمثال من حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في النطق بكناية بغير تصريح، فيجتمع لها بذلك ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه"3. فالأمثال إذن عند الجاهليين نوع من أنواع الحكمة السائرة بين الناس. يقولها السيد والمسود، البارز والخامل، وهي تحفظ بسهولة ولا يحتاج المرء لتعلمها إلى
__________
1 العمدة "1/ 280 وما بعدها".
2 المستطرف في كل فن مستظرف "1/ 27 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 234".(15/356)
مهارة وذكاء. وكان لحفّاظ الأمثال مقام عندهم؛ لأنهم ممن وهبوا بيانًا ناصعًا وقوة في اللسان، تمكن صاحبه من ضرب المثل في موضعه، ومن قوله في مكانه. والعادة أن يكثر الحكيم من الأمثال في كلامه؛ لأنها المادة التي يستعين بها في إظهار حكمته وعقله، يضيف عليها أمثالًا من عنده، هي من وحي تجاربه وقوة ملاحظته.
وقد وردت كلمة "مثل" و"أمثال" في مواضع كثيرة من القرآن، وفي ورود الكلمتين بهذه الكثرة دلالة بالطبع على ما كان للمثل من أهمية كبيرة عند الجاهليين. وفيه أمثلة كثيرة ضربت للعبرة والتذكر، لتكون درسًا يتعظ به أولو الألباب. ويلاحظ أن العرب يضعون لفظة "ضرب" قبل كلمة المثل في الغالب، ورد في القرآن الكريم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} 1، و {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} 2، وورد {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} 3، و {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} 4، و {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} 5، وفي مواضع أخرى منه. وضرب المثل إيراده ليتمثل به ويتصور ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب. يقال: ضرب الشيء مثلًا وضرب به وتمثله وتمثل به. وضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به6.
وقد أشاد العلماء بما للأمثال من أهمية في الحث على إصلاح النفس، فقال بعضهم: "إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيرًا ووعظًا"، وقال بعض آخر: "ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد من العقل، وتصويره بصورة المحسوس ... إلخ". وروي أن الرسول قال: "إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال" 7.
وجعل "الماوردي" الأمثال من أعظم علم القرآن8.
__________
1 إبراهيم، الرقم 14، الآية 24.
2 النحل، الرقم 16، الآية 75 وما بعدها، ومواضع أخرى.
3 إبراهيم، الرقم 14، الآية 45.
4 النحل، الرقم 16، الآية 74.
5 الحشر، الرقم 59، الآية 21.
6 تاج العروس "1/ 347"، "ضرب".
7 السيوطي، الإتقان "4/ 38".
8 المصدر نفسه.(15/357)
وللرسول أمثال كثيرة، وذكر عن "عمرو بن العاص"، أنه حفظ عن النبي ألف مثل1. ونجد في كتب الأمثال أمثالًا نسبت إلى الرسول. منها: "إن من البيان لسحرًا"2، و"إن مما ينبت الربيعُ لما يقتل حبطًا أو يلم"3. و"إياكم وخضراء الدمن"4، و"من كثر كلامه كثر سقطه"5، و"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، ويروى أنه من أمثلة أهل الجاهلية6. وقد نسبت أمثلة جاهلية أخرى إلى الرسول.
والأمثال أقوال مختصرة، يراعى في وضعها الإيجاز والبلاغة والتأثير. وقد يكون المثل كلمتين، وقد يكون أكثر من ذلك. ولكن العادة ألا يكون طويلًا؛ لأن طول المثل يفقده روعته وتأثيره، فلا يكون مثلًا، ولا يمكن حفظه عندئذ فيضيع. ويراعى أن يكون سجعًا أو طباقًا. وأن يرتب في جمل متوازية بسيطة العبارة، أو مزدوجة أو أكثر من ذلك قليلًا. وأن تكون هنالك مناسبة بين الجمل حتى يبدو المثل جميلًَا متناسقًا.
والقاعدة في الأمثال ألا تغيّر، بل تجري كما جاءت. وقد جاء الكلام بالمثل وأخذ به وإن كان ملحونًا؛ لأن العرب تجري الأمثال على ما جاءت، ولا تستعمل فيها الإعراب7. والأمثال قد تخرج عن القياس، فتُحكى كما سُمعت، ولا يطرد فيها القياس، فتخرج عن طريقة الأمثال. "قال المرزوقي: من شرط المثل ألا يغيّر عما يقع في الأصل عليه"8.
وقال المرزوقي "في شرح الفصيح: المثلُ جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى
__________
1 الاستيعاب "2/ 339"، "حاشية على الإصابة".
2 العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 13".
3 المصدر نفسه "1/ 16".
4 العسكري، جمهرة "1/ 17"، الميداني "1/ 21"، المستقصي "180".
5 العسكري، جمهرة "1/ 19".
6 العسكري، جمهرة "1/ 58"، الميداني "2/ 194"، الفاخر "147"، السيوطي، الجامع الصغير "1/ 188".
7 المزهر "1/ 487"، "النوع الخامس والثلاثون. معرفة الأمثال".
8 المزهر "1/ 487 وما بعدها".(15/358)
أشباهه من المعاني، فلذلك تُضرب وإن جُهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومُضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام"1.
ويلاحظ أن العرب قد أجازت لضارب المثل الخروج فيه على قواعد اللغة، كما أجازت ذلك للشاعر بدعوى ضرورات الشعر، ليستقيم الشعر مع القوافي والوزن. أجازته في المثل لأنه قد يصدر شعرًا، وقد يصدر سجعًا، وقد يصدر من أفواه أناس جهلة لا يبالون بالقواعد، أو ليس لهم علم بها، وقد يصدر من قبيلة لا تتبع في لغتها قواعد الإعراب.
ونجد في كتب الأمثال وفي كتب الأدب أمثالًا وضعت لأغراض مختلفة، يغلب عليها الطابع التعليمي، أي: تعليم من يقرأها حكمة الحياة، وتجارب الماضين حتى يُستفاد ويُتعظ. بعض منها نابع من محيط البداوة ومن الطبيعة الأعرابية، وبعض منها تجارب عملية عامة تنطبق على كل الناس وتصلح لكل الأوقات2.
والأمثال عند بعض الشعوب صنف من أصناف الشعر، لما فيها من الخصائص المتوفرة في الشعر عندهم. وقد روعي في المثل بصورة عامة أن يكون قصيرًا موجزًا وبليغًا معبرًا عن حكمة، فيه نغمة وترنيم. ليؤثر في النفوس. ويحمل الطبع قائل المثل على مراعاة هذه الأمور من غير تفكير ولا تصنع، وهو إذا كان صادرًا من قلب وسجية، ومعبرًا عن نفس جياشة وعن حس بشري عام، يشعر به كل إنسان تقبله الناس بسرعة، ووجد له مجالًا من الانتشار، وعمر عمرًا طويلًا.
والأمثال، هي في صدر المؤلفات التي وضعها المسلمون، فقد روي: أن عبيدًا بن شَرْيَةَ الجُرهُمي، وهو من أهل "صنعاء" باليمن، من أوائل المؤلفين في الأخبار وملوك العرب والعجم، ألّف كتاب "الأمثال" وقد رآه "ابن النديم" في نحو خمسين ورقة. كذلك ألّف صحار بن العباس العبدي، وهو من بني عبد القيس، وممن أدرك الرسول، "كتاب الأمثال"3. وذكروا
__________
1 المزهر "1/ 486 وما بعدها".
2 الأمالي "2/ 11، 28، 51، 77 ومواضع أخرى"، المستطرف "1/ 27 وما بعدها"، المزهر "1/ 488 وما بعدها".
3 الفهرست" ص138"، ابن الأثير "1/ 149".(15/359)
أن "عِلّاقة الكلابي" جمع الأمثال في عهد يزيد بن معاوية1، وأن "المفضل الضبي" "168هـ" من مشاهير علماء الكوفة في الشعر واللغة ألّف كتابًا في الأمثال دعاه: كتاب الأمثال2، وأن أبا عبيد القاسم بن سلام "223هـ" "224"هـ"، ألّف كتابًا في الأمثال كذلك3.
وألّف "يونس بن حبيب" "183هـ" كتابًا دعاه "كتاب الأمثال"4، وألف "أبو المنهال" كتابًا في الأمثال، عرف بـ "كتاب الأمثال السائرة" وقف عليه "ابن النديم"5، ولأبي عبيدة "209هـ" "210هـ" "211هـ" كتاب في الأمثال، عرف بكتاب الأمثال6، وللأصمعي "217هـ" كتاب في الأمثال كذلك7، وللشورى، وهو ممن أخذ عن الأصمعي كتاب في الأمثال8. ولأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان, من تلامذة الأصمعي, كتاب في الأمثال9. وألّف غير هؤلاء من العلماء كتبًا في هذا الموضوع طبع بعض منها فنال شهرة, مثل كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري "395هـ", وكتاب مجمع الأمثال للميداني "518هـ"10، وقد أخذ "أبو هلال العسكري" أمثالًا وردت في كتاب لحمزة الأصبهاني في الأمثال، وهو كتاب توجد نسخة خطية منه في القاهرة11.
وبين المؤلفات في الأمثال رسالة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي
__________
1 الفهرست "90"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 261"، فجر الإسلام "ص61" "الأمثال"، "الطبعة العاشرة".
Wustenfeld, Geschichtschr., ll, Goldziher, Muh. Stud, ll, 204.
2 الفهرست "108".
3 الفهرست "112".
4 الفهرست "69"
5 الفهرست "78".
6 الفهرست "85".
7 الفهرست "88".
8 الفهرست "91".
9 الفهرست "92".
10 كارلو نلينو، تأريخ الآداب العربية "96".
11 العسكري، جمهرة "1/ 6"، "حاشية رقم 5".(15/360)
"395 هـ"، طبعت بعنوان: "كتاب أبيات الاستشهاد"1، دوّن فيها بعض الشعر الذي استشهد به الناس في أمثالهم. ورسالة أخرى ألّفها "أبو العباس محمد بن يزيد المبرد" الأزدي "285هـ"، بعنوان: "رسالة في أعجاز أبيات تغني في التمثيل عن صدورها"2.
وهنالك مؤلفات عديدة أخرى، وضعت في الأمثال. وفي إقبال المؤلفين على التأليف بها بهذه الكثرة، دلالة على ما كان للمثل من أهمية، وعلى ما كان له من قيمة في نظر أهل الجاهلية. حفظوه حفظهم للشعر، بل أكثر من الشعر؛ لأنه يرد على كل لسان، يرد على لسان الحكيم البليغ كما يرد على لسان الغبي والجاهل، ثم إنه توجيه وتربية وتعليم، فلا نستغرب إذن إذا ما وجدنا كتب الأمثال في صدر الكتب التي ظهرت في الإسلام. وقد رأيت أنها ظهرت في عهد "معاوية" وبأمره، فهي بحق من أوائل المؤلفات التي وصلت إلينا بالعربية. وكان معاوية مولعًا بسماع الأمثال والقصص وأخبار الماضين والشعر.
والأمثال، هي أيضًا مادة مهمة لفهم التأريخ الجاهلي. فقد تعرض جامعوها لأصل المثل وللأسباب مضربه، وجاءوا بشروحهم هذه بمادة تأريخية استعنا بها على فهم مواضع من ذلك التأريخ. ولكنا يجب أن نأخذ هذه الأمثال وشروحها بحذر. ففي أكثر الشروح تكلف وضعف، يدلان على عدم إمكان الاعتماد عليها في تكوين حكم علمي.
ونجد في الأمثال الجاهلية أمثالًا ضربت بالناس، مثل: أسخى من حاتم، وأشجع من ربيعة بن مكدم، وأدهى من قيس بن زهير، وأعز من كليب وائل، وأوفى من السموأل، وحجام ساباط، وقوس حاجب، وغيرها. ونجد أمثالًا تمثل فيها بالبهائم، وغير ذلك. ولكل مثل قصة تروي منشأ ضرب ذلك المثل وما وراءه من خبر. وهي تعبير عن روح الزمان الذي قيل فيه وعن نفسية المتمثلين به. وكثير من الأمثال الجاهلية ما زالت دائرة على ألسنة الناس. وفي وجودها دلالة على أن الأحوال التي قيلت فيها لا تزال قائمة، ودليل ذلك اعتبار الناس بها والاستشهاد بها في المناسبات.
__________
1 سلسلة نوادر المخطوطات "المجموعة الثانية"، "137 وما بعدها"، "تحقيق عبد السلام هارون"، "القاهرة 1951م".
2 نوادر المخطوطات "المجموعة الثانية"، "63 وما بعدها".(15/361)
وبين أمثال العرب أشعار جاهلية الأصل صارت مثلًا، ولا يزال بعض منها حي يضرب به مثل، لما فيه من حكمة ومن ملاءمة لكل وقت وزمان1. وضرب المثل بعجز البيت أحيانًا أو بجزء منه، كما في المثل: "بعض الشر أهون من بعض". فهو من بيت ينسب لطرفة هو:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض2
ومن الأمثلة القديمة المشهورة حتى اليوم: "آخر الدواء الكي"، و"آخر الطب الكي"، زعم أنه من أمثلة "لقمان بن عاد". وقد ذكر "الزمخشري" سبب ضرب "لقمان" له، وأورد له كلامًا مع امرأة خانت زوجها، وكلامًا مع زوجها وكيف عرفه فأرشده إلى خيانتها له3. وأورد مثلًا ضرب بكثرة أكل "لقمان"، هو: آكل من لقمان. وكانوا يزعمون أنه كان يتغدى بجزور، ويتعشى بأخرى، ويتخلل بحوار. وأنه ضاجع امرأته يومًا، وقد أكل جزورًا، وأكلت فصيلًا، فما قدر على الإفضاء إليها، فقال: كيف أفضي إليك وبيني وبينك بعيران4.
ويظهر من القصص المنسوب إليه، أنه قد انتزع من قصص قديم، كان معروفًا عند الجاهليين، مرويًّا بينهم. فإذا أعدنا قصته المذكورة مع المرأة، وقد رواها "ابن الكلبي" عن "عوانة"5 نجدها وقد غصت بالأمثلة، وبطريقة الجاهليين في التفسير والتعليل، مما يجعل الإنسان يرى أنها من القصص الجاهلي القديم، الذي احتفظ بمعناه ومضمونه، وإن صيغ بلغة حاكيه.
ورووا لقس بن ساعدة الإيادي، أمثالًا، منها: إذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاصدق، ولا تستودعن سرك أحدًا، فإنك إن فعلت لم تزل وجلًا، وكان بالجيار، إن جنى عليك كنت أهلًا لذلك، وإن وفى لك كان الممدوح
__________
1 المستطرف "1/ 30 وما بعدها".
2 العسكري، جمهرة "1/ 67".
3 الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب "1/ 3"، "حيدر آباد الدكن 1962م"، العسكري، جمهرة "1/ 97، 426".
4 المصدر نفسه "ص7".
5 العسكري، جمهرة "1/ 424 وما بعدها".(15/362)
دونك. وكن عف العيلة، مشترك الغنى تسد قومك. إلى غير ذلك من أمثال نسبوها إليه1.
وفي "كتاب الجوهرة في الأمثال" من "العقد الفريد"، باب خاص عنوانه: "أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي"2. وهي تستحق الدرس والنقد، لمعرفة أصولها وعلاقة هذه الأمثال بالأدبين العربي والفارسي.
ونجد في كتب الأدب طائفة من الأمثال في الأدب والحكمة، نسبت إلى "أكثم بن صيفي"، منها: ربّ عجلة تهب ريثًا، وادرعوا الليل فإن الليل أخفى للويل، والمرء يعجز لا المحالة، ولا جماعة لمن اختلف، ولكل امرئ سلطان على أخيه حتى يأخذ السلاح فإنه كفى بالمشرفية واعظًا، وأسرع العقوبات عقوبة البغي، وشر النصرة التعدي، ورب قول أنفذ من صول، والحر حر وإن مسه الضر، والعبد عبد وإن ساعده الجد، وإذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد، وربّ كلام ليس فيه اكتتام، وحافظ على الصديق ولو في الحريق، وليس من العدل سرعة العذل، وليس بيسير تقويم العسير، وإذا بالغت في النصيحة هجمت بك على الفضيحة، ولو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم3.
وليس في إمكان أحد إثبات أن هذه الأمثال وغيرها هي لأكثم بن صيفي حقًّا، وبينها أمثال إنسانية عامة نجدها عند مختلف الأمم، وبينها أمثال قيلت في اليونانية وفي بعض اللغات الأخرى قبل أيام "أكثم" بزمان طويل. إلا أن نسبة هذه الأمثال إليه، تشير إلى أنه كان من حكماء الجاهلية البارزين ومن ذوي الرأي والحكمة عند قومه.
والأمثال النابعة من صميم الحياة الإنسانية ومن التجارب العملية، والاختبارات الطويلة، تكون ذات طبيعة حكيمة عامة، فتظهر لذلك عند كل الناس، وتخرج على كل لسان، فلا يمكن أن يقال: إنها من مخترعات الأمة الفلانية، ومن مبتكرات العقل الفلاني؛ لأنها كما قلت خواطر إنسانية، تخطر على بال كل
__________
1 العسكري، جمهرة "1/ 249"، الميداني "1/ 73".
2 العقد الفريد "3/ 63 وما بعدها"، ومن أمثاله: "مقتل الرجل بين فكيه"، و"ربما أعلم فأذر"، يريد أنه يدع ذكر الشيء وهو به عالم لم يحذر من عاقبته، العقد الفريد "3/ 81".
3 المزهر "1/ 50 وما بعدها".(15/363)
شخص، له رأي سديد، وفكر صائب. وإن نسبت إلى شخص معين، لذلك يصعب علينا إرجاع الأمثال الإنسانية العامة إلى جماعة معينة. قال "الجاحظ": وقد كان الرجلُ من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثلة سائرة، ولم يكن الناس جميعًا ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع، ومدار العلم على الشاهد والمثل"1.
ومن أمثال أهل الجاهلية: إن من البيان لسحرًا، وإن الجواد قد يعثر، وإن البلاء موكل بالمنطق، وإن أخا الهيجاء من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك. وأنف في السماء وأنف في الماء. وأَجِع كلبك يتبعك، واشتدى أزمة تنفرجي، وربّ رمية من غير رام، وربّ أكلة تمنع أكلات، واستراح من لا عقل له، وسبق السيف العذل، إلى غير ذلك من أمثلة2.
ومن الأمثال الجاهلية الباقية حتى اليوم المثل: مواعيد عرقوب، مثل يضرب لمن يعد ولا يفي. فقد ورد في شعر المتلمس، إذ قال:
الغدر والآفات شيمته ... فافهم فعرقوبٌ له مثل
وورد في شعر كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلًا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
قيل: عرقوب رجل من خيبر، كان يهوديًّا وكان يعد ولا يفي، فضربت به العرب المثل. وقيل: رجل من العماليق أتاه أخ له يسأله فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها. فلما أطلعت أتاه للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحًا، فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير زهوًا، فلما أزهت قال: دعها حتى تصير رُطبًا، فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمرًا، فلما أتمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجذّها، ولم يعطِ أخاه منه شيئًا، فصار مثلًا، وفيه يقول الأشجعي:
وعدتَ وكان الحلف منك سجيةً ... مواعيد عُرقُوب أخاه بيثرب
__________
1 البيان والتبيين "1/ 271".
2 المستطرف "1/ 28 وما بعدها".(15/364)
وقال آخر:
وأكذب من عرقوب يثرب لهجةً ... وأبين شؤمًا في الحوائج من زُحل1
وذكر أن اسمه "عرقوب بن صخر"، أو "عرقوب بن معبد "معيد" بن أسد"، رجل من العمالقة على القول الأول. قاله ابن الكلبي، وعلى القول الثاني، فهو رجل من "بني عبد شمس بن سعد"، وقيل: إنه كان من الأوس. كان أكذب أهل زمانه، ضربت به العرب المثل في الخلف، فقالوا: مواعيد عرقوب2.
ومن الأمثال القديمة: صحيفة المتلمس، روي أن الرسول كتب كتابًا لعيينة بن حصن، فلما أخذه، قال: "يا محمد أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا كصحيفة المتلمس". هي إحدى الصحيفتين اللتين كتبهما "عمرو بن هند" لطرفة والمتلمس، إلى عامله بالبحرين في إهلاكهما، وخيّلهما أنهما كتابا جائزة، فنجّى المتلمس عملُه على الخرم وهربُه إلى الشأم، وسارت صحيفته مثلًا في كل كتاب يحمله صاحبه يرجو منه خيرًا وفيه ما يسوءه3.
ومن الأمثلة القديمة "عنقاء مغرب"، والمثل به، "طارت به عنقاء مُغرِبٌ" زعموا أنه طائر كان على عهد "حنظلة بن صفوان الحميري" نبي أهل الرس عظيم العنق، وقيل: كان في عنقه بياض ولذلك سُمي عنقاء، اختطف غلامًا فأغرب به، ولذلك سُمي المغرب، فدعا عليه حنظلة فرمي بصاعقة. وقد ذكر المثل في الشعر4.
ومن الأمثال الجاهلية الحية التي لا تزال ترزق، المثل: "تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه". يضرب مثلًا لمن خبره خير من مرآه. ذكر "ابن الكلبي" أن هذا المثل ضُرب "للصقعب بن عمرو" النهدي. قاله له النعمان بن المنذر وقال "المفضل": المثل للمنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فأرسلها مثلًا
__________
1 المزهر "1/ 494 وما بعدها".
2 تاج العروس "1/ 378"، "عرقب".
3 الفائق "2/ 13".
4 الزمخشري، المستقصي "2/ 150".(15/365)
فقال: له شقة: أبيت اللعن! إن الرجال ليسوا بجُزر يراد منهم الأجسام، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه فذهب مثلًا، وأعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ثم سمّاه باسم أبيه فقال: أنت ضمرة بن ضمرة. وقيل: إن المثل للنعمان بن المنذر، قاله لشقة بن ضمرة1.
وقد أورد "ابن الكلبي" قصة تأريخ المثل على هذا النحو: قال: وفد "الصقعب بن عمرو" النهدي في عشرة من "بني نهد" على "النعمان بن المنذر" وكان "الصقعب" رجلًا قصيرًا دميمًا تقتحمه العين، شريفًا بعيد الصوت، وكان قد بلغ النعمان حديثه، فلما أخبر النعمان بهم قال للآذن: إئذن للصقعب، فنظر الآذن إلى أعظمهم وأجملهم، فقال: أنت أنت الصقعب؟ قال: لا. فقال: الذي يليه في العظم والهيئة: أأنت هو: فقال: لا. فاستحيا فقال: أيكم الصقعب؟ فقال الصقعب: هأنذا! فأدخله إلى النعمان، فلما رآه قال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! فقال الصقعب: أبيت اللعن! إن الرجال ليسوا بالمسوك يستقى فيها، إنما الرجل بأصغريه بلسانه وقلبه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان. فقال له النعمان: فلله أبوك! ثم سأله أسئلة امتحنه بها، ليرى عقله، فكان يجيبه أحسن جواب. فقال له النعمان: أنت أنت! فأحسن صلته وصلة أصحابه2.
وينسب المثل: "ألوى بَعيد المستمر"، إلى "النعمان بن المنذر"، وأخوه "طُفيل الغنوي" فأدخله شعره3. ومن الأمثلة الشهيرة القديمة قولهم: "على أهلها جنت براقش"، يضرب مثلًا للرجل يهلك قومه بسببه4.
وينسب المثل: "إن الشقي وافد البراجم" لعمرو بن هند، ملك الحيرة، حلف ليقتلن مائة من تميم، فقتل تسعة وتسعين رجلًا منهم إحراقًا بالنار، وبقي واحد، فلما دنا رجل من البراجم من الملك، وسأله عن أهله، فقال: من
__________
1 الخزانة "1/ 151"، "بولاق".
2 المزهر "1/ 495 وما بعدها"، العمدة "1/ 285".
3
ألفيتني ألوى بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خير وشر
العسكري، جمهرة "1/ 32 وما بعدها".
4 العمدة "1/ 285".(15/366)
البراجم، قال: إن الشقي وافد البراجم، وأمر به فألقي في النار1.
ومن الأمثال المشهورة قولهم: "عند جهينة الخبر اليقين". وقيل: "عند جفينة الخبر اليقين" "حُفينة". وكان من حديثه أن "حصين بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن كلاب" خرج، ومعه رجل من "جهينة" يقال له: "الأخنس" فنزلا منزلًا، فقام الجهني إلى الكلابي فقتله، وأخذ ماله، وكانت أخته "صخرة" بنت "عمرو" تبكيه في المواسم، وتسأل عنه فلا تجد من يُخبرها، فقال الأخنس فيها:
كصخرة إذ تسائل في مِراح ... وفي جَرْمٍ وعلمهما ظنونُ
تسائل عن حصينٍ كل ركب ... وعند جهينة الخبر اليقين2
ومن أمثالهم المشهورة قولهم: بمثل جارية فلتزن الزانية، وذلك أن "جارية بنت سليط بن الحرث بن يربوع بن حنظلة" كان أحسن الناس وجهًا وأمدهم قامة، وأتى سوق عُكاظ فأبصرته فتاةٌ من خثعم فأعجبها فتلطفت له، حتى وقع عليها، فعلقت منه، فلما ولدت أقبلت هي وأمها وخالتها تلتمسه بعكاظ، فلما رأته الفتاةُ قالت: هذا جارية! فقالت أمها: بمثل جارية فلتزن الزانية سرًّا أو علانية، فذهب مثلًا3.
ونسب المثل: "أرسل حكيمًا ولا توصه" إلى "الزبير بن عبد المطلب"4، ونسب المثل "استنوق الجمل" لطرفة بن العبد5. ومن الأمثلة القديمة: "على أهلها دلت براقش"، و"عش رجبًا تر عجبًا"6، و"العصا من العصية" و"أعز من كليب وائل"، و"أعزّ من بيض الأنوق" و"أعز من
__________
1 العسكري، جمهرة "1/ 121"، "يذكر 98 شخصًا، ثم يتم العدد، بذكر هذا الرجل، ثم أكمله بالحمراء بنت خمرة، حيث أحرقها، وتحلل من يمينه، وتذكر الموارد الأخرى خلافه. وقد تحدثت عن هذا المثل".
2 المزهر "1/ 498 وما بعدها"، العسكري، جمهرة "2/ 44".
3 المزهر "1/ 499".
4 العسكري، جمهرة "1/ 98".
5 العسكري، جمهرة "1/ 54"، الأغاني "1/ 132"، الشعر والشعراء "1/ 135".
6 العسكري، جمهرة "2/ 52 وما بعدها"، الميداني "1/ 310"، الحيوان "1/ 260"، العقد الفريد "3/ 54".(15/367)
الغراب الأعصم"، و"أنصف القارة من راماها". والمثل: "أرسل حكيمًا ولا توصه"، هو في الواقع مَثَل قديم، لا بد وأن يكون قد وضع في العربية، قبل أيام "الزبير"، إذ ينسب إلى الحكيم "أحيقار"، وربما نقل من السريان إلى العرب.
وقد ضرب المثل بشخصيات جاهلية، تركت أثرًا في أيامها، فضرب بها المثل. مثل: "أبلغ من قس"، ويراد به قس بن ساعدة الخطيب الشهير، وأعيا من باقل. وهو رجل من إياد، وقيل: من ربيعة. اشترى ظبيًا بأحد عشر درهمًا، فمرّ بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي؟ فمدّ يديه وأخرج لسانه يريد أحد عشر، فشرد الظبي حين مد يديه، وكان تحت إبطيه1. وضرب المثل ببخل مادر، فقيل: أبخل من مادر، وبفصاحة سحبان، فقيل: أخطب من سحبان، وهو القائل:
لقد علم الحي اليمانون أنني ... إذا قلت أمّا بعد أني خطيبها2
وضرب الجاهليون الأمثال بكل ما وجدوه حولهم من حيوان ومن نبات وصخور. ولذا نجد على أمثالهم طابع محيطهم، فالحيوان الذي ضربوا به المثل، هو من حيوان جزيرة العرب، ومن النوع المألوف عندهم، مثل الضب والحية والعنز والإبل وما إلى ذلك. ومن هنا اختلفت أمثلة الأعراب أهل البادية عن أمثلة الحضر، أهل المدر، لاختلاف طبيعة البادية عن طبيعة الريف، ولوجود أشياء في أحدهما يندر وجودهما في المحيط الآخر.
وفي شعر "عدي بن زيد" العبادي أمثلة كثيرة، تميز شعره عن شعر بقية الشعراء الجاهليين. ولو درسنا شعره، نجد أن فيه ما يشير إلى مواعظ ترد في النصرانية كما ترد على خاطر كل إنسان يصاب بنكبة, فتهز مشاعره فتجعله ينظر إلى الدنيا نظرة زاهد فيها، ولا أستبعد احتمال تأثره بالكتب التي كان قد وقف عليها، فقد كان نصرانيًّا "وقد قرأ كتب العرب والفرس"3. ولم يذكر أهل
__________
1 المزهر "1/ 503".
2 المزهر "1/ 504".
3 الطبري "2/ 193"، "دار المعارف".(15/368)
الأخبار شيئًا عن "كتب العرب"، هل أريد بها كتب دينية وضعت في العربية، أم قصد بها كتب في القصص والأمثال وفي الشعر والأخبار وما شابه ذلك، ولعلهم أرادوا بكتب الفرس، الكتب التي تبحث عن قصص ملوكهم. وقد ترجم قسم منها في الإسلام، وقصص الأساطير. وقد رأينا أنها كانت معروفة عند العرب وأن "النضر" كان يقص منها لأهل مكة، وكانوا يسمونها الأساطير.
ونجد في شعر الشعراء الآخرين أمثلة عديدة دخلت شعرهم، أخذوها من المثل السائر، ومن الحكم التي كانت شائعة في أيامهم، أو من القصص، أو من مبتكراتهم ومخترعاتهم، ولا تزال بعض الأمثال الشعرية حية ترزق، يضرب بها الناس المثل فيما يريدون التمثيل به.
ومن الموارد التي أمدّت الأدب الجاهلي بالمثل، الكهان، وكلام الكهان قصير مسجع يميل إلى الرمز والألغاز، يتجنب الصراحة، لتكون فيه قابلية التفسير والتأويل وإعطاء كثير من الاحتمالات، وذلك لما تقتضيه طبيعة الكهانة من تأويل التكهن حسب الأحوال والمناسبات. ونجد في كتب الأدب أمثلة عديدة منسوبة إلى هؤلاء الكهان. ولما كان كلامهم مسجوعًا، قيل له: "سجع الكهان". وقد جاء في الحديث النبوي: "هذا من سجع الكهان"1. وفي الكهان جماعة من الكاهنات، عرفن بالتكهن، مثل: الشعثاء الكاهنة، وطريفة، ويذكرون أنها هي التي أنذرت عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه، وأخبرته بخراب سد مأرب2، وزبراء الكاهنة3، وسلمى الهمدانية الحميرية4، وعفيراء الكاهنة الحميرية5، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وقد ذكروا أنها كانت قد قرأت الكتب6.
ومن الأمثلة الواردة في كتب الأدب: "إن العصا من العُصية"، وهو مثل ينسب إلى "الأفعى الجرهمي"، وهو من الكهّان. قاله لما احتكم إليه أولاد "نزار" بمدينة النجران7. و"الصيف ضيعت اللبن"، وأول من قاله "عمرو
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 272".
2 بلوغ الأرب "3/ 283 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "3/ 288 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "3/ 295 وما بعدها".
5 بلوغ الأرب "3/ 296 وما بعدها".
6 بلوغ الأرب "3/ 305 وما بعدها".
7 نهاية الأرب "3/ 7 وما بعدها".(15/369)
ابن عدس"1، والمثل "أوسعتهم سبًّا وأودوا بالإبل" وينسب إلى "كعب بن زهير بن أبي سلمى"2، والمثل "أن الشقي وافد البراجم"3. إلى غير ذلك من أمثلة تجدها في كتب الأمثال والأدب. ولا يزال بعضها حيًّا يتمثل الناس به, وبعض منه يرد على لسان كل إنسان. أي: أمثلة تنطبق على كل البشر؛ لأنها صادرة من نفس إنسانية عامة، فلا تعدّ من الأمثلة المحلية أو القومية، أي: أمثلة نبعت من محيط أمة معينة. لذلك نجد لها شبهًا عند أمم أخرى. ولا نستطيع أن نقول: إن الأمة أخذتها من تلك.
__________
1 نهاية الأرب "3/ 13 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "3/ 17".
3 نهاية الأرب "3/ 18".(15/370)
فهرس الجزء الخامس عشر:
الفصل السادس عشر بعد المائة
الفن الجاهلي 5
الفصل السابع عشر بعد المائة
القصور والمحافد والآطام 34
الفصل الثامن عشر بعد المائة
الخزف والزجاج والبلّور 58
الفصل التاسع عشر بعد المائة
الفنون الجميلة 66
الفصل العشرون بعد المائة
أميّة الجاهليين 91(15/371)
الفصل الحادي والعشرون بعد المائة
الخط العربي 144
الفصل الثاني والعشرون بعد المائة
المسند ومشتقاته 202
الفصل الثالث والعشرون بعد المائة
الكتابة والتدوين 248
الفصل الرابع والعشرون بعد المائة
الدراسة والتدريس 291
الفصل الخامس والعشرون بعد المائة
الكتاب والعلماء 313
الفصل السادس والعشرون بعد المائة
الفلسفة والحكمة 336(15/372)
الفصل السابع والعشرون بعد المائة
الأمثال 354
الفهرست 371(15/373)
المجلد السادس عشر
الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص
...
الفصل الثامن والعشرون بعد المائة: القصص
والقصص، مظهر من مظاهر الفكر الجاهلي، أشير إليه في القرآن الكريم، وكان شائعًا عند الجاهليين. ودراسته تمكن الدارس من تحليل عقلية صاحب القصص، وفهم عقلية الزمن الذي شاع فيه. وقد ورد في المؤلفات الإسلامية شيء منه، وفي بعضه ملامح يمكن إرجاعها إلى عناصر أعجمية: دينية، وغير دينية، تسرب إلى الجاهليين من اتصالهم بالأعاجم، واتصال الأعاجم بهم.
والقصص البيان، والقاص من يأتي بالقصة على وجهها، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. وقيل: القاص يقص القصص لأتباعه، خبرًا بعد خبر وسوقه الكلام سوقًا. وقد كان القص شائعًا متفشيًا بين الجاهليين والإسلاميين، وكانوا يقبلون عليه إقبالًا شديدًا، ومن هنا ورد في الحديث "إن بني إسرائيل لما قصوا هلكوا. وفي رواية لما هلكوا قصوا، أي: اتكلوا على القول وتركوا العمل، فكان ذلك سبب هلاكهم، أو بالعكس، لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص"1. ولما نزل القرآن: "قالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا، قال: فنزلت: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} 2. وذكر أن أصحاب رسول الله سألوه أن يقص عليهم؛ فنزل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ،
__________
1 تاج العروس "4/ 422"، "قصص".
2 سورة يوسف، الآية 3، تفسير الطبري "12/ 90".(16/5)
"من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم". وورد أنهم قالوا له: "يا رسول الله، حدثنا فوق الحديث ودون القرآن، يعنون القصص" فأنزل الله الآية المذكورة1. وفي هذا الإلحاح على الرسول بأن يقص عليهم، دلالة على مدى حب الجاهليين وإعجابهم بالقصص.
وللجاهليين غايات من الاستماع إلى القصص، منها: العبرة والاتعاظ. وإلى ذلك أشير في القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 2.
وقد كان في مكة وفي غيرها قوم يقصون على الناس ويعظونهم، ولما جاء الإسلام كانوا على عادتهم يقصون لإثارة العقول إلى أنباء الماضين وأخبار السالفين، ولإثارة تفكيرهم في الكون وفي الخلق وفي شئون الحياة، كالذي يظهر من القرآن الكريم: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 3 و {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} 4 و {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} 5. ويدخل في هذا النوع القصص الذي يدخلونه في باب "الحكمة"، ومعناه القصص التعليمي، الذي يتعظ به، ويستفاد منه، إذ يعد دروسًا تعلم الإنسان في حياته وترشده إلى النجاح، ويشمل قصص الماضين، ما قاموا به من خير، وما عملوا في أيامهم من شر، فأصابهم من أجله الهلاك وسوء المصير، وقصص الأشخاص، أما القصص المروي على ألسنة الحيوانات على نمط قصص "كليلة ودمنة"؛ فإننا لا نجد منه مادة غزيرة في القصص المروي عن الجاهليين، وهو قليل المادة أيضًا في الأدب الإسلامي ولا سيما في القصص الطويل. وقد نجد بقايا قصص على ألسنة الحيوانات مرويًّا في كتب الأدب، لكنه من النوع القصير الذي لا يمثل نفسًا طويلًا في القصّ.
وأغلب الظن أنه منتزع من قصص قديم، فقد طوله، بسبب قدمه، فبقيت منه هذه البقايا.
ومن أبواب القصص، المقال على ألسنة الحيوانات، كالقصص المقال على لسان "النعامة"، من أنها ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين. والقصص
__________
1 تفسير الطبري "12/ 90".
2 يوسف، الآية 111.
3 الأعراف، الآية 176.
4 يوسف، الآية 3.
5 الأعراف، الآية 101.(16/6)
الذي وضعوه عن الغراب، وعن الضفدع، والهدهد، والهديل، وغير ذلك مما يميل إليه العامة بصورة خاصة، لما يتركه من أثر في نفوسهم1.
ومن القصص، قصص الملوك والأبطال وسادات القبائل والأيام، ويلعب قصص الأيام الدور الأول في هذا القصص، لما له من أثر في العصبية. وكان هذا القصص من أحب القصص إلى نفوسهم، وقد زوّق ونمق، وتولى قصه قصاصون كانت لهم مواهب خاصة وقابلية على القص والتأثير في النفوس، وكان أصحاب الرسول حين يتسامرون يتناشدون الشعر ويتذاكرون الأيام، جريًا على سنتهم في الجاهلية، وقد استمر هذا القصص إلى عهد قريب، ولا زال معروفًا في القرى وفي بعض الأقطار العربية، لا سيما في أيام رمضان، حيث تقرأ قصص أبو زيد الهلالي وقصة عنترة وغيرها في المقاهي، يقرأها قصاصون متخصصون بأسلوب مؤثر جذاب، يتلاعبون به في عقول السامعين، ويثيرون فيهم الحماس، ينصتون بكل خشوع إلى صوت القاص، يريدون منه سماع المزيد من الأخبار.
وفي قصص أهل الأخبار المنسوب إلى الجاهلية، قصص عن الأسفار وعن مشقات السفر وعن الأهوال التي كان يلاقيها المسافرون في ذلك العهد من الجن والسعالي والغيلان، وقد رصع بأبيات من الشعر وبقصائد أحيانًا، في وصف تلك المخلوقات الرهيبة المفزعة، ولم ينس بعض هذا القصص من إيراد شعر لها في محاورة الأشخاص الذين تعرضوا لها، تجد فيه الجن والسعالى والغيلان، تنظم الشعر بلسان عربي مبين، وتجيب فيه الشعراء بشعر مثل شعرهم، قد تظهر رقة وأدبًا فيه، مع ما عرف عن هذه القوى من الميل إلى الأذى والشر.
دوفي قصصهم قصص لهم أصل تاريخي، لكنه لم يحافظ على نقاوته وأصله، وإنما غلب عليه عنصر الخيال فحوله إلى أسطورة، رصعت بالشعر في الغالب، وبالجنس، لتثير الغرائز، فتقبل الأنفس على سماعها، ومن هذا القبيل قصص طسم وجديس2. وقصص الزباء، والتبابعة، والأقوام الغابرة، حيث تجد قصصهم في كتب الأخبار والأدب.
وفي أبواب القصص، باب للمجون والخلاعة، وأحاديث الهوى والتشبب.
__________
1 فجر الإسلام "66"، "1965م".
2 المحاسن والأضداد "138".(16/7)
وهو باب يقدم على سماعه الشبان، طلاب هذا الفن في هذا الدور من أدوار الحياة، أما الشبيبة ومن تقدمت بهم السن، فإن الجنس، يكون قد ابتعد عنهم وتركهم في الغالب، وما تمسكهم به وهم في أرذل العمر، إلا من باب التذكر بأيام الزمان، وذكريات الشباب، لتطرية العمر، والترويح عن كربة التقدم في السن.
والقاص من الشخصيات المحببة إلى نفوس الجاهليين، يقص على أبناء حيه القصص المسلية، مستمدًا مادته من الأساطير والخرافات السائرة المتنقلة بين الأمم، ومن الأخبار والحاديث الخرافية والتاريخية المأثورة عن العرب، أو عمن جاورهم.
ومن ذلك قصص الأقوام القديمة التي بقيت ذكرياتها في أذهان الجاهليين، وقصص الملوك مثل الزباء، التي كيفت قصتها، وابتعدت عن التاريخ وقصص جذيمة الأبرش، وقصير، وعمرو بن عدي، والتبابعة وغير ذلك من قصص، له أصل تاريخي، لكنه تغير وتبدل حتى صار من الأساطير. وهو يصلح أن يكون اليوم موضع دراسة خاصة للوقوف على مقدار عناصر الابتكار والخيال فيه، ومقدار التحوير الذي ألمَّ به، وسببه ومن أدخله عليه من جاهليين أو مسلمين.
وقصص النوادر والنكات من القصص المعروف عند أهل الجاهلية. وقد اتخذ الملوك والأشراف لهم ندماء عرفوا بإغراقهم في قول الملح والنوادر والأمور الغريبة المضحكة، حتى اشتهر أمرهم بين الناس، وحتى بالغ الناس في نسبة النوادر إليهم، وحولوا بعضهم إلى شخصايت أسطورية، من كثرة ما تقولوا عليهم وما نسبوه إليهم. ومنهم من سجلت كتب أهل الأخبار والأدب أسماءهم، لما حصلوا عليه من شهرة بين الناس في أيامهم. منهم "سعد" المعروف بـ"سعد القرقرة" هازل "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، كان يضحك منه1. ذكر أنه كان من أهل "هجر"، فدعا النعمان بفرسه اليحموم، وقال له: اركبه واطلب الوحش، فقال سعد: إذن والله أصرع. فأبى النعمان إلا أن يركبه.
فلما ركبه سعد نظر إلى بعض ولده قال: وا بأبى وجوه اليتامى، ثم قال:
نحن بغرس الودي أعلمنا ... منا بركض الجياد في السدف2
__________
1 تاج العروس "3/ 489"، "قرر".
2 تاج العروس "6/ 136"، "سدف".(16/8)
وفيه قال الشاعر "أبو قُردُودة"، وكان "سعد القرقرة" قد أكل عند النعمان بن المنذر مسلوخًا بعظامه:
بين النعامِ وبين الكلب منبته ... وفي الذئب له ظئر وأخوال1
ومنهم "النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحرث" من "بني النجار" من يثرب، المتوفى في أيام "معاوية". كان هازلًا ومازحًا لطيفًا، ذكر أنه كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء بها إلى النبي، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها أحضره إلى النبي، وقال: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أولم تهده لي! " فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. ودخل أعرابي على النبي، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم. ففعل. فخرج الأعرابي وصاح وا عقراه يا محمد! فخرج النبي، فقال: "من فعل هذا؟ " فقالوا: النعيمان فاتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد.
فأشار رجل إلى النبي حيث هو فأخرجه، فقال له: "ما حملك على ما صنعت؟ " قال: الذين دلوك علي يا رسول الله، هم الذين أمروني بذلك. فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.
وروي أن "مخرمة بن نوفل". كان قد كبر وقد عمي، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به الناس المسجد المسجد! فأخذه نعيمان بيده وتنحى به، ثم أجلسه في ناحية أخرى من المسجد فقال له: بل ههنا. فصاح به الناس. فقال: ويحكم فمن أتى بي إلى هذا الموضع! قالوا: نعيمان. قال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت. فبلغ ذلك نعيمان. فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد. فقال لمخرقه: هل لك في نعيمان.
قال: نعم. فأخذه بيده حتى أوقفه على عثمان، وكان إذا صلى لا يلتفت.
فقال: دونك هذا نعيمان فجمع يده بعصاه فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به ضربت أمير المؤمنين2.
__________
1 الحيوان "1/ 147".
2 الإصابة "3/ 540"، "رقم 8790".(16/9)
وروي أن "أبا بكر" خرج تاجرًا إلى "بصرى" ومعه "نعيمان" و"سويبط بن حرملة"، وكان "سويبط" على الزاد، فجاءه "نعيمان"، فقال: أطعمني. فقال: لا، حتى يجيء "أبو بكر"، فقال: لأغيظنك، فذهب إلى ناس جلبوا ظهرًا. فقال: ابتاعوا مني غلامًا عربيًّا فارهًا، وهو ذو لسان ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه لا تفسدوا عليّ غلامي. فقالوا: بلى نبتاعه منك بعشر قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا. فجاء القوم. فقالوا: قد اشتريناك، فقال سويبط: هو كاذب أنا رجل حر. قالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به. وجاء أبو بكر، فأخبر. فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه. فضحك النبي وأصحابه من ذلك حولًا1.
وبعض القصص الشائع المتواتر عن الجاهليين، مثل قصة يومي البؤس والنعيم، وقصة "شريك" مع الملك "المنذر"، وقصة "سنمار" وأمثال ذلك، قصص وإن اقترن بأسماء جاهلية، إلا أن أصوله غير عربية، دخلت العرب من منابع خارجية، من منابع يونانية وفارسية، ونصرانية، وهو أيضًا من القصص الواردة عند شعوب أخرى، بدليل وجود شبه ومثيل له في أساطير الأعاجم، وفي حكايات النصارى2.
وقاص ذلك اليوم، هو أديب الحي، وأديب القوم، وهو لا بد أن يكون من أصحاب المواهب والفطنة، وممن رزق موهبة التأثير على القلوب بفضل ما رزق من حسن عرض الكلام وتخريج القصص، وتنسيقها، وإظهار الأدوار البارزة للأبطال، وعرضها بأسلوب مشوق مرغب، تنسي السامع كل شيء إلا تتبع الحكاية. ولا بد وأن يُملّح القاص قصصه بإدخال شيء من الشعر فيها، لا سيما شعر الفرسان والحروب والمغامرات.
ولا نعرف من أسماء قصاص الجاهلية أسماء كثيرة، وأشهر اسم نعرفه هو اسم "النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف"، "النضر بن الحارث
__________
1 الاستيعاب "3/ 543 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
2 فجر الإسلام "67"، "1965م".(16/10)
ابن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي"1، وكان من "شياطين قريش"، أي: أذكيائهم، وممن يؤذون الرسول، وكان يحدث قريشًا بأحاديث رستم واسفنديار وما تعلم في بلاد فارس من أخبارهم2، ويزعم أنّ في استطاعته أن يأتي بمثل ما أتى به الرسول من أمر القرآن، فأشير إليه في الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3، وذكر أن كل ما ذكر في القرآن من "الأساطير"، فإنما قصد به "النضر"،وقد نزلت في حقه ثماني آيات4، تدل على أنه كان يتحدى الرسول ويخاصمه ويقول في القرآن: إنه من صنع محمد، وكان يأتي بقصص يزعم أنه يضاهي بها كتاب الله. وقد أرسلته قريش مع "عقبة بن أبي معيط" إلى يهود "يثرب" ليأخذا منهم من أمور التوراة والدين ما يجادلا به الرسول، فعلموهما ما يجب أن يسألا به، فجاءا وسألا الرسول وحاججاه، وقد أشير إلى هذه المحاججة في القرآن5.
وقد أمر الرسول بقتل "النضر"، فقتله "عليّ" وهو بالصفراء، فقالت فيه "ليلى" ابنته، أو "قتيلة" ابنته، وهي ابنته في رواية، أو أخته في رواية أخرى، شعرًا تبكيه وتتوجع فيه على قتله. أوله:
يا راكِبًا إنَّ الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ ... مِنْ صُبْحِ خامِسَةٍ وأَنتَ مُوَفَّقُ
أبلِغْ بها مَيْتًا بأنَّ قصيدةً ... ما إنْ تَزالُ بها الرّكائِبُ تَخْفُقُ
فليَسْمَعَنَّ النَّضْرُ إنْ نادَيْتُه ... إنْ كانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لا يَنْطِقُ
ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيه تَنُوشُهُ ... للهِ أَرْحامٌ هُناكَ تشققُ
قَسرًا يُقادُ إلى المَنِيّةِ مُتعَبًا ... رَسفُ المقيد وهو عانٍ موثقُ
أَمحمّد ها أَنْتَ ضَنُ نَجِيبَةٍ ... في قَوْمِها والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ
__________
1 الاشتقاق "99"، كتاب نسب قريش "255"، ابن هشام "1/ 188 وما بعدها"، "حاشية على الروض".
2 الروض الأنف "1/ 188".
3 الأنعام، الرقم6، الآية93، الروض الأنف "1/ 189"، ابن هشام "1/ 189 وما بعدها"، "حاشية على الروض".
4 ابن هشام "1/ 190"، "حاشية على الروض".
5 ابن هشام "1/ 190"، "حاشية على الروض".(16/11)
ما كانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ ورُبَّما ... مَنَّ الفَتَى وهوَ المَغيطُ المُحْنَقُ
فالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تركت قرابة ... أَحَقُّهُمْ إنْ كانَ عتقٌ يُعْتَقُ1
وورد اسم رجل أدخل للمسلمين القصص الديني، هو "تميم بن أوس بن خارجة" الداري2، ذكر أنه أسلم سنة تسع من الهجرة، وأنه كان نصرانيًّا، وأنه لقي النبي، فقص عليه قصة الجساسة والدجّال. وذكر أنه كان يترهب ويسلك مسلك رجال الرهبانية حتى بعد إسلامه، وأنه استأذن الخليفة "عمر" أو الخليفة "عثمان" في أن يذكر الناس في يوم الجمعة، فأذن له، فكان يقص في مسجد الرسول. وكان بذلك أول من قص في الإسلام. وروي أنه أول من أسرج السراج في المسجد3. وكان قد قدم مع أخيه "نعيم" الداري في وفد الداريين على الرسول منصرفه من تبوك4. وكان مقامه في الشام، وربما وضع القصص على اسمه5.
وهذا النوع من التذكير والوعظ والإرشاد، القائم على الترغيب والترهيب، بذكر أساطير الأولين والقصص والحكايات والغرائب والعجائب، والقصص المتعلق بالحيوانات أو المدون على ألسنتها، هو نوع من الوعظ الذي كان يقوم به رجال الدين اليهود والنصارى في تهذيب أبناء دينهم وفي إرشادهم إلى سواء السبيل، على نحو ما كانوا يتخيلونه ويتصورونه. ومن مدرستهم في الوعظ، تعلم صاحبنا تميم علمه هذا على ما يظهر.
ويمكن الوقوف على طبيعة قصص "تميم" ونوعيته وعلى درجة ثقافته ومقدار عقليته بالرجوع إلى ما نسب إليه من قصص، وما ورد على لسانه من وعظ.
ولكننا لا نجد في الكتب مادة من قصصه تكفي للحكم بموجبها على نوعيته، ولكننا
__________
1 البيان "4/ 43 وما بعدها"، الحصري، زهر الآداب "1/ 27"، الأغاني "1/ 9"، العمدة "1/ 30".
2 "تميم بن أوس بن حارثة، وقيل: خارجة بن سود، وقيل: سواد بن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار، أبو رقية الداري"، الإصابة "1/ 186"، "رقم837".
3 الإصابة "1/ 191"، أسد الغابة "2/ 215"، ابن سعد، الطبقات "1/ 75".
4 الإصابة "3/ 536"، "رقم8770"، صحيح مسلم، شرح النووي، "5/ 420 وما بعدها".
5 مسالك الأبصار "1/ 172"، البخلاء "313".
The Jorunal of the Palestine Oriental Society, vol. XIX, No. 3-4, 1941.(16/12)
لا نستبعد أن يكون قد خلط بين القصص النصراني وبين الأساطير العربية. فقد كان نصرانيًّا، يسمع أقوال وعاظ الكنائس، فتعلم منهم، وطبق ما تعلمه في الإسلام.
وذكروا أن "الأسود بن سريع بن حمير "خمير" بن عبادة بن النزال" التميمي السعدي، كان قاصًّا، وكان شاعرًا مشهورًا، وهو من الصحابة، وكان أول من قص في مسجد البصرة. قيل: إنه مات سنة اثنتين وأربعين1. ولعله كان من النصارى كذلك.
ويجب أن نشير إلى قاص آخر هو "عبيد بن شرية الجرهمي"، وإن كان من المتأخرين. فقد كان في أيام "معاوية"، وقد كان من الملازمين له.
وكان الخليفة يحنّ إليه، ويتلذذ بسماع قصصه عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد. وهو شخص لا نعرف من أمره شيئًا يذكر. وذكر "ابن النديم" أنه عاش إلى أيام "عبد الملك بن مروان"، وأن معاوية أمر غلمانه بتدوين ما كان يقصه وينسب إليه وله من الكتب: كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين2.
__________
1 الإصابة "1/ 59 وما بعدها"، "رقم161"، الاستيعاب "1/ 72"، البيان والتبيين "1/ 67".
2 الفهرست "ص138".(16/13)
الفصل التاسع والعشرون بعد المئة: الطب والبيطرة
...
الفصل التاسع والعشرون بعد المائة: الطب والبيطرة
والطب من العلوم المطلوبة في كل زمان ومكان، لما له من صلة بحياة الإنسان.
ولعلماء اللغة آراء في معنى "الطب" وقد ذكروا أن من المجاز: الطب بمعنى السحر، قال ابن الأسلت:
ألا من مبلغ حسان عني ... أطب كان داؤك أم جنون1
فوجدوا أن بين الطب والسحر صلة. وهو تعبير عن مداواة الأمراض في السابق بالسحر، فقد كان الساحر طبيبًا، يداوي المرض ويشفي المريض بسحره، وكذلك كان الكهان يداوون المرضى، ولا زال الناس يعتقدون بأثر السحر في مداواة المرض، فيراجعون من يدعي العلم بالسحر لنيل الشفاء2.
وكان الطب، في ذلك الزمان، شرف، فللطبيب مكانة كبيرة عند الجاهليين.
قال "المرتضى" في حديثه عن زهير بن جناب: "كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم. والطب في ذلك الزمان
__________
1 وورد: "أسحر كان طبك"، تاج العروس "1/ 351"، "طب".
2 إرشاد الساري "8/ 360".(16/14)
شرف، وحازي قومه، والحُزاة الكهان"1. فهو قد جمع خلالًا كثيرة وفي جملتها الطب والكهانة. وقد كان الكهان يداوون المرضى، فكان كهنة مصر يعالجون المرضى ويطببونهم، لاعتقادهم أن الأمراض هي من الآلهة، تصيب الإنسان فلا تشفيه منها إلا التوسلات إليها بإشفائه، وحيث أن المقربين إليها هم الكهنة، لذلك لجأ المرضى إليهم لإشفائهم. ونجد في النصوص العربية الجنوبية توسلات كثيرة وتضرعات إلى الآلهة، لأن تمنّ على المتوسلين إليها بالصحة والعافية، وبالشفاء من الأمراض التي نزلت بهم، وأن تحميهم من الأوبئة التي تفشت بين الناس، فأخذت تميتهم.
ولا بد وأن يكون السحرة والحزاة والكهنة في الجاهلية، هم الذين مارسوا الطب، وعالجوا المرضى، بالسحر وبالأدعية، أو بالأدوية التي أخذوها عمن سبقهم ومن تجاربهم الخاصة. ونحن نأسف لأن نقول إن النصوص الجاهلية لم تعطنا حتى الآن نصوصًا طبية، أو نصوصًا فيها وصفات أدوية الشفاء من الأمراض.
والطب، هو من فروع العلم المحظوظة بالنسبة إلى فروع العلم الأخرى عند الجاهليين. فقد أشير إليه، وأشير إلى اسم نفر من الأطباء، هم: الحارث بن كلدة الثقفي، والنضر بن الحارث، و"ابن أبي رمثة التميمي" و"ضماد" وكلهم ممن عاصر الرسول وأدرك زمانه، وبفضل هذه المعاصرة، ذكرت أسماؤهم في كتب الحديث والسير والأخبار، ولولاها لكان شأنهم شأن غيرهم ممن لم يصل اسمهم إلى أحد، فصاروا نسيًا منسيًّا.
وذكر أن رجلًا جاء إلى النبي، فرأى بين كتفيه خاتم النبوة. فقال: إن أذنت لي عالجتها فإني طبيب. فقال له النبي، طبيبها الذي خلقها، معناه العالم بها خالقها الذي خلقها لا أنت2.
أما الحارث بن كلدة الثقفي، فإنه من ثقيف ومن أهل الطائف. ذكر أنه سافر إلى البلاد، وتعلم الطب بناحية فارس على رجل من أهل جُنْدَيْسابور، وغيرها.
__________
1 أمالي "1/ 238".
2 اللسان "1/ 553"، "طبب"، تاج العروس "1/ 352"، "طبب"،"فان يك بك طب داويتك، فإني أطب العرب"، الطبري "2/ 297".(16/15)
وتمرن هناك، وطب بأرض فارس، وعالج وحصل له بذلك مال، وعرف الداء والدواء. وكان صاحب حسّ مرهف، وموسيقيًّا يضرب بالعود. تعلم ذلك بفارس واليمن.
قيل: إن سعد بن أبي وقاص مرض بمكة، فعاده رسول الله، فقال له: "ادع الحارث، فإنه يتطبب". فعاده الحارث وداواه فشفاه. ونسبوا له كلامًا مع كسرى أنوشروان. وقيل: إنه هو القائل: "الطب: الأزم، والبطنة بيت الدواء، والحِميَةُ رأس الدواء، وعودوا كل بدن ما اعتاد"، وأشياء أخرى تنسب إلى فلاسفة متقدمين، ولحكماء من العرب غير الحارث1.
وقيل: إن من حكمه: "خير الدواء الأزم، وشرّ الدواء إدخال الطعام على الطعام". وقيل: إنه وصى ولده بقوله: "يا بني عوّد نفسك الأثرة ومجاهدة الشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال. إن الله جعلك إنسانًا فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت بطينًا فعد نفسك مع الزمنى"2. ومن حكمه قوله: "لا تنكحوا من النساء إلا الشابة، ولا تأكلوا من الحيوان إلا الفتى، ولا من الفاكهة إلا النضيج"3.
وقد نسبوا إلى الحارث كتابًا، هو كتاب المحاورة في الطب بينه وبين كسرى أنوشروان4، ولم يشيروا إلى مضمونه ومحتوياته وحجمه. والظاهر أنه هذه المحاورة التي دبجوها في ترجمته، ونسبوها إليه، وزعموا أن كسرى أمر بتدوين ما نطق به5.
__________
1 عيون الأنباء لابن أبي اصيبعة "1/ 109 وما بعدها"، أخبار الحكماء "ص111 وما بعدها"، ابن صاعد "ص47"، ابن جلجل "ص54 وما بعدها"، ابن القفطي تاريخ الحكماء "ص161 وما بعدها"، ابن العبري "ص156 وما بعدها"، ابن حجر، الإصابة "1/ 288"، بلوغ الأرب "3/ 328 وما بعدها"، شرح ديوان لبيد "ص102".
2 الجمان في تشبيهات القرآن "256".
3 المحاسن والأضداد "110".
4 عيون الأنباء "1/ 110 وما بعدها".
5 ابن أبي أصيبعة "1/ 112"، بلوغ الأرب "3/ 328 وما بعدها"، العقد الفريد "6/ 373".(16/16)
وقد ذكر أن الحارث بن كلدة كان شاعرًا ذا حكمة في شعره، وقد أورد الآحدي له أبياتًا في أثناء ترجمته له1 وذكره "أبو العلاء المعري" في "رسالة الغفران"، ونسب له قوله:
فما عسل ببارد ماء مزنٍ ... على ظمأُ لشاربه يُشاب
بأشهى من لقيكم إلينا ... فكيف لنا به ومتى الإياب2
وذكر الأخباريون، أن "الحارث" هذا، كان قد داوى الملك "أبا جبر" الكندي، وكان ملكًا شديد البأس، فخرج إلى كسرى يستجيشه على قومه فأعطاه جيشًا من الأساورة، فلما بلغوا "كاظمة" سمّوه، ثم تركوه وعادوا، فسار "أبو جبر" إلى "الطائف"، ليداويه "الحارث بن كلدة" ويشفيه، فداواه فبرئ وارتحل يريد اليمن فنكس ومات. فرثته عمته "كبشة"3.
وقد عاصر رسول الله، وفي بعض الروايات أنه أسلم ومات مسلمًا في خلافة "عمر"، وأنه أكل مع "أبي بكر" وأنه شهد أن "أبا بكر" مات مسمومًا4 وأنه خرج مع النساء حينما حاصر المسلمون الطائف سنة تسع للهجرة. وأنه عاش إلى أيام معاوية في رواية. وأن "آل نافع" و"آل أبي بكرة" كانوا يزعمون أنهم من نسله5.
وأما النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي فهو ابن خالة الرسول. وكان النضر قد سافر البلاد أيضًا كأبيه، واجتمع بالأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأخبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة، واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من أبيه ما كان يعلمه من الطب وغيره وكان يؤاتي أبا سفيان في عداوة النبي، ويحسده، ويكثر الأذى له، ويتكلم فيه بأشياء كثيرة، ويحط من قدره عند أهل مكة. فلما كانت وقعة بدر، كان على رأس
__________
1 المؤتلف والمختلف "ص172".
2 "166"، "تحقيق بنت الشاطئ".
3 نزهة الجليس "1/ 484".
4 الطبري "3/ 419" "ذكر مرض أبي بكر ووفاته".
5 الاشتقاق "ص185"، مختصر ابن العبري "ص156"، أخبار الحكماء، لابن القفطي "161"، Die Araber IV, S. 33(16/17)
المشركين، فوقع أسيرًا، ولما كان الرسول بالصفراء أو الأثيل، أمر بقتله، فقتل1.
وقد نسب بعض أهل الأخبار "النضر بن الحارث" على هذه الصورة: "النضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار"2، وقالوا: إنه من أشراف قريش وأسيادها، وكان من مطعمي "بني عبد الدار"3، ونصوا أنه "كان من كفار قريش شديد العداوة لرسول الله"4، وأنه كان ابن خالة الرسول، ولهذا فلا يمكن أن يكون هذا النضر ابنًا للحارث بن كلدة الثقفي، الذي هو "الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" على رواية من ضبط نسبه من أهل الأخبار5. ثم إن "الحارث بن كلدة الثقفي"، لم يخلف إلا ابنة يقال لها: أزدة، على ما ذكره "أبو عبيدة"6، لذلك فلا يمكن أن يكون "النضر بن الحارث" ابنًا له، كما ذهب إلى ذلك "ابن أبي أصبيعة" وغيره7، لا سيما وأن "ابن أبي أصبيعة" نفسه قد جعله في عداد المشركين من قريش الذين آذوا الرسول، وذكر أنه ابن خالة النبي، وأنه آذاه وساهم مع المشركين في معركة بدر، فأسر. وأن أخته "قتيلة" قد رثته بشعر دوّنه، كما دوّنه غيره8.
وما دوّنه عنه، دوّنه غيره من ترجمة "النضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار" القرشي، وتجده مذكورًا مع شعر الرثاء في كتاب "نسب قريش"
__________
1 عيون الأنباء "1/ 113 وما بعدها"، البلاذري "1/ 141"، شمس العلوم "1/ 79" بلوغ الأرب "3/ 335 وما بعدها"، الاشتقاق "ص99". شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد "3/ 348"، البيان والتبيين "2/ 236"، "4/ 43"، "عبد السلام هارون"، البلدان "1/ 112"، شرح ديوان الحماسة، للتبريزي. حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي "4/ 41".
2 نسب قريش، للزبيري "255"، ابن هشام، سيرة "1/ 320"، "النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف".
3 سيرة ابن هشام "1/ 320"، "2/ 320".
4 الاشتقاق "99".
5 الاشتقاق "185".
6 الاشتقاق "185".
7 عيون الأنباء "167"، "النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي".
8 عيون الأنباء "167 وما بعدها"، سيرة ابن هشام "2/ 297 وما بعدها".(16/18)
للزبيري1. وهو من العلماء بنسب قريش ومن المتقدمين على "ابن أبي أصبيعة"2.
وفي رواية يرجع سندها إلى "الكلبي" و"مقاتل"، أن في حق "النضر ابن الحارث"، نزلت الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيث} 3. فقد قيل: "إنه كان يخرج تاجرًا إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشًا، ويقول لهم: إن محمدًا، عليه السلام، يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن"4. وقد نزلت في حقه ثماني آيات5، يفهم من تفسير علماء التفسير لها، أنه كان ذكيًّا لبقًا و"شيطانًا" من شياطين قريش، له علم بالشعر وبأخبار الأمم، يراجع أحبار اليهود وعلماء النصرانية، ليزيد بذلك علمًا على علمه، وكان يعتقد لذكائه وعلمه أنه أحق بالدعوة من النبي، وحسده وصار يعاكسه في كل مكان.
ووصف بأنه صاحب أحاديث ونظر في كتب الفرس. كان يحدث، ثم يقول: أينا أحسن حديثًا: أنا أم محمد؟ ويقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين. وقيل: إنه كان يقول: إنما يعينه على ما يأتي به في كتابه هذا جبر، غلام الأسود بن المطلب، وعداس غلام شيبة بن ربيعة، ويقال: غلام عتبة ابن ربيعة، وغيرهما. فأنزل الله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 6، وكذلك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 7، وروي أنه كان يحدث قومه أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار8.
وعلى هذا، فلم يكن النضر، في عداد الأطباء، وإنما كان في عداد الواقفين
__________
1 "ص255".
2 "156- 236هـ".
3 سورة لقمان، الآية6.
4 أسباب النزول "259"، "سورة لقمان".
5 سيرة ابن هشام "1/ 320 وما بعدها".
6 النحل، الآية 103.
7 الفرقان، الآية 4 وما بعدها، البلاذري "1/ 141".
8 ابن هشام "1/ 320".(16/19)
على أساطير الفرس ولغتهم، ولا تستبعد مع ذلك عنه مزاولة الطب، لأن المثقفين في ذلك الوقت، كانوا يعالجون ويدرسون مختلف العلوم والمعرفة.
وأما ابن أبي رمثة التميمي، فكان طبيبًا على عهد الرسول مُزاولًا لأعمال اليد وصناعة الجراح1. ولم يذكروا عنه شيئًا غير هذا المذكور. وذك من الأطباء طبيب يقال له: ابن حديم، من تيم الرباب. قيل: إنه حاز على شهرة واسعة بين الجاهليين، وأنه ذكر في شعر لأوس بن حجر، هو:
فهل لكم فيها إليّ فإنني ... طبيب بما أعيا النطاسي حِذيما2
وزعم أنه كان أطب العرب، وأنه كان أطب من الحارث بن كلدة، حتى ضرب بطبّه المثل، فقيل: أطب من حذيم. وذكر أنه كان بارعًا في الكي، فقيل: أطب في الكي من ابن حذيم3. وقيل: هو أنه كان من "تيم الرباب" وكان متطببًا عالمًا، وهو أقدم من الحارث بن كلدة. وقد جعله بعضهم "ابن حذام" "ابن حمام" الشاعر المذكور في شعر "امرئ القيس"، وهو خطأ ورد من باب التصحيف4.
ويظهر من كتب الحديث والأخبار والتراجم، أن هناك نفرًا آخرين مارسوا التطبيب في أيام النبي. فقد أشير إلى نفر من قبيلة أنمار، زاولوا الطب في أيام الرسول5. وذكر أن النبي بعث إلى أُبي بن كعب طبيبًا، فقطع له عرقًا، وكواه عليه6.
وأشير إلى اسم طبيب آخر، عرف بـ"ضماد بن ثعلبة الأزدي"، ذكر أنه كان يداوي، وأنه جاء إلى رسول الله7. وأنه كان صديقًا للنبي في الجاهلية،
__________
1 عيون الأطباء لابن أبي أصيبعة "1/ 116"، ابن جلجل "ص57"، ابن صاعد "ص47"، ابن القفطي "436"، تهذيب التهذيب "12/ 97"، مسند ابن حنبل "4/ 163"، اللسان "6/ 232".
2 تاج العروس "8/ 338"، "حذم".
3 بلوغ الأرب "3/ 337".
4 الخزانة "2/ 232"، "بولاق".
5 ابن جلجل "ص54".
6 ابن جلجل "ص58"، زاد المعاد "3/ 84".
7 نهاية الأرب "18/ 7 وما بعدها"، "17/ 350".(16/20)
وكان من أزد شنوءة. وكان رجلًا يتطبب ويرقي ويطلب العلم، ويداوي من الريح. وقد أسلم. وكان محترمًا مقدرًا. ذكر أن بعثًا بعثه رسول الله أو أبو بكر، مرّ ببلاد ضماد، فلما جاوزوا تلك الأرض. وقف أميرهم، فقال: أعزم على كل رجل أصاب شيئًا من أهل هذه الأرض إلا ردّه، لمكانة هذا الرجل ولشرفه ولصداقته للرسول1. "وروي أنه قدم مكة معتمرًا، فسمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون، فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته. فجاءه فقال له: يا محمد إني أداوي من الريح، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك، فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادًا، فقال: أعدها علي، فأعادها عليه فقال: لم أسمع مثل هذا الكلام قط، لقد سمعت الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط"2.
ولا يستبعد تعلم هؤلاء الأطباء في جنديسابور مركز الطب والعلوم في الامبراطورية الساسانية أو في أماكن من بلاد الشأم، فقد كان الطبيب الحاذق محتاجًا في هذا اليوم إلى تعلم هذا العلم في أماكن متعددة للاستفادة من تجارب الأطباء. وقد كان السفر متصلًا غير منقطع، فلا يستبعد قدوم الأطباء وطلاب الطب من جزيرة العرب إلى هذه الأماكن للتعلم فيها.
واشتغلت النساء بالمعالجة والتطبيب أيضًا. فقد قامت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين يوم ذهابهم إلى "بني قريظة"3. وكانت امرأة تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكانت لها خيمة في المسجد، مسجد الرسول بيثرب تداوي بها الجرحى. ولما جرح "سعد بن معاذ" يوم الخندق، قال رسول الله: "اجعلوه في خيمة رفيدة التي في المسجد حتى أعوده من قريب"، وكان الرسول يزوره في خيمتها في الصباح وفي المساء4.
واشتهرت "زينب"، وهي من "بني أود" بالطب. كانت تطبب وتعالج العين والجراح5.
__________
1 الإصابة "2/ 202"، "رقم 4177"، الاستيعاب "2/ 209"، حاشية على الإصابة.
2 ابن سعد، طبقات "4/ 241".
3 نهاية الأرب "17/ 191".
4 الإصابة "4/ 295"، "رقم 424".
5 زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية "1/ 40"، "1957م".(16/21)
والوجع المرض المؤلم1، والعرب تسمي كل مرض وجعًا2، ويعبر عنه بالمقام كذلك3. وذكر أن "الوعك" الحمّى أو ألمها وأذاها ومغثها في البدن، وذكر أن الوعك لا يكون إلا من الحمى دون سائر الأمراض4.
وقد عالج الأطباء الجروح بوضع الخرق بعضها فوق بعض على الجرح، أي: بتضميده بها، ويقال لذلك: "الغميل". وكانوا إذا أرادوا تعريق المريض، غملوه5، أي: غطوه بالثياب ليعرق، فيشفى من البرد والزكام. والضماد العصابة أوالخرقة تشد فوق الجرح أو الرأس. أو أي موضع من الجسم يشتكى من وجود ألم به، فكانوا يضمدون الرأس للصداع، كما كانوا يضمدون العين، بوضع الدواء في العين، أو على الخرقة ثم تضميد العين بها، ورد أن "طلحة" ضمد عينيه بالصبر، كذلك كانوا يضعون الأدهان على الضماد، لتضميد الجروح، أو الأورام أو موضع الألم6.
ويذكر علماء اللغة أن "النطاسي"، العالم الشديد النظر في الأمور7، فهي بمعنى الحاذق. ويقال: طبيب نطيس ونطاسي، وورد: نطس الأطباء. وهي أكثر ما ترد مع الأطباء، للدلالة على الحذق والفهم في هذه الصناعة. وذكر علماء اللغة أن اللفظة من المعربات، عربت من أصل "نسطاس"، وهي من لغة الروم. والنُطس الأطباء الحذاق، والعالم بالطب بالرومية8.
ولعدم وصول كتب أو صحف أو أحجار لها علاقة بالطب عند الجاهليين، اضطررنا إلى أخذ معارفنا في الطب من الموارد الإسلامية، مثل كتب التفسير والحديث والأدب، ففيها إشارات إلى بعض الأمراض، وفي بعضها إشارات إلى معالجة بعض منها. هذا، وتفيدنا الموارد الأعجمية في هذا الباب كثيرًا،
__________
1 تاج العروس "5/ 533"، "وجع".
2 إرشاد الساري "8/ 343".
3 تاج العروس "8/ 336"، "سقم".
4 إرشاد الساري "8/ 343"، تاج العروس "7/ 192"، "وعك".
5 تاج العروس "8/ 50"، "غمل".
6 تاج العروس "2/ 405 وما بعدها"، "ضمد".
7 بلوغ الأرب "3/ 338".
8 تاج العروس "4/ 258"، "نسطاس"، "نطس"، "6/ 310"(16/22)
لورود أمراض فيها وطرق معالجة، كانت معروفة وشائعة في الشرق الأوسط قبل الإسلام. ونجد في المعجمات الخاصة بالعهدين القديم والجديد وفي تواريخ الطب القديم معلومات ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلينا، لأنها تعيننا على تكوين رأي في الطب عند الجاهليين.
والمذكورون، هم أطباء نشأوا في المدن، وأقاموا في الحضر، وتعلموا من أطباء محترفين. أما الأعراب، فقد كان لهم أطباء، ولكن طبهم، هو طب العرف والعادة. طب موروث، يداوي بالوصفات التي داوى بها الآباء والأجداد، دون تغيير وتبديل وجدل ونقاش. ولهذا، فهو طب بدائي تقليدي موروث، يعتمد في مداواته على قدرة القبيلة، وعلى ما يجده الطبيب حوله من نبات وأعشاب وحيوان ونار فيداوي بها. وما زال الأعراب على طبهم هذا، يداوون به على نحو ما داوى أجدادهم وأجداد أجدادهم في الإسلام وقبل الإسلام.
وليس لطب البادية اتصال بالطب الخارجي، إلا ما كان من طب القبائل القاطنة على مقربة من الحواضر، أو القبائل التي كان لها اتصال مباشر منتظم أو غير منتظم بالعالم الخارجي. فقد تسرب إلى علم "العوارف" فيها نفح من الطب الغريب، عالج به "عوارف" القبيلة، واستمروا على المعالجة به، حتى صار سنة لهم وطبًّا قبليًّا. ومن أهم صفات الطب القبلي، أنه طب لا يثق إلا بنفسه، ولا يرى الشفاء إلا من أطبائه وبأدويته المتعارفة عنده والمريض الأعرابي لا يعمل إلا بطب أصحاب الخبرة من الشيبة والعجائز الذين عرفوا بممارستهم معالجة المرضى وللسن عندهم قيمة في نجاح المعالجة والحصول على الشفاء، فالسن تجربة وعلم.
ولذلك فللمسن المعالج الذي يرجع إليه عند الشكاية من الألم والمرض، تأثير كبير على المريض من الناحية النفسية، لاعتقاده بأن السنين تزيد في خبرة الإنسان وتضيف إلى علمه القديم علمًا جديدًا. لذلك يثق المرضى به، مع أن طب الأعراب، لا يعرف البحث والمطالعة لزيادة العلم، ولا يركن إلى التجديد بالحصول على معارف طبية جديدة، بدراسة أثر أعشاب البادية بصورة مستمرة في شفاء المرضى واستخلاف النتائج من مراقبة تأثير الدواء على حالة المريض.
وقد عرف طب البادية بـ"طب الأعراب" وبطب البادية، وعرف دواء الأعراب بدواء أهل البادية. وهو دواء نابت من محيطهم يستند على المعالجة بالأعشاب وبالرماد وبالألبان وبأبوال الإبل وبالخرز. ومن أدويتهم "النهاء" دواء(16/23)
يكون بالبادية يتعالجون به ويشربونه. ويظهر أنه من حجر يقول له "النهاء"، وهو حجر أبيض أرخى من الرخام، يكون بالبادية، ويجاء به من البحر.
وضرب من الخرز1.
و"العقار" و"العقاقير" الأدوية. وقيل: ما يتداوى به من النبات أو أصولها والشجر2. و"العُقار" في الآرامية ما يتداوى به من النبات، أي: دواء3.
وطب مثل هذا، لا يمكن أن يأتي بنتائج إيجابية في معالجة الأمراض الصعبة العسيرة، وفي حالات مرضية مهمة جدًّا في نظر بعض الناس، ولا سيما مشايخ القبائل، كالعقم وتقوية الشهوة الجنسية، ولهذا كانوا يلجأون إلى أطباء الحضر.
وقد أدرك الرهبان والمبشرون أثر هذه الحالات المرضية، ولا سيما الأمراض النفسية منها في نفوس أولئك الرؤساء، وجلهم ممن درس الطب وقرأ الكتب المؤلفة فيه ومارسه عمليًّا، فذهبوا بأنفسهم إلى القبائل للتبشير، وعالجوا الرؤساء معالجة نفسانية في الغالب، وأثروا فيهم، ونجحوا في مثل هذه الحالات في كسب عطفهم عليهم وتأييدهم لهم، وفي الدخول في جوارهم، للقيام بالتبشير. ونجد في النتف الباقية عن حياة المبشرين الذين بشروا بين العرب قصصًا من هذا النوع روي في معالجة بعض الرؤساء، يذكر أنهم نجحوا في معالجتهم وأن نجاحهم هذا هو كرامة ومعاجز قد تمت بفضل الله ومنّة المسيح.
ويكون الشفاء عند العرب في ثلاثة: شربة عسل وشرطة محجم وكية نار. وإذا عجز الطبيب من إشفاء مريضه بما عنده من وسائل لجأ إلى "الكي"، ولذلك جاء: "آخر الدواء الكي". وكان أهل الجاهلية يرون أنه يحسم الداء بطبعه فيبادرون إليه قبل حصول الاضطرار إليه ويعالجون به أكثر الأمراض. وروي في الحديث قوله: "الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي ثمن الكيّ" 4.
والعسل من الأدوية والصفات التي أمر بها الأطباء في معالجة بعض الأمراض، ولا سيما أمراض المعدة، عولج به وحده، وعولج به ممزوجًا بمواد أخرى،
__________
1 تاج العروس "10/ 382"، "نهى".
2 تاج العروس "3/ 417"، "عقر".
3 غرائب اللغة "196".
4 إرشاد الساري "8/ 361" "كتاب الطب".(16/24)
لتكوين عجائن ولصقات منه1. واستعملت العجائن المكونة من الدقيق والتمر والسمن في معالجة أمراض الجلد وآلام المفاصل، والنزلات. كذلك استعملت لصقات كونت من مواد أخرى في معالجة مثل هذه الأمراض. والمناقيع هي من طرق المعالجة أيضًا، ومنها مناقيع الخل والزيوت.
وقد ورد في رواية: أن الرسول أرسل عكّة عسل إلى لبيد الشاعر الشهير حين علم بمرضه، فشرب منها، وبرئ2، وفي هذا الخبر دلالة على تداويهم بالعسل.
وقد أقام أهل مكة والحجاز وزنًا كبيرًا للمداواة بالعسل. ونجد في كتب الحديث وفي كتب الأدب والأخبار إشارات إلى هذه المداواة. وقد استعملوا العسل في مداواة "المبطون" الذي يشتكي بطنه من الإسهال المفرط، ومن سوء الهضم، لإخراج الفضول المجتمعة في المعدة وفي الأمعاء3.
وفي جملة معالجات الأطباء ووصفاتهم للمرضى، استعمال الحجامة، أي: استخراج مقدار من الدم بكأس يسحب هواؤها بالمص، فيخرج الدم من الشروط التي عملت في ظهر الرقبة. وقد استخدموها في معالجة الرأس والشقيقة والصداع4 والفصد، واستعمال ديدان خاصة لامتصاص الدم5. والشقيقة: صداع يصيب شقي الرأس، وإن أصاب الصداع قنة الرأس أحدث داء البيضة. وأما الصداع فهو عام6.
والفصد: هو شق العرق لإخراج مقدار من الدم للمعالجة من بعض الأمراض.
__________
1 عمدة القاري "21/ 232"، "عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل" العقد الفريد "6/ 273".
2 شرح ديوان لبيد "ص25 مقدمة".
3 إرشاد الساري "8/ 378، 363".
4 عمدة القاري "21/ 242 وما بعدها"، "أن عيينة بن حصن دخل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يحجم في فأس رأسه فقال: ما هذا؟ قال: هذا خير ما تداويتم به الحجامة والكي"، العقد الفريد "6/ 275 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 370".
5 عمدة القاري "21/ 230 وما بعدها".
6 إرشاد الساري "8/ 370".(16/25)
وقد عرف عند العرب كما عرف عند غيرهم1. وقد داووا الصبيان بـ"الفصيدة".
تمر يعجن ويُشاب، أي: يخلط بدم2. والظاهر أن هذا الدم، هو من دم الفصد.
وقد كان الجاهليون يأكلون دم الحيوان، يجففونه بعد خلطه مع مادة أخرى، أو وضعه في أمعاء ليجف فيؤكل، أو مع الشعر ثم يأكلونه، ومنهم من كان يشرب الدم، للقوة. و"وفي حديث عكرمة: كان طعام أهل الجاهلية العلهز. قال ابن الأثير: هو طعام من الدم والوبر". وذلك أن يخلط الدم بالوبر، أو الصوف ينفش ويشرب بالدماء ويشوى ويؤكل. وقد نسب أكله إلى الفقراء وإلى أيام المجاعة، وزعم أنهم كانوا يخلطون فيه القردان، أو دم الحلم. ونسب أكله إلى القحطانيين، وذلك في شعر هجاء، هو:
وإن قرى قحطان قرف وعلهز ... فأقبح بهذا ويح نفسك من فعل3
وهو من الشعر المنبعث عن عاطفة العصبية ولا شك.
وكان الفصد عند العرب من جملة وسائل القتل التي تستعمل في قتل الملوك والأشراف. تمييزًا لهم عن السوقة وسواد الناس الذين يقتلون بحد السيف. فقد كان الشريف إذا سقط في أيدي عدوه ووجد نفسه أنه مقتول لا محالة، أوصى بإسقائه الخمر، حتى يسكر، فيخف بذلك ألمه ثم يفصد عرق اليد فيخرج منه الدم حتى يموت ميتة الأشراف.
واستعمل الكي في معالجة أمراض المفاصل، مثل الرَثْيَة "الروماتزم"، وقد برع في ذلك الأعراب بصورة خاصة وهو معالجة أخذ بها أطباء أهل الوبر أيضًا، وطريقتهم هي كي الجزء المريض بحديدة محماة، أو بحجر محمى. وقد استعمل الكي أيضًا في معالجة الجروح والقروح ووجع الرأس. وفي العربية مثل قديم، له علاقة به، هو: آخر الدواء الكي. فالكي إذن معالجة يلجأ إليها حينما يعيا الدواء عن الشفاء. واستعمل في معالجة الاستسقاء، بالكي على البطن4. وينسب أهل الأخبار المثل المذكور إلى "لقمان بن عاد"5، وفي نسبتهم هذه المعالجة إليه
__________
1 اللسان "3/ 336"، "فصد".
2 اللسان "2/ 336"، "فصد"، تاج العروس "2/ 453"، "فصد".
3 تاج العروس "4/ 61"، "العلهز".
4 الفاخر "ص58، 126".
5 الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب "1/ 3"، "حيدر آباد الدكن 1962م".(16/26)
دلالة على قدمها عند العرب. وهي معالجة لا زال الأعراب يستعملونها في مداواة أمراض عديدة عندهم، لا سيما في معالجة أمراض الروماتزم. وقد ورد أن "خباب بن الأرت" اكتوى في بطنه سبع كيات1.
و"الرِثية" وجع المفاصل واليدين والرجلين، وقيل: وجع الركبتين والمفاصل، أو ورم وظلاع في القوائم، أو هو كل ما منعك من الالتفات أو الانبعاث من كبر أو وجع2.
وقد استعملوا "الكي" للشوكة. والشوكة حمرة تظهر في الوجه وغيره من الجسد. وقد كوي "أسعد بن زرارة" من الشوكة3. وقيل: الشوكة داء كالطاعون، وكانوا يسكنون الشوكة بالرقى كذلك4.
والبصل والثوم والكمون والكرفس والخردل هي من النباتات التي عولج بها، فاستعمل البصل لمعالجة النزلات الصدرية وبعض أنواع الحميات وللقضاء على الديدان في داخل الجسم. واستعمل الثوم لمعالجة أمراض المعدة والديدان أيضًا، وفي معالجة أمراض القلب5. واستعمل الكمون في معالجة النزلات الصدرية كذلك. وهو من الأدوية المعروفة عند غير العرب أيضًا، فقد كان العبرانيون يستطبون به6، وكانوا يحصلون عليه بواسطة الفينيقيين والعرب. وأحسنه هو الكمون المستورد من "سيلان"7. وعالجوا به في الأدرار، وفي مطاردة الريح في المعدة وللهضم8.
وعولج بالسنا بالشبرم وبالزبيب، ويرون أن الزبيب يُذهب النّصب، ويشد العصب، ويطفئ العصب، ويصفي اللون، وبالسفرجل ويرون أنه يشد القلب، ويطيب النفس ويذهب بطخاء الصدر9. وعالجوا بالتين، استعملوه لمعالجة الإمساك والكبد والطحال10، وعالجوا بالرمان11.
__________
1 إرشاد الساري "8/ 356".
2 تاج العروس "10/ 144"، "رثى".
3 الطبري "2/ 398"، النهاية لابن الأثير "4/ 240 وما بعدها".
4 تاج العروس "7/ 152"، "شوك"، اللسان "10/ 455"، "شوك".
5 "الثوم: ويسمى ترياق البدو"، شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص270".
6 The Bible Dictinary, I, P. 257
7 تاج العروس "9/ 322"، "كمن".
W. Smith, A Dictionary of the Bible, I, P. 330
8 تاج العروس "9/ 322"، "كمن".
9 العقد الفريد "6/ 271 وما بعدها".
10 تاج العروس "9/ 154"، "التين".
11 تاج العروس "9/ 219"، "رمان".(16/27)
و "الحُلْبَة" من النبات الذي عولج به في أمراض كثيرة، فعولج به أمراض الصدر مثل الربو والسعال والبلغم، وعولج به الكبد والمثانة والبواسير وآلام الظهر.
وذكر أن "الحلبة" طعام أهل اليمن عامة، وبالغوا في فوائدها حتى رووا أن حديثًا ورد فيها: "لو يعلم الناس ما في الحلبة لاشتروها ولو بوزنها ذهبا"1.
وتطيب بالسعوط والنشوق. وقد استعملوا لذلك جملة مواد، منها: دهن الخردل، ودهن البان، والقسط الهندي والبحري، وبالعود الهندي والكافور. وقد استخدم العود الهندي في معالجة ذات الجنب2. ويرى بعض الباحثين أن النشوق من أصل آرامي هو "نسكو Nosko" من Nsk بمعنى أسال في شيء، أي: دواء يسكب في الأنف3. واستخدم "السُنبل"، وهو نبات طيب الرائحة في التداوي كذلك، ويعرف بـ"سنبل" في السريانية أيضًا4.
وذكر أن "السعوط" اسم الدواء يصب في الأنف. وذلك بأن يوضع الدواء في إناء يجعل فيه السعوط ويصب منه في الأنف، ويقال للإناء: المسعط والسعيط والمُسعط5. ويستعمل السعوط من مختلف الدهون. وقد استعمل في مداواة "العذرة"، وهو وجع يأخذ الطفل في حلقه، يهيج من الدم أو في "الخرم" الذي هو بين الأنف والحلق، وهو سقوط اللهاة. وقيل: قرحة تخرج بين الأنف والحلق تعرض للصبيان غالبًا عند طلوع العذرة. وهي خمس كواكب تحت الشعرى.
أي العبور وتطلع وسط الحر6.
و"القسط" عود يجاء به من الهند، فعرف لذلك بالقسط الهندي، وعود يؤتى به من اليمن، ويعرف بالقسط البحري. وعود عرف بـ"قسط أظفار" وقسط عرف بـ"القسط المر" وهو كثير ببلاد الشأم. ويقال للقسط: "الكست" و"كشط". وذكر أن الرسول أشار إلى "القسط" فقال: "عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية: يستعط به من العذرة ويلد به من ذات
__________
1 تاج العروس "2/ 312"، "طبعة الكويت"، "1/ 222"، "حلب".
2 عمدة القاري "21/ 238 وما بعدها"، العقد الفريد "6/ 275".
3 غرائب اللغة "ص207".
4 غرائب اللغة "ص189".
5 اللسان "7/ 314 وما بعدها"، "سعط".
6 إرشاد الساري "8/ 367".(16/28)
الجنب1. وقد استعمل القسط بخورًا ودواء. وهو من نبات أصله من الهند، يقال له: "قسطس"، وهو معروف عند غير العرب أيضًا ويداوى به2.
وعالجوا بـ"العيد"، شجر جبلي ضمدوا بلحائه الجرح الطري فيلتئم3.
وبـ"السنى"، نبت يتداوى به. وقد جاء ذكره في الحديث. وقد خلطوه بالحناء لتقوية اللون وتسويده4. وداووا بـ"السعتر" "الصعتر"5، وبالقرطم، في معالجة أمراض عديدة6.
وقد كانت النساء تعالج الصبيان من العذرة بالغمز، وذلك أن المرأة كانت تأخذ خرقة فتفتلها فتلًا شديدًا وتدخلها في حلق الصبي وتعصر عليه، فينفجر منه دم أسود وربما أقرحته7.
وعرف "الدرياق" "الترياق" في التطبيب به. استعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجين، والعرب تسمي الخمر "ترياقًا" و"درياقًا" لأنها تذهب بالهم.
و"الترياق"، فارسي معرب ويقال: درياق. بالدال أيضًا وفي الحديث: "إن في عجوة العالية ترياقًا". الترياق ما يستعمل لدفع السُمّ من الأدوية والمعاجين"8.
والبلسم، من المواد المهمة في المعالجات الطبية، وقد اشتهر كثيًرا في الطب القديم، ليس عند العرب فقط، ولكن عند أكثر الأمم الأخرى. اشتهر في معالجة الجروح خاصة، إذ هو مادة صمغية تضمد بها الجراحات. ووطنه بلاد الحبشة، واشتهر من أنواعه الجيدة "بلسم جلعاد" عند العبرانيين، وهو ذو رائحة عطرة. وقد مدحه الأطباء وأثنوا عليه في معالجة الأمراض والجروح9.
وذكر علماء اللغة أن "البلسم"، هو "البلسام" وهو البرسام، والموم.
__________
1 إرشاد الساري "8/ 367"، اللسان "7/ 379".
2 غرائب اللغة "265".
3 تاج العروس "2/ 438"، "عود".
4 تاج العروس "10/ 185"، "سنى".
5 تاج العروس "3/ 269"، "السعتر".
6 تاج العروس "9/ 24"، "قرطم".
7 إرشاد الساري "8/ 369".
8 اللسان "10/ 32"، "ترق".
9 قاموس الكتاب المقدس "1/ 245". Hastings, P. 872, f(16/29)
والبلنسم: القطران1. و"البلسم" هو "بلسمون"، و"بلسان" Valsamor2.
وقد استعمل لحاء "العقد" لتضميد الجرح الطري، فيلتحم لخاصية فيه3. وعالجوا بـ"البان"، وهو شجر معروف، ذكر في شعر "امرئ القيس"، ولحب ثمره دهن، وحبه نافع للبرش، والنمش، والكلف، والحصف، والبهق، والسفعة، والجرب، وتقشر الجلد، واستعمل في الإسلام لمداواة أمراض عديدة4.
و"السفوف" كل دواء يؤخذ غير معجون، مثل سفوف حب الرمان وغيره5.
وترد اللفظة في الآرامية بالمعنى نفسه، وهي من المعربات عنها6.
واستعملت الزيوت في معالجة عدد من الأمراض والجروح، فاستعملت في معالجة البطنة مثلًا. وقد تخلط بغيرها، كالخمر أو الخل أو الملح، وقد تغلى ثم توضع على الجرح لقطع النزيف منه ولتعقيمه. والمعالجة بالزيوت، قديمة معروفة عند المصريين والعبرانيين واليونان وغيرهم، أشير إليها في كثير من الموارد القديمة7 وعولج "الباسور" بدهنه بزيت الزيتون8.
وعالجوا باستعمال "الحبّة السوداء". استعملوها قليلًا، وأكلًا ولطوخًا، كما سحقوها وخلطوها بالزيت لاستعمالها قطرات في معالجة أمراض الأنف. وقد كانوا يبالغون في منافعها، فاستعملوها في معالجة أمراض كثير باطنية وخارجية9 وذكرو أن الرسول قال: "إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام"، والسام: الموت10.
وعولج بالألبان، ولا سيما ألبان الإبل. وهم يفضلون لبن الإبل على سائر
__________
1 تاج العروس "8/ 206"، "بلسم".
2 غرائب اللغة "255".
3 تاج العروس "2/ 427"، "عقد"، "2/ 438"، "عود".
4 تاج العروس "8/ 147"، "بون".
5 تاج العروس "6/ 139"، "سف".
6 غرائب اللغة "187".
7 The Bible dicti., Vol., II, P. 154
8 العقد الفريد "6/ 274".
9 عمدة القاري "21/ 235 وما بعدها".
10 إرشاد الساري "8/ 365 وما بعدها".(16/30)
الألبان1. وقد عولج به مختلف الأمراض، ومن ذلك "السقم"2.
وعالجوا بأبوال الإبل أيضًا. وورد في شعر "لبيد بن ربيعة العامري" أنهم عالجوا ببول الإبل وكانوا يغلونها أحيانًا ليشربها المريض3.
وعولج بـ"التلبينة"، حساء من نخالة ولبن وعسل، وقيل: حساء يتخذ من ماء النخالة فيه لبن. وذكر أنها تُجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن وتنظف المعدة4. وعالجوا بالحساء لغسل البطن وتنظيفها من سوء الهضم5.
وعولج بإهراق الماء على المريض، وذلك في أمراض الحمى، وفي الأمراض التي يشعر المريض بأن في جمسه حرارة والتهابًا، فيجلس على كرسي ويصب الماء عليه، حتى يخفف من شدة حرارة المريض6. كما عولجت الحمى بنصح المريض بالإكثار من شرب الماء البارد وغسل الأطراف7.
وللمحافظة على الأسنان ولظهورها بيضاء نظيفة، استعملوا السواك وبعض الأعواد لاستخراج الفضلات التي تتخلل الأسنان، وما زال الحجاج يستوردون المساويك من مكة. وقد اشتهرت مكة منذ الجاهلية بالسواك، يستخرج من أغصان أشجار تنبت هناك، لأغصانها رائحة طيبة، وتساعد على تبييض الأسنان. ومن المواد التي عملت منها المساويك: البشام، والضرو، والعثم، والأراك، والعُرجون، والجريد، والإسحل8.
وقد حث الإسلام على تنظيف الأسنان بالمسواك. ورد في الحديث: "السواك مطهرة للفم" أي: يطهر الفم. وأشير إلى المسواك في الشعر، إذ ورد:
وكأن طعم الزنجبيل ولذة ... صهباء ساك بها المسحر فاها
__________
1 عمدة القاري "21/ 234 وما بعدها".
2 إرشاد الساري "8/ 364".
3 شرح ديوان لبيد "ص116"، عمدة القاري "21/ 234 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 364 وما بعدها".
4 إرشاد الساري "8/ 366 وما بعدها"، اللسان "13/ 376"، "لبن".
5 إرشاد الساري "8/ 366 وما بعدها".
6 إرشاد الساري "8/ 377".
7 إرشاد الساري "8/ 381".
8 البيان "3/ 114".(16/31)
وهو للشاعر "عدي بن الرقاع"، وورد في شعر آخر:
إذا أخذت مسواكها ميحت به ... رضابًا كطعم الزنجبيل المعسل1
واستعمل الإثمد والكحل في معالجة الرمد2، كما استعملوا قطرات من أدوية استحضروها مثل ماء الكمأة في معالجة أمراض العين3. وذكر أن الإثمد يحدّ البصر، ويقوي النظر4.
والكحل، من جملة مواد تطبيب العيون، ومن جملة وسائل الزينة كذلك.
يستعمله الرجال والنساء. وقد كان معروفًا عند الشعوب الأخرى، يصنع من حرق اللبان أو قشور اللوز، ومن السخام المتبقي من حرق بعض الدهون والزيوت5.
وقد عرفت مكة بصنع الكحل قبل الإسلام، ولا تزال مشهورة به. وقد كان الناس يحملون المكاحل في جيوبهم ويحتفظون بها في بيوتهم، يعملونها من القرون أو المعادن، ويبالغ الأغنياء منهم في زخرفتها وفي تزيينها للتبجح بها عند إخراجها أمام الناس6.
ونصحوا بتنقيط نقط من ماء بارد في العين عند النهوض من النوم، لجلائها وإزالة الغشاوة عنها، كما نصحوا بوضع القدمين واليدين في ماء بارد أو حار، وذلك لمعالجة العين، ولمعالجة القدمين واليدين أيضًا. وقد عرف العبرانيون هذه المعالجة كذلك7.
وكانوا يعالجون الماء الأسود الذي يحدث في العين بالنقب، أي: القدح. وقد ورد في حديث "أبي بكر" أنه اشتكى عينه فكره أن ينقبها8. و"الناقب".
__________
1 تاج العروس "7/ 146"، "سوك".
2 عمدة القاري "21/ 245"، إرشاد الساري "8/ 373".
3 عمدة القاري "21/ 248"، "أن الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، وهي شفاء من السم"، العقد الفريد "6/ 272".
4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول، "ص261"، "عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يحد البصر، وينبت الشعر، العقد الفريد "6/ 273".
5 The Bible diction, vol, II, p. 234.
6 Hastigns, Dict, vol, I, p. 814.
7 Ency. Of Relig. Konwledge, vol, III, p. 1456.
8 تاج العروس "1/ 493" "نقب".(16/32)
و"الناقبة" داء يعرض للإنسان من طول الضجعة، وقيل: هي القرحة التي تخرج بالجنب1. وعالجوا الماء الأبيض باستعمال الأشياء الرفيعة الحادة مثل السكين أو العاقول، لرفع الغشاء الرقيق وسحبه عن العين، بعد اكتمال نزول الماء بها.
ولقطع نزيف الدم المنبعث من الجروح، استعملوا الرماد2، والزيوت المغلية تسكب على الجرح، لقطع نزيف الدم. أما النزيف النازل من الأنف، وهو الرعاف، فقد استخدموا الماء البارد لقطعه. وقد عرفوا كذلك ربط الجروح بشدة حتى يقف الدم فينقطع، واستعملوا الضماد والمناديل لمنع الدم من الخروج، ومن ذلك قولهم: ضمد الجرح، أي: شده3. واستعملوا حرق الحصير والمواد القابلة للاشتعال لاستعمال رمادها لقطع النزيف4، أو وضع الملح على الجرح لإيقاف نزيف الدم منه. ولمعرفة عمق الجروح ومقدار غورها، استعملوا آلة يسمونها المسبار5. والسِّبار6، فتيل يجعل في الجرح7. ويعبرون عن مداواة الجرح بقولهم: أسَا الجُرحَ، أي: داواه وشفاه8.
وقد عولج الإمساك بالحقن، أي: حقن المريض، وباستعمال المسهلات لتليين المعدة9.
والباسور من الأمراض المعروفة عند الجاهليين، وقد أشير إليه في كتب الحديث10.
"وفي حديث عمران بن حصين، وكان مبسورًا، أي: به بواسير". واللفظة معربة. والبواسير جمع "باسور"11. والناسور علة تحدث في حوالي المقعدة، وعلة تحدث في المآفي، وفي اللثة12.
__________
1 تاج العروس "1/ 493"، "نقب".
2 عمدة القاري "21/ 253"، صحيح مسلم "5/ 178".
3 غرائب اللغة "ص193".
4 إرشاد الساري "8/ 380".
5 المغرب "240".
6 ككتاب، المعاني الكبير "2/ 983".
7 شرح القاموس "3/ 253".
8 غرائب اللغة "ص172".
9 المغرب "133"، تاج العروس "9/ 182"، "حقن".
10 صحيح البخاري "2/ 481"، الجمهرة "1/ 255"، المعرب للجواليقي "58".
11 تاج العروس "3/ 42"، "بسر".
12 تاج العروس "3/ 564"، "نسر".(16/33)
وعولجت الأورام التي تصيب الجلد بالمناقيع واللصقات، ولا سيما اللصقات الحارة، كي تعجل في إخراج الصديد من العضو المتورم. واستعملت هذه اللصقات من سحق بعض الحبوب ذات المادة الدهنية، مثل حب الكتان أو حب البخور، وبعد سحقها توضع على النار ثم تفرغ في قماش لتوضع فوق الورم لإزالته، وتحويله إلى صديد. واستعملت من مواد أخرى مثل التمر مع الزبد وأمثالها، وكلها على أساس أن الدفء الذي يكون فيها يسبب زوال الورم وتحوُّل الدم الفاسد إلى صديد يخرج أو يجف.
واستعمل "الزقوم" في معالجة الجروح. وهو مرّ شديد المرارة، وأشير إلى "شجرة الزقوم" و"شجر من زقوم" في القرآن الكريم1، ولما نزلت الآية لم تعرف قريش معنى الكلمة، "فقال أبو جهل: إن هذا الشجر ما ينبت في بلادنا، فمن منكم يعرف الزقوم؟ فقال رجل قدم علهم من أفريقية: الزقوم بلغة أفريقية: الزبد بالتمر. فقال أبو جهل: يا جارية، هاتي لنا زبدًا وتمرًا نزدقمه، فجعلوا يأكلون منه ويقولون: أفبهذا يخوفنا محمد في الآخرة! "2.
والزقوم نبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل. وقيل: شجرة غبراء صغيرة الورق مدورتها لا شوك لها ذفرة مرة لها كعابر في سوقها كثيرة ولها وريد ضعيف جدًّا يجرسه النحل ونورتها بيضاء ورأس ورقها قبيح جدًّا. وفي أريحا شجرة يقال لها: الزقوم لها ثمر كالتمر حلو عفص، ولنواه دهن عظيم المنافع في تحليل الرياح الباردة وأمراض البلغم وأوجاع المفاصل والنقس وعرق النسا، وذكر أن أصلها من الهند، جاءت به بنو أمية من أرض الهند وزرعته بأريحا3.
وعولجت كسور العظام بالجبائر، وبالدلك، ووضع المناقيع فوق العضو المصاب عظمه بالكسر، والجبيرة: العيدان التي تجبر بها العظام، وذلك بعد جبر المجبر لها4.
ومن المصطلحات الطبية المتعارفة عند الجاهليين: "البطنة"، وهي التخمة.
__________
1 الصافات، الآية62، الدخان، الآية43، الواقعة، الآية52.
2 تاج العروس "8/ 326"، "زقم".
3 تاج العروس "8/ 326"، "زقم".
4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص297".(16/34)
وتعالج بالحمية وبالمنتقعات والحقن. وقد عرف الجاهليون أثر المعدة في الصحة العامة، فعدت بيت الداء، والحمية رأس كل دواء.
والأمراض التي تعرض لها الجاهليون عديدة، منها: العمى، والعَوَر، والتهاب العيون، والرمد، ومنها: ما يصيب الجلد، مثل البرص والوضح، والبهق، والحكة، والدمامل، والبثور، والجرب، والقرح، ومنها أمراض داخلية، مثل أوجاع المعدة والكبد واليَرَقان والصداع والشقيقة، وذات الجنب وأوجاع المفاصل والعظام، والفالج، والسل، والحمى، وأمراض أجهزة البول والحمى والبُرَداء. وأمراض القلب والرعشة والجنون والأمراض العصبية الأخرى وغير ذلك من أمراض لا تزال معروفة.
ومن الأمراض المعروفة عند الجاهليين البرص، وهو مرض يصيب الجلد، وهو غير الجذام ويطلقون عليه "الوضح" كذلك، لبياض يظهر في ظاهر البدن1 ومنه قيل لجذيمة الأبرش: جذيمة الوضاح2. وقد كان معروفًا في الشرق الأدنى، وأشير إليه في التوراة، وهو نوع من "البسورياس" Psoriasis أو "اللبرا"3 Lepra, Leprosy. ويظهر أنه كان كثير الانتشار، ومن أصيب به "الحرث ابن حلزة اليشكري"4، وجماعة آخرون من الأشراف والمعروفين ذكرهم أهل الأخبار5.
وقد نعت البرص ببعض النعوت، فقيل لمن به برص: "المحجل"6، و"الوضاح"، و"الوضح" البرص. وقد كان الناس يكرهون مجالسة البُرْص خشية العدوى، فكان الملك "عمرو بن هند" يتجنب مؤاكلة البُرص، ويأمر بنضح الأمكنة التي يجلسون عليها حذر العدوى7. وكانت قريش قد أخرجت "أبا عزة، عمرو
__________
1 تاج العروس "4/ 373".
2 "ويكنى به عن البرص، ومنه قيل لجذيمة الأبرش: الوضاح. وسيأتي الكلام عليه وفي الحديث: "رجل بكفه وضح"، أي: برص" تاج العروس "2/ 247".
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 220 وما بعدها".
The Univer. Jewish Ency., 7, P. 434
4 شرح المعلقات السبع، للزوزني "دار صادر" "ص154".
5 المحبر "ص299 وما بعدها".
6 المحبر "ص301".
7 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص154".(16/35)
ابن عبد الله بن عمير بن وهيب بن حذافة"، وهو من البُرص، من مكة مخافة العدوى، فكان يكون بالليل في شُعَف الجبال، وبالنهار يستظل بالشجر1.
وأما الجذام، فإنه من الأمراض المعدية، وقد كان معروفًا بين الجاهليين، وقد ورد النهي عن الاختلاط بالمجذومين في حديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" مما يدل على شدة عدواه واختلاط المجذومين بين الناس في ذلك العهد. وذك علماء اللغة أن الجذام علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها، وربما انتهى إلى تقطع الأعضاء وسقوطها عن تقرح2.
و"البهق"، هو مرض جلدي أيضًا، يترك بياضًا في الموضع المصاب من الجسد، وهو "زرعة" في العبرانية. ويدعى3 Laprosy.
وقد كانت أمراض الجلد من الأمراض المتفشية بالنسبة إلى تلك الأزمنة، لقلة العناية الطبية وللفقر وعدم توفر وسائل النظافة والتظيف بين معظم الناس. ولسوء تغذيتهم بسبب فقرهم العام.
و"السفعة" من أمراض الجلد، وهي سواد أو حمرة يعلوها سواد أو صفرة، تظهر في الوجه. وقد علل حدوثها بإصابة العين4. والثؤلول، بثر صغير صلب على صور شتى تصيب الجسد5. وقد مات "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" من ثؤلول كان برأسه، حلقه حلاق فقطعه فمات منه6.
ومن الأمراض الخطيرة التي أشير إليها في كتب الحديث والأخبار: الحمى، وقد كانت شديدة الانتشار في المدينة7، حتى أضعفت أجسام معظم أهل المدينة والمهاجرين. وهي علة يستحر بها الجسم وقد أهلكت كثيرًا من الناس، ولذلك
__________
1 المحبر "ص300 وما بعدها".
2 تاج العروس "8/ 223"، تفسير الطبري "30/ 200".
3 Hastings, A Dictinary of Chirst and The Gospels, II, p. 24.
4 إرشاد الساري "8/ 390".
5 تاج العروس "7/ 243"، "تثألل".
6 الإصابة "4/ 90"، "رقم 538".
7 "والحمى والحمة: علة يستحر بها الجسم من الحمم، قيل: سميت لما فيها من الحرارة المفرطة، ومنه الحديث: الحمى من فيح جهنم"، تاج العروس "8/ 261" "حمم".(16/36)
قيل: الحُمى رائد الموت، أو بريد الموت، وقيل: باب الموت1. وقد اشتهرت خيبر بنوع خاص من الحمى عرف باسمها، فقيل: حمى خيبرية وحمى خيبر وحمى خيبري2. وذكر علماء اللغة أسماء للحمى تحكي صفاتها وكيفية ظهورها وتحكمها في البدن، فقالوا: حمى الغب، وذلك إذا أخذت المريض يومًا وتركته يومًا3، وحمى الربع، وحمى الصالب، وهي الحمى التي يكون معها صداع، والنافض، والراجف التي تكون معها رعدة ونفضة، وحمى مغبطة ومردمة، أي: دائمة عليه لا تقلع، وتسمى الحمى المطبقة أيضًا، والوعك الحمى، وحمى الروح، وحمى الدِقّ أن يغمى عليه في الحمى، والورد هو يوم الحمى. ويقال للعرق الذي يتصبب من الحمى: الرُحَضاء، ولأول ما يحس بالحمى: المسّى4.
ويقال في السريانية للحمى: "حمتو" Hemto بمعنى حرارة5.
وذكر أن "حمى صالب"، أو "الصالب" حمى معها حرّ شديد وليس معها برد. وقال بعض علماء اللغة: الصالب من الحمى الحارة خلاف النافض.
وقيل: هي التي فيها رعدة وقشعريرة6. و"الحمة" في تعريف العلماء علة يستحر بها الجسم، سميت لما فيها من الحرارة المفرطة، وإما لما يعرض فيها من الحميم، وهو العرق. ورد في الحديث: الحمى من فيح جهنم7.
وقد لاقى الرسول8 والصحابة شدة من "حمى" المدينة وقد ذكر أن "أبا بكر" كان إذا أصابته الحمى –وكانت تزوره مناوبة- قال:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
__________
1 تاج العروس "8/ 261"، "حمم".
2 "قال الشاعر الأخنس بن شهاب:
كما اعتاد محمومًا بخيبر صالب" تاج العروس "3/169".
3 تاج العروس "1/ 403"، "غب".
4 بلوغ الأرب "3/ 339 وما بعدها".
5 غرائب اللغة "ص179".
6 تاج العروس "1/ 338"، "صلب".
7 تاج العروس "8/ 261"، "حمم".
8 إرشاد الساري "8/ 349 وما بعدها".(16/37)
وكان بلال، أقلعت عنه الحمى، يقول:
ألا ليتَ شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي اذخر وجليل
وهل أردن يومًا مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل
وكان عامر بن فهيرة، يقول:
قد وجدت الموت قبل ذوقه ... كل امرئ مجاهد بطوقه
كالثور يحمي جسمه بروقه1
إلى غير ذلك مما يخبر عن شدة وقع تلك الحمى في أجساد المهاجرين، ولما رأى الرسول ما حل بصحابته من هذه الحمى ومن ضجرهم من الإقامة بيثرب بسببها توسل إلى الله أن يخفف عنهم أذاها وأن يزيل عنها هذا المرض وأن يبرأها منه2.
ويقسم العرب الحمى إلى نوعين: حمى يشعر الإنسان فيها بحرارة شديدة تصيب الجسم، قد تجعله يتصبب عرقًا من شدة وقع الحمى على الجسم، ولا يكون معها برد، وقد يصاب المريض بها بصداع ووجع شديد في الرأس، وحمى يشعر الإنسان فيها بنفضة ورعدة وقشعريرة، يقال لها: "نافض" و"النافض"، و"حمى نافض"3، وهي: حمى الرعدة، لوجود رعدة وقشعريرة بها تصيب الجسم4. ويقول العرب لقرة الحمى ومسها في أول، عدتها: "العرواء"، وقيل: أول ما تأخذ من الرعدة5. ويقال لهذه الحمى: "الراجف"؛ لأنها ذات رعدة ترجف مفاصل من هي به6. و"القعقاع"، وهي حمى نافض تقعقع الأضراس7.
و"القفة"8.
__________
1 إرشاد الساري "8/ 347".
2 "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة" إرشاد الساري "8/ 347".
3 تاج العروس "5/ 92"، "نفض".
4 تاج العروس "2/ 354"، "رعد".
5 تاج العروس "10/ 239"، "عرى".
6 تاج العروس "6/ 113"، "رجف".
7 تاج العروس "5/ 477"، "قع".
8 تاج العروس "6/ 225"، "قف".(16/38)
وقد كانت الحمى منتشرة في المواضع التي تكون فيها الينابيع والمستنقعات والمياه الآسنة الواقفة وما شاكل ذلك من أمكنة، ولما كان العرب في حاجة شديدة إلى الماء، كانوا يشربون منها اضطرارًا، فأصيبوا بسبب ذلك بأنواع من الأمراض.
وقد كانت وسائل مقاومة البعوض الناقل للحمى غير معروفة، كما أن وسائل العناية بالصحة وتنظيف الجسم لم تكن متوفرة عندهم بسبب فقر أكثرهم، لذلك صارت أجسامهم معرضة لمختلف الأمراض، ولا سيما أهل المدر الذين لم تكن بيوتهم صحية، ولا مياههم نقية، وكانت بيوتهم ضيقة غير صحية، فكانوا يصابون بالسل وبالأمراض الأخرى، أكثر من الأعراب المتباعدين في السكن، والذين لا يعرفون البعوض، ويستنشقون الهواء النقي، وتقيهم الشمس من شر الجراثيم.
والذبحة: وهي داء يأخذ بالحلق، وقد كان معروفًا بين الجاهليين، وكانوا يعالجونها بالكي. ذكر أن الرسول كوى "أسعد بن زرارة" في حلقه من "الذبحة"، وقيل: "الشوكة"1. وأنه عاد "البراء بن معرور"، وأخذته الذبحة، فأمر من لعطه بالنار2.
وقد أشير إلى مرض عرف بـ"خبط" في نصوص المسند، وقد فسر أنه برد شديد في الرأس3.
وقد كانت الأوبئة تفتك بالناس فتكًا، فكان الأغنياء والموسرون يفرون من الأماكن المزدحمة إلى أماكن بعيدة، ويلجأون إلى الصحارى ابتعادًا عن المصابين بها. وكانوا يرجعون أسبابها وأسباب الأمراض عمومًا إلى غضب الآلهة على الناس، وإلى أرواح شريرة تصيب الجسم من الأكل والشرب، وإلى أنواع من الهوام والحشرات. ومن أشهر أنواع هذه الأوبئة الطاعون والجدري والهيضة.
والطاعون المرض العام والوباء، وقد أشير إليه في كتب الحديث. ويظهر أنه كان منتشرًا معروفًا في الحجاز وفي سائر أنحاء جزيرة العرب آنئذ4. وقد جعل
__________
1 اللسان "2/ 438"، "ذبح"، الإصابة "1/ 50"، "رقم 111".
2 اللسان "2/ 438"، "ذبح".
3 Mahran, P. 437
4 تاج العروس "9/ 269"، "طاعون عمواس" في أيام عمر، إرشاد الساري "8/ 483 وما بعدها".(16/39)
بعض العلماء الطاعون نوعًا من أنواع الوباء، وفرَّق بينهما بعض علماء اللغة، وجعلوا الوباء المرض العام عامة، مهما كان، مثل انتشار الحمى والجدري والطاعون والنزلات والحكة والأورام. وقد ذكرت الأوبئة في كتب الحديث1.
و"الدبل" الطاعون2.
ونسب الجاهليون حدوث الطاعون إلى "وخز الجن"، فهو يقع لأن الجن تطعن الشخص وتخزه فيصاب بالطاعون. وقد أشار إلى هذا الرأي "حسان بن ثابت"، أشار إليه في أثناء حديثه عن أعاصير نزلت بـ"بصرى" وبـ"رمح" وعن "دخان نار"، حتى أثرت في كل قصر ومنزل في ذينك المكانين، ثم أعقب ذلك "وخز جن بأرض الروم"3، أي: بلاد الشأم وفيها المكانان المذكوران إذ كانت تحت حكم الروم، كما أشار إلى هذه الفكرة شاعر آخر اسمه "الغساني"4.
ونجد في كتابات المسند إشارات إلى أوبئة تكتسح البلاد فتفني عددًا كبيرًا من الناس. فنجد فيها أن فلانًا يحمد آلهته لأنها منت عليه بالعافية وأنقذته من الوباء الذي تفشى في أيامه فأهلك الناس. وقد كان القدراء من الناس يهربون من الأرضين الموبوءة إلى أرضين أخرى بعيدة سالمة ليتخلصوا من الوباء. ونجد في الكتابة الموسومة بـ"CIH 343" رجلًا اسمه "يحمد" يشكر إلهه "تألب ريام"، لأنه من عليه بالعافية وشفاه من المرض الذي نزل به في وباء انتشر فيما بين "هوزن" "هوزان" "هوازن" و"سهرتن" "سهرت". وقد كانت الأوبئة تكتسح المناطق الواقعة عند قواعد الجبال وفي المناطق الحارة الرطبة، ولا سيما التهائم. وتقع "هوزن" "هوزان" "هوازن" عند مرتفعات "حراز"5.
وقد كانت الحروب من المصادر التي غذت العربية الجنوبية بمادة دسمة من الأوبئة. فقد كانت تأتي على عدد كبير من الناس، فتتركهم جثثًا تتعفن على ظاهر الأرض، كما كانت تأتي على مواطن السكن ومواضع المياه وتأتي على كل
__________
1 شرح القاموس "1/ 130".
2 تاج العروس "7/ 317"، "دبل".
3 فأعجل القوم عن حاجاتهم شغل
من وخز جن بأرض الروم منكور
البرقوقي "ص219".
4 البرقوقي "ص219"، ديوان حسان "ص79"، "هرشفلد".
5 Beitrage(16/40)
ما يملكه الناس، وتزيد في مشكلة الفقر مشكلة، وتبعد الناس عن النظافة، فتهيء بذلك للأوبئة أمكنة جيدة، لتلعب بها كيف تشاء. ودليل ذلك ما نجده في كتابات المسند من إشارات إلى أمراض وأوبئة تعم المناطق المنكوبة بالحروب، حيث تكتسح من الأحياء، ما لم يتمكن السيف من اكتساحه منهم.
وذكر الأخباريون نوعًا من البثور يخرج بالبدن، دعوه: العدسة، عرفوه أنه: بثرة صغيرة شبيهة بالعدسة، تخرج بالبدن مفرقة، كالطاعون، فتقتل غالبًا، وقلما يسلم منها. وقد رمي بها أبو لهب فمات. والظاهر أن هذا المرض كان منتشرًا بمكة، فقد روي أن قريشًا كانت تتقي العدسة، وتخاف عدواها1.
وقد كان الجاهليون يعرفون عدوى بعض الأمراض، فكانوا يتجنبونها ولا يقتربون من المريض المصاب بها، ويطلقون عليها العدوى2، فكانوا إذا أصيبوا بأوبئة، فروا إلى أماكن بعيدة سليمة تهربًا منها، وحجروا على المريض، لئلا يقرب منهم، فينتقل المرض إليهم. وذلك لما كانت الجاهلية تعتقده في بعض الأمراض من أنها تعدي بطبعها، مثل الجذام3.
والحصبة: من الأمراض المعروفة عند الجاهليين4. وكذلك الجُدَري. وقد ذكر بعض الأخباريين أن أول جدري ظهر هو ما أصيب به أبرهة5. وهو قول من هذه الأقوال المعروفة عند الأخباريين، فالجدري من الأمراض القديمة المعروفة عند الجاهليين قبل أبرهة بزمان.
وذكر أن العرب عالجت الحصبة والجدري بمرار الشجر، وبالحنظل والحرمل6.
و"السل" من الأمراض المعروفة بين الجاهليين. ذكر بعض أهل الأخبار أنه عرف بـ"داء الياس"، لأن "الياس بن مضر" أول من مات من السل، فسمي بذلك، وسمي بـ"ياس"7.
__________
1 تاج العروس "4/ 186"، الاشتقاق "ص143".
2 شرح القاموس "10/ 234".
3 إرشاد الساري "8/ 373".
4 شرح القاموس "1/ 214".
5 شرح القاموس "3/ 89".
6 الاشتقاق "ص101".
7 الروض الأنف "1/ 7"، تاج العروس "7/ 378"، "سلل".(16/41)
ومن العلل: اليرقان، والصداع، و"الشقيقة"، وهو وجع يكون في شق الرأس، و"السعال" وجع في الصدر، والزكام، والزحير، والحصر وهو انقباض البطن، والأسر وهو احتباس البول والحصى في مجرى البول، والحكة، والحصف، والحمرة، والشرى، والحماق، والقُوَباء، والثؤلول، والعُرّ وهو الجرب الأبيض، وداء الثعلب ويصيب الشعر، وداء الفيل ويعتري الرجلين، والدوار، والهيفة، وتسمى الفضجة، والنملة، وهي بثور صغار مع ورم يسير ثم تتقرح فتسعى وتتسع، وتسمى أيضًا الذباب، والجنون والخدر، والفالج، والحزاز وهي القشرة التي تصيب الرأس، والحدبة، والطرش، والطلق، والجشاء، والباسور، والناسور، والبهق، والكلف، والمغس، والمغص، والاستسقاء، والإغماء، والاختلاج، والبخر، والفواق، والجشاءة، والقلس1.
وعرفت القُوبَاء بأنها الحزازة، وذكر أنه كانت بوجه أبيض بن حمال بن مرثد بن ذي لحيان المأربي السَّبئي حزازة، توسعت فالتقمت أنفه2. والقوباء هوالذي يظهر في الجسد ويخرج عليه، يتقشر ويتسع، يزعمون أنه يعالج بالريق. وقالوا:
يا عجبًا لهذه الفليقة ... هل تغلبن القوباء بالريقة3
ودم الملوك، دواء ينفع ويفيد في معالجة من يعضه كلب كَلِب في نظر الجاهليين. فإذا أصيب إنسان بداء الكلب، فشفاؤه بمعالجته بدم الملوك. وقد عرفه "ابن دريد" بقوله: "والكلب داء يصيب الناس والإبل شبيه بالجنون.
وكانت العرب في الجاهلية إذا أصاب الرجل الكلب، قطروا له دم رجل من بني ماء السماء، وهو عامر بن ثعلبة الأزدي، فيسقى، فكان يشفى منه. قال الشاعر: دماؤهم من الكلب الشفاء"4.
وكانوا إذا خافوا على المرأة الحامل، ووجدوا أن ولدها ميت في بطنها،
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 339 وما بعدها".
2 الإصابة "1/ 17".
3 تاج العروس "1/ 441"، "قوب".
4 الاشتقاق "ص14".(16/42)
استخرجوه منها. وجوزوا قيام الرجل بذلك. وعبروا عن ذلك بـ"السطو"1.
ويلعب التطبيب بالسحر والرقي والتعويذ دورًا خطيرًا في حياة الجاهليين، كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في كتب الحديث والأدب، حتى عد السحر نوعًا من الطب2. وقد منع الإسلام أكثرها وحرمها، ومع ذلك بقية حية مستعملة بين الأعراب والجهلة من أهل القرى الذين لا تساعدهم أحوالهم المعاشية على مراجعة الأطباء. ويقوم هذا التطبيب على التأثير في المريض، واستعمال بعض الحرز أو عظام بعض الحيوانات والسحر، بحجة وجود علاقة بين المرض والأرواح، وأن هذا النوع من التطبيب يطرد الروح الخبيثة التي تدخل الجسم فتصيبه بالمرض من ذلك الجسم. وهذا الرأي في المرض، رأي شرقي قديم، سيطر على كل الشعوب القديمة. فقد كان في رأي الأطباء، أن المرض روح شريرة تستولي على الجسم المريض بدخولها فيه، وأن واجب الطبيب العمل بعلمه وبفنه لإخراج الروح الشريرة من الجسم3.
وفي جملة الوسائل التي استعملت لمكافحة المرض والتغلب على الأرواح الشريرة أو النظر، أي: إصابة الإنسان بالعين من حاسد تصيب عينه إصابة مؤذية، الاستعانة بالرقى والتعاويذ. وقد كان العبرانيون يطلقون على التعاويذ لفظة "حرط"4، وهي أنواع، بعضها على هيئة قلب يعلق بسلسلة في العنق، ويتهدل القلب إلى الصدر، فيكون من جملة وسائل الزينة، وبعضها يربط بالعضد وفي مواضع أخرى من الجسم.
ولم يقتصر الجاهليون في اتخاذ هذه الوسائل على حماية أنفسهم فقط، بل اتخذوها لحماية ما يملكونه أيضًا من حيوان وزرع وملك، فعلقوا العظام أو المعادن أو نعل الحيوان مثل نعل الفرس، ورسموا العين واليد على الجدر وفوق الأبواب، لحمايتها من العيون المؤذية ومن حسد الحاسدين، ولا يزال الناس يستعملونها لحماية أنفسهم ومقتنياتهم من الإصابة بأذى العين وبحسد الحاسدين.
__________
1 تاج العروس "10/ 177"، "سطا".
2 عمدة القاري "21/ 263 وما بعدها" شرح القاموس "1/ 351.
3 A. Jeremias, Altorientalische Geisteskultur, S. 55. FF, The Universal Jewish Ency, vol, 7 pp. 434.
4 Hastigns Dict, vol. I, p. 88.(16/43)
والجنون وسائر الأمراض العصبية معروفة بين الجاهليين أيضًا، وهم يعدونها من الأمراض التي تحدث للإنسان بسبب دخول الجنون والشياطين في جسد الإنسان فتتملكه، ولا يمكن شفاء من إصابة مس من الجنون أو لوثة في العقل، إلا بإخراج الأرواح المسيطرة على المريض من جسده، ولذلك كان علاج هذه الأمراض من واجب الكهان والسحرة في الغالب، بسبب كونها أمراضًا لم تقع من آفة في الجسد، وإنما وقعت من عارض خارجي، هو دخول الأرواح إلى الأجساد، ومهمة إخراج تلك الأرواح من وظائف المذكورين.
وقد عالج العرب الجنون والخيل بشرب دماء من دماء الملوك. ومن أقوالهم: دماء الملوك شفاء من عضة الكَلِب الكلب والجنون والخبل. ومعالجة داء الكلب، بلعق دم الملوك أو الأشراف من الأدوية المشهورة عند الجاهليين في مداواة هذا المرض. ونسب إلى "الخليل بن أحمد" "أنه قال: دواء عضة الكَلْب الكَلِب الذراريح والعدس والشراب العتيق. وقد ذكر كيف صنَعته وكم يُشرب منه وكيف يتعالج به"1. وذكر أهل الأخبار أن "الأسود بن أوس بن الحُمرة" أتى "النجاشي" فعلمه دواء الكَلَب، وقد ورث ولده هذا الدواء. ومن ولده "المحل". وقد داوى "عتيبة بن مرداس" فأخرج منه مثل جراء الكلب2.
و"الأسود بن أوس"، هو من "بني الحمرة"، وهم من "ثعلبة بن يربوع". وقد ذكر "ابن دريد"، أن "الأسود بن أوس" تعلم من "النجاشي"، دواء الكلب، وأن نسله يداوون به العرب إلى اليوم، أي: إلى يومه، وقد صار منهم اليوم إلى "بني المحل"، فهو فيهم أيضًا3.
وقد ظن الجاهليون أن النوم يؤدي إلى امتداد السم في جسد اللديغ، فكانوا يعلقون الجلاجل والحلي على اللديغ ثم تحرك لئلا ينام فيدب السم في جسده4.
ويقولون: إنه إذا علق عليه أفاق، فيلقون عليه الأسورة والرعاث، ويتركونها عليه سبعة أيام ويمنع من النوم. قال النابغة:
__________
1 عيون الأخبار "2/ 79".
2 عيون الأخبار "2/ 80".
3 الاشتقاق "138".
4 المعاني الكبير "2/ 1008".(16/44)
يسهد في وقت العشاء سليمها ... لحلى النساء في يديه قعاقع1
وفي جملة داووا به الخدر الذي يصيب الرجل، أنهم كانوا يذكرون أحب الناس إلى الشخص، فيذهب الخدر عنه2.
وزعموا أنه إذا ظهرت بشفة الغلام بثور، يأخذ منخلًا على رأسه ويمر بين بيوت الحي، وينادي: الحلأ الحلأ، فيلقى في منخله من ههنا ثمرة، ومن ههنا كسرة، ومن ثم بضعة لحم، فإذا امتلأ، نثره بين الكلاب، فيذهب عنه البثر، وذلك البثر يسمى: الحلأ3.
وإذا أراد أحدهم دخول قرية، فخاف وباءها، أو جنها، فله سبيل سهل يحميه ويقيه، هو أن يقف على باب القرية والموضع الذي يريد دخوله، ثم ينهق نهيق الحمار، ثم يعلق عليه كعب أرنب، فيدخل عندئذ الموضع دون خوف.
فقد فعل ما يتقي به الأذى والسوء ويسمون ذلك التعشير قال عروة بن الورد.
لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع4
وإذا أرادت المرأة المقلاة أن يعيش ولدها، ففي إمكانها ذلك إذا تخطت القتيل الشريف سبع مرات، وعندئذ يعيش ولدها. وفي ذلك يقول بشر بن أبي خازم:
تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يُلقى على المرء مئزر5
والجاهليون، مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن، وفي جملتهم العبرانيون، كانوا يرون أن الأمراض هي غضب يسلطه الآلهة على الإنسان لتنتقم منه، لسبب ما، مثل عدم قيام المريض بواجباته تجاهها، ولهذا كانوا يسرعون بتقديم النذور والقرابين إليها ترضية لها. ويرد المرض إليهم، بتسلط الهوام وبعض الديدان والأرواح الشريرة على الإنسان، فتصيبه بالمرض. ولهذا كان الطب من واجب
__________
1 نهاية الأرب "3/ 124".
2 نهاية الأرب "3/ 125".
3 نهاية الأرب "3/ 125".
4 نهاية الأرب "3/ 125"، بلوغ الأرب "2/ 315".
5 نهاية الأرب "3/ 124".(16/45)
الكهان ورجال الدين بالدرجة الأولى، هم يداوون المريض ويعطونه الوصفات التي يعتقدون أن فيها الشفاء للمريض، كما كانوا يعتقدون بالنظر، أي: بإصابة الإنسان، فيلحقه المرض1.
وقد مارس التطبيب بين العرب المبشرون، وذلك بعد الميلاد بالطبع، وأكثرهم من الأعاجم، وكانوا قد درسوا الطب وتعلموه على الطريقة اليونانية في الغالب، فلما أرسلوا إلى بلاد العرب أو جاءوا هم أنفسهم للتبشير، مارسوا تطبيب المرضى، وقد شفوا جماعة من سادات القبائل، وأثر شفاؤهم هذا عليهم فاعتنقوا النصرانية.
واشتهر "العباديون" بالتطبيب كذلك2، ولعل ذلك بعامل تنصرهم، فقد كان أكثر رجال الدين النصارى يدرسون مختلف العلوم، وفي جملة ذلك الطب، ومنهم من ترجم كتب العلوم اليونانية إلى السريانية، فدرس العباديون هذه العلوم. وكان طبهم مبنيًّا على العلوم والتجارب السابقة، ومتقدمًا جدًّا بالنسبة إلى طب أهل البادية، لذلك نجح المبشرون والنصارى في معالجة أمراض الأعراب، ولا سيما سادتهم، الذين صاروا يقصدونهم لنيل الشفاء على أيديهم. ومن ثم اشتهر النصارى بالطب، ولما جاء الإسلام، كان أكثر الأطباء من النصارى، وعلى أيديهم تخرج الأطباء المسلمون.
وقد استخدم الجاهليون النساء لتمريض الجرحى في غزوهم وغاراتهم، وقد فعل المسلمون فعلهم. قالت "بنت معوذ بن عفراء": "كنا نغزو مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة"3.
وقد كان في مسجد الرسول موضع يعالج فيه المرضى والجرحى، وكان الرسول والصحابة يتفقدون المرضى النازلين به4.
وليس في الموارد المتوفرة لدينا ما يدل على إقدام الأطباء الجاهليين على التشريح، للاستفادة منه في زيادة علمهم بالطب. وقد كانت شعوب الشرق الأدنى تنفر من تشريح الإنسان، وتعده مثلة وإهانة للمتوفى. وعملًا مخالفًا لأحكام الدين،
__________
1 Hastings. Dict. Of. The Bible, P. 597. ff.
2 الفاخر "ص58".
3 إرشاد الساري "8/ 361".
4 كتاب الجهاد.(16/46)
ولذلك نهت عنه1. والجاهليون لا يختلفون من هذه الناحية عن غيرهم إن لم يزيدوا عليهم في هذه الأمور التي يعدونها حرمة وكرامة للإنسان. وتشريح الميت وتقطيع بعض أجزاء جسمه، اعتداء على حرمة الميت، وإهانة له ولأهله الأحياء، ولهذا لا نطمع في الحصول على موارد قد تفيد بوجود خبرة علمية عند الأطباء الجاهليين ناتجة من تجاربهم وبحوثهم التي حصلوا عليها من التشريح.
ولم يرد إلينا أي شيء مفيد في الكتابات الجاهلية عن الطب والأطباء، وإن أملنا الوحيد في الحصول على معارف عن الطب، متوقف على المستقبل يوم يقوم علماء الآثار بالتنقيب تنقيبًا علميًّا عميقًا في باطن الأطلال الأثرية، للكشف عن تاريخ الماضين. وعندئذ يكون من الممكن العثور على نصوص قد تكشف النقاب عن الطب الجاهلي وعن العلوم الأخرى وعن مختلف نواحي الثقافة عند الجاهليين.
ويقال للمرض "مرضم" أي: مرض في الكتابات الجاهلية2. وتؤدي لفظة "حلصم" "حلظم" "حلظ" معنى مرض وباء3. ويتبين من بعض الكتابات أن أوبئة شديدة وأمراضًا مهلكة كانت تقع في بعض الأحيان، فتفتك بالناس. وقد كانوا يتجنبونها بالتضرع إلى الآلهة للرحمة بهم وتخليصهم من الضر، كما كانوا يتركون المدن والأماكن المزدحمة إلى محلات بعيدة مكشوفة غير موبوءة حتى ينكشف الوباء. وفي جملة هذه الأوبئة الطاعون.
ويعبر عن المرض في المسند بلفظة أخرى هي "شين"، وهي في معنى "شعين" sha'en في الأثيوبية و"سيعون" Se'on في العبرانية و"شينو" Shenu في البابلية4، وذلك كما في هذا النص السبئي: "تشين شين ارجلهو"5، أي
__________
1 Hastings, Dict, p. 598.
2 Rhodokanakis, Katab. Texte, II, S. 33, Jamme, Sabaen Inscriptions, p. 441.
3 خليل يحيى نامي، نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرقها، "ص36"، السطر السادس من النص رقم22.
Rhodokanakis, Kata. Texte, II, S. 33, CIH, 407, Mardtmann und Mittwoch, alt. Inscri, S. 47.
4 Repe. Epi. Semi, Tome VII, Prjm. Livr, p. 30. F. Num. 3991.
5 المصدر نفسه، الفقرة: 7(16/47)
المرض الذي مرض أرجله، و"تشين" بمعنى المرض. وكما في هذه الجملة:
"بن هوت تشين"1، أي: "في هذا المرض" و "من هذا المرض".
وتعني "شين" أذى ومكروه ومعنى سوء كذلك، وهي في عربيتنا العراقية "الزين" أي: الحسن، فنقول: زين وشين، أي: حسن وقبيح، أو جيد ومكروه.
ووردت لفظة "عوس" بمعنى وباء أو طاعون. وأما "خوم"، فنؤدي معنى "وخم" و"خامة"، ويراد بها انتشار الأمراض والأوبئة، أي: وباء. جاء في بعض النصوص "عوس ذكون بأرضن"، أي: "الأوبئة التي انتشرت بالأرضين"2. وورد "خوم وعوس وموت كون بأرضن"3، أي: "الوخامة" "الوخم" والأوبئة والوَفَيات التي تفشت في الأرض. ورد "كن ضلم وعوسم باشعبن وهكرن"، أي: "وكانت أو وتفشت أمراض وأوبئة بالقبائل والمدن"4.
وورد "خوم ذكين بكل أرضن"، أي: "الوخامة "أوبئة" تفشت في كل أرض"5. ويفهم من هذه النصوص أن العربية الجنوبية، كانت معرضة لأوبئة عامة، تأتي فتكتسح البلاد اكتساحًا، تميت الأعراب، أبناء القبائل، كما تميت أهل المدن، فتشمل مناطق واسعة من البلاد. وقد كانت تظهر خاصة بعد الحروب التي كانت تفني القرى والمدن، وتدمر مواضع المياه، وتترك الجثث ملقاة على سطح الأرض حتى تنتن وتجيف، فتتفشى منها الأمراض، وتظهر الأوبئة، وتتسرب إلى مواضع نائية لتضيف إلى خسائر الحرب خسائر أخرى فادحة في الأرواح.
وقد وردت في نصوص ثمودية إشارات إلى أمراض كانت معروفة في ذلك الوقت6.
__________
1 المصدر نفسه، الفقرة: 12.
2 خليل يحيى نامي، نقوش عربية جنوبية، مجلة كلية الآداب، القاهرة 1937، "ص1، 13 قسم2، 16"، "1954" "ص21 وما بعدها".
CIH 81, 4, Jamme 645, Ma. Mb. 275.
3 Ja 645, 13-14.
4 CIH 541, 72-73.
5 Rep. Epig, 4138, 4-5.
6 Grimme, S. 40.(16/48)
وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن الأوجاع والآلام والأمراض والأسقام التي تصيب الإنسان، وتستعمل للتعبير عن منزلة ودرجة من درجات الأمراض التي تصيبه، من نفسية وغير نفسية. وتحديد مدلولاتها وحدودها، يفيدنا كثيرًا في تكوين رأي في مدى تأثر الجاهليين بالنواحي الطبية والنفسية في ذلك العهد.
وقد كان الختان شائعًا بين العرب، ويستعمل "الموسى" للختان، ولوقف الدم تستعمل أدوية خاصة من مراهم ومواد، كما يستعمل الضماد أيضًا. ولم يكن الختان من أعمال الطبيب. إنما يقوم به الختّان، والحلاقون والحجامون.
وقد عرف الجاهليون طريقة تغطية بعض العيوب أو الإصابات التي تلحق بأعضاء الجسم، بالاستعانة بالوسائل الصناعية. فشدوا الأسنان وقووها بالذهب، وذلك بصنع أسلاك منه تربط الأسنان، أو بوضع لوح منه في محل الأسنان الساقطة1.
واتخذوا أنوفًا من ذهب، لتغطية الأنف المقطوع، كالذي روي عن عرفجة بن أسعد من أنه اتخذ أنفًا من ذهب، وكان قد أصيب أنفه "يوم الطلاب" في الجاهلية2.
وتخصص نفر من الجاهليين بمعالجة الحيوان، وهم البياطرة، يعالجون أمراضها فيصفون الأدوية، يقال للواحد منهم: البطير والبيطر والبيطار، وقد أشير إليهم في أشعار الجاهليين3. ويعالجون الجروح التي تصيبها وفي جملة ما كانوا يعالجون به الكي والمعالجة باستعمال القطران، وذلك بطلي الحيوان المريض به4. ومن هذه الأمراض الجرب. ويقال للحيوان المطلي بالقطران "المقطور" أما إذا كان أنثى، مثل ناقة، فيقال: "مقطورة"5. ويقال: إن الجرب، هو العُرّ.
والعُرّ بثر في الإبل، ويعالج بالقطران. قال علقمة الفحل:
قد أدبر العر عنها وهي شاملها ... من ناصع القطران الصرف تدسيم6
__________
1 المعارف "ص82".
2 العقد الفريد "6/ 354"، الطبقات، لابن سعد "7/ 45".
3 تاج العروس "3/ 51"، "بطر".
4 تاج العروس "3/ 500"، "قطر".
5 شرح ديوان لبيد "ص122".
6 الفاخر "ص66".(16/49)
وكان بعضهم إذا وقع العُرّ في إبلهم، "اعترضوا بعيرًا صحيحًا من تلك الإبل، فكووا مشفره وعضده وفخذه، يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب العُرّ عن إبلهم". ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك، ويقولون: تؤمن معه العدوى قال النابغة:
وكلفني ذنب امرئ وتركته ... كذي العُرّ يكوى غيره وهو راتع1
والهناء: ضرب من القطران تطلى به الإبل، لمعالجة الجرب وغير ذلك.
ويقال للجرب عند أول ظهوره: النقب2. ويقال للبعير المهنوء بالقطران "المشوف"3.
وعالجوا أمراض الجلد التي تصاب بها الإبل بطليها بالنفط. ويقال لذلك: "الكحيل"4.
ومن الأمراض التي تصيب "الإبل" مرض "الدبرة"، يظهر في سنام الإبل؛ فلا يزال يأكل سنامه حتى يُحَبَّ، أي: يقطع، وإلا نزل على السناسن فيصيبها ويموت الحيوان. وإذا كان السنام مكشوفًا، فإن الطيور تنقره فيتأذى الحيوان ويتألم وقد يموت، ولعل ذلك هو الذي حمل الجاهليين على التشاؤم من "الأخيل" وبعض الطيور الأخرى التي كانت تحط على ظهور الإبل فتنقر سنامها. ويقال للجمل الذي يقطع سنامه: "الأجب"5.
ومن الأمراض التي كانت تصيب الإبل "السواف"، وقد عرف بأنه داء يصيب الإبل فتهلك6. و"الجارود"، وهو مرض معد، إذا فشا أهلك الإبل. وقد ظهر في "بكر بن وائل"، فأهلك إبلها وهم يعلمون أنه من
__________
1 نهاية الأرب "3/ 123"، اللسان "6/ 230 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 398 وما بعدها"، بلوغ الأرب 2/ 306".
2 البيان "1/ 107".
3 شرح ديوان لبيد "ص115".
4 تاج العروس "1/ 332"، "صبب".
5 شرح ديوان لبيد "ص1".
6 الاشتقاق "2/ 311".(16/50)
الأمراض التي تعدي، وتنتقل بالعدوى1. وذكر أهل الأخبار أن "الجارود العبدي"، وهو رجل من الصحابة من عبد القيس، إنما سمي "جارودًا" لأنه فر بإبله إلى أخواله من "بني شيبان" وبإبله داء، ففشا ذلك الداء في إبل أخواله فأهلكها، وفيه يقول الشاعر:
لقد جرّد الجارودُ بكر بن وائل
ولذلك سمي المشئوم جارودًا2
ومن أمراض الدواب مرض يقال له: "العقل"، يصيب رِجل الدابة، إذا مشت ظلعت، وأكثر ما يعتري في الشاء3. ومرض "الحلمة"، دودة تقع في جلدة الشاة الأعلى وجلدها الأسفل، وقيل: دودة تقع في الجلد فتأكله، فإذا دبغ وهي موضع الأكل وبقي رقيقًا. وقيل: القراد أول ما يكون صغيرًا قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قرادًا، ثم حلمة4.
وكانوا ينقون رحم الفرس أو الناقة من النطف، ويخرجون الولد من بطن الفرس أو الناقة ويعبر عن ذلك بلفظة "مسى"5.
ويذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة "بيطار"، هي من أصل يوناني، هو6 Ippiyatros.
ومن الذين عرفوا بين الجاهليين بمعرفتهم بالبيطرة "العاص بن وائل"، وكان يعالج الخيل والإبل7. وقد برع البياطرة بمعرفتهم خاصة بالخيل والإبل؛ لأنها أثمن أموال العرب. وعناية العرب بالخيل، هي التي حملت الإسلاميين على وضع مؤلفات خاصة فيها. ومن جملة من ألف في الخيل "أبو عبيدة".
__________
1 الاشتقاق "ص198".
2 اللسان "3/ 116"، "صادر"، "جرد".
3 اللسان "11/ 463"، تاج العروس "8/ 28"، "عقل".
4 تاج العروس "8/ 256"، "حلم".
5 تاج العروس "10/ 342"، "مسى".
6 غرائب اللغة "ص256".
7 المعارف "576"، "إخراج ثروت عكاشة".(16/51)
و"أبو زيد الأنصاري" و"الأصمعي" وآخرون1. وللأصمعي كتاب في الإبل2، ولأبي عبيدة كتاب في الإبل كذلك3. ولأبي زيد الأنصاري كتاب في هذا الموضوع أيضًا. ولأحمد بن حاتم مثله، وقد ألف غيرهم في الإبل وفي حيوانات أخرى4. وقد طبعت بعض هذه الكتب.
__________
1 الفهرست "ص85 وما بعدها".
2 الفهرست "ص88".
3 الفهرست "ص86".
4 الفهرست "ص87 وما بعدها".(16/52)
الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء
مدخل
...
الفصل الثلاثون بعد المائة: الهندسة والنوء
ولا بد أن يكون للجاهليين علم بطرق السيطرة على المياه، وبطرق استنباطها والاستفادة منها. ففي مواضع من اليمن والحجاز والعربية الجنوبية آثار سدود مثل سد مأرب، لا يمكن أن تكون قد أنشئت بغير علم ودراية وخبرة. ففيها فن في كيفية جمع المياه في خزاناتها، وفن في كيفية تصريفها وتوزيعها وقت الحاجة بقدر، وفيها أبواب تتحكم في سير الماء. كذلك كان لهم علم في حفر الآبار وإنشاء الصهاريج لجر المياه إلى الأماكن التي تحتاج إليها. وقد اشتهرت ثقيف بعلمها بطرق استنباط المياه. واشتهرت قبائل أخرى بهذا العلم أيضًا، وذكر أن بعضها كانت تتفرس وتحدس بوجود الماء من نظرها إلى لون التربة ومن شمها ومن علامات أخرى عرفوها وأدركوها بالتجربة.
ونجد اليوم بقايا سدود استخدمت لحبس "السيول" للاستفادة منها في الشرب وفي الزراعة. وتقع أكثر هذه السدود في الأودية التي تكون مسايل تسيل منها الأمطار المتساقطة في موسمي المطر في العربية الجنوبية. فتعمل الأحباس بين طرفي الوادي لتحبس الماء، فلا يندفع إلى المواضع المنخفضة فيذهب عبثًا، وبذلك يرتفع مستواه، فيسقي الزرع على جانبيه، وتعمل سواقي لتسيل منها المياه إلى الأماكن المنخفضة التي تقع تحت هذه الأحباس، وهكذا تسقى بقية المزارع. وتختلف هذه الأحباس من حيث جودة العمل والإتقان، فبعضها أحباس بدائية بسيطة،(16/53)
عملت من الأتربة، أو من الأحجار والصخور، على شكل "سكر"، يمنع الماء من المرور، وبعضها عملت بصورة فنية متقنة من الحجر الموضوع بعضه فوق بعض، مع استخدام مواد ماسكة لشد الحجر بعضه إلى بعض، وقد يطلى السد بمادة تمنع الماء من اللعب به. وتعمل به منافذ ذات أبواب، تسد وتفتح حسب الحاجة للتحكم بالماء. وتلاحظ بقايا هذه السدود اليوم في وادي مبلقه، وفي وادي بيحان، وفي وادي حريب، وفي أودية أخرى عديدة.
أما أهل المواضع المرتفعة مثل الهضاب والجبال، فقد عمدوا إلى عمل حواجز وحوائط منخفضة، لمنع المطر من الانحدار، إذ تحصره هذه الحواجز، فيسيل إلى المزارع ليسقيها، وقد تعمل له مجار ليسيل الزائد منه والذي لا يحتاج إليه إلى أسفل، فلا يغرق الزرع. وقد يوجّه إلى كهوف وآبار محفورة وكهاريس، لتمتلئ بالماء، للاستفادة منه في مواسم انحباس الأمطار.
وتوجد في المعابد فوهات تدفع مياه الأمطار حين سقوطها إلى مجاري بنيت تحت الأرض تؤدي إلى صهاريج تخزن فيها مياه الأمطار. وقد عثرت بعثة "وندل فيلبس" الأميركية على مواضع خزن الماء في معبد مأرب المعروف في الكتابات بمعبد "اوم"، "اوام" المخصص لعبادة "المقه" إله سبأ الرئيس. ونجد مثل هذه المخازن في المعابد الأخرى أيضًا. وخزن الماء على هذه الطريقة، أسلوب متبع في فلسطين وفي المواضع الأخرى ذات الأرض الصلدة الحجرية، حيث تنقر الأرض وتعمل بها كهوف كبيرة تخزن فيها المياه1.
وقد تخصص قوم وتفرسوا بمعرفة مواطن المياه واستنباطها وساعدوا في حفر الآبار وفي حفر القني وإنشائها. وفي كتب اللغة ألفاظ أطلقت على الأدلاء الخبراء أصحاب العلم بمواضع وجود الماء في باطن الأرض، مثل جوّاب الفلاة، وذلك لأنه كان لا يحفر صخرة إلا أماهها، والقناقن، هو الدليل الهادي البصير بالماء تحت الأرض في حفر القني، والعيّاف، وقد تحدثت عنها وتطلق أيضًا على الدليل الذي يعرف موضع الماء من الأرض2.
والماء في الأرضين الجافة القاحلة، نعمةكبرى وحياة لأهلها، فكانوا يفرحون
__________
1 Archaeological Discoveries in South Arabia. P. 226.
2 المخصص "12/ 35 وما بعدها".(16/54)
ويشكرون آلهتهم ويتقربون إليها بالذبائح والنذور عند عثورهم على الماء في الأرضين التي يحفرون فيها الآبار. ولهذا قدسوا الآبار وأسبغوا عليها القدسية، وتقربوا لها بالنذو والهدايا، وعدوُّا مياهها شافية نافعة مقدسة. والبئر ثروة تدر على أصحابها المال. وقد يبارك الكهان والرؤساء تلك الآبار، لتنعم على أصحابها بالماء الغزير.
وقد كان "المحققون" "محققيم"، وهم الرؤساء عند العبرانيين، يحضرون الاحتفالات، ويشكرون إله إسرائيل عند ظهور الماء في الآبار، على نحو ما يفعله العرب في مثل هذه الأحوال1.
وقد لجأ الجاهليين إلى التحايل في استصلاح الماء الأجاج أو الكدر، للاستفادة منه في الشرب، فذكر إذا كانت بهم حاجة ماسة إلى الماء، ولم يجدوا إلا ماء البحر أو الماء الأجاج الملح، وضعوه في قدر، ووضعوا فوق القدر قصبات وعليها صوف منفوش، ثم يوقد تحت القدر، حتى يرتفع البخار، فيدخل مسامات الصوف، ويمتلئ به. فإذا كثر، عصر في إناء، ولا يزال على هذا الفعل حتى تتجمع كمية من الماء العذب، وتترسب الأملاح في القدر. وذكر أيضا أنهم كانوا يحفرون في الشاطئ حفرة واسعة، ليترشح إليها ماء البحر، ثم إلى جانبها وقريب منها حفرة أخرى يترشح إليها الماء من الثانية، ثم تحفر حفرة ثالثة، وهكذا حتى يعذب الماء.
أما الماء الكدر، فقد كانوا يتخلصون من كدرته بإلقاء مواد فيها لتعلق الكدرة بها، فإذا رسبت، رسبت الكدرة معها، وبذلك يتنقى الماء. وفي جملة المواد التي استعملوها الجمر الملتهب، يلقى به في الماء، فإذا انطفأ وتحول إلى فحم، أخذ معه ما يجده من الكدرة، فيصفو بذلك الماء، واستعملوا نوعًا من الطين وسويق الحنطة2.
وقد عرفت هذه الفراسة، فراسة استنباط الماء من الأرض، بالأمارات الدالة على وجوده، على نحو ما ذكرت من شم التربة، أو برائحة بعض النباتات فيه، أو بمراقبة حركات الحيوان، ويقال لها: الريافة3.
__________
1 Ency. Bibli, Vol., I., P. 515
2 بلوغ الأرب "1/ 396".
3 بلوغ الأرب "3/ 343".(16/55)
وتوجد اليوم آبار قديمة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب عميقة جدًّا، ولا زال الناس يستقون منها الماء. وهي عادية، أي: قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام.
وكانت عليها مستوطنات تعيش على ماء هذه الآبار. ولهذا فلا غرابة إذا ما وجدنا القدماء يقدسون الآبار ويعتبرونها من مصادر الحياة بالنسبة لهم؛ لأنها تمدهم وتمد إبلهم، وكل ماشيتهم بعرق الحياة وروحها. ويدل عمقها على مقدار ما بذله الحفارون من جهد حتى توصلوا إلى تلك الأعماق بوسائلهم البدائية التي كانت متوفرة عندهم في ذلك العهد.
والآبار هي من مصادر الحضارة والتخضر في جزيرة العرب، فلولا ولولا موارد الماء الأخرى، لما ظهرت المستوطنات، ولما ظهر زرع، ولما عاش ضرع. ولهذا صارت البوادي أرضين قفرًا لا يسكنها ساكن إلا إذا استنبط ماء فيها، أو سقط غيث عليها. ولقيمة الماء في حياة جزيرة العرب نجد نصوص المسند تذكرها وتشير إلى الأرضين التي تسقى منها، وتعتبرها من مصادر النعمة والثراء.
ولأهمية الماء، كانوا يتقربون إلى آلهتهم بالقرابين وبالأدعية والتوسلات، لأن تمنحهم المطر، وتسقي أرضهم على أحسن وجه، وقد كان من واجب رجال الدين الاستسقاء، وذلك بأن يتوسلوا إلى آلهتهم بأن تمنَّ على عبيدها بالمطر، يقومون به بإجراء طقوس دينية خاصة، وربما استعانوا بالسحر في هذا الاستسقاء.
وقد كانت الشعوب الأخرى تستسقي كذلك، وتستعين بالسحر في إرضاء الآلهة لكي تنزل الغيث على المحتاجين إليه. وقد عرف الاستسقاء بمكة وعند سائر العرب، كما تحدثت عن ذلك في مواضع من هذا الكتاب. والأغلب أن الكهنة كانوا هم الذين يقومون بالاستسقاء؛ لأنه من صميم أعمالهم وواجباتهم1.
وقد سبق أن تحدثت عن شق الطرق في الهضاب وفي جبال اليمن، لإيصال القرى والمدن بعضها ببعض. وقد أبدع المهندسون في ذلك الوقت في شق الطريق في المناطق الجبلية، ويسمونها "مسبا"2، ولا تزال آثار بعض منها موجودة حتى اليوم. ووردت لفظة "مذهب" في نصوص المسند، بمعنى الممر والطريق والمعبر3.
__________
1 Rhodokanakis, Katab. Texte, II, S. 53, amm. 2, 5, r. Smith, Rellgion der Semiten, S. 59, goldziher, im Festschrift fur Th. Noldeke, s. 309.
2 راجع النص رقم4624 المنشور في الصفحة276 من كتاب: REP. EPIG, VII, II,
3 Jamme 618, 16, Mahram, p. 119.(16/56)
وقد قام المهندسون بإصلاح الطرق، ونجد لفظة "درك" Derek في العبرانية بمعنى "الطريق"1. والدرك في العربية أسفل كل شيء، ومراتب الهبوط2، ولعلها في الأصل الطريق المنحدر إلى أسفل. وأما السبيل، فالطريق. وتقابل هذه اللفظة لفظة "شبيل" في العبرانية3. و"السراط" "الصراط" الطريق الممهد المعبد، واللفظة من الألفاظ المعربة عن اللاتينية، من أصل Strata، بمعنى طريق مبلط، وطريق كبير واضح4.
__________
1 Hastings, extra volume, p. 368
2 تاج العروس "7/ 127"، "درك".
3 Hastings, extra volume, p. 368
4 غرائب اللغة "278".(16/57)
النوء والتوقيت:
ومعارفنا بالأنواء والتوقيت عند الجاهليين قليلة ضحلة. وهي مبعثرة في كتتب اللغة والأدب وفروع المعرفة الأخرى، مثل كتب الجغرافيا والأنواء. ولم يصل إلينا شيء منها في نصوص المسند. غير أن ما نجده في المؤلفات المذكورة على قلته وضآلته يدل على أن الجاهليين كانوا أصحاب عناية ودراية بالأنواء والتوقيت وأنهم كانوا على علم أو شيء من العلم بالأنواء عند غيرهم، مثل أهل العراق أو أهل بلاد الشام. ولعلهم كانوا على اتصال مباشر أو بالواسطة بعلم اليونان واللاتين بالأنواء.
وعدم وصول شيء -في كتابات المسند- من علم النجوم والأنواء وما يتعلق بعلم الفلك، لا يمكن أن يكون دليلًا بالطبع على عدم وجود علم لأهل العربية الجنوبية الجاهليين بالفلك، ولا يعقل ألا يكون لهم علم به. فقد كان العرب الجنوبيون أصحاب زراعة وتجارة، وكانوا يركبون البحر. وركوب البحر يحتاج إلى علم بالنجوم وبتقلبات الجو كما كانت ديانتهم تقوم على أساس تقديس النجوم. ولهذه الملاحظات لا بد أن يكون لأهل اليمن وغيرهم من أهل العربية الجنوبية علم بالأنواء. وقد يعثر في يوم ما على نصوص مدونة بلهجاتهم فيها شيء ما من أمر هذا العلم.(16/57)
والنوء عند الجاهليين هو النجم إذا مال للغروب، أو هو سقوط النجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه، وهو نجم آخر يقابله من ساعته في المشرق. وإنما سُمي نوءًا لأنه إذا سقط الغارب ناء الطالع، وذلك الطلوع هو النوء. وبعضهم يجعل النوء هو السقوط. وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، فتقول: مطرنا بنوء كذا1. قال الشاعر:
ينعى امرءًا لا تغب الحي جفنته ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر2
وذكر أن من طلوع كل نجم إلى طلوع رقيبه، وهو النجم الآخر الذي يليه ثلاثة عشر يومًا، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة، ما خلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يومًا، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وذلك لتكمل السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا. وذكر بعض العلماء أن العرب لا تستنبئ بالنجوم كلها، إنما يذكر في الأنواء بعضها وقال "ابن الأعرابي": "لا يكون نوء حتى يكون مطر معه، وإلا فلا نوء"3.
وقد زعموا أن لكل نوء أثر في هذا الكون وفي الإنسان. فإذا حدث شيء ووقع أمر نسبوه إلى نوئه. وفي جملة ما نسبوا أثره إلى الأنواء: حدوث المطر، فإذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى أثر النجم الطالع في ذلك الوقت. فيقولون مطرنا بنوء كذا. وقد ذهبوا إلى أن الأنواء "28" نوءًا أو نجمًا اعتقدوا أنها علة الأمطار والرياح والحر والبرد4. وقد ذكروا الأنواء الممطرة ومواسم المطر5.
ونظرًا إلى أن السنة أربعة أجزاء، لكل جزء منها سبعة أنواء، لكل نوء ثلاثة عشر يومًا، إلا نوء الجبهة فإنه أربعة عشر يومًا، فيكون مجموع أيام السنة "365" يومًا، وهو المقدار الذي تقطع الشمس فيه بروج الفلك الاثني عشر6.
ونظرا لأهمية المطر في حياة جزيرة العرب، اهتموا بمراقبة مظاهر الأنواء
__________
1 تاج العروس "1/ 472 وما بعدها"، المخصص "9/ 13 وما بعدها، العمدة "2/ 253".
2 الخزانة "1/ 93"، "بولاق".
3 تاج العروس "1/ 473" "الكويت"، العمدة "2/ 253".
4 زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية "1/ 202".
5 تاج العروس "2/ 473".
6 العمدة "2/ 253".(16/58)
وألوان السحب، وقد علمتهم تجاربهم أن السحب البيضاء، لا تكون ممطرة، وأن السحب السوداء تكون هطلة، تهطل الأمراض وتغيث الناس1.
هذا وتجد للسحب أسماء كثيرة من حيث ترتيبها وأوصافها وقربها أو بعدها عن الأرض ومن حيث لونها واحتمال وجود الغيث فيها2. وفي كثرة هذه الأسماء دلالة على شدة اهتمام العرب بالسحاب لما له من أثر في حياتهم، لا سيما بالنسبة إلى نزول الغيث. فقد كانوا يستسقون بالنوء، ويرجعون سبب سقوط المطر إليه.
ولتعارض عقيدة الجاهليين هذه مع عقيدة الإسلام في الخلق والأسباب، جاء النهي عنها في الإسلام. ورد في الحديث: "من قال: سقينا بالنجم، فقد آمن بالنجم وكفر بالله"3. وجعلت الأنواء من الأمور الثلاثة التي عرفت بالجاهلية والتي نهى عنها الإسلام: الطعن في الأنساب والنياحة والأنواء4.
وكانوا يكرهون نوء السماك، ويقولون فيه داء الإبل، قال الشاعر:
ليت السماك ونوءه لم يخلقا ... ومشى الأفيرق في البلاد سلما5
والسماك، سماكان: الأعزل والرامح وهما نجما نيران: وسمي أعزل؛ لأنه لا شيء بين يديه من الكواكب، كالأعزل الذي لا رمح معه. ويقال: لأنه إذا طلع لا يكون في أيامه ريح ولا برد، وهو أعزل منها. وهو من منازل القمر، والرامح ليس من منازله ولا نوء له، وهو إلى جهة الشمال. والأعزل من كواكب الأنواء وهو إلى جهة الجنوب. وهما في برج الميزان. ويقول الساجع: إذا طلع السماك، ذهب العكاك، فأصلح قتاك، وأجد حذاك، فإن الشتاء قد أتاك6.
وقد تخصص قوم بالنوء، ورد أن "عمر بن الخطاب" "نادى العباس: كم بقي من نوء الثريا فقال: إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا
__________
1 الميداني "7/ 109".
2 نهاية الأرب "1/ 72 وما بعدها".
3 تاج العروس "1/ 474" "الكويت".
4 الأنواء "ص13 وما بعدها".
5 نهاية الأرب "3/ 126".
6 تاج العروس "7/ 144 وما بعدها".(16/59)
بعد وقوعها. فوالله ما مضت تلك السبعُ حتى غيث الناس"1. وكانوا إذا أرادوا الوقوف على ظواهر الجو لجأوا إلى العالمين بالأنواء، وكانوا إذا أرادوا التعبير عن خبير بها، قالوا مثلًا: "ما بالبادية أنوأ منه، أي: أعلم بالأنواء منه"2. وذكر أهل الأخبار أن "الحارث بن زياد بن ربيع"، لم يكن في الأرض عربي أبصر منه بنجم3.
واعتقاد راسخ مثل هذا في الكواكب والنجوم، لا بد أن يحمل الجاهليين على تتبع ما ورد عند الأمم الأخرى من علم الأنواء، للاستفادة منه في حياتهم العملية، وقد عاش بينهم عدد كبير من اليهود، ولهؤلاء علم أيضًا بالأنواء، ولهم اهتمام بهذا العلم، لما له من علاقة بشئونهم الدينية. ثم كان بينهم نصارى وقفوا على هذا العلم أيضًا، وكان هؤلاء قد هضموا علم الشرقيين به وطعّموا علمهم وعلم الشرقيين بما ورد في كتب اليونان واللاتين من علم به.
وقد اتخذ الجاهليون النجوم دليلًا لهم يهتدون بها في ظلمات البر والبحر. وقد أشير إلى ذلك في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 4. ولا بد للاهتداء بها من الوقوف عليها، ووضع أسماء لها، وتعيين البارز منها، ووضع معالم لها، ليكون في الإمكان معرفتها ومعرفة الاتجاه المؤدي إلى المكان المراد. فكانوا إذا سألهم سائل عن طريق قالوا: "عليك بنجم كذا وكذا"، أو "خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها ... "5 إلى آخر ذلك من إشارات تفيد استدلالهم بالنجوم والكواكب وبالمطالع لمعرفة الطرق.
وفي الشعر الجاهلي أبيات تشير إلى اهتداء الناس في سيرهم بالنجوم فورد في شعر لسلامة بن جندل في المسير ليلًا:
ونحن نعشو لكم تحت المصابيح
__________
1 تاج العروس "1/ 474".
2 تاج العروس "1/ 474".
3 الاشتقاق "239".
4 الأنعام، سورة رقم97.
5 البيروني، الآثار الباقية "238"، تاريخ التمدن الإسلامي "3/ 15".(16/60)
ويقصد بالمصابيح الكواكب1
وقد سار أهل الجاهلية مثل غيرهم من الأمم القديمة على فكرة تقسيم السماء إلى "بروج". وقد أشير إلى البروج في القرآن في سورة الحجر: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} 2 وفي سورة البروج {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} 3. وقد قسم اليونان واللاتين السماء إلى "بروج". وعرف كل برج عندهم بلفظة: "بركس"، Burgus. ومن هذا الأصل أخذت لفظة "البرج" و"البروج".
أخذت إما من اللاتينية أو اليونانية مباشرة، وإما من السريانية بالواسطة4، وذلك قبل الإسلام بأمد، فتعربت وصارت من الألفاظ العربية الأعجمية الأصل، مثل ألفاظ أخرى دخلت العربية من أصل يوناني ولاتيني قبل الإسلام بسنين.
وللكواكب أفلاك تدور فيها، وقد أشير إليها في القرآن، فورد: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5. وهي عندهم مدارات دائرية على هيئة حجر الرحى، تدور الشمس والقمر والكواكب بها، كل في فلك مقدر له6.
ويرى "نالينو"، أن ما ورد في القرآن الكريم عن "البروج"، وكذلك ما ورد في الخطبة المنسوبة إلى قس بن ساعدة الإيادي من قوله: "وسماء ذات أبراج" لا يعني بالضرورة وقوف الجاهليين على البروج الاثني عشر، وأخذهم بهذه النظرية الفلكية، وذلك لأمور ذكرها، وحجج أوردها. وفي جملتها أن أسماء كل البروج، ما عدا الجوزاء مترجمة من أسمائها اليونانية والسريانية. ثم إن هذه البروج لم تكن ذات فائدة عملية للجاهليين، ولهذا لا يحتمل اهتمامهم بها، وأخذهم بها، ولا سيما أن معارفهم الفلكية لم تكن واسعة عميقة. ولهذا ذهب إلى أن ما ورد في القرآن عن البروج، لا يراد به الصورة المعروفة الموجودة عند
__________
1 الأنواء "ص186".
2 السورة رقم16.
3 سورة البروج.
4 كتاب صور الكواكب الثمانية والأربعين، تأليف عبد الرحمن بن عمر الرازي الصوفي، المطبعة العثمانية 1954م، كتاب الأنواء "ص ط"، المخصص "9/ 12"
Ency, I, p. 796, Frankel, Die Aramaische Fremdworter in Arabisch, S. 235.
5 الأنبياء، الآية 33، تفسير الطبري "17/ 16 وما بعدها".
6 تفسير الطبري "17/ 16 وما بعدها"، الجمان في تشبيهات القرآن "202".(16/61)
اليونانيين والتي وقف عليها العرب في عصور الترجمة، وإنما هي مجرد نجوم.
وقد استشهد ببعض مقطفات من كتب التفسير، في تفسير لفظة "البروج"1.
وقد ذكر "الطبري" أن "البروج" الواردة في "سورة البروج"2 الكواكب، والنجوم، والأصوب: منازل الشمس والقمر، "وذلك أن البروج جمع برج، وهي منازل تتخذ عالية عن الأرض مرتفعة، ومن ذلك قول الله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} . وهي منازل مرتفعة عالية في السماء. وهي اثنا عشر برجًا، فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث، فذلك ثمانية وعشرون منزلًا، ثم يستسر ليلتين. ومسير الشمس في كل برج منها شهر"3.
ونسب إلى أمية بن أبي الصلت علم بالبروج والكواكب، وقد ورد في الأخبار: أن الرسول أنشد قوله:
زُحَلٌ وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث يرصد4
وفي هذا البيت، إن صح قول الرواة، أن الرسول أنشده دلالة على وقوفه على شيء من هذا بالفلك.
ويذكر العرب أن القمر يأخذ كل ليلة في منزل من المنازل حتى يصير هلالًا، وقد أشير إلى المنازل في القرآن: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 5. والمنازل ثمانية وعشرون منزلًا في كل شهر ينزلها القمر6. وكل من الشمس والقمر يجريان في فلكهما، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 7 والعرب تزعم أن الأنواء المنازل، وتسميها نجوم الأخذ، لأن القمر يأخذ كل ليلة في منزل منها حتى يصير هلالًا، وهي منسوبة إلى البروج الاثني عشر. وفي كل برج من
__________
1 نالينو "ص108 وما بعدها".
2 البروج، الرقم 85.
3 تفسير الطبري "30/ 81"، تفسير النيسابوري "30/ 59"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير ابن كثير "4/ 491".
4 الإصابة "1/ 129".
5 سورة يسن الآية39.
6 الجمان في تشبيهات القرآن "201".
7 تفسير الطبري "23/ 5 وما بعدها".(16/62)
البروج منزلان وثلث من منازل القمر، وهي نطاق الفلك، والفلك مدار لها. وإنما سُمي فلكًا لاستدارته1.
وأول ما يعد العرب من "المنازل" "الشَرطان"، وهما كوكبان يقال هما قرنا الحمل، ويسميّان النطح والناطح، وبينهما في رأي العين قاب قوس، وأحدهما في جهة الشمال والآخر في جهة الجنوب وإلى جانب الشمال كوكب صغير يعد معهما أحيانًا فيقال: الأشراط، وقد يعرف بـ"الأشرط". و"الشرطان" نجمان من الحمل، وهما قرناه، وإلى جانب الشمالي منها كوكب صغير2. ومن العرب من يسمي هذه النجوم الثلاثة الأشراط. وقيل: هما أول نجم الربيع، ومن ذلك صار أوائل كل أمر يقع أشراطه3، والربيع أول الأزمنة للعرب، فيه الخير والبركة لهم. وإذا نزلت الشمس بهذا المنزل فقد حلت برأس الحمل، وهو أول نجوم فصل الربيع، وعند ذلك يعتدل الزمان، ويستوي الليل والنهار فإذا استوى الزمان، يليه نهاية الربيع، وعودةالعرب إلى الأوطان. "يقول ساجع العرب: إذا طلع الشرطان استوى الزمان وحضرت الأوطان، وتهادت الجيران. أي: رجع الناس إلى أوطانهم من البوادي بعد ما كانوا متفرقين في النجع"4.
ثم "البطين"، وهو ثلاثة كواكب خفية، ويقال: هي بطن الحمل، ثم "الثريا"، وهي أشهر منازل القمر، ويسمونها: النجم. وقد أكثر الشعراء من التشبيه بها5. ولهم في فعلها أسجاع منها: "إذا طلع النجم، فالحر في حدم، والعشب في حطم، والعانة في كدم"، و"إذا طلع النجم عشاء، ابتغى الراعي كساء"، و"إذا طلع النجم غدية ابتغى الراعي شكية"6.
وعرفت "الثريا" بـ"كيمه" Kimah عند العبرانيين وعند السريان، وعرفت
__________
1 الجمان في تشبيهات القرآن "201".
2 الجمان في تشبيهات القرآن "202".
3 تاج العروس "5/ 166 وما بعدها"، "شرط".
4 الجمان "202 وما بعدها".
5 المصدر نفسه "203 وما بعدها".
6 الجمان "206 وما بعدها".(16/63)
بـ"النجم" كذلك1. وقد ذكرت بـ"النجم" وبـ"النجم الثاقب" في القرآن الكريم. وقد ذكرت الثريا في شعر امرئ القيس2، وفي شعر "قيس بن الأسلت"، و"قيس بن الخطيم"، و"أحيحة بن الجلاح"3، كما ذكرت في شعر شعراء آخرين من جاهليين وإسلاميين.
ويرى العرب أن لها أثرًا في الصحة وفي وقوع الأوبئة. وأوبأ أوقات السنة عندهم ما بين مغيبها إلى طلوعها. "قال طبيب العرب: اضمنوا ما بين مغيب الثريا إلى طلوعها، وأضمن لكم سائر السنة. ويقال: ما طلعت ولا نأت إلا بعاهة في الناس والإبل وغروبها أعوه من شروقها". وفي الحديث: "إذا طلع النجم لم يبق في الأرض من العاهة شيء إلا رفع. فإنه يريد بذلك عامة الثمار، لأنها تطلع بالحجاز وقد أزهى البسر، وأمنت عليه الآفة وحل بيع النخل"4.
ثم الدبران، وهو كوكب أحمر منير يتلو الثريا ويسمى تابع الثريا، ثم الهقعة، وهي ثلاث كواكب صغار، يقال: إنها رأس الجوزاء، ثم الهنعة، وهي كوكبان أبيضان، ومنها الشعرى العبور، التي ذكرت في القرآن: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 5، وكان من العرب من يتعبد لها، وأول من عبدها "أبو كبشة"، الذي كان المشركون ينسبون الرسول إليه. والغميصاء، والنثرة6، ثم الطرف، ثم الجبهة، ثم الزبرة، ثم الصرفة، ثم العواء، ثم السماك الأعزل، ثم الغفر، ثم الزباني، ثم الإكليل، ثم القلب، ثم الشولة، ثم العولة، ثم النعائم، ثم البلدة، ثم سعد الذابح، ثم سعد بُلَع، ثم المرع، ثم سعد السعود، ثم سعد الأخبية، ثم الحواء، ثم الفرغ المقدم، ثم الفرغ المؤخر، ثم بطن الحوت7.
وقد جعلوا لكل منزل من المنازل المذكورة أثرًا في حياة الناس، يتمثل في أسجاعهم المروية في كتب الأدب وفي كتب الأنواء. أخذوها من الظروف والأحوال
__________
1 Hastings, Dict., Vol., I, P. 192
2
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
الجمان في تشبيهات القرآن "204".
3 الجمان في تشبيهات القرآن "204".
4 الجمان "207".
5 النجم، الآية: 49.
6 الجمان "211 وما بعدها".
7 الجمان "211 وما بعدها".(16/64)
والتجارب العملية التي كانت تقع لهم عند طلوع الكواكب المذكورة. فنسبوا الفعل إليها، من جفاف ورطوبة وحر وبرد، وهطول مطر أو انحباسه ومن حصول أوبئة إلى غير ذلك من أثر.
ويظهر من دراسة ما ورد عن أنواء أرباع السنة وعن عدة المنال وصفاتها ومن الأسماء التي أطلقت عليها على أن الجاهليين كانوا على علم بها وبالبروج1.
فالمصطلحات المستعملة في هذه الأنواء وكذلك الأسماء هي مصطلحات أخذها المسلمون من لغة أهل الجاهلية، وأخذهم لها عنهم، كلًّا أو بعضًا، هو دليل على وجود علم للجاهليين بالأنواء والفلك. ولا يستبعد ذلك عنهم؛ لأن الجاهليين كانوا في حاجة شديدة إلى معرفة الأنواء وعلم الفلك، وقد كان لأهل العراق ولأهل بلاد الشأم علم بهما، يعود بعضه إلى البابليين ويعود بعض آخر إلى اليونان، وقد كان السريان يدرسون الفلك، والعرب على اتصال بهم، ولا سيما عرب النصارى مثل أهل الحيرة، حيث درسوا علوم تلك الأيام، ولما كانت معارف الأنواء والفلك ضرورة لهم، فلا يستبعد أخذ الجاهليين معرفتهم بهما من المكانين.
والأجرام السماوية هي كواكب ونجوم، وقد أشير إليها في القرآن الكريم.
و"الكوكب" من التسميات التي ترد في اللهجات السامية الأخرى فهي "كوكب" "كوكاب" في العبرانية، و"كوكبا" في السريانية، و"كوكب" في الحبشية، و"ككبو" Kakkabu في الأشورية2. ويراد بالكوكب النجوم المتحركة التي تتغير مواضعها. أما الأجرام التي تبدو ثابتة لا تترك محلاتها، فهي النجوم.
وقد اشتهرت مجموعة من النجوم باسم "بنات نعش" عند العرب ولا تزال هذه التسمية دائرة على ألسنة الناس يطلقونها على المجمة نفسا المعروفة بهذه التسمية عند الجاهليين، وللأخباريين قصص أوردوه عن هذه التسمية يرجع إلى ما قبل الإسلام. وتعرف بنات نعش بـ"عيش" "عاش" و"عيش" عند العبرانيين3.
وعرفت مجموعة أخرى من النجوم باسم "جبار". وتسمى "جبارا" Gabbara
__________
1 العمدة "252" "باب ذكر منازل القمر".
2 Hastings, Dict., vol., I, P. 191
3 Hastings, Dict., Vol., I, p. 191(16/65)
في السريانية وبـ"نفله" Nipgla في الكلدانية، و"فسيل" في العبرانية.
ويظهر أنها من الأبراج السماوية القديمة المعروفة عند الساميين1.
وعرفت "زُحَل" و"سهيل" عند الجاهليين كذلك. وكذلك "عثتار" معبودة العرب الجنوبيين. و"العقرب" أحد البروج.
وقد وردت في سفر "أيوب"2 جملة "حدرى تيمان"، ومعناها "الخادر الجنوب" أو "مخادع الجنوب"3، مما يدل على أن المراد بها نجوم تقع في الجنوب، أي: في جنوب فلسطين. وقد ورد في العربية "وسهيل يمان"، أي: جنوبية، وذلك بالنسبة إلى أهل الحجاز.
و"الزهرة"، هي من الكواكب الظاهرة البارزة التي تعرف بسهولة. وهي "هيلل" عند العبرانيين.
وهناك كوكب اسمه Kaawanu عند الأشوريين. ويراد به "كيون" Kiyyun عند العبرانيين. ويقابل "كيوان" في العربية. وهو معروف عند المنجمين.
ومن المعربات4. والساطرون، من الكواكب المعبودة عند بعض الشعوب السامية5.
أما الشمس، فهي أعرف الأجرام السماوية، وبها استدل على الوقت على الساعات والأيام والسنين والمواسم. وفي القرآن الكريم آيات توضح لنا رأي الجاهليين في الشمس.
وأما القمر، فمن آلهة العرب الجنوبيين البارزة. ويعرف عندهم بـ"هلل" أي: "هلال". والقمر من التسميات العربية الشمالية. وأما الهلال، فإنه القمر في أيامه الأولى عند أهل الحجاز. وللقمر أسماء نطقت بها العرب. فمنها: الطوس والباهر والغاسق والزبرقان والواضح والزمهرير والسنمار والساهور6. والساهور هو: القمر في الآرامية، من Sahro7.
__________
1 Hastings, Dict, vol. I, p. 192.
2 أيوب، الإصحاح التاسع، الآية التاسعة:
3 Hastings, Dict, vol. I, p. 192.
4 Hastings, Dict, vol. I, p. 193.
5 Hastings, Dict, vol. I, p. 193.
6 نهاية الأرب "1/ 51 وما بعدها".
7 غرائب اللغة "189".(16/66)
وقد اشتهر بعض الجاهليين بعلمهم بمواقع النجوم، منهم: "بنو مُرّة بن همام الشيباني" و"بنو مارية بن كلب"1.
__________
1 البيروني "241"، زيدان: آداب اللغة "1/ 206".(16/67)
الكسوف والخسوف:
والكسوف والخسوف من الظواهر المعروفة عند الجاهليين. وقد عد وقوعهما من الأمارات التي تشير إلى وقوع حوادث جسيمة في العالم. شأنهم في ذلك شأن شعوب العالم الأخرى في ذلك العهد.
فقد كان بعض الجاهليين يرى أن كسوف الشمس آية دالة على موت رجل عظيم. فقد ورد أن الشمس كسفت في عهد رسول الله، ووافق ذلك موت إبراهيم بن رسول الله، فقال الناس: إنما كسفت الشمس لأجله. فقال النبي: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوّف بهما عباده، وأنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته"1. وقد حدث ذلك في المدينة. وورد في الأخبار أن الأنصار كانوا يقولون في النجم الذي يرمى به: مات ملك، ولد مولود2.
وكانوا يتصورون أن الكهان كانوا يستعينون على معرفة المغيبات والخفايا بواسطة شياطينهم الذين كانوا يصعدون إلى السماء فيأخذون أخبارهم. وأن الرعد صوت الموكل بالسحاب يزجر السحب من أن تخالف أمره، حيث يسوقها من بلد إلى بلد كما يسوق الراعي إبله3.
ويظهر من الموارد الإسلامية أن الجاهليين كانوا يثبتون الوقت بموقع ظل الشمس.
ويستعين أهل البادية بالظل، ظل إنسان أو عصا أو ظل خيمة، ويدركون من هذا الظل مقدار الوقت بصورة تقريبية. وعلى هذا المبدأ قدر الفقهاء أوقات الصلاة ولا يستبعد استعانة أهل القرى والمدن بمزاول ثابتة في تقدير الوقت.
وذلك بأن تخطط درجات على جدار ثابت أو على أرض، أو تعمل فتحات في
__________
1 نهاية الأرب "1/ 48".
2 نهاية الأرب "1/ 87".
3 نهاية الأرب "1/ 88 وما بعدها".(16/67)
جدار، ويعين الوقت برؤية ظل قضيب أو عمود مثبت على الدرجة المرسومة أو الفتحة، ويستدل من الظل على منزلة الساعة من النهار.
وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب يلجأون إلى المتفرسين في دراسة الأجرام السماوية لمعرفة الأمور الخافية عليهم من حاضر ومستقبل، وذلك بالاستدال عليها من ظواهر الكواكب والنجو. والكهان، هم المتخصصون بهذه المعرفة عند الجاهليين، فكانوا يتنبئون لهم بما سيقع من أمور وأحداث بالاستدلال بحركات تلك الأجرام، وبما تجمع عندهم من فراسات وتجارب ورثوها في هذا الشأن.
وقد كان الجاهليون يبالغون في ذلك كثيرًا ويؤمنون بالتنجيم وبتأثير الطالع في حياة الإنسان، ولهذا ذم الإسلام المنجمين وكذبهم ومنع المسلمين من التصديق بهم.
وكان لأهل الجاهلية رأي في تساقط الشهب والنيازك، ويرون أن لتساقط النجوم أثر في الإنسان وفي العالم. ذكر أنهم كانوا يرون أنه إذا انقض شيء من البروج الاثني عشر، فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقض منها شيء، بل رأوا انقضاض النجوم وسقوطها، فإن ذلك يدل على حدوث أمر عظيم في الدنيا1.
__________
1 تفسير القرطبي، الجامع "17/ 82 وما بعدها"، "سورة النجم".(16/68)
التوقيت:
وقد اهتم الجاهليون بأمر التوقيت، أي: تعيين الأوقات وضبط الأزمنة، لعوامل ضرورية عديدة. فالزراعة خاضعة لتقلبات الجو وتبدل المواسم، والأعياد وكثير من الشعائر الدينية وأمور العبادة لها علاقة بالتوقيت كذلك، كما أن للتجارة وللسير في البر والبحر صلة كبيرة بمعرفة الأنواء. ولهذا عنوا بتتبع سير الكواكب ودراسة ملامح السماء وظواهر الطبيعية التي لها علاقة بالرياح والأمطار وبأمثال ذلك للاستفادة منها في الحياة العملية.
ويحدثنا الجاحظ في كتاب الحيوان عن حاجة الأعرابي إلى معرفة حال السماء وتقلبات الجو، فيقول: "عرفوا الآثار في الأرض والرمل، وعرفوا الأنواء ونجوم الاهتداء، لأن كل من كان بالصحاصح الأماليس، حيث لا أمارة ولا هاوي مع حاجته إلى بعد الشقة، مضطر إلى التماس ما ينجيه ويؤيده. ولحاجته(16/68)
إلى الغيث، وفراره من الجدب وضنه بالحياة، اضطرته الحاجة إلى تعرف شأن الغيث، ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من الكواكب، ويرى التعاقب بينها والنجوم الثوابت فيها، وما يسير منها مجتمعًا وما يسير منها فاردًا، وما يكون منها راجعًا ومستقيمًا"1. وفي هذا وفي غيره تفسير لسبب اهتمام الجاهليين بالتوقيت ودراسة الأنواء2.
وقد اعتبر القدماء أمر التوقيت من واجبات رجال الدين، فكان رجال المعابد والكهان هم الذين يقومون بضبط الوقت وتثبيت الأعياد وأوقات العبادة. ظلوا على ذلك أمدًا طويلًا، ولا تزال آثار ذلك باقية حتى اليوم. وكان هؤلاء الرجال قد احتكروا المعرفة والعلم لاعتقاد الناس أنهم أقرب البشر إلى الآلهة، وأن ما يتكلمون به إنما هو وحي منها، يوحى إلى هؤلاء، فعلمهم إذن نابع من مصدر صادق لا يتطرق إليه الشك.
وإذا كانت كتابات المسند لم تتحدث عن الموقتين ضباط الزمن في العربية الجنوبية، فإننا لا نعتقد بشذوذ العرب الجنوبيين عن غيرهم في هذا الباب، خاصة وأننا نرى أن الكهان وسدنة الكعبة ومن لهم صلة بالأصنام، كانوا هم الذين يقومون في الحجاز بضبط المواقيت والنسيء. فليس بمستبعد أن يختص رجال الدين في العربية الجنوبية بالتوقيت.
__________
1 مقدمة كتاب الأنواء في مواسم العرب، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، سنة 1956م "ص1 وما بعدها"، وسيكون رمزه: الأنواء.
2 العمدة، لابن رشيق "2/ 252" القاهرة 1964م".(16/69)
الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة: الوقت والزمان
مدخل
...
الفصل الحادي والثلاثون بعد المائة: الوقت والزمان
يقول علماء العربية: الوقت مقدار من الزمان، وكل شيء قدرت له حينًا، فهو موقت. والوقت تحديد الأوقات كالتوقيت1. واختلفوا في الزمان، فقالوا: الزمان الدهر، وعارضه آخرون. إذ قالوا: يكون الزمان شهرين إلى ستة أشهر والدهر لا ينقطع. والزمان يقع على الفصل من فصول السنة وعلى مدة ولاية الرجل وما أشبهه2، ويظهر أن بين العلماء خلافًا في تحديد المراد من اللفظتين ثم في تحديد معنى كل لفظة منهما، وفي معنى "الدهر"، وذلك بسبب مسألة القدم والحدوث، وما للتفاسير من صلة بهما، وأثر ذلك في مسائل ذات صلة بعلم الكلام.
وروي عن الرسول قوله: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر"، وفي رواية أخرى: "فإن الله هو الدهر"، وورد في الحديث عن "أبي هريرة"، "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وإنما أنا الدهر. أقلب الليل والنهار"3. فالدهر الزمان الطويل، أو الدائم. وقد عبر عنه في الإسلام بالأبدية، التي هي الله.
ويقاس الوقت بالسنين. والسنة أطول وحدة قياسية له. وتنقسم إلى أجزاء.
__________
1 تاج العروس "1/ 594"، "وقت".
2 تاج العروس "9/ 227"، "زمن".
3 تاج العروس "3/ 218"، "دهر".(16/70)
ولفظة "سنة" من الألفاظ العربية القديمة، وترد في جميع لهجات الجاهليين، وهي من الألفاظ السامية التي ترد في كل لغاتها، مما يدل على أنها من الكلمات السامية القديمة. ويعبر عن كثرة السنين بمصطلحات، مثل: "عصر"، وهو كل مدة ممتدة غير محدودة تحتوي على أمم تنقرض بانقراضهم، وفي القرآن الكريم: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 1. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن "العصر" الدهر2. وتقابل لفظة "العصر" لفظة "دور" Dor في العبرانية. ومنها جملة "دور وآدهور" Dor Wadhor، بمعنى الدهر والدهور، أي: الزمان الدائم. وذلك بالنسبة لله3. لأن الزمن لا شيء بالنسبة له. "لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر وكهزيع من الليل"4، و"أن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد"5. وقد أيد القرآن الكريم هذا المعنى، فذكر أن الوقت لا شيء بالنسبة إلى أبديته: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 6.
ولفظة سنة لفظة عربية شمالية، ترد في عربية القرآن الكريم، كما ترد في النصوص العربية الشمالية، مثل نص النمارة الذي يعود عهده إلى سنة "328" للميلاد، ونص "حران" الذي يعود تاريخه إلى سنة "568" للميلاد، أي: إلى عهد لا يبعد كثيرًا عن أيام مولد الرسول. وقد كتبت لفظة "سنة" على هذه الصورة "سنت"، أي: بالتاء المبسوطة. وقد وردت هذه اللفظة في الكتابات الصفوية وفي اللهجات العربية الشمالية الأخرى أيضًا7.
ولدينا لفظة أخرى مرادفة للسنة هي العام، فيقال: لعامنا هذا، أي: لسنتنا.
__________
1 سورة: العصر، تاج العروس "3/ 404"، "عصر".
2 تفسير الطبري "30/ 187".
3 "من دور إلى دور"، Hastings, p. 288 المزمور العاشر، الآية6، "وخلاصي إلى دور الأدور"، أشعياء، الإصحاح51، الآية8، المزمور التسعون، الآية1.
4 المزمور التسعون، الآية4.
5 رسالة القديس بطرس الثانية، الإصحاح الثالث، الآية6.
6 سورة الحج، الرقم22، الآية47.
7 "سنت حرب نبط"، "سنة حرب النبط" "سنة محاربة النبط"، تاريخ اللغات السامية "ص180".(16/71)
وذكر علماء اللغة أن العام أخص مطلقًا من السنة، فتقول: كل عام سنة، وليس كل سنة عامًا. وذكر بعض العلماء أن العام كالسنة، لكن كثيرًا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الجدب والشدة، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام فيما فيه الرخاء والخصب. وقال بعض آخر: السنة أطول من العام، وهي دورة من دورات الشمس، والعام يطلق على الشهور العربية بخلاف السنة. وذكر بعضهم أن العام لا يكون إلا شتاءً وصيفًا، وإنك إذا عددت اليوم إلى مثله فهو سنة1.
وقد وردت لفظة "عوم" في نص واحد من نصوص المسند، بمعنى سنة، أي: في معنى "عام" في لساننا2. ولكن الغالب أن يعبر عن السنة بلفظة "خرف"، أي: "الخريف"، ويظهر أنهم أطلقوا على السنة "الخريف"، لأن الخريف هو من أبرز المواسم في العربية الجنوبية وله أهمية خاصة بالنسبة لهم، ولذلك غلبوا التسمية على كل العام.
و"الحول" السنة اعتبارًا بانقلاب الشمس ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها.
وقد وردت في القرآن الكريم. ويظهر أنها من الألفاظ الجاهلية القديمة. والحولي: ما أتى عليه حول من ذي حافر وغيره، ويقال: جمل حولي ونبات حولي3.
وذكر علماء اللغة أن "الخريف" السنة والعام، أي: بالمعنى المفهوم من اللفظة في كتابات المسند. وذهب بعض العلماء إلى أن الخريف هو الفصل المعروف.
وأما ورود اللفظ بمعنى السنة والعام في أحاديث الرسول، فلأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، ولذلك قصد باللفظة المسافة تقطع من الخريف إلى الخريف، وهو السنة4.
ويستعمل العرب الجنوبيون لفظة "خرف" "خريف" في مكان سنة في لغتهم. وترد في النصوص المؤرخة، حيث تفيد توريخ حادث ما، وتثبيته بذكر السنة التي وقع بها من سني الملك أو الرئيس الذي أرخ الحادث به. فيكتب:
__________
1 تاج العروس "8/ 412".
2 Le Museon, 66, p. 119, Beeston, p. 20, 44, CIH. 575, 8, Rep, Epig. 2958 A.
3 تاج العروس "7/ 293".
4 تاج العروس "6/ 83".(16/72)
"بـ خرف" "بخرف"، أي: "بسنة"، ثم يذكر بعدها اسم المؤرخ به. كما ترد بمعنى الخريف، الفصل المعلوم من السنة.
وتؤدي لفظة "كبر" معنى سنة في بعض الأحيان، وقد رأينا أن اللفظة تعني "كبير"، وهي كناية عن وظيفة كبيرة في الحكومة، والظاهر أن الناس قد تجووزوا في الاصطلاح، فأطلقوه بمعنى السنة، لأنهم كانوا يؤرخون بسني حكم الكبراء، فصاروا يطلقونها على السنة أيضًا، ويفهم معناها عندئذ من الجملة.
كما في جملة: "عد ورخ وكبر نجو ذت هقنيتن"1، ومعناها: "إلى شهر وسنة إعلان ذلك التمليك"2.
وتؤدي لفظة "الحقبة" معنى السنة عند بعض علماء اللغة، وتجمع على حقب، وذكر أن الحقب ثمانون سنة، وقيل: أكثر، والجمع أحقاب، وتؤدي لفظة "الحجة" معنى السنة كذلك3.
وتتألف السنة عند العرب وسائر العجم من اثني عشر شهرًا4، وأيام السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا، تنقص عن السرياني أحد عشر يومًا وربع يوم، لأن أيام السنة عند السريان ثلاثمائة وخمسة وستون يومًا وربع يوم. وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرًا وتسميه النسيء وهو التأخير5.
__________
1 M. Tawfik, Les Monuments de Main, Plate, 32, fig. 65. Cairo 1951.
2 Beston, p. 20
3 المخصص "9/ 66 وما بعدها".
4 مروج الذهب "2/ 177".
5 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها".(16/73)
الفصول الأربعة:
وتقسم السنة إلى فصول أربعة بحيث يتكون كل فصل من هذه الفصول من ثلاثة أشهر، تكون ربع السنة. وهذه الفصول هي: الشتاء، والربيع، والصيف، والخريف. ويقال للصيف القيظ أيضًا6. ويظهر من هذه التسميات ومن هذا النوع من التقسيم أنه تقسيم بني على أساس التقويم الشمسي، لا التقويم
__________
1 M. Tawfik, Les Monuments de Main, Plate, 32, fig. 65. Cairo 1951.
2 Beston, p. 20
3 المخصص "9/ 66 وما بعدها".
4 مروج الذهب "2/ 177".
5 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها".
6 Reste, S. 95(16/73)
القمري، وهو تقسيم بقي مستعملًا في الإسلام، مع أن التقويم الرسمي الإسلامي هو تقويم قمري، لأنه تقسيم طبيعي مبني على طبيعة التغير الذي يطرأ على شهور السنة. ولو بني تقسيم الفصول على الشهور القمرية، لما كان في الإمكان السير عليه بالقياس إلى الحياة العملية المبنية على الزرع والتجارة والتنقل في المراعي، وكل هذه لها علاقة بتبدل طبيعة الشهور.
والتقسيم المذكور قائم على أساس ملاحظات الإنسان للطبيعة ودراسته لها، وعلاقة البرد والحر بحياته وبزرعه وحيوانه. فقسم السنة إلى موسمين: موسم زرع يبذر فيه ويزرع، وموسم حصاد يحصد فيه زرعه ويجني ثمره. وهو موسم يبدأ فيه الزرع بالأفول وبالذبول، حتى إذا ما جاء البرد، تساقط فيه الورق، وتعرت الأشجار من الخضرة ويقابل هذا البرد الحر، وهو موسم واضح ظاهر في جزيرة العرب حياته فيها أطول من بقية الفصول. فأدرك الإنسان من تأثير الطبيعة عليه وجود أربعة فصول. وقد عبرت التوراة عن هذه الفصول بقولها: "مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل"1
ولكن الواضح من الفصول في بلاد العرب: الصيف. ويستأثر بالنصيب الأكبر من السنة، لامتداد حره، ثم الشتاء ولذلك نجد الناس يقسمون السنة إلى نصفين: صيف وشتاء.
ونجد هذه الفكرة عند العبرانيين كذلك، فالصيف والشتاء هما الفصلان الواضحان البارزان عندهما. ويسمى الصيف بـ"قيز" "قيض" عندهم، أي: بالتسمية الواردة عند العرب، أما الشتاء، فهو "خرف" في العبرانية2.
وبعض العرب يقسم السنة نصفين: شتاء وصيفًا، ويقسم الشتاء نصفين، فيكون الشتاء أوله، والربيع آخره. ويقسم الصيف نصفين، فيجعل الصيف أوله، والقيظ آخره3.
وذكر أهل الأخبار وعلماء اللغة أن العرب تبتدئ بفصل الخريف وتسميه
__________
1 التكوين، الإصحاح الأول، الآية14،الإصحاح الثامن، الآية22، قاموس الكتاب المقدس"2/ 478".
2 W. Smith, A Dictionary of the Bible, I, P. 315
3 الأنواء "ص104"، بلوغ الأرب "3/ 244".(16/74)
الربيع، لأن أول الربيع، وهو المطر، يكون فيه، ثم يكون بعده فصل الشتاء ثم يكون بعد الشتاء فصل الصيف، وهو الذي يسميه الناس الربيع، وقد يسميه بعضهم الربيع الثاني، ثم يكون بعد فصل الصيف فصل القيظ، وهو الذي يسميه الناس الصيف1. وذكر "اليعقوبي" أن العرب اختلفت "في أسماء الأزمنة الأربعة: فزعمت طائفة منها أن أولها الوسمي، وهو الخريف، ثم الشتاء، ثم الصيف، ثم القيظ، ومنهم من يعد الأول من فصول السنة الربيع، وهو الأشهر والأعم، والعرب تقول: خرفنا في بلد كذا، وشتونا في بلد كذا، وتربعنا في بلد كذا، وصفنا في بلد كذا"2.
وأول وقت الربيع عندهم، وهو الخريف، ثلاثة أيام تخلو من أيلول. وأول الشتاء عندهم ثلاثة أيام تخلو من كانون الأول. وأول الصيف عندهم، وهو الربيع الثاني، خمسة أيام تخلو من آذار. وأول وقت القيظ عندهم أربعة أيام تخلو من حزيران. والخريف عندهم المطر الذي يأتي في آخر القيظ، ولا يكادون يجعلونه اسمًا للزمان3.
وهناك أسماء أخرى لهذه الفصول، فـ"الصفرية" هو الجزء الأول من السنة وسمي مطره الوسمي، والشتاء هو الجزء الثاني منها. أما الصيف فهو الجزء الثالث.
وأما الجزء الرابع، فهو القيظ، وسموا مطره الخريف، وقد حددوا مبدأ كل فصل ومنتهاه بالفصول.
وهناك كما يتبين من روايات علماء اللغة اختلاف في تشخيص الربيع، منهم من يذهب إلى أنه الفصل الذي يتبع فيه الشتاء، ويأتي فيه الورد والنَّور، "ومنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف وفصل الشتاء بعده. ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامة الربيع، ثم فصل القيظ بعده وهو الذي تدعوه العامة الصيف. ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأول، ويسمى الفصل الذي يتلو الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنور الربيع الثاني. وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع"4.
__________
1 الأنواء "ص104 وما بعدها"، المخصص "9/ 79 وما بعدها".
2 مروج "2/ 192".
3 الأنواء "ص104 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "3/ 243 وما بعدها"، صبح الأعشى "2/ 414 وما بعدها".(16/75)
وهناك من يجعل السنة ستة أزمنة: الوسمي، والشتاء، والربيع، والصيف، والحميم، والخريف1.وحصة كل زمن من هذه الأزمنة شهران.
وذكر بعض العلماء أن السنة عند العرب ستة أزمنة: شهران منها الربيع الأول وشهران صيف وشهران قيظ وشهران الربيع الثاني، وشهران خريف وشهران شتاء. وذكر بعضهم أن السنة أربعة أزمنة: الربيع الأول وهو عند العامة الخريف، ثم الشتاء، ثم الصيف وهو الربيع الآخر، ثم القيظ. وهذا هو قول العرب في البادية. والربيع جزء من أجزاء السنة، وهو عند العرب ربيعان: ربيع الشهور وربيع الأزمنة. فربيع الشهور شهران بعد صفر. سميا بذلك لأنهما حدا في هذا الزمن فلزمهما في غيره. ولا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر. وأما ربيع الأزمنة. فربيعان: الربيع الأول وهو الفصل الذي يأتي فيه النور والكمأة، وهو ربيع الكلأ. والربيع الثاني، وهو الفصل الذي تدرك فيه الثمار. ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف: الربيع الأول، ويسمى الفصل الذي يتلو الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنور الربيع الثاني. وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع2.
وقسم بعضهم الشتاء إلى ربيعين: ربيع الماء والأمطار وربيع النبات لأن فيه ينتهي النبات منتهاه. والشتاء كله ربيع عند العرب لأجل الندى3.
ويظهر من المسند أن العرب الجنوبيين كانوا يقسّمون السنة إلى فصول كذلك، وأنهم كانوا مثل غيرهم يقسمونها إلى فصول أربعة: الشتاء والربيع والصيف والخريف. ولا يعني هذا التقسيم الرباعي أن الجو في العربية الجنوبية أو في أي مكان آخر في جزيرة العرب كان يختلف اختلافًا واضحًا بينًا من حيث التطرف أو الاعتدال باختلاف هذه الفصول الأربعة، وأن شهور الفصول هي متساوية بالفعل، وأن عدة كل فصل ثلاثة أشهر، بل هو في الواقع تقسيم علمي نظري.
أما من الناحية العلمية، فإن فصلي الصيف والشتاء هما أبرز الفصول وأوضحها
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 244"، صبح الأعشى "2/ 405".
2 تاج العروس "5/ 340 وما بعدها"، "ربع"، صبح الأعشى "2/ 415 وما بعدها".
3 تاج العروس "5/ 340"، "ربع".(16/76)
في جزيرة العرب كلها. ولا سيما فصل الصيف الذي يعد أطول الفصول وأوضحها فيها. وهذا الذي دفع العرب ولا شك إلى تقسيم السنة إلى نصفين، شتاء وصيف يبتدئون بالشتاء ويجعلونه النصف الأول، ويبتدئ عندهم بابتداء النهار في القصر وابتدائه في الزيادة. وأما الصيف، فيبدأ عند انتهاء النهار بالطول وابتدائه بالنقصان1.
والشتاء هو "صربن" في المسند. أما الربيع، فهو "دثا". وأما الصيف، فـ"قيضن"، أي: القيظ، وأما الخريف، فـ "خرفن"، أي: الخريف2.
ويذكر علماء اللغة أن القيظ هو أشد الحرّ، وأن الخريف ليس في الأصل باسم للفصل، إنما هو اسم لمطر القيظ، ثم سمّي الزمان به فجرى3.
وترتبط مسميات الفصول ارتباطًا متينًا مع مواسم الحصاد ففي أحد النصوص: "صربم وقيضم"4، ومعناه "شتاء وصيف"، ويظهر أن صاحبه قصد من لفظة "صريم" الحصاد الذي يتم في أول موسم الشتاء5. وأما "قيض"، فهو الصيف، حيث تشتد الحرارة فيه. وفي نص آخر: "قيض ودثا وصرب وميلم"6 وكلمة "ميلم" يجب أن تؤدي معنى الخريف، إذ القيض، هو الصيف و"دثا" الربيع و"صرب" الشتاء فتكون لفظة "ميلم" بمعنى الخريف إذن، وربما الحصاد، أي: الحصاد الذي يجمع في آخر الشتاء، قبل هطول أمطار الربيع7.
وفي الربيع والخريف تتساقط الأمطار الفصلية في العربية الجنوبية، تتساقط الأمطار الربيعية في شهري آذار ونيسان وأما أمطار الخريف القوية الثقيلة، فتهطل في تموز "جولاي" وآب "أغسطس" وأيلول "سبتمبر". وتعرف أمطار الخريف فتسمى بـ"خرف" "خريف". دعيا بذلك لنزولهما في هذين الموسمين.
وإلى هذين الفصلين أشار "بلينيوس" Pliny حين قال: إن العرب الجنوبيين
__________
1 المخصص "9/ 79"، الأنواء "ص104 وما بعدها".
2 Mitt., S. 62, 65, 71, Rep. Epi., 4250
3 المخصص "9/ 80".
4 Rep. Epig. 4230/8.
5 Beeston, p. 20.
6 CIH 174/4.
7 Beeston, p. 20.(16/77)
يسمّون غلة البخور التي يجمعونها في فصل الخريف باسم Dathiathum، ويسمون الغلة التي تجمع من هذه المادة في فصل الصيف بـCarfiathum. والكلمة الأولى هي تحريف للفظة "خريف". وأما الثانية، فتحريف للفظة "دثا"، أي: الربيع1.
وقد دخلت التسميتان بواسطة التجارة والتجار إلى اليونان، ولا شك. وهما تسميتان واضحتان صحيحتان.
وتؤدي لفظا "دثا" و"خرفن" معنى الأمطار الموسمية في الغالب، أي: أمطار الربيع وأمطار الخريف في بعض الكتابات2. وقد تؤديا معنى "الغلات" أي: "فرع"، التي تجمع في موسمي الربيع والخريف3.
ولدينا نص طريف يفيد أن أصحابه قد أذنبوا بعدم إيفائهم بما نذروه لآلهتهم وكان عليهم الوفاء به في "ذ موصبم" كما عاهدوا آلهتهم. ولمخالفتهم عهدهم هذا، أرسلت الآلهة عليهم سيلًا جارفًا من أمطار شديدة سقطت في موسمي الربيع والخريف، فأتلفت زرعهم وأصابتهم بضرر كبير، واعترافًا منهم بتقصيرهم هذا وبذنبهم، كتبوا النص المذكور، وقدموا نذرهم كاملًا، راجين من الآلهة الصفح عن ذنبهم والعفو عنهم، وأن تبارك في زرعهم، وأن تعوضهم عن خسارتهم التي أصابتهم بغلة وافرة وحاصل غزير4.
__________
1 Pliny, Hist. Nat, XII, 60, Beesten, p. 19, CIH 540.
2 CIH 547, 540.
3 CIH 2.
4 CIH 547, Beeston, p. 20 f.(16/78)
الشهور:
وتتألف السنة عند العرب الشماليين من اثني عشر شهرًا، وقد أشير إلى ذلك في القرآن: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} 1. وهو التقسيم الشائع المعروف عند بقية الساميين واليونان وغيرهم. والمعمول به حتى اليوم. ولم ترد إشارة إلى هذا التقسيم في نصوص المسند، ولكن ورود ذكر السنين والشهور في كتابات
__________
1 التوبة، رقم9، الآية37، ابن الأجدابي "30".(16/78)
المسند، واستعمال العرب الشماليين وغيرهم التقسيم الاثني عشري للسنة، يحملنا على القول إن العرب الجنوبيين كانوا يقسمون السنة إلى اثني عشر شهرًا أيضًا، وإن لم ينص على ذلك في النصوص.
وقد لاحظ "رودوكناكس" أن المزارعين المحدثين في العربية الجنوبية يسيرون بموجب تقويم فلكي Sidereal Calender، يقسم السنة إلى ثمانية وعشرين شهرًا، مدة كل شهر ثلاثة عشر يومًا، فاستنتج من ذلك احتمال كون هذا التقويم من بقايا تقويم عربي جنوبي كان العرب الجنوبيون يسيرون عليه قبل الإسلام. ولهذا رأى أن "ذ فرغ" و"ذا جبي" "ذا جبو"، لا يمثلان شهرين من شهور السنة، وإنما يمثلان وقتًا من أوقات العمل والزرع، بالمصطلح المستعمل الآن في العربية الجنوبية، أي: جزءين من "28" جزءًا من أجزاء السنة1. وذهب "بيستن" إلى احتمال تقسيم العرب الجنوبيين للشهر إلى ثلاثة أقسام، يتكون كل قسم منها من عشرة أيام2.
ويرى "رودوكناكس" أن سنة العمل عند القبائل تبدأ باليوم الأول من شهر "ذ فرغم" "ذو فرعم" "ذو الفرع"، وتمتد إلى اليوم السادس من "ذ فقحو"، ويرى أن السنة عند الفلاحين، تتكون من "360" يومًا، أما الأيام الباقية وهي ما بين "5"، "6"، فتضاف إلى أحد الأشهر وتأخذ اسمه، فتكون السنة بهذا العمل سنة شمسية كاملة. ويحتفل الفلاحون عند انتهاء تقويمه الزراعي بانتهاء السنة، حيث يعيدون عبدًا يسمونه "مصب"، "مصوب"، ويعد شهر "فرعم" الشهر الأول من السنة الزراعية، حيث تزهر الأشجار، وتظهر الأوراق. وتختلف هذه السنة عن سني التقويم الرسمي الذي تسير عليه الحكومة في جباية استحقاقها من حاصل الزرع3.
والإهلال هو المبدأ الذي سار عليه الجاهليون في تعيين أوائل الشهور4. فإذا اختفى القمر في آخر الشهر ولم يظهر، خرجوا لمراقبة الهلال وتثبيت مبدأ الشهر.
__________
1 Beeston, p. 4, R.B. Serjeant, Star Calendero and and Almanac from South West Arabia, in Anthropos, in Anthropos, Bd. 49, 1954, s. 433.
2 Beeston, p. 5.
3 Rhodokanakis, Katab. Texte II, s. 19 ff.
4 صبح الأعشى "2/ 369"، نهاية الأرب "3/ 156".(16/79)
وقد كانوا يعدون الرؤية من الحوادث المؤثرة في حياة الشخص. من حيث جلب النحس والسعادة للمستهل. ولهذا كانوا ينظرون إلى المناظر الجميلة حين الاستهلال، لاعتقادهم أن ذلك يجلب لهم البركة والخير. والشهر كما جاء في الحديث: "مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"1، أي: يومًا.
ويعبر عن الشهر بلفظة "ورخ" في العربيات الجنوبية. والجمع "أورخم" "أورخ". ولفظة "ورخ" تعني القمر في عربية القرآن الكريم. وهي من الألفاظ السامية القديمة، وتؤدي معنى "أرخ" وتأريخ أيضًا2. فكان العرب الجنوبيون إذا أرادوا التأريخ بالأشهر، قالوا: "ورخ كذا"، أي: "شهر كذا". والتوريخ بالشهور لا يعني أن العرب الجنوبيين أو غيرهم من العرب، كانوا لا يؤرخون إلا بالتقويم القمري، وأنهم لم يكونوا يستعملون غير هذا التقويم. فقد كان غيرهم يؤرخون بالشهور القمرية كذلك، وكانوا مع ذلك يؤرخون بالتقويم الشمسي، أو بالتقويمين.
ولا تعني لفظة "ورخ" التي هي "الشهر" أن العرب الجنوبيين كانوا يتبعون تقويمًا قمريًّا، بسبب أن لفظة "ورخ" تعني "قمر" في الأصل، فالانكليز يستعلمون لفظة Month بمعنى الشهر، وهي من أصل Moon أي: القمر، ومع ذلك فإن شهورهم شمسية، ولفظة "الشهر" نستعملها في عربيتنا، هي في معنى "ورخ" في الأصل. فالشهر: القمر، والهلال3. أي مرادف "ورخ" تمامًا. وقد سمي الشهر به، لأنهم كانوا يوقنون به، فالمدة التي تمضي بين هلال وهلال جديد، هي شهر. نسي المعنى الأصلي للكلمة، وبقي الاصطلاح ومن ذلك قولهم: أشهروا، بمعنى أتى عليهم شهر، وشاهره مشاهرة وشهارًا، استأجره للشهر4.
ووردت لفظة "شهر" بمعنى هلال في العربيات الجنوبية، وذلك كما في هذه الجملة: "بيوم شهرم ويوم ثنيم ذنم"5، أي: "بيوم الهلال، وبيوم
__________
1 إرشاد الساري "3/ 359".
2 نص ابنة Rhodokanakis, Stud. II, S. 48, Bruno Meissner Supplement nyu den Assyrischen Worterbuchetn, Leiden, 1891, S. 16.
3 تاج العروس "3/ 321"، "شهر".
4 تاج العروس "3/ 321"، "شهر".
5 Jamme 651, 19(16/80)
المطر الثاني"، أو بعبارة أخرى "يوم الإهلال، وزمان سقوط المطر الثاني".
وقد وردت في كتابات المسند أسماء عدد من الأشهر، يتبين من دراستها أن بعضها وارد في نصوص لهجتين مثل لهجة معين وسبأ، ولهجة سبأ وقتبان، مما يدل على أنها كانت مشتركة ومستعملة عند المعينين والسبئيين، أو عند السبئيين والقتبانيين. ولكن الأغلب انفراد كل لهجة بتسمية شهر، بدليل ما نجده في كتابات كل لهجة من اللهجات التي نعرفها من أسماء أشهر لا ترد في الكتابات الأخرى ومن الأشهر المشتركة التي ورد اسمها في كتابات سبئية ومعينية، شهر "ذ دثا" وشهر "ذ سحر"، وقد ورد اسمه في كتابات سبئية وقتبانية، و"ذا أبهى" "ذ أبهو"، وقد ورد في كتابات معينية وسبئية وقتبانية كذلك1.
وعثر على أسماء هذه الشهور في النصوص المعينية: "ذ أبهى" "ذو أبهى"، و"ذ أبرهن"، و"ذ أثرت"، "ذو عثيرة"، و"دثا"، و"ذ حضر"، و"ذ طنفت"، و"ذ نور"، و"ذ سمع"، و"ذ شمس"2.
ومن الشهور الواردة في كتابات السبئيين المتقدمة: "ورخ ذا بهي"، أي: شهر ذو أبهى، و"ورخ ذ دنم"3، و"ورخ دثا"، "ذ دثا"، و"ورخ ذ نيلم"، و "ورخ ذ نسور"، و"ورخ ذ سحر"، و"ورخ ذ فلسم"، و"ورخ ذ قيضن"، و"ورخ صربن"، و"ورخ صر"، و"ورخ ذ الالت"، و"ملت"4، و"ذ عثتر"، و"ذ موصبم"، و"ذ مخضدم"5. وشهور أخرى.
أما الشهور: "ورخن ذ الألت"، و"ورخ ذ داون" و"ورخو ذ حجتن" و"ورخ ذ خرف" و"ورخو ذو مذران" و"ورخن ذ مهلتن" و"ورخن ذ محجتن" و"ورخ ذ معن" و"ورخ ذ صرين" و"ورخو
__________
1 تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي "5/ 234 وما بعدها".
2 Rohdokanakis, Kataba. I, S. 133, Beeston, p. 10, Rhodokanakis, Studi. II, S. 141, Sab. Denkm. 21, CIH 380. Beeston, p. 10.
3 "بو رخ ذ دو نم" Rhodokanakis, Studi, II, S. 75 ZDMG. 29.
4 Beeston, p. 12 f.
5 CIH 547.(16/81)
ذو قيضن" و"ورخ ذ ثبتن"، فإنها من الشهور الواردة في الكتابات السبئية المتأخرة1.
ويظهر من اسم الشهر "ورخن ذ اللات" "ذ ال ال ت"2، و"ورخن ذ حجتن"، أن لهما صلة بالحياة الدينية عندهم. فورخن ذ الالت معناه شهر الآلهة. فالظاهر أنه شهر خصص بالآلهة، كانوا يتقربون فيه إليها بالنذور مثلًا أو العبادة. فهو شهر مقدس، ربما يكون مثل شهر "رمضان" في الإسلام.
وأما "ورخن ذ حجتن"، فمعناه "شهر الحج"، فهو شهر يحج فيه إلى الأصنام، على نحو "شهر ذي الحجة" في الإسلام.
أما الشهور القتبانية التي وردت أسماؤها في كتاباتهم، فهي: "ورخس ذ أبهو" و"ورخس ذ برم" و"ورخس ذ بشمم" و"ورخس ذ مسلعت" و"ورخس ذ سحر" و"ورخس ذ عم" و"ورخس ذ تمنع" و"ورخس ذ فرعم"، و"ورخ ذ فقهو"3. ويلاحظ أن اللهجة القتبانية تضع حرف "و" في نهاية "أبهى" "فقهى"، فتقول: "ذ أبهو"، و"ذ فقهو" بدلًا من "ذا أبهى" و"ذ فقهي"، فتقول: "ذ أبهو"، و"ذ فقهو" بدلًا من "ذ أبهى" و"ذ فقهي" كما هو الحال في اللهجات الأخرى، مما يدل على أن هذا الحرف، هو من خصائص هذه اللهجة4.
وذكر "بيستن" أن الكتابات الحضرمية لم تذكر من أسماء الشهور إلا اسم شهر واحد، هو "ورخس ذ صيد"5.
ويلاحظ ورود لفظتي "قد من" و"اخرن" مع أسماء بعض الأشهر كما في هذه الجمل: "ورخ ذ نسور قد من" و"ورخ ذ نسور أخرن"، و"ورخس ذ برم قد من"، و"ذ برم أخرن"6. ومعناها: "شهر
__________
1 Beeston, p. 13 f.
2 Jamme 642, 6, Mahram, p. 141.
3 Rhodokanakis, Katab. I, S. 96, II, S. 5, Glaser, 1396, 1310, Die Inschri. An der Mauer von Kohlan – Tamma' 1924, S. 15, SE80, Beeston, p. 11 f.
4 Beeston, p. 41, note: 4.
5 Beeston, p. 15.
6 Rhodokanakis, Die Inschri. An der Maner von Koblan – Timma' 1924, S. 52 ff, Glaser 1609, Beeston, pp. 11, 13, REP. 3688, 3879.(16/82)
ذو نسور الأول" و"شهر ذو نسور الثاني" و"ذو نسور الآخر"، و"شهر ذو برم الأول" و"شهر ذو برم الآخر". وذلك أن لفظة: "قد من" تعني "الأقدم" و"الأول". وأما "أخرن"، فتعني "المتأخر والثاني والآخر". وذلك كما نفعل نحن اليوم إذ نقول "شهر ربيع الأول" و"شهر ربيع الآخر" و"جمادى الأولى" و"جمادى الآخرة" في التقويم الهجري، و"كانون الأول" و"كانون الثاني" في التقويم الميلادي.
ويتبين من استعمال اللفظتين المذكورتين أن بعض العرب الجنوبيين، ويجوز أن يكونوا كلهم، كانوا كالعرب الشماليين ومثل بعض الساميين، قد استعملوا اسمًا واحدًا لشهرين، وللتفريق بينهما أطلقوا لفظة "قد من" بعد اسم الشهر الأول، لتمييزه عن سميّه الشهر التالي له، ولفظة "أخرن" أي: المتأخر والتالي أو الثاني بعد اسم الشهر الثاني لتمييزه عن الأول المتقدم عليه.
ويظن أن شهر "ذ برم أخرن"، "ذ برم الآخر" "ذ برم التالي" أو "الثاني" إنما هو من شهور "الكبس"، ولهذا فهو لا يكون في كل سنة، بل في السنين المكبوسة فقط1.
ويظهر من دراسة بعض الأسماء أن لبعضها معاني ذات علاقة بالجو، ولبعض آخر بالحياة الدينية أو بالناحية الزراعية. ومن النوع الأول: "ذ دثا"، "ذو دثا" وله معنى الربيع، وهو مثل شهر "ربيع الأول" أو "ربيع الآخر" في التقويم الهجري فـ"دثا" هو الربيع في المسند2. وأما شهر "ذ خرف" فإن له صلة بموسم الخريف، وقد يكون من شهور هذا الموسم. و"خرف" بمعنى "الخريف" الموسم المعروف بلغتنا، وبمعنى سنة3. وأما شهر "ذ قيضن" فإنه من أشهر القيظ، والقيظ هو الحر، فهو شهر من أشهر الصيف.
و"القيض"، بمعنى الصيف كذلك، والموسم الذي تنضج أثمار الصيف فيه4.
ومن الشهور التي لها علاقة بالزراعة، شهر "ذ مذرن"، "ذ مذران".
__________
1 Beeston, p. 12.
2 Jamme 610, 615, 618, 623, 627, 628, 650, 661, 666, 704.
3 Mahram, p. 437.
4 Mahram, p. 447.(16/83)